الكتاب: تفسير الشعراوي - الخواطر المؤلف: محمد متولي الشعراوي (المتوفى: 1418هـ) الناشر: مطابع أخبار اليوم عدد الأجزاء: 20   (ليس على الكتاب الأصل - المطبوع - أي بيانات عن رقم الطبعة أو غيره، غير أن رقم الإيداع يوضح أنه نشر عام 1997 م)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ---------- تفسير الشعراوي الشعراوي الكتاب: تفسير الشعراوي - الخواطر المؤلف: محمد متولي الشعراوي (المتوفى: 1418هـ) الناشر: مطابع أخبار اليوم عدد الأجزاء: 20   (ليس على الكتاب الأصل - المطبوع - أي بيانات عن رقم الطبعة أو غيره، غير أن رقم الإيداع يوضح أنه نشر عام 1997 م)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ـ[تفسير الشعراوي - الخواطر]ـ المؤلف: محمد متولي الشعراوي (المتوفى: 1418هـ) الناشر: مطابع أخبار اليوم عدد الأجزاء: 19 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها نزل مقرونا بسم الله سبحانه وتعالى ولذلك حينما نتلوه فإننا نبدأ نفس البداية التي أرادها الله تبارك وتعالى وهي أن تكون البداية بسم الله. وأول الكلمات التي نطق بها الوحي لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} . وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته في الكون. . هي بسم الله. ونحن الآن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية. ولقد كان محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في غار حراء حينما جاءه جبريل وكان أول لقاء بين الملك الذي يحمل الوحي بالقرآن. . وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قول الحق تبارك وتعالى: {اقرأ} . واقرأ تتطلب أن يكون الإنسان. . إما حافظا لشيء يحفظه، أو أمامه شيء مكتوب ليقرأه. . ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كان حافظا لشيء يقرؤه. . وما كان أمامه كتاب ليقرأ منه. . وحتى لو كان أمامه كتاب فهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب. وعندما قال جبريل: {اقرأ} . . قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أنا بقارئ. . وكان الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ منطقيا مع قدراته. وتردد القول ثلاث مرات. . جبريل عليه السلام بوحي من الله سبحانه وتعالى يقول للرسول {اقرأ} ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول ما أنا بقارئ. . ولقد أخذ خصوم الاسلام هذه النقطة. . وقالوا كيف يقول الله لرسوله اقرأ ويرد الرسول ما أنا بقارئ. نقول إن الله تبارك وتعالى. . كان يتحدث بقدراته التي تقول للشيء كن فيكون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يتحدث ببشريته التي تقول إنه لا يستطيع أن يقرأ كلمة واحدة، ولكن قدرة الله هي التي ستأخذ هذا النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب لتجعله معلما للبشرية كلها إلى يوم القيامة. . لأن كل البشر يعلمهم بشر. . ولكن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيعلمه الله سبحانه وتعالى. ليكون معلما لأكبر علماء البشر. . يأخذون عنه العلم والمعرفة. لذلك جاء الجواب من الله سبحانه وتعالى: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1 - 2] أي أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق من عدم سيجعلك تقرأ على الناس ما يعجز علماء الدنيا وحضارات الدنيا على أن يأتوا بمثله. . وسيكون ما تقرؤه وأنت النبي الأميّ إعجازا. . ليس لهؤلاء الذين سيسمعونه منك فقط لحظة نزوله. ولكن للدنيا كلها وليس في الوقت الذي ينزل فيه فقط، ولكن حتى قيام الساعة، ولذلك قال جل جلاله: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم} [العلق: 3 - 4] . أي أن الذي ستقرؤه يا محمد. . سيظل معلما للإنسانية كلها إلى نهاية الدنيا على الأرض. . ولأن المعلم هو الله سبحانه وتعالى قال: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} مستخدما صيغة المبالغة. فهناك كريم وأكرم. . فأنت حين تتعلم من بشر فهذا دليل على كرم الله جل جلاله. . لأنه يسر لك العلم على يد بشر مثلك. . أما إذا كان الله هو الذي سيعلمك. . يكون «أكرم» . . لأن ربك قد رفعك درجة عالية ليعلمك هو سبحانه وتعالى. . والحق يريد أن يلفتنا إلى أن محمدا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يقرأ القرآن لأنه تعلم القراءة، ولكنه يقرؤه باسم الله، ومادام بسم الله. . فلا يهم أن يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعلم من بشر أو لم يتعلم. لأن الذي علمه هو الله. . وعلمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فوق مستوى البشرية كلها. على أننا نبدأ أيضا تلاوة القرآن بسم الله. . لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزله لنا. . ويسر لنا أن نعرفه ونتلوه. . فالأمر لله علما وقدرة ومعرفة. . واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] لذلك أنت تقرأ القرآن باسم الله. . لأنه جل جلاله هو الذي يسره لك كلاما وتنزيلا وقراءة. . ولكن هل نحن مطالبون أن نبدأ فقط تلاوة القرآن بسم الله؟ إننا مطالبون أن نبدأ كل عمل باسم الله. . لأننا لابد أن نحترم عطاء الله في كونه. فحين نزرع الأرض مثلا. . لابد أن نبدأ بسم الله. . لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها. . ولا خلقنا البذرة التي نبذرها. ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع. إن الفلاح الذي يمسك الفأس ويرمي البذرة قد يكون أجهل الناس بعناصر الأرض ومحتويات البذرة وما يفعله الماء في التربة لينمو الزرع. . إن كل ما يفعله الإنسان هو أنه يعمل فكره المخلوق من الله في المادة المخلوقة من الله. . بالطاقة التي أوجدها الله في أجسادنا ليتم الزرع. والإنسان لا قدرة له على إرغام الأرض لتعطيه الثمار. . ولا قدرة له على خلق الحبة لتنمو وتصبح شجرة. ولا سلطان له على إنزال الماء من السماء. . فكأنه حين يبدأ العمل باسم الله، يبدؤه باسم الله الذي سخر له الأرض. . وسخر له الحب، وسخر له الماء، وكلها لا قدرة له عليها. . ولا تدخل في طاقته ولا في استطاعته. . فكأنه يعلن أنه يدخل على هذه الأشياء جميعا باسم من سخرها له. . والله تبارك وتعالى سخر لنا الكون جميعا وأعطانا الدليل على ذلك. فلا تعتقد أن لك قدرة أو ذاتية في هذا الكون. . ولا تعتقد أن الأسباب والقوانين في الكون لها ذاتية. بل هي تعمل بقدرة خالقها. الذي إن شاء أجراها وإن شاء أوقفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الجمل الضخم والفيل الهائل المستأنس قد يقودهما طفل صغير فيطيعانه. ولكن الحية صغيرة الحجم لا يقوى أي انسان على أن يستأنسها. ولو كنا نفعل ذلك بقدراتنا. . لكان استئناس الحية أو الثعبان سهلا لصغر حجمهما. . ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعلهما مثلا لنعلم أنه بقدراته هو قد أخضع لنا ما شاء، ولم يخضع لنا ما شاء. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71 - 72] وهكذا نعرف أن خضوع هذه الأنعام لنا هو بتسخير الله لها وليس بقدرتنا. يأتي الله سبحانه وتعالى إلى أرض ينزل عليها المطر بغزارة. والعلماء يقولون إن هذا يحدث بقوانين الكون. فيلفتنا الله تبارك وتعالى إلى خطأ هذا الكلام. بأن تأتي مواسم جفاف لا تسقط فيها حبة مطر واحدة لنعلم أن المطر لا يسقط بقوانين الكون ولكن بإرادة خالق الكون. . فإذا كانت القوانين وحدها تعمل فمن الذي عطلها؟ ولكن إرادة الخالق فوق القوانين إن شاءت جعلتها تعمل وإن شاءت جعلتها لا تعمل. . اذن فكل شيء في الكون باسم الله. . هو الذي سخر وأعطى. . وهو الذي يمنح ويمنع. حتى في الأمور التي للإنسان فيها نوع من الاختيار. . واقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50] والاصل في الذرية أنها تأتي من اجتماع الذكر والأنثى. . هذا هو القانون. . ولكن القوانين لا تعمل الا بأمر الله. . لذلك يتزوج الرجل والمرأة ولا تأتي الذرية لأنه ليس القانون هو الذي يخلق. . ولكنها إرادة خالق القانون. . ان شاء جعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 يعمل. . وان شاء يبطل عمله. . والله سبحانه وتعالى لا تحكمه القوانين ولكنه هو الذي يحكمها. وكما أن الله سبحانه وتعالى قادر على ان يجعل القوانين تفعل او لا تفعل. . فهو قادر على ان يخرق القوانين. . خذ مثلا قصة زكريا عليه السلام. . كان يكفل مريم ويأتيها بكل ما تحتاج إليه. . ودخل عليها ليجد عندها ما لم يحضره لها. . وسألها وهي القديسة العابدة الملازمة لمحرابها. . {قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة. . مع أن مريم بسلوكها وعبادتها وتقواها فوق كل الشبهات. . ولكن لنعرف أن الذي يفسد الكون. . هو عدم السؤال عن مصدر الأشياء التي تتناسب مع قدرات من يحصل عليها.. الأم ترى الأب ينفق ما لا يتناسب مع مرتبه. . وترى الابنة ترتدي ما هو أكبر كثيرا من مرتبها أو مصروفها. . ولو سألت الأم الأب أو الابنة من أين لك هذا؟ لما فسد المجتمع. . ولكن الفساد يأتي من أننا نغمض أعيننا عن المال الحرام. بماذا ردت مريم عليها السلام؟ {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] اذن فطلاقة قدرة الله لا يحكمها قانون. . لقد لفتت مريم زكريا عليهما السلام إلى طلاقة القدرة. . فدعا زكريا ربه في قضية لا تنفع فيها الا طلاقة القدرة. . فهو رجل عجوز وامرأته عجوز وعاقر ويريد ولدا. . هذه قضية ضد قوانين الكون. . لأن الانجاب لا يتم الا وقت الشباب، فإذا كبر الرجل وكبرت المرأة لا ينجبان. . فما بالك إذا كانت الزوجة أساسا عاقرا. . لم تنجب وهي شابة وزوجها شاب. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فكيف تنجب وهي عجوز وزوجها عجوز. . هذه مسألة ضد القوانين التي تحكم البشر. . ولكن الله وحده القادر على أن يأتي بالقانون وضده. . ولذلك شاء أن يرزق زكريا بالولد وكان. . ورزق زكريا بابنه يحيى. إذن كل شيء في هذا الكون باسم الله. . يتم باسم الله وبإذن من الله. . الكون تحكمه الأسباب نعم ولكن ارادة الله فوق كل الأسباب. أنت حين تبدأ كل شيء باسم الله. . كأنك تجعل الله في جانبك يعينك. . ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شيء باسم الله. . لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى. . والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة. . فأنت حين تبدأ عملا تحتاج إلى قدرة الله وإلى عونه وإلى رحمته. . فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات. . كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها. . كأن نقول باسم الله القوي وباسم الله الرازق وباسم الله المجيب وباسم الله القادر وباسم الله النافع. . إلى غير ذلك من الأسماء والصفات التي نريد أن نستعين بها. . ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول بسم الله بسم الله بسم الله الجامع لكل هذه الصفات. على أننا لابد أن نقف هنا عند الذين لا يبدأون أعمالهم بسم الله وإنما يريدون الجزاء المادي وحده. . إنسان غير مؤمن لا يبدأ عمله باسم الله. . وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفي باله الله. . كلاهما يأخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع. . له عطاء ربوبية لكل خلقه الذين استدعاهم للحياة. . ولكن الدنيا ليست هي الحياة الحقيقية للإنسان. . بل الحياة الحقيقية هي الآخرة. . الذي في باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء الربوبية. . بقدر عطاء الله في الدنيا. . والذي في باله الله يأخذ بقدر عطاء الله في الدنيا والآخرة. . ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الحمد فِي الآخرة وَهُوَ الحكيم الخبير} [سبأ: 1] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 لأن المؤمن يحمد الله على نعمه في الدنيا. . ثم يحمده عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة في الآخرة. . فلله الحمد في الدنيا والآخرة. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بباسم الله الرحمن الرحيم أقطع» ومعنى أقطع أي مقطوع الذنب أو الذيل. . أي عمل ناقص فيه شيء ضائع. . لانك حين لا تبدأ العمل باسم الله قد يصادفك الغرور والطغيان بأنك أنت الذي سخرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك. . وحين لا تبدأ العمل باسم الله. . فليس لك عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا. . وبترت أو قطعت عطاءه في الآخرة. . فإذا كنت تريد عطاء الدنيا والآخرة. فأقبل على كل عمل باسم الله. . قبل أن تأكل قل باسم الله لأنه هو الذي خلق لك هذا الطعام ورزقك به. . عندما تدخل الامتحان قل بسم الله فيعينك على النجاح. . عندما تدخل إلى بيتك قل باسم الله لأنه هو الذي يسر لك هذا البيت. . عندما تتزوج قل باسم الله لانه هو الذي خلق هذه الزوجة وأباحها لك. . في كل عمل تفعله ابدأه باسم الله. . لأنها تمنعك من أي عمل يغضب الله سبحانه وتعالى. . فأنت لا تستطيع أن تبدأ عملا يغضب الله باسم الله. . اذا أردت أن تسرق أو أن تشرب الخمر. . أو أن تفعل عملا يغضب الله. . وتذكرت بسم الله. . فإنك ستمتنع عنه. . ستستحي أن تبدأ عملا باسم الله يغضب الله. . وهكذا ستكون أعمالك كلها فيما أباحه الله. الله تبارك وتعالى حين نبدأ قراءة كلامه باسم الله. . فنحن نقرأ هذا الكلام لأنه من الله. . والله هو الاله المعبود في كونه. . ومعنى معبود أنه يطاع فيما يأمر به. . ولا نقدم على ما نهى عنه. . فكأنك تستقبل القرآن الكريم بعطاء الله في العبادة. . وبطاعته في افعل ولا تفعل. . وهذا هو المقصود أن تبدأ قراءة القرآن بسم الله الذي آمنت به ربا وإلها. . والذي عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما نهى. . والذي بموجب عبادتك لله سبحانه وتعالى تقرأ كتابه لتعمل بما فيه. . والذي خلق وأوجد ويحيي ويميت وله الأمر في الدنيا والآخرة. . والذي ستقف أمامه يوم القيامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ليحاسبك أحسنت أم أسأت. . فالبداية من الله والنهاية إلى الله سبحانه وتعالى. بعض الناس يتساءل كيف أبدأ بسم الله. . وقد عصيت وقد خالفت. . نقول اياك أن تستحي أن تقرأ القرآن. . وأن تبدأ بسم الله إذا كنت قد عصيت. . ولذلك أعطانا الله سبحانه وتعالى الحيثية التي نبدأ بها قراءة القرآن فجعلنا نبدؤه باسم الله الرحمن الرحيم. . فالله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن العاصي. . بل يفتح له باب التوبة ويحثه عليها. . ويطلب منه أن يتوب وأن يعود الي الله. . فيغفر له ذنبه، لأن الله رحمن رحيم. . فلا تقل أنني أستحي أن أبدأ باسم الله لأنني عصيته. . فالله سبحانه وتعالى يطلب من كل عاص أن يعود الي حظيرة الايمان وهو رحمن رحيم. . فاذا قلت كيف أقول باسم الله وقد وقعت في معصية أمس. . نقول لك قل باسم الله الرحمن الرحيم. . فرحمة الله تسع كل ذنوب خلقه. . وهو سبحانه وتعالى الذي يغفر الذنوب جميعا. والرحمة والرحمن والرحيم. . مشتق منها الرحم الذي هو مكان الجنين في بطن أمه. . هذا المكان الذي يأتيه فيه الرزق. . بلا حول ولا قوة. . ويجد فيه كل ما يحتاجه إليه نموه ميسرا. . رزقا من الله سبحانه وتعالى بلا تعب ولا مقابل. . انظر إلى حنو الأم على ابنها وحنانها عليه. . وتجاوزها عن سيئاته وفرحته بعودته اليها. . ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي. «أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته» الله سبحانه وتعالى يريد أن نتذكر دائما أنه يحنو علينا ويرزقنا. . ويفتح لنا أبواب التوبة بابا بعد آخر. . ونعصي فلا يأخذنا بذنوبنا ولا يحرمنا من نعمه. . ولا يهلكنا بما فعلنا. ولذلك فنحن نبدأ تلاوة القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم. . لنتذكر دائما أبواب الرحمة المفتوحة لنا. . نرفع أيدينا إلى السماء. . ونقول يا رب رحمتك. . تجاوز عن ذنوبنا وسيئاتنا. وبذلك يظل قارئ القرآن متصلا بأبواب رحمة الله. . كلما ابتعد عن المنهج أسرع ليعود اليه. . فمادام الله رحمانا ورحيما لا تغلق أبواب الرحمة أبدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 على أننا نلاحظ أن الرحمن الرحيم من صيغ المبالغة. . يقال راحم ورحمن ورحيم. . اذا قيل راحم فيه صفة الرحمة. . وإذا قيل رحمن تكون مبالغة في الصفة. . وإذا قيل رحيم تكون مبالغة في الصفة. . والله سبحانه وتعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. . صفات الله سبحانه وتعالى لا تتأرجح بين القوة والضعف. . وإياكم أن تفهموا أن الله تأتيه الصفات مرة قليلة ومرة كثيرة. بل هي صفات الكمال المطلق. . ولكن الذي يتغير هو متعلقات هذه الصفات. . اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] هذه الآية الكريمة. . نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى، ثم تأتي الآية الكريمة بقول الله جل جلاله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] نلاحظ هنا استخدام صيغة المبالغة. . «ظلام» . . أي شديد الظلم. . وقول الحق سبحانه وتعالى: «ليس بظلام» . . لا تنفي الظلم ولكنها تنفي المبالغة في الظلم، تنفي أن يظلم ولو مثقال ذرة. . نقول انك لم تفهم المعنى. . ان الله لا يظلم أحدا. . الآية الأولى نفت الظلم عن الحق تبارك وتعالى ولو مثقال ذرة بالنسبة للعبد. . والآية الثانية لم تقل للعبد ولكنها قالت للعبيد. . والعبيد هم كل خلق الله. . فلو اصاب كل واحد منهم أقل من ذرة من الظلم مع هذه الاعداد الهائلة. . فإن الظلم يكون كثيراً جداً، ولو أنه قليل في كميته لأن عدد من سيصاب به هائل. . ولذلك فإن الآية الاولى نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى. والآية الثانية نفت الظلم أيضا عن الله تبارك وتعالى. . ولكن صيغة المبالغة استخدمت لكثرة عدد الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 نأتي بعد ذلك إلى رحمن ورحيم. . رحمن في الدنيا لكثرة عدد الذين يشملهم الله سبحانه وتعالى برحمته. . فرحمة الله في الدنيا تشمل المؤمن والعاصي والكافر. . يعطيهم الله مقومات حياتهم ولا يؤاخذهم بذنوبهم، يرزق من آمن به ومن لم يؤمن به، ويعفو عن كثير. . اذن عدد الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا هم كل خلقه. بصرف النظر عن ايمانهم أو عدم ايمانهم. ولكن في الآخرة الله رحيم بالمؤمنين فقط. . فالكفار والمشركون مطرودون من رحمة الله. . اذن الذين تشملهم رحمة الله في الآخرة. . أقل عددا من الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا. . فمن أين تأتي المبالغة؟ . . تأتي المبالغة في العطاء وفي الخلود في العطاء. . فنعم الله في الآخرة اكبر كثيراً منها في الدنيا. . المبالغة هنا بكثرة النعم وخلودها. . فكأن المبالغة في الدنيا بعمومية العطاء، والمبالغة في الآخرة بخصوصية العطاء للمؤمن وكثرة النعم والخلود فيها. لقد اختلف عدد العلماء حول بسم الله الرحمن الرحيم. . وهي موجودة في 113 سورة من القرآن الكريم هل هي من آيات السور نفسها. . بمعنى أن كل سورة تبدأ {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} تحسب البداية على أنها الآية الأولى من السورة، أم أنها حسبت فقط في فاتحة الكتاب، ثم بعد ذلك تعتبر فواصل بين السور. . وقال العلماء أن {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} آية من آيات القرآن الكريم. . ولكنها ليست آية من كل سورة ما عدا فاتحة الكتاب فهي آية من الفاتحة. . وهناك سورة واحدة في القرآن الكريم لا تبدأ ب {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} وهي سورة التوبة وتكررت بسم الله الرحمن الرحيم في الآية 30 من سورة النمل في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} [النمل: 30] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فاتحة الكتاب هي أم الكتاب، لا تصلح الصلاة بدونها، فأنت في كل ركعة تستطيع أن تقرأ آية من القرآن الكريم، تختلف عن الآية التي قرأتها في الركعة السابقة، وتختلف عن الآيات التي قرأتها في صلواتك. . ولكن إذا لم تقرأ الفاتحة فسدت الصلاة، ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تام» أي غير صالحة. فالفاتحة أم الكتاب التي لا تصلح الصلاة بدونها، والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. . فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين. قال الله عَزَّ وَجَلَّ حمدني عبدي. فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: أثنى علي عبدي، فإذا قال مالك يوم الدين، قال الله عَزَّ وَجَلَّ مجدني عبدي. . فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله عَزَّ وَجَلَّ هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. . وإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} قال الله عَزَّ وَجَلَّ: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» . وعلينا أن نتنبه ونحن نقرأ هذا الحديث القدسي ان الله تعالى يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، ولم يقل قسمت الفاتحة بيني وبين عبدي، ففاتحة الكتاب هي أساس الصلاة، وهي أم الكتاب. نلاحظ ان هناك ثلاثة أسماء لله قد تكررت في بسم الله الرحمن الرحيم، وفي فاتحة الكتاب، وهذه الاسماء هي: الله. والرحمن والرحيم. نقول أن ليس هناك تكرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 في القرآن الكريم، وإذا تكرر اللفظ يكون معناه في كل مرة مختلفا عن معناه في المرة السابقة، لأن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى. . ولذلك فهو يضع اللفظ في مكانه الصحيح، وفي معناه الصحيح. . قولنا: {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} هو استعانة بقدرة الله حين نبدأ فعل الأشياء. . إذن فلفظ الجلالة {الله} في بسم الله، معناه الاستعانة بقدرات الله سبحانه وتعالى وصفاته. لتكون عونا لنا على ما نفعل. ولكن إذا قلنا: الحمد لله. . فهي شكر لله على ما فعل لنا. ذلك اننا لا نستطيع أن نقدم الشكر لله إلا إذا استخدمنا لفظ الجلالة. الجامع لكل صفات الله تعالى. لأننا نحمده على كل صفاته ورحمته بنا حتى لا نقول باسم القهار وباسم الوهاب وباسم الكريم، وباسم الرحمن. . نقول الحمد لله على كمال صفاته، فيشمل الحمد كمال الصفات كلها. وهناك فرق بين {بِسْمِ الله} الذي نستعين به على ما لا قدرة لنا عليه. . لأن الله هو الذي سخر كل ما في الكون، وجعله يخدمنا، وبين {الحمد للَّهِ} فإن لفظ الجلالة إنما جاء هنا لنحمد الله على ما فعل لنا. فكأن «بسم الله في البسملة» طلب العون من الله بكل كمال صفاته. . وكأن الحمد لله في الفاتحة تقديم الشكر لله بكل كمال صفاته. و {الرحمن الرحيم} في البسملة لها معنى غير {الرحمن الرحيم} في الفاتحة، ففي البسملة هي تذكرنا برحمة الله سبحانه وتعالى وغفرانه حتى لا نستحي ولا نهاب أن نستعين باسم الله ان كنا قد فعلنا معصية. . فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نستعين باسمه دائما في كل اعمالنا. فإذا سقط واحد منا في معصية، قال كيف استعين باسم الله، وقد عصيته؟ نقول له ادخل عليه سبحانك وتعالى من باب الرحمة. . فيغفر لك وتستعين به فيجيبك. وانت حين تسقط في معصية تستعيذ برحمة الله من عدله، لأن عدل الله لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وأقرأ قول الله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] ولولا رحمة الله التي سبقت عدله. ما بقي للناس نعمة وما عاش أحد على ظهر الأرض. . فالله جل جلاله يقول: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61] فالانسان خلق ضعيفا، وخلق هلوعا. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته، قالوا: حتى أنت يا رسول الله قال: حتى أنا» . فذنوب الانسان في الدنيا كثيرة. . إذا حكم فقد يظلم. وإذا ظن فقد يسئ. . وإذا تحدث فقد يكذب. . وإذا شهد فقد يبتعد عن الحق. . وإذا تكلم فقد يغتاب. هذه ذنوب نرتكبها بدرجات متفاوتة. ولا يمكن لأحد منا ان ينسب الكمال لنفسه حتى الذين يبذلون اقصى جهدهم في الطاعة لا يصلون الى الكمال، فالكمال لله وحده. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ويصف الله سبحانه وتعالى الانسان في القرآن الكريم: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى ألا تمنعنا المعصية عن ان ندخل الى كل عمل باسم الله. . فعلمنا أن نقول: {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} لكي نعرف أن الباب مفتوح للاستعانة بالله. وأن المعصية لا تمنعنا من الاستعانة في كل عمل باسم الله. . لأنه رحمن رحيم، فيكون الله قد أزال وحشتك من المعصية في الاستعانة به سبحانه وتعالى. ولكن الرحمن الرحيم في الفاتحة مقترنة برب العالمين، الذي أوجدك من عدم. . وأمدك بنعم لا تعد ولا تحصى. انت تحمده على هذه النعم التي أخذتها برحمة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته، ذلك أن الربوبية ليس فيها من القسوة بقدر ما فيها من رحمة. والله سبحانه وتعالى رب للمؤمن والكافر، فهو الذي استدعاهم جميعا الى الوجود. ولذلك فإنه يعطيهم من النعم برحمته. . وليس بما يستحقون. . فالشمس تشرق على المؤمن والكافر. . ولا تحجب أشعتها عن الكافر وتعطيها للمؤمن فقط، والمطر ينزل على من يعبدون الله. ومن يعبدون أوثانا من دون الله. والهواء يتنفسه من قال لا إله إلا الله ومن لم يقلها. وكل النعم التي هي من عطاء الربوبية لله هي في الدنيا لخلقه جميعا، وهذه رحمة. . فالله رب الجميع من أطاعه ومن عصاه. وهذه رحمة، والله قابل للتوبة، وهذه رحمة. . إذن ففي الفاتحة تأتي {الرحمن الرحيم} بمعنى رحمة الله في ربوبيته لخلقه، فهو يمهل العاصي ويفتح ابواب التوبة لكل من يلجأ اليه. وقد جعل الله رحمته تسبق غضبه. وهذه رحمة تستوجب الشكر. فمعنى {الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الرحيم} في البسملة يختلف عنها في الفاتحة. فإذا انتقلنا بعد ذلك الي قوله تعالى: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} فالله محمود لذاته ومحمود لصفاته، ومحمود لنعمه، ومحمود لرحمته، ومحمود لمنهجه، ومحمود لقضائه، الله محمود قبل ان يخلق من يحمده. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل الشكر له في كلمتين اثنتين هما الحمد لله. والعجيب أنك حين تشكر بشرا على جميل فعله تظل ساعات وساعات. . تعد كلمات الشكر والثناء، وتحذف وتضيف وتأخذ رأي الناس. حتى تصل الى قصيدة أو خطاب ملئ بالثناء والشكر. ولكن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته وعظمته نعمه لا تعد ولا تحصى، علمنا أن نشكره في كلمتين اثنتين هما: الحمد لله. . ولعلنا نفهم ان المبالغة في الشكر للبشر مكروهة لأنها تصيب الانسان بالغرور والنفاق وتزيد العاصي في معاصيه. . فلنقلل من الشكر والثناء للبشر. . لأننا نشكر الله لعظيم نعمه علينا بكلمتين هما: الحمد لله، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا صيغة الحمد. فلو أنه تركها دون أن يحددها بكلمتين. . لكان من الصعب على البشر أن يجدوا الصيغة المناسبة ليحمدوا الله على هذا الكمال الالهي. . فمهما أوتي الناس من بلاغة وقدرة على التعبير. فهم عاجزون على أن يصلوا الى صيغة الحمد التي تليق بجلال المنعم. . فكيف نحمد الله والعقل عاجز أن يدرك قدرته أو يحصي نعمه أو يحيط برحمته؟ ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعطانا صورة العجز البشري عن حمد كمال الالوهية لله، فقال: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» . وكلمتا الحمد لله، ساوى الله بهما بين البشر جميعا، فلو أنه ترك الحمد بلا تحديد، لتفاوتت درجات الحمد بين الناس بتفاوت قدراتهم على التعبير. فهذا أمي لا يقرأ ولا يكتب لا يستطيع أن يجد الكلمات التي يحمد بها الله. وهذا عالم له قدرة على التعبير يستطيع ان يأتي بصيغة الحمد بما أوتي من علم وبلاغة. وهكذا تتفاوت درجات البشر في الحمد. . طبقا لقدرتهم في منازل الدنيا. ولكن الحق تبارك وتعالى شاء عدله أن يسوي بين عباده جميعا في صيغة الحمد له. . فيعلمنا في أول كلماته في القرآن الكريم. . أن نقول {الحمد للَّهِ} ليعطي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الفرصة المتساوية لكل عبيده بحيث يستوي المتعلم وغير المتعلم في عطاء الحمد ومن أوتي البلاغة ومن لا يحسن الكلام. ولذلك فإننا نحمد الله سبحانه وتعالى على أنه علمنا كيف نحمده وليظل العبد دائما حامدا. ويظل الله دائما محمودا. . فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا خلق لنا موجبات الحمد من النعم، فخلق لنا السماوات والارض وأوجد لنا الماء والهواء. ووضع في الأرض أقواتها الى يوم القيامة. . وهذه نعمة يستحق الحمد عليها لأنه جل جلاله جعل النعمة تسبق الوجود الانساني، فعندما خلق الانسان كانت النعمة موجودة تستقبله. بل ان الله جل جلاله قبل أن يخلق آدم أبا البشر جميعا سبقته الجنة التي عاش فيها لا يتعب ولا يشقى. فقد خلق فوجد ما يأكله وما يشربه وما يقيم حياته وما يتمتع به موجودا وجاهزا ومعدا قبل الخلق. . وحينما نزل آدم وحواء الى الأرض كانت النعمة قد سبقتهما. فوجدا ما يأكلانه وما يشربانه، وما يقيم حياتهما. . ولو أن النعمة لم تسبق الوجود الانساني وخلقت بعده لهلك الانسان وهو ينتظر مجيء النعمة. بل ان العطاء الالهي للانسان يعطيه النعمة بمجرد أن يخلق في رحم أمه فيجد رحما مستعدا لاستقباله وغذاء يكفيه طول مدة الحمل. فاذا خرج الى الدنيا يضع الله في صدر أمه لبنا ينزل وقت أن يجوع ويمتنع وقت أن يشبع. وينتهي تماما عندما تتوقف فترة الرضاعة. ويجد أبا وأما يوفران له مقومات حياته حتى يستطيع أن يعول نفسه. . وكل هذا يحدث قبل ان يصل الانسان إلى مرحلة التكليف وقبل أن يستطيع ان ينطق: {الحمد للَّهِ} . وهكذا نرى أن النعمة تسبق الْمُنْعَمَ عليه دائما. . فالانسانَ حيث يقول «الحمد لله» فلأن موجبات الحمد وهي النعمة موجودة في الكون قبل الوجود الانساني. والله سبحانه وتعالى خلق لنا في هذا الكون أشياء تعطي الانسان بغير قدرة منه ودون خضوع له، والانسان عاجز عن أن يقدم لنفسه هذه النعم التي يقدمها الحق تبارك وتعالى له بلا جهد. فالشمس تعطي الدفء والحياة للارض بلا مقابل وبلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فعل من البشر، والمطر ينزل من السماء دون ان يكون لك جهد فيه أو قدرة على إنزاله. والهواء موجود حولك في كل مكان تتنفس منه دون جهد منك ولا قدرة. والأرض تعطيك الثمر بمجرد أن تبذر فيها الحب وتسقيه. . فالزرع ينبت بقدرة الله. . والليل والنهار يتعاقبان حتى تستطيع أن تنام لترتاح، وأن تسعى لحياتك. . لا أنت أتيت بضوء النهار، ولا أنت الذي صنعت ظلمة الليل، ولكنك تأخذ الراحة في الليل والعمل في النهار بقدرة الله دون أن تفعل شيئا. كل هذه الاشياء لم يخلقها الانسان، ولكنه خلق ليجدها في الكون تعطيه بلا مقابل ولا جهد منه. ألا تستحق أن نقول الحمد لله على نعمة تسخير الكون لخدمة الانسان؟ إنها تقتضي وجوب الحمد. وآيات الله سبحانه وتعالى في كونه تستوجب الحمد. . فالحياة التي وهبها الله لنا، والآيات التي أودعها في كونه لتدلنا على أن لهذا الكون خالقاً عظيماً. فالكون بشمسه وقمره ونجومه وأرضه وكل ما فيه مما يفوق قدرة الانسان. . ولا يستطيع أحد أن يدعيه لنفسه. فلا أحد مهما بلغ علمه يستطيع أن يدعي أنه خلق الشمس أو أوجد النجوم أو وضع الأرض أو وضع قوانين الكون أو أعطى غلافها الجوي. . أو خلق نفسه أو خلق غيره. هذه الآيات كلها أعطتنا الدليل على وجود قوة عظمى، وهي التي أوجدت وهي التي خلقت. . وهذه الآيات ليست ساكنة، لتجعلنا في سكونها ننساها، بل هي متحركة لتلفتنا الي خالق هذا الكون العظيم. فالشمس تشرق في الصباح فتذكرنا باعجاز الخلق، وتغيب في المساء لتذكرنا بعظمة الخالق. . وتعاقب الليل والنهار يحدث أمامنا كل يوم علمنا نلتفت ونفيق. . والمطر ينزل من السماء ليذكرنا بألوهية من أنزله. . والزرع يخرج من الأرض يسقي بماء واحد. ومع ذلك فإن كل نوع له لون وله شكل وله مذاق وله رائحة، وله تكوين يختلف عن الآخر، ويأتي الحصاد فيختفي الثمر والزرع. . ويأتي موسم الزراعة فيعود من جديد. كل شيء في هذا الكون متحرك ليذكرنا اذا نسينا، ويعلمنا أن هناك خالقاً عظيماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ونستطيع أن نمضي في ذلك بلا نهاية فنعم الله لا تعد ولا تحصى. . وكل واحدة منها تدلنا على وجود الحق سبحانه وتعالى، وتعطينا الدليل الايماني على ان لهذا الكون خالقاً مبدعاً. . وانه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الكون أو خلق ما فيه. . فالقضية محسومة لله. . و {الحمد للَّهِ} لأنه وضع في نفوسنا الإيمان الفطري ثم أيده بإيمان عقلي بآياته في كونه. بل إن كل شيء في هذا الكون يقتضي الحمد، ومع ذلك فإن الانسان يمتدح الوجود وينسى الموجود!! فأنت حين ترى زهرة جميلة مثلا أو زهرة غاية في الإبداع. . أو أي خلق من خلق الله يشيع في نفسك الجمال تمتدح هذا الخلق. . فتقول: ما أجمل هذه الزهرة أو هذه الجوهرة أو هذا المخلوق. . ولكن المخلوق الذي امتدحته، لم يعط صفة الجمال لنفسه. . فالزهرة لا دخل لها أن تكون جميلة أو غير جميلة، والجوهرة لا دخل لها في عظمة خلقها. . وكل شيء في هذا الكون لم يضع الجمال لنفسه وانما الذي وضع الجمال فيه هو الله سبحانه وتعالى، فلا نخلط ونمدح المخلوق وننسى الخالق. . بل قل: الحمد لله الذي أوجد في الكون ما يذكرنا بعظمة الخالق ودقة الخلق. ومنهج الله سبحانه وتعالى يقتضي منا الحمد، لان الله أنزل منهجه ليرينا طريق الخير ويبعدنا عن طريق الشر. فمنهج الله الذي أنزله على رسله قد عرفنا ان الله تبارك وتعالى هو الذي خلق لنا هذا الكون وخلقنا. . فدقة الخلق وعظمته تدلنا على أن هناك خالقاً عظيماً. . ولكنها لا تستطيع أن تقول لنا من هو، ولا ماذا يريد منا. ولذلك أرسل الله رسله، ليقولوا لنا إن الذي خلق هذا الكون وخلقنا هو الله تبارك وتعالى وهذا يستوجب الحمد. ومنهج الله بين لنا ماذا يريد الحق منا، وكيف نعبده. . وهذا يستوجب الحمد. ومنهج الله جل جلاله أعطانا الطريق وشرع لنا اسلوب حياتنا تشريعاً حقاً. . فالله تبارك وتعالى لا يفرق بين أحد منا. . ولا يفضل أحداً على احد إلا بالتقوى، فكلنا خلق متساوون أمام الله جل جلاله. . إذن: فشريعة الحق، وقول الحق، وقضاء الحق، هو من الله، أما تشريعات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الناس فلها هوى، تميز بعضا عن بعض. . وتأخذ حقوق بعض لتعطيها للآخرين، لذلك نجد في كل منهج بشرى ظلما بشريا. فالدول الشيوعية أعضاء اللجنة المركزية فيها هم أصحاب النعمة والترف. بينما الشعب كله في شقاء. . لأن هؤلاء الذي شرعوا اتبعوا هواهم. ووضعوا مصالحهم فوق كل مصلحة. . وكذلك في الدول الرأسمالية. أصحاب رأس المال يأخذون كل الخير. ولكن الله سبحانه وتعالى حين نزل لنا المنهج قضى بالعدل بين الناس. . وأعطى كل ذي حق حقه. وعلمنا كيف تستقيم الحياة على الأرض عندما تكون بعيدة عن الهوى البشري خاضعة لعدل الله، وهذا يوجب الحمد. والحق سبحانه وتعالى، يستحق منا الحمد لأنه لا يأخذ منا ولكنه يعطينا. فالبشر في كل عصر يحاولون استغلال البشر. . لأنهم يطمعون لما في ايديهم من ثروات وأموال، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج الى ما في أيدينا، إنه يعطينا ولا يأخذ منا، عنده خزائن كل شيء مصداقا لقوله جل جلاله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] فالله سبحانه وتعالى دائم العطاء لخلقه، والخلق يأخذون دائما من نعم الله، فكأن العبودية لله تعطيك ولا تأخذ منك وهذا يستوجب الحمد.. والله سبحانه وتعالى في عطائه يجب أن يطلب منه الانسان، وأن يدعوه وان يستعين به، وهذا يتوجب الحمد لأنه يقينا الذل في الدنيا. فأنت إن طلبت شيئا من صاحب نفوذ، فلابد ان يحدد لك موعدا أو وقت الحديث ومدة المقابلة، وقد يضيق بك فيقف لينهي اللقاء. . ولكن الله سبحانه وتعالى بابه مفتوح دائما. . فأنت بين يديه عندما تريد، وترفع يديك الى السماء وتدعو وقتما تحب، وتسأل الله ما تشاء، فيعطيك ما تريده إن كان خيرا لك. . ويمنع عنك ما تريده ان كان شرا لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 والله سبحانه وتعالى يطلب منك ان تدعوه وان تسأله فيقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] والله سبحانه وتعالى يعرف ما في نفسك، ولذلك فإنه يعطيك دون أن تسأل. واقرأ الحديث القدسي: يقول رب العزة: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» . والله سبحانه وتعالى عطاؤه لا ينفد، وخزائنه لا تفرغ، فكلما سألته جل جلاله كان لديه المزيد، ومهما سألته فإنه لا شيء عزيز على الله سبحانه وتعالى، إذا أراد أن يحققه لك. . واقرأ قول الشاعر: حسب نفسي عزا بأنني عبد ... يحتفي بي بلا مواعيد رب هو في قدسه الاعز ولكن ... أنا ألقى متى وأين أحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 إذن: عطاء الله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد. . ومنعه العطاء يستوجب الحمد. ووجود الله سبحانه وتعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد. . فالله يستحق الحمد لذاته، ولولا عدل الله لبغى الناس في الارض وظلموا، ولكن يد الله تبارك وتعالى حين تبطش بالظالم تجعله عبرة. . فيخاف الناس الظلم. . وكل من أفلت من عقاب الدنيا على معاصيه وظلمه واستبداده سيلقى الله في الاخرة ليوفيه حسابه. . وهذا يوجب الحمد. . أن يعرف المظلوم أنه سينال جزاءه فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه ان هناك يوما سيرى فيه ظالمه وهو يعذب في النار. . فلا تصيبه الحسرة، ويخف احساسه بمرارة الظلم حين يعرف ان الله قائم على كونه لن يفلت من عدله أحد. وعندما نقول: {الحمد للَّهِ} فنحن نعبر عن انفعالات متعددة. . وهي في مجموعها تحمل العبودية والحب والثناء والشكر والعرفان. . وكثير من الانفعالات التي تملأ النفس عندما تقول: «الحمد لله» كلها تحمل الثناء العاجز عن الشكر لكمال الله وعطائه. . هذه الانفعالات تأتي من النفس وتستقر في القلب. . ثم تفيض من الجوارح على الكون كله.. فالحمد ليس ألفاظا تردد باللسان، ولكنها تمر أولا على العقل ليعي معنى النعم. . ثم بعد ذلك تستقر في القلب فينفعل بها. . وتنتقل الي الجوارح فأقوم واصلي لله شاكرا ويهتز جسدي كله، وتفيض الدمعة من عيني. . وينتقل هذا الانفعال كله الي من حولي. ونفسر ذلك قليلا. . هب انني في أزمة أو كرب أو شيء سيؤدي الي فضيحة. . وجاءني من يفرج كربي فيعطيني مالا أو يفتح لي طريقا. . أول شيء انني سأعقل هذا الجميل فأقول انه يستحق الشكر. . ثم ينزل هذا المعنى الي قلبي فيهتز القلب الي صانع هذا الجميل. . ثم تنفعل جوارحي لأترجم هذه العاطفة إلي عمل يرضيه على جميل صنعه. ثم أحدث الناس عن جميله وكرمه فيسارعون إلي الالتجاء اليه. . فتتسع دائرة الحمد وتنزل النعم على الناس. . فيمرون بنفس ما حدث لي فتتسع دائرة الشكر والحمد. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والحمد لله تعطينا المزيد من نعم الله مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] وهكذا نعرف ان الشكر على النعمة يعطينا مزيدا من النعمة. . فنشكر عليها فتعطينا المزيد وهكذا يظل الحمد دائماً والنعمة دائمة. . اننا لو استعرضنا حياتنا كلها فكل حركة فيها تقتضي الحمد، عندما ننام ويأخذ الله سبحانه وتعالى أرواحنا، ثم يردها الينا عندما نستيقظ، فإن هذا يوجب الحمد، فالله سبحانه وتعالى يقول: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] وهكذا فإن مجرد استيقاظنا من النوم، وان الله سبحانه وتعالى رد علينا أرواحنا، وهذا الرد يستوجب الحمد، فإذا قمنا من السرير فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعطينا القدرة على الحركة، ولولا عطاؤه ما استطعنا ان نقوم. . وهذا يستوجب الحمد. . فإذا تناولنا افطارنا فالله هيأ لنا طعاما من فضله، فهو الذي خلقه، وهو الذي انبته، وهو الذي زرقنا به، وهذا يستوجب الحمد. . فإذا نزلنا الى الطريق يسر الله لنا ما ينقلنا الى مقر اعمالنا وسخره لنا، سواء كنا نملك سيارة او نستخدم وسائل المواصلات، فله الحمد، واذا تحدثنا مع الناس فالله سبحانه وتعالى هو الذي اعطى السنتنا القدرة على النطق ولو شاء لجعلها خرساء لا تنطق. . وهذا يستوجب الحمد، فإذا ذهبنا الى أعمالنا، فالله يسر لنا عملا نرتزق منه لنأكل حلالا. . وهذا يستوجب الحمد. . واذا عدنا الى بيوتنا فالله سخر لنا زوجاتنا ورزقنا بأولادنا وهذا يستوجب الحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 اذن فكل حركة حياة في الدنيا من الانسان تستوجب الحمد. . ولهذا لابد ان يكون الانسان حامدا دائما. . بل ان الانسان يجب ان يحمد الله على اي مكروه أصابه؛ لأنه قد يكون الشيء الذي يعتبره شرا هو عينه الخير. فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19] اذن فأنت تحمد الله لأن قضاءه خير. . سواء أحببت القضاء أو كرهته فإنه خير لك. . لأنك لا تعلم والله سبحانه وتعالى يعلم. وهكذا من موجبات الحمد أن تقول الحمد لله على كل ما يحدث لك في دنياك. فأنت بذلك ترد الامر الى الله الذي خلقك. . فهو أعلم بما هو خير لك. فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله رب العالمين. . لماذا قال الله سبحانه وتعالى رب العالمين؟ نقول إن {الحمد للَّهِ} تعني حمد الألوهية. فكلمة الله تعني المعبود بحق. . فالعبادة تكليف والتكليف يأتي من الله لعبيده. . فكأن الحمد اولا لله. . ثم يقتضي بعد ذلك أن يكون الحمد لربوبية الله على ايجادنا من عدم وامدادنا من عدم. . لأن المتفضل بالنعم قد يكون محمودا عند كل الناس. . لكن التكليف يكون شاقا على بعض الناس. . ولو علم الناس قيمة التكليف في الحياة. . لحمدوا الله أن كلفهم بافعل ولا تفعل. . لأنه ضمن عدم تصادم حركة حياتهم. . فتمضي حركة الحياة متساندة منسجمة. اذن فالنعمة الاولى هي أن المعبود ابلغنا منهج عبادته، والنعمة الثانية أنه رب العالمين. في الحياة الدنيا هناك المطيع والعاصي، والمؤمن وغير المؤمن. . والذين يدخلون في عطاء الالوهية هم المؤمنون. . أما عطاء الربوبية فيشمل الجميع. . ونحن نحمد الله على عطاء ألوهيته، ونحمد الله على عطاء ربوبيته، لأنه الذي خلق، ولأنه رب العالمين. . الكون كله لا يخرج عن حكمه. . فليطمئن الناس في الدنيا ان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 النعم مستمرة لهم بعطاء ربوبيه. . فلا الشمس تستطيع أن تغيب وتقول لن أشرق ولا النجوم تستطيع أن تصطدم بعضها ببعض في الكون، ولا الأرض تستطيع أن تمنع إنبات الزرع. . ولا الغلاف الجوي يستطيع أن يبتعد عن الأرض فيختنق الناس جميعا. . اذن فالله سبحانه وتعالى يريد ان يطمئن عباده انه رب لكل ما في الكون فلا تستطيع اى قوى تخدم الانسان ان تمتنع عن خدمته. . لأن الله سبحانه وتعالى مسيطر على كونه وعلى كل ما خلق. . انه رب العالمين وهذه توجب الحمد. . ان يهيئ الله سبحانه وتعالى للانسان ما يخدمه، بل جعله سيدا في كونه. . ولذلك فإن الانسان المؤمن لا يخاف الغد. . وكيف يخافه والله رب العالمين. اذا لم يكن عنده طعام فهو واثق ان الله سيرزقه لأنه رب العالمين. . واذا صادفته ازمة فقلبه مطمئن الي ان الله سيفرج الازمة ويزيل الكرب لأنه رب العالمين. . واذا اصابته نعمة ذكر الله فشكره عليها لانه رب العالمين الذي انعم عليه. فالحق سبحانه وتعالى يحمد على انه رب العالمين. . لا شيء في كونه يخرج عن مراده الفعلي. . اما عطاء الالوهية فجزاؤه في الاخرة. . فالدنيا دار اختبار للايمان، والاخرة دار الجزاء. . ومن الناس من لا يعبد الله. . هؤلاء متساوون في عطاء الربوبية مع المؤمنين في الدنيا. . ولكن في الآخرة يكون عطاء الالوهية للمؤمنين وحدهم. . فنعم الله لأصحاب الجنة، وعطاءات الله لمن آمن. . واقرأ قوله تبارك وتعالى. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] على ان الحمد لله ليس في الدنيا فقط. . بل هو في الدنيا والاخرة. . الله محمود دائما. . في الدنيا بعطاء ربوبيته لكل خلقه. . وعطاء الوهيته لمن آمن به وفي الاخرة بعطائه للمؤمنين من عباده. . واقرأ قوله جل جلاله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} [الزمر: 74] وقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] فاذا انتقلنا الى قوله تعالى: {الرحمن الرحيم} فمن موجبات الحمد أن الله سبحانه وتعالى رحمن رحيم. . يعطي نعمه في الدنيا لكل عباده عطاء ربوبية، وعطاء الربوبية للمؤمن والكافر. . وعطاء الربوبية لا ينقطع الا عندما يموت الانسان. . والله لا يحجب نعمه عن عبيده في الدنيا. . ونعم الله لا تعد ولا تحصى ومع كل التقدم في الآلات الحاسبة والعقول الالكترونية وغير ذلك فإننا لم نجد أحدا يتقدم ويقول انا سأحصي نعم الله. . لأن موجبات الاحصاء ان تكون قادرا عليه. . فانت لا تقبل على عد شيء الا اذا كان في قدرتك ان تحصيه. . ولكن مادام ذلك خارج قدرتك وطاقاتك فانك لا تقبل عليه. . ولذلك لن يقبل احد حتى يوم القيامة على احصاء نعم الله تبارك وتعالى لان احدا لا يمكن ان يحصيها. ولابد ان نلتفت الى ان الكون كله يضيق بالانسان، وان العالم المقهور الذي يخدمنا بحكم القهر والتسخير يضيق حين يرى العاصين. . لان المقهور مستقيم على منهج الله قهرا. . فحين يرى كل مقهور الانسان الذي هو خدمته عاصيا يضيق. واقرأ الحديث القدسي لتعرف شيئا عن رحمة الله بعباده. . يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: «ما من يوم تطلع شمسه إلا وتنادي السماء تقول يا رب إئذن لي أن أسقط كسفا على ابن آدم؛ فقد طعم خيرك ومنع شكرك وتقول البحار يا رب إئذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وتقول الجبال يا رب إئذن لي أن أطبق على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. فيقول الله تعالى: دعوهم دعوهم لو خلقتموهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 لرحمتوهم إنهم عبادي فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم» رواه الإِمام أحمد بن حنبل في مسنده «. تلك تجليات صفة الرحمن وصفة الرحيم. . وكيف ضمنت لنا بقاء كل ما يخدمنا في هذا الكون مع معصية الانسان. . انها كلها تخدمنا بعطاء الربوبية وتبقى في خدمتنا بتسخير الله لها لانه رحمن رحيم. . بعض الناس قد يتساءل هل تتكلم الارض والسماء وغيرها من المخلوقات في عالم الجماد والنبات والحيوان؟ نقول نعم ان لها لغة لا نعرفها نحن وانما يعرفها خالقها. . بدليل انه منذ الخلق الاول ابلغنا الحق تبارك وتعالى ان هناك لغة لكل هذه المخلوقات. . واقرأ قوله جل جلاله: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] إذن فالأرض والسماء فهمت كلتاهما عن الله. . وقالت له سبحانه وتعالى {أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} ألم يُعَلَمْ الله سليمان منطق الطير ولغة النمل؟ ألم تسبح الجبال مع داود؟ إذن كل خلق الله له ادراكات مناسبة له. . بل له عواطف. . فعندما تكلم الله سبحانه وتعالى عن قوم فرعون. . قال: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} [الدخان: 25 - 29] اذن فالسماوات والارض لهما انفعال. . انفعال يصل الى مرحلة البكاء. . فهما لم تبكيا على فرعون وقومه. . ولكنهما تبكيان حزنا عندما يفارقهما الانسان المؤمن المصلي المطبق لمنهج الله. . ولقد قال علي بن ابي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: (إذا مات المؤمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 بكى عليه موضعان موضع في الارض وموضع في السماء. . اما الموضع في الارض فهو مكان مصلاه الذي اسعده وهو يصلي فيه. واما الموضع في السماء فهو مصعد عمله الطيب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 اذا كانت كل نعم الله تستحق الحمد. . فإن {مالك يَوْمِ الدين} تستحق الحمد الكبير. . لأنه لو لم يوجد يوم للحساب، لنجا الذي ملأ الدنيا شروراً. دون أن يجازى على ما فعل. . ولكان الذي التزم بالتكليف والعبادة وحرم نفسه من متع دنيوية كثيرة إرضاء لله قد شقي في الحياة الدنيا. . ولكن لأن الله تبارك وتعالى هو {مالك يَوْمِ الدين} . . أعطى الاتزان للوجود كله. . هذه الملكية ليوم الدين هي التي حمت الضعيف والمظلوم وأبقت الحق في كون الله. . إن الذي منع الدنيا أن تتحول إلي غابة يفتك فيها القوي بالضعيف والظالم بالمظلوم هو أن هناك آخرة وحسابا، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيحاسب خلقه. والإِنسان المستقيم استقامته تنفع غيره؛ لأنه يخشى الله ويعطي كل ذي حق حقه ويعفو ويسامح. . إذن كل من حوله قد استفاد من خلقه الكريم ومن وقوفه مع الحق والعدل أما الأنسان العاصي فيشقى به المجتمع لأنه لا احد يسلم من شره ولا احد الا يصيبه ظلمه. . ولذلك فإن {مالك يَوْمِ الدين} هي الميزان. . تعرف أنت ان الذي يفسد في الأرض تنتظره الآخره. . لن يفلت مهما كانت قوته ونفوذه، فتطمئن اطمئنانا كاملاً إلي أن عدل الله سينال كل ظالم. على أن {مالك يَوْمِ الدين} لها قراءتان. . {مالك يَوْمِ الدين} . . وملك يوم الدين. والقراءتان صحيحتان. . والله تبارك وتعالى وصف نفسه في القرآن الكريم بأنه: {مالك يَوْمِ الدين} . . ومالك الشيء هو المتصرف فيه وحده. . ليس هناك دخل لأي فرد آخر. . أنا أملك عباءتي. . وأملك متاعي، وأملك منزلي، وانا المتصرف في هذا كله أحكم فيه بما أراه. . فمالك يوم الدين. . معناها أن الله سبحانه وتعالى سيصرف أمور العباد في ذلك اليوم بدون أسباب. . وأن كل شيء سيأتي من الله مباشرة. . دون ان يستطيع أحد أن يتدخل ولو ظاهراً. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ففي الدنيا يعطى الله الملك ظاهرا لبعض الناس. . ولكن في يوم القيامة ليس هناك ظاهر. . فالامر مباشر من الله سبحانه وتعالى. . ولذلك يقول الله في وصف يوم الدين: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين} [الانفطار: 9] فكأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في الدنيا لتمضي بها الحياة. . ولكن في الآخرة لا توجد أسباب. الملك في ظاهر الدنيا من الله يهبه لمن يشاء. . واقرأ قوله تعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] ولعل قوله تعالى: «تنزع» تلفتنا إلى أن أحدا في الدنيا لا يريد ان يترك الملك. . ولكن الملك يجب ان ينتزع منه انتزاعا بالرغم عن ارادته. . والله هو الذي ينزع الملك ممن يشاء. . وهنا نتساءل هل الملك في الدنيا والآخرة ليس لله؟ . . نقول الأمر في كل وقت لله. . ولكن الله تبارك وتعالى استخلف بعض خلقه أو مكنهم من الملك في الأرض. . ولذلك نجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والذي حاج ابراهيم في ربه كافر منكر للألوهية. . ومع ذلك فإنه لم يأخذ الملك بذاته. . بل الله جل جلاله هو الذي اتاه الملك. . اذن الله تبارك وتعالى هو الذي استخلف بعض خلقه ومكنهم من ملك الارض ظاهريا. . ومعنى ذلك انه ملك ظاهر للناس فقط. . أن بشرا أصبح ملكا. . ولكن الملك ليس نابعا من ذات من يملك. . ولكنه نابع من أمر الله. . ولو كان نابعا من ذاتية من يملك لبقى له ولم ينزع منه. . والملك الظاهر يمتحن فيه العباد، فيحاسبهم الله يوم القيامة. . كيف تصرفوا؟ وماذا فعلوا؟ . . ويمتحن فيه الناس هل سكتوا على الحاكم الظالم؟ . . وهل استحبوا المعصية؟ أم أنهم وقفوا مع الحق ضد الظلم؟ . . والله سبحانه وتعالى لا يمتحن الناس ليعلم المصلح من المفسد. . ولكنه يمتحنهم ليكونوا شهداء على أنفسهم. . حتى لا يأتي واحد منهم يوم القيامة ويقول: يا رب لو أنك أعطيتني الملك لا تبعت طريق الحق وطبقت منهجك. وهنا يأتي سؤال. . اذا كان الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء فلماذا الامتحان؟ . . نقول اننا اذا أردنا ان نضرب مثلا يقرب ذلك الي الأذهان. . ولله المثل الاعلى. . نجد ان الجامعات في كل انحاء الدنيا تقيم الامتحانات لطلابها. . فهل اساتذة الجامعة الذي علموا هؤلاء الطلاب يجهلون ما يعرفه الطالب ويريدون ان يحصلوا منه على العلم؟ . . طبعا لا. . ولكن ذلك يحدث حتى اذا رسب الطالب في الامتحان. . وجاء يجادل واجهوه بإجابته فيسكت. . ولو لم يعقد الامتحان لادعي كل طالب انه يستحق مرتبة الشرف. اذا قال الحق تبارك وتعالى: {مالك يَوْمِ الدين} . . أي الذي يملك هذا اليوم وحده يتصرف فيه كما يشاء. . واذا قيل: {مالك يَوْمِ الدين} . . فتصرفه أعلى على المالك لأن المالك لا يتصرف إلاّ في ملكه. . ولكن الملك يتصرف في ملكه وملك غيره. . فيستطيع أن يصدر قوانين بمصادرة أو تأميم ما يملكه غيره. الذين قالوا: {مالك يَوْمِ الدين} اثبتوا لله سبحانه وتعالى انه مالك هذا اليوم يتصرف فيه كما يشاء دون تدخل من احد ولو ظاهرا: والذين يقرأون ملك. . يقولون ان الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم يقضي في امر خلقه حتى الذين مَلَّكَهُم في الدنيا ظاهرا. . ونحن نقول عندما يأتي يوم القيامة لا مالك ولا ملك الا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الله تبارك وتعالى يريد ان يطمئن عباده. . انهم اذا كانوا قد ابتلوا بمالك او ملك يطغى عليهم فيوم القيامة لا مالك ولا ملك الا الله جل جلاله. . عندما تقول مالك او ملك يوم الدين. . هناك يوم وهناك الدين. . اليوم عندنا من شروق الشمس الي شروق الشمس. . هذا ما نسيمه فكليا يوما. . واليوم في معناه ظرف زمان تقع فيه الاحداث. . والمفسرون يقولون: {مالك يَوْمِ الدين} اي مالك أمور الدين لأن ظرف الزمان لا يملك. . نقول ان هذا بمقاييس ملكية البشر، فنحن لا نملك الزمن. . الماضي لا نستطيع ان نعيده، والمستقبل لا نستطيع ان نأتي به. . ولكن الله تبارك وتعالى هو خالق الزمان. . والله جل جلاله لا يحده زمان ولا مكان. . كذلك قوله تعالى: «مالك يوم الدين» لا يحده زمان ولا مكان. . واقرأ قوله سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] واذا تأملنا هاتين الايتين نعرف معنى اليوم عند الله تبارك وتعالى. . ذلك ان الله جل جلاله هو خالق الزمن. . ولذلك فانه يستطيع ان يخلق يوما مقداره ساعة. . ويوما كأيام الدنيا مقداره أربع وعشرون ساعة. . ويوما مقداره ألف سنة. . ويوما مقداره خمسون الف سنة ويوما مقداره مليون سنة. . فذلك خاضع لمشيئة الله. ويوم الدين موجود في علم الله سبحانه وتعالى. بأحداثه كلها بجنته وناره. . وكل الخلق الذين سيحاسبون فيه. . وعندما يريد ان يكون ذلك اليوم ويخرج من علمه جل جلاله الي علم خلقه. . سواء كانوا من الملائكة او من البشر أو الجان يقول: كن. . فالله وحده هو خالق هذا اليوم. . وهو وحده الذي يحدد كل أبعاده. . واليوم نحن نحدده ظاهرا بانه اربع وعشرون ساعة. . ونحدده بأنه الليل والنهار. . ولكن الحقيقة أن الليل والنهار موجودان دائما على الارض. . فعندما تتحرك الارض، كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 حركة هي نهاية نهار في منطقة وبداية نهار في منطقة اخرى. . وبداية ليل في منطقة ونهاية ليل في منطقة اخرى. . ولذلك في كل لحظة ينتهي يوم ويبدأ يوم. . وهكذا فإن الكرة الارضية لو أخذتها بنظرة شاملة لا ينتهي عليها نهار أبدا. . ولا ينتهي عنها ليل أبدا. . إذن فاليوم نسبي بالنسبة لكل بقعة في الارض. . ولكنه في الحقيقة دائم الوجود على كل الكرة الارضية. والله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده. . أنهم إذا أصابهم ظلم في الدنيا. . فإن هناك يوم لا ظلم فيه. . وهذا اليوم الامر فيه لله وحده بدون أسباب. . فكل انسان لو لم يدركه العدل والقصاص في الدنيا فإن الآخرة تنتظره. . والذي أتبع منهج الله وقيد حركته في الحياة يخبره الله سبحانه وتعالى ان هناك يوم سيأخذ فيه أجره. . وعظمة الآخرة أنها تعطيك الجنة. . نعيم لا يفوتك ولا تفوته. ولقد دخل أحد الأشخاص على رجل من الصالحين. . وقال له: أريد أن أعرف. . أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ . . فقال له الرجل الصالح. . ان الله أرحم بعباده، فلم يجعل موازينهم في أيدي أمثالهم. . فميزان كل انسان في يد نفسه. . لماذا؟ . . لأنك تستطيع أن تغش الناس ولكنك لا تغش نفسك. . ميزانك في يديك. . تستطيع أن تعرف أأنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة. قال الرجل كيف ذلك؟ فرد العبد الصالح: اذا دخل عليك من يعطيك مالا. . ودخل عليك من يأخذ منك صدقة. . فبأيهما تفرح؟ . . فسكت الرجل. . فقال العبد الصالح: اذا كنت تفرح بمن يعطيك مالا فأنت من اهل الدنيا. . واذا كنت تفرح بمن يأخذ منك صدقة فأنت من أهل الآخرة. . فإن الانسان يفرح بمن يقدم له ما يحبه. . فالذي يعطيني مالا يعطيني الدنيا. . والذي يأخذ مني صدقة يعطيني الآخرة. . فإن كنت من أهل الآخرة. . فافرح بمن يأخذ منك صدقة. . أكثر من فرحك بمن يعطيك مالا. ولذلك كان بعض الصالحين اذا دخل عليه من يريد صدقة يقول مرحبا بمن جاء يحمل حسناتي الي الآخرة بغير أجر. . ويستقبله بالفرحة والترحاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 قول الحق سبحانه وتعالى: {مالك يَوْمِ الدين} . . هي قضية ضخمة من قضايا العقائد. . لأنها تعطينا أن البداية من الله، والنهاية الي الله جل جلاله. . وبما أننا جميعا سنلقى الله، فلابد أن نعمل لهذا اليوم. . ولذلك فإن المؤمن لا يفعل شيئا في حياته إلا وفي باله الله. . وأنه سيحاسبه يوم القيامة. . ولكن غير المؤمن يفعل ما يفعل وليس في باله الله. . وعن هؤلاء يقول الحق سبحانه: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] وهكذا من يفعل شيئا وليس في باله الله. . فسيفاجأ يوم القيامة بأن الله تبارك وتعالى الذي لم يكن في باله موجود وانه جل جلاله هو الذي سيحاسبه. وقوله تعالى: {مالك يَوْمِ الدين} هي أساس الدين. . لأن الذي لا يؤمن بالآخرة يفعل ما يشاء. . فمادام يعتقد انه ليس هناك آخره وليس هناك حساب. . فمم يخاف؟ . . ومن أجل مَنْ يقيد حركته في الحياة. . ان الدين كله بكل طاعاته وكل منهجه قائم على أن هناك حسابا في الآخرة. . وأن هناك يوما نقف فيه جميعا أمام الله سبحانه وتعالى. . ليحاسب المخطئ ويثيب الطائع. . هذا هو الحكم في كل تصرفاتنا الايمانية. . فلو لم يكن هناك يوم نحاسب فيه. . فلماذا نصلي؟ . . ولماذا نصوم؟ . . ولماذا نتصدق؟ . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ان كل حركة من حركات منهج السماء قائمة على اساس ذلك اليوم الذي لن يفلت منه أحد. . والذي يجب علينا جميعا أن نستعد له. . ان الله سبحانه وتعالى سمى هذا اليوم بالنسبة للمؤمنين يوم الفوز العظيم. . والذي يجعلنا نتحمل كل ما نكره ونجاهد في سبيل الله لنستشهد. . وننفق اموالنا لنعين الفقراء والمساكين. . كل هذا أساسه أن هناك يوما سنقف فيه بين يدي الله. . والله تبارك وتعالى سماه يوم الدين. . لأنه اليوم الذي سيحاسب فيه كل انسان على دينه عمل به أم ضيعه. . فمن آمن واتبع الدين سيكافأ بالخلود في الجنة. . ومن أنكر الدين وأنكر منهج الله سيجازى بالخلود في النار. . ومن عدل الله سبحانه وتعالى ان هناك يوما للحساب. . لأن بعض الناس الذين ظلموا وبغوا في الأرض ربما يفلتون من عقاب الدنيا. . هل هؤلاء الذين أفلتوا في الدنيا من العقاب هل يفلتون من عدل الله؟ . . أبدا لم يفلتوا. . بل إنهم انتقلوا من عقاب محدود الي عقاب خالد. . وافلتوا من العقاب بقدرة البشر في الدنيا. . الى عقاب بقدرة الله تبارك وتعالى في الآخرة. . ولذلك لابد من وجود يوم يعيد الميزان. . فيعاقب فيه كل من أفسد في الارض وأفلت من العقاب. . بل إن الله سبحانه وتعالى يجعل انسانا يفلت من عقاب الدنيا. . فلا تعتقد أن هذا خير له بل انه شر له. . لانه أفلت من عقاب محدود إلى عقاب أبدي. والحمد الكبير لله بأنه {مالك يَوْمِ الدين} . . وهو وحده الذي سيقضي بين خلقه. فالله سبحانه وتعالى يعامل خلقه جميعا معاملة متساوية. . وأساس التقوى هو يوم الدين. وقبل ان نتكلم عن قول الحق تبارك وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . . لابد أن نتحدث عن قضية مهمة. . فهناك نوعان من الرؤية. . الرؤية العينية أي بالعين. . والرؤية الإيمانية أي بالقلب. . وكلاهما مختلف عن الآخر. . رؤية العين هي أن يكون الشيء أمامك تراه بعينيك، وهذه ليس فيها قضية ايمان. . فلا تقول أنني أومن أنني أراك أمامي لانك تراني فعلا. . مادمت تراني فهذا يقين. . ولكن الرؤية الايمانية هي أن تؤمن كأنك ترى ما هو غيب أمامك. . وتكون هذه الرؤية أكثر يقينا من رؤية العين. . لأنها رؤية إيمان ورؤية بصيرة. . وهذه قضية مهمة جدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 «وقد روى عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم اذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر. لا يرى عليه أثر السفر. ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس الى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فأسند ركبتيه الى ركبتيه. ووضع كفيه على فخذيه قال: يا محمد أخبرني عن الاسلام؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الاسلام أن تشهد أن لا اله الا الله. وأن محمدا رسول الله. وتقيم الصلاة. وتؤتي الزكاة. وتصوم رمضان. وتحج البيت ان استطعت اليه سبيلا قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فاخبرني عن الايمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وتؤمن بالقدر؛ خيره وشره قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الاحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه. فان لم تكن تراه فانه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال: فاخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربتها. وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق فلبثت مليا. . ثم قال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنه جبريل اتاكم يعلمكم دينكم» قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . هو بيان للرؤية الايمانية في النفس المؤمنة. . فالانسان حينما يؤمن، لابد أن يأخذ كل قضاياه برؤية ايمانية. . حتى اذا قرأ آية عن الجنة فكأنه يرى أهل الجنة وهم ينعمون. . واذا قرأ آية عن أهل النار اقشعر بدنه. . وكأنه يرى أهل النار وهم يعذبون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ذات يوم «شاهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحد صحابته وكان اسمه الحارث. . فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا قال الرسول: فانظر ما تقول. فإن لكل قول حقيقة. فما حقيقة إيمانك؟ قال الحارث: عزفت نفسي عن الدنيا. فأسهرت ليلي. وأظمأت نهاري. وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا. وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها. وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. (يتصايحون فيها) . قال النبي» يا حارث عرفت فالزم « ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى وهو يخاطب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] يأخذ بعض المستشرقين هذه الآية في محاولة للطعن في القرآن الكريم. . فقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} . . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولد في عام الفيل. . انه لم ير لأنه كان طفلا عمره أيام أو شهور، لو قال الله سبحانه وتعالى ألم تعلم لقلنا علم من غيره. . فالعلم تحصل عليه انت او يعطيه لك من عَلِمَهُ. . اي يعلمك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 غيرك من البشر. . ولكن الله سبحانه وتعالى قال: {أَلَمْ تَرَ} . . نقول ان هذه قضية من قضايا الايمان. . فما يقوله الله سبحانه وتعالى هو رؤية صادقة بالنسبة للانسان المؤمن. . فالقرآن هو كلام متعبد بتلاوته حتى قيام الساعة. . وقول الله: {أَلَمْ تَرَ} . . معناها ان الرؤية مستمرة لكل مؤمن بالله يقرأ هذه الآية. . فما دام الله تبارك وتعالى قال: {أَلَمْ تَرَ} . . فأنت ترى بإيمانك ما تعجز عينك عن أن تراه. . هذه هي الرؤية الايمانية، وهي أصدق من رؤية العين. . لأن العين قد تخدع صاحبها ولكن القلب المؤمن لا يخدع صاحبه أبدا. . على أن هناك ما يسمونه ضمير الغائب. . اذا قلت زيد حضر. . فهو موجود أمامك. . ولكن إذا قلت قابلت زيدا. . فكأن زيداً غائب عنك ساعة قلت هذه الجملة. . قابلته ولكنه ليس موجوداً معك ساعة الحديث. . اذن فهناك حاضر وغائب ومتكلم. . الغائب هو من ليس موجوداً أو لا نراه وقت الحديث. . والحاضر هو الموجود وقت الحديث. . والمتكلم هو الذي يتحدث. وقضايا العقيدة كلها ليس فيها مشاهدة، ولكن الايمان بما هو غيب عنا يعطينا الرؤية الايمانية التي هي كما قلنا أقوى من رؤية البصر. فالله سبحانه وتعالى حين يقول {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} . . {للَّهِ} غيب و {رَبِّ العالمين} غيب. . و {الرحمن الرحيم} . . «غيب» . . و {مالك يَوْمِ الدين} غيب. . وكان السياق اللغوي يقتضي أن يقال إياه نعبد. ولكن الله سبحانه وتعالى غير السياق ونقله من الغائب الي الحاضر. . وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فانتقل الغيب الي حضور المخاطب. . فلم يقل إياه نعبد. . ولكنه قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . . فأصبحت رؤية يقين ايماني. فأنت في حضرة الله سبحانه وتعالى الذي غمرك بالنعم، وهذه تراها وتحيط بك لأنه {رَبِّ العالمين} . . وجعلك تطمئن الى قضائه لأنه {الرحمن الرحيم} أي أن ربوبيته جل جلاله ليست ربوبية جبروت بل هي ربوبية {الرحمن الرحيم} فإذا لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 تحمده وتؤمن به بفضل نعمه التي تحسها وتعيش فيها. فاحذر من مخالفة منهجه لأنه «مالك يوم الدين» . حين يستحضر الحق سبحانه وتعالى ذاته بكل هذه الصفات. . التي فيها فضائل الألوهية، ونعم الربوبية. . والرحمة التي تمحو الذنوب والرهبة من لقائه يوم القيامة تكون قد انتقلت من صفات الغيب الى محضر الشهود. . استحضرت جلال الألوهية لله وفيوضات رحمته. . ونعمه التي لا تحد وقيوميته يوم القيامة. . عندما تقرأ قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فالعبارة هنا تفيد الخصوصية. . بمعنى أنني اذا قلت لانسان انني سأقابلك، قد أقابله وحده، وقد أقابله مع جمع من الناس. ولكن اذا قلت اياك سأقابل. . فمعنى ذلك ان المقابلة ستكون خاصة. . الحق سبحانه وتعالى حين قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قصر العبادة على ذاته الكريمة. . لأنه لو قال نعبدك وحدك فهي لا تؤدي المعنى نفسه. . لأنك قد تقول نعبدك وحدك ومعك كذا وكذا. ولكن اذا قلت {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وقدمت إياك. . تكون قد حسمت الأمر بأن العبادة لله وحده فلا يجوز العطف عليها. . فالعبادة خضوع لله سبحانه وتعالى بمنهجه افعل ولا تفعل. . ولذلك جعل الصلاة أساس العبادة، والسجود هو منتهى الخضوع لله. . لأنك تأتي بوجهك الذي هو أكرم شيء فيك وتضعه على الأرض عند موضع القدم. فيكون هذا هو منتهى الخضوع لله. . ويتم هذا امام الناس جميعا في الصلاة. لإعلان خضوعك لله امام البشر جميعا. ويستوي في العبودية الغني والفقير والكبير والصغير. . حتى يطرد كل منا الكبر والاستعلاء من قلبه امام الناس جميعا فيساوى الحق جل جلاله بين عباده في الخضوع له وفي اعلان هذا الخضوع. وقول الحق سبحانه وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تنفي العبودية لغير الله. . أي لا نعبد غير الله ولا يعطف عليها أبدا. . اذن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أعطت تخصيص العبادة لله وحده لا إله غيره ولا معبود سواه. . وعلينا أن نلتفت الي قوله تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وهكذا فإننا عندما نقول {الحمد للَّهِ} فإننا نستحضر موجبات الحمد وهي نعم الله ظاهرة وباطنة. . وحين نقول {رَبِّ العالمين} نستحضر نعم الربوبية في خلقه وإخضاع كونه. . وحين نستحضر {الرحمن الرحيم} فاننا نستحضر الرحمة والمغفرة ومقابلة الاساءة بالاحسان وفتح باب التوبة. . وحين نستحضر: {مالك يَوْمِ الدين} نستحضر يوم الحساب وكيف أن الله تبارك وتعالى سيجازيك على أعمالك. . فإذا استحضرنا هذا كله نقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي أننا نعبد الله وحده. . اذن عرفنا المطلوب منا وهو العبادة. وهنا نتوقف قليلا لنتحدث عما يطلقون عليه في اللغة «العلة والمعلول» إذا أراد ابنك ان ينجح في الامتحان فإنه لابد أن يذاكر. . وعلة المذاكرة هي النجاح. . فكأن النجاح ولد في ذهني اولا بكل ما يحققه لي من ميزات ومستقبل مضمون وغير ذلك مما أريده وأسعى اليه. إذن فالدافع قبل الواقع. . أي أنك استحضرت النجاح في ذهنك. . ثم بعد ذلك ذاكرت لتجعل النجاح حقيقة واقعة. وأنت إذا أردت مثلا أن تسافر الى مكان ما فالسيارة سبب يحقق لك ما تريد وقطع الطريق سبب آخر. ولكن الدافع الذي جعلني أنزل من بيتي واركب السيارة وأقطع الطريق هو انني أريد أن أسافر الى الاسكندرية مثلا. . الدافع هنا وهو الوصول الى الاسكندرية. . هو الذي وجد في ذهني أولا ثم بعد ذلك فعلت كل ما فعلته لتحقيقه. والله سبحانه وتعالى خلقنا في الحياة لنعبده. . مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] إذن فعلّة الخلق هي العبادة. . ولقد تم الخلق لتتحقق العبادة وتصبح واقعا. . ولكن «العلة والمعلول» لا تنطبق على أفعال الله سبحانه وتعالى. . نقول ليس هناك علة تعود على الله جل جلاله بالفائدة. لأن الله تبارك وتعالى غني عن العالمين. . ولكن العلة تعود على الخلق بالفائدة. . فالله سبحانه وتعالى خلقنا لنعبده. ولكن علة الخلق ليس لأن هذه العبادة ستزيد شيئا في ملكه. . وإنما عبادتنا تعود علينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 نحن بالخير في الدنيا والآخرة. . أن أفعال الله لا تعلل، والمأمور بالعبادة هو الذي سينتفع بها. ولكن هل العبادة هي الجلوس في المساجد والتسبيح أو أنها منهج يشمل الحياة كلها. . في بيتك وفي عملك وفي السعي في الارض؟ . . ولو أراد الله سبحانه وتعالى من عباده الصلاة والتسبيح فقط لما خلقهم مختارين بل خلقهم مقهورين لعبادته ككل ما خلق ما عدا الانس والجن. . والله تبارك وتعالى له صفة القهر. . من هنا فانه يستطيع أن يجعل من يشاء مقهورا على عبادته. . مصداقا لقوله جل جلاله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] فلو أراد الله ان يخضعنا لمنهجه قهراً لا يستطيع أحد أن يشذ عن طاعته. . وقد أعطانا الله الدليل على ذلك بأن في أجسادنا وفي أحداث الدنيا ما نحن مقهورون عليه. . فالجسد مقهور لله في أشياء كثيرة. القلب ينبض ويتوقف بأمر الله دون ارادة منا. . والمعدة تهضم الطعام ونحن لا ندري عنها شيئا. . والدورة الدموية في اجسادنا لا ارادة لنا فيها. . وأشياء كثيرة في الجسد البشري كلها مقهورة لله سبحانه وتعالى. . وليس لإرادتنا دخل في عملها. . وما يقع على في الحياة من أحداث أنا مقهور فيه. . لا أستطيع أن أمنعه من الحدوث. . فلا استطيع أن أمنع سيارة أن تصدمني. . ولا طائرة أن تحترق بي. . ولا كل ما يقع علي من أقدار الله في الدنيا. . اذن فمنطقة الاختيار في حياتي محددة. . لا أستطيع أن أتحكم في يوم مولدي. . ولا فيمن هو أبي ومن هي أمي. . ولا في شكلي هل أنا طويل أم قصير؟ جميل أم قبيح أو غير ذلك. اذن فمنطقة الاختيار في الحياة هي المنهج أن أفعل أو لا أفعل. الله سبحانه وتعالى له من كل خلقه عبادة القهر. . ولكنه يريد من الانس والجن عبادة المحبوبية. . ولذلك خلقنا ولنا اختيار في أن نأتيه أو لا نأتيه. . في أن نطيعه أو نعصيه. في أن نؤمن به أو لا نؤمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فإذا كنت تحب الله فأنت تأتيه عن اختيار. تتنازل عما يغضبه حبا فيه، وتفعل ما يطلبه حبا فيه وليس قهرا. . فاذا تخليت عن اختيارك الى مرادات الله في منهجه. . تكون قد حققت عبادة المحبوبية لله تبارك وتعالى. . وتكون قد اصبحت من عباد الله وليس من عبيد الله. . فكلنا عبيد لله سبحانه وتعالى، والعبيد متساوون فيما يقهرون عليه. ولكن العباد الذين يتنازلون عن منطقة الاختيار لمراد الله في التكليف. . ولذلك فإن الحق جل جلاله. . يفرق في القرآن الكريم بين العباد والعبيد. . يقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] ويقول سبحانه وتعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 63 - 65] وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى أعطى أوصاف المؤمنين وسماهم عبادا. . ولكن عندما يتحدث عن البشر جميعا يقول عبيد. . مصداقا لقوله تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182] ولكن قد يقول قائل: أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} [الفرقان: 17] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الحديث هنا عن العاصين والضالين. ولكن الله سبحانه وتعالى قال عنهم عباد. نقول إن هذا في الاخرة. . وفي الآخرة كلنا عباد لأننا مقهورون لطاعة الله الواحد المعبود تبارك وتعالى. . لأن الاختيار البشري ينتهي ساعة الاحتضار. . ونصبح جميعا عباداً لله مقهورين على طاعته لا اختيار لنا في شيء. والله سبحانه وتعالى قد أعطى الانسان اختياره في الحياة الدنيا في العبودية فلم يقهره في شيء ولا يلزم غير المؤمن به بأي تكليف. . بل إن المؤمن هو الذي يلزم نفسه بالتكليف وبمنهج الله فيدخل في عقد ايماني مع الله تبارك وتعالى. . ولذلك نجد أن الله جل جلاله لا يخاطب الناس جميعا في التكليف. . وانما يخاطب الذين آمنوا فقط فيقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ويقول سبحانه: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [البقرة: 153] أي أن الله جل جلاله لا يكلف إلا المؤمن الذي يدخل في عقد ايماني مع الله. وسيد المرسلين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما نضعه في معيار العبادية يكون القمة فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي حقق العبادية المرادة لله من خلق الله كما يحبها الله. . اذن فالذي يقول غاية الخلق كله محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . نقول ان هذا صحيح، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حقق العبادية المثلى المطلوبة من الله تبارك وتعالى. . والتي هي علة الخلق. . وهكذا نعرف المقامات العالية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند خالقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 والله تبارك وتعالى قرن العبادة له وحده بالاستعانة به سبحانه. . فقال جل جلاله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي لا نعبد سواك ولا نستعين إلا بك. والاستعانة بالله سبحانه وتعالى تخرجك عن ذل الدنيا فأنت حين تستعين بغير الله فإنك تستعين ببشر مهما بلغ نفوذه وقوته فكلها في حدود بشريته. . ولأننا نعيش في عالم أغيار فإن القوى يمكن أن يصبح ضعيفا. . وصاحب النفوذ يمكن أن يصبح في لحظة واحدة طريداً شريداً لا نفوذ له. . ولو لم يحدث هذا. فقد يموت ذلك الذي تستعين به فلا تجد احدا يعينك. ويريد الله تبارك وتعالى أن يحرر المؤمن من ذل الدنيا. . فيطلب منه أن يستعين بالحي الذي لا يموت. . وبالقوي الذي لا يضعف، وبالقاهر الذي لا يخرج عن أمره أحد. . واذا استعنت بالله سبحانه وتعالى كان الله جل جلاله بجانبك. وهو وحده الذي يستطيع أن يحول ضعفك الي قوة وَذُلك الي عز. . والمؤمن دائما يواجه قوي أكبر منه. . ذلك أن الذين يحاربون منهج الله يكونون من الأقوياء ذوي النفوذ الذي يحبون أن يستعبدوا غيرهم. . فالمؤمن سيدخل معهم في صراع. . ولذلك فإن الحق يحض عباده المؤمنين بأنه معهم في الصراع بين الحق والباطل. . وقوله تعالى: «وإياك نستعين» مثل: «إياك نعبد» . . أي نستعين بك وحدك وهي دستور الحركة في الحياة. . لأن استعان معناها طلب المعونة، أي أن الانسان استنفد أسبابه ولكنها خذلته. . حينئذ لابد أن يتذكر أن له ربا لا يعبد سواه. لن يتخلى عنه بل يستعين به. . وحين تتخلى الأسباب فهناك رب الأسباب وهو موجود دائما. . لا يغفل عن شيء ولا تفوته همسة في الكون. . ولذلك فإن المؤمن يتجه دائما الى السماء. . والله سبحانه وتعالى يكون معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بعد أن آمنت بالله سبحانه وتعالى إلها وربا. . واستحضرت عطاء الألوهية ونعم الربوبية وفيوضات رحمة الله على خلقه. وأعلنت أنه لا إله إلا الله. وقولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي أن العبادة لله تبارك وتعالى لا نشرك به شيئا ولا نعبد إلا إياه. . وأعلنت انك ستستعين بالله وحده بقولك: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فانك قد أصبحت من عباد الله. ويعلمك الله سبحانه وتعالى الدعاء الذي يتمناه كل مؤمن. . ومادامت من عباد الله، فإن الله جل جلاله سيستجيب لك. . مصداقا لقوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [ البقرة : 186] والمؤمن لا يطلب الدنيا أبدا. . لماذا؟ . . لأن الحياة الحقيقية للانسان في الآخرة. فيها الحياة الأبدية والنعيم الذي لا يفارقك ولا تفارقه. فالمؤمن لا يطلب مثلا أن يرزقه الله مالا كثيراً ولا أن يمتلك عمارة مثلا. . لأنه يعلم أن كل هذا وقتي وزائل. . ولكنه يطلب ما ينجيه من النار ويوصله الى الجنة. . ومن رحمة الله تبارك وتعالى أنه علمنا ما نطلب. . وهذا يستوجب الحمد لله. . وأول ما يطلب المؤمن هو الهداية والصراط المستقيم: {اهدنا الصراط المستقيم} . والهداية نوعان: هداية دلالة وهداية معونة. هداية الدلالة هي للناس جميعا. . وهداية المعونة هي للمؤمنين فقط المتبعين لمنهج الله. والله سبحانه وتعالى هدى كل عباده هداية دلالة أي دلهم على طريق الخير وبينه لهم. . فمن أراد أن يتبع طريق الخير اتبعه. . ومن أراد ألا يتبعه تركه الله لما أراد. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 هذه الهداية العامة هي أساس البلاغ عن الله. فقد بين لنا الله تبارك وتعالى في منهجه بافعل ولا تفعل ما يرضيه وما يغضبه. . وأوضح لنا الطريق الذي نتبعه لنهتدي. والطريق الذي لو سلكناه حق علينا غضب الله وسخطه. . ولكن هل كل من بين له الله سبحانه وتعالى طريق الهداية اهتدى؟ . . نقول لا. . واقرأ قوله جل جلاله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17] اذن هناك من لا يأخذ طريق الهداية بالاختيار الذي أعطاه الله له. . فلو أن الله سبحانه وتعالى أرادنا جميعا مهديين. . ما استطاع واحد من خلقه أن يخرج على مشيئته. ولكنه جل جلاله خلقنا مختارين لنأتيه عن حب ورغبة بدلا من أن يقهرنا على الطاعة. . ما الذي يحدث للذين اتبعوا طريق الهداية والذين لم يتبعوه وخالفوا مراد الله الشرعي في كونه؟ الذين اتبعوا طريق الهداية يعينهم الله سبحانه وتعالى عليه ويحببهم في الايمان والتقوى ويحببهم في طاعته. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] أي أن كل من يتخذ طريق الهداية يعينه الله عليه. . ويزيده تقوى وحبا في الدين. . أما الذين إذا جاءهم الهدى ابتعدوا عن منهج الله وخالفوه. . فإن الله تبارك وتعالى يتخلى عنهم ويتركهم في ضلالهم. واقرأ قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 والله سبحانه وتعالى قد بين لنا المحرومين من هداية المعونة على الايمان وهم ثلاثة كما بَيَّنْهُم لنا في القرآن الكريم: {ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [النحل: 107] {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ واتقوا الله واسمعوا والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258] اذن فالمطرودون من هداية الله في المعونة على الايمان. . هم الكافرون والفاسقون والظالمون. . الحق سبحانه وتعالى يقول: {اهدنا الصراط المستقيم} ما هو الصراط؟ . . إنه الطريق الموصلة الى الغاية. ولماذا نص على أنه الصراط المستقيم. لأن الله سبحانه وتعالى وضع لنا في منهجه الطريق المستقيم. . وهو أقصر الطرق الى تحقيق الغاية. . فأقصر طريق بين نقطتين هو الطريق المستقيم. ولذلك إذا كنت تقصد مكانا فأقصر طريق تسلكه هو الطريق الذي لا اعوجاج فيه ولكنه مستقيم تماما. . ولا تحسب أن البعد عن الطريق المستقيم يبدأ باعوجاج كبير. بل باعوجاج صغير جدا ولكنه ينتهي الى بُعد كبير. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ويكفي أن تراقب قضبان السكة الحديد. . عندما يبدأ القطار في اتخاذ طريق غير الذي كان يسلكه فهو لا ينحرف في أول الأمر إلا بضعة ملليمترات. . أي أن أول التحويلة ضيق جدا وكلما مشيت اتسع الفرق وازداد اتساعا. بحيث عند النهاية تجد أن الطريق الذي مشيت فيه يبعد عن الطريق الأول عشرات الكيلو مترات وربما مئات الكيلو مترات. . إذن فأي انحراف مهما كان بسيطا يبعدك عن الطريق المستقيم بعدا كبيرا. . ولذلك فإن الدعاء: {اهدنا الصراط المستقيم} أي الطريق الذي ليس فيه إعوجاج ولو بضعة ملليمترات. . الطريق الذي ليس فيه مخالفة تبعدنا عن طريق الله المستقيم. لذلك فإن الانسان المؤمن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهديه الى أقصر الطرق للوصول الى الغاية. . وما هي الغاية؟ انها الجنة والنعيم في الآخرة. . ولذلك نقول يا رب اهدنا وأعنا على أن نسلك الطريق المستقيم وهو طريق المنهج ليوصلنا الي الجنة دون أن يكون فيه أي اعوجاج يبعدنا عنها. ولقد قال الله سبحانه وتعالى في حديث قدسي. انه اذا قال العبد: {اهدنا الصراط المستقيم} يقول جل جلاله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل. يقول الحق تبارك وتعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ما معنى {الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ؟ . . اقرأ الآية الكريمة: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] وأنت حين تقرأ الآية الكريمة فأنت تطلب من الله تبارك وتعالى أن تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. . أي أنك تطلب من الله جل جلاله. . أن يجعلك تسلك نفس الطريق الذي سلكه هؤلاء لتكون معهم في الآخرة. . فكأنك تطلب الدرجة العالية في الجنة. . لأن كل من ذكرناهم لهم مقام عال في جنة النعيم. . وهكذا فإن الطلب من الله سبحانه وتعالى هو أن يجعلك تسلك الطريق الذي لا اعوجاج فيه. والذي يوصلك في أسرع وقت الي الدرجة العالية في الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وعندما نعرف أن الله سبحانه وتعالى قال: (هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) . . تعرف أن الاستجابة تعطيك الحياة العالية في الآخرة وتمتعك بنعيم الله. ليس بقدرات البشر كما يحدث في الدنيا. . ولكن بقدرة الله تبارك وتعالى. . واذا كانت نعم الدنيا لا تعد ولا تحصى. . فكيف بنعم الآخرة؟ لقد قال الله سبحانه وتعالى عنها: {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] أي أنه ليس كل ما تطلبه فقط ستجده أمامك بمجرد وروده على خاطرك ولكن مهما طلبت من النعم ومهما تمنيت فالله جل جلاله عنده مزيد. . ولذلك فانه يعطيك كل ما تشاء ويزيد عليه بما لم تطلب ولا تعرف من النعم. . وهذا تشبيه فقط ليقرب الله تبارك وتعالى صورة النعيم إلى أذهاننا، ولكن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وبما أن المعاني لابد أن توجد أولا في العقل ثم يأتي اللفظ المعبر عنها. . فكل شيء لا نعرفه لا توجد في لغتنا ألفاظ تعبر عنه. فنحن لم نعرف اسم التليفزيون مثلا إلا بعد أن أخترع وصار له مفهوم محدد. تماما كما لم نعرف اسم الطائرة قبل أن يتم اختراعها. . فالشيء يوجد أولا ثم بعد ذلك يوضع اللفظ المعبر عنه. ولذلك فإن مجامع اللغات في العالم تجتمع بين فترة واخرى. لتضع أسماء لأشياء جديدة اخترعت وعرفت مهمتها. . ومادام ذلك هو القاعدة اللغوية، فإنه لا توجد الفاظ في لغة البشر تعبر عن النعيم الذي سيعيشه اهل الجنة لأنه لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على القلب. . ولذلك فإن كل ما نقرؤه في القرآن الكريم يقرب لنا الصورة فقط. ولكنه لا يعطينا حقيقة ما هو موجود. ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى حين يتحدث عن الجنة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 القرآن الكريم يقول: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} [محمد: 15] أي أن هذا ليس حقيقة الجنة ولكنها مثل فقط يقرب ذلك الى الاذهان. . لأنه لا توجد ألفاظ في لغات البشر يمكن أن تعطينا حقيقة ما في الجنة. وقوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} . . أي غير الذين غضبت عليهم يا رب من الذين عصوا. ومنعت عنهم هداية الاعانة. . الذين عرفوا المنهج فخالفوه وارتكبوا كل ما حرمه الله فاستحقوا غضبه. ومعنى غير {المغضوب عَلَيْهِم} أي يا رب لا تيسر لن الطريق الذي نستحق به غضبك. كما استحقه أولئك الذين غيروا وبدلوا في منهج الله ليأخذوا سلطة زمنية في الحياة الدنيا وليأكلوا أموال الناس بالباطل. . وقد وردت كلمة {المغضوب عَلَيْهِم} في القرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 60] وهذه الآيات نزلت في بني اسرائيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وقول الله تعالى: «ولا الضالين» هناك الضال والْمُضِل. . الضال هو الذي ضل الطريق فاتخذ منهجا غير منهج الله. . ومشى في الضلالة بعيدا عن الهدى وعن دين الله. . ويقال ضل الطريق أي مشي فيه وهو لا يعرف السبيل الى ما يريد أن يصل إليه. . أي أنه تاه في الدنيا فأصبح وليا للشيطان وابتعد عن طريق الله المستقيم. . هذا هو الضال. . ولكن المضل هو من لم يكتف بأنه ابتعد عن منهج الله وسار في الحياة على غير هدى. . بل يحاول أن يأخذ غيره الى الضلالة. . يغري الناس بالكفر وعدم اتباع المنهج والبعد عن طريق الله. . وكل واحد من العاصين يأتي يوم القيامة يحمل ذنوبه. . الا المضل فانه يحمل ذنوبه وذنوب من اضلهم. مصداقا لقوله سبحانه: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] أي أنك وأنت تقرأ الفاتحة. . فأنك تستعيذ بالله أن تكون من الذين ضلوا. . ولكن الحق سبحانه وتعالى لم يأتِ هنا بالمضلين. نقول انك لكي تكون مضلا لابد أن تكون ضالا أولا. . فالاستعاذة من الضلال هنا تشمل الاثنين. لأنك مادمت قد استعذت من أن تكون ضالا فلن تكون مضلا أبدا. بقى أن نتكلم عن ختم فاتحة الكتاب. بقولنا آمين أسوة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي علمه جبريل عليه السلام أن يقول بعد قراءة الفاتحة آمين، فهي من كلام جبريل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وليست كلمة من القرآن. وكلمة آمين معناها استجب يا رب فيما دعوناك به من قولنا: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أي أن الدعاء هنا له شيء مطلوب تحقيقه. وآمين دعاء لتحقيق المطلوب. . وكلمة آمين اختلف العلماء فيها. . أهي عربية أم غير عربية. وهنا يثور سؤال. . كيف تدخل كلمة غير عربية في قرآن حكم الله بأنه عربي. .؟ نقول أن ورود كلمة ليست من أصل عربي في القرآن الكريم. لا ينفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أن القرآن كله عربي. بمعنى أنه اذا خوطب به العرب فهموه. . وهناك الفاظ دخلت في لغة العرب قبل أن ينزل القرآن. . ولكنها دارت على الألسن بحيث أصبحت عربية وألفتها الاذان العربية. . فليس المراد بالعربي هو أصل اللغة العربية وحدها. . وانما المراد أن القرآن نزل باللغة التي لها شيوع على ألسنة العرب. وما دام اللفظ قد شاع على اللسان قولا وفي الآذان سمعا. فإن الأجيال التي تستقبله لا تفرق بينه وبين غيره من الكلمات التي هي من أصل عربي. . فاللفظ الجديد أصبح عربيا بالاستعمال وعند نزول القرآن كانت الكلمة شائعة شيوع الكلمة العربية. واللغة ألفاظ يصطلح على معانيها. بحيث إذا أطلق اللفظ فهم المعنى. واللغة التي نتكلمها لا تخرج عن اسم وفعل وحرف. . الاسم كلمة والفعل كلمة والحرف كلمة. . والكلمة لها معنى في ذاتها ولكن هل هذا المعنى مستقل في الفهم أو غير مستقل. . اذا قلت محمد مثلا فهمت الشخص الذي سمى بهذا الاسم فصار له معنى مستقل. . واذا قلت كتب فهمت أنه قد جمع الحروف لتقرأ على هيئة كتابة. . ولكن اذا قلت ماذا وهي حرف فليس هناك معنى مستقل. . واذا قلت «في» دَلَّتْ على الظرفية ولكنها لم تدلنا على معنى مستقل. بل لابد ان تقول الماء في الكوب. . أو فلان على الفرس. . غير المستقل في الفهم نسميه حرفا لا يظهر معناه إلا بضم شيء له. . والفعل يحتاج الي زمن، ولكن الاسم لا يحتاج الي زمن. . اذن الاسم هو ما دل على معنى مستقل بالفهم وليس الزمن جزءا منه. . والفعل ما دل على فعل مستقل بالفهم والزمن جزء منه. . والحرف دل على معنى غير مستقل. . ما هي علامة الفعل هي أنك تستطيع أن تسند اليه تاء الفاعل. . أي تقول كتبت والفاعل هو المتكلم. . ولكن الاسم لا يضاف اليه تاء الفاعل فلا تقول محمدت. . اذا رأيت شيئا يدل على الفعل أي يحتاج الى زمن. . ولكنه لا يقبل تاء الفاعل فانه يكون اسم على فعل. آمين من هذا النوع ليست فعلا فهي اسم مدلولة مدلول الفعل. . معناه استجب. . فأنت حين تسمع كلمة «آه» انها اسم لفعل بمعنى أتوجع. . وساعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 تقول «أف» اسم فعل بمعنى اتضجر. . وآمين اسم فعل بمعنى استجب. . ولكنك تقولها مرة وأنت القارئ، وتقولها مرة وأنت السامع. فساعة تقرأ الفاتحة تقول آمين. . أي أنا دعوت يا رب فاستجب دعائي. . لأنك لشدة تعلقك بما دعوت من الهداية فانك لا تكتفي بقول اهدنا ولكن تطلب من الله الاستجابة. واذا كنت تصلي في جماعة فأنت تسمع الامام وهو يقرأ الفاتحة. . ثم تقول آمين. لأن المأموم أحد الداعين. . الذي دعا هو الامام، وعندما قلت آمين فأنت شريك في الدعاء. . ولذلك فعندما دعا موسى عليه السلام أن يطمس الله على اموال قوم فرعون ويهلكهم قال الله لموسى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس: 89] أي أن الخطاب من الله سبحانه وتعالى موجهٌ الى موسى وهارون. ولكن موسى عليه السلام هو الذي دعا. . وهارون أمن على دعوة موسى فأصبح مشاركا في الدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 بدأت سورة البقرة بقوله تعالى: {الم} . . وهذه الحروف حروف مقطعة ومعنى مقطعة أن كل حرف ينطق بمفرده. لأن الحروف لها أسماء ولها مسميات. . فالناس حين يتكلمون ينطقون بمسمى الحرف وليس باسمه. . فعندما تقول كتب تنطق بمسميات الحروف. فإذا أردت أن تنطق بأسمائها. تقول كاف وتاء وباء. . ولا يمكن أن ينطق بأسماء الحروف إلا من تعلم ودرس، أما ذلك الذي لم يتعلم فقد ينطق بمسميات الحروف ولكنه لا ينطق بأسمائها، ولعل هذه أول ما يلفتنا. فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ولذلك لم يكن يعرف شيئا عن أسماء الحروف. فإذا جاء ونطق بأسماء الحروف يكون هذا إعجازاً من الله سبحانه وتعالى. . بأن هذا القرآن موحى به إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ولو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ درس وتعلم لكان شيئا عاديا أن ينطق بأسماء الحروف. ولكن تعالَ إلى أي أمي لم يتعلم. . إنه يستطيع أن ينطق بمسميات الحروف. . يقول الكتاب وكوب وغير ذلك. . فإذا طلبت منه أن ينطق بأسماء الحروف فإنه لا يستطيع أن يقول لك. إن كلمة كتاب مكونة من الكاف والتاء والألف والباء. . وتكون هذه الحروف دالة على صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البلاغ عن ربه. وأن هذا القرآن موحى به من الله سبحانه وتعالى. ونجد في فواتح السور التي تبدأ بأسماء الحروف. تنطق الحروف بأسمائها وتجد الكلمة نفسها في آية أخرى تنطق بمسمياتها. فألم في أول سورة البقرة نطقتها بأسماء الحروف ألف لام ميم. بينما تنطقها بمسميات الحروف في شرح السورة في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وفي سورة الفيل في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] ما الذي جعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ينطق {الم} في سورة البقرة بأسماء الحروف. . وينطقها في سورتي الشرح والفيل بمسميات الحروف. لابد أن رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سمعها من الله كما نقلها جبريل عليه السلام إليه هكذا. إذن فالقرآن أصله السماع لا يجوز أن تقرأه إلا بعد أن تسمعه. لتعرف أن هذه تُقرأ ألف لام ميم والثانية تقرأ ألم. . مع أن الكتابة واحدة في الاثنين. . ولذلك لابد أن تستمع إلى فقيه يقرأ القرآن قبل أن تتلوه. . والذي يتعب الناس أنهم لم يجلسوا إلى فقيه ولا استمعوا إلى قارئ. . ثم بعد ذلك يريدون أن يقرأوا القرآن كأي كتاب. نقول لا. . القرآن له تميز خاص. . إنه ليس كأي كتاب تقرؤه. . لأنه مرة يأتي باسم الحرف. ومرة يأتي بمسميات الحرف. وأنت لا يمكن أن تعرف هذا إلا إذا استمعت لقارئ يقرأ القرآن. والقرآن مبني على الوصل دائما وليس على الوقف، فإذا قرأت في آخر سورة يونس مثلا: {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} [109] لا تجد النون عليها سكون بل تجد عليها فتحة، موصولة بقول الله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم. ولو كانت غير موصولة لوجدت عليها سكونا. اذن فكل آيات القرآن الكريم مبنية على الوصل. . ما عدا فواتح السور المكونة من حروف فهي مبنية على الوقف. . فلا تقرأ في أول سورة البقرة: {الم} والميم عليها ضمة. بل تقرأ ألفا عليها سكون ولاما عليها سكون وميما عليها سكون. اذن كل حرف منفرد بوقف. مع أن الوقف لا يوجد في ختام السور ولا في القرآن الكريم كله. وهناك سور في القرآن الكريم بدأت بحرف واحد مثل قوله تعالى: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] ونلاحظ أن الحرف ليس آية مستقلة. بينما «ألم» في سورة البقرة آية مستقلة. و: «حم» . و: «عسق» آية مستقلة مع أنها كلها حروف مقطعة. وهناك سور تبدأ بآية من خمسة حروف مثل «كهيعص» في سورة مريم. . وهناك سور تبدأ بأربعة حروف. مثل «المص» في سورة «الأعراف» . وهناك سور تبدأ بأربعة حروف وهي ليست آية مستقلة مثل «ألمر» في سورة «الرعد» متصلة بما بعدها. . بينما تجد سورة تبدأ بحرفين هما آية مستقلة مثل: «يس» في سورة يس. و «حم» في سورة غافر وفصلت. . و: «طس» في سورة النمل. وكلها ليست موصلة بالآية التي بعدها. . وهذا يدلنا على أن الحروف في فواتح السور لا تسير على قاعدة محددة. «ألم» مكونة من ثلاث حروف تجدها في ست سور مستقلة. . فهي آية في البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم والسجدة ولقمان. و «الر» ثلاثة حروف ولكنها ليست آية مستقلة. بل جزء من الآية في أربع سور هي: يونس ويوسف وهود وإبراهيم. . و: «المص» من أربعة حروف وهي آية مستقلة في سورة «الأعراف» و «المر» أربعة حروف، ولكنها ليست آية مستقلة في سورة الرعد إذن فالمسألة ليست قانونا يعمم، ولكنها خصوصية في كل حرف من الحروف. وإذا سألت ما هو معنى هذه الحروف؟ . . نقول إن السؤال في أصله خطأ. . لأن الحرف لا يسأل عن معناه في اللغة إلا إن كان حرف معنى. . والحروف نوعان: حرف مَبْنَى وحرف معنى. حرف المبنى لا معنى له إلا للدلالة على الصوت فقط. . أما حروف المعاني فهي مثل في. ومن. . وعلى. . (في) تدل على الظرفية. . و (مِنْ) تدل على الابتداء و (إلى) تدل على الانتهاء. . و (على) تدل على الاستعلاء. . هذه كلها حروف معنى. وإذا كانت الحروف في أوائل السور في القرآن الكريم قد خرجت عن قاعدة الوصل لأنها مبنية على السكون لابد أن يكون لذلك حكمة. . أولا لنعرف قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حَسَنَةٌ والحَسَنَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 بعَشْر أمْثَالها، لا أقولُ ألم حرف ولكن ألفٌ حرْفٌ ولاَمٌ حرف ومِيمٌ حرف» ولذلك ذكرت في القرآن كحروف استقلالية لنعرف ونحن نتعبد بتلاوة القرآن الكريم أننا نأخذ حسنة على كل حرف. فإذا قرأنا بسم الله الرحمن الرحيم. يكون لنا بالباء حسنة وبالسين حسنة وبالميم حسنة فيكون لنا ثلاثة حسنات بكلمة واحدة من القرآن الكريم. والحسنة بعشر أمثالها. وحينما نقرأ «ألم» ونحن لا نفهم معناها نعرف أن ثواب القرآن على كل حرف نقرؤه سواء فهمناه أم لم نفهمه. . وقد يضع الله سبحانه وتعالى من أسراره في هذه الحروف التي لا نفهمها ثوابا وأجرا لا نعرفه. ويريدنا بقراءتها أن نحصل على هذا الأجر. . والقرآن الكريم ليس إعجازا في البلاغة فقط. ولكنه يحوي إعجازا في كل ما يمكن للعقل البشري أن يحوم حوله. فكل مفكر متدبر في كلام الله يجد إعجازا في القرآن الكريم. فالذي درس البلاغة رأى الإعجاز البلاغي، والذي تعلم الطب وجد إعجازا طبيا في القرآن الكريم. وعالم النباتات رأى إعجازا في آيات القرآن الكريم، وكذلك عالم الفلك. . وإذا أراد انسان منا أن يعرف معنى هذه الحروف فلا نأخذها على قدر بشريتنا. . ولكن نأخذها على قدر مراد الله فيها. . وقدراتنا تتفاوت وأفهامنا قاصرة. فكل منا يملك مِفْتاحاً من مفاتيح الفهم كل على قدر علمه. . هذا مفتاح بسيط يفتح مرة واحدة وآخر يدور مرتين. . وآخر يدور ثلاث مرات وهكذا. . ولكن من عنده العلم يملك كل المفاتيح، أو يملك المفتاح الذي يفتح كل الأبواب. . ونحن لا يجب أن نجهد أذهاننا لفهم هذه الحروف. فحياة البشر تقتضي منا في بعض الأحيان أن نضع كلمات لا معنى لها بالنسبة لغيرنا. . وإذن كانت تمثل أشياء ضرورية بالنسبة لنا. تماما ككلمة السر التي تستخدمها الجيوش لا معنى لها إذا سمعتها. ولكن بالنسبة لمن وضعها يكون ثمنها الحياة أو الموت. . فخذ كلمات الله التي تفهمها بمعانيها. . وخذ الحروف التي لا تفهمها بمرادات الله فيها. فالله سبحانه وتعالى شاء أن يبقى معناها في الغيب عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والقرآن الكريم لا يؤخذ على نسق واحد حتى نتنبه ونحن نتلوه أو نكتبه. لذلك تجد مثلا بسم الله الرحمن الرحيم مكتوبة بدون ألف بين الباء والسين. ومرة تجدها مكتوبة بالألف في قوله تعالى: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1] وكلمة تبارك مرة تكتب بالألف ومرة بغير الألف. . ولو أن المسألة رتابة في كتابة القرآن لجاءت كلها على نظام واحد. ولكنها جاءت بهذه الطريقة لتكون كتابة القرآن معجزة وألفاظه معجزة. ونحن نقول للذين يتساءلون عن الحكمة في بداية بعض السور بحروف. . نقول إن لذلك حكمة عند الله فهمناها أو لم نفهمها. . والقرآن نزل على أمة عربية فيها المؤمن والكافر. . ومع ذلك لم نسمع أحداً يطعن في الأحرف التي بدأت بها السور. وهذا دليل على أنهم فهموها بملكاتهم العربية. . ولو أنهم لم يفهموها لطعنوا فيها. وأنا أنصح من يقرأ القرآن الكريم للتعبد. . ألا يشغل نفسه بالتفكير في المعنى. أما الذي يقرأ القرآن ليستنبط منه فليقف عند اللفظ والمعنى. . فإذا قرأت القرآن لتتعبد فاقرأه بسر الله فيه. . ولو جلست تبحث عن المعنى. . تكون قد حددت معنى القرآن الكريم بمعلوماتك أنت. وتكون قد أخذت المعنى ناقصا نقص فكر البشر. . ولكن اقرأ القرآن بسر الله فيه. إننا لو بحثنا معنى كل لفظ في القرآن الكريم فقد أخرجنا الأمي وكل من لم يدرس اللغة العربية دراسة متعمقة من قراءة القرآن. ولكنك تجد أميا لم يقرأ كلمة واحدة ومع ذلك يحفظ القرآن كله. فإذا قلت كيف؟ نقول لك بسر الله فيه. والكلام وسيلة إفهام وفهم بين المتكلم والسامع. المتكلم هو الذي بيده البداية، والسامع يفاجأ بالكلام لأنه لا يعلم مقدما ماذا سيقول المتكلم. . وقد يكون ذهن السامع مشغولا بشيء آخر. . فلا يستوعب أول الكلمات. . ولذلك قد تنبهه بحروف أو بأصوات لا مهمة لها إلا التنبيه للكلام الذي سيأتي بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وإذا كنا لا نفهم هذه الحروف. فوسائل الفهم والإعجاز في القرآن الكريم لا تنتهي، لأن القرآن كلام الله. والكلام صفة من صفات المتكلم. . ولذلك لا يستطيع فهم بشري أن يصل إلى منتهى معاني القرآن الكريم، إنما يتقرب منها. لأن كلام الله صفة من صفاته. . وصفة فيها كمال بلا نهاية. فإذا قلت إنك قد عرفت كل معنى للقرآن الكريم. . فإنك تكون قد حددت معنى كلام الله بعلمك. . ولذلك جاءت هذه الحروف إعجازا لك. حتى تعرف إنك لا تستطيع أن تحدد معاني القرآن بعلمك. . إن عدم فهم الانسان لأشياء لا يمنع انتفاعه بها. . فالريفي مثلا ينتفع بالكهرباء والتليفزيون وما يذاع بالقمر الصناعي وهو لا يعرف عن أي منها شيئا. فلماذا لا يكون الله تبارك وتعالى قد أعطانا هذه الحروف نأخذ فائدتها ونستفيد من اسرارها ويتنزل الله بها علينا بما أودع فيها من فضل سواء أفهم العبد المؤمن معنى هذه الحروف أو لم يفهمها. وعطاء الله سبحانه وتعالى وحكمته فوق قدرة فهم البشر. . ولو أراد الانسان أن يحوم بفكره وخواطره حول معاني هذه الحروف لوجد فيها كل يوم شيئا جديدا. لقد خاض العلماء في البحث كثيرا. . وكل عالم أخذ منها على قدر صفائه، ولا يدعي أحد العلماء أن ذلك هو الحق المراد من هذه الحروف. . بل كل منهم يقول والله أعلم بمراده. ولذلك نجد عالما يقول (ألر) و (حم) و (ن) وهي حروف من فواتح السور تكون اسم الرحمن. . نقول إن هذا لا يمكن ان يمثل فهما عاما لحروف بداية بعض سور القرآن. . ولكن ما الذي يتعبكم أو يرهقكم في محاولة ايجاد معان لهذه الحروف؟! . . لو أن الله سبحانه وتعالى الذي أنزل القرآن يريد أن يفهمنا معانيها. . لأوردها بمعنى مباشر أو أوضح لنا المعنى. فمثلا أحد العلماء يقول إن معنى (ألم) هو أنا الله اسمع وأرى. . نقول لهذا العالم لو أن الله أراد ذلك فما المانع من أن يورده بشكل مباشر لنفهمه جميعا. . لابد أن يكون هناك سر في هذه الحروف. . وهذا السر هو من أسرار الله التي يريدنا أن ننتفع بقراءتها دون أن نفهمها. . ولابد أن نعرف أنه كما أن للبصر حدوداً. وللأذن حدوداً وللمس والشم والتذوق حدوداً، فكذلك عقل الانسان له حدود يتسع لها في المعرفة. . وحدود فوق قدرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 العقل لا يصل اليها. والانسان حينما يقرأ القرآن والحروف الموجودة في أوائل بعض السور يقول إن هذا امر خارج عن قدرته العقلية. . وليس ذلك حجراً أو سَدّاً لباب الاجتهاد. . لأننا إن لم ندرك فإن علينا أن نعترف بحدود قدراتنا أمام قدرات خالقنا سبحانه وتعالى التي هي بلا حدود. وفي الايمان هناك ما يمكن فهمه وما لا يمكن فهمه. . فتحريم أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر لا ننتظر حتى نعرف حكمته لنمتنع عنه. ولكننا نمتنع عنه بإيمان أنه مادام الله قد حرمه فقد أصبح حراما. ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما عرفتم من محكمه فاعملوا به، وما لم تدركوا فآمنوا به» . والله سبحانه وتعالى يقول: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} [آل عمران: 7] اذن فعدم فهمنا للمتشابه لا يمنع أن نستفيد من سر وضعه الله في كتابه. . ونحن نستفيد من أسرار الله في كتابه فهمناها أم لم نفهمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 في الآية الثانية من سورة البقرة وصف الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بأنه الكتاب. وكلمة (قرآن) معناها أنه يُقرأ، وكلمة (كتاب) معناها أنه لا يحفظ فقط في الصدور، ولكن يُدوّن في السطور، ويبقى محفوظاً إلى يوم القيامة، والقول بأنه الكتاب، تمييز له عن كل كتب الدنيا، وتمييز له عن كل الكتب السماوية التي نزلت قبل ذلك، فالقرآن هو الكتاب الجامع لكل احكام السماء، منذ بداية الرسالات حتى يوم القيامة، وهذا تأكيد لارتفاع شأن القرآن وتفرده وسماويته ودليل على وحدانية الخالق، فمنذ فجر التاريخ، نزلت على الأمم السابقة كتب تحمل منهج السماء، ولكن كل كتاب وكل رسالة نزلت موقوتة، في زمانها ومكانها، تؤدي مهمتها لفترة محددة وتجاه قوم مُحَّددين. فرسالة نوح عليه السلام كانت لقومه، وكذلك ابراهيم ولوط وشعيب وصالح عليهم السلام. . كل هذه رسالات كان لها وقت محدود، تمارس مهمتها في الحياة، حتى يأتي الكتاب وهو القرآن الكريم الجامع لمنهج الله سبحانه وتعالى. ولذلك بُشر في الكتب السماوية التي نزلت قبل بعثة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأن هناك رسولا سيأتي، وأنه يحمل الرسالة الخاتمة للعالم، وعلى كل الذين يصدقون بمنهج السماء أن يتبعوه. . وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [من الآية 157 سورة الأعراف] والقرآن هو الكتاب، لأنه لن يصل اليه أي تحريف أو تبديل، فرسالات السماء السابقة ائتمن الله البشر عليها، فنسوا بعضها، وما لم ينسوه حرفوه، وأضافوا إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 من كلام البشر، ما نسبوه إلى الله سبحانه وتعالى ظلما وبهتانا، ولكن القرآن الكريم محفوظ من الخالق الأعلى، مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ومعنى ذلك ألا يرتاب انسان في هذا الكتاب، لأن كل ما فيه من منهج الله محفوظ منذ لحظة نزوله إلى قيام الساعة بقدرة الله سبحانه وتعالى. يقول الحق جل جلاله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} . والإِعجاز الموجود في القرآن الكريم هو في الأسلوب وفي حقائق القرآن وفي الآيات وفيما رُوِىَ لنا من قصص الأنبياء السابقين، وفيما صحح من التوراة والانجيل، وفيما أتى به من علم لم تكن تعلمه البشرية ولازالت حتى الآن لا تعلمه، كل ذلك يجعل القرآن لا ريب فيه، لأنه لو اجتمعت الإنس والجن ما استطاعوا أن يأتوا بآية واحدة من آيات القرآن، ولذلك كلما تأملنا في القرآن وفي أسلوبه، وجدنا أنه بحق لا ريب فيه، لأنه لا أحد يستطيع أن يأتي بآية، فما بالك بالقرآن. فهذا الكتاب ارتفع فوق كل الكتب، وفوق مدارك البشر، يوضح آيات الكون، وآيات المنهج، وله في كل عصر معجزات. إن كلمة الكتاب التي وصف الله سبحانه وتعالى بها القرآن تمييزا له عن كل الكتب السابقة، تلفتنا إلى معان كثيرة، تحدد لنا بعض أساسيات المنهج التي جاء هذا الكتاب ليبلغنا بها. وأول هذه الأساسيات، أن نزول هذا الكتاب، يستوجب الحمد لله سبحانه وتعالى. واقرأ في سورة الكهف: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الكهف: 1 2] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ويلفت الله سبحانه وتعالى عباده الى أن إنزاله القرآن على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستوجب الحمد من البشر جميعا، لأن فيه منهج السماء، وفيه الرحمة من الله لعباده، وفيه البشارة بالجنة والطريق اليها، وفيه التحذير من النار وما يقود اليها، وهذا التحذير أو الإنذار هو رحمة من الله تعالى لخلقه. لأنه لو لم ينذرهم لفعلوا ما يستوجب العذاب، ويجعلهم يخلدون في عذاب اليم. ولكن الكتاب الذي جاء ليلفتهم الى ما يغضب الله، حتى يتجنبوه، إنما جاء برحمة تستوجب الحمد، لأنها أرتنا جميعاً، الطريق الى النجاة من النار، ولو لم ينزل الله سبحانه وتعالى الكتاب، ما عرف الناس المنهج الذي يقودهم الى الجنة، وما استحق احد منهم رضا الله ونعيمه في الآخرة. وفي سورة الكهف، نجد تأكيداً آخر. . ان كتاب الله، وهو القرآن الكريم لن يستطيع بشر أن يبدل منه كلمة واحدة، واقرأ قوله جل جلاله: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الكهف: 27] ويبين الله سبحانه وتعالى لنا أن هذا الكتاب، جاء لنفع الناس، ولنفع العباد، وأن الله ليس محتاجاً لخلقه، فهو قادر على أن يقهر من يشاء على الطاعة، ولا يمكن لخلق من خلق الله أن يخرج من كون الله عن مرادات الله، واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {طسم تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 1 - 4] ويأتي الله سبحانه وتعالى بالقسم الذي يلفتنا الى أن كل كلمة من القرآن هي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 عند الله، كما ابلغها جبريل عليه السلام لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله سبحانه: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} [الواقعة: 75 - 80] ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى الى ذلك الكتاب الذي هو منهج للانسان على الأرض، فبعد أن بين لنا جل جلاله، بما لا يدع مجالا للشك أن الكتاب منزل من عنده، وأنه يصحح الكتب السابقة كالتوراة، والانجيل والتي أئتمن الله عليها البشر، فحرفوها وبدلوها، وهذا التحريف أبطل مهمة المنهج الإلهي بالنسبة لهذه الكتب، فجاء الكتاب الذي لم يصل اليه تحريف ولا تبديل، ليبقى منهجاً لله، الى ان تقوم الساعة. أول ما جاء به هذا الكتاب هو إيمان القمة، بأنه لا إله إلا الله الواحد الأحد. . والله سبحانه وتعالى يقول: {الم الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} [آل عمران: 1 - 3] وهكذا نعرف ان الكتاب نزل ليؤكد لنا، ان الله واحد أحد، لا شريك له، وأن القرآن يشتمل على كل ما تضمنته الشرائع السماوية من توراة وانجيل، وغيرها من الكتب. فالقرآن نزل ليفرق بين الحق الذي جاءت به الكتب السابقة، وبين الباطل الذي أضافه أولئك الذي ائتمنوا عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ثم يحدد الحق تبارك وتعالى لنا مهمتنا في أن هذا الكتاب مطلوب أن نبلغه للناس جميعاً، واقرأ قوله سبحانه: {المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 1 - 2] فالخطاب هنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكل خطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في القرآن الكريم، يتضمن خطابا لأمته جميعاً، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلف بأن يبلغ الكتاب للناس، ونحن مكلفون بأن نتبع المنهج نفسه ونبلغ ما جاء في القرآن للناس حتى يكون الحساب عدلا، وأنهم قد بلغوا منهج الله، ثم كفروا به أو تركوه، إذن فإبلاغ الكتاب من المهمات الأساسية التي حددها الله سبحانه وتعالى بالنسبة للقرآن. والكتاب فيه رد على حجج الكفار وأباطيلهم. واقرأ قول الله تبارك وتعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 1 - 2] وفي هذه الآيات الكريمة: يلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى حقيقتين. . الحقيقة الأول هي أن الكفار يتخذون من بشرية الرسول حُجة بأن هذا الكتاب ليس من عند الله. وكان الرد هو: أن كل الرسل السابقين كانوا بشراً، فما هو العجب في أن يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً بشراً. واللفتة الثانية هي ان هذا القرآن مكتوب بالحروف نفسها التي خلقها الله لنا لنكتب بها، ومع ذلك فإن القرآن الكريم نزل مستخدماً لهذه الحروف التي يعرفها الناس جميعاً، معجزاً في ألا يستطيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الانس والجن، مجتمعين أن يأتوا بسورة واحدة منه. ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى لفتة اخرى الى أن هذا الكتاب محكم الآيات، ثم بينه الله لعباده، واقرأ قوله جل جلاله في سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 1 - 2] هذه هي بعض الآيات في القرآن الكريم، التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا فيها الى معنى الكتاب، فآياته من عند الله الحكيم الخبير، وكل آية فيها اعجاز مُتَحدَّى به الإنس والجن، وهذا الكتاب لابد أن يبلغ للناس جميعاً، فالكتاب ينذرهم ألا يعبدوا إلا الله، ليكون الحساب عدلا في الآخرة، فمن أنذر وأطاع كان له الجنة، ومن عصى كانت له النار والعياذ بالله. ثم يلفتنا الله الى ان هذا الكتاب فيه قصص الأنبياء السابقين منذ آدم عليه السلام، يقول جل جلاله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 1 - 3] وهكذا نجد أن القرآن الكريم، قد جاء ليقص علينا أحسن القصص بالنسبة للأنبياء السابقين، والأحداث التي وقعت في الماضي، ولم يأت القرآن بهذه القصص للتسلية أو للترفيه، وإنما جاء بها للموعظة ولتكون عبرة ايمانية، ذلك أن القصص القرآني يتكرر في كل زمان ومكان. ففرعون هو كل حاكم طغى في الأرض، ونصب نفسه إلها، وقارون هو كل من أنعم الله عليه فنسب النعمة الى نفسه، وتكبر وعصى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الله، وقصة يوسف هي قصة كل اخوة حقدوا على أخ لهم، وتآمروا عليه، وأهل الكهف هم كل فتية آمنوا بربهم، فنشر الله لهم من رحمته في الدنيا والآخرة، ما عدا قصة واحدة هي قصة مريم وعيسى عليهما السلام، فهي معجزة لن تتكرر ولذلك عرف الله سبحانه وتعالى ابطالها، فقال عيسى بن مريم وقال مريم ابنة عمران. والكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى فيه لفتة الى آيات الله في كونه. واقرأ قوله تعالى: {المر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ استوى عَلَى العرش وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 1 - 2] وهكذا بين لنا الله في الكتاب آياته في الكون ولفتنا اليها، فالسماء مرفوعة بغير عمد نراها، والشمس والقمر مسخران لخدمة الانسان، وهذه كلها آيات لا يستطيع أحد من خلق الله أن يدعيها لنفسه أو لغيره، فلا يوجد، حتى يوم القيامة من يستطيع ان يدعي انه رفع السماء بغير عمد، أو أنه خلق الشمس والقمر وسخرهما لخدمة الانسان. ولو تدبر الناس في آيات الكون لآمنوا ولكنهم في غفلة عن هذه الآيات. ثم يحدد الحق سبحانه وتعالى مهمة هذا الكتاب وكيف أنه رحمة للناس جميعاً، فيقول جل جلاله: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 [إبراهيم: 1 - 2] أي أن مهمة هذا الكتاب هي أن يخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والشرك الي نور الايمان، لأن كل كافر مشرك تحيط به ظلمات، يرى الآيات فلا يبصرها، ويعرف أن هناك حسابا وآخرة ولكنه ينكرهما، ولا يرى إلا الحياة الدنيا القصيرة غير المأمونة في كل شيء، في العمر والرزق والمتعة، ولو تطلع الى نور الايمان، لرأى الآخرة وما فيها من نعيم أبدي ولَعَمِلَ من أجلها، ولكن لأنه تحيط به الظلمات لا يرى. . والطريقُ لأن يرى هو هذا الكتاب، القرآن الكريم لأنه يخرج الناس إذا قرأوه من ظلمات الجهل والكفر الى نور الحقيقة واليقين. وبين الحق سبحانه وتعالى أن الذين يلتفتون الى الدنيا وحدها، هم كالأنعام التي تأكل وتشرب، بل ان الانعام افضل منهم، لأن الانعام تقوم بمهمتها في الحياة، بينما هم لا يقومون بمهمة العبادة، فيقول الحق تبارك وتعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 1 - 3] هكذا يخبرنا الحق أن آيات كتابه الكريم ومنهجه لا تؤخذ بالتمني، ولكن لابد أن يعمل بها، وأن الذين كفروا في تمتعهم بالحياة الدنيا لا يرتفعون فوق مرتبة الأنعام، وأنهم يتعلقون بأمل كاذب في أن النعيم في الدنيا فقط، ولكن الحقيقة غير ذلك وسوف يعلمون. وهكذا بعد أن تعرضنا بإيجاز لبعض الآيات التي ورد فيها ذكر الكتاب انه كتاب يبصرنا بقضية القمة في العقيدة وهي أنه لا إله إلا الله وأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول الله، وهو بهذا يخرج الناس من الظلمات الى النور. وأن يلفتهم الى آيات الكون. . وأن يعرفوا أن هناك آخرة ونعيماً أبدياً وشقاء أبدياً، وأن يقيم الدليل والحجة على الكافرين، وأن قوله تعالى: {ذَلِكَ الكتاب} يحمل معنى التفوق الكامل الشامل على كل ما سبقه من كتب. وأنه سيظل كذلك حتى قيام الساعة ولذلك وصفه الحق تبارك وتعالى بأنه «كتاب» ليكون دليلا على الكمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ولابد أن نعرف أن ذلك ليست كلمة واحدة. . وانما هي ثلاث كلمات. . «ذا» اسم اشارة. . «واللام» تدل على الابتعاد ورفعة شأن القرآن الكريم، و «ك» لمخاطبة الناس جميعا بأن القرآن الكريم له عمومية الرسالة الى يوم القيامة. ونحن عندما نقرأ سورة البقرة نستطيع أن نقرأ آيتها الثانية بطريقتين. . الطريقة الأولى أن نقول {الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} ثم نصمت قليلا ونضيف: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} والطريقة الثانية أن نقول: {الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ} ثم نصمت قليلا ونضيف: فيه هدى للمتقين «وكلتا الطريقتين توضح لنا معنى لا ريب أي لا شك. . أو نفي للشك وجزم مطلق أنه كتاب حكيم منزل من الخالق الأعلى. وحتى نفهم المنطلق الذي نأخذ منه قضايا الدين، والتي سيكون دستورنا في الحياة، فلابد ان نعرف ما هو الهدى ومن هم المتقون؟ الهدى هو الدلالة على طريق يوصلك الى ما تطلبه. فالاشارات التي تدل المسافر على الطريق هي هدى له لانها تبين له الطريق الذي يوصله الى المكان الذي يقصده. . والهدى يتطلب هاديا ومهديا وغاية تريد أن تحققه. فاذا لم يكن هناك غاية أو هدف فلا معنى لوجود الهدى لأنك لا تريد أن تصل الى شيء. . وبالتالي لا تريد من أحد أن يدلك على طريق. اذن لابد أن نوجد الغاية أولا ثم نبحث عمن يوصلنا اليها. وهنا نتساءل من الذي يحدد الهدف ويحدد لك الطريق للوصول إليه؟ اذا اخذنا بواقع حياة الناس فإن الذي يحدد لك الهدف لابد أن تكون واثقا من حكمته. . والذي يحدد لك الطريق لابد أن يكون له من العلم ما يستطيع به أن يدلك على أقصر الطرق لتصل الى ما تريد. فاذا نظرنا الى الناس في الدنيا نجد أنهم يحددون مطلوبات حياتهم ويحددون الطريق الذي يحقق هذه المطلوبات. . فالذي يريد أن يبني بيتا مثلا يأتي بمهندس يضع له الرسم، ولكن الرسم قد يكون قاصرا على أن يحقق الغاية المطلوبة فيظل يغير ويبدل فيه. ثم يأتي مهندس على مستوى أعلى فيضع تصوراً جديداً للمسألة كلها. . وهكذا يكون الهدف متغيرا وليس ثابتا. وعند التنفيذ قد لا توجد المواد المطلوبة فنغير ونبدل لنأتي بغيرها ثم فوق ذلك كله قد تأتي قوة أعلى فتوقف التنفيذ أو تمنعه. إذن فأهداف الناس متغيرة تحكمها ظروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 حياتهم وقدراتهم. . والغايات التي يطلبونها لا تتحقق لقصور علم البشر وامكاناته. اذن فكلنا محتاجون الى كامل العلم والحكمة ليرسم لنا طريق حياتنا. . وأن يكون قادرا على كل شيء، ومالكا لكل شيء، والكون خاضعا لارادته حتى نعرف يقينا أن ما نريده سيتحقق، وأن الطريق الذي سنسلكه سيوصلنا الى ما نريده. وينبهنا الله سبحانه وتعالى الى هذه القضية فيقول: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} [البقرة: 120] ان الله يريد أن يلفت خلقه الى انهم إذا أرادوا أن يصلوا الى الهدف الثابت الذي لا يتغير فليأخذوه عن الله. وإذا أرادوا أن يتبعوا الطريق الذي لا توجد فيه أي عقبات أو متغيرات. . فليأخذوا طريقهم عن الله تبارك وتعالى. . إنك اذا اردت باقيا. . فخذ من الباقي، واذا أردت ثابتا. . فخذ من الثابت. ولذلك كانت قوانين البشر في تحديد أهدافهم في الحياة وطريقة الوصول اليها قاصرة. . علمت أشياء وغابت عنها أشياء. . ومن هنا فهي تتغير وتتبدل كل فترة من الزمان. ذلك أن من وضع القوانين من البشر له هدف يريد أن يحققه، ولكن الله جل جلاله لا هوى له. . فإذا أردت أن تحقق سعادة في حياتك، وأن تعيش آمنا مطمئنا. . فخذ الهدف عن الله، وخذ الطريق عن الله. فإن ذلك ينجيك من قلق متغيرات الحياة التي تتغير وتتبدل. والله قد حدد لخلقه ولكل ما في كونه أقصر طريق لبلوغ الكون سعادته. والذين لا يأخذون هذا الطريق يتعبون أنفسهم ويتعبون مجتمعهم ولا يحققون شيئا. اذن فالهدف يحققه الله لك، والطريق يبينه الله لك. . وما عليك إلا أن تجعل مراداتك في الحياة خاضعة لما يريده الله. ويقول الله سبحانه وتعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} . . ما معنى المتقين؟ متقين جمع متق. والاتقاء من الوقاية. . والوقاية هي الاحتراس والبعد عن الشر. . لذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يقول الحق تبارك وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} [التحريم: 6] أي اعملوا بينكم وبين النار وقاية. احترسوا من أن تقعوا فيها. . ومن عجيب أمر هذه التقوى أنك تجد الحق سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم والقرآن كله كلام الله «اتقوا الله» ويقول: «اتقوا النار» . كيف نأخذ سلوكا واحدا تجاه الحق سبحانه وتعالى وتجاه النار التي سيعذب فيها الكافرون؟! الله تعالى يقول: «اتقوا النار» . أي لا تفعلوا ما يغضب الله حتى لا تعذبوا في النار. . فكأنك قد جعلت بينك وبين النار وقاية بأن تركت المعاصي وفعلت الخير. وقول تعالى: «اتقوا الله» كيف نتقيه بينما نحن نطلب من الله كل النعم وكل الخير دائما. كيف يمكن أن يتم هذا؟ وكيف نتقي من نحب؟ . نقول ان لله سبحانه وتعالى صفات جلال وصفات جمال. . صفات الجلال تجدها في القهار والجبار والمذل. . والمنتقم. والضار. كل هذا من متعلقات صفات الجلال. . بل إن النار من متعلقات صفات الجلال. أما صفات الجمال فهي الغفار والرحيم وكل الصفات التي تتنزل بها رحمات الله وعطاءاته على خلقه. فاذا كنت تقي نفسك من النار وهي من متعلقات صفات الجلال لابد أن تقي نفسك من صفات الجلال كلها. لأنه قد يكون من متعلقاتها ما أشد عذابا وايلاما من النار. . فكأن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: «اتقوا النار» . و: «اتقوا الله» يعني أن نتقي غضب الله الذي يؤدي بنا الى أن نتقي كل صفات جلاله. . ونجعل بيننا وبينها وقاية. فمن اتقى صفات جلال الله أخذ صفات جماله. . ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 إذا كانت آخر ليلة من رمضان تجلى الجبار بالمغفرة» وكان المنطق يقتضي أن يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (تجلى الرحمن بالمغفرة) ولكن مادامت هناك ذنوب، فالمقام لصفة الجبار الذي يعذب خلقه بذنوبهم. فكأن صفة الغفار تشفع عند صفة الجبار. . وصفة الجبار مقامها للعاصين، فتأتي صفة الغفار لتشفع عندها، فيغفر الله للعاصين ذنوبهم، وجمال المقابلة هنا حينما يتجلى الجبار بجبروته بالمغفرة فساعة تأتي كلمة جبار. . يشعر الانسان بالفزع والخوف والرعب. لكن عندما تسمع (تجلى الجبار بالمغفرة) فإن السعادة تدخل الى قلبك. لأنك تعرف أن صاحب العقوبة وهو قادر عليها قد غفر لك. والنار ليست آمرة ولا فاعلة بذاتها ولكنها مأمورة. اذن فاستعذ منها بالآمر أو بصفات الجمال في الآمر. يقول الحق سبحانه وتعالى {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ولقد قلنا ان الهدى هدى الله. . لأنه هو الذي حدد الغاية من الخلق ودلنا على الطريق الموصل اليها. فكون الله هو الذي حدد المطلوب ودلنا على الطريق اليه فهذه قمة النعمة. . لانه لم يترك لنا أن نحدد غايتنا ولا الطريق اليها. فرحمنا بذلك مما سنتعرض له من شقاء في أن نخطئ ونصيب بسبب علمنا القاصر، فنشقى وندخل في تجارب، ونمشي في طرق ثم نكتشف أننا قد ضللنا الطريق فنتجه الى طريق آخر فيكون اضل وأشقى. وهكذا نتخبط دون أن نصل الى شيء. . وأراد سبحانه أن يجنبنا هذا كله فأنزل القرآن الكريم. . كتابا فيه هداية للناس وفيه دلالة على أقصر الطرق لكي نتقي عذاب الله وغضبه. والله سبحانه وتعالى قال: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} أي أن هذا القرآن هدى للجميع. . فالذي يريد أن يتقي عذاب الله وغضبه يجد فيه الطريق الذي يحدد له هذه الغاية. . فالهدى من الحق تبارك وتعالى للناس جميعا. ثم خص من آمن به بهدى آخر، وهو أن يعينه على الطاعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 اذن فهناك هدى من الله لكل خلقه وهو أن يدلهم سبحانه وتعالى ويبين لهم الطريق المستقيم. هذا هو هدى الدلالة، وهو أن يدل الله خلقه جميعا على الطريق الى طاعته وجنته. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] اذن الحق سبحانه وتعالى دلهم على طريق الهداية. . ولكنهم أحبوا طريق الغواية والمعصية واتبعوه. . هذه هداية الدلالة. . أما هداية المعونة ففي قوله سبحانه: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] وهذه هي دلالة المعونة. . وهي لا تحق إلا لمن آمن بالله واتبع منهجه وأقبل على هداية الدلالة وعمل بها. . والله سبحانه وتعالى لا يعين من يرفض هداية الدلالة، بل يتركه يضل ويشقى. . ونحن حين نقرأ القرآن الكريم نجد أن الله تبارك وتعالى: يقول لنبيه ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [القصص: 56] وهكذا نفى الله سبحانه وتعالى عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكون هاديا لمن أحب. . ولكن الحق يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] فكيف يأتي هذا الاختلاف مع أن القائل هو الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 نقول: عندما تسمع هذه الايات اعلم أن الجهة منفكة. . يعني ما نفى غير ما أثبت. . ففي غزوة بدر مثلا أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حفنة من الحصى قذفها في وجه جيش قريش. يأتي القرآن الكريم الى هذه الواقعة فيقول الحق سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] نفي للحدث وإثباته في الآية نفسها. . كيف رمى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . مع أن الله تبارك وتعالى قال: {وَمَا رَمَيْتَ} ؟! نقول إنه في هذه الآية الجهة منفكة. الذي رمى هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن الذي أوصل الحصى الى كل جيش قريش لتصيب كل مقاتل فيهم هي قدرة الله سبحانه وتعالى. فما كان لرمية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حفنة من الحصى يمكن أن تصل الى كل جيش الكفار، ولكن قدرة الله هي التي جعلت هذا الحصى يصيب كل جندي في الجيش. أما قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . فهي هداية دلالة. أي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتبليغه للقرآن وبيانه لمنهج الله قد دل الناس كل الناس على الطريق المستقيم وبينه لهم. وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} . . أي إنك لا توصل الهداية الى القلوب لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يهدي القلوب ويزيدها هدى وإيمانا. ولذلك أطلقها الله تبارك وتعالى قضية ايمانية عامة في قوله: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} فالقرآن الكريم يحمل هداية الدلالة للذين يريدون أن يجعلوا بينهم وبين غضب الله وعذابه وقاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 بعد أن بين الله سبحانه وتعالى لنا أن هذا الكتاب وهو القرآن الكريم {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} . . أي أن فيه المنهج والطريق لكل من يريد أن يجعل بينه وبين غضب الله وقاية. . أراد أن يعرفنا صفات هؤلاء المتقين ومن هم. . وأول صفة هي قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} . . ما هو الغيب الذي جعله الله أول مرتبة في الهدى. . وفي الوقاية من النار ومن غضب الله؟ . . الغيب هو كل ما غاب عن مدركات الحس. فالأشياء المحسة التي نراها ونلمسها لا يختلف فيها أحد. . ولذلك يقال ليس مع العين أين. . لأن ما تراه لا تريد عليه دليلا. . ولكن الغيب لا تدركه الحواس. . إنما يدرك بغيرها. . ومن الدلالة على دقة التعريف أنهم قالوا أن هناك خمس حواس ظاهرة هي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس. . ولكن هناك أشياء تدرك بغير هذه الحواس. . لنفرض أن أمامنا حقيبتين. . الشكل نفسه والحجم نفسه. هل تستطيع بحواسك الظاهرة أن تدرك أيهما أثقل من الأخرى؟ . هل تستطيع الحواس الخمس أن تقول لك أي الحقيبتين أثقل؟ . . لا. . لابد أن تحمل واحدة منهما ثم تحمل الأخرى لتعرف أيهما أثقل. . بأي شيء أدركت هذا الثقل؟ . . بحاسة العضل. . لأن عضلاتك أُجهدت عندما حملت احدى الحقيبتين، ولم تجهد عندما حملت الثانية. . فعرفت بالدقة أيهما أثقل. . لا تقل باللمس؛ لأنك لو لمست احداهما ثم لمست الأخرى لا تعرف أيهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أثقل. . إذن فهناك حاسة العضل التي تقيس بها ثقل الأشياء. . ولنفرض أنك دخلت محلا لبيع القماش، وأمامك نوعان من قماش واحد. . ولكن أحدهما أرق من الآخر. . بمجرد أن تضع القماشين بين أنامِلك تدرك أن أحدهما رقيق والآخر أكثر سمكا. . بأي حاسة أدركت هذا؟ ليس بحاسة اللمس ولكن بحاسة البينة وحكمها لا يخطئ. . وعندما تشعر بالجوع. . بأي حاسة أدركت أنك جوعان؟ . . ليس بالحواس الظاهرة. . وكذلك عندما تظمأ. . ما هي الحاسة التي أدركت بها أنك محتاج الى الماء. . وعندما تكون نائما. . أي حاسة تلك التي توقظك من النوم. . لا أحد يعرف. . اذن هناك ملكات في النفس وهي الحواس الظاهرة. . وهناك ادراكات في النفس. . وهي حواس لا يعلمها إلا خالقها. . لذلك عندما يأتي العلماء ليضعوا تعريفا للنفس البشرية نقول لهم: ماذا تعرفون عن هذه النفس؟! . . انكم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا. . ولكن هناك أشياء داخل النفس لا تعرفونها. . هناك ادراكات لا يعلم عنها الانسان شيئا، وهي ادراكات كثيرة ومتعددة. . لذلك يخطئ من يقول إن ما لا يدرك بالحواس البشرية الظاهرة هو غيب. . لأن هناك ملكات وادراكات متعددة تعمل بغير علم منا. لو أعطى لطالب تمرين هندسي فحله وأتى بالجواب. . هل نقول أنه عَلِمَ غيبا؟ . . لأن حل التمرين كان غيبا عنه ثم وصل اليه. . لا. . لأن هناك مقدمات وقوانين أوصلته الى هذا الحل. . والغيب بلا مقدمات ولا قوانين تؤدي اليه، وهل عندما تعلن الأرصاد الجوية أن غدا يوم مطير شديد الرياح. . أتكون قد عَلِمَتْ غيبا؟ . . لا. . لأنها أخذت المقدمات ووصلت بها الى نتائج وهذا ليس غيباً. . واذا جاء أحد من الدجالين وقال لك ان ما سرق منك عند فلان. . أيكون قد علم الغيب؟ . . لا. . لأنه يشترط في الغيب ألا يكون معلوما لمثلك. . وما سرق منك معلوم لمثلك. . فالسارق والذي بيعت له المسروقات يعرفان من الذي سرق، وما الذي حدث. . والشرطة تستطيع بالمقدمات والبصمات والبحث أن تصل الى السارق ومن اشترى المسروقات. . وإذا جاءك دجال من الذين يسخرون الجن. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 والمعروف أن الجن مستورعنا يمتاز بخفة الحركة وسرعتها. . والله سبحانه وتعالى يقول عن الشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] فقد يكون هذا المستعان به من الجن قد رأى شيئا. . أو انتقل من مكان إلى آخر. . فيعرف شيئا لا تعرفه أنت. . هذا لا يكون غيباً لأنك جهلته، ولكن غيرك يعلمه بقوانينه التي خلقها الله له. . والعلماء الذين يكتشفون أسرار الكون. . أيقال إنهم أطلعوا على الغيب؟ . . لا. . لأن هؤلاء العلماء اكتشفوا موجوداً له مقدمات فوصلوا الى هذه النتائج فهو ليس غيبا. ولكن ما هو الغيب؟ . . هو الشيء الذي ليس له مقدمات ولا يمكن أن يصل اليه علم خَلْقٍ من خلق الله حتى الملائكة. . واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى حينما عَلَّمَ آدم الأسماء كلها وعرضهم على الملائكة قال جل جلاله: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31 - 33] والجن أيضا لا يعلم الغيب. . ولذلك عندما مات سليمان عليه السلام. . وكان الله سبحانه وتعالى قد سَخَّرَ له الجن لم تعلم الجن بموته إلا عندما أكلت دابة الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 عصاه. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين} [سبأ: 14] إذن فالغيب هو ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. . واقرأ قول الحق جل جلاله: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 26 - 27] وهكذا فإن الرسل لا يعلمون الغيب. . ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمهم بما يشاء من الغيب ويكون هذا معجزة لهم ولمن اتبعوهم. وقمة الغيب هي الايمان بالله سبحانه وتعالى. . والايمان بملائكته وكتبه ورسله والايمان باليوم الآخر. . كل هذه أمور غيبية، وحينما يخبرنا الله تبارك وتعالى عن ملائكته ونحن لا نراهم. . نقول مادام الله قد أخبرنا بهم فنحن نؤمن بوجودهم. . وإذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى عن اليوم الآخر. . فمادام الله قد أخبرنا فنحن نؤمن باليوم الآخر. . لأن الذي أخبرنا به هو الله جل جلاله. . آمنت به أنه اله. . واستخدمت في هذا الايمان الدليل العقلي الذي جعلني أؤمن بأن لهذا الكون إلهاً وخالقاً. . وما يأتيني عن الله حيثية الايمان به أن الله سبحانه وتعالى هو القائل. ولابد أن نعرف أن وجود الشيء مختلف تماما عن ادراك هذا الشيء. . فأنت لك روح في جسدك تهبك الحياة. . أرأيتها؟ . . أسمعتها؟ . . أذقتها؟ . . أشممتها؟ . . ألمستها؟ . . الجواب طبعا لا. . فبأي وسيلة من وسائل الادراك تدرك أن لك روحا في جسدك؟ بأثرها في إحياء الجسد. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 إذن فقد عرفت الروح بأثرها، والروح مخلوق لله. . فكيف تريد وأنت عاجز أن تدرك مخلوقا في جسدك وذاتك وهو الروح بآثارها. . ان تدرك الله سبحانه وتعالى بحواسك. ونحن إذا آمنا بالقمة الغيبية وهو الله جل جلاله. . فلابد أن نؤمن بكل ما يخبرنا عنه وإن لم نَرَه. . ولقد أراد الله تبارك وتعالى رحمة بعقولنا أن يقرب لنا قضية الغيب فأعطانا من الكون المادي أدلة على أن وجود الشيء، وادراك هذا الوجود شيئان منفصلان تماما. . فالجراثيم مثلا موجودة في الكون تؤدي مهمتها منذ بداية الخلق. . وكان الناس يشاهدون آثار الأمراض في أجسادهم من ارتفاع في الحرارة وحمى وغير ذلك وهم لا يعرفون السبب. . فلما ارتقى العلم وأذن الله لخلقه أن يروا هذا الوجود للجراثيم. . جعل الله العقول قادرة على أن تكتشف المجهر. . الذي يعطينا الصورة مكبرة. . لأن العين قدرتها البصرية أقل من أن تدرك هذه المخلوقات الدقيقة. . فلما اكتشف العلم المجهر. . استطعنا أن نرى هذا الجراثيم. . ونعرف أن لها دورة حياة وتكاثر إلى غير ما يكشفه الله لنا من علم كما تقدم الزمن. . إن عدم قدرتنا على رؤية أي شيء لا يعني أنه غير موجود. . ولكن آلة الإدراك وهي البصر عاجزة عن أن تراه، لأنه غاية في الصغر. . فاذا جئت بالمجهر كبر لك هذا الميكروب ليدخل في نطاق وسيلة رؤيتك وهي العين. . ورؤيتنا للجراثيم والميكروبات ليست دليلا على أنها خلقت ساعة رأيناها. . بل هي موجودة تؤدي مهمتها. . سواء رأيناها أو لم نرها. فلو حدثنا أحد عن الميكروبات والجراثيم قبل أن نراها رؤية العين. . هل كنا نصدق؟ . . والله سبحانه وتعالى ترك بعض خلقه غير مدرك في زمنه لبعض حقائق الكون ليرتقي الانسان ويدرك بعد ذلك. . وكان المفروض أنه يزداد ايمانا. . عندما يدرك وليعرف الخلق بالدليل المادي أن ما هو غيب عنهم موجود وان كنا لا نراه. . والله تبارك وتعالى قد أعطانا من آياته في الكون ما يجعلنا ندرك أن لهذا الكون خالقا. . فالشمس والقمر والنجوم والأرض والانسان والحيوان والجماد لا يستطيع أحد أن يدعي انه خلقهم. . ولا أحد يمكن أن يدعي أنه خلق نفسه أو غيره. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ولا يمكن لهذا الكون بهذا النظام الدقيق أن يوجد مصادفة؛ لأن المصادفات أحداث غير مرتبة أو غير منظمة. . ولو وجد هذا الكون بالصدفة لتصادمت الشمس والقمر والنجوم والأرض ولاختل الليل والنهار. . ولكن كل ما في الكون من آيات يؤكد لنا أن هناك قوة هائلة هي التي خلقت ونظمت وأبدعت. . فإذا جاءنا رسول يبلغنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا الكون فلابد أن نصدقه. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَيُقِيمُونَ الصلاة} . . والصلاة هي إدامة ولاء العبودية للحق تبارك وتعالى وهي لا تسقط عن الانسان أبدا. . فالانسان يصلي وهو واقف، فإن لم يستطع يصلي وهو جالس. فإن لم يستطع، فيصلي وهو راقد. . ولا تسقط الصلاة عن الانسان من ساعة التكليف إلى ساعة الوفاة كل يوم خمس مرات. . ويقول الحق تبارك وتعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . . وحين نتكلم عن الرزق يظن كثير من الناس أن الرزق هو المال. . نقول له لا. . الرزق هو ما ينتفع به فالقوة رزق، والعلم رزق، والحكمة رزق، والتواضع رزق. . وكل ما فيه حركة للحياة رزق. . فإن لم يكن عندك مال لتنفق منه فعندك عافية تعمل بها لتحصل على المال. . وتتصدق بها على العاجز والمريض. . وان كان عندك حلم. . فإنك تنفقه بأن تقي الأحمق من تصرفات قد تؤذي المجتمع وتؤذيك. . وان كان عندك علم انفقه لتعلم الجاهل. . وهكذا نرى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} تستوعب جميع حركة الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يعطينا صفات أخرى من صفات المؤمنين. . فبعد أن ابلغنا أن من صفات المؤمنين الايمان بالغيب واقامة الصلاة والانفاق مما رزقهم الله. . يأتي بعد ذلك الى صفات أخرى. . فهؤلاء المؤمنون هم: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي بالقرآن الكريم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى. . و «بما أنزل من قبلك» وهذه لم تأت في وصف المؤمنين إلا في القرآن الكريم. . ذلك أن الاسلام عندما جاء كان عليه أن يواجه صنفين من الناس. . الصنف الأول هم الكفار وهم لا يؤمنون بالله ولا برسول مبلغ عن الله. . وكان هناك صنف آخر من الناس. . هم أهل الكتاب يؤمنون بالله ويؤمنون برسل عن الله وكتب عن الله. . والاسلام واجه الصنفين. . لأن أهل الكتاب ربما ظنوا أنهم على صلة بالله. . يؤمنون به ويتلقون منه كتبا ويتبعون رسلا وهذا في نظرهم كاف. . نقول لا. . فالإسلام جاء ليؤمن به الكافر، ويؤمن به أهل الكتاب، ويكون الدين كله لله. . والله سبحانه وتعالى في كتبه التي أنزلها أخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعن اسمه وأوصافه. . وطلب من أهل الكتاب الذين سيدركون رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يؤمنوا به. . ولقد أعطى الله جل جلاله أوصاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأهل الكتاب حتى إنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. . بل كانت معرفتهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وزمنه وأوصافه معرفة يقينية. . وكان يهود المدينة يقولون للكفار. . أَطَلَّ زمن رسول سنؤمن به ونقتلكم قتل عاد وإرم. . فلما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا أول من حاربه وأنكر نبوته. . فأوصاف رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 موجودة في التوراة والانجيل. . ولذلك كان أهل الكتاب ينذرون الكفار بأنهم سيؤمنون بالرسول الجديد ويسودون به العرب. . واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89] أي أن رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم تكن مفاجئة لأهل الكتاب بل كانوا ينتظرونها. . كانوا يؤكدون أنهم سيؤمنون بها كما تأمرهم بها كتبهم. . ولكنهم رفضوا الايمان وأنكروا الرسالة عندما جاء زمنها. . ثم يقول سبحانه وتعالى: {وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} ونلاحظ هنا أن كلمة (وبالآخرة) قد جاءت. . لأنك اذا تصفحت التوراة التي هي كتاب اليهود، أو قرأت التلمود لا تجد شيئا عن اليوم الآخر. . فقد أخذوا الأمر المادي فقط من كتبهم. . والله تبارك وتعالى أكد الايمان باليوم الآخر حتى عرف الذين يقولون آمنا بالله وكتبه ورسله ولا يلتفتون الى اليوم الآخر أنهم ليسوا بمؤمنين. . فلو لم يجئ هذا الوصف في القرآن الكريم ربما قالوا إن الاسلام موافق لما عندنا. . ولكن الله جل جلاله يريد تصوير الايمان تصويرا كماليا بأن الايمان بالله قمة ابتداء والايمان باليوم الآخر قمة انتهاء. . فمن لم يؤمن بالآخرة وأنه سيلقى الله وسيحاسبه. . وأن هناك جنة ينعم فيها المؤمن، وناراً يعذب فيها الكافر يكون ايمانه ناقصا. . ويكون قد اقترب من الكافر الذي جعل الدنيا غايته وهدفه. . فالمؤمن يتبع منهج الله في الدنيا ليستحق نعيم الله في الآخرة. . فلو أن الآخرة لم تكن موجودة، لكان الكافر أكثر حظا من المؤمن في الحياة. . لأنه أخذ من الدنيا ما يشتهيه ولم يقيد نفسه بمنهج، بل أطلق لشهواته العنان. . بينما المؤمن قَيَّدَ حركته في الحياة طبقا لمنهج الله وتعب في سبيل ذلك. ثم يموت الاثنان وليس بعد ذلك شيء. . فيكون الكافر هو الفائز بنعم الدنيا وشهواتها. والمؤمن لا يأخذ شيئا. والأمر هنا لا يستقيم بالنسبة لقضية الايمان. . ولذلك كان الايمان بالله قمة الايمان بداية والايمان بالآخرة قمة الايمان نهاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 قوله تعالى: (أولئك) اشارة الى الذين تنطبق عليهم كل الصفات التي يبينها الله سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين. . فأولئك الذين تنطبق عليهم هذه الصفات وصلوا الى الهدى أي الى الطريق الموصل للإيمان. . ووصلوا إلى الفلاح، وهو الهدف من الإيمان. . وقوله تعالى: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} تشمل الجميع. . ولكن لماذا استخدم الله تبارك وتعالى {أولئك} مرتين؟ تلك من بلاغة القرآن الكريم، ولماذا دمج الخبرين بعضهما مع بعض؟ حتى نعرف أنه ليس في الاسلام إيمانان بل إيمان واحد يترتب عليه جزاء واحد. . وسيلته الهدى، وغايته الفلاح. . ولو نظر الى التكليفات التي هي الهدى الموصلة الى الغاية نجد أن الله سبحانه وتعالى رفع المهتدي على الهدى. . لنعرف أن الهدى لم يأت ليقيد حركتك في الحياة ويستذلك، وانما جاء ليرفعك. . إن السطحيّين يعتقدون أن الهدى يقيد حركة الانسان في الحياة ويمنعه من تحقيق شهواته العاجلة. . ولكن الهدى في الحقيقة يرفع الانسان ويحفظه من الضرر، ومن غضب الله، ومن افساد المجتمع الذي سيكون هو أول من يعاني منه. . لذلك قال تبارك وتعالى: {على هُدًى} . . و (على) تفيد الاستعلاء. فاذا قلت أنت على الجواد فإنك تعلوه. . كأن المهتدى حين يلزم نفسه بالمنهج لا يذل. . ولكنه يرتفع الى الهدى ويصبح الهدى يأخذه من خير الى خير. . وذلك بعكس الضلالة التي تأخذ الانسان الى أسفل. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ولذلك حين تقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] ترى ما يفيد الارتفاع والعلو في الهداية، وما يفيد الانخفاض والنزول في الضلالة؛ وإنما كان العلوّ في الهدى. . لأن المنهج قَيَّدَ حركة حياتك اعزازا لك لعلوك وسمو مقامك في أنك لا تأخذ من بشر تشريعا. . ولا تأخذ من ذاتك حركة. . وإنما يرتفع بك لتتلقي عن الله سبحانه وتعالى. . وهذا علو كبير. . ولكن عند الضلالة قال: «في ضلال» . . و (في) تدل على الظرفية المحيطة. . وهو كما وصفه الله سبحانه وتعالى في آية أخرى بقوله جل جلاله: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] أحاطت به الخطيئة. . أي لا يستطيع أن يفلت منها لأنه مظروف في الضلال. . وما دامت الخطيئة محيطة به فلا يجد منفذا لأنها تحكمه. . وما دامت تحكمه فلا يمكن أن يصل إلى هدى مطلقا. . فالحق سبحانه وتعالى حينما قال: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} . . اختار لفظا عليه دلالة دنيوية تقرب المعنى الى السامع. . ما هو الفلاح؟ . . المعنى العام هو الفوز والْمُفْلِحُ هو الفائز. ومعنى الآية الكريمة أولئك هم الفائزون وقال: «هم المفلحون» . . لأن الفلاح مأخوذ من شق الأرض للبذر. . ومنه سُمِّيَ الفلاح الذي صفته شق الأرض ورمي البذور فيها. . والحق سبحانه تعالى جاء بهذا اللفظ بالنسبة للآخرة لآنه يريد أن يأتي لنا مع الشيء بدليله. . وهناك فرق بين أمر غيبي عنا لا نعرفه. . وأمر غيبي يستدل عليه بمشهود. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فالدين يقيد حريتك في الحياة في أن تفعل ولا تفعل. . ومنهج الله جاء ليقول لك إفعل كذا ولا تفعل كذا. وكثير من الناس يظن أن ذلك تقييد لحركة حياة المؤمن واثقال عليه. . لأنه أخذ منه حرية حركته فقيدها. . ان الله تبارك وتعالى حين يقول لك لا تفعل. . معناها عند السطحيين أنه ضيق عليك ما تريد أن تفعل. . وحين يقول لك افعل. . معناها يكون قد ضيق عليك في شيء لا تريد أن تفعله. فمثلا: حين يطلب منك الزكاة. . فالزكاة في ظاهرها نقص المال، وإن كانت في حقيقتها بركة ونماء. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه» فالحق سبحانه وتعالى اذا قيد حركتك في الحياة. . لا تظن أن هذا تضييق عليك. . بل ان هذا لفائدتك. . لأنه لم يأمرك وحدك، ولكن الأمر للناس جميعا حين يقول جل جلاله: لا تسرق. . فقد قالها للناس جميعا ولذلك تكون أنت الرابح. . لأنه قيدك وأنت فرد من أن تسرق من غيرك. . ولكنه قيد ملايين الناس من أن يسرقوا منك. . اذن فالله لم يضيق عليك، ولكنه حمى مالك من الناس كل الناس. . قيدك وأنت فرد أن تسرق من مال غيرك، وقيد ملايين أن يسرقوا من مالك. . فمن الفائز؟ . . أنت طبعا. . وقوله تعالى: {وأولئك هُمُ المفلحون} (المفلحون) من مادة فلح. . فاذا كانت الأرض صماء فحينما نشقها ونبذرها تعطي محصولا عظيما، العملية أخذناها أبا عن جد. فالأرض حين تشق وتُبذر تُعطي محصولا وافرا. . واذا كانت هذه العملية أخذت أبا عن جد. . يأتي السؤال من الذي علم آدم البذر والزرع؟ . . نقول علمه الله سبحانه وتعالى كما علمه الأسماء. . وكما علمه ما يمكنه به أن يباشر مهمته في الأرض. . والحق جل جلاله لم يكن يترك آدم في حياته على الأرض دون أن يعلمه ما يضمن استمرار حياته وحياة أولاده. . يعلمه على الأقل بدايات. . ثم بعد ذلك تتطور هذه البدايات بما يكشفه الله من علمه لخلقه. . وبعد ذلك جاءت القرون المتقدمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فاستطعنا أن نستخدم آلات حديثة متطورة تقوم بعملية الحرث والبذر. . ولكن الحقيقة الثابتة التي لم تتغير منذ بداية الكون ولن تتغير حتى نهايته. . هي أن مهمة الانسان أن يحرث ويضع البذرة في الأرض ويسقيها. . أما نمو الزرع نفسه فلا دخل للانسان فيه. . وكذلك الثمر الذي ينتجه لا عمل للإنسان فيه. . ولقد نبهنا الله تبارك وتعالى الى هذه الحقيقة حتى لا نغتر بحركتنا في الحياة ونقول إننا نحن الذين نزرع. . واقرأ قول الحق جل جلاله في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 63 - 67] وهكذا ظلت مهمة الفلاحة في الأرض مقتصرة على الحرث والسقي والبذر، وحينما تلقى الحبة في الأرض يخلق الله في داخلها الغذاء الذي يكفيها حتى تستطيع أن تأخذ غذاءها من الأرض. . واذا جئت بحبة وبللتها تجد أنها قد نبت لها ساق وجذور. . من أين جاء هذا النمو؟ . من تكوين الحبة نفسه، والله تبارك وتعالى قد قدر في كل حبة من الغذاء ما يكفيها حتى تستطيع أن تتغذى من الأرض. . وعلى قدر كمية الغذاء المطلوبة يكون حجم الحبة. . وحين تضعها في الأرض فإنها تبدأ أولا بأن تغذي نفسها. . بحيث ينبت لها ساق وجذور وورقتان تتنفس منهما. . كل هذا لا دخل لك فيه ولا عمل لك فيه. . وتبدأ الحبة تأخذ غذاءها من الأرض والهواء. . لتنمو حتى تصبح شجرة كبيرة تنتج الثمر من نوع البذرة نفسه. ومن هنا جاءت كلمة (المفلحون) . . ليعطينا الحق جل جلاله من الأمور المادية المشهودة ما يعين عقولنا المحدودة على فهم الغيب. . فيشبه التكليف وجزاءه في الآخرة بالبذور والفلاحة. . أولا لأنك حين ترمي بذرة في الأرض تعطيك بذورا كثيرة. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 واقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] واذا كانت الأرض وهي المخلوقة من الله تهبك أضعاف أضعاف ما أعطيتها. . فكيف بالخالق؟ . . وكم يضاعف لك من الثواب في الطاعة؟ . . هذا هو السبب في أن الحق تبارك وتعالى يقول: {وأولئك هُمُ المفلحون} . . حتى يلفتنا بمادة الفلاحة. . وهي شيء موجود نراه ونشهده كل يوم. وكما أن التكليف يأخذ منك أشياء ليضاعفها لك. . كذلك الأرض أخذت منك حبة ولم تعطك مثل ما أخذت، بل أعطتك بالحبة سبعمائة حبة. . وهكذا نستطيع أن نصل بشيء مشهود يُفَصِّلُ لنا شيئا غيبيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وبعد ان تحدث الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين وصفاتهم. . وجزائهم في الآخرة وما ينتظرهم من خير كبير. . اراد ان يعطينا تبارك وتعالى الصورة المقابلة وهم الكافرون. . وبين لنا ان الايمان جاء ليهيمن على الجميع يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة. . فلابد أن يكون هناك شر يحاربه الإيمان. . ولولا وجود هذا الشر. . أكان هناك ضرورة للايمان. . إن الانسان المؤمن يقي نفسه ومجتمعه وعالمه من شرور يأتي بها الكفر. . والكافرون قسمان. . قسم كفر بالله اولا ثم استمع الى كلام الله. . واستقبله بفطرته السليمة فاستجاب وآمن. . وصنف آخر مستفيد من الكفر ومن الطغيان ومن الظلم ومن اكل حقوق الناس وغير ذلك. . وهذا الصنف يعرف ان الايمان اذا جاء فانه سيسلبه جاها دنيويا ومكاسب يحققها ظلما وعدوانا. . اذن الذين يقفون امام الايمان هم المستفيدون من الكفر. . ولكن ماذا عن الذين كانوا كفارا واستقبلوا دين الله استقبالا صحيحا. . هؤلاء قد تتفتح قلوبهم فيؤمنون. والكفر معناه الستر. . ومعنى كَفَرَ (أي) سَتَرَ. . وكفر بالله أي ستر وجود الله جل جلاله. . والذي يستر لابد ان يستر موجودا، لأن الستر طارئ على الوجود. . والاصل في الكون هو الايمان بالله. . وجاء الكفار يحاولون ستر وجود الله. فكأن الأصل هو الايمان ثم طرأت الغفلة على الناس فستروا وجود الله سبحانه وتعالى. . ليبقوا على سلطانهم او سيطرتهم او استغلالهم او استعلائهم على غيرهم من البشر. . ولفظ الكفر في ذاته يدل على ان الايمان سبق ثم بعد ذلك جاء الكفر. . كيف؟ . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 لأن الخلق الاول وهو آدم الذي خلقه الله بيديه. . ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة. . وعلمه الاسماء كلها. . سجود الملائكة وتعليم الاسماء أمر مشهدي بالنسبة لآدم. . والكفر ساعتها لم يكن موجودا. . وكان المفروض ان ادم بعد ان نزل الى الارض واستقر فيها. . يلقن ابناءه منهج عبادة الله لأنه نزل ومعه المنهج في (افعل ولا تفعل) وكان على ابناء آدم ان يلقنوا ابناءهم المنهج وهكذا. . ولكن بمرور الزمن جاءت الغفلة في أن الايمان يقيد حركة الناس في الكون. . فبدأ كل من يريد ان يخضع حياته لشهوة بلا قيود يتخذ طريق الكفر. . والعاقل حين يسمع كلمة كفر. . يجب عليه أن يتنبه إلى أن معناها ستر لموجود واجب الوجود. . فكيف يكفر الانسان ويشارك في ستر ما هو موجود. . لذلك تجد ان الحق سبحانه وتعالى يقول: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] وهكذا يأتي هذا السؤال. . ولا يستطيع الكافر له جوابا! {لأن الله هو الذي خلقه وأوجده. . ولا يستطيع احد منا ان يدعي انه خلق نفسه او خلق غيره. . فالوجود بالذات دليل على قضية الايمان. . ولذلك يسألهم الحق تبارك وتعالى كيف تكفرون بالله وتسترون وجود من خلقكم؟ . . والخلق قضية محسومة لله سبحانه وتعالى لا يستطيع احد ان يدعيها. . فلا يمكن ان يدعي أحد أنه خلق نفسه. . قضية انك موجود توجب الايمان بالله سبحانه وتعالى الذي اوجدك. . انه عين الاستدلال على الله. . واذا نظر الانسان حوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فوجد كل ما في الكون مسخر لخدمته والاشياء تستجيب له فظن بمرور الزمن ان له سيطرة على هذا الكون. . ولذلك عاش وفي ذهنه قوة الاسباب. . يأخذ الاسباب وهو فاعلها فيجدها قد اعطته واستجابت له. . ولم يلتفت الى خالق الاسباب الذي خلق لها قوانينها فجعلها تستجيب للانسان. . وقد اشار الحق تبارك وتعالى الى ذلك في قوله جل جلاله: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] ذلك ان الانسان يحرث الارض فتعطيه الثمر. . فيعتقد انه هو الذي اخضع الارض ووضع لها قوانينها لتعطيه ما يريد. . يضغط على زر الكهرباء فينير المكان فيعتقد انه هو الذي اوجد هذه الكهرباء} يركب الطائرة. . وتسير به في الجو فيعتقد انه هو الذي جعلها تطير. . وينسى الخصائص التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الغلاف الجوي ليستطيع ان يحمل هذه الطائرة. . يفتح التليفزيون ويرى أمامه احداث العالم فيعتقد ان ذلك قد حدث بقدرته هو. . وينسى ان الله تبارك وتعالى وضع في الغلاف الجوي خصائص جعلته ينقل الصوت والصورة من اقصى الدنيا الى اقصاها في ثوان معدودة. . وهكذا كل ما حولنا يظن الانسان انه اخضعه بذاته. . بينما كل هذا مسخر من الله سبحانه وتعالى لخدمة الانسان. . وهو الذي خلق ووضع القوانين. . نقول له انك لو فهمت معنى ذاتية الاشياء ما حدثتك نفسك بذلك. . الشيء الذاتي هو ما كان بذاتك لا يتغير ولا يتخلف ابدا. . انما الامر الذي ليس بذاتك هو الذي يتغير. . واذا نظرت إلى ذاتيتك تلك التي اغرتك واطغتك. . ستفهم ان كلمة ذاتية هي ألا تكون محتاجا الى غيرك بل كل شيء من نفسك. . وانت في حياتك كلها ليس لك ذاتية. . لأن كل شيء حولك متغير بدون ارادتك. . وانت طفل محتاج إلى أبيك في بدء حياتك. . فاذا كبرت وأصبح لك قوة واستجابت الاحداث لك فإنك لا تستطيع ان تجعل فترة الشباب والفتوة هذه تبقى. . فالزمن يملك ولكن لفترة محدودة. . فاذا وصلت الى مرحلة الشيخوخة فستحتاج الى من يأخذ بيدك ويعينك. . ربما على ادق حاجاتك وهي الطعام والشراب. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إذن فأنت تبدأ بالطفولة محتاجا إلى غيرك. . وتنتهي بالشيخوخة محتاجا إلى غيرك. . وحتى عندما تكون في شبابك قد يصيبك مرض يقعدك عن الحركة. . فاذا كانت لك ذات حقيقية فأدفع هذا المرض عنك وقل لن امرض. . انك لا تستطيع. . والله سبحانه وتعالى اوجد هذه المتغيرات حتى ينتهي الغرور من الانسان نفسه. . ويعرف انه قوي قادر بما اخضع الله له من قوانين الكون. . لنعلم اننا جميعا محتاجون الى القادر، وهو الله سبحانه وتعالى، وان الله غني بذاته عن كل خلقه. . يغير ولا يتغير. . يميت وهو دائم الوجود. . يجعل من بعد قوة ضعفا وهو القوي دائما. . ما عند الناس ينفد وما عنده تبارك وتعالى لا ينفد أبداً. . هو الله في السماوات والأرض. اذن فليست لك ذاتية حتى تدعي انك اخضعت الكون بقدراتك. . لانه ليس لك قدرة ان تبقى على حال واحد وتجعله لا يتبدل ولا يتغير. . فكيف تكفر بالله تبارك وتعالى وتستر وجوده. . كل ما في الكون وما في نفسك شاهد ودليل على وجود الحق سبحانه وتعالى. . قلنا ان الكافرين صنفان. . صنف كفر بالله وعندما جاء الهدى حكم عقله وعرف الحق فآمن. . والصنف الآخر مستفيد من الكفر. . ولذلك فهو متشبث به مهما جاءه من الايمان والادلة الايمانية فإنه يعاند ويكفر. . لانه يريد ان يحتفظ بسلطاته الدنيوية ونفوذه القائم على الظلم والطغيان. . ولا يقبل ان يُجَرَّدَ منهما ولو بالحق. . هذا الصنف هو الذي قال عنه الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} إنهم لم يكفروا لأن بلاغا عن الله سبحانه وتعالى لم يصلهم. . ولم يكفروا لأنهم في حاجة الى ان يلفتهم رسول او نبي الى منهج الله. . هؤلاء اتخذوا الكفر صناعة ومنهج حياة. . فهم مستفيدون من الكفر لأنه جعلهم سادة ولانهم متميزون عن غيرهم بالباطل. . ولانهم لو جاء الايمان الذي يساوي بين الناس جميعا ويرفض الظلم، لأصبحوا أشخاصا عاديين غير مميزين في أي شيء. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 هذا الكافر الذي اتخذ الكفر طريقا لجاه الدنيا وزخرفها. . سواء أنذرته أو لم تنذره فانه لن يؤمن. . انه يريد الدنيا التي يعيش فيها. . بل ان هؤلاء هم الذين يقاومون الدين ويحاربون كل من آمن. . لأنهم يعرفون ان الايمان سيسلبهم مميزات كثيرة. . ولذلك فإن عدم ايمانهم ليس عن ان منهج الايمان لم يبلغهم. . او ان أحدا لم يلفتهم الى ايات الله في الأرض. . ولكن لأن حياتهم قائمة ومبنية على الكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وكما اعطانا الحق سبحانه وتعالى أوصاف المؤمنين يعطينا صفات الكافرين. . وقد يتساءل بعض الناس إذا كان هذا هو حكم الله على الكافرين؟ فلماذا يطلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الإيمان منهم وقد ختم الله على قلوبهم؟! ومعنى الختم على القلب هو حكم بألاّ يخرج من القلب ما فيه من الكفر. . ولا يدخل إليه الإيمان. . نقول أن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين. . فإن استغنى بعض خلقه عن الإيمان واختاروا الكفر. . فإن الله يساعده على الاستغناء ولا يعينه على العودة إلى الإيمان. . ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني. . فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» . وقد وضح الحديث القدسي أن الله تبارك وتعالى يعين المؤمنين على الإيمان، وأن الله جل جلاله كما يعين المؤمنين على الإيمان. . فإنه لا يهمه أن يأتي العبد إلى الإيمان أو لا يأتي. . ولذلك نجد القرآن دقيقا ومحكما بأن من كفروا قد اختاروا الكفر بإرادتهم. واختيارهم للكفر كان أولا قبل أن يختم الله على قلوبهم. . والخالق جل جلاله أغنى الشركاء عن الشرك. . ومن أشرك به فإنه في غنى عنه. إن الذين كفروا. . أي ستروا الإيمان بالله ورسوله. . هؤلاء يختم الله بكفرهم على آلات الإدراك كلها. . القلب والسمع والبصر. والقلب أداة إدراك غير ظاهرة. . وقد قدم الله القلب على السمع والبصر في تلك الآية لأنه يريد أن يعلمنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 منافذ الإدراك. . وفي القرآن الكريم يقول الحق تبارك وتعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وهكذا يعلمنا الله أن منافذ العلم في الإنسان هي السمع والأبصار والأفئدة. . ولكن في الآية الكريمة التي نحن بصددها قدم الله القلوب على السمع والأبصار. . أن الله يعلم أنهم اختاروا الكفر. . وكان هذا الاختيار قبل أن يختم الله على قلوبهم. . والختم على القلوب. . معناه أنه لا يدخلها إدراك جديد ولا يخرج منها إدراك قديم. . ومهما رأت العين أو سمعت الأذن. . فلا فائدة من ذلك لأن هذه القلوب مختومة بخاتم الله بعد أن اختار أصحابها الكفر وأصروا عليه. . وفي ذلك يصفهم الحق جل جلاله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] ولكن لماذا فقدوا كل أدوات الإدراك هذه؟ . . لأن الغشاوة التفت حول القلوب الكافرة، فجعلت العيون عاجزة عن تأمل آيات الله. . والسمع غير قادر على التلقي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . إذن فهؤلاء الذين اختاروا الكفر وأصروا عليه وكفروا بالله رغم رسالاته ورسله وقرآنه. . ماذا يفعل الله بهم؟ أنه يتخلى عنهم. ولأنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين فإنه ييسر لهم الطريق الذي مشوا فيه ويعينهم عليه. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ويقول جل جلاله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222] ومن عظمة علم الله تبارك وتعالى أنه يعلم المؤمن ويعلم الكافر. . دون أن يكون جل جلاله تدخل في اختيارهم. . فعندما بعث الله سبحانه وتعالى نوحا عليه السلام. . ودعا نوح إلى منهج الله تسعمائة وخمسين عاما. وقبل أن يأتي الطوفان علم الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن بنوح عليه السلام إلا من آمن فعلا. . فطلب الله تبارك وتعالى من نوح أن يبني السفينة لينجو المؤمنون من الطوفان. . واقرأ قوله جل جلاله: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 36 - 37] وهكذا نرى أنه من عظمة علم الله سبحانه وتعالى. . أنه يعلم من سيصر على الكفر وأنه سيموت كافرا. . وإذا كانت هذه هي الحقيقة فلماذا يطلب الله تبارك وتعالى من رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يبلغهم بالمنهج وبالقرآن؟ . . ليكونوا شهداء على أنفسهم يوم القيامة. . فلا يأتي هؤلاء الناس يوم المشهد العظيم ويجادلون بالباطل. . أنه لو بلغهم الهدى ودعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لآمنوا. . ولكن لماذا يختم الله جل جلاله على قلوبهم؟ . . لأن القلب هو مكان العقائد. . ولذلك فإن القضية تناقش في العقل فإذا انتهت مناقشتها واقتنع بها الإنسان تماماً فإنها تستقر في القلب ولا تعود إلى الذهن مرة أخرى وتصبح عقيدة وإيمانا. . والحق سبحانه وتعالى يقول: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وإذا عمى القلب عن قضية الإيمان. . فلا عين ترى آيات الإيمان. . ولا أذن تسمع كلام الله. . وهؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان لهم في الآخرة عذاب عظيم. . ولقد وصف الله سبحانه وتعالى العذاب بأنه أليم. . وبأنه مهين. . وبأنه عظيم. . العذاب الأليم هو الذي يسبب ألما شديدا. . والعذاب المهين هو الذي يأتي لأولئك الذين رفعهم الله في الدنيا. . وأحيانا تكون الإهانة أشد إيلاما للنفس من ألم العذاب نفسه. . أولئك الذين كانوا أئمة الكفر في الدنيا. . يأتي بهم الله تبارك وتعالى يوم القيامة أمام من اتبعوهم فيهينهم. . أما العذاب العظيم فإنه منسوب إلى قدرة الله سبحانه وتعالى. . لأنه بقدرات البشر تكون القوة محدودة. . أما بقدرات الله جل جلاله تكون القوة بلا حدود. . لأن كل فعل يتناسب مع فاعله. . وقدرة الله سبحانه وتعالى عظيمة في كل فعل. . وبما أن العذاب من الله جل جلاله فإنه يكون عذابا عظيما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الناس في الحياة الدنيا على ثلاثة أحوال: إما مؤمن، وإما كافر، وإما منافق. والله سبحانه وتعالى في بداية القرآن الكريم في سورة البقرة. . أراد أن يعطينا وصف البشر جميعا بالنسبة للمنهج وأنهم ثلاث فئات: الفئة الأولى هم المؤمنون، عَرَّفنا الله سبحانه وتعالى صفاتهم في ثلاث آيات، في قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} والفئة الثانية هم الكفار، وعرفنا الله سبحانه وتعالى صفاتهم في آيتين في قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} وجاء للمنافقين فعرف صفاتهم في ثلاث عشرة آية متتابعة، لماذا. .؟ لخطورتهم على الدين، فالذي يهدم الدين هو المنافق، أما الكافر فنحن نتقيه ونحذره، لأنه يعلن كفره. إن المنافق، يتظاهر أمامك بالإيمان، ولكنه يبطن الشر والكفر، وقد تحسبه مؤمنا، فتطلعه على أسرارك، فيتخذها سلاحا لطعن الدين. . وقد خلق الله في الإنسان ملكات متعددة، ولكن يعيش الإنسان في سلام مع نفسه، لابد أن تكون ملكاته منسجمة وغير متناقضة. فالمؤمن ملكاته منسجمة، لأنه اعتقد بقلبه في الإيمان ونطق لسانه بما يعتقد، فلا تناقض بين ملكاته أبداً. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والكافر قد يقال إنه يعيش في سلام مع نفسه، فقد رفض الإيمان وأنكره بقلبه ولسانه وينطق بذلك، ولكن الذي فقد السلام مع ملكاته هو المنافق، أنه فقد السلام مع مجتمعه وفقد السلام مع نفسه، فهو يقول بلسانه، ما لا يعتقد قلبه، يظهر غير ما يبطن، ويقول غير ما يعتقد، ويخشى أن يكشفه الناس، فيعيش في خوف عميق، وهو يعتقد أن ذلك شيء مؤقت سينتهي. ولكن هذا التناقض يبقى معه إلى آخر يوم له في الدنيا، ثم ينتقل معه إلى الآخرة، فينقض عليه، ليقوده إلى النار، واقرأ قوله تبارك وتعالى: {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 20 - 21] إذن كل ملكاتهم انقضت عليهم في الآخرة، فالسلام الذي كانوا يتمنونه لم يحققوه لا في حياتهم ولا في آخرتهم، فلسان المنافق يشهد عليه، ويداه تشهدان عليه، ورجلاه تشهدان عليه، والجلود تشهد عليه، فماذا بقي له؟ بينه وبين ربه تناقض، وبينه وبين نفسه تناقض، وبينه وبين مجتمعه تناقض، وبينه وبين آخرته تناقض. وبينه وبين الكافرين تناقض. يقول لسانه ما ليس في قلبه، وبماذا وصف الحق سبحانه وتعالى المنافقين؟ قال تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] هذه أول صفات المنافقين في القرآن الكريم، يعلنون الإيمان وفي قلوبهم الكفر، ولذلك فإن إيمانهم كله تظاهر، إذا ذهبوا للصلاة لا تكتب لهم، لأنهم يتظاهرون بها، ولا يؤدونها عن إيمان، وإذا أدوا الزكاة، فإنها تكون عليهم حسرة، لأنهم ينفقونها وهم لها كارهون، لأنها في زعمهم نقص من مالهم. لا يأخذون عليها ثوابا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 في الآخرة، وإذا قتل واحد منهم في غزوة، انتابهم الحزن، والأسى، لأنهم أهدروا حياتهم ولم يقدموها في سبيل الله. وهكذا يكون كل ما يفعلونه شقاء بالنسبة لهم. أما المؤمن فحين يصلي أو يؤدي الزكاة أو يستشهد في سبيل الله فهو يرجو الجنة، وأما المنافقون فإنهم يفعلون كل هذا، وهم لا يرجون شيئا. . فكأنهم بنفاقهم قد حكم عليهم الله سبحانه وتعالى بالشقاء في الدنيا والآخرة، فلا هم في الدنيا لهم متعة المؤمن فيما يفعل في سبيل الله، ولا هم في الآخرة لهم ثواب المؤمن فيما يرجو من الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وتأتي الصفة الثانية من صفات المنافقين، وهي صفة تدل على غفلتهم وحمق تفكيرهم، فإنهم يحسبون أنهم بنفاقهم يخدعون الله سبحانه وتعالى، وهل يستطيع بشر أن يخدع رب العالمين؟ إن الله عليم بكل شيء، عليم بما نخفي وما نعلن، عليم بالسر وما هو أخفى من السر، وهل يوجد ما هو أخفى من السر؟ نقول نعم، السر هو ما أسررت به لغيرك، فكأنه يعلمه اثنان، أنت ومن أسررت إليه. ولكن ما هو أخفى من السر، ما تبقيه في نفسك ولا تخبر به أحدا، أنه يظل في قلبك لا تسر به لإنسان، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] فلا يوجد مخلوق، يستطيع أن يخدع خالقه، ولكنهم من غفلتهم، يحسبون أنهم يستطيعون خداع الله جل جلاله. وفي تصرفهم هذا لا يكون هناك سلام بينهم وبين الله. بل يكون هناك مقت وغضب. وهم في خداعهم يحسبون أيضا أنهم يخدعون الذين آمنوا، بأنهم يقولون أمامهم غير ما يبطنون، ولكن هذا الخداع شقاء عليهم، لأنهم يعيشون في خوف مستمر، وهم دائما في قلق أو خوف من أن يكشفهم المؤمنون، أو يستمعوا إليهم في مجالسهم الخاصة، وهم يتحدثون بالكفر ويسخرون من الإيمان، ولذلك إذا تحدثوا لابد أن يتأكدوا أولا من أن أحدا من المؤمنين لا يسمعهم، ويتأكدوا ثانيا من أن أحدا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 المؤمنين لن يدخل عليهم وهم يتحدثون، والخوف يملأ قلوبهم أيضا، وهم مع المؤمنين، فكل واحد منهم يخشى أن تفلت منه كلمة، تفضح نفاقه وكفره. وهكذا فلا سلام بينهم وبين المؤمنين. . والحقيقة أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم. فالله سبحانه وتعالى، يعلم نفاقهم، والمؤمنون قد يعلمون هذا النفاق، فإن لم يعلموه، فإن الله يخبرهم به، واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30] ألم يأت المنافقون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ليشهدوا أنه رسول الله ففضحهم الله أمام رسوله وأنزل قوله تعالى: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] جاء المنافقون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشهدون بصدق رسالته، والله سبحانه وتعالى يعلم أن هذه الشهادة حق وصدق، لأنه جل جلاله، يعلم أن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، صادق الرسالة، ولكنه في الوقت نفسه يشهد بأن المنافقين كاذبون. كيف؟ كيف يتفق كلام الله مع ما قاله المنافقون ثم يكونون كاذبين؟ نقول: لأن المنافقين قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فهم شهدوا بألسنتهم فقط أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول الله ولكن قلوبهم منكرة لذلك، مكذبة به، ولذلك فإن ما قاله المنافقون رغم أنه حقيقة إلا أنهم يكذبون، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، لأن الصدق هو أن يوافق الكلام حقيقة ما في القلب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وهؤلاء كذبوا، لأنهم في شهادتهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكونوا يعبرون عن واقع في قلوبهم، بل قلوبهم تُكَذِّبُ ما يقولون.. وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم يفضح الله سبحانه وتعالى فيها المنافقين وينبئ رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما يضمرونه في قلوبهم، إذن فخداعهم للمؤمنين، رغم أنه خداع بشر لبشر، إلا أنه أحيانا تفلت ألسنتهم، فتعرف حقيقتهم، وإذا لم يفلت اللسان، جاء البيان من الله سبحانه وتعالى ليفضحهم، وتكون حصيلة هذا كله، أنهم لا يخدعون أحدا، فالله يعلم سرهم وجهرهم، فمرة يعين الله المؤمنين عليهم فيكشفونهم، ومرة تفلت ألسنة المنافقين فيكشفون أنفسهم. إذن فسلوك المنافق، لا يخدع به إلا نفسه، وهو الخاسر في الدنيا والآخرة، عندما يؤدي عملا إيمانيا، فالله يعلم أنه نفاق، وعندما يحاول أن يخدع المؤمنين، ينكشف، والنتيجة أنهم يعتقدون بأنهم حققوا لأنفسهم نفعا، بينما هم لم يحققوا لأنفسهم إلا الخسران المبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فالله سبحانه وتعالى، شبه ما في قلوب المنافقين بأنه مرض، والمرض أولا يورث السقم، فكأن قلوبهم لا تملك الصحة الإيمانية التي تحيي القلب فتجعله قويا شابا، ولكنها قلوب مريضة، لماذا كانت مريضة؟ لقد أتعبها النفاق وأتعبها التنافر مع كل ما حولها، وأحست أنها تعيش حياة ملؤها الكذب، فاضطراب القلب، جعله مريضا، ولا يمكن أن يشفى إلا بإذن الله، وعلاجه هو الإيمان الحقيقي الصادق، ذلك الذي يعطيه الشفاء، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} [الإسراء: 82] إذن فالإيمان والقرآن هما شفاء القلوب، كلاهما بعيد عن قلوب هؤلاء المنافقين، فكأن المرض يزداد في قلوبهم مع الزمن، والله سبحانه وتعالى بنفاقهم وكفرهم يزيدهم مرضا. وهذه هي الصفة الثالثة للمنافقين. . أنهم أصحاب قلوب مريضة سقيمة، لا يدخلها نور الإيمان، ولذلك فهي قلوب ضعيفة، ليس فيها القوة اللازمة لمعرفة الحق. وهي قلوب خائفة من كل ما حولها، مرتعبة في كل خطواتها، مضطربة بين ما في القلب وما على اللسان، والمريض لا يقوى على شيء وكذلك هذه القلوب لا تقوى على قول الحق، ولا تقوى على الصدق، ولا ترى ما حولها، تلك الرؤية التي تتناسب وتتفق مع فطرة الإيمان، التي وضعها الله تعالى في القلوب، ولذلك إذا دخل المنافقون في معركة في صفوف جيش المسلمين. . فأول ما يبحثون عنه هو الهرب من المعركة، يبحثون عن مخبأ يختفون فيه، أو مكان لا يراهم فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 أحد، والله سبحانه وتعالى يصفهم بقوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 57] لماذا؟ لأنهم أصحاب قلوب مريضة، لا تقوى على شيء، ومرضها يجعلها تهرب من كل شيء، وتختفي. وليت الأمر يقتصر عند هذا الحد، ولكن ينتظرهم في الآخرة عذاب أليم، غير العذاب الذي عانوه من قلوبهم المريضة في الدنيا، فبما كانوا يكذبون على الله وعلى رسوله، ينتظرهم في الآخرة عذاب أليم أشد من عذاب الكافرين، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الفساد في الأرض هو أن تعمد إلي الصالح فتفسده، وأقل ما يطلب منك في الدنيا، أن تدع الصالح لصلاحه، ولا تتدخل فيه لتفسده، فإن شئت أن ترتقي إيمانيا، تأت للصالح، وتزد من صلاحه، فإن جئت للصالح وأفسدته فقد أفسدت فسادين، لأن الله سبحانه وتعالى، أصلح لك مقومات حياتك في الكون، فلم تتركها على الصلاح الذي خلقت به، وكان تركها في حد ذاته، بعدا عن الفساد، بل جئت إليها، وهي صالحة بخلق الله لها فأفسدتها، فأنت لم تستقبل النعمة الممنوحة لك من الله، بأن تتركها تؤدي مهمتها في الحياة، ولم تزد في مهمتها صلاحا، ولكنك جئت إلى هذه المهمة فأفسدتها. . فلو أن هناك بئرا يشرب منها الناس، فهذه نعمة لضرورة حياتهم، تستطيع أنت بأسباب الله في كون الله أن تأتي وتصلحها، بأن تبطن جدرانها بالحجارة، حتى تمنع انهيار الرمال داخلها، أو أن تأتي بحبل وإناء حتى تعين الناس على الوصول إلى مياهها، ولكنك إذا جئت وردمتها تكون قد أفسدت الصالح في الحياة. وهكذا المنافقون. . أنزل الله تعالى منهجا للحياة الطيبة للإنسان على الأرض، وهؤلاء المنافقون بذلوا كل ما في جهدهم لإفساد هذا المنهج، بأن تآمروا ضده وادعوا أنهم مؤمنون به ليطعنوا الإسلام في داخله. ولقد تنبه أعداء الإسلام، إلى أن هذا الدين القوي الحق، لا يمكن أن يتأثر بطعنات الكفر، بل يواجهها ويتغلب عليها. فما قامت معركة بين حق وباطل إلا انتصر الحق، ولقد حاول أعداء الإسلام أن يواجهوه سنوات طويلة، ولكنهم عجزوا، ثم تنبهوا إلى أن هذا الدين لا يمكن أن يهزم إلا من داخله، وأن استخدام المنافقين في الإفساد، هو الطريقة الحقيقية لتفريق المسلمين، فانطلقوا إلى المسلمين اسما ليتخذوا منهم الحربة التي يوجهونها ضد الإسلام، وظهرت مذاهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 واختلافات، وما أسموه العلمانية واليسارية وغير ذلك، كل هذا قام به المنافقون في الإسلام وغلفوه بغلاف إسلامي، ليفسدوا في الأرض ويحاربوا منهج الله. وإذا لفت المؤمنون نظرهم إلى أنهم يفسدون في الأرض، وطلبوا منهم أن يمتنعوا عن الإفساد، ادعوا أنهم لا يفسدون ولكنهم يصلحون، وأي صلاح في عدم اتباع منهج الله والخروج عليه بأي حجة من الحجج؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وهكذا يعطينا الله سبحانه وتعالى حكمه عليهم بأنهم كما أنهم يخدعون أنفسهم ولا يشعرون ويحسبون أنهم يخدعون الله سبحانه وتعالى والمؤمنين. كذلك فإنهم يفسدون في الأرض ويدعون أنهم مصلحون، ولكنهم في الحقيقة مفسدون لماذا؟ . . لأن في قلوبهم كفراً وعداء لمنهج الله، فلو قاموا بأي عمل يكون ظاهره الإصلاح، فحقيقته هي الإفساد، تماماً كما ينطقون بألسنتهم بما ليس في قلوبهم. والكون لا يصلح إلا بمنهج الله، فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق، وهو الذي أوجد، وهو أدرى بصنعته وبما يفسدها وبما يصلحها، لأنه هو الصانع، ولا يوجد من يعلم سر ما يصلح صنعته أكثر من صانعها. ونحن في المنهج الدنيوي إذا أردنا إصلاح شيء اتجهنا لصانعه؛ فهو الذي يستطيع أن يدلنا على الإصلاح الحقيقي لهذا الشيء، فإذا لم يكن صانعه موجوداً في البلدة نفسها اتجهنا إلى من دربهم الصانع على الإصلاح، أو إلى ما يسمونه «الكتالوج» الذي يبين لنا طريق الإصلاح، وبدون هذا لا نصلح، بل نفسد، والعجيب أننا نتبع هذه الطريقة في حياتنا الدنيوية، ثم نأتي إلى الإنسان والكون، فبدلاً من أن نتجه إلى صانعه وخالقه لنأخذ عنه منهج الإصلاح، وهو أدرى بصنعته، نتجه إلى خلق الله يضعون لنا المناهج التي تفسد، وظاهرها الإصلاح لكنها تزيد الأمور سوءا والغريب أننا نسمي هذا فلاحا، ونسميه تقدما. ولكن لماذا لا نتجه إلى الصانع أو الخالق، الذي أوجد وخلق؟ هو سبحانه وتعالى أدرى بخلقه وبما يصلحهم وما يفسدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ومادام الحق سبحانه وتعالى، قد حكم على المنافقين، بأنهم هم المفسدون فذلك حكم يقيني، وكل من يحاول أن يغير من منهج الله، أو يعطل تطبيقه بحجة الإصلاح، فهو مفسد وإن كان لا يشعر بذلك، لأنه لو أراد إصلاحا لاتجه إلى ما يصلح الكون، وهو المنهج السماوي الذي أنزله خالق هذا الكون وصانعه، وهذا المنهج موجود ومُبَلَّغٌ ولا يخفى على أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 والسفهاء في قصد المنافقين هم الفقراء، ولكن ما معنى السفه في اللغة: السفه معناه الطيش والحمق والخفة في تناول الأمور، فهل تنطبق صفة السفيه على المؤمنين، الذين آمنوا بالله، أو أنها تنطبق على أولئك الذين لم يؤمنوا بالله؟ إذا كنتم تعتقدون أن الذين آمنوا هم السفهاء فلماذا تدعون الإيمان كذبا، لتكونوا سفهاء؟ لاشك أن هناك تناقضاً موجوداً في كل تصرفات المنافقين. فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعوهم للإيمان، والمسلمون يدعونهم للإيمان، ولكنهم يصفون الذين آمنوا بأنهم سفهاء أي فقراء لا يملكون شيئاً، لأن سادة قريش لم يؤمنوا. . وهم يدعون أن الذين آمنوا، تصرفوا تصرفا أحمق، طائشاً، ولكن الغفلة هي المرض الذي يملأ قلوبهم لا يجعلهم ينتبهون إلى حقيقة مهمة، وهي أنهم يتظاهرون بالإيمان، ويدعون الإيمان ثم يصفون المؤمنين بالسفهاء، إذا كان هؤلاء سفهاء كما تدعون. فهل تتظاهرون بالإيمان لتصبحوا سفهاء مثلهم؟! إن المنطق لا يستقيم ويدل على سفاهة عقول المنافقين، أنَّ هذه العقول. لم تتنبه إلى أنها حينما وصفت المسلمين بالسفهاء، قد أدانت نفسها، لأن المنافقين يدعون أنهم مؤمنون، إذن فكل تصرفات المنافقين فيها تناقض. تناقض مع العقل والمنطق، هذا التناقض يأتي من تناقض ملكات النفس بعضها مع بعض. . فاللسان يكذب القلب. والعمل يكذب العقيدة. والتظاهر بالإيمان يحملهم مشقة الإيمان ولا يعطيهم شيئا من ثوابه. ولو كان لهم عقول، لتنبهوا إلى هذا كله، ولكنهم لا يشعرون وهم يمضون في هذا الطريق، طريق النفاق، إنهم يجسدون السفاهة بعينها، بكل ما تحمله من حمق واستخفاف، وعدم التنبه إلى الحقيقة، والرعونة التي يتصرفون بها، والله سبحانه وتعالى حين وصفهم بالسفهاء، كان وصفا دقيقاً، لحالتهم وطريقة حياتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وهكذا يرينا الحق سبحانه، أن كل منافق له أكثر من حياة يحرص عليها، والحياة لكي تستقيم، يجب أن تكون حياة واحدة منسجمة مع بعضها البعض، ولكن انظر إلى هؤلاء. . مع المؤمنين يقولون آمنا، ويتخذون حياة الإيمان ظاهرا، أي أنهم يمثلون حياة الإيمان، كما يقوم الممثل على المسرح بتمثيل دور شخصية غير شخصيته تماماً. . حياتهم كلها افتعال وتناقض، فإذا بعدوا عن الذين آمنوا، يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ} . وانظر إلى دقة الأداء القرآني، الشيطان هو الدس الخفي، الحق ظاهر وواضح، أما منهج الشيطان وتآمره فيحدث في الخفاء لأنه باطل والنفس لا تخجل من حق أبدا، ولكنها تخشى وتخاف وتحاول أن تخفي الباطل. ولنضرب لذلك مثلا بسيطا، رجل يجلس مع زوجته في منزله، وطرق الباب طارق، ماذا يحدث؟ يقوم الرجل بكل اطمئنان، ويفتح الباب ليرى من الطارق، فإن وجده صديقاً أو قريبا أكرمه ورحب به وأصر على أن يدخل ليضيفه. وتقوم الزوجة بإعداد الطعام أو الشراب الذي سيقدم للضيف، نأخذ هذه الحالة نفسها إذا كان الإنسان مع زوجة غيره في شقته وطرق الباب طارق، يحدث ارتباك عنيف، ويبحث الرجل عن مكان يخفي فيه المرأة التي معه، أو يبحث عن باب خفي ليخرجها منه، أو يحاول أن يطفئ الأنوار ويمنع الأصوات لعل الطارق يحس أنه لا يوجد أحد في المكان فينصرف، وقبل أن يُخْرِجَ تلك المرأة المحرمة عليه، فإنه يفتح الباب بحرص، وينظر يمينا ويسارا ليتأكد هل يراه أحد، وعندما لا يجد أحدا يسرع بدفع المرأة إلى الخارج، لأنها إثم يريد أن يتخلص منه، وإذا نزل ليوصلها يمشي بعيدا عنها، ويظل يرقب الطريق، ليتأكد من أن أحدا لم يره، وعندما يركبان السيارة ينطلقان بأقصى سرعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 هذا هو الفرق بين منهج الإيمان، ومنهج الشيطان، الحادثة واحدة، ولكن الذي اختلف هو الحلال والحرام. انظر كيف يتصرف الناس في الحلال. . في النور. . في الأمان، وكيف يتصرفون في الحرام ومنهج الشيطان في الظلام وفي الخفية ويحرصون على ألا يراهم أحد، ومن هنا تأتي دقة التعبير القرآني. . {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ} . إن منهج الشيطان يحتاج إلى خلوة، إلى مكان لا يراك فيه أحد، ولا يسمعك فيه أحد، لأن العلن في منهج الشيطان يكون فضيحة، ولذلك تجد غير المستقيم يحاول جاهدا أن يستر حركته في عدم الاستقامة، ومحاولته أن يستتر هي شهادة منه بأن ما يفعله جريمة وقبح، ولا يصح أن يعلمه أحد عنه، ومادام لا يصح أن يراه أحد في مكان ما، فاعلم أنه يحس أن ما يفعله في هذا المكان هو من عمل الشيطان الذي لا يقره الله، ولا يرضى عنه. ولابد أن نعلم أن القيم، هي القيم، حتى عند المنحرف، وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا} معناها أنهم عندما يتظاهرون بالإيمان يأخذون جانب العلن، بل ربما افتعلوه، وكان المفروض أن يكون المقابل عندما يخلون إلى شياطينهم أن يقولوا: لم نؤمن. وهناك في اللغة جملة اسمية وجملة فعلية، الجملة الفعلية، تدل على التجدد، والجملة الاسمية تدل على الثبوت، فالمنافقون مع المؤمنين يقولون آمنا، إيمانهم غير ثابت، متذبذب، وعندما يلقون الكافرين، لو قالوا لم نؤمن، لأخذت صفة الثبات، ولكنهم في الفترة بين لقائهم بالمؤمنين، ولقائهم بالكافرين، الكفر متجدد، لذلك قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أن هؤلاء المنافقين قوم لا حول لهم ولا قوة، ولكن الله سبحانه وتعالى، وهو القادر القوي حينما يستهزئ بهم يكون الاستهزاء أليماً، وإذا كان المنافق، قد أظهر بلسانه ما ليس في قلبه، فإن الله سبحانه وتعالى يعامله بمثل فعله، فإذا كان له ظاهر وباطن، يعامله في ظاهر الدنيا، معاملة المسلمين، وفي الآخرة يوم تبلى السرائر يجعله في الدرك الأسفل من النار، لا يسويه بالكافر لأن ذنب المنافق أشد. {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} والاستهزاء هو السخرية، فهم يأتون يوم القيامة محاولين أن يتمسكوا بالظاهر، فيظهر الله سبحانه وتعالى لهم باطنهم. والحق سبحانه وتعالى يقول: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] . والهمزة هو الذي يسخر من الناس ولو بالإشارة. . يرى إنسانا مصابا بعاهة في قدمه، يمشي وهو يعرج فيحاول أن يقلده بطريقة تثير السخرية، إما بالإشارة وإما بالكلام، وهناك همز وهمزه. . الهمز الاستهزاء والسخرية من الناس، علامة عدم الإيمان، لأننا كلنا مخلوقون من إله واحد، فهذه الصفة التي سخرت فيها من إنسان أعرج مثلا، لا عمل له فيها، ولا حول له ولا قوة. . والإنسان لم يصنع نفسه، والحقيقة أنك تسخر من صنع الله، والذي يسخر من خلق الله إنسان غبي لأنه سخر من خلق الله في عيب، ولم يقدر ما تفضل الله به عليه، كما أنه سخر من عيب ولم يفطن إلى أن الحق سبحانه وتعالى قد أعطى ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الإنسان خصالا ومميزات ربما لم يعطها له، والله سبحانه وتعالى يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ} [الحجرات: 11] . إن مجموع كل إنسان، يساوي مجموع كل إنسان آخر، وذلك هو عدل الله، فإذا كنت أحسن من إنسان في شيء فابحث عن النقص فيك. فإن استهزأت بمؤمن في شيء، فالاستهزاء غير مفصول عن صنعة الله، إذن فمن المنطق عندما قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أن يرد الله عليهم {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي يزيدهم في هذا الطغيان، لأن المد هو أن تزيد الشيء، ولكن مرة تزيد في الشيء من ذاته، ومرة تزيد عليه من غيره، قد تأتي بخيط وتفرده إلى آخره، وقد تصله بخيط آخر، فتكون مددته من غيره، فالله يزيدهم في طغيانهم. وقوله تعالى «يعمهون» العمه يختلف عن العمى، والخلاف في الحرف الأخير، العمى عمى البصر، والعمه عمى البصيرة، ويعمهون أي يتخبطون، لأن العمه ينشأ عنه التخبط سواء التخبط الحسي، من عمى البصر، أو التخبط في القيم ومنهج الحياة من عمى البصيرة. والله تعالى يقول: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} فكأنما العمى المادي، قد لا يكون، ولكن يكون هناك عمى البصيرة، واقرأ قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} [طه: 125 - 126] . فكأن عمى البصيرة في الدنيا، يعمي بصر الإنسان، عن رؤية آيات الله في كونه، ويعميه عن الإيمان والمنهج. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 يعطينا الحق سبحانه وتعالى صفة أخرى من صفات المنافقين، فيصفهم بأنهم الذين اشتروا الضلالة بالهدى. ومادام هناك شراء، فهناك صفقة، تتطلب مشتريا وبائعا، وقد كانت السلعة في الماضي تشترى بسلعة أخرى، أما الآن فإن كل شيء يشترى بالمال، ماذا اشتروا؟ إن هؤلاء المنافقين اشتروا الضلالة، واشتروها بأي ثمن؟ {. . اشتروها بالهدى} الباء في اللغة تدخل على المتروك، عندما تشتري شيئا تترك ثمنه، إذن كأن هؤلاء قد تركوا الهدى واشتروا الضلالة، ولكن هل كان معهم هدى ساعة الصفقة؟ . إن الحال يقتضي أن يكون معهم هدى، كأن يهتدي إنسان ثم يجد أن الهدى لا يحقق له النفع الدنيوي الذي يطلبه فيتركه ليشتري به الضلال ليحقق به ما يريد، والهدى الذي كان معهم، قد يكون هدى الفطرة، فكأن هؤلاء كان يمكنهم أن يختاروا الهدى فاختاروا الضلالة. والله سبحانه وتعالى يهدي كل الناس، هدى دلالة، فمن اختار الهدى يزده. واقرأ قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] وقول الحق {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} التجارة بيع وشراء، الشاري مستهلك، والبائع قد يكون منتجا، أو وسيطا بين المنتج والمستهلك. ما حظ البائع من البيع والشراء؟ أن يكسب فإذا ما كسب قيل ربحت تجارته. وإذا لم يكسب ولم يخسر، أو إذا خسر ولم يكسب، ففي الحالين لا يحقق ربحا، ونقول ما ربحت تجارته. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 فقوله تعالى {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} يدل على أنهم خسروا كل شيء لأنهم لم يربحوا، فكأنهم لم يحققوا شيئا له فائدة، وخسروا الهدى، أي خسروا الربح ورأس المال. ما ربحت تجارتهم ربما يكونون لم يكسبوا ولم يخسروا، ولكن هم قدموا الهدى ثمنا للضلال فلم يربحوا وضاع منهم الهدى، أي رأس مالهم. . ونفسية المنافق إذا أردت أن تحددها، فهو إنسان بلا كرامة، بلا رجولة لا يستطيع المواجهة، بلا قوة، يحاول أن يمكر في الخفاء، ولذلك تكون صورته حقيرة أمام نفسه، حتى لو استطاع أن يخفي عيوبه عن الناس، فيكفي أنه كاذب أمام نفسه لتكون صورته حقيرة أمام نفسه، وفي ذلك يقول الشاعر: إذا أنا لم آت الدنية خشية ... من الناس كان الناس أكرم من نفسي كفى المرء عارا أن يرى عيب نفسه ... وإن كان في كُنٍّ عن الجن والأنس فالمهم رأيك في نفسك. . والتمزق الذي عند المنافق أنه يريد أن يخفي عيوبه عن الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقرب صفات التمزق في المنافقين إلى فهمنا، ولذلك فهو يضرب لنا الأمثال، والأمثال جمع مثل وهو الشبيه الذي يقرب لنا المعنى ويعطينا الحكمة، والأمثال باب من الأبواب العريقة في الأدب العربي. فالمثل أن تأتي بالشيء الذي حدث وقيل فيه قولة موجزة ومعبرة، رأى الناس أن يأخذوا هذه المقولة لكل حالة مشابهة. ولنضرب مثلا لذلك، ملك من الملوك، أراد أن يخطب فتاة من فتيات العرب، فأرسل خاطبة اسمها عصام لِترى هذه العروس وتسأل عنها وتخبره، فلما عادت قال لها ما وراءك يا عصام؟ أي بماذا جئت من أخبار، قالت: له أبدي المخض عن الزبد. المخض هو أن تأتي باللبن الحليب وتخضه في القربة حتى ينفصل الزبد عن اللبن، فصار الاثنان السؤال والجواب يضربان مثلا. تأتي لمن يجيئك تنتظر منه أخبارا فتقول له: ما وراءك يا عصام. ولا يكون اسمه «عصام» . . ولم ترسله لاستطلاع أخبار، بينما تريد أن تسمع ما عنده من أخبار. وحينما تريد مثلا. . أن تصور تنافر القلوب. . وكيف أنها إذا تنافرت لا تلتئم أبدا. . ويريد الشاعر أن يقرب هذا المعنى فيقول: إن القلوب إذا تنافر ودها ... مثل الزجاجة كسرها لا يشعب (أي لا يجبر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وساعة تنكسر الزجاجة لا تستطيع اصلاحها. . ولكي يسهل هذا المعنى عليك وتفهمه في يسر وسهولة. . فإنك لا تستطيع أن تصور أو تشاهد معركة بين قلبين. . لأن هذه مسألة غيبية. . فتأتي بشيء مشاهد وتضرب به المثل. . وبذلك يكون المعنى قد قرب. . لأنك شبهته بشيء محسوس. . تستطيع أن تفهمه وتشاهده. . ولقد استخدم الله سبحانه وتعالى الأمثال في القرآن الكريم في أكثر من موضع. . ليقترب من أذهاننا معنى الغيبيات التي لا نعرفها ولا نشاهدها. . ولذلك ضرب لنا الأمثال في قمة الإيمان. . وحدانية الله سبحانه وتعالى. . وضرب لنا المثل بنوره جل جلاله. . الذي لا نشهده وهو غيب عنا. . وضرب لنا الأمثال بالنسبة للكفار والمنافقين. . لنعرف فساد عقيدتهم ونتنبه لها. . وضرب لنا الأمثال فيما يمكن أن يفعله الكفر بالنعمة. . والطغيان في الحق. . وغير ذلك من الأمثال. . قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} [الإسراء: 89] وقد ضرب الله جل جلاله لنا الأمثال في الدنيا وفي الآخرة، وفي دقة الخلق. . وقمة الإيمان. . ومع ذلك فإن الناس منصرفون عن حكمة هذه الأمثال. . كافرون بها. . مع أن الحق تبارك وتعالى. . ضربها لنا لتقرب لنا المعنى. . تشبيها بماديات نراها في حياتنا الدنيا. . وكان المفروض أن تزيد هذه الأمثال الناس إيمانا. . لأنها تقرب لهم معاني غائبة عنهم. . ولكنهم بدلا من ذلك ازدادوا كفرا!! ولابد قبل أن نتعرض للآية الكريمة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} . . أن نتحدث عن بعض الأمثال التي ضُربت في القرآن الكريم. . لنرى كيف أن الله سبحانه وتعالى حدثنا عن قضايا غيبية بمحسات دنيوية: ضرب الله تبارك وتعالى لنا مثلا بالقمة الإيمانية. . وهي أنه لا إله إلا الله. . وكيف أن هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى. . يجب أن نسجد له شكرا عليها. . لأن فيها وقاية لنا من شقاء. . ومع ذلك فإن الله تبارك وتعالى يريد بعباده الرحمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ولكن بعض الناس يريد أن يشقي نفسه فيشرك بالله جل جلاله. . وبدلا من أن يأخذ طريق الإيمان الميسر. . يأخذ طريق الكفر والنفاق والشرك بالله الذي يملك كل شيء في الدنيا والآخرة. . يقول الحق جل جلاله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] بهذه الصورة المحسة التي نراها. . ولا يختلف فيها اثنان. . يريد الله تبارك وتعالى أن يقرب إلى أذهاننا صورة العابد لله وحده، وصورة المشرك بالله. . ويعطينا المثل في عبد مملوك لشركاء. . رجل مملوك لعشرة مثلا. . وليس هؤلاء الشركاء العشرة متفقين. . بل هم متشاكسون أي أنهم مختلفون. . ورجل آخر مملوك لسيد واحد. . أيهما يكون مستريحا يعيش في رحمة؟ . . طبعا المملوك لسيد واحد في نعمة ورحمة. . لأنه يتبع أمرا واحدا ونهيا واحدا. . ويطيع ربا واحدا. . ويطلب رضا سيد واحد. . أما ذلك الذي يملكه شركاء حتى لو كانوا متفقين. . فسيكون لكل واحد منهم أمر ونهي. . ولكل واحد منهم طلب. . فما بالك إذا كانوا مختلفين؟ أحد الشركاء يقول له تعالَ. . والآخر يقول له لا تأت، وأحد الشركاء يأمره بأمر، والآخر يأمره بأمر مناقض. . ويحتار أيهما يرضي وأيهما يغضب؟ . . وهكذا تكون حياته شقاء وتناقضا. . إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقرب لنا الصورة. . في قضية هي قمة اليقين. . وهي الإيمان بالواحد الأحد. . يريدنا أن نلمس هذه الصورة. . بمثل نراه ونشهده. . وأن نرى فيض الله برحمته على عباده. . ويمضي الحق سبحانه ليلفتنا إلى أن نفكر قليلا في مثل يضربه لنا في القرآن الكريم: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فالحق تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة. . يطلب منا أن نفكر في مثل مادي محسوس. . أيهما خير؟ . . أذلك الصنم الذي يعبده الكفار وهو لا يأتي لهم بخير أبدا. . لأنه لا يستطيع أن ينفع نفسه فكيف يأتي بالخير لغيره. . بل هو عبء على من يتخذونه إلها. . فإنهم يجب أن يضعوه وأن يحملوه من مكان إلى آخر إذا أرادوا تغيير المعبد أو الرحيل. . وإذا سقط فتهشمت أجزاء منه. . فإنه يجب أن يصلحوها. . إذن فزيادة على أنه يأتي لهم بخير. . فإنه عبء عليهم يكلفهم مشقة. . ويحتاج منهم إلى عناية ورعاية. . أعبادة مثل هذا الصنم خير؟ أم عبادة الله سبحانه الذي منه كل الخير وكل النعم. . والذي يأمر بالعدل. . فلا يفضل أحدا من عباده على أحد. . والذي يعطي لعباده الصراط المستقيم. . الذي لا اعوجاج فيه. . والموصل إلى الجنة في الآخرة. . إن الله سبحانه وتعالى يشرح بهذا المثل غباء فكر المشركين الذين يعبدون الأصنام ويتركون عبادة الله تبارك وتعالى. وهكذا يعطينا هذان المثلان توضيحا لقضية الوحدانية والألوهية. . ثم يأتي الله سبحانه وتعالى بمثل آخر. . يضرب لنا مثلا لنوره. . هذا النور الإلهي الذي يضيء الدنيا والآخرة. . فيضيء القلوب المؤمنة. . إنه يريد أن يضرب لنا مثلا لهذا النور بشيء مادي محس. . فيقول جل جلاله: {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} [النور: 35] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 كأن الله سبحانه وتعالى. . يريدنا أن نعرف بتشبيه محس. . أن مثل نوره كمشكاة. . والمشكاة هي (الطاقة) . . وهي فجوة في الحائط بالبيت الريفي. . ونحن نضع المصباح في هذه الطاقة. . إذن المصباح ليس في الحجرة كلها. . ولكن نوره مركز في هذه الطاقة فيكون قويا في هذا الحيز الضيق. . ولكن المصباح في زجاجة. . تحفظه من الهواء من كل جانب. . فيكون الضوء أقوى. . صافيا لا دخان فيه. . كما أن الزجاج يعكس الأشعة فيزيد تركيزه. . والزجاجة غير عادية ولكنها: «كوكب دري» . . أي هي مضيئة بذاتها وكأنها كوكب. . ووقودها من شجرة مباركة يملؤها النور لا شرقية ولا غربية. . أي يملؤها النور من الوسط ويخرج صافيا. . والزيت مضيء بذاته دون أن تَمَسَّهُ النار. . فهي نور على نور. . أيكون جزء من هذه المشكاة ذات المساحة الصغيرة مظلما؟ . . أم تكون كلها مليئة بالنور القوي؟ . وهذا ليس نور الله تبارك وتعالى عن التشبيه والوصف، ولكنه مثل فقط للتقريب إلى الأذهان. . فكأن نور الله يضيء كل ركن وكل بقعة. . ولا يترك مكانا مظلما. . فهو نور على نور. . ولقد أراد أحد الشعراء أن يمدح الخليفة وكانت العادة أن يشبه الخليفة. . بالأشخاص البارزين ذوي الصفات الحسنة. . فقال: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس وكل هؤلاء الذين ضرب بهم الشاعر المثل كانوا مشهورين بهذه الصفات. . فعمرو كان مشهورا بالإقدام والشجاعة. . وحاتم كان مشهور بالسماحة. . وأحنف يضرب به المثل في الحلم. . وإياس شعلة في الذكاء. . وهنا قام أحد الحاضرين وقال: الأمير أكبر من كل شيء ممن شبهته بهم. . فقال أبو تمام على الفور: لا تنكروا ضَرْبي لَه مَنْ دُونَهُ ... مثلاً شَرُوداً في النَّدَى والباسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فاللهُ قَدْ ضَربَ الأقلَّ لنوره ... مثلاً من المِشْكَاةِ والنّبْراسِ فأعجب أحمد بن المعتصم والحاضرون من ذكائه وأمر بأن تضاعف جائزته. والله سبحانه وتعالى. . يضرب لنا المثل بما سيشهده المؤمنون في الجنة. . فيقول جل جلاله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15] هذه ليست الجنة. . ولكن هذا مثل يقرب الله سبحانه وتعالى لنا به الصورة بأشياء موجودة في حياتنا. . لأنه لا يمكن لعقول البشر أن تستوعب أكثر من هذا. . والجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. . ومن هنا فإنه لا توجد أسماء في الحياة تعبر عما في الجنة. . واقرأ قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] فإذا كانت النفس لا تعلم. . فلا توجد ألفاظ تعبر عما يوجد في الجنة. . والمثل متى شاع استعماله بين الناس سمي مثلا. . فأنت إذا رأيت شخصا مغترا بقوته. . وتريد أن تفهمه أنك أقوى منه تقول له. . إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا. . ولا توجد ريح ولا إعصار فيما يحدث بينكما. . وإنما المراد المعنى دون التقيد بمدلول الألفاظ. فالحق سبحانه وتعالى. . يريد أن يعطينا صورة. . عما في داخل قلوب المنافقين. . من اضطراب وذبذبة وتردد في استقبال منهج الله. . وفي الوقت نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ما يجري في القلوب غيب عنا. . وأراد الله أن يقرب هذا المعنى إلينا. . فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} . . أي حاول أن يوقد نارا. . والذي يحاول أن يوقد نارا. . لابد أن له هدفا. . والهدف قد يكون الدفء وقد يكون الطهي. . وقد يكون الضوء وقد يكون غير ذلك. . المهم أن يكون هناك هدف لإيقاد النار. . يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} . . ذلك أنهم في الحيرة التي تملأ قلوبهم. . كانوا قد سمعوا من اليهود أن زمن نبي جديد قد أتى. . فقرروا أن يؤمنوا به. . ولكن إيمانهم لم يكن عن رغبة في الإيمان. . ولكنه كان عن محاولة للحصول على أمان دنيوي. . لأن اليهود كانوا يتوعدونهم ويقولون أتى زمن نبي سنؤمن به ونقتلكم به قتل عاد وإرم. . فأراد هؤلاء المنافقون أن يتقوا هذا القتل الذي يتوعدهم به اليهود. . فتصوروا أنهم إذا أعلنوا أنهم آمنوا بهذا النبي نفاقا أن يحصلوا على الأمن. . إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة. . إنهم أوقدوا هذه النار. . لتعطيهم نورا يريهم طريق الإيمان. . وعندما جاء هذا النور بدلا من أن يأخذوا نور الإيمان انصرفوا عنه. . وعندما حدث ذلك ذهب الله بنورهم. . فلم يبق في قلوبهم شيء من نور الإيمان. . فهم الذين طلبوا نور الإيمان أولا. . فلما استجاب الله لهم انصرفوا عنه. . فكأن الفساد في ذاتهم. . وكأنهم هم الذين بدأوا بالفساد. . وساعة فعلوا ذلك ذهب الله بنور الإيمان من قلوبهم. ونلاحظ هنا دقة التعبير القرآني. . في قوله تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} ولم يقل ذهب الله بضوئهم. . مع أنهم أوقدوا النار ليحصلوا على الضوء. . ما هو الفرق بين الضوء والنور؟ . . إذا قرأنا قول الحق سبحانه وتعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} [يونس: 5] نجد أن الضوء أقوى من النور. . والضوء لا يأتي إلا من إشعاع ذاتي. . فالشمس ذاتية الإضاءة. . ولكن القمر يستقبل الضوء ويعكس النور. . وقبل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 تشرق الشمس تجد في الكون نورا. . ولكن الضوء يأتي بعد شروق الشمس. . فلو أن الحق تبارك وتعالى قال ذهب الله بضوئهم. . لكان المعنى أنه سبحانه ذهب بما يعكس النور. . ولكنه أبقى لهم النور. . ولكن قوله تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} . . معناها أنه لم يبق لهم ضوءا ولا نورا. . فكأن قلوبهم يملؤها الظلام. . ولذلك قال الله بعدها؛ {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} . . لنعلم أنه لا يوجد في قلوبهم أي نور ولا ضوء إيماني. . كل هذا حدث بظلمهم هم وانصرافهم عن نور الله. ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى. . لم يقل وتركهم في ظلام. . بل قال: «في ظلمات» . . أي أنها ظلمات متراكمة. . ظلمات مركبة لا يستطيعون الخروج منها أبدا. . من أين جاءت هذه الظلمات؟ . . جاءت لأنهم طلبوا الدنيا ولم يطلبوا الآخرة. . وعندما جاءهم نور الإيمان انصرفوا عنه فصرف الله قلوبهم. . مثلا إذا أخذنا قصة زعيم المنافقين عبد الله بن أُبَيِّ، نرى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل المدينة وأهلها يستعدون لتتويج عبد الله بن أبي ملكا عليها. . وعندما وصل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انصرف الناس عن عبد الله بن أبي إلى استقبال الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . فوصول الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ضيع على عبد الله بن أبي الْمُلْك. . ولقد كان من الممكن أن يؤمن. . وأن يلتمس النور من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ولو آمن حينئذ ربما أعطى في الآخرة ملكا دائما. . يفوق الملك الذي كان سيحصل عليه في الدنيا. . ولكن لأن في قلبه الدنيا وليس الدين. . ولأنه يريد رفعة في الدنيا. . ولا يريد جنة في الآخرة، فقد ملأ الحقد قلبه فكان ظلمة. . وملأ الحسد قلبه فكان ظلمة. . وملأت الحسرة قلبه فكانت ظلمة. . وملأت الكراهية والبغضاء قلبه فكانت ظلمة. . إذن هي ظلمات متعددة. . وهكذا في قلب كل منافق ظلمات متعددة. . ظلمة الحقد على المؤمنين وظلمة الكراهية لهم. . وظلمة تمني هزيمة الإيمان. . وظلمة تمني أن يصيبهم سوء وشر. . وظلمة التمزق والألم من الجهد الذي يبذله للتظاهر بالإيمان وفي قلوبهم الكفر. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 كل هذه ظلمات. . ولكن لا تحاول أن تأخذها بمقاييس عقلك. . والمفروض أن المثل هنا لتقريب المعنى. . لأنك إذا قرأت قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45] كيف يكون الحجاب مستورا؟ . . مع أن الحجاب هو الساتر الذي يستر شيئا عن شيء. . ولكن الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم. . أنه برغم أن الحجاب يستر شيئا عن شيء، فإن الحجاب نفسه مستور لا نراه. . وبعض العلماء يقولون: إن مستورا اسم مفعول. . وهو في معنى اسم الفاعل ساتر. . نقول لا. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [مريم: 61] مأتيا اسم مفعول واسم الفاعل آتى. . ويقول البعض وضع اسم المفعول مكان اسم الفاعل. . نقول أنك لم تفهم. . هل وعد الله يلح في طلب العبد. . أم أن العبد يلح في طلبه بعمله فكأنه ذاهب إليه. . والموعود هو المستفيد وليس الوعد. . إذن من دقة القرآن الكريم. . أنه يريد أن ينبهنا إلى أن الموعود هو الذي يسعى للقاء الوعد. . وليس الوعد هو الذي يطلب لقاء الموعود فيستخدم اسم الفاعل. فحين يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} . . نفى النور عنهم. . والنور لا علاقة له بالسمع ولا بالشم ولا باللمس. . ولكنه قانون البصر. . وانظر إلى دقة التعبير القرآني. . إذا امتنع النور امتنع البصر. . أي أن العين لا تبصر بذاتها. . ولكنها تبصر بانعكاس النور على الأشياء ثم انعكاسه على العين. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 واقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] فكأن الذي يجعل العين تبصر هو الضوء أو النور. . فإذا ضاع النور ضاع الإبصار. . ولذلك فأنت لا تبصر الأشياء في الظلام. . وهذه معجزة قرآنية اكتشفها العلم بعد نزول القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فالحق سبحانه وتعالى. . بعد أن أخبرنا أنه بظلم هؤلاء المنافقين لأنفسهم. . ذهب بنور الإيمان من قلوبهم فهم لا يبصرون آيات الله. . أراد أن يلفتنا إلى أنه ليس البصر وحده هو الذي ذهب. . ولكن كل حواسهم تعطلت. . فالسمع تعطل فهم صم. . والنطق تعطل فهم بكم. . والبصر تعطل فهم عمى. . وهذه هي آلات الإدراك في الإنسان. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] إذن كونهم في ظلمات لا يبصرون معناها أنها قد تعطلت وسائل الإدراك الأخرى؛ فآذانهم صُمَّتْ فهي لا تسمع منهج الحق، وألسنتهم تعطلت عن نقل ما في قلوبهم وأبصارهم لا ترى آيات الله في الكون إذن فآلات إدراكهم لهدى الله معطلة عندهم. . وقوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} . . أي لن تعود إليهم هذه الوسائل ليدركوا نور الله في كونه. . الإدراك غير موجود عندهم. . ولذلك فلا تطمعوا أن يرجعوا إلى منهج الإيمان أبدا. . لقد فسدت في قلوبهم العقيدة. . فلم يفرقوا بين ضر عاجل وما هو نفع آجل. . نور الهداية كان سيجعلهم يبصرون الطريق إلى الله. . حتى يسيروا على بينة ولا يتعثروا. . ولكنهم حينما جاءهم النور رفضوه وانصرفوا عنه. . فكأنهم انصرفوا عن كل ما يهديهم إلى طريق الله!! . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة. . أعطانا وصفا آخر من صفات المنافقين هو أن أدوات الإدراك التي خلقها الله جل جلاله معطلة عندهم. . ولذلك فإن الإصرار على هدايتهم وبذل الجهد معهم لن يأتي بنتيجة. . لأن الله تبارك وتعالى بنفاقهم وظلمهم عطل وسائل الهداية التي كان من الممكن أن يعودوا بها إلى طريق الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وقول الحق سبحانه وتعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء} . . الصيب هو المطر. . والله تبارك وتعالى ينزل الماء فتقوم به الحياة. . مصداقا لقوله جل جلاله: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] ومن البديهي أننا نعرف أن إنزال المطر. . هو من قدرة الله سبحانه وتعالى وحده. . ذلك أن عملية المطر فيها خلق بحساب. . وفيها عمليات تتم كل يوم بحساب أيضا. . وفيها عوامل لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى. . فمسألة المطر أعدت الأرض لها حين الخلق. . فكانت ثلاثة أرباع الأرض من الماء والربع من اليابسة. . لماذا؟ من حِكَمِ الله في هذا الخلق أن تكون عملية البخر سهلة وممكنة. . ذلك أنه كلما اتسع سطح الماء يكون البخر أسهل. . وإذا ضاق السطح تكون عملية البخر أصعب. . فإذا جئنا بكوب مملوء بالماء ووضعناه في حجرة مغلقة يوما. . ثم عدنا إليه نجد أن حجم الماء نقص بمقدار سنتيمتر أو أقل. . فإذا أخذنا الماء الذي في هذا الكوب وقذفناه في الحجرة. . فإنه يختفي في فترة قصيرة. . لماذا؟ .؛ لأن سطح الماء أصبح واسعا فتمت عملية البخر بسرعة. والله سبحانه وتعالى حين خلق الأرض. . وضع في الخلق حكمة المطر في أن تكون مساحة الماء واسعة لتتم عملية البخر بسهولة. . وجعل أشعة الشمس التي تقوم بعملية البخر من سطح الماء. . وتم ذلك بحساب دقيق. . حتى لا تغرق الأمطار الأرض أو يحدث فيها جفاف. . ثم سخر الريح لتدفع السحاب إلى حيث يريد الله أن ينزل المطر. . وقمم الجبال الباردة ليصطدم بها السحاب فينزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 المطر. . كل هذا بحساب دقيق في الخلق وفي كل مراحل المطر. . ومادام الماء هو الذي به الحياة على الأرض. . فقد ضرب الله لنا به المثل كما ضرب لنا المثل بالنار وضوئها. . فكلها أمثلة مادية لتقرب إلى عقولنا ما هو غيب عنا. . فالماء يعطينا الحياة. . لكن هؤلاء المنافقين. لم يلتفوا إلى هذا الخير. الذي ينزل عليهم من السماء من غير تعب أو جهد منهم. بل التفتوا إلى أشياء ثانوية، كان من المفروض أن يرحبوا بها لأنها مقدمات خير لهم. فالمطر قبل أن ينزل من السماء لابد أن يكون هناك شيء من الظلمة في السحاب الذي يأتي بالمطر. فيحجب أشعة الشمس إن كنا نهارا. ويخفي نور القمر والنجوم إن كنا ليلا. هذه الظلمة مقدمات الخير والماء. . إنهم لم يلتفتوا إلى الخير الذي ملأ الله به سبحانه وتعالى الأرض. بل التفتوا إلى الظلمة فنفروا من الخير. . كذلك صوت الرعد ونور البرق. الرعد يستقبله الإنسان بالأذن وهي آلة السمع. والبرق تستقبله العين. . وصوت الرعد قوي، أقوى من طاقة الأذن. ولذلك عندما يسمعه الإنسان يفزع، ويحاول أن يمنع استقبال الأذن له، بأن يضع أنامله في أذنيه. وهؤلاء المنافقون لم يضعوا الأنامل. ولكن كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم} ولم يقل أناملهم. وذلك مبالغة في تصوير تأثير الرعد عليهم. فكأنهم من خوفهم وذعرهم يحاول كل واحد منهم أن يدخل كل إصبعه في أذنه. ليحميه من هذا الصوت المخيف. فكأنهم يبالغون في خوفهم من الرعد. ونلاحظ هنا أن الحديث ليس عن فرد واحد، ولكن عن كثيرين. . لأنه سبحانه وتعالى يقول «أصابعهم» نقول أن الأمر لجماعة يعني أمراً لكل فرد فيها، فإذا قال المدرس للتلاميذ أخرجوا أقلامكم، فمعنى ذلك أن كل تلميذ يخرج قلمه. . وإذا قال رئيس الجماعة اركبوا سياراتكم، فمعنى ذلك أن كل واحد يركب سيارته. . لذلك فإن معنى {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم} أن كل واحد منهم يضع إصبعيه في أذنيه. . لماذا يفعلون ذلك؟ {أنهم يفعلونه خوفا من الموت. لأن الرعد والبرق يصاحبهما الصواعق أحيانا، ولذلك فإنهم من مبالغتهم في الخوف يحس كل واحد منهم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 صاعقة ستقتله. . فكأنهم يستقبلون نعمة الله سبحانه وتعالى بغير حقيقتها. . هم لا يرون النعمة الحقيقية في أن هذا المطر يأتي لهم بعوامل استمرار الحياة. ولكنهم يأخذون الظاهر في البرق والرعد. وكذلك المنافقون. . لا يستطيع الواحد منهم أن يصبر على شهوات نفسه ونزواتها. . إنه يريد ذلك العاجل ولا ينظر إلى الخير الحقيقي الذي وعد الله به عباده المؤمنين في الآخرة. . وهو ينظر إلى التكاليف كأنها شدة ومسألة تحمل النفس بعض المشاق. ويغفل عن حقيقة جزاء التكاليف في الآخرة. وكيف أنها ستوفر لهم النعيم الدائم. . تماما كما ينظر الإنسان إلى المطر على أنه ظلمة ورعد وبرق، وينسى أنه بدون هذا المطر من المستحيل أن تستمر حياته. . هم يأخذون هذه الظواهر على أنها كل شيء. بينما هي في الحقيقة تأتي لوقت قصير وتختفي، فهي قصيرة كالحياة الدنيا، وقتية. ولكن نظرتهم إليها وقتية ومادية لأنهم لا يؤمنون إلا بالدنيا وغفلوا عن الآخرة. . غفلوا عن ذلك الماء التي يبقى فترة طويلة، وتنبهوا إلى تلك الظواهر الوقتية التي تأتي مع المطر فخافوا منها وكان خوفهم منها يجعلهم لا يحسون بما في المطر من خير. والمنافقون يريدون أن يأخذوا خير الإسلام دون أن يقوموا بواجبات هذا الدين} ! ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى قضية هامة. وهي أن خوفهم من زوال متع الدنيا ونفوذها لن يفعل لهم شيئا. لأن الله محيط بالكافرين. . والإحاطة معناها السيطرة التامة على الشيء بحيث لا يكون أمامه وسيلة للإفلات، وقدرة الله سبحانه وتعالى محيطة بالكافرين وغير الكافرين. . إذن عدم التفاتهم للنفع الحقيقي، وهو منهج الله، لا يعطيهم قدرة الإفلات من قدرة الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن البرق الذي هو وقتي وزمنه قليل. هو الذي يسترعي انتباههم. ولو آمنوا لأضاء نور الإيمان والإسلام طريقهم. ولكن قلوبهم مملوءة بظلمات الكفر فلا يرون طريق النور. . والبرق يخطف أبصارهم، أي يأخذها دون إرادتهم. فالخطف يعني أن الذي يخطف لا ينتظر الإذن، والذي يتم الخطف منه لا يملك القدرة على منع الخاطف. والخطف غير الغصب. فالغصب أن تأخذ الشيء برغم صاحبه. ولكن. . ما الفرق بين الأخذ والخطف والغصب؟ . الأخذ أن تطلب الشيء من صاحبه فيعطيه لك. أو تستأذنه. أي تأخذ الشيء بإذن صاحبه. والخطف أن تأخذه دون إرادة صاحبه ودون أن يستطيع منعك. والغصب أن تأخذ الشيء رغم إرادة صاحبه باستخدام القوة أو غير ذلك بحيث يصبح عاجزا عن منعك من أخذ هذا الشيء. ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى. إذا دخل طفل على محل للحلوى وخطف قطعة منها، يكون صاحب المحل لا قدرة له على الخاطف لأن الحدث فوق قدرات المخطوف منه، فهو بعيد وغير متوقع للشيء، فلا يستطيع منع الخطف. . أما الغصب فهو أن يكون صاحب المحل متنبها ولكنه لا يملك القدرة على منع ما يحدث، وإذا حاول أن يقاوم. . فإن الذي سيأخذ الشيء بالرغم عنه لابد أن يكون أقوى منه. أي أن قوة المُغْتَصِب، تكون أقوى من المُغْتَصَب منه. وقوله تعالى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} . لابد أن نتنبه إلى قوله تعالى «يكاد» أي يكاد أو يقترب البرق من أن يخطف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أبصارهم. وليس للإنسان القدرة أن يمنع هذا البرق من أن يأخذ انتباه البصر. وقوله تعالى {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ} . أي أنهم يمشون على قدر النور الدنيوي. الذي يعطيه لهم البرق. فلا نور في قلوبهم. ولذلك إذا أظلم عليهم توقفوا، لأنه لا نور لهم. وقوله تعالى {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} . يدعي بعض المستشرقين أن ذلك يتعارض مع الآية الكريمة التي تقول {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} كيف يكونون صما بكما عميا. . أي أن منافذ الإدراك عندهم لا تعمل، ونحن هنا نتحدث عن العمى الإيماني، ثم يقول تبارك وتعالى {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} مع أنهم صم وبكم وعمي؟ . . نقول أن قول الحق سبحانه وتعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أي لا يرون آيات الله ويقين الإيمان، ولا يسمعون آيات القرآن ويعقلونها. . إذن فوسائل إدراكهم للمعنويات تتعطل. ولكن وسائل إدراكهم بالنسبة للمحسات تبقى كما هي. فالمنافق الذي لا يؤمن بيوم القيامة، لا يرى ذلك العذاب الذي ينتظره في الآخرة. ولو شاء الله سبحانه وتعالى أن يذهب بسمعهم وأبصارهم. بالنسبة للأشياء المحسة. لاستطاع لأنه قادر على كل شيء، ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ ذلك. حتى لا يأتوا مجادلين في الآخرة، من أنهم لو كان لهم بصر لرأوا آيات الله. ولو كان لهم سمع لتدبروا القرآن. فأبقى الله لهم أبصارهم وأسماعهم. لتكون حجة عليهم، بأن لهم بصرا ولكنهم انصرفوا عن آيات الله إلى الأشياء التي تأتيهم بفائدة عاجلة في الدنيا مهما جاءت بغضب الله. وأن لهم سمعا يسمعون به كل شيء من خطط المؤامرات على الإسلام. وضرب الإيمان وغير ذلك. فإذا تليت عليهم آيات الله فأنهم لا يسمعونها. وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً} [محمد: 16] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أي أنهم يسمعون ولا يعقلون ولا يدخل النور إلى قلوبهم، فكأنهم صم عن آيات الله لا يسمعونها. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا مثل المنافقين بأنهم لا يلتفتون إلى القيم الحقيقية في الحياة. ولكنهم يأخذون ظاهرها فقط. يريدون النفع العاجل، وظلمات قلوبهم. لا تجعلهم يرون نور الإيمان. وإنما يبهرهم بريق الدنيا مع أنه زائل ووقتي. فيخطف أبصارهم. ولأنه لا نور في قلوبهم، فإذا ذهبت عنهم الدنيا، تحيط بهم الظلمات من كل مكان لأنهم لا يؤمنون بالآخرة. مع أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لذهب بسمعهم وأبصارهم، لأنهم لا يستخدمونها الاستخدام الإيماني المطلوب. والمفروض أن وسائل الإدراك هذه. تزيدنا إيمانا. . ولكن هؤلاء لا يرون إلا متاع الدنيا. ولا يسمعون إلا وسوسة الشيطان، فالمهمة الإيمانية لوسائل الإدراك توقفت، وكأن هذه الوسائل غير موجودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 بعد أن حدثنا الله سبحانه وتعالى عن صفات المنافقين في ثلاث عشرة آية وأعطانا أوصافهم الظاهرة. وأعطانا أمثلة لما يحدث في قلوبهم كي يعرفهم المؤمنون ظاهرا وباطنا. ويحذروهم ولا يأمنوا لهم. بين لنا كيف أن المنافقين لم يكفروا بالله كإله فقط. ويستروا وجوده، ولكن كفروا به كرب. والرب عطاؤه مكفول لكل من خلق مؤمنهم وكافرهم، فهو سبحانه وتعالى الذي استدعاهم للوجود وخلقهم. ولذلك فإنه سبحانه يضمن لهم رزقهم وحياتهم. والله سبحانه وتعالى لا يحرم خلقا من خلقه من عطاء ربوبيته في الدنيا. فالشمس تشرق على المؤمن والكافر. والمطر ينزل على من قال لا إله إلا الله ومن ستر وجوده تعالى: والهواء يتنفس به ذلك الذي يقيم الصلاة والذي لم يركع ركعة في حياته. . والطعام يأكله الذي يحب الله والذي يكفر بنعم الله. . ذلك أن هذه عطاءات ربوبية يعطيها الله تعالى لكل خلقه في الدنيا. . أما عطاءات الألوهية، فهي للمؤمنين في الدنيا والآخرة. فالله سبحانه وتعالى يلفت انتباه خلقه إلى أن عطاء الربوبية من الله سبحانه وتعالى لهم يكفي ليؤمنوا بالله ويعبدوه. والحق سبحانه وتعالى حينما يخاطب الناس في القرآن الكريم، ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلابد أن يكون الخطاب للناس في كل زمان ومكان. منذ نزول القرآن الكريم إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وخطاب الله سبحانه وتعالى خاص بقضية الإيمان في القمة، وهي الخضوع لإله واحد لا شريك له. وقوله تعالى {الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} معناه أن من مقتضيات العبادة. أن الله هو خالق الناس جميعا. وليس في قضية الخلق كما قلنا شبهة؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق نفسه، أو خلق هذا الكون، بل إن الحق سبحانه وتعالى يطلب منا أن نحترم السببية المباشرة في وجودنا؛ فالأب والأم هنا سبب في وجود الإنسان. فنجد الله سبحانه وتعالى يقول: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء: 23] وهكذا نرى أن الحق قد احترم السببية في الموجد، مع أنه سبحانه وتعالى الموجد الذي خلق كل شيء. ولكن الله يحترم عمل الإنسان. مع أنه سبب فقط، فالمال هو مال الله، يعطيه لمن يشاء. لكننا نجد الحق سبحانه وتعالى هو يحث على الصدقة يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] فكأنه سبحانه احترم عمل الإنسان في الحصول على المال، رغم أن المال مال الله. فقال وهو الخالق الأعظم: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} وهكذا تتجلى رحمة الحق بالخلق. الله يقول: «ولَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» نتقي ماذا؟ نتقي صفات الجلال في الله. فالله سبحانه وتعالى له صفات جلال وصفات جمال، صفات الجلال هي «الجبار والقهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 والمتكبر والقوي والقادر والمقتدر والضار» وغيرها من صفات الجلال. فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية حتى لا نغضب الله، فيعاملنا بمتعلقات صفات جلاله، وأن نتمسك بصفات جمال الله: الرحيم الودود، الغفار، التواب، فإذا نجحنا في ذلك كان لنا نجاة من النار التي هي أحد جنود الله، ومتعلقات جلاله. على أننا لابد أن نتنبه إلى أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول «يا أيها الناس» إنما يخاطب كل الناس، فإذا أراد الحق سبحانه وتعالى مخاطبة المؤمنين قال: «يا أيها الذين آمنوا» أي يا أيها الذين آمنتم بالله إلها، ودخلتم معه في عقد إيماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فبعد أن بين لنا الحق سبحانه وتعالى أن عطاء ربوبيته الذي يعطيه لخلقه جميعا، المؤمن والكافر، كان يكفي لكي يؤمن الناس، كل الناس. . أخذ يبين لنا آيات من عطاء الربوبية. ويلفتنا إليها لعل من لم يؤمن عندما يقرأ هذه الآيات يدخل الإيمان في قلبه. فيلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى خلق الأرض في قوله تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} . والأرض هي المكان الذي يعيش في الناس ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه خلق الأرض أو أوجدها. إذن فهي آية ربوبية لا تحتاج لكي نتنبه إليها إلى جهد عقلي. لأنها بديهات محسومة لله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: «فراشا» توحي بأنه أعد الأرض إعداداً مريحاً للبشر. كما تفرش على الأرض شيئا، تجلس عليه أو تنام عليه، فيكون فراشا يريحك. ونحن نتوارث الأرض جيلا بعد جيل. وهي تصلح لحياتنا جميعاً. ومنذ أن خلقت الأرض إلى يوم القيامة. ستظل فراشا للإنسان. قد يقول بعض الناس أنك إذا نمت على الأرض فقد تكون غير مريحة تحتك فيها حصى أو غير ذلك مما يضايقك. نقول أن الإنسان الأول كان ينام عليها مستريحا. . إذن فضرورة النوم ممكنة على الأرض. وعندما تقدمت الحضارة وزادت الرفاهية ظلت الأرض فراشاً رغم ما وجد عليها من أشياء لينة. فكأن الله تعالى. قد أعدها لنا إعداداً يتناسب مع كل جيل. فكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 جيل رفه في العيش بسبب تقدم الحضارة كشف الله سبحانه من العلم ما يطوع له الأرض ويجعلها فراشاً. ونلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في آية أخرى يقول: {جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداًَ} [الزخرف: 10] والمهد هو فراش الطفل، ولابد أن يكون مريحا لأن الطفل إذا وجد في الفراش أي شيء يتعبه. فإن لا يملك الإمكانات التي تجعله يريحه، ولذلك تمهد الأم لطفلها مكان نومه، حتى ينام نوماً مريحاً. ولكن الذي يمهد الأرض لكل خلقه هو الله سبحانه وتعالى. يجعلها فراشاً لعباده. وإذا قرأت قوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} [الملك: 15] فإن معنى ذلك أن الحق سبحانه جعل الأرض مطيعة للإنسان، تعطيه كل ما يحتاج إليه. ويأتي الحق سبحانه وتعالى إلى السماء فيقول: «والسماء بناءً» والبناء يفيد المتانة والتماسك. أي أن السماء وهي فوقك لا نرى شيئا يحملها حتى لا تسقط عليك. إنها سقف متماسك متين. . ويؤكد الحق هذا المعنى بقوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] وفي آية أخرى يقول: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 والهدف من هذه الآيات كلها. أن نطمئن ونحن نعيش على الأرض أن السماء لن تتساقط علينا لأن الله يحفظها. إذن من آيات الحق سبحانه وتعالى في الأرض أنه جعلها فراشاً أي ممهدة ومريحة لحياة الإنسان. وحفظ السماء بقدرته جل جلاله، فهي ثابتة في مكانها، لا تهدد سكان الأرض وتفزعهم، بأنها قد تسقط عليهم، ثم جاء بآية أخرى: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} فكأن الحق سبحانه وتعالى وضع في الأرض وسائل استبقاء الحياة. فلم يترك الإنسان على الأرض دون أن يوفر له وسائل استمرار حياته. فالمطر ينزل من السماء، والسماء هي كل ما علاك فأظلك. فينبت به الزرع والثمر، وهذا رزق لنا، والناس تختلف في مسألة الرزق. والرزق هو ما ينتفع به، وليس هو ما تحصل عليه. فقد تربح مالاً وافراً ولكنك لا تنفقه ولا تستفيد منه فلا يكون هذا رزقك ولكنه رزق غيرك، وأنت تظل حارساً عليه، لا تنفق منه قرشاً واحداً، حتى توصله إلى صاحبه. والرزق في نظر معظم الناس هو المال، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يقول ابن آدم مالي مالي. . وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» . هذا هو رزق المال. وهو جزء من الرزق. ولكن هناك رزق الصحة. ورزق الولد. ورزق الطعام. ورزق في البركة. وكل نعمة من الله سبحانه وتعالى هي رزق وليس المال وحده. فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا بهذه الآية الكريمة إلى أن نفكر قليلاً، فيمن خلق هذا الكون. لنعرف أنه قبل أن يخلق الإنسان خلق له عناصر بقائه. ولكن هذا الإعداد لم يتوقف عند الحياة المادية. بل إن الله كما أعد لنا مقومات حياتنا المادية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 أعد لنا مقومات حياتنا الروحية، أو القيم في الوجود. وإذا قرأت في سورة الرحمن قوله تعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 1 - 4] لوجدت القرآن يعطينا قيم الحياة، التي بدونها تصبح الدنيا كلها لا قيمة لها. لأن الدنيا امتحان أو اختبار لحياة قادمة في الآخرة. فإذا لم تأخذها بمهمتها في أنها الطريق الذي يوصلك إلى الجنة. أهدرت قيمتها تماماً. ولم تعد الدنيا تعطيك شيئاً إلا العذاب في الآخرة. وقد ربط الحق سبحانه وتعالى الرزق في هذه الآية بالسماء فقال سبحانه: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} ليلفتنا إلى أن الرزق، لا يأتي إلا من أعلى، وضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالماء لأنه رزق مباشر محسوس منا، والماء ينزل من السماء في أنقى صوره مقطراً. كل ما يأتينا من السماء. فيه علو. ينزل ليزيد حياة القيم ارتقاءً، عملية لو أراد البشر أن يقوموا بها ما استطاعوا لأنها كانت ستكلف ملايين الجنيهات، لتعطينا ماءً لا يكفي أسرة واحدة. ولكن الله سبحانه وتعالى أنزل من السماء ماءً في أنقى صوره لينبت به الثمرات، التي تضمن استمرار الحياة في هذا الكون. وبعد أن نفهم هذه النعم كلها. والإعجاز الذي فيها ونستوعبها يقول الحق تبارك وتعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . «أندادا» جمع نِدّ، والند هو النظير أو الشبيه. وأي عقل فيه ذرّة من فكر يبتعد عن مثل هذا، فلا يجعل لله تعالى شبيهاً ولا نظيراً ولا يُشَبِّهُ بالله تعالى أحداً. فالله واحد في قدرته، واحد في قوته، واحد في خلقه. واحد في ذاته، وواحد في صفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ولا توجد مقارنة بين صفات الحق سبحانه وتعالى وصفات الخلق. والله خلق لكل منا عقلاً يفكر به، لو عرضت هذه المسألة على العقل لرفضها تماماً، لأنها لا تتفق مع عقل أو منطق، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعرفون هذا جيداً بعقولكم لأن طبيعة العقل ترفض هذا تماماً. فمنذا الذي يستطيع أن يدعي أنه خلقكم والذين من قبلكم؟! ومنذا الذي يستطيع أن يدعي ولو كذبا، أنه هو الذي جعل الأرض فراشاً، وجعل السماء سقفاً محفوظاً، أو أنزل المطر وأنبت الزرع؟ لا أحد. إذن فأنتم تعلمون أن العقل كله لله وحده، ومادام لا يوجد معارض ولا يمكن أن يوجد. فالقضية محسومة للحق تبارك وتعالى. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} [البقرة: 165] لماذا اتخذ هؤلاء الناس لله تعالى أنداداً؟ لأنهم يريدون دينا بلا منهج. يريدون أن يرضوا فطرة الإيمان التي خلقها الله فيهم. وفي الوقت نفسه يتبعون شهواتهم. عندما فكروا في هذا وجدوا أن أحسن طريقة هي أن يختاروا إلهاً بلا منهج، لا يطلب منهم شيئاً، ولذلك كل دعوة منحرفة تجد أنها تبيح ما حرم الله، وتحل الإنسان من كل التكاليف الإيمانية كالصلاة والزكاة والجهاد وغيرها. أما الذين آمنوا. فإنهم يعرفون أن الله سبحانه وتعالى إنما وضع منهجه لصالح الإنسان: فالله لا يستفيد من صلاتنا ولا من زكاتنا. ولا من منهج الإيمان شيئاً، ولكننا نحن الذين نستفيد من رحمة الله. ومن نعم الله ومن جنته في الآخرة. ولأن الذين آمنوا يعرفون هذا فإنهم يحبون الله حبا شديداً، والذين كفروا رغم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 كل ما يدعون فإنهم ساعة العسرة يلجأون إلى الله سبحانه وتعالى باعتباره وحده الملجأ والملاذ. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12] لماذا لم يستدع الأنداد؟ لأن الإنسان لا يغش نفسه أبداً في ساعة الخطر، ولأن هؤلاء يعرفون بعقولهم أنه لا يمكن أن يوجد لله أنداد. ولكنه يتخذهم لأغراض دنيوية. فإذا جاء الخطر. يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى. لأنه يعلم يقينا أنه وحده الذي يكشف الضر، فحلاق الصحة الذي يعالج الناس دجلا. إذا مرض ابنه أسرع به إلى الطبيب لأنه يغش الناس. ولكنه لا يمكن أن يغش نفسه. ولقد كان الأصمعي واقفاً عند الكعبة، فسمع إعرابياً يدعو ويقول: «يا رب أنت تعلم أني عاصيك وكان من حقك علي ألا أدعوك وأنا عاص. ولكني أعلم أنه لا إله إلا أنت فلمن أذهب.» فقال الأصمعي: يا هذا إن الله يغفر لك لحسن مسألتك «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى لنا أن هؤلاء الذين يتخذون من دون الله أنداداً لا يعتمدون على منطق ولا عقل. ولكنهم يعتمدون على شهوات دنيوية عاجلة. أراد أن يأتي بالتحدي بالنسبة للقرآن الكريم المعجزة الخالدة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يثبت لهم أن الله سبحانه وتعالى إذا كان قد جعل خلق الكون إعجازاً محسا. . فإن القرآن منهج معجز إعجازاً قيماً. . قال الله جل جلاله: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} الخطاب هنا لكل كافر ومنافق غير مؤمن، لأن الذين آمنوا بالله ورسوله ليس في قلوبهم ريب، بل هم يؤمنون بأن القرآن موحى به من الله، مبلغ إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالوحي المنزل من السماء. والريب: هو الشك. وقوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أي إن كنتم في شك. من أين يأتي هذا الشك والمعجزة تحيط بالقرآن وبرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ ما هي مبررات الشك، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يقرأ ولا يكتب ولم يعرف بالبلاغة والشعر بين قومه حتى يستطيع أن يأتي من عنده بهذا الكلام المعجز الذي لم يستطع فطاحل شعراء العرب الذين تمرسوا في البلاغة واللغة أن يأتوا بآيةٍ من مثله. هذه واحدة. والثانية أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يكذب أبداً ولم يعرف عنه كذب قبل تكليفه بالرسالة بل كانوا يلقبونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالصادق الأمين. والذين كانوا يلقبون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هم الذين اتهموه بأن هذا القرآن ليس من عند الله. أيصدق رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع الناس. ويكذب على الله؟ {. . هذا مستحيل. الكلام الذي جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو القرآن لم يكن أحد ليستطيع أن يأتي به من فطاحل علماء البلاغة العرب. والعلم الذي نزل في القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الكريم. لم يكن يعرفه بشر في ذلك الوقت. فكيف جاء النبي الأمي بهذا الكلام المعجز. وبهذا العلم الذي لا يعلمه البشر؟} لو جلس إلى معلم أو قرأ كتب الحضارات القديمة. لقالوا ربما استنبط منها، ولكنه لم يفعل ذلك. فمن أين دخل الريب إلى قلوبهم؟ لاشك أنه دخل من باب الباطل. والباطل لا حجة له. وبلا شك لقد فضحوا أنفسهم بأنهم لا يرتابون في القرآن ولكنهم كانوا يريدونه أن ينزل على سيد من سادة قريش. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وهؤلاء المرتابون لم يجدوا حجة يواجهون بها القرآن، فقالوا ساحر، وهل للمسحور إرادة مع الساحر؟ إذا كان ساحرا فلماذا لم يسحركم أنتم؟ وقالوا مجنون. والمجنون يتصرف بلا منطق. . يضحك بلا سبب. ويبكي بلا سبب. ويضرب الناس بلا سبب. ولذلك رد الحق سبحانه عليهم بقوله تعالى: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 - 4] فهل يكون المجنون على خلق عظيم؟ إذن فأسباب الريب كلها أو الأسباب التي تثير الشك غير موجودة. وغير متوافرة. ولا يوجد سبب حقيقي واحد يجعلهم يشكون في أن القرآن ليس من عند الله. ولكنهم هم القائلون كما يروي لنا الحق تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 إذن فكل أسباب الشك غير موجودة وأسباب اليقين هي الموجودة ومع ذلك ارتابوا وشكوا. وقوله سبحانه وتعالى: {مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} فالقرآن الكريم وجد في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الإنسان، وعندما جاء وقت مباشرته لمهمته في الكون نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا دفعة واحدة ثم أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقدر ما احتاجت إليه المناسبات والأحداث. إذن فقوله «نزلنا» أي نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا دفعة واحدة. وقوله تعالى «أنزل» أي أنزله آيات على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحسب اقتضاء الأحداث والمناسبات. الحق سبحانه وتعالى يقول: «على عبدنا» وهذه محتاجة إلى وقفة. فالله جل جلاله. له عبيد وله عباد. كل خلق الله في كونه عبيد لله سبحانه وتعالى. لا يستطيعون الخروج عن مشيئة الله أو إرادته. هؤلاء هم العبيد. ولكن العباد هم الذين اتحدت مراداتهم مع ما يريده الله سبحانه وتعالى. . تخلوا عن اختيارهم الدنيوي، ليصبحوا طائعين لله باختيارهم، أي أنهم تساووا مع المقهورين في أنهم اختاروا منهج الله وتركوا أي اختيار يخالفه. هؤلاء هم العباد، وإذا قرأت القرآن الكريم تجد أن الله سبحانه وتعالى يشير إلى العباد بأنهم الصالحون من البشر فيقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 هذا ليس لكل خلق الله، ولكنه للعباد. الذين إذا قال الله تعالى لهم افعلوا فعلوا وإذا قال الله لا تفعلوا لم يفعلوا. أي أنهم لا يخالفون بقدرتهم على الاختيار منهج الله سبحانه وتعالى. ولذلك في الجهاد لا يقول الحق سبحانه وتعالى عن المجاهدين أنهم عبيد. بل يقول جل جلاله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} [الإسراء: 5] وبعض المستشرقين الذين يحاولون الطعن في القرآن الكريم يقولون أن كلمة عباد قد جاءت في وصف غير المؤمن في قوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} [الفرقان: 17] نقول: إنكم لم تفهموا أن هذا ساعة الحساب في الآخرة، وفي الآخرة كلنا عباد لأننا كلنا مقهورون فلا اختيار لأحد في الآخرة وإنما الاختيار البشري ينتهي ساعة الاحتضار، ثم يصبح الإنسان بعد ذلك مقهوراً. فنحن جميعا في الآخرة عباد ولكن الفرق بين العبيد والعباد هو في الحياة الدنيا فقط. والعبودية هي أرقى مراتب القرب من الله تعالى. لأنك تأتي إلى الله طائعاً. منفذاً للمنهج باختيارك. ولقد عرض على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكون ملكاً رسولاً، أو عبداً رسولا. فاختار أن يكون عبداً رسولا. وإذا أردنا أن نعرف معنى العبودية نقرأ في سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 لنرى أنه في أعلى درجات الأنعام من الله سبحانه وتعالى على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المعجزة الكبرى التي لم تحدث لبشر قبله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سواء كان رسولاً أو غير رسول، ولن تحدث لبشر بعده. . ذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صعد إلى السماوات السبع بالروح وبالجسد ثم عاد إلى الأرض. وتجاوز رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منزلة جبريل فتجاوز سدرة المنتهى وهي المكان الذي ينتهي إليه علم خلق الله من البشر والملائكة المقربين. وبشرية الرسول أخذت جدلاً كبيرا منذ بدأت الرسالات السماوية. وحتى عصرنا هذا. واقرأ قوله تعالى: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} [هود: 27] وقوله تعالى: {فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24] وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] إذن فبشرية الرسول اتخذت حجة للذين لا يريدون أن يؤمنوا والرسول مبلغ عن الله. ولابد أن يكون من جنس القوم الذين أرسل إليهم. ولابد أن يكون قد عاش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 بينهم فترة قبل الرسالة واشتهر بالأمانة والصدق حتى لا يكذبوه. وفي الوقت نفسه هو قدرة. ولذلك لابد أن يكون من جنس قومه. لأنه سيطبق المنهج عمليا أمامهم. ولو كان من جنس آخر لقالوا لا نطيق ما كلفتنا به يا رب. لأن هذا رسول الله مخلوق من غير مادتنا. ومقهور على الطاعة. إذن فبشرية الرسول حتمية. وكل من يحاول أن يعطي الرسول صفة غير البشرية. إنما يحاول أن ينقص من كمالات رسالات الله، والله سبحانه وتعالى ليس عاجزاً، عن أن يحول البشر إلى ملائكة واقرأ قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] إذن فبشرية الرسول هي من تمام الرسالة. ثم يأتي التحدي من الله سبحانه وتعالى {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} والمطلوب أن يأتي العرب بسورة من مثل ما جاء به القرآن الكريم. الشهود الذين يطلب الله دعوتهم هم شهود ضعفاء. شهود من البشر وليست شهادة من الله بالغيب. والله سبحانه وتعالى وضع في هذه الآية معظم الشكوك لنفحصها، ولنصل فيما بعد ذلك إلى جوهر الإعجاز القرآني. والحق سبحانه وتعالى تدرج في التحدي مع الكافرين. فطلب منهم أن يأتوا بمثل القرآن، ثم طلب عشر سور من مثله. ثم تدرج في التحدي فطلب سورة واحدة. والنزل في التحدي من القرآن كله إلى عشر سور. إلى سورة واحدة. دليل ضد من تحداهم. فلا يستطيعون أن يأتوا بمثل القرآن، فيقول: إذن فأتوا بعشر سور. فلا يستطيعون ويصبح موقفهم مدعاة للسخرية. فيقول: فأتوا بسورة. وهذا منتهى الاستهانة بالذين تحداهم الله سبحانه وتعالى وإثباتاً لأنهم لا يقدرون على شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وكلمة بمثل. معناها أن الحق سبحانه وتعالى يطلب المثيل ولا يطلب نص القرآن وهذا إمعان وزيادة في إظهار عجز القوم الذين لا يؤمنون بالله ويشككون في القرآن. وقوله تعالى: {وادعوا شُهَدَآءَكُم} . معناه أن الله سبحانه وتعالى زيادة في التحدي يطالبهم بأن يأتوا هم بالشهداء ويعرضوا عليهم الآية ليحكم هؤلاء الشهود إذا كان ما جاءوا به مثل القرآن أم لا. أليس هذا إظهار منتهى القوة لله سبحانه وتعالى لأنه لم يشترط شهداء من الملائكة ولا شهداء من الذين اشتهر عنهم الصدق. وأنهم يشهدون بالحق. بل ترك الحق سبحانه لهم أن يأتوا بالشهداء وهؤلاء الشهداء لن يستطيعوا أن يشهدوا أن كلام هؤلاء المشككين يماثل سورة من القرآن. الله سبحانه وتعالى طلب منهم أن يأتوا بأي شهداء متحيزين لهم. وأطلقها سبحانه وتعالى على كل أجناس الأرض فقال: {مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ولكن إياكم أن تقولوا يشهد الله بأن ما جئنا به مثل القرآن. لأنكم تكونون قد كذبتم على الله وادعيتم شيئا لم يقله سبحانه وتعالى. ولكن ما معنى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} صادقين في ماذا؟ وما هو الصدق؟ الصدق يقابل الكذب، والصدق والكذب، كل منهما نسبي. كلنا يعلم أن هناك كلاماً غير مفيد، فإذا قلت محمد وسَكَتَّ فمن يسمعك سيسألك، ماذا تقصد بقولك محمد؟ وسؤاله دليل على أنه لم يستفد شيئاً، ولكنه لو سألك من عندك؟ وأجبت محمد فكأنك تخبره بأن عندك محمداً وهذه كلمة واحدة لكنك فهمتها بالمعنى الذي أخذته من كلام السائل. إذن فلا تقل كلمة واحدة ولكن قل كلاماً مفيداً. إذن فالكلام المفيد هو الذي يسكت السامع عليه. وكل متكلم قبل أن ينطق بالكلام يكون عنده نسبة ذهنية لما سيقول، يعبر عنها بنسبة كلامية. ولكن هناك نسبة خارجية لما يقول تمثل الواقع. أي أنك لو قلت محمد مجتهد فلابد أن يكون هناك شخص اسمه محمد. ولابد أن يكون مجتهداً فعلاً. لتتطابق النسبة الكلامية. مع النسبة الواقعية. فإذا لم يكن هناك شخص اسمه محمد. أو كان هناك شخص اسمه محمد ولكنه ليس مجتهداً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فإن النسبة الكلامية تخالف النسبة الواقعية. والصدق أن تتطابق النسبة الكلامية والنسبة الواقعية. «والكذب» ألا تتطابق النسبة الكلامية مع النسبة الواقعية. . هذا المفهوم ضرورة لعرض معنى الآية الكريمة. إذن فقوله تعالى «صادقين» أي أن تتطابق النسبة الكلامية التي ستقولونها مع نسبة واقعية تستطيعون أن تدللوا عليها. فإن لم يحدث ذلك فأنتم كاذبون. فالله سبحانه وتعالى يريد منكم الدليل على صدقكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بعد أن تحدث الله سبحانه وتعالى عن الأدلة التي يستند إليها المشككون في القرآن الكريم. وهي أدلة لا تستند إلى عقل ولا إلى منطق. تحداهم بأن يأتوا بسورة مثل القرآن، وأن يستعينوا بمن يريدون من دون الله، لأن القرآن كلام الله، والله سبحانه هو القائل. وبما أنهم يحاولون التشكيك في أن القرآن كلام الله. وأنه منزل من عند الله، فليستعينوا بمن يريدون ليأتوا بآية من مثله، لأن التحدي هنا لا يمكن أن يتم إلا إذا استعانوا بجميع القوى ما عدا الله سبحانه وتعالى. ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بالنتيجة قبل أن يتم التحدي. لأن الله سبحانه وتعالى يعلم أنهم لن يفعلوا ولن يستطيعوا. إن قوله سبحانه: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} معناه أنه حكم عليهم بالفشل وقت نزول القرآن وبعد نزول القرآن إلي يوم القيامة. لأن الله لا يخفى عن علمه شيء. فهو بكل شيء عليم. وكلمة «لم تفعلوا» عندما تأتي قد تثير الشك. فنحن نعرف أن مجيء إن الشرطية يثير الشك. . لأن الأمر لكي يتحقق يتعلق بشرط. وأنت إن قلت إن ذاكرت تنجح، ففي المسألة شك. . أما إذا قلت كقول الحق {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} فمعنى ذلك أن نصر الله آت لا محالة. و «إن» حرف و «إذا» ظرف، وكل حدث يحتاج إلى مكان وزمن. فإذا جئت بأداة الشرط فمعنى ذلك أنك تقربها من عنصر تكوين الفعل والحدث. فإذا أردت أن تعبر عن شيء سيتحقق تقول إذا، وإذا أردت أن تشكك فيه تقول «إن» والله سبحانه وتعالى قال «فإن لم تفعلوا» ولأن الفعل ممكن الحدث أراد أن يرجح الجانب المانع فقال «ولن تفعلوا» هذا أمر اختياري. فإذا تكلمت عن أمر اختياري ثم حكمت أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 لن يحدث. فكأن قدرتك هي التي منعته من الفعل. فلا يقال أنك قهرته على ألا يفعل. لا. علمت أنه لن يفعل. فاستعداداته لا يمكن أن تمكنه من الفعل. وهذه أمور ضمن اخبارات القرآن الكريم في القضايا الغيبية التي أخبر عنها، فعندما يقول الله سبحانه وتعالى {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} معناه أنهم مصدقون ولكن ألسنتهم لا تعترف بذلك. وقوله تعالى «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا» معناه أن الشك مفتعل في نفوسهم؛ هم لا يريدون أن يؤمنوا ولذلك يأتون بسبب مفتعل لعدم الإيمان. لقد استقر فكرهم على أنهم لا يؤمنون، ومادام هذا هو ما قررتموه. فإنكم ستظلون تبحثون عن أسباب ملفقة لعدم الإيمان. وقوله تعالى: {فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة} . الحق سبحانه وتعالى يريد هنا أن يلفتنا إلى صورة أخرى عن عجز هؤلاء الكفار. فهم بحثوا عن أعذار، ليبرروا بها عدم إيمانهم وتظاهروا بأنهم يشكون في القرآن الكريم. يقول لهم: لو كانت لكم قدرة وذاتية فعلا فامنعوا أنفسكم من دخول النار يوم القيامة. كما منعتم انفسكم من الإيمان في الدنيا. وهذا وعيد من الله. لقد أعطاهم ذاتية الاختيار في الدنيا ولم يختاروا قهراً بل اختاروا عدم الإيمان بمشيئة الاختيار التي أعطاه الله لهم. ولكن هناك وقت ليس فيه اختيار وهو الآخرة فحاولوا أن تتقوا في الآخرة عذاب النار يوم القيامة. ولكن لن يكون لأحد اختيار. فالله سبحانه وتعالى يقول في ذلك اليوم: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] ويقول جل جلاله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فإرادتكم التي منعتكم من الإيمان. . لن تقيكم يومئذ من عذاب النار، واقرأ قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] لماذا هم وما يعبدون؟ لأن العابد يرتجي نفع المعبود. فكأنهما عندما يرى كل منهما الآخر في العذاب. تكون الحسرة أشد. ولذلك فإن الحجارة والأصنام التي يعبدونها ستكون معهم في النار يوم القيامة. وليس هذا عقاباً للأحجار والأصنام. لأنها خلق مقهور لله مسبح له، ولكن هذه الأصنام والأحجار تكون راضية وهي تحرق الذين كفروا بالله. وتقول: «عبدونا ونحن أعبد لله من المستغفرين بالأسحار» . وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} الله سبحانه وتعالى يخبرهم وهم في الدنيا، أن النار أعدت للكافرين. وقوله تعالى النار أعدت للكافرين تطمين غاية الاطمئنان للمؤمن. وإرهاب غاية الإرهاب للكافر. . وقوله تعالى «أعدت» معناها أنها موجودة فعلاً وإن لم نكن نراها. وأنها مخلوقة وإن كانت محجوبة عنا. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «عرضت عليّ الجنة ولو شئت أن آتيكم منها بقطاف لفعلت» . وهذا دليل على أنها موجودة فعلاً. والمؤمن حينما يعلم أن الجنة موجودة فعلاً وأن الإيمان سيقوده إليها فإنه يحس بالسعادة ويشتاق للجنة. فإذا سمع قول الحق سبحانه وتعالى: {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11] ساعة تقرأ هذه الآية الكريمة تعرف أن الله سبحانه وتعالى سيجعلك في الجنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 تأخذ ما كان لغيرك. لأن الميراث يأتيك من غيرك. وقد سبق علم الله سبحانه وتعالى خلق الناس جميعاً. وقبل أن يخلق أعد لكل خلقه مقعداً في النار ومقعداً في الجنة. الذين سيدخلون النار خالدين فيها، مقاعدهم في الجنة ستكون خالية، فيأتي الله سبحانه وتعالى يعطيها للمؤمنين ليرثوها فوق مقاعدهم ومنازلهم في الجنة. والحق سبحانه عندما يقول: «أعدت» فهي موجودة فعلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى لنا مصير الكافرين الذين يشككون في القرآن ليتخذوا من ذلك عذراً لعدم الإيمان. قال: إذا كنتم قد اخترتم عدم الإيمان، بما أعطيتكم من اختيار في الدنيا، فإنكم في الآخرة لن تستطيعوا أن تتقوا النار. ولن تكون لكم إرادة. ثم يأتي الحق تبارك وتعالى بالصورة المقابلة. والقرآن الكريم إذا ذكرت الجنة يأتي الله بعدها بالصورة المقابلة وهي العذاب بالنار. وإذا ذكرت النار بعذابها ولهيبها ذكرت بعدها الجنة. وهذه الصورة المتقابلة لها تأثير على دفع الإيمان في النفوس. فإذا قرأ الإنسان سورة للعذاب ثم جاء بعدها النعيم فإنه يعرف أنه قد فاز مرتين. فالذي يزحزح عن النار ولا يدخلها يكون ذلك فوزاً ونعمة، فإذا دخل الجنة تكون نعمة أخرى، ولذلك فإن الله تعالى يقول: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] ولم يقل سبحانه ومن أدخل الجنة فقد فاز. لأن مجرد أن تزحزح عن النار فوز عظيم. . وفي الآخرة. وبعد الحساب يضرب الصراط فوق جهنم، ويعبر من فوقه المؤمنون والكافرون. فالمؤمنون يجتازون الصراط المستقيم كل حسب عمله منهم من يمر بسرعة البرق. ومنهم من يمر أكثر بطأً وهكذا، والكافرون يسقطون في النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ولكن لماذا يمر المؤمنون فوق الصراط. والله سبحانه وتعالى قال: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} [مريم: 71 - 72] لأن مجرد رؤية المؤمنين لجهنم نعمة كبرى، فحين يرون العذاب الرهيب الذي أنجاهم الإيمان منه يحس كل منهم بنعمة الله عليه. أنه أنجاه من هذا العذاب. وأهل النار وأهل الجنة يرى بعضهم بعضاً. فأهل الجنة حينما يرون أهل النار يحسون بعظيم نعمة الله عليهم. إذ أنجاهم منها، وأهل النار حين يرون أهل الجنة يحسون بعظيم غضب الله عليهم أن حرمهم من نعيمه، فكأن هذه الرؤية نعيم لأهل الجنة وزيادة في العذاب لأهل النار. . والله سبحانه وتعالى يقول: «وبشر» والبشارة هي الأخبار بشيء سار قادم لم يأت وقته بعد. فأنت إذا بشرت إنساناً بشيء أعلنته بشيء سار قادم. والبشارة هنا جاءت بعد الوعيد للكافرين. والإنذار هو اخبار بأمر مخيف. لم يأت وقته بعد. ولكن البشارة تأتي أحيانا في القرآن الكريم ويقصد بها الكفار. واقرأ قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 7 - 8] البشارة هنا تهكمية من الله سبحانه وتعالى. فالحق تبارك وتعالى يريد أن يزيد عذاب الكفار، فعندما يسمعون كلمة «فبشرهم» يعتقدون أنهم سيسمعون خبراً ساراً، فيأتي بعدها العذاب الأليم ليزيدهم غما على غم. يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 البشرى هنا إعلام بخير قادم للمؤمنين، والإيمان هو الرصيد القلبي للسلوك. لأن من يؤمن بقضية يعمل من أجلها، التلميذ يذاكر لأنه مؤمن أنه سينجح، وكل عمل سلوكي لابد أن يوجد من ينبوع عقيدي. والإيمان أن تنسجم حركة الحياة مع ما في القلب وفق مراد الله سبحانه وتعالى: ونظام الحياة لا يقوم إلا على إيمان. . فكأن العمل الصالح ينبوعه الإيمان. ولذلك يقول القرآن الكريم: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 1 - 3] وفي آية أخرى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} [فصلت: 33] ولكن هل يكفي الإعلان عن كوني من المسلمين؟ لا بل لابد أن يقترن هذا الإعلان بالعمل بمرادات الله سبحانه وتعالى. الحق سبحانه وتعالى يُريدُ أن يلفتنا. . إلى أن قولنا «لا إله إلا الله محمد رسول الله» . . لابد أن يصاحبه عمل بمنهج الإسلام. . ذلك أن نطقنا بالشهادة لا يزيد في ملك الله شيئا. . فالله تبارك وتعالى شهد بوحدانية ألوهيته لنفسه، وهذه شهادة الذات للذات. . ثم شهد الملائكة شهادة مشهد لأنهم يرونه سبحانه وتعالى. . ثم شهد أولو العلم شهادة دليل بما فتح عليهم الله جل جلاله من علم. . وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ولكن الحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمنين أن يعملوا بالمنهج. . لماذا؟ . . حتى لا تتعاند حركة الحياة بل تتساند. . ومادامت حركة الحياة مستقيمة. . فإنها تصبح حياة متساندة وقوية. . وعندما انتشر الإسلام في بقاع الأرض لم يكن الهدف أن يؤمن الناس فقط لمجرد الإيمان. . ولكن لابد أن تنسجم حركة الحياة مع منهج الإسلام. . فإذا ابتعدت حركة الحياة عن المنهج. . حينئذ لا يخدم قضية الدين أن يؤمن الناس أو لا يؤمنوا. . ولذلك لابد أن ينص على الإيمان والعمل الصالح. . {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} . . والصالحات هي جمع صالحة. . والصالحة هي الأمر المستقيم مع المنهج، وضدها الفساد. . وحين يستقبل الإنسان الوجود. . فإن أقل الصالحات هو أن يترك الصالح على صلاحه أو يزيده صلاحا. الحق تبارك وتعالى يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بجنات تجري من تحتها الأنهار. . والجنات جمع جنة، وهي جمع لأنها كثيرة ومتنوعة. . وهناك درجات في كل جنة أكثر من الدنيا. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: 21] الجنات نفسها متنوعة. . فهناك جنات الفردوس، وجنات عدن، وجنات نعيم. . وهناك دار الخلد، ودار السلام، وجنة المأوى. . وهناك عِلِّيُون الذي هو أعلى وأفضل الجنات. . وأعلى ما فيها التمتع برؤية الحق تبارك وتعالى. . وهو نعيم يعلو كثيرا عن أي نعيم في الطعام والشراب في الدنيا. . والطعام والشراب بالنسبة لأهل الجنة لا يكون عن جوع أو ظمأ. . وإنما عن مجرد الرغبة والتمتع. والله جل جلاله في هذه الآية يَعدُ بأمرٍ غيبي. . ولذلك فإنه لكي يقرب المعنى إلى ذهن البشر. . لابد من استخدام ألفاظ مشهودة وموجودة. . أي عن واقع نشهده. واقرأ، قوله تبارك وتعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 إذن ما هو موجود في الجنة لا تعلمه نفس في الدنيا. . ولا يوجد لفظ في اللغة يعبر عنه. . ولا ملكة من ملكات المعرفة كالسمع والنظر قد رأته. . ولذلك استخدم الحق تبارك وتعالى الألفاظ التي تتناسب مع عقولنا وإدراكنا. . فقال تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} . . على أن هناك آيات أخرى تقول: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ما الفرق بين الاثنين. . تجري تحتها الأنهار. . أي أن نبع الماء من مكان بعيد وهو يمر من تحتها. . أما قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} فكأن الأنهار تنبع تحتها. . حتى لا يخاف إنسان من أن الماء الذي يأتي من بعيد يقطع عنه أو يجف. . وهذه زيادة لاطمئنان المؤمنين أن نعيم الجنة باق وخالد. . ومادام هناك ماء فهناك خضرة ومنظر جميل ولابُدّ أَنْ يكون هناك ثمر. . وفي قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} . . حديث عن ثمر الجنة. . وثمر الجنة يختلف عن ثمر الدنيا. . إنك في الدنيا لابد أن تذهب إلى الثمرة وتأتي بها أو يأتيك غيرك بها. . ولكن في الجنة الثمر هو الذي يأتي إليك. . بمجرد أن تشتهيه تجده في يدك. . وتعتقد أن هناك تشابها بين ثمر الدنيا وثمر الجنة. . ولكن الثمر في الجنة ليس كثمر الدنيا لا في طعمه ولا في رائحته. . وإنما يرى أهل الجنة ثمرها ويتحدثون يقولون ربما تكون هذه الثمرة هي ثمرة المانجو أو التين الذي أكلناه في الدنيا. . ولكنها في الحقيقة تختلف تماما. . قد يكون الشكل متشابها ولكن الطعم وكل شيء مختلف. . في الدنيا كل طعام له فضلات يخرجها الإنسان. . ولكن في الآخرة لا يوجد لطعام فضلات بل أن الإنسان يأكل كما يشاء دون أن يحتاج إلى إخراج فضلات، وذلك لاختلاف ثمار الدنيا عن الآخرة في التكوين. . إذن ففي الجنة الأنهار مختلفة والثمار مختلفة. . والجنة يكون الرزق فيها من الله سبحانه وتعالى الذي يقول «للشيء كن فيكون» . . ولا أحد يقوم بعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الزوجة هي متعة الإنسان في الدنيا إن كانت صالحة. . والمنغصة عليه إن كانت غير صالحة. . وهناك منغصات تستطيع أن تضعها المرأة في حياة زوجها تجعله شقيا في حياته. . كأن تكون سليطة اللسان أو دائمة الشجار. . أولا تعطي اهتماما لزوجها أو تحاول إثارته بأن تجعله يشك فيها. . أما في الآخرة فتزول كل هذه المنغصات وتزول بأمر الله. فالزوجة في الآخرة مطهرة من كل ما يكرهه الزوج فيها، وما لم يحبه في الدنيا يختفي. فالمؤمنون في الآخرة مطهرون من كل نقائص الدنيا ومتاعبها وأولها الغل والحقد. . واقرأ قوله جل جلاله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] فمقاييس الدنيا ستختفي وكل شيء تكرهه في الدنيا لن تجده في الآخرة. . فإذا كان أي شيء قد نغص حياتك في الدنيا فإنه سيختفي في الآخرة. . والحق تبارك وتعالى ضرب المثل بالزوجات لأن الزوجة هي متعة زوجها في الدنيا. . وهي التي تستطيع أن تحيل حياته إلى نعيم أو جحيم. . وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . . أي لا موت في الآخرة ولن يكون في الآخرة وجود للموت أبدا، وإنما فيها الخلود الدائم إما في الجنة وإما في النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 بعد أن تحدث الحق تبارك وتعالى عن الجنة. . وأعطانا مثلا يقرب لنا صور النعيم الهائلة التي سينعم بها الإنسان في الجنة. . أراد أن يوضح لنا المنهج الإيماني الذي يجب أن يسلكه كل مؤمن. . ذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف كافرا بعبادته. . ولكن الإنسان الذي ارتضى دخول الإيمان بالله جل جلاله قد دخل في عقد إيماني مع الله تبارك وتعالى. . ومادام قد دخل العقد الإيماني فأنه يتلقى عن الله منهجه في افعل ولا تفعل. . وهذا المنهج عليه أن يطبقه دون أن يتساءل عن الحكمة في كل شيء. . ذلك أن الإيمان هو إيمان بالغيب. . فإذا كان الشيء نفسه غائبا عنا فكيف نريد أن نعرف حكمته. . إن حكمة أي تكليف إيماني هي: أنه صادر من الله سبحانه وتعالى، ومادام صادرا من الله فهو لم يصدر من مُساوٍ لك كي تناقشه، ولكنه صادر من إله وجبت عليك له الطاعة لأنه إله وأنت له عابد. . فيكفي أن الله سبحانه وتعالى قال افعل حتى نفعل. . ويكفي أنه قال لا تفعل حتى لا نفعل. . الحكمة غائبة عنك. . ولكن صدور الأمر من الله هو الحكمة، وهو الموجب للطاعة. . فأنا أصلي لأن الله فرض الصلاة، ولا أصلي كنوع من الرياضة. . وأنا أتوضأ لأن الله تبارك وتعالى أمرنا بالوضوء قبل الصلاة. . ولكنني لا أتوضأ كنوع من النظافة. . وأنا أصوم لأن الله أمرني بالصوم. . ولا أصوم حتى أشعر بجوع الفقير. . لأنه لو كانت الصلاة رياضة لاستبدلناها بالرياضة في الملاعب. . ولو أن الوضوء كان نظافة لقمنا بالاستحمام قبل كل صلاة. . ولو أن الصوم كان لنشعر بالجوع ما وجب على الفقير أن يصوم لأنه يعرف معنى الجوع. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 إذن فكل تكاليف من الله نفعلها لأن الله شرعها ولا نفعلها لأي شيء آخر. . وكل ما يأتينا من الله من قرآن نستقبله على أنه كلام الله ولا نستقبله بأي صيغة أخرى. . ذلك هو الإيمان الذي يريد الله منا أن نتمسك به، وأن يكون هو سلوك حياتنا. تلك مقدمة كان لابد منها إذا أردنا أن نعرف معنى الآية الكريمة: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وعندما ضرب الله مثلا بالبعوضة. . استقبله الكفار بالمعنى الدنيوي دون أن يفطنوا للمعنى الحقيقي. . قالوا كيف يضرب الله مثلا بالبعوضة ذلك المخلوق الضعيف. . الذي يكفي أن تضربه بأي شيء أو بكفك فيموت؟ . لماذا لم يضرب الله تبارك وتعالى مثلا بالفيل الذي هو ضخم الجثة شديدة القوة. . أو بالأسد الذي هو أقوى من الإنسان وضرب لنا مثلا بالبعوضة فقالوا: «ماذا أراد الله بهذا مثلا» . . ولم يفطنوا إلى أن هذه البعوضة دقيقة الحجم خلقها معجزة. . لأن في هذا الحجم الدقيق وضع الله سبحانه وتعالى كل الأجهزة اللازمة لها في حياتها. . فلها عينان ولها خرطوم دقيق جدا ولكنه يستطيع أن يخرق جلد الإنسان. . ويخرج الأوعية الدموية التي تحت الجلد ليمتص دم الإنسان. . والبعوضة لها أرجل ولها أجنحة ولها دورة تناسلية ولها كل ما يلزم لحياتها. . كل هذا في هذا الحجم الدقيق. . كلما دق الشيء احتاج إلى دقة خلق أكبر. . ونحن نشاهد في حياتنا البشرية أنه مثلا عندما اخترع الإنسان الساعة. . كان حجمها ضخما لدرجة أنها تحتاج إلى مكان كبير. . وكلما تقدمت الحضارة وارتقى الإنسان في صناعته وحضارته وتقدمه، أصبح الحجم دقيقا وصغيرا، وهكذا أخذت صناعة الساعات تدق. . حتى أصبح من الممكن صنع ساعة في حجم الخاتم أو أقل. . وعندما بدأ اختراع المذياع أو الراديو كان حجمه كبيرا. . والآن أصبح في غاية الدقة لدرجة أنك تستطيع أن تضعه في جيبك أو أقل من ذلك. . وفي كل الصناعات عندما ترتقي. . يصغر حجمها لأن ذلك محتاج إلى صناعة ماهر وإلى تقدم علمي. . وهكذا حين ضرب الله مثلا بالبعوضة وما فوقها. . أي بما هو أقل منها حجما. . فإنه تبارك وتعالى أراد أن يلفتنا إلى دقة الخلق. . فكلما لطف الشيء وصغر حجمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 احتاج إلى دقة الخلق. . ولكن الكفار لم يأخذوا المعنى على هذا النحو وإنما أخذوه بالمعنى الدنيوي البسيط الذي لا يمثل الحقيقة. فالله سبحانه وتعالى حينما ضرب هذا المثل. . استقبله المؤمنون بأنه كلام الله. . واستقبلوه بمنطق الإيمان بالله فصدقوا به سواء فهموه أم لم يفهموه. . لأن المؤمن يصدق كل ما يجيء من عند الله سواء عرف الحكمة أو لم يعلمها. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 52 - 53] إن كل مصدق بالقرآن لا يطلب تأويله أو الحكمة في آياته. . ولذلك قال الكافرون: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} ويأتي رد الحق تبارك وتعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} . . ومن هم الفاسقون؟ . . هم الذين ينقضون عهد الله. . أول شيء في الفسق أن ينقض الفاسق عهده. . ويقال فسقت الرطبة أي بعدت القشرة عن الثمر. . فعندما تكون الثمرة أو البلحة حمراء تكون القشرة ملتصقة بالثمرة بحيث لا تستطيع أن تنزعها منها. . فإذا أصبحت الثمرة أو البلحة رطبا تسود قشرتها وتبتعد عن الثمرة بحيث تستطيع أن تنزعها عنها بسهولة. . هذا هو الفاسق المبتعد عن منهج الله. . ينسلخ عنه بسهولة ويسر، لأنه غير ملتصق به. . وعندما تبتعد عن منهج الله فإنك لا ترتبط بأوامره ونواهيه. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 فلا تؤدي الصلاة مثلا وتفعل ما نهى الله عنه لأنك فسقت عن دينه. . والذي أوجد الفسق هو أن الإنسان خلق مختارا. . قادرا على أن يفعل أو لا يفعل. . وبهذا الاختيار أفسد الإنسان نظام الكون. . فكل شيء ليس للإنسان اختيار فيه تراه يؤدي مهمته بدقة عالية كالشمس والقمر والنجوم والأرض. . كلها تتبع نظاما دقيقا لا يختل لأنها مقهورة. . ولو أن الإنسان لم يخلق مختارا. . لكان من المستحيل أن يفسق. . وأن يبتعد عن منهج الله ويفسد في الأرض. . ولكن هذا الاختيار هو أساس الفساد كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بعد أن شرح الله لنا مفهوم الإيمان. في أننا نتلقى عن الله وننفذ الحكم ولو لم نعرف الحكمة. فكل ما يأتي من الله نأخذه بمنطق الإيمان، وهو أن الله الذي قال. وليس بمنطق الكفر والتشكك. فكل شيء عن الله حكمته أنه صادر عن الحق سبحانه وتعالى. وأخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الفاسقين هم المبتعدون عن منهج الله. وأراد الحق أن يبين لنا صفات الفاسقين. فحددها في ثلاث صفات. . أولا: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. . ثانيا الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل. ثالثا: الذين يفسدون في الأرض. ثم حدد لنا الحق تبارك وتعالى حكمهم فقال: أولئك هم الخاسرون. والخسران أن الذي وصلوا إليه هو من عملهم. لأنهم تركوا المنهج وبدأوا يشرعون لأنفسهم بهوى النفس. ولذلك يقول الحق جل جلاله عنهم: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] إذن هم الذين اختاروا، وهم الذين اشتروا الضلالة ودفعوا ثمنها من هدى الله. فكأنهم عقدوا صفقة خاسرة. لأن هدى الله هو الذي يقودنا إلى الحياة الخالدة والنعيم الذي لا يزول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 والحق سبحانه وتعالى يعطينا الصورة في قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} [التوبة: 111] إذن فالمؤمنون باعوا لله سبحانه وتعالى أموالهم وأنفسهم، وكانوا صادقين في عهدهم. أما الكفار والمنافقون، فقد باعوا هدى الله، واشتروا به ضلال الدنيا. فالحق سبحانه وتعالى ذكر لنا أول صفات الفاسقين أنهم لا عهد لهم. ليس بينهم وبين الناس فقط. ولكن لا عهد لهم مع الله أيضا. وكلما عاهدوا الله عهدا نقضوه. والله يحب الوفاء بالعهد. ولذلك يقول جل جلاله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] ويقول تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] ما هو العهد الموثق الذي أخذه الله على عباده فنقضوه؟ أنه الإيمان الأول. الإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الفطري الموجود في كل منا. فالله سبحانه وتعالى أخذ من البشر جميعا عهدا، فوفى به بعضهم ونقضه بعضهم. والله سبحانه وتعالى ذكر لنا في القرآن الكريم. أن هناك عهدا موثقا بينه وبين ذرية آدم. فقال جل جلاله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] وهكذا أخذ الله عهدا على ذرية آدم بأن يؤمنوا به وأشهدهم أنه ربهم. وجاءت الغفلة إلى القلوب بمرور الوقت. فنقضوا العهد واتخذوا آلهة من دون الله. إذن أول صفات الفاسقين أنهم نقضوا عهد الله. والذي ينقض عهدا مع بشر، فسلوكه هذا لا يقبله الحق سبحانه وتعالى حتى مع الكفار وغير المؤمنين. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 4] وهكذا نرى أن الحق تبارك وتعالى حين أعلن براءته وبراءة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبراءة المؤمنين من كل كافر مشرك في قضية إيمانية كبرى. حرم الله فيها على الكفار والمنافقين أن يقتربوا من بيته الحرام في مكة، احترم جل جلاله العهد. حتى مع المشركين. وطلب من المؤمنين أن يوفوا به. فإذا كان هذا هو المسلك الإيماني مع كل كافر ومشرك إن كنت قد عاهدته عهدا فأوف به إلى مدته. فكيف بالمشركين وقد عاهدوا الخالق الأعظم. ثم ينقضون عهده الموثق. أنهم قد خانوا منهج الله وعهده. وإذا لم يكن لهم عهد مع الله سبحانه وتعالى فهل يكون لهم عهد مع خلق الله؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 إذن فالفاسقون أول صفاتهم أنه لا عهد لهم مع خالقهم ولا عهد لهم مع الناس. ولذلك لا نأمن لهم أبدا. ثم تأتي بعد ذلك الصفة الثانية للفاسقين في قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} وما أمر الله به أن يوصل هو صلة الرحم. فقد أمرنا الله تعالى بأن نصل أرحامنا. فنحن كلنا أولاد آدم. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول في حجة الوداع «كلكم لآدم وآدم من تراب» . وهكذا نرى أن هناك روابط إنسانية يلفتنا الله سبحانه وتعالى إليها. وهذه الروابط. . تبدأ بالأسرة ثم تتسع لتشمل القرية أو الحي. ثم تتسع لتشمل الدولة والمجتمع، ثم تتسع لتشمل المؤمنين جميعا، ثم تتسع لتشمل العالم كله. هذه هي الأخوة الإنسانية التي يريد الحق تبارك وتعالى أن يلفتنا إليها. ولكن اللفتة هنا لا تقتصر على الناحية الإنسانية، بل تسجل أن ما فعلوا معصية، ومخالفة لأمر الله تعالى. فالله أمر بأن نصل الرحم. وجاء هؤلاء وخالفوا وعصوا ما أمر الله به. وقطعوا هذه الصلة. إذن فالمسألة فيها مخالفة لمنهج، وعصيان لأمر من أوامر الله سبحانه وتعالى. فصلة الرحم توجد نوعا من التكافل الاجتماعي بين البشر. فإذا حدث لشخص مصيبة. . أسرع أقاربه يقفون معه في محنته. ويحاول كل منهم أن يخفف عنه. هذا التلاحم بين الأسرة يجعلها قوية في مواجهة الأحداث. ولا يحس واحد منها بالضياع في هذا الكون، لأنه متماسك مع أسرته، متماسك مع حيه أو قريته. هكذا يختفي الحقد من المجتمع. ويختفي التفكك الأسري. . ولعلنا إذا نظرنا إلي المجتمعات الغربية التي يعتريها تفكك الأسرة. نجد أن كل واحد منهم قد ضل طريقه وانحرف لأنه أحس بالضياع. فانحرف إلى المخدرات أو إلى الخمر أو إلى الزنا وغير ذلك من الرذائل التي نراها. جيل ضائع. من الذي أضاعه؟ عدم صلة الرحم. وإذا تحدثنا عن الانحرافات التي نراها بين الشباب اليوم فلا نلوم الشباب، ولكن نلوم الآباء والأمهات الذين تركوا أولادهم وبناتهم وأهدروا صلة الرحم. فشب جيل يعاني من عقد نفسية لا حدود لها، إن الابن الذي يفقد جو الأسرة. يفقد ميزان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 حياته. والله سبحانه وتعالى يريد المؤمنين متضامنين متحابين خالين من كل العقد التي تحطم الحياة. إذن فعدم صلة الرحم تضيع أجيالا بأكملها. ونأتي بعد ذلك إلي الصفة الثالثة من صفات الفاسقين بقوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض} . نقول: كل ما في الكون مخلوق على نظام: «قَدَّرَ فَهَدَى» أي كل شيء له هدى لابد أن يتبعه. ولكن الإنسان جاء في مجال الاختيار وأفسد قضية الصلاح في الكون. ومن رحمة الله أنه جعل في كونه خلقا يعمل مقهورا. ليضبط حركة الكون الأعلى. فالشمس والنجوم والأرض وكل الكون ما عدا الإنس والجان. يسير وفق نظام دقيق. لماذا؟ لأنه يسير بلا اختيار له. والحق جل جلاله أخبرنا بأنه لكي يعتدل ميزان حياتنا. الاختيار الإنساني أن نبتعد عن منهج الله. لأن الله له صفة القهر. فهو يستطيع أن يخلقنا مقهورين، ولكنه أعطانا الاختيار حتى نأتيه عن حب. وليس عن قهر. فأنت تحب الشهوات ولكنك تحب الله أكثر. فتقيد نفسك بمنهج الله. إذن فالاختيار لم يُعْطَ لنا لِنُفْسِدَ في الأرض. ولكنه أُعْطي لنا. لنأتي الله سبحانه وتعالى طائعين ولسنا مقهورين. ولذلك فكل منا مختار في أن يؤمن أو لا يؤمن. وهذا الاختيار يثبت محبوبية الله سبحانه وتعالى في قلوبنا. ولكن الإنسان بدلا من أن يأخذ الاختيار ليأتي الله عن حب. فينال الجزاء الأعظم. أخذه ليفسد في الأرض. . والفساد أن تنقل مجال افعل ولا تفعل. فتضع هذه مكان هذه. فينقلب الميزان أي أنك فيما قال الله فيه افعل. لا تفعل، وفيما قال لا تفعل. تفعل. . فتكون قد جعلت ميزان حياتك معكوسا. لماذا؟ لأننا غير محكومين بقاعدة كلية تنظم حياة الناس. فكل واحد سيضع قاعدة له. وكل واحد لن يفعل ما عليه. فيحدث تصادم في الحياة. وكل فساد يشكل قبحا في الوجود. فهب أنك تسير في الطريق. وترى عمارة مبنية حديثا. قد تسربت المياه من مواسيرها. عندما ترى ذلك تتأذى. لأن هناك قبحا في الوجود. في عدم أمانة إنسان في عمله. إذن فحين يفسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 عامل واحد. بعدم الإخلاص في عمله. يفقد الكون نعمة يحبها الله. في أن ترى الشيء الجميل. فتقول: الله. . فكل إنسان غير أمين في عمله. يفسد في الكون. وكل إنسان غير أمين في خلقه يفسد في الكون. ويعتدي على حرمات الآخرين وأموالهم. وهذا يجعل الكون قبيحا، فلا يوجد إنسان يأمن على عرضه وماله. . لقد أراد المعتدي أن يحقق ما ينفع به نفسه عاجلا. ولكنه أحدث فسادا في الكون كذلك عندما يغش التاجر الناس. وعندما يكتسب الإنسان المال بالنهب والسرقة. فيفتح الله عليه أسوأ مصارف المال في الوجود. فهو أخذ الحسرة بالفساد في الأرض. والفساد في الأرض أن تخرج الشيء عن حد اعتداله. فتسرف في شهواتك وتسرف في أطماعك. وتسرف في عقابك للناس. وتسرف باعتدائك على حقوق الغير. والفساد في الأرض. أن يوجد منهج مطبق غير منهج الله. إن غياب منهج الله معناه أن يصبح كل منا عبد أهوائه. وإذا صارت الأمور حسب أهواء الناس. جاءت لهم حركة الحياة بالشقاء والشر بدلا من السعادة والأمن. أن ما نراه اليوم من شكوى الناس علامة على الفساد. لأن معناها أن الناس تعاني ولا أحد يتحرك. ليرفع أسباب هذه الشكوى. ولن يستقيم أمر هذا الوجود، ويتخلص من الفساد إلا إذا حكمنا منهج لا هوى له. والذي لا هوى له هو خالق البشر. واضع ميزان الكون. وأول مظاهر الفساد. أن يوكل الأمر إلى غير أهله. لأنه إذا أعطى الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة. كما يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 لماذا؟ لأن المجتمع حينئذ يكون مبنيا على النفاق واختلال الأمور، لا على الإتقان والإخلاص. فالذي يجيد النفاق هو الذي يصل إلى الدرجات العلا، والذي يتقن عمله لا يصل إلى شيء. وتكون النتيجة أن مجموعة من المنافقين الجهلة هم الذين يسيرون الأمور بدون علم. والفساد في الأرض هو أن يضيع الحق. ويضيع القيم. ويصبح المجتمع غابة. كل إنسان يريد أن يحقق هواه بصرف النظر عن حقوق الآخرين. ويحس من يعمل ولا يصل إلى حقه. . أنه لا فائدة من العمل، فيتحول المجتمع كله إلى مجموعة من غير المنتجين. والفساد في الأرض هو أن نجعل عقولنا هي الحاكمة. فلا نتأمل في ميزان الكون الذي خلقه الله، وإنما نمضي بعقولنا نخطط. . فنقطع الأشجار ونرمي مخلفات المصانع في الأنهار فنفسدها. ونأتي بالكيماويات السامة نرش بها الزرع أو مجاري المياه والأنهار كما يحدث الآن فنملؤه سُما ثم نأكله ثم نجد التلوث قد ملأ الكون. وطبقة الأوزون قد أصابها ضرر واضح يعرض حياة البشر على الأرض لأخطار كبيرة. وتفسد مياه الأنهار. ولا تصبح صالحة للشرب ولا للري. ويضيع الخير من الدنيا بالتدريج. والفساد في الأرض. هو أن ينتشر الظلم. وتصبح الحياة سلسلة لا تنتهي من الشقاء. والفساد في الأرض هو أن تضيع الأمانة. فتفسد المعاملات بين الناس. وتضيع الحقوق. هذه هي بعض أوجه الفساد في الأرض. والله سبحانه وتعالى قد وضع قانونا كليا، هو منهجه ليتعامل به الناس. ولكن الناس تركوه. ومشوا يتخبطون في ظلام الجهل. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من استعمل رجلا من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» وهكذا يكون مدى حرص الإسلام على استقامة أمور الناس. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {أولئك هُمُ الخاسرون} خسروا ماذا؟ خسروا دنياهم وآخرتهم وخسروا أنفسهم. لأن الإنسان له حياتان. . حياة قصيرة في الدنيا مليئة بالمتاعب. وحياة طويلة خالدة في الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 والذي يبيع الحياة الأبدية ونعيمها وخلودها بحياة الدنيا التي لا يضمن فيها شيئا، يكون من الخاسرين. . فعمر الإنسان قد يكون يوما أو شهرا أو عاما. والحياة الدنيا مهما طالت فهي قصيرة. ومهما أعطت فهو قليل. فالذي يبيع آخرته بهذه الدنيا، أيكون رابحا أم خاسرا؟ طبعا يكون خاسرا. لأنه اشترى مالا يساوي بنعيم الله كله. . وإذا كان الإنسان قد نسي الله سبحانه وتعالى وهو لاقيه حتما. ثم يبعث يوم القيامة ليجده أمامه. فيوفيه حسابه. أيكون قد كسب أم خسر؟! . . طبعا يكون خاسرا. لأنه أوجب على نفسه عذاب الله. وأوجب على نفسه عقاب الله. إن قوله تعالى: «الخاسرون» تدل على أن الصفقة انتهت وضاع كل شيء لأن نتيجتها كانت الخسران، وليس الخسران موقوتا، ولا هو خسران يمكن أن يعوض في الصفقة القادمة. بل هو خسران أبدي، والندم عليها سيكون شديدا. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] لماذا يتمنى الكافر أن يكون ترابا؟ لهول العذاب الذي يراه أمامه. وهول الخسران الذي تعرض له. وهذا دليل على شدة الندم. يوم لا ينفع الندم. على أنه سبحانه وتعالى تحدث في هذه الآية عن الخاسرين. ولكنه جل جلاله. تحدث في آية أخرى عن الأخسرين. فقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 103 - 105] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 إذن فهناك خاسر. وهناك من أخسر منه. والأخسر هو الذي كفر بالله جل جلاله. وبيوم القيامة. واعتقد أن حياته في الدنيا فقط. ولم يكن الله في باله وهو يعمل أي عمل، بل كانت الدنيا هي التي تشغله. ثم فوجئ بالحق سبحانه وتعالى يوم القيامة. ولم يحتسب له أية حسنة، لأنه كان يقصد بحسناته الحياة الدنيا. فلا يوجد له رصيد في الآخرة. والعجيب أنك ترى الناس. يعدون للحياة الدنيا إعدادا قويا. فيرسلون أولادهم إلى مدارس لغات. ويتحملون في ذلك مالا يطيقون. ثم يدفعونهم إلى الجامعات. أو إلى الدراسة في الخارج. هم في ذلك يعدونهم لمستقبل مظنون. وليس يقينا. لأن الإنسان يمكن أن يموت وهو شاب. فيضيع كل ما أنفقوه من أجله. ويمكن أن ينحرف في آخر مراحل دراسته. فلا يحصل على شيء. ويمكن أن يتم هذا الإعداد كله، ثم بعد ذلك يرتكب جريمة يقضي فيها بقية عمره في السجن. فيضيع عمره. ولكن اليقين الذي لاشك فيه هو أننا جميعا سنلاقي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة. وسيحاسبنا على أعمالنا. ومع أن هذا يقين، فإن كثيرا من الناس لا يلتفتون إليه. يسعون للمستقبل المظنون. ولا يحس واحد منهم بيقين الآخرة. فتجد قليلا من الآباء هم الذين يبذلون جهدا لحمل أبنائهم على الصلاة وعبادة الله والأمانة وكل ما يقربهم إلى الله. . أنهم ينسون النعيم الحقيقي. ويجرون وراء الزائل فتكون النتيجة عليهم وبالا في الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 كيف في اللغة للسؤال عن الحال. والحق سبحانه وتعالى أوردها في هذه الآية الكريمة ليس بغرض الاستفهام، ولكن لطلب تفسير أمر عجيب ما كان يجب أن يحدث. وبعد كل ما رواه الحق سبحانه وتعالى في آيات سابقة من أدلة دامغة عن خلق السماوات والأرض وخلق الناس. . أدلة لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يخطئها. . فكيف بعد هذه الأدلة الواضحة تكفرون بالله؟ . . كفركم لا حجة لكم فيه ولا منطق. . والسؤال يكون مرة للتوبيخ. . كأن تقول لرجل كيف تسب أباك؟ أو للتعجب من شيء قد فعله وما كان يجب أن يفعله. . وكلاهما متلاقيان. سواء كان القصد التوبيخ أو التعجب فالقصد واحد. . فهذا ما كان يجب أن يصح منك. ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بأدلة أخرى لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يكذب بها. . فيقول جل جلاله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} . وهكذا ينتقل الكلام إلى أصل الحياة والموت. فبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى. . ماذا يفعل الكافرون الفاسقون والمنافقون من إفساد في الأرض. . وقطع لما أمر الله سبحانه وتعالى به أن يوصل. . صعد الجدل إلى حديث عن الحياة والموت. وقوله تعالى {كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} قضية لا تحتمل الجدل. . ربما استطاعوا المجادلة في مساءلة عدم اتباع المنهج، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل. . ولكن قضية الحياة والموت لا يمكن لأحد أن يجادل فيها. فالله سبحانه وتعالى خلقنا من عدم. . ولم يدع أحد قط أنه خلق الناس أو خلق نفسه. . وعندما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال للناس أن الذي خلقكم هو الله. . لم يستطع أحد أن يكذبه ولن يستطيع. . ذلك أننا كنا فعلا غير موجودين في الدنيا. . والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجدنا وأعطانا الحياة. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وقوله تعالى: «ثم يميتكم» . . فإن أحدا لا يشك في أنه سيموت. . الموت مقدر على الناس جميعا. . والخلق من العدم واقع بالدليل. . والموت واقع بالحس والمشاهدة. . إن قضية الموت هي سبيلنا لمواجهة أي ملحد. . فإن قالوا إن العقل كاف لإدارة الحياة. . وأنه لا يوجد شيء اسمه غيب. . قلنا: الذي تحكم في الخلق إيجادا، هو الذي يتحكم فيه موتا. . والحياة الدنيا هي مرحلة بين قوسين. . القوس الأول هو أن الله يخلقنا ويوجدنا. . وتمضي رحلة الحياة إلى القوس الثاني. . الذي تخمد فيه بشريتنا وتتوقف حياتنا وهو الموت. أي أننا في رحلة الحياة من الله وإليه. . إذن فحركة الحياة الدنيا هي بداية من الله بالحق ونهاية بالموت. . إنهم عندما تحدثوا عن أطفال الأنابيب. . وهي عملية لعلاج العقم أكثر من أي شيء آخر. . ولكنهم صوروها تصويرا جاهليا. . وكل ما يحدث أنهم يأخذون بويضة من رحم الأم التي يكون المهبل عندها مسدودا أو لا يسمح بالتلقيح الطبيعي. . يأخذون هذه البويضة من رحم الأم. . ويخصبونها بالحيوانات المنوية للزوج. . ثم يزرعونها في رحم الأم. إنهم أخذوا من خلق الله وهي بويضة الأم والحيوان المنوي من الرجل. . وكل ما يفعلونه هو عملية التلقيح ومع ذلك يسمونه أطفال الأنابيب. . كأن الأنبوبة يمكن أن تخلق طفلا!! والحقيقة غير ذلك. . فبويضة الأم، والحيوان المنوي للرجل هما من خلق الله. . وهم لم يخلقوا شيئا. . أننا نقول لهم: إذا كنتم تملكون الموت والحياة فامنعوا إنسانا واحدا أن يموت. . بدلا من إنفاق ألوف الجنيهات في معالجة عقم قد ينجح أو لا ينجح. . ابقوا واحدا على قيد الحياة. . ولن يستطيعوا. . إن الموت أمر حسي مشاهد. . ولذلك فمن رحمة الله بالعقل البشري بالنسبة للأحداث الغيبية أن الله سبحانه وتعالى قربها لنا بشيء مشاهد. . كيف؟ . . عندما ينظر الإنسان إلى نفسه وهو حي. . لا يعرف كيف أحياه الله وكيف خلقه. . الله سبحانه وتعالى ذكر لنا غيب الخلق في القرآن الكريم فقال جل جلاله أنه خلق الإنسان من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون ثم نفخ فيه من روحه. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 واقرأ قول الحق سبحانه: {إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحج: 5] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] وقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] وقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 فالحق تبارك وتعالى أخبرنا عن مرحلة في الخلق لم نشهدها. . ولكن الموت شيء مشهود لنا جميعا. . ومادام مشهودا لنا، يأتي الحق سبحانه وتعالى به كدليل على مراحل الخلق التي لم نشهدها. . فالموت نقض للحياة. . والحياة أخبرنا الله تبارك وتعالى بأطوارها. . ولكنها غيب لم نشهده. . ولكن الذي خلق قال أنا خلقتك من تراب. . من طين. من حمأ مسنون. من صلصال كالفخار. . فالماء وضع على تراب فأصبح طينا. . والطين تركناه فتغير لونه وأصبح صلصالا. . الصلصال. . جف فأصبح حمأ مسنونا، ثم نحته في صورة إنسان ونفخ الحق سبحانه وتعالى فيه الروح فأصبح بشرا. . ثم يأتي الموت وهو نقض للحياة. . ونقض كل شيء يأتي على عكس بنائه. . بناء العمارة يبدأ من أسفل إلى أعلى. . وهدمها يبدأ من أعلى إلى أسفل. . ولذلك فإن آخر مرحلة من رحلة ما. . هي أول خطوة في طريق العودة. . فإذا كنت مسافرا إلى الإسكندرية. . فأول مكان في طريق العودة هو آخر مكان وصلت إليه. أول شيء يخرج من الجسد هو الروح وهو آخر ما دخل فيه. . ثم بعد ذلك يتصلب الجسد ويصبح كالحمأ المسنون. . ثم يتعفن فيصبح كالصلصال. . ثم يتبخر الماء الذي فيه فيعود ترابا. . وهكذا يكون الموت نقض صورة الحياة. . متفقا مع المراحل التي بينها لنا الحق سبحانه وتعالى. . وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . . أي أن الله تبارك وتعالى يبعثكم ليحاسبكم. . لقد حاول الكفار والملحدون وأصحاب الفلسفة المادية أن ينكروا قضية البعث. . وهم في هذا لم يأتوا بجديد. . بل جاءوا بالكلام نفسه الذي قاله أصحاب الجاهلية الأولى. . واقرأ قوله تعالى عما يقوله أصحاب الجاهلية الأولى: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] وأمنية الكافر والمسرف على نفسه. . ألا يكون هناك بعث أو حساب. . والذين يتعجبون من ذلك نقول لهم: أن الله سبحانه وتعالى الذي أوجدكم من عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 يستطيع أن يعيدكم وقد كنتم موجودين. . يقول جل جلاله: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} [الروم: 27] فإيجاد ما كان موجودا أسهل من الإيجاد من عدم على غير مثال موجود. . والله سبحانه وتعالى يرد على الكفار فيقول سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 79] وهكذا فإن البعث أهون على الله من بداية الخلق. . وكل شيء مكتوب عند الله سبحانه وتعالى في كتاب مبين. . وما أخذته الأرض من جسد الإنسان ترده يوم القيامة. . ليعود من جديد. وخلق السموات والأرض أكبر من خلق الإنسان. . واقرأ قوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] وقول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . . هو اطمئنان لمن آمن. . ومادمنا إليه نرجع ومنه بدأنا. . فالحياة بدايتها من الله ونهايتها إلى الله. . فلنجعلها هي نفسها لله. . ولابد أن نلتفت إلى أن الله تبارك وتعالى أخفى عنا الموت زمانا ومكانا وسببا وعمرا. . لم يخفه ليحجبه، وإنما أخفاه حتى نتوقعه في كل لحظة. . وهذا إعلام واسع بالموت حتى يسرع الناس إلى العمل الصالح. . وإلى المثوبة. لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 لا يوجد عمر متيقن في الدنيا. . فلا الصغير آمن على عمره. . ولا الشاب آمن على عمره. . ولا الكهل آمن على عمره. . ولذلك يجب أن يسارع كل منا في الخيرات. . حتى لا يفاجئه الموت. . فيموت وهو عاص. . ونلاحظ أن قصة الحياة جاء الله بها في آية واحدة. والرجوع إلى الله وهو يقين بالنسبة للمؤمنين يلزمهم بالمنهج، فيعيشون من حلال. والتزامهم هذا هو الذي يقودهم إلى طريق الجنة. ويطمئنهم على أولادهم بعد أن يرحل الآباء من الدنيا. فعمل الرجل الصالح ينعكس على أولاده من بعده. واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] إذن فصاحب الالتزام بالمنهج، يطمئن إلى لقاء ربه ويطمئن إلى جزائه، والذي لا يؤمن بالآخرة أخذ من الله الحياة فأفناها فيما لا ينفع. ثم بعد ذلك لا يجد شيئا إلا الحساب والنار. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] أي أن الكافر سيفاجأ في الآخرة بالله الذي لم يكن في باله أنه سيحاسبه على ما فعل. . وقوله تعالى {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تقرأ قراءتان. بضمة على التاء. ومرة بفتحة على التاء. الأولى معناها. أننا نُجْبِرُ على الرجوع. فلا يكون الرجوع إلى الله تعالى بإرادتنا، وهذا ينطبق على الكفار الذين يتمنون عدم الرجوع إلى الله. أما الثانية «تَرجعون» فهذه فيها إرادة. وهي تنطبق على المؤمنين لأنهم يتمنون الرجوع إلى الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 يذكرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه هو الذي خلق ما في الأرض جميعا. وقد جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: {فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لتلفتنا إلى أن ما في الأرض كله ملك لله جل جلاله، وأننا لا نملك شيئا إلا ملكية مؤقتة. وأن ما لنا في الدنيا سيصير لغيرنا. وهكذا. والحق سبحانه وتعالى حين خلق الحياة وقال {كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} كأن الحياة تحتاج إلى إمداد من الخالق للمخلوق حتى يمكن أن تستمر. فلابد لكي تستمر الحياة أن يستمر الإمداد بالنعم. ولكن النعم تظل طوال فترة الحياة، وعند الموت تنتهي علاقة الإنسان بنعم الدنيا. ولذلك لابد أن يتنبه الإنسان إلى أن الأشياء مسخرة له في الدنيا لتخدمه. وأن هذا التسخير ليس بقدرات أحد. ولكن بقدرة الله سبحانه وتعالى. والإنسان لا يدري كيف تم الخلق. ولا ما هي مراحله إلا أن يخبرنا الله سبحانه وتعالى بها. فهو جل جلاله يقول: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] وماداموا لم يشهدوا خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم. فلابد أن نأخذ ذلك عن الله ما ينبئنا به الله عن خلق السموات والأرض وعن خلقنا هو الحقيقة. وما يأتينا عن غير الله سبحانه وتعالى فهو ضلال وزيف. ونحن الآن نجد بحوثا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 كثيرة عن كيفية السموات والأرض وخلق الإنسان. وكلها لن تصل إلى حقيقة. بل ستظل نظريات بلا دليل. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} أي أن هناك من سيأتي ويضل. ويقول هكذا تم خلق السموات والأرض، وهكذا خلق الإنسان. هؤلاء المضلون الذين جاءوا بأشياء هي من علم الله وحده. جاءوا تثبيتا لمنهج الإيمان. فلو لم يأت هؤلاء المضلون، ولو لم يقولوا خلقت الأرض بطريقة كذا والسماء بطريقة كذا. لقلنا أن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه العزيز أن هناك من سيأتي ويضل في خلق الكون وخلق الإنسان ولكن كونهم أتوا. فهذا دليل على صدق القرآن الذي أنبأنا بمجيئهم قبل أن يأتوا بقرون. والاستفادة من الشيء لا تقتضي معرفة أسراره. . فنحن مثلا نستخدم الكهرباء مع أننا لا نعرف ما هي؟ وكذلك نعيش على الأرض ونستفيد بكل ظواهرها وكل ما سخره الله لنا. وعدم علمنا بسر الخلق والإيجاد لا يحرمنا هذه الفائدة. فهو علم لا ينفع وجهل لا يضر. والكون مسخر لخدمة الإنسان. والتسخير معناه التذليل ولا تتمرد ظواهر الكون على الإنسان. وإذا كانت هناك ظواهر في الكون تتمرد بقَدَر الله. مثل الفيضانات والبراكين والكوارث الطبيعية. نقول أن ذلك يحدث ليلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن كل ما في الكون لا يخدمنا بذاتنا. ولا بسيطرتنا عليه، وإنما يخدمنا بأمر الله له، وإلا لو كانت المخلوقات تخدمك بذاتك. فأقدر عليها حينما تتمرد على خدمتك. وكل ما في الكون خاضع لطلاقة قدرة الله. حتى الأسباب والمسببات خاضعة أيضا لطلاقة القدرة الآلهية. فالأسباب والمسببات في الكون لا تخرج عن إرادة الله. لذلك إذا تمرد الماء بالطوفان. وتمرد الرياح بالعاصفة. وتمردت الأرض بالزلازل والبراكين. فما ذلك إلا ليعرف الإنسان أنه ليس بقدرته أن يسيطر على الكون الذي يعيش فيه. واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71 - 72] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 والإنسان عاجز عن أن يخضع حيوانا إلا بتذليل الله له. . ومن العجيب أنك ترى الحيوانات تدرك ما لا يدركه الإنسان في الكون. فهي تحس بالزلزال قبل أن يقع. وتخرج من مكان الزلزال هاربة. بينما الإنسان لا يستطيع بعقله أن يفهم ما سيحدث. والحق سبحانه وتعالى في قوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} يستوعب كل أجناس الأرض. ولذلك فإن الإنسان لا يستطيع أن يوجد شيئا إلا من موجود. أي أن الإنسان لم يستحدث شيئا في الكون. فأنت إذا أخذت حبة القمح. من أين جئنا بها؟ من محصول العام الماضي. . ومحصول العالم الماضي. من أين جاء؟ . . من محصول العام الذي قبله. وهكذا يظل تسلسل الأشياء حتى تصل إلى حبة القمح الأولى. من أين جاءت؟ جاءت بالخلق المباشر من الله. وكذلك كل ثمار الأرض إذا أعدتها للثمرة الأولى فهي بالخلق المباشر من الله سبحانه وتعالى. فإذا حاولت أن تصل إلى أصل وجود الإنسان. ستجد بالمنطق والعقل. . أن بداية الخلق هي من ذكر وأنثى. خُلقا بالخلق المباشر من الله. لأنك أنت من أبيك وأبوك من جدك. وجدك من أبيه. وهكذا تمضي حتى تصل إلى خلق الإنسان الأول. فنجد أنه لا بد أن يكون خلقا مباشرا من الله سبحانه وتعالى. وما ينطبق على الإنسان ينطبق على الحيوان وعلى النبات وعلى الجماد. فكل شيء إذا رددته لأصله تجد أنه لابد أن يبدأ بخلق مباشر من الله سبحانه وتعالى. بعض الناس يتساءل عن الرقي والحضارة وهذه الاختراعات الجديدة. أليس للإنسان فيها خلق؟ . . نقول فيها خلق من موجود. والله سبحانه وتعالى كشف من علمه للبشر ما يستطيعون باستخدام المواد التي خلقها الله في الأرض أن يرتقوا ويصنعوا أشياء جديدة. ولكننا لم نجد ولم نسمع عن إنسان خلق مادة من عدم. الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق كل ما في هذا الكون من عدم. ثم بعد ذلك تكاثرت المخلوقات بقوانين سخرها الله سبحانه وتعالى لها. ولكن كل هذا التطور راجع إلى أن الله خلق المخلوقات وأعطاها خاصية التناسل والتزاوج لتستمر الحياة جيلا بعد جيل. وكل خلق الله الذي تراه في الكون الآن قد وضع الله سبحانه وتعالى فيه من قوانين الأسباب ما يعطيه استمرارية الحياة من جيل إلى جيل حتى ينتهي الكون. فإذا قال لك إنسان: أنا أزرع بذكائي وعلمي. فقل له: أنت تأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 بالبذرة التي خلقها الله. وتضعها في الأرض المخلوقة لله. وينزل الله سبحانه وتعالى الماء عليها من السماء. وتنبت بقدرة الله الذي وضع فيها غذاءها وطريقة إنباتها. إذن فكل ما يحدث أنك تحرث الأرض. وترمي البذرة. يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 63 - 64] صحيح أن الإنسان يقوم بحرث الأرض ورمي البذرة. وربما تعهد الزرع بالعناية الري. ولكن ليس في كل ما يفعله مهمة خلق. بل أن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء. ولو كنت تزرع بقدرتك فأت ببذرة من غير خلق الله. وأرض لم يخلقها الله. وماء لم ينزله الله من السماء. وطبعا لن تستطيع. . ولكن ما هو مصدر الأشياء التي استحدثت؟ نقول إن هناك فرقا بين وجود الشيء بالقوة. وجوده بالفعل. . فالنخلة مثلا حبة كانت موجودة بالقوة. كانت نواة. ثم زرعت فأصبحت موجودة بالفعل. وأنت لا عمل لك في الحالتين فلا أنت بقوتك خلقت النواة التي هي البذرة ولا أنت بفعلك جعلت النواة تكبر. لتصير نخلة بالفعل. على أن هناك أشياء مطمورة في الكون. خلقها الله سبحانه وتعالى مع بداية الخلق. ثم تركها مطمورة في الكون. حتى كشفها الله لمن يبحث عن أسراره في كونه. وكل كشف له ميلاد. إذا أخذنا مثلا ما تحت الثرى. أو الكنوز الموجودة تحت سطح الأرض. لقد ظلت مطمورة حتى هدى الله الإنسان إليها. وعلمه كيف يستخرجها. فالإنسان لم يخترع مثلا أو يوجد البترول أو المعادن. ولكنها كلها كانت مطمورة في الكون حتى جاء الوقت الذي يجب أن تؤدي فيه دورها في الحياة. فدلنا الحق عليها، فليس معنى أن الشيء كان غائبا عنا أنه لم يكن موجودا. أو أنه وجد لحظة اكتشافنا له. فالشيء الحادث الآن، والشيء الذي سيحدث بعد سنوات. . خلق الله سبحانه وتعالى كل عناصره. وأودعها في الأرض لحظة الخلق. والإنسان بما يكشف الله له من علم يستطيع تركيب هذه العناصر. ولكنه لا يستطيع خلقها أو إيجادها. والحق سبحانه وتعالى يقول: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 حينما يقول الله جل جلاله. استوى. . يجب أن نفهم كل شيء متعلق بذات الله على أنه سبحانه ليس كمثله شيء. فالله استوى والملوك تستوي على عروشها. وأنت تستوي على كرسيك. ولكن لأننا محكومون بقضية «ليس كمثله شيء» لابد أن نعرف أن استواء الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء. والله حي. وأنت حي. هل حياتك كحياته؟ والله سبحانه وتعالى يعلم وأنت تعلم. هل علمك كعلمه؟ والله سبحانه وتعالى يقدر. وأنت تقدر. هل قدرتك كقدرته. طبعا لا. فعندما تأتي إلى «استوى» فلا تحاول أن تفهمها أبدا بالمفهوم البشري. . فالله سبحانه وتعالى يعلم ما في الأرض وما في السماء. وهو سبحانه يعلم المكان بكل ذراته. والموجودين في هذا المكان أو المكين. بكل ذراته. وأنت تعرف ظاهر الأمر. . والله سبحانه وتعالى يعلم غيب السموات والأرض حتى يوم القيامة. وبعد يوم القيامة إذن فهو جل جلاله. ليس كمثله شيء. ولا يمكن أن تحيط أنت بعقلك بفعل يتعلق بذات الله سبحانه وتعالى. فعقلك قاصر عن أن يدرك ذلك. لذلك قل سبحان الله. ليس كمثله شيء في كل فعل يتصل بذات الله: {استوى إِلَى السمآء} هذا الكلام هو كلام الله. فالمتحدث هو الله عَزَّ وَجَلَّ. بعض الناس يقولون تلقينا القرآن وحفظناه. نقول لهم أن الذي حفظ القرآن هو الله سبحانه وتعالى. ومادام قد حفظ كلامه فهو جل جلاله يعلم أن الوجود كله لن يتعارض مع القرآن الكريم. . والله سبحانه وتعالى حفظ القرآن ليكون حجة له على الناس. ومادام الله جل جلاله هو الخالق. وهو القائل. فلا توجد حقيقة في الكون كله تتصادم مع القرآن الكريم. . واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وهذا من عظمة الله أن حفظ كلامه ليكون حجة على الناس. والله سبحانه وتعالى وجدت صفاته قبل أن توجد متعلقات هذه الصفات. فهو جل جلاله. خلق لأنه خالق. كأن صفة الخلق وجدت أولا. وإلا كيف خلق أول خلقه. إن لم يكن سبحانه وتعالى خالقا؟ والله سبحانه وتعالى رزاق. قبل أن يوجد من يرزقه. وإلا فبأي قدرة رزق الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أول خلقه؟ والله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون بكمال صفاته. وشهد أنه لا إله إلا هو قبل أن يشهد أي من خلق الله أنه لا إله إلا الله. واقرأ قوله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] فالله سبحانه وتعالى شهد أنه لا إله إلا هو قبل أن يوجد أحد من خلقه يشهد بوحدانية ألوهيته. شهد أنه لا إله إلا هو قبل أن يخلق الملائكة. ليشهدوا شهادة مشهد بأنه لا إله إلا الله. وأولوا العلم شهادة علم. فكأن شهادة الذات للذات. في قوله تعالى {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} هي التي يعتد بها، وهي أقوى الشهادات؛ فالله ليس محتاجا مِن خلقه إلى امتداد الشهادة. الله سبحانه وتعالى: بعد أن خلق الأرض وخلق السماء واستتب له الأمر. قال {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي لا تغيب ذرة من ملكه عن علمه. فهو عليم بكل ذرات الأرض وكل ذرات الناس. وكل ذرات الكون. والكون كله لا يفعل إلا بأذنه ومراده. واقرأ قوله تعالى: {يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 بعد أن أخبرنا الحق سبحانه وتعالى. أنه خلق جميع ما في الكون. أراد أن يخبرنا عمن خلفه لعمارة هذا الكون. فكأن القصة التي بدأ الله سبحانه وتعالى بها قصص القرآن كانت هي قصة آدم أول الخلق. ولقد وردت هذه القصة في القرآن الكريم كثيرا لتدلنا لماذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى بهذه القصة؟ وجاءت لتدلنا أيضا على صدق البلاغ عن الله. واقرأ قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق} [الكهف: 13] كلمة الحق التي جاءت هنا لتدلنا على أن هناك قصصا. ولكن بغير حق. والله سبحانه وتعالى أراد أن يخرج قصصه عن دائرة القصص التي يتداولها الناس أو قصص التاريخ لإمكان مخالفتها الواقع وتأتي بغير حق. وهناك قصص تروي في الدنيا ولا واقع لها، بل هي من قبيل الخيال. وكلمة قصة. مأخوذة من قص الأثر. بمعنى أن يتبع قصاص الأثر في الصحراء الآثار التي يشاهدها على الرمال حتى يصل إلى مراده. عندما يصل إلى نهاية الأثر. . ومادمنا قد عرفنا أن الله يقص الحق. نعرف أن قصص القرآن الكريم كلها أحداث وقعت فعلا. ولكل قصة في القرآن عبرة. أو شيء مهم يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إليه. فمرة تكون القصة لتثبيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتثبيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 المؤمنين: واقرأ قوله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] فكل قصة تثبت فؤاد الرسول والمؤمنين في المواقف التي تزلزلهم فيها الأحداث. وقصص القرآن ليست لقتل الوقت. ولكن الهدف الأسمى للقصة هو تثبيت ونفع حركة الحياة الإيمانية. ولو نظرنا إلى قصص القرآن الكريم نجد أنها تتحدث عن أشياء مضت وأصبحت تاريخا. والتاريخ يربط الأحداث بأزمانها. وقد يكون التاريخ لشخص لا لحدث. ولكن الشخص حدث من أحداث الدنيا. ولو قرأت تاريخ كل حدث لوجدت أنه يعبر عن وجهة نظر راويه. فكل قصص التاريخ كتبت من وجهات نظر من رووها. ولذلك. فالقصة الواحدة تختلف باختلاف الراوي. ولكن قصص القرآن الكريم. هو القصص الحق. . والعبرة في قصص القرآن الكريم أنها تنقل لنا أحداثا في التاريخ. تتكرر على مر الزمن. ففرعون مثلا هو كل حاكم يريد أن يُعْبَدَ في الأرض. وأهل الكهف مثلا هي قصة كل فئة مؤمنة هربت من طغيان الكفر وانعزلت لتعبد الله. وقصة يوسف عليه السلام هي قصة كل أخوة نزغ الشيطان بينهم فجعلهم يحقدون على بعضهم. وقصة ذي القرنين هي قصة كل حاكم مصلح أعطاه الله سبحانه الأسباب في الدنيا ومكنه في الأرض. فعمل بمنهج الله وبما يرضي الله. وقصة صالح هي قصة كل قوم طلبوا معجزة من الله. فحققها لهم فكفروا بها. وقصة شعيب عليه السلام. . هي قصة كل قوم سرقوا في الميزان والمكيال. وهكذا كل قصص القرآن. قصص تتكرر في كل زمان. حتى في الوقت الذي نعيش فيه تجد فيه أكثر من فرعون. وأكثر من أهل كهف يفرون بدينهم. وأكثر من قارون يعبد المال والذهب. . ويحسب أنه استغنى عن الله. ولذلك جاءت شخصيات قصص القرآن مجهلة إلا قصة واحدة هي قصة عيسى بن مريم ومريم ابنة عمران. لماذا؟ لأنها معجزة لن تتكرر. ولذلك عرفها الله لنا فقال «مريم ابنة عمران» وقال «عيسى بن مريم» حتى لا يلتبس الأمر. وتدعي أي امرأة أنها حملت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 بدون رجل. مثل مريم. نقول: لا. معجزة مريم لن تتكرر. ولذلك حددها الله تعالى بالاسم. فقال: عيسى بن مريم. ومريم ابنة عمران. . أما باقي قصص القرآن الكريم فقد جاءت مجهلة. فلم يقل لنا الله تعالى من هو فرعون موسى. ولا من هم أهل الكهف ولا من هو ذو القرنين ولا من هو صاحب الجنتين. إلي آخر ما جاء في القرآن الكريم. لأنه ليس المقصود بهذه القصص شخصا بعينه. لا تتكرر القصة مع غيره، وبعض الناس يشغلون أنفسهم بمن هو فرعون موسى؟ ومن هو ذو القرنين. . الخ نقول لهم لن تصلوا إلى شيء لأن الله سبحانه وتعالى قد روى لنا القصة دون توضيح للأشخاص. لنعرف أنه ليس المقصود شخصا بعينه. ولكن المقصود هو الحكمة من القصة. والقصص في القرآن لا ترد مكررة. وقد يأتي بعض منها في آيات. وبعض منها في آيات أخرى. ولكن اللقطة مختلفة. تعطينا في كل آية معلومة جديدة. بحيث أنك إذا جمعت كل الآيات التي ذكرت في القرآن الكريم. تجد أمامك قصة كاملة متكاملة. كل آية تضيف شيئا جديدا. وأكبر القصص في القرآن الكريم. قصة موسى عليه السلام. ويذكرنا القرآن الكريم بها دائما لأن أحداثها تعالج قصة أسوأ البشر في التاريخ. وفي كل مناسبة يذكرنا الله بلقطة من حياة هؤلاء. واقرأ قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 38 - 39] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 والفهم السطحي يظن أن هذا تكرار ونقول لا. فقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} . وهذه اللقطة تدل على أن الله سبحانه وتعالى يعد أم موسى إعدادا إيمانيا للحدث. ولكن عند وقوع الحدث تتغير القصة على نمط سريع {أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} . كلام يناسب لحظة وقوع الحدث. . فالآية الأولى. . بينت لنا أن أم موسى أرضعته قبل أن تضعه في التابوت. وأنها ستلقيه في اليم عندما يحدث خطر وتخاف عليه من القتل. وفيه تطمين لها. ألا تخاف ولا تحزن. لأن الله منجيه. وفيها بشارتان: أن الله سيرده لأمه. وأن الله قد اختاره رسولا. نأتي إلى الآية الثانية التي تكمل لنا هذه اللقطة فتول {اقذفيه فِي التابوت} هنا نعرف أن أم موسى ستلقيه في تابوت، وهو ما لم يذكر في الآية السابقة. ثم بعد ذلك نعلم أن الله سبحانه وتعالى أصدر أمره إلى الماء أن يلقي التابوت إلى الساحل. وهذا ما لم يرد في الآية السابقة. ونعرف أيضا أن الذي سيأخذه وهو فرعون. ستكون بينهما عداوة متبادلة. . وهكذا نرى أن آيتي القصة. يكمل بعضهما بعضا. وليس هناك تكرار. والله سبحانه وتعالى في الآية الثانية يريد أن يثبت أنه ستكون هناك عداوة متبادلة بين موسى وفرعون. . كما أثبتت عداوة فرعون لله جل جلاله ولموسى، فقال: {عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} ولكن العداوة لا تستقر إلا إذا كانت متبادلة. فتأتي آية ثالثة لتكمل الصورة. . في قوله تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] وهكذا بينت لنا الآية الكريمة كيف أن العداوة بين فرعون وموسى ستستقر حتى يقضى على فرعون. لأنه إذا كان إنسان عدوا لك. وأنت تقابل العداوة بالإحسان تخمد العداوة بعد قليل. إذن هذه الآيات ليست تكرارا ولكنها آيات تكمل القصة. . وتعطينا الصورة الكاملة المتكاملة. ولكن لماذا لم تأت قصة موسى متكاملة كقصة يوسف؟ لأن الله سبحانه وتعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 يريد أن يثبت بها نبينا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والمؤمنين. فتأتي هنا لقطة وهنا لقطة. لتؤدي ما هو مطلوب من التثبيت بما لا يخل. . لأن الآيات تعطينا القصة متكاملة. وهكذا قصة آدم. جاءت لنا في آيات متعددة؛ لتعطينا في مجموعها قصة كاملة. وفي الوقت نفسه كل آية لها حكمة يحتاج إليها التوقيت الذي نزلت فيه. . فالله سبحانه وتعالى يروي لنا بداية الخلق. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب» . والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعرفنا كيف بدأ الخلق. وقصة عداوة إبليس لآدم وذريته. . فتكلم الله سبحانه وتعالى عن أول البشر. عرفنا اسمه. وهو آدم عليه السلام. وتكلم عن المادة التي خلق منها. وتكلم عن المنهج الذي وضعه لآدم. وحدثنا عن النقاش الذي دار مع الملائكة. كما أخبرنا بأن آدم سيكون خليفة في الأرض. وأنه علمه الأسماء كلها ليقود حركة حياته. وعلمنا منطق علم الأشياء. وعلم مسمياتها. وحدثنا عن الحوار الذي حدث بين إبليس أمام ربه حينما أبى السجود. وبين لنا حجة إبليس في الامتناع عن السجود، وخطة إبليس ومدخله إلى قلوب المؤمنين بالإغواء والوسوسة وغير ذلك. إذن فهناك أشياء كثيرة تتعرض لها قصة آدم، ولو أن بشرا يريد أن يؤرخ لآدم ما استطاع أن يأتي بكل هذه اللقطات. ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل كل لقطة تأتي للتثبيت. والآية الكريمة التي نحن بصددها لم تأت في الأعراف ولا في الحجر ولا في الإسراء ولا في الكهف ولا في طه. وبهذا نعرف أنه ليس هناك تكرار. . فالله سبحانه وتعالى أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة. هنا لابد لنا من وقفة. أخلق آدم كفرد. أم خلقه الله وكل ذريته مطمورة فيه إلى يوم القيامة، إذا قرأنا القرآن الكريم نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} [الأعراف: 11] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الخطاب هنا للجمع. لآدم وذريته. فكأنه سبحانه وتعالى يشير إلى أن الأصل الأول للخلق آدم، وهو مطمور فيه صفات المخلوقين من ذريته إلى أن تقوم الساعة وراثة. أي أنه ساعة خلق آدم. . كان فيه الذرات التي سيأخذ منها الخلق كله. هذا عن هذا. . حتى قيام الساعة. ولقد قلتُ إن كل واحد منا فيه ذرة أو جزئ من آدم، فأولاد آدم أخذوا منه والجيل الذي بعدهم أخذ من الميكروب الحي الذي أودعه آدم في أولاده. والذين بعدهم أخذوا أيضا من الجزيء الحي الذي خُلِق في الأصل مع آدم. وكذلك الذين بعدهم. والذين بعدهم. والحياة لابد أن تكون حلقة متصلة. كل منا يأخذ من الذي قبله ويعطي الذي بعده. ولو كان هناك حلقة مفقودة. لتوقفت الحياة. كأن يموت الرجل قبل أن يتزوج. فلا تكون له ذرية من بعده. تتوقف حلقة الحياة. فكون حلقة الحياة مستمرة. دليل أنها حياة متصلة. لم تتوقف. ومادامت الحياة من عهد آدم إلى يومنا هذا متصلة. فلابد أن يكون في كل منا ذرة من آدم الذي هو بداية الحياة وأصلها. وانتقلت بعده الحياة في حلقات متصلة إلى يومنا هذا وستظل إلى يوم القيامة. فأنا الآن حي. لأنني نشأت من ميكروب حي من أبي. وأبي أخذ حياته من ميكروب حي من أبيه. وهكذا حتى تصل إلى آدم، إذن فأنت مخلوق من جزيء حي فيه الحياة لم تتوقف منذ آدم إلى يومنا هذا. ولو توقفت لما كان لك وجود. إذن فحياة الذين يعيشون الآن موصولة بآدم. لم يطرأ عليها موت. والذين سيعيشون وقت قيام الساعة حياتهم أيضا موصولة بآدم أول الخلق. والحق سبحانه وتعالى. حين أمر الملائكة بالسجود لآدم. فإنهم سجدوا لآدم ولذريته إلى أن تقوم الساعة. وذرية آدم كانت مطمورة في ظهره. وشهدت الخلق الأول. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} فيه جزئية جديدة لقصة الخلق. وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} أي أن الله سبحانه وتعالى يطلب من سيدنا محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يقول أنه عند خلق آدم. خلقه خليفة في الأرض. والكلام هنا لا يعني أن الله سبحانه وتعالى يستشير أحدا في الخلق. بدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أنه قال «إني جاعل» إذن فهو أمر مفروغ منه. ولكنه إعلام للملائكة. . والله سبحانه وتعالى. عندما يحدث الملائكة عن ذلك فلأن لهم مع آدم مهمة. فهناك المدبرات أمرا. والحفظة الكرام. وغيرهم من الملائكة الذين سيكلفهم الحق سبحانه وتعالى بمهام متعددة تتصل بحياة هذا المخلوق الجديد. فكان الإعلام. لأن للملائكة عملا مع هذا الخليفة. قد يقول بعض الناس. أن حياة الإنسان على الأرض تخضع لقوانين ونواميس. نقول ما يدريك أن وراء كل ناموس ملكا؟ ولكن هذا الخليفة سيخلف من؟ قد يخلف بعضه بعضا. في هذه الحالة يكون هنا إعلام من الله بأن كل إنسان سيموت ويخلفه غيره. فلو كانوا جميعا سيعيشون ما خلف بعضهم بعضا. وقد يكون الإنسان خليفة لجنس آخر. ولكن الله سبحانه وتعالى. . نفى أن يخلف الإنسان جنسا آخر. واقرأ قوله جل جلاله: { ... إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19 - 20] والخلق الجديد هو من نوع الخلق نفسه الذي أهلكه الله. والله سبحانه وتعالى يخبرنا أن البشر سيخلفون بعضهم إلى يوم القيامة. . فيقول جل جلاله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] ولكن هذا يطلق عليه خَلْفٌ. ولا يطلق عليه خليفة. والشاعر يقول: ذهب الذين يعاش في اكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب ولكن الله جعل الملائكة يسجدون لآدم ساعة الخلق وجعل الكون مسخرا له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فكأنه خليفة الله في أرضه. أمده بعطاء الأسباب. فخضع الكون له بإرادة الله. وليس بإرادة الإنسان. والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: «يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك. . وإلا تفعل ملأت يدك شغلا ولم أسُدّ فقرك» إذن كلمة خليفة. تأخذ عدة معان. . ماذا قالت الملائكة: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} . كيف عرف الملائكة ذلك؟ لابد أن هناك حالة قبلها قاسوا عليها. أو أنهم ظنوا أن آدم سيطغى في الأرض. ولكن كلمة سفك وكلمة دم. كيف عرفتهما الملائكة وهي لم تحدث بعد؟ لابد أنهم عرفوها من حياة سابقة. والله سبحانه وتعالى يقول: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] فكأن الجن قد خلق قبل الإنسان. وقوله تعالى: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . معنى ذلك أن علمك أيها المخلوق مناسب لمخلوقيتك. أما علم الله سبحانه وتعالى. . فهو أزلي لا نهائي. ولكن هل قال الملائكة حين أخبرهم الله بخلق آدم ذلك علنا أم أسروه في أنفسهم؟ سواء قالوه أم أسروه. فقد علمه الله. لأنه يعلم ما يسرون وما يعلنون. وأنه يعلم السر وأخفى. فما هو السر. وما هو الأخفى من السر؟ السر هو ما أسررته إلى غيرك. فما أسر به إلى غيري. فهو السر. وما أخفيه في صدري ولا يطلع عليه أحد. هو أخفى من السر. فلا يقال أسررت إلا إذا بحت به لغيري. أما ما أخفيه في صدري. فلا يعلمه أحد إلا الله. فهذا هو ما أخفى من السر. وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أراد أن يعطي القضية بعدها الحقيقي. وقد حكى القرآن الكريم قول الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 والتسبيح هو التنزيه عما لا يليق بذات المنزه. والتقديس هو التطهير. . مأخوذ من الْقَدَس وهو الدلو الذي كانوا يتطهرون به. ولذلك نحن نقول سُبّوح قُدوس. سُبّوح أي مُنزه عن كل ما لا يليق بجلاله. وقدوس. أي مُطَهَّرْ. . التسبيح يحتاج إلى مُسبِّح. وإلى ما نسبحه. والملائكة قالوا: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} . وهذا تسبيح وتنزيه لله سبحانه وتعالى. . والتسبيح والتنزيه لا يكونان إلا للكمال المطلق الذي لا تشوبه أية شائبة. . والكمال المطلق هو لله سبحانه وتعالى وحده. لذلك صرف الله ألسنة خلقه عن أن يقولوا كلمة سبحانك لغير الله تعالى. فلا تسمع في حياتك أن إنسانا قال لبشر سبحانك. وهكذا صرفت ألسنة الخلق عن أن تسبح لغير الله سبحانه وتعالى. وقول الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} كأن نقول سبحان الله وبحمده. ومعناها تنزيه لله سبحانه وتعالى في ذاته. . فلا تشبّه بذات. وفي صفاته. فلا تشبّه بصفات وفي أفعاله. فلا تشبه بأفعال. . ولكن ما معنى كلمة وبحمده؟ معناها أننا ننزهك ونحمدك. أي يا رب تنزيهنا لك نعمة. ولذلك فإني أحمدك على أنك أعطيتني القدرة لأنزهك. . والتقديس هو تطهير الله سبحانه وتعالى من كل الأغيار. ولأنك يا ربي قدوس طاهر. لا يليق أن يرفع إليك إلا طاهر. ولا يليق أن يصدر عمن خلقته بيديك إلا طاهر. . إنه عرّفنا معنى نسبح بحمدك ونقدس لك. ثم أراد الله بحكمته أن يرد على الملائكة فقال: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ولم يطلقها هكذا. ولكنه سبحانه أتى بالقضية التي تؤكد صدق الواقع. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فالحق سبحانه وتعالى. رد على الملائكة بهذه الآية الكريمة. لأنه علم آدم الأسماء كلها. . وكلمة كلها تفيد الإحاطة. ومعنى الإحاطة معرفة كل شيء عن هذه الأسماء. هنا يتبادر سؤال: هل عَلّم الله سبحانه وتعالى آدم الأسماء منذ ساعة الخلق إلى قيام الساعة مادام الحق سبحانه وتعالى يقول كلها. فما هو حكم تلك الأسماء التي هي لمخترعات ستأتي بعد خلق آدم بقرون طويلة؟ نقول إن الله سبحانه وتعالى. حين علم آدم الأسماء وميزه على الملائكة يكون قد أعطى ذلك الأدنى عنصرا ميزه عن المخلوق من عنصر أعلى. فآدم مخلوق من طين. والملائكة مخلوقون من نور. وقدرات البشر لا تستطيع أن تعطي الأدنى شيئا أكثر من الأعلى. ولكن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعطي ذلك ليذكرنا أن ما نأخذه ليس بقدراتنا ولكن بقدرته هو سبحانه. ولذلك تجد سليمان وهو ملك ونبي. . أعطاه الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. وميزه عن خلقه. يأتي الهدهد ليقول لسليمان: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} . كيف يحيط الهدهد وهو طائر ضعيف محدود بما لم يحط به سليمان وهو الملك النبي الذي حكم الإنس والجن؟ لأن الله سبحانه وتعالى. . يكره الغرور من خلقه. ولذلك يأتي بآية تميز الأدنى عن الأعلى ليعلموا جميعا أن كل قدراتهم ليست بذاتهم. وإنما هي من الله. فيأتي موسى وهو الرسول والنبي. . فيتعلم من الخضر وهو العبد الصالح ما لم يكن يعلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وقد خلق الله سبحانه المسميات وإن كنا لا نعرف وجودها وجعل الملائكة تتلقى أسماء هذه المسميات من آدم. وأن البعض يتساءل عن وسيلة تعليم الخالق الأكرم لآدم عليه السلام. وتعليم الخالق يختلف عن تعليم الخلق. لأن الخالق يعلم إلهاما. يقذف في قلب آدم أسماء المسميات كلها لكل ما في الكون من أسماء المخلوقات. . إذن فالمشهد الأول. لآدم مع الملائكة. كان قد تم إيجاد كل المسميات وألهمها الله لآدم. بدليل أن الملائكة لم تتعرف على هذه المسميات. بينما عرفها آدم. وهنا لابد لنا من وقفة. إن الكلام هو ناتج السمع. واللغة ناتج البيئة، والله سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء. وهذا العلم لا يمكن أن يأتي إلا إذا كان آدم قد سمع من الله سبحانه وتعالى. . ثم نطق. فأنت إذا أتيت بطفل عربي. . وتركته في لندن مثلا. . فتراه يتكلم الإنجليزية بطلاقة. . ولا يفهم كلمة واحدة من اللغة العربية. والعكس صحيح. إذا أتيت بطفل إنجليزي. وتركته في بلد عربي. يتكلم العربية. . ولا يعلم شيئا عن الإنجليزية. إذن فاللغة ليست وراثة ولا جنسا ولا بيئة. ولكنها محاكاة يسمعها الإنسان فينطق بها. وإذا لم يسمع الإنسان شيئا وكان أصم فإنه لا يستطيع النطق بحرف واحد. فإذا كان آدم قد نطق بهذه الأسماء. فلابد أنه سمع من الله سبحانه وتعالى. . والعجيب أن الطريقة التي علم الله سبحانه وتعالى آدم بها. هي الطريقة نفسها التي تتبعها البشرية إلى يومنا هذا. فأنت لا تعلم الطفل بأن تقص عليه الأفعال. ولكن لابد أن يبدأ تعليمه بالأسماء والمسميات. تقول له: هذا كوب. وهذا جبل وهذا بحر. وهذه شمس. وهذا قمر. وبعد أن يتعلم المسميات. يستطيع أن يعرف الأفعال. ويتقدم في التعليم بعد ذلك. . وهكذا نتعرف على النشأة الأولى للكلام. وطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى علمت آدم الأسماء. وهنا نتوقف لنجيب عن سؤالين: الأول: إذا كان الله سبحانه وتعالى قد علم آدم الأسماء كلها. فهل كان فيها أسماء ما سيستجد من مخترعات في العالم؟ نقول: إنه حتى لو تعلم آدم الأسماء التي يحتاج إليها في أولويات الوجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ويستخدمها في متطلبات حياته على الأرض. فإذا جد جديد، فإن أولاد آدم يستخدمون هذه الأسماء من المقدمات والأسماء التي تعلموها. فما يجد في الوجود من أسماء. تدخل على اللغة. لم تأت من فراغ. وإنما جاءت من اللغة التي تنطق بها وتكتب بها. كذلك كل شيء في هذا الكون. لو أعدته الآن إلى أصله. تجد أن أصله من الله. فلو أعدت البشرية إلى أصلها لابد أن تصل إلى أن الإنسان الأول خلقه الله سبحانه وتعالى. ولو أعدت العلم إلى أصله. وكل علم يحتاج إلى معلم. نقول لك. . من الذي علم المعلم الأول. أليس من البديهي أن العلم بدأ بمعلم علمه الله سبحانه وتعالى. وكان هذا هو المعلم الأول. . إذن فالذي علم الأسماء لآدم هو الله سبحانه وتعالى. وهو علمها لأولاده. وأولاده علموها لأولادهم وهكذا. . يأتي السؤال الثاني: إذا كان الله هو المعلم للكلام. فلماذا اختلفت اللغات على الأرض وأصبح هناك ألوان من اللغات والألسنة؟ نقول إن تنوع فترات التاريخ وانتشار الإنسان على الأرض جعل كل مجموعة من البشر تقترب من بعضها لتكون لها لغة واحدة. وكل لغة موجودة مأخوذة من لغة قديمة. فالفرنسية والإنجليزية والإيطالية. مأخوذة من اللاتينية. والعبرية والسريالية لهما علاقة باللغة العربية. واللهجات التي يتكلم بها العالم العربي صاحب اللغة الواحدة، تختلف. . حتى أن لهجة الجزائر أو المغرب مثلا. تجدها مختلفة عن اللهجة المصرية أو السودانية. ولكننا إذا تكلمنا باللغة العربية فَهِمَ بعضنا بعضا، ولغة هؤلاء جميعا في الأصل هي لغة القرآن. وهي العربية. ولكن في فترات الوهن التاريخي الذي مر على العرب انعزلت البلاد العربية بعضها عن بعض ومضى كل مجتمع يأخذ اللغة كمظهر اجتماعي. فيسقط التفاهم بين اللهجات المختلفة. وهكذا علم الله سبحانه وتعالى آدم الأسماء كلها. ثم عرضهم على الملائكة وقال لهم {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ؟ أي أن الله سبحانه وتعالى كرم آدم في العلم. وأعطاه علما لم يعطه للملائكة. ثم جعل آدم هو الذي يعلمهم أسماء مسميات لم يعرفوها. وهذا دليل على طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى. يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ما يشاء في كونه. وكما قلنا إن تمييز الأدنى عن الأعلى. لا يتم إلا بفعل الله وحده. ولكي نقرب هذا إلى العقول: هب أن إنسانا ضعيفا يريد أن يحمل حملا ثقيلا. . لا يقدر. وإذا كان هناك إنسان قوي يعينه فإنه لا يستطيع أن يعطيه من قوته ليحمل هذا الحمل. ولكن يعينه بأن يحمل عنه. أما الذي يستطيع أن يجعل هذا الضعيف قويا يمكنه أن يحمل هذا الحمل الثقيل فهو الله سبحانه وتعالى. . فالإنسان لا يستطيع أن يعطي إنسانا آخر من قوته. ولكن الله وحده هو القادر على أن يجعل الضعيف قويا والقوي ضعيفا. وقوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهل يكذب الملائكة؟ إن الملائكة خلق من نور يسبحون الله. ويفعلون ما يؤمرون. . نقول إن قوله تعالى {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما قستم عليه الأحداث. أو فيما قلتموه ضربا بالغيب. ولو أن الملائكة قاسوا حكمهم على حكم جنس آخر كان في الأرض كالجن مثلا الذين خلقوا قبل الإنسان. . يقول الحق تعالى أنكم أخطأتم في قياسكم هذا. أو إن كنتم صادقين فيما تنبأتم به من غيب؛ فلا يعلم الغيب إلا الله تعالى. فالقياسان جانبهما التوفيق. وليس هذا طعنا في الملائكة. ولكنه تصحيح لهم. وتعريف لنا بأن الملائكة لا يعلمون الغيب. ولذلك فهم حينما قاسوا أو حكموا على غيب. . جانبهم التوفيق. لأن الله وحده هو علام الغيوب. والذي دفع الملائكة إلى أن يقولوا أو يبطنوا هذا الكلام هو حبهم الشديد لله تعالى. . وكراهيتهم لإفساد في كونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 هذه الآية الكريمة. توضح لنا أن الله سبحانه وتعالى هو المعلم الأول في الكون. وإذا كان لكل علم معلم. فإن المعلم الأول لابد أن يكون هو الله سبحانه وتعالى. وإذا كنا نشاهد في عصرنا ألوانا من العلوم. . فهذه العلوم من تفاعل العقل الذي وهبه الله تعالى للإنسان. من المواد التي وضعها الله تعالى في الكون. بالمنطق والعلم الذي علمه الله للإنسان. إن كل الاختراعات والابتكارات أخذت وجودها من مقدمات كانت سابقة عليها. فالماء مثلا كان موجودا منذ الأزل. والشمس كطاقة تبخر الماء لتصنع منه سحابا. فإذا استخدم الإنسان الطاقة الحرارية في تبخير الماء واستخدم البخار كطاقة، فهناك قفزة حضارية في العلوم اسمها عصر البخار، وهو الذي كانت تسير به القطارات والآلات في المصانع. وغير ذلك. إن هذا التقدم في العلم، إنما هو نابع من وجود العلم والطاقة، وزاد عليهما القدوة العقلية للإنسان الممنوحة له من الخالق، التي جعلته يفكر في استخدام الطاقة الناتجة من البخار، فإذا توصل الإنسان لمراقبة شجرة ساقطة وهي تتدحرج إلى الأرض لأن جذعها أسطواني. فإنه أخذ من نظام هذه الشجرة ما يصنع منه العجلة التي كانت تطورا هاما في تاريخ العلم. . إذن فساق الشجرة الأسطوانية هو الذي أعطى للإنسان فكرة العجلة، فإذا طور الإنسان استخدام البخار وصنع قطارا يسير بالبخار. فهذا التطوير هو ابن للعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 السابق عن قدرة الطاقة الناتجة عن تبخير الماء. وكيفية صناعة العجلة. . فكل علم نابع من علم سابق. . يترابط مع إمكانات وهبها الله سبحانه وتعالى للإنسان. ولذلك عندما جاء الإسلام ليعرض العلم التجريبي أو المادي. جاء ليلفتنا إلى آيات الخالق في الكون. وطلب منا أن نتأمل في هذه الآيات. . ونعمل فيها العقل والإدراك. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] وهكذا يلفتنا الله جل جلاله إلى آياته التي في السموات والأرض لنعمل فيها العقل والإدراك، لتستنبط منها ما يعطينا الحضارة. . إن القرآن يطالبنا بأن نواصل العلم الذي علمه الله لآدم. وإذا كان تاريخ العلوم يحمل لنا أخبارا عن قوم لم يكونوا مؤمنين ومع هذا سبقونا في العلم والاستنباط، فكان الواجب علينا نحن المؤمنين أن نتأمل آيات الله تعالى في الأرض. فنيوتن الذي لاحظ قوة جاذبية الأرض كان يراقب تفاحة تسقط من أعلى الشجرة وتصطدم بالأرض. فتوصل إلى قانون الجاذبية. وإذا أردنا أن نأخذ لمحة من علم الله الذي علمه لنا. فيكفي أن ننظر إلى النواة ففي هذه النواة الصغيرة نخلة كاملة. متى وضعت النواة في الأرض. نمت النخلة. وأصبح لها وجود. ولكي نوضح هذا كله نقول إن كل علم مبني على نظريات. النظرية الأولى تؤدي إلى الثانية. والثانية تؤدي إلى الثالثة. وهكذا. . ولكن بداية كل هذه العلوم لم تبدأ بنظرية، ولكنها بدأت بما يسمونه البديهيات. أي الأشياء التي لا تحتاج إلى دليل. إنها الأشياء التي خلقها الله في الكون. وعلى هذه البديهيات بنيت النظريات الواحدة بعد الأخرى. حتى إذا أردت أن تعيدها إلى أصلها، فإنك تصل في نهاية الأمر إلى أن العلم الأول من الله سبحانه وتعالى، فالمعلم الأول علمه الله. والثمرة الأولى خلقها الله. وكل اكتشافات الإنسان منذ بداية الحياة وحتى قيام الساعة موجودة بالقوة. مثل النواة التي فيها النخلة. تنتظر التأمل والعمل. لتصبح اكتشافا بالفعل. والله سبحانه وتعالى وهو المعلم الأول. . وضع في كونه من العلم الكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ويحضرني قول الشاعر أحمد شوقي حين قال: سبحانك اللهم خير معلم ... علمت بالقلم القرون الأولى أرسلت بالتوارة موسى مرشدا ... وابن البتول فعلم الإنجيلا وفجرت ينبوع البيان محمدا ... فسقى الحديث وناول التنزيلا وكان شوقي يصوغ في أبياته أن كل علم هو منسوب إلى الله وحده. . وهكذا يتضح لنا. أن قول الملائكة: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم} يتضمن الاعتراف بأن العلم كله مرجعه إلى الله. فالله سبحانه وتعالى هو مصدر العلم والحكمة. وقوله سبحانه وتعالى: {العليم الحكيم} العليم أي الذي يعلم كل شيء خافيا كان أو ظاهرا. والعلم كله منه. وأما الحكمة فتطلق في الأصل على قطعة الحديد التي توضع في فم الفرس لتلجمه حتى يمكن للراكب أن يتحكم فيه. ذلك أن الحصان حيوان مدلل شارد. يحتاج إلى ترويض. وقطعة الحديد التي توضع في فمه تجعله أكثر طاعة لصاحبه. وكأن إطلاق صفة الحكيم على الخالق سبحانه وتعالى هو أنه جل جلاله يحكم المخلوقات حتى لا تسير بغير هدى. ودون دراية. والحكمة أن يوضع هدف لكل حركة لتنسجم الحركات بعضها مع بعض، ويصير الكون محكوما بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والحكيم العليم. هو الذي يضع لكل كائن إطاره وحدوده. والحكمة هي أن يؤدي كل شيء ما هو مطلوب منه ببراعة. والحكمة في الفقه هي أن تستنبط الحكم السليم. والحكمة في الشعر أن تزن الكلمات على المفاعيل. والحكمة في الطب أن تعرف تشخيص المرض والدواء الذي يعالجه. والحكمة في الهندسة أن تصمم المستشفى طبقا لاحتياجات المريض والطبيب وأجهزة العلاج ومخازن الأدوية وغير ذلك. أو في تصميم المنزل للسكن المريح. وحكمة بناء منزل مثلا تختلف عن حكمة بناء قصر أو مكان للعمل. والكون كله مخلوق من قبل حكيم عليم. وضع الخالق سبحانه وتعالى فيه كل شيء في موضعه ليؤدي مهمته. ووصف الله تعالى بأنه حكيم يتطلب أن يكون عليما. لأن علمه هو الذي يجعله يصنع كل شيء بحكمة. وقد أعطى الله سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وتعالى لكل خلقه من العلم على قدر حاجته، فليس من طبيعة الملائكة أن يعرفوا ماذا سيفعل ذلك الإنسان الذي سيستخلفه الله في الأرض. ولكنهم موجودون لمهمة أخرى. . وميز الله الإنسان بالعقل ليستكشف من آيات الله في الكون على قدر حاجة حياته. والحق سبحانه وتعالى يقول: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 1 - 3] إذن فكل شيء خلق بقدر. وكل مخلوق ميسر لما هداه الله له. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فالحق سبحانه وتعالى أراد أن يرد على ملاحظة الملائكة بالنسبة لخلق آدم وخلافته في الأرض، وأن الله سبحانه وتعالى في حكمته ما يخفي عليهم. ولذلك فهم لم يدركوا هذه الحكمة. وقبل أن يخلق الله آدم ويجعله خليفة في الأرض. . كان على علم بكل ما سيحدث من آدم وذريته حتى قيام الساعة. وبعد قيام الساعة، أما الملائكة. فهم لم يكونوا على علم بذلك. لأن هذا ليس عملهم. وكما قلنا: كل ميسر لما خلق له. ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطي للملائكة الصورة بأنكم قد حكمتم على آدم إما من تجربة لجنس آخر عاش في الأرض، وإما من ضرب بالغيب. والمقياسان غير صحيحين. ولذلك ميز الله سبحانه في هذه اللحظة آدم على الملائكة فعلمه أسماء المسميات كلها، ثم طلب من الملائكة أن يخبروه بهذه الأسماء. ولكنهم قالوا: إن العلم من الله وحده. وبما أن الله تعالى لم يعلمهم الأسماء فإنهم لا يعرفونها. فطلب الله من آدم أن يخبرهم بأسماء هذه المسميات فأخبرهم بها. ولكنه لم يخبرهم بها بذاته ولا من قانونه. ولا بعلم علمه وحده. ولكنه أخبرهم بتعليم الله سبحانه وتعالى له. وفي ذلك يقول الله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] إذن فَعِلْمُ آدم للأسماء كان بمشيئة الله سبحانه وتعالى. وهذه المشيئة وحدها هي التي جعلت آدم في ذلك الوقت يعلم ما لا تعلمه الملائكة. . وهنا رد الحق سبحانه وتعالى على قول الملائكة بأن آدم سيفسد في الأرض. فذكرهم الله تعالى بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض} أي أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعلم الغيب. والغيب هنا هو الغيب المطلق. فهناك غيب نسبي. قد تسرق حافظة نقودي مثلا وأنا لا أعلم من الذي سرقها فهو غيب عني. ولكنه معلوم للذي سرق، وللذي سهل له طريقة السرقة بأن حرس له الطريق حتى يسرق دون أن يفاجئه أحد. وقد يكون قد صدر قرار هام بالنسبة لي كترقية أو فصل أو حكم. لم يصلني. فأنا لا أعلمه. ولكن الذي وقع القرار أو الحكم يعلمه. هذا الغيب النسبي. لا يعتبر غيبا. ولكن الغيب المطلق هو الذي ليس له مقدمات تنبئ عما سيحدث. . هذا الغيب الذي يفاجئك. ويفاجئ كل من حولك بلا مقدمات. . هذا الغيب لا يعلمه إلا الله وحده. وقوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . . تعطينا هنا وقفة. هل الملائكة قالوا لله سبحانه وتعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} هل قالها الملائكة فعلا وجهرا، أم أنهم قالوها في أنفسهم ولم ينطقوا بها. . قوله تعالى {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} تعطينا إشارة إلى أن الملائكة ربما قالوا هذا سرا. ولم يبدوه، وعلى أية حال. سواء قالوه جهرا. أو قالوه سرا. فقد علمه الله. لأن الله جل جلاله. . بكل شيء محيط. ولا نريد لهذه النقطة أن تثير جدلا. . لماذا؟ لأنه في الحالتين. . سواء في الجهر أو في الكتمان. . فإن الموقف يتساوى عند علم الله سبحانه وتعالى. . فلا داعي للجدل لأنه لا خلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أصدر الله تعالى أمره للملائكة ليسجدوا لآدم. وهذه القضية أخذت جدلا طويلا. قال بعض الناس: كيف يسجد الملائكة لغير الله؟ والسجود لله وحده. وقال آخرون: هل معنى سجود الملائكة لآدم أنهم عبدوه؟ وقالت فئة أخرى: السجود لغير الله لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف. نقول لهؤلاء: أنكم لم تدركوا المعنى، فالله سبحانه وتعالى بعد أن ميز آدم على الملائكة بعلم الأسماء. . طلب منهم أن يسجدوا لآدم، وهنا لابد أن نعرف أن السجود لآدم. . هو إطاعة لأمر الله. . وليست عبادة لآدم. فالله سبحانه وتعالى هو الذي أمر الملائكة بالسجود. ولم يأمرهم بذلك آدم. ولا يحق له أن يأمرهم. فالأمر بالسجود هنا من الله سبحانه وتعالى، من أطاعه كان عابدا. ومن لم يطعه كان عاصيا. ومن رد الأمر على الأمر كان كافرا. ولكي نفهم معنى العبادة نقول: إن العبادة هي طاعة أوامر الله. واجتناب نواهيه. فما قال لي الله: افعل. فإني أفعل. وما قال: لا تفعل. فإنني لا افعل. . لأن العبادة هي طاعة مخلوق لخالقه في أوامره ونواهيه. ولذلك عندما نذهب إلى الحج فإننا نقبل الحجر الأسود في الكعبة، ونرجم الحجر الذي يمثل إبليس في منى. نقبل حجرا ونرجم حجرا. . هذا هو معنى عبادة الله واتباع منهجه. كما أمرنا نفعل. لا شيء مقدس عندنا. . إلا أمر الله ومنهجه. الملائكة هنا لم يسجدوا لآدم. ولكنهم سجدوا لأوامر الله بالسجود لآدم. وفرق كبير بين السجود لشيء، وبين السجود لأمر الله. السجود لأمر الله سبحانه وتعالى. . لا يعتبر خروجا على المنهج، لأن الأساس هو طاعة الله. وهل سجد كل الملائكة لآدم؟ لا. وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 سجد لآدم الملائكة الذين لهم مهمة معه، وتلك المهمة قد أوضحها الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12] وقوله سبحانه: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وقوله سبحانه: {فالمدبرات أَمْراً} [النازعات: 5] إذن هناك من الملائكة من سيسجل على الإنسان أعماله. وكل قول يقوله وكل فعل يفعله. بل ويكتبون هذه الأفعال. ومنهم من يحفظه من الشياطين، ومنهم من ينفذ أقدار الله في الأرض. هؤلاء جميعا لهم مهمة مع الإنسان. ولكن الأمر بالسجود لم يشمل أولئك الملائكة العالين من حملة العرش وحراس السماء وغيرهم ممن ليست لهم مهمة مع الإنسان. ولذلك عندما رفض إبليس السجود. قال له الله تعالى: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قوله تعالى. . كنت من العالين أي أنك كنت من الملائكة العالين. . الذين لم يشملهم أمر السجود. إذن فأمر السجود لآدم. . كأمر الله لنا بالسجود إلى القبلة في الصلاة. فنحن لا نسجد للقبلة ذاتها. . ولكننا نسجد لأمر الله بالسجود إلى القبلة. . سجد الملائكة الذين شملهم أمر السجود لأمر الله سبحانه وتعالى. . ولكن إبليس رفض أن يسجد. وعصى أمر الله. بعض الناس يقولون: أن إبليس لم يكن من الذين أمرهم الله تعالى بالسجود. لأن الأمر شمل الملائكة وحدهم. . وإبليس ليس ملكا. ولكنه من الجن. كما يروي لنا القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] ونقول: إن كون إبليس من الجن هو الذي جعله يعصي أمر الله بالسجود. فلو أن إبليس كان من الملائكة وهم مقهورون على الطاعة كان لابد أن يطيع أمر الله ويسجد. ولكن كونه من الجن الذين لهم اختيار في أن يطيعوا وأن يعصوا فذلك الذي مكنه أن يعصي أمر السجود. ولذلك فإن الذين يأخذون من الآية الكريمة أن إبليس كان من الجن. بأنه لم يشمله أمر السجود. نقول لهم: إن الحق سبحانه وتعالى قد أخبرنا عن جنس إبليس حتى نفهم من أي باب إلى المعصية دخل. . ذلك أنه دخل من باب الاختيار الممنوح للإنس والجن في الحياة الدنيا وحدها، ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون إبليس مقهورا على الطاعة ما كان يستطيع أن يعصي. ولكن معصيته جاءت من أنه خلق مختارا. . والاختيار هو الباب الذي دخل منه إلى المعصية. هذه حقيقة يجب أن نفهمها. ولذلك يرد الحق سبحانه وتعالى على كل من سيخطر بباله أن أمر السجود لم يشمل إبليس لكونه من الجن لقوله سبحانه وتعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] وكان كفر إبليس وخلوده في النار أنه رد الأمر على الآمر. وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] وقد كان وجود إبليس مع الأعلى منه وهم الملائكة. مبررا أكبر للسجود. فمادام قد صدر الأمر إلى الأعلى بالسجود فإنه ينطبق على الأدنى. وقد كان إبليس كما جاء في الأثر يسمى طاووس الملائكة. . وكان يزهو بخيلاء بينهم. . وهذه الخيلاء أو الكبر هو الذي جعله يقع في المعصية، ولأن إبليس خلق مختارا. فقد كان مزهوا باختياره لطاعة الله. . قبل أن يقوده غروره إلى الكفر والمعصية. ولذلك لم يكد يصدر الأمر من الله بالسجود لآدم. حتى امتنع إبليس تكبرا منه. . ولم يجاهد نفسه على طاعة الله. . فمعصية إبليس هي معصية في القمة. لأنه رد الأمر على الآمر وظن أنه خير من آدم. . ولم يلتزم بطاعة الله، ومضى غروره يقوده من معصية إلى أخرى. فطرده الله من رحمته وجعله رجيما. ولما عرف إبليس أنه طرد من رحمة الله طلب من الله سبحانه وتعالى أن يبقيه إلى يوم الدين، وأقسم إبليس بعزة الله أن يغري بني آدم. . حدد الأماكن التي يأتي منها الإغواء. فقال: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] نلاحظ هنا أن الجهات بالنسبة للإنسان ستة. اليمين والشمال. والأمام والخلف وأعلى وأسفل، ولكن إبليس لم يذكر إلا أربعة فقط. أما الجهتان الأخيرتان وهما الأعلى والأسفل. فلا يستطيع إبليس أن يقترب منهما. أما الأسفل فهو مكان السجود والخضوع لله. وأما الأعلى فهو مكان صعود الصلاة والدعاء. وهذان المكانان لا يستطيع إبليس أن يقترب منهما. وهكذا نرى أن إبليس لم يمتنع عن السجود فقط. وإنما رد الأمر على الآمر. وهذا أول الكفر. ثم بعد ذلك مضى في غيه فتوعد آدم وذريته بأن يضلهم عن سبيل الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 بعد أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم وأمر الملائكة أن تسجد له وحدث كفر إبليس ومعصيته أراد الله جل جلاله أن يمارس آدم مهمته على الأرض. ولكنه قبل أن يمارس مهمته أدخله الله في تجربة عملية عن المنهج الذي سيتبعه الإنسان في الأرض، وعن الغواية التي سيتعرض لها من إبليس. فالله سبحانه وتعالى رحمة منه لم يشأ أن يبدأ آدم مهمته في الوجود على أساس نظري، لأن هناك فرقا بين الكلام النظري والتجربة. قد يقال لك شيء وتوافق عليه من الناحية النظرية ولكن عندما يأتي الفعل فإنك لا تفعل شيئا. إذن فالفترة التي عاش فيها آدم في الجنة كانت تطبيقا عمليا لمنهج العبودية، حتى إذا ما خرج إلى مهمته لم يخرج بمبدأ نظري، بل خرج بمنهج عملي تعرض فيه لا فعل ولا تفعل. والحلال والحرام، وإغواء الشيطان والمعصية. ثم بعد ذلك يتعلم كيف يتوب ويستغفر ويعود إلى الله. وليعرف بنو آدم أن الله لا يغلق بابه في وجه العاصي، وإنما يفتح له باب التوبة. والله سبحانه وتعالى أسكن آدم الجنة. وبعض الناس يقول: أنها جنة الخلد التي سيدخل فيها المؤمنون في الآخرة. وبعضهم قال: لولا أن آدم عصى لكنا نعيش في الجنة. نقول لهم لا. . جنة الآخرة هي للآخرة ولا يعيش فيها إنسان فترة من الوقت ثم بعد ذلك يطرد منها بل هي كما أخبرنا الله تعالى جنة الخلد. . كل من دخلها عاش في نعيم أبدي. إذن فما هي الجنة التي عاش فيها آدم وحواء؟ هذه الجنة هي جنة التجربة أو المكان الذي تمت فيه تجربة تطبيق المنهج. ونحن إذا قرأنا القرآن الكريم نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد أطلق لفظ الجنة على جنات الأرض. والجنة تأتي من لفظ « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 جن» وهو الستر، ذلك أن فيها أشجارا كثيفة تستر من يعيش فيها فلا يراه أحد. وفيها ثمرات تعطيه استمرار الحياة فلا يحتاج إلى أن يخرج منها. ونجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17 - 18] وهذه قصة الأخوة الذين كانوا يملكون جنة من جنان الأرض فمنعوا حق الفقير والمسكين واليتيم، فذهب الله بثمر الجنة كلها وأحرق أشجارها. وهناك في سورة الكهف قصة صاحب الجنتين: في قوله تعالى: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [الكهف: 32] وهي قصة ذلك الرجل الذي أعطاه الله جنتين. . فبدلا من أن يشكر الله تعالى على نعمه. . كفر وأنكر البعث والحساب. وفي سورة سبأ اقرأ قوله تعالى عن أهل سبأ الذين هداهم الله وبين لهم الطريق المستقيم ولكنهم فضلوا الكفر. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلك جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} [سبأ: 15 - 17] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وهكذا نرى أن الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قد أطلق لفظ الجنة على جنات الدنيا، ولم يقصره على جنة الآخرة. إذن فآدم حين قال له الله سبحانه وتعالى: {اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [الأعراف: 19] فهي ليست جنة الخلد وإنما هي جنة سيمارس فيها تجربة تطبيق المنهج. ولذلك لا يقال: كيف دخل إبليس الجنة بعد أن عصى وكفر، لأن هذه ليست جنة الخلد ولابد أن تنتبه إلى ذلك جيدا حتى لا يقال أن معصية آدم هي التي أخرجت البشر من الجنة. لأن الله تعالى قبل أن يخلق آدم حدد مهمته فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فآدم مخلوق للخلافة في الأرض ومن صلح من ذريته يدخل جنة الخلد في الآخرة، ومن دخل جنة الخلد عاش في النعيم خالدا. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} فالله سبحانه وتعالى أمد الجنة التي سكنها آدم وحواء بكل ما يضمن استمرار حياتهما، تماما كما خلق كل النعم التي تضمن استمرار حياة آدم وذريته في الأرض قبل أن تبدأ الحياة البشرية على الأرض. فالله سبحانه وتعالى له عطاء ربوبية فهو الذي خلق. وهو الذي أوجد من عدم، ولذلك فقد ضمن لخلقه ما يعطيهم استمرار الحياة على الأرض من ماء وهواء وطعام ونعم لا تعد ولا تحصى فكأن الله تعالى قد أمد الجنة التي سكن فيها آدم وزوجته بكل عوامل استمرار حياتهما قبل أن يسكناها. كما أمد الأرض بكل وسائل استمرار حياة الإنسان قبل أن ينزل آدم إليها. إذن فقوله تعالى: {يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} . هذه فترة التدريب على تطبيق المنهج. والسكن هو المكان الذي يرتاح فيه الإنسان ويرجع إليه دائما. فأنت قد تسافر فترات، وكل الدول التي تمر بها خلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 سفرك لا تعتبر سكنا إلى أن تعود إلى بيتك، فهذا هو السكن والرجل يكد ويتعب في الحياة وأينما ذهب فإنه يعود مرة أخرى إلى المكان الذي يسكنه ليستريح فيه. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} هو استكمال للمنهج. فهناك أمر ونهي افعل ولا تفعل: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} أمر: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} أمر، {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} نهي وهذا أول منهج يعلم الإنسان الطاعة لله سبحانه وتعالى والامتناع عما نهى عنه، وكل رسائل السماء ومناهج الله في الأرض أمر ونهي. . افعل كذا ولا تفعل كذا. وهكذا فإن الحق سبحانه وتعالى ضمن لآدم الحياة، وليست الحياة فقط ولكن رغدا. أي مباحا وبلا تعب وعن سعة وبدون مشقة. كما أننا نلاحظ هنا أن المباح كثير والممنوع قليل. فكل ما في الجنة من الطعام والشراب مباح لآدم، ولا قيد إلا على شيء واحد. . شجرة واحدة من بين ألوف الأشجار التي كانت موجودة في الجنة. . شجرة واحدة فقط هي الممنوعة. وإذا نظرت إلى منهج السماء إلى الأرض تجد أن الله سبحانه وتعالى قد أباح فيه نعما لا تحصى ولا تعد وقيد فيه أقل القليل. . فالذي نهانا الله عنه بالنسبة لنعم الأرض هو أقل القليل، كما كان في جنة آدم شجرة واحدة والمباح بعد ذلك كثير. وإذا أخذنا ألفاظ العبارات نجد أن الله سبحانه وتعالى ساعة يقول: {وقُلْنَا يَآءَادَمُ} أتى بضمير «ن» ضمير الجمع، لأن الله واحد أحد، ولكنهم يسمونها: نون الكبرياء ونون العظمة. إذن فكل حدث يأتي فيه الحق تبارك وتعالى بنون الكبرياء ونون التعظيم. لأن كل فعل من الأفعال يحتاج إلى صفات متعددة حتى يتم. فأنت إذا أردت أن تفعل شيئا فإنه يقتضي منك قوة ويقتضي منك علما ويقتضي منك قدرة ويقتضي منك حكمة. . إذن فهناك صفات كثيرة موجودة يقتضيها الفعل. ولكن حين يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن شهادة التوحيد يقول «إنني أنا الله» ولا يقول: إنما نحن الله. . لأنه جل جلاله. يريد توحيدا. ففي موقع التوحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 يأتي بضمير الإفراد واحد أحد. . أما في صدر الأحداث. فيأتي بضمير الكبرياء والعظمة. واقرأ قوله تعالى: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] وعندما أراد الحق تبارك وتعالى أن يمتدح إبراهيم قال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} ما معنى أُمَّة؟ أي جامعا لصفات الخير التي لا تجتمع في فرد ولكنها تجتمع في أمة. فالأمة تجتمع فيها صفات الخير. . هذا متميز بالصدق، وذلك بالشجاعة. وهذا بالحلم. فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يقول إن إبراهيم كان أمة أي أنه كان جامعا لصفات الخير. وفي قوله {وقُلْنَا يَآءَادَمُ} آدم اسم علم على المسمى الذي هو أول خلق الله من البشر «واسكن» تحتاج إلى عنصرين: الهدوء والاطمئنان. . هذا هو معنى اسكن. توفير الهدوء والاطمئنان، ومنه أخذ اسم السكن. وكلمة المسكن وأطلق على الزوجة. . وإذا فقد المكان الذي تسكن فيه عنصرا من هذين العنصرين وهما الهدوء والطمأنينة لا يقال عليه مسكن. والزوجة سميت سكنا كما جاء في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] لأن الهدوء والرحمة والبركة تتوافر في الزوجة الصالحة. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 أي راحة واطمئنانا ورحمة. فالإنسان يريد في بيته أن تكون الحياة فيه مريحة له من عناء العمل وصخب الحياة. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} وكان من الممكن أن يقول اسكن وزوجك لأن الفاعل في فعل الأمر دائما مستتر. ولكنه سبحانه قال: اسكن أنت وزوجك. . وإياك أن تظن أن أنت هو فاعل الفعل اسكن. ولكنه ضمير جاء ليفصل بين اسكن وبين زوجك حتى لا يعطف الاسم على الفعل. أننا لابد أن نلاحظ أن كلمة زوج تطلق على الفرد ومعه مثله. ولذلك لم يأت بتاء التأنيث. . اسكن أنت وزوجتك. لأن الأمر التكليفي من الله. سواء فيه الذكر والأنثى. واقرأ قوله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [غافر: 40] إذن فهما متساويان في هذه الناحية. هذه الجنة ماذا وفر الله سبحانه وتعالى لآدم وزوجه فيها؟ اقرأ قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى} [طه: 118 - 119] هذه عناصر الحياة التي وفرها الله لآدم وزوجه في جنة التجربة الإيمانية العملية على التكليف. وهكذا نرى من الأوصاف التي أعطاها الله سبحانه وتعالى لنا لهذه الجنة أنها ليست جنة الآخرة. لأنه أولا فيها تكليف. في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} وجنة الآخرة لا تكليف فيها، والحق تبارك وتعالى أباح لآدم وحواء أن يأكلا كما يشاءان من الجنة. والجنة فيها أصناف كثيرة متعددة. ولذلك قال: {حَيْثُ شِئْتُمَا} وأنت لا تستطيع أن تقدم لإنسان صنفا أو صنفين وتقول له كل ما شئت. لأنه لا يوجد أمامه إلا مجال ضيق للاختيار، كما أن قلة عدد الأصناف تجعل النفس تمل. ولذلك لابد أن يكون هناك أصناف متعددة وكثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ثم جاء النهي. في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} أي لا تقتربا من مكانها. ولكن لماذا لم يقل الحق سبحانه وتعالى ولا تأكلا من هذه الشجرة؟ . لأن الله جل جلاله رحمة بآدم وزوجه كان لا يريدهما أن يقعا في غواية المعصية. فلو أنه قال: ولا تأكلا من هذه الشجرة لكان مباحا لهما أن يقتربا منها فتجذبهما بجمال منظرها ويقتربا من ثمارها فتفتنهما برائحتها العذبة ولونها الجذاب. حينئذ يحدث الإغواء. وتمتد أيديهما تحت هذا الإغراء إلى الشجرة ليأكلا منها. ولكن الله تعالى يعلم أن النفس البشرية إذا حرم عليها شيء ولم تحم حوله كان ذلك أدعى ألا تفعله. فالله تعالى حين حرم الخمر لم يقل حرمت عليكم الخمر وإلا كنا جلسنا في مجالس الخمر ومع الذين يشربونها. أو نتاجر فيها وهذا كله إغراء بشرب الخمر. . ولكنه قال: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] هذا النص الكريم قد جعلنا نبتعد عن الأماكن التي فيها الخمور. فلا نجلس مع من يشربونها، ولا نتاجر فيها حتى لا نقع في المعصية. فإذا رأيت مكانا فيه خمر فابتعد عنه في الحال. حتى لا يغريك منظر الخمر وشاربها بأن تفعل مثله. والحق جل جلاله يقول في المحرمات: «لا تقربوا» واجتنبوا. . أي لا تحوموا حولها. لأنها إذا كانت غائبة عنك فلا تخطر على بالك فلا تقع فيها. ولذلك يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ والْحَرَامَ بَيِّنٌ وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا وإن لكل مَلَكٍ حِمَى ألا وإِن حمى الله محارمه» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ولقد كان بعض الناس يقبلون على شرب الخمر ويقولون إنه لم يرد فيها تحريم صريح. . فلم تأت مسبوقة بكلمة حرمت. . نقول إن كلمة اجتنبوا. أشد من التحريم. فقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} معناه ألا تنظر حتى إلى الصنم. واجتناب الخمر ألا تقع عينك عليها. . وقد اختلف الناس في نوع هذه الشجرة. وهل هي شجرة تفاح أو تين أو عنب أو غير ذلك. ونحن نقول: ليس هذا هو المقصود. ولكن المقصود هو التحريم. لأن منهج الله سبحانه وتعالى يحلل أشياء. ويحرم أشياء. وقوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} الظلم هو الجور والتعدي على حقوق الغير. والظالم هو من أخذ فوق ما يستحقه بغير حق. والظلم يقتضي ظالما ومظلوما. وموضوعا للظلم. فكل حق سواء كان ماديا أو معنويا يعتدي عليه إنسان بدون حق فقد حمل ظلما. حتى الإنسان أنه أحيانا يظلم نفسه. واقرأ قوله تعالى: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله} [آل عمران: 135] كيف يظلم الإنسان نفسه؟ قد يظلم الإنسان غيره. ولكنه لا يظلم نفسه أبدا لأنه يريد أن يعطيها كل ما تشتهيه. وهذا هو عين الظلم للنفس. لأنه أعطاها شهوة عاجلة في الدنيا. ربما استمرت ساعات. وحرمها من نعيم أبدي في الآخرة. فكأنه ظلمها بأن أعطاها عذابا أليما في الآخرة مقابل متعة زائلة لا تدوم. . وهناك من يبيع دينه بدنياه. ولكن أظلم الناس لنفسه من يبيع دينه. بدنيا غيره. يشهد زورا. ليرضي رئيسا. أو يتقرب لمسئول. أو يرتكب جريمة. . إذن قوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} أي من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 بعد أن أسكن الله سبحانه وتعالى آدم وزوجه في الجنة. وأخبرهما بما هو حلال وما هو حرام. بدأ الشيطان مهمته. مهمة عداوته الرهيبة لآدم وذريته. والحق سبحانه يقول: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان} أي أن الشيطان باشر مهمته فأوقعهما في الزلة. وهي العثرة أو الكبوة. كيف حدث ذلك والله تعالى قد نصح آدم وزوجه ألا يتبعا الشيطان. وأبلغه أنه عدو لهما. في قوله تعالى: {. . إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117] إذن فالعداوة معلنة ومسبقة. ولنفرض أنها غير معلنة. ألم يشهد آدم الموقف الذي عصى فيه إبليس أمر الله ولم يسجد لآدم؟ ألم يعرف مدى تكبر إبليس عليه. في قوله {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} وقوله {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} كل هذا كان ينبغي أن ينبه آدم إلى أن إبليس لن يأتي له بخير أبدا. . والحق سبحانه وتعالى لم يكتف بالدلالات الطبيعية التي نشأت عن موقف إبليس في رفضه السجود. بل أخبر آدم أن الشيطان عدو له ولزوجه. . يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} من ماذا أخرجهما؟ من العيش الرغيد. واسع النعمة في الجنة. ومن الهدوء والاطمئنان في أن رزقهما يأتيهما بلا تعب. ولذلك سيأتي الحق في آية أخرى ويقول: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وهنا لابد أن نتساءل: لماذا لم يقل فتشقيا؟ إن هذه لفتة من الحق سبحانه وتعالى. . إلى مهمة المرأة ومهمة الرجل في الحياة. فمهمة المرأة أن تكون سكنا لزوجها عندما يعود إلى بيته. تذهب تعبه وشقاءه. أما مهمة الرجل فهي العمل حتى يوفر الطعام والمسكن لزوجته وأولاده. والعمل تعب وحركة. وهكذا لفتنا الحق تبارك وتعالى إلى أن مهمة الرجل أن يكدح ويشقى. ثم يأتي إلى أهله فتكون السكينة والراحة والاطمئنان. إذا كانت هذه هي الحقيقة. فلماذا يأتي العالم ليغير هذا النظام؟ نقول إن العالم هو الذي يتعب نفسه. ويتعب الدنيا. فعمل المرأة شقاء لها. فمهمتها هي البيت. وليس عندها وقت لأي شيء آخر. فإذا عملت فذلك على حساب أولادها وبيتها وزوجها. . ومن هنا ينشأ الشقاء في المجتمع. فيضيع الأولاد. ويهرب الزوج إلى مكان فيه امرأة تعطيه السكن الذي يحتاج إليه. وينتهي المجتمع إلى فوضى. . وكان يجب على آدم أن يتنبه إلى أن إبليس يعتبره السبب في طرده من رحمة الله. فلا يقبل منه نصيحة ولا كلاما ويحتاط. . كيف أزل الشيطان آدم وزوجه؟ لقد شرح الله سبحانه وتعالى لنا هذا ولكن ليس في سورة البقرة وإنما في آية أخرى. . فقال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20] إذن فإبليس قال كاذبا أن من يأكل من هذه الشجرة يصبح ملكا. ويصبح خالدا لا يموت. . ووسوسة الشيطان تتم بكلام كاذب لتزيين المعصية، والشيطان لا يهمه أي معصية ارتكبت. وإنما يريدك عاصيا على أي وجه. ولكن النفس عندما توسوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 لك بالمعصية، تريد شيئا بذاته. وهذا هو الفرق بين وسوسة الشيطان. ووسوسة النفس. فالشيطان يريدك عاصيا بأي ذنب. فإن امتنعت في ناحية أتاك من ناحية أخرى. فقد قال لآدم: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى «ولكن هذه المحاولة لم تفلح. فقال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} وفات على آدم أنه لو كان هذا صحيحا. . لأكل إبليس من الشجرة. . ولم يطلب من الحق سبحانه وتعالى أن يمهله إلى يوم الدين. . ما الذي اسقط آدم في المعصية؟ إنها الغفلة أو النسيان. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] وهل النسيان معصية. حتى يقول الحق سبحانه وتعالى: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] نعم النسيان كان معصية في الأمم السابقة. لذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه « ونسي وعصى. تؤدي معنى واحدا. . وقوله تعالى: {قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} [الأعراف: 24] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 هذا الهبوط هو بداية نزول الإنسان إلى الأرض ليباشر مهمته في الدنيا. ومادام الحق سبحانه وتعالى قال: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} . فهي إذن حياة موقوته على قدر وقتها، وعلى قدر حجمها. . والذين يقولون بأنه لابد من وجود بشر نسميه مخَلِّصا. ليفدي العالم بصلبه أو بغير ذلك من الخطيئة التي ارتكبها آدم. نقول له: أنك لم تفهم عن الله شيئا، لأن القصة هي هنا خطأ قد حدث وصُوب. وفرق بين الخطأ والخطيئة. فالخطأ يصوب. ولكن الخطيئة يعاقب عليها. وآدم أخطأ وصوب الله له. وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه. إذن لا توجد خطيئة بعد أن علمه الله التوبة وتاب إلى الله. ثم ماذا فعل آدم. حتى نقول نخلص العالم من خطيئة آدم. إنه أكل من الشجرة. وهل خطايا العالم كلها أكل؟ { من الذين أوجد القتل وسفك الدماء، والزنا والاغتصاب والنميمة والغيبة؟ لو أن كلامهم صحيح لكان لابد ألا توجد خطيئة على الأرض مادام قد وجد المخلِّص الذي فدى العالم من الخطيئة. ولكن الخطيئة باقية. ومن الذي قال أن الخطيئة تورث. حتى يرث العالم كله خطيئة آدم؟} . والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} . . وقول الحق سبحانه وتعالى {وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} العداوة هنا بين الشيطان والإنسان. والعداوة أيضا بين شياطين الإنس والمؤمنين، هذه العداوة التي تؤدي بنا إلى نشاط وتنبه. فالمستشرقون يعادون الإسلام. ولكن معاداتهم هذه تعطينا نشاطا لكي نبحث ونطلع حتى نرد عليهم. وجنود الشيطان من الإنس يعادون المؤمنين. وعداواتهم هذه تعطينا مناعة ألا نخطئ ولا نغفل. فأنت مادام لك عدو. . فحاول أن تتفوق عليه بكل السبل. ولعل الحضارة الإنسانية لا ترتقي بسرعة قدر ارتقائها وقت الحروب. ففيها يحاول كل خصم أن يتغلب على خصمه. وتجند كل القوى للتفوق علميا على الدول الأخرى. هذه الارتقاءات والاختراعات. قد تكون للتدمير والقتل. ولكن بعد أن تنتهي الحرب توجه إلى ارتقاءات الإنسان في الأرض. فتفتيت الذرة وصلوا إليه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 الحروب. والصواريخ التي وصل الإنسان بها إلى القمر كانت نتيجة حرب، والارتقاءات العلمية المختلفة التي تمت في أمريكا والاتحاد السوفيتي كان أساسها عداء كل معسكر للآخر. وقوله تعالى {اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . . الهبوط قد يكون من مكان أعلى إلى مكان أسفل. وقد يكون لهبوط معنويا. بأن تقول هذا الإنسان هبط في نظري منذ فعل كذا. هو لم يهبط من مكان أعلى إلى مكان أسفل. ولكنه هبط في قيمته. والمسافات لا تعني قربا أو بعدا. فقد يكون إنسان يجلس إلى جوارك وأنت بعيد عنه لا تحس به. وقد يكون هناك إنسان بعيد عنك بمئات الأميال ولكنه قريب إلى قلبك أكثر من ذلك الجالس إلى جوارك. وسواء كان الهبوط ماديا أو معنويا. فإنه حدث ليباشر آدم مهمته على الأرض. . والعداوة بين الإيمان والكفر مستمرة. وهكذا بعد معصية آدم. هبط هو وحواء من الجنة ليمارسا حياتهما على الأرض. . وقوله تعالى «اهبطوا» معناه أن آدم وحواء وإبليس هبطوا إلى الأرض بعد أن تمت التجربة الإيمانية. لقد بين الله تعالى لآدم عمليا أن إبليس عدو له. لا يريد له الخير. وأنه كاذب في كل ما يعد به الإنسان. وقد حدد الله الحياة الدنيا بأنها حياة موقوتة. قدراتها محدودة. ومتاعها محدود. . في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} . أي لا أحد سيبقى في الأرض إلا بمقدار ما قدر الله له من عمر ثم يموت. وبهذا حذر الله آدم وذريته من أن يتخذوا من الحياة هدفاً لأن متاعها قليل، وأمدها قصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 نزل آدم وحواء إلى الأرض ليمارسا مهمتهما في الكون. وقبل أن يبدآ هذه المهمة. جعلهما الله سبحانه وتعالى يمران بتجربة عملية بالنسبة لتطبيق المنهج وبالنسبة لإغواء الشيطان. وحذرهما بأن الشيطان عدو لهما. . كان لابد بعد أن وقعت المعصية أن يشرع الله تعالى التوبة رحمة بعباده. ذلك أن تشريع التوبة ليس رحمة بالعاصي وحده، ولكنه رحمة بالمجتمع كله. فالإنسان إذا عصى وعرف أنه. . لا توبة له وأنه محكوم عليه بالخلود في النار. يتمادى في إجرامه. لأنه مادام لا أمل له في النجاة من عذاب الآخرة. فإنه يتمادى في المعصية. لأنه لا أمل في الغفران أو التوبة. . من الذي سيعاني في هذه الحالة؟ إنه المجتمع الذي يعيش فيه ذلك العاصي. وسيكون المؤمنون أكثر الناس معاناة لأنهم أهل خير وتسامح. ولأن الله سبحانه وتعالى. . أمرهم بالعفو. والصفح. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وقوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تحث المؤمنين على العفو. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «أوصاني ربي بتسع أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر وفي العلانية. والقصد في الغنى والفقر وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكرا ونطقي ذكرا، ونظري عبرا» فالتوبة لو لم تشرع لعانى المجتمع كله. وخاصة المؤمنين الذي أمروا أن يقابلوا العدوان بالصفح والظلم بالعفو. ولذلك كان تشريع التوبة من الله سبحانه وتعالى. رحمة بالناس كلهم. والله جل جلاله شرع التوبة أولا. ثم بعد أن شرعها تاب العاصي. ثم بعد ذلك يقبل الله التوبة أو لا يقبلها تبعا لمشيئته. واقرأ قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118] آدم تلقى من ربه كلمات فتاب عليه. أتوجد خطيئة بعد توبة آدم وقبول الله سبحانه وتعالى هذه التوبة؟ إن بعض الناس يقول أن آدم قد عصى وتاب الله عليه. وإبليس قد عصى فجعله الله خالدا في النار. نقول: إنكم لم تفهموا ماذا فعل آدم؟ أكل من الشجرة المحرمة. وعندما علم أنه أخطأ وعصى. لم يصر على المعصية. ولم يرد الأمر على الآمر. ولكنه قال يا رب أمرك ومنهجك حق. ولكنني لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 أقدر على نفسي فسامحني. أعترف آدم بذنبه. واعترف بضعفه. واعترف بأن المنهج حق. وطلب التوبة من الله سبحانه وتعالى. ولكن إبليس رد الأمر على الآمر. قال: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} وقال {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} وقال: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} فإبليس هنا رد الأمر على الآمر. لم يعترف بذنبه. ويقول يا رب غلبني ضعفي. وأنت الحق وقولك الحق. ولكنه رد الأمر على الله تعالى وعاند وقال سأفعل كذا وسأفعل كذا. وهذا كفر بالله. إياك أن ترد الأمر على الله سبحانه وتعالى. فإذا كنت لا تصلي. . فلا تقل وما فائدة الصلاة. وإذا لم تكن تزكي. فلا تقل تشريع الزكاة ظلم للقادرين. وإذا كنت لا تطبق شرع الله. فلا تقل أن هذه الشريعة لم تعد تناسب العصر الحديث. فإنك بذلك تكون قد كفرت والعياذ بالله. ولكن قل يا ربي إن فرض الصلاة حق. وفرض الزكاة حق. وتطبيق الشريعة حق. ولكنني لا أقدر على نفسي. فارحم ضعفي يا رب العالمين. إن فعلت ذلك. تكن عاصيا فقط. إن الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس. أن آدم اعترف بمعصيته وذنبه. ولكن إبليس رد الأمر على الآمر. فيكون آدم قد عصى، وإبليس قد كفر والعياذ بالله. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} هذه الكلمات التي تلقاها آدم. أراد العلماء أن يحصروها. ما هذه الكلمات؟ هل هي قول آدم كما جاء في قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] هذه الآية الكريمة. دلتنا على أن ذنب آدم لم يكن من ذنوب الاستكبار. ولكن من ذنوب الغفلة. . بينما كان ذنب إبليس من ذنوب الاستكبار على أمر الله. ولكن آدم عندما عصى حدث منه انكسار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فقال: يا ربي أمرك بألا أقرب الشجرة حق. ولكني لم أقدر على نفسي. فآدم أقر بحق الله في التشريع. بينما إبليس اعترض على هذا الأمر وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} الكلمات التي تلقاها آدم من الله سبحانه وتعالى قد تكون: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} وقد تكون:. . اللهم لا إله إلا أنت سبحانك ربي وبحمدك. إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا فاغفر لي يا خير الغافرين. . أو اقبل توبتي يا خير التوابين. . أو قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله. . المهم أن الله سبحانه وتعالى قد أوحى لآدم بكلمات يتقرب بها إليه. سواء كانت هذه الآية الكريمة أو كلمات أخرى. لو نظرنا إلى تعليم الله آدم لكلمات ليتوب عليه. لوجدنا مبدأ مهما في حياة المجتمع. لأن الله سبحانه وتعالى كما قلنا. . لو لم يشرع التوبة ولو لم يبشرنا بأنه سيقبلها. لكان الذي يذنب ذنبا واحدا لا يرجع عن المعصية أبدا. وكان العالم كله سيعاني.. والله سبحانه وتعالى خلقنا مختارين ولم يخلقنا مقهورين. القهر يثبت صفة القدرة لله، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد منا أن نأتي عن حب وليس عن قهر. ولذلك خلقنا مختارين. وجعل لنا طاقة تستطيع أن تعصي وأن تطيع. ومادام هناك اختيار. . فالإنسان يختار هذه أو تلك. . إن الله لم يخلق بشرا يختارون الخير على طول الخط. وبشرا يختارون الشر في كل وقت. فهناك من الخيرين من يقع في الشر مرة، وهناك من الشريرين من يعمل الخير مرة. فالعبد ليس مخلوقا أن يختار خيرا مطلقا. أو أن يختار شرا مطلقا. . ولذلك فأحيانا ننسى أو نسهو. أو نعصي. ومادام العبد معرضا للخطيئة. فالله سبحانه وتعالى شرع التوبة. حتى لا ييأس العبد من رحمة الله، ويتوب ليرجع إلى الله. وقد جاء في الحكمة: «رب معصية أورثت ذلا وانكسارا. خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وهكذا عندما نزل آدم ليباشر مهمته في الحياة. لم يكن يحمل أي خطيئة على كتفيه. . فقد أخطأ وعلمه الله تعالى كلمات التوبة. فتاب فتقبل الله توبته. . وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} . . كلمة تواب تدل على أن الله تعالى لا يأخذ عباده بذنب واحد. لأنه سبحانه وتعالى حتى لو تاب عن ذنب واحد لكل عبد من عباده كان توابا. والمبالغة في الصفة تأتي من ناحيتين. أولا أن الأمر يتكرر عدة مرات من عدد قليل من الأشخاص. أو من شخص واحد. أو أن الأمر يقع مرة واحدة ولكن من أشخاص كثيرين. . فإذا قلت مثلا: فلان أكول، قد يكون أكولا لأنه يأكل كمية كبيرة من الطعام. فيسمى أكولا. . إنه لا يتجاوز طعامه في عدد مراته وجبات الطعام العادي للإنسان. ولكنه يأكل كمية كبيرة. فنسميه أكولا. فيأكل مثلا عشرة أرغفة في الإفطار ومثلها في الغداء ومثلها في العشاء. وقد يكون الإنسان أكولا إذا تكرر الفعل نفسه. . كأن يأكل كميات الطعام العادية ولكنه يأكل في اليوم خمس عشرة مرة مثلا. . فالله سبحانه وتعالى تواب لأن خلقه كثيرون. فلو اخطأ كل واحد منهم مرة. يكون عدد ذنوبهم التي سيتوب الله عليها كمية هائلة. فإذا وجد من يذنب عدة مرات في اليوم. فإن الله تعالى. يكون توابا عنه أيضا إذا تاب واتجه إليه. . إذن مرة تأتي المبالغة. في الحدث وإن كان الذي يقوم به شخص واحد. ومرة تأتي المبالغة في الحدث لأن من يقوم به أفراد متعددون. . إذن فآدم أذنب ذنبا واحدا. يقتضي أن يكون الله تائبا. ولكن ذرية آدم من بعده سيكونون خلقا كثيرا. . فتأتي المبالغة من ناحية العدد. . وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} سيدنا عمر جاءته امرأة تصيح وتصرخ لأن ابنها ضبط سارقا. وقالت لعمر ما سرق ابني إلا هذه المرة. فقال لها عمر: الله أرحم بعبده من أن يأخذه من أول مرة. لابد أنه سرق من قبل. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وأنا أتحدى أن يوجد مجرم يضبط من أول مرة. كلمة تواب تدل على أنه يضبط بعد مرتين أو ثلاث، فالله يستر عبده مرة ومرة. ولكن إذا ازداد وتمادى في المعصية. يوقفه الله عند حده. وهذا هو معنى تواب. والحق سبحانه وتعالى. تواب برحمته. . لأن هناك من يعفو ويظل يمن عليك بالعفو. حتى أن المعفو عنه يقول: ليتك عاقبتني ولم تمن علي بالعفو كل ساعة. لكن الحق سبحانه وتعالى. تواب رحيم. يتوب على العبد. ويرحمه فيمحو عنه ذنوبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 يقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية: {قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً} وفي سورة طه يقول جل جلاله {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً} عندما خاطب الله سبحانه وتعالى بصورة الجمع. كان الخطاب لكل ذرية آدم المطمورة في ظهره. أمراً لهم جميعا بالهبوط. آدم وحواء والذرية. لأن كل واحد منا. إلى أن تقوم الساعة فيه جزيء من آدم. ولذلك لابد أن نلتفت إلى قول الحق تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} [الأعراف: 11] نلاحظ هنا أن الخطاب بصيغة الجمع، فلم يقل الحق سبحانه وتعالى. لقد خلقتك ثم صورتك ثم قلت للملائكة اسجدوا لآدم، فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه ساعة الخلق كان كل ذرية آدم مطمورين في ظهره. خلقهم جميعا ثم صورهم جميعا. ثم طلب من الملائكة السجود لآدم. فهل نحن كنا موجودين؟ نعم كنا موجودين في آدم. ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول: «اهبطوا» لنعرف أن هذا الخطاب موجه إلى آدم وذريته جميعا إلى يوم القيامة. ومرة يقول {اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً} لأن هنا بداية تحمل المسئولية بالنسبة لآدم. في هذه اللحظة وهي لحظة الهبوط في الأرض. سيبدأ منهج الله مهمته في الحياة. ومادام هناك منهج وتطبيق فردي. تكون المسئولية فردية. ولا يأتي الجمع هنا. فالحق سبحانه وتعالى يقول: {اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً} نلاحظ أن أمر الهبوط هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 بالمثنى. ثم يقول تبارك وتعالى جميعا. . جمع. . نقول أنه مادامت بداية التكليف. فهناك طرفان سيواجه بعضهما البعض. الطرف الأول. هو آدم وزوجه. والطرف الثاني هو إبليس. فهم ثلاثة ولكنهم في معركة الإيمان. فريقان فقط. آدم وحواء وذريتهما فريق. والشيطان فريق آخر. فكأن الله تعالى يريد أن يلفتنا إلى أن هذا الهبوط يتعلق بالمنهج وتطبيقه في الأرض. وفي المنهج آدم وحواء حريصان على الطاعة. وإبليس حريص على أن يقودهما إلى المعصية. وفي قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى بعد أن مر آدم بالتجربة ووقع في المعصية، علمه الله تعالى كلمات التوبة. ونصحه أنه إذا غفل يتوب. والله سبحانه وتعالى. . سيقبل توبته. . إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد من آدم وحواء أن يسكنا الأرض. ويبدآ مهمتهما في الحياة. والله يدلهما على الخير. مصداقا لقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} . . وهدى لها معنيان. . هي بمعنى الدلالة على الخير. أو الدلالة على الطريق الموصلة للخير. وهناك هدى وهو الإعانة على الإيمان والزيادة فيه. واقرأ قوله تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] الهدى هنا في الآية الكريمة. . بمعنى الدلالة على طريق الخير. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . ما هو الخوف وما هو الحزن؟ الخوف أن تتوقع شرا مقبلا لا قدرة لك على دفعه فتخاف منه. . والحزن أن يفوتك شيء تحبه وتتمناه. والحق سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية: من مشى في طريق الإيمان الذي دللته عليه. وأنزلته في منهجي. فلا خوف عليهم. أي أنه لا خير سيفوتهم فيحزنوا عليه. لأن كل الخير في منهج الله. فالذي يتبع المنهج لا يخاف حدوث شيء أبدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وهذه تعطينا قضية مهمة في المجتمع. الذي لم يرتكب أية مخالفة. . هل يناله خوف؟ أبدا. . ولكن من يرتكب مخالفة تجده دائما خائفا خشية أن ينكشف أمره. . ويفاجأ بشر لا قدرة له على دفعه. إن الإنسان المستقيم لا يعيش الخوف. لأن الخوف أمران. إما ذنب أنا سبب فيه. والسائر على الطريق المستقيم لم يفعل شيئا يخاف انكشافه. وإما أمر لا دخل لي فيه. يجريه على خالقي. وهذا لابد أن يكون لحكمة. قد أدركها. وقد لا أدركها ولكني أتقبلها. فالذي يتبع هدى الله. لا يخاف ولا يحزن. لأنه لم يذنب. ولم يخرق قانونا. ولم يغش بشرا. أو يخفي جريمة. فلا يخاف شيئا، ولو قابله حدث مفاجئ، فقلبه مطمئن. والذين يتبعون الله. لا يخافون. ولا يخاف عليهم. . وقوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لأن الذي يعيش طائعا لمنهج الله. . ليس هناك شيء يجعله يحزن. ذلك أن إرادته في هذه الحالة تخضع لإرادة خالقه. فكل ما يحدث له من الله هو خير. حتى ولو كان يبدو على السطح غير ذلك. ملكاته منسجمة وهو في سلام مع الكون ومع نفسه. والكون لا يسمع منه إلا التسبيح والطاعة والصلاة. وكلها رحمة. فهو في سلام مع نفسه. وفي سلام مع ربه. وفي سلام مع المجتمع. إن المجتمع دائما يسعد بالإنسان المؤمن الذي لا يفسد في الأرض. بل يفعل كل خير. فالمؤمن نفحة جمال تشع في الكون. ونعمة حسن ورضا مع كل الناس ومادام الإنسان كذلك. فلن يفقد ما يسره أبدا. فإن أصابته أحداث. . أجراها الله عليه. . لا يقابلها إلا بالشكر. وإن كان لا يعرف حكمتها. . وإياك أن تعترض على الله في حكم. ولذلك يقول: أحمدك ربي على كل قضائك وجميع قدرك. حمد الرضا بحكمك واليقين بحكمتك. . والإنسان ينفعل للأحداث. ولكن هناك فرق بين الانفعال للأحداث وحدها وبين الانفعال للأحداث مع حكمة مجريها. ولذلك فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلمنا الدقة حينما قال: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 انظر إلى الإيمان وهو يستقبل الأحداث. . العين تدمع. ولا يكون القلب قاسيا مثل الحجر، لكن فيه حنان. والقلب يخشع لله. مقدرا حكمته وإرادته. . والله سبحانه وتعالى لا يريدنا أن نستقبل الأحداث بالحزن وحده. ولكن بالحزن مع الإيمان. فالله لا يمنعك أن تحزن. ولكن عليك ألا تفصل الحدث عن مجريه وحكمته فيه. . ولذلك حين تذهب إلى طبيب العظام. . فيكسر لك عظامك لكي يصلحها. هل يفعل لك خيرا أو شرا؟ طبعا يفعل لك خيرا. وإن كان ذلك يؤلمك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الحق سبحانه وتعالى بعد أن أعلمنا أن آدم حين يهبط إلى الأرض سيتلقى من الله منهجا لحركة حياته. من اتبعه خرج من حياته الخوف والحزن. وأصبح آمنا في الدنيا والآخرة. أراد الله تعالى أن يعطينا الصورة المقابلة. فالحكم في الآية السابقة كان عن الذين اهتدوا. والحكم في هذه الآية عن الذين كفروا. يقول الحق تبارك وتعالى. . {والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} والكفر كما بينا هو محاولة ستر وجود الله واجب الوجود. ومحاولة ستر هذا الوجود هو إعلان بأن الله تعالى موجود. فأنت لا تحاول أن تستر شيئا إلا إذا كان له وجود أولا. . إن الشيء الذي لا وجود له لا يحتاج إلى ستر؛ لأنه ليس موجودا في عقولنا. وعقولنا لا تفهم ولا تسع إلا ما هو موجود. توجد الصورة الذهنية أولا. . ثم بعد ذلك يوجد الاسم أو الصورة الكلامية. ولذلك إذا حدثك إنسان عن شيء ليس له وجود فأنت لا تفهمه. ولا تستطيع أن تعيه إلا إذا شبه لك بموجود. كأن يقال لك: مثل هذا الجبل أو مثل هذه البحيرة. أو مثل قرص الشمس أو غير ذلك حتى تستطيع أن تفهم. فأنت لا تفهم غير موجود إلا إذا شبه بموجود. وكل شيء لابد أن يكون قد وجد أولا. ثم بعد ذلك تجتمع مجامع اللغة في العالم لتبحث عن لفظ يعبر عنه بعد أن وجد في الصورة الذهنية. فلم يكن هناك اسم للصاروخ مثلا قبل أن يوجد الصاروخ. ولا لسفينة الفضاء قبل أن تخترع. ولا لأشعة الليزر قبل أن تكتشف. إذن فكل هذا وجد أولا. ووضع له الاسم بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الذين كفروا يحاولون ستر وجود الله. وستر وجود الله سبحانه وتعالى هو إثبات لوجوده. لأنك لا تستر شيئا غير موجود. وهكذا يكون الكفر مثبتا للإيمان. وعقلك لا يستطيع أن يفهم الاسم إلا إذا وجد المعنى في عقلك. وأنت لا تجد لغة من لغات العالم. ليس فيها اسم الله سبحانه وتعالى. بل إن الله جل جلاله وهو غيب عنا إذا ذكر اسمه فهمه الصغير والكبير. والجاهل والعالم. والذي طاف الدنيا. والذي لم يخرج من بيته. كل هؤلاء يفهمون الله بفطرة الإيمان التي وضعها في قلوبنا جميعا. إذن الذين كفروا يحاولون ستر وجود الله سبحانه وتعالى. . وقوله تعالى: {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} والآية هي الشيء العجيب اللافت. فهناك في الكون آيات كونية مثل الشمس والقمر والنجوم والأرض. والجبال والبحار وغير ذلك. هذه تسمى آيات. شيء فوق قدرة البشر خلقها الله سبحانه وتعالى لتكون آية في كونه وتخدم الإنسان. وهناك الآيات وهي المعجزات. عندما يرسل الله رسولا أو نبيا إلى قومه فإنه سبحانه يخرق له قوانين الكون ليثبت لقومه أنه نبي مرسل من عند الله سبحانه وتعالى. وهذه الآيات مقصود بها من شهدها. لأنها تأتي لتثبيت المؤمنين بالرسل. وهم يمرون بأزمة يحتاجون فيها إلى التثبيت. ودلالة على صدق رسالة النبي لقومه. . وتطلق الآيات على آيات القرآن الكريم. كلام الله المعجز الذي وضع فيه سبحانه وتعالى ما يثبت صدق الرسالة. إلى يوم الدين. يحدثنا الله سبحانه في آياته. عن كيفية خلق الإنسان. وعن منهج السماء للأرض وغير ذلك. والذين كذبوا بآيات الله. هم الكافرون. وهم المشركون. وهم الذين يرفضون الإسلام. ويحاربون الدين. هؤلاء جميعا. حدد لنا الله تعالى مصيرهم. ولكن هل التكذيب عدم قدرة على الفهم؟ نقول أحيانا يكون التكذيب متعمدا مثلما حدث لآل فرعون عندما أصابهم الله بآفات وأمراض وبالعذاب الأصغر حتى يؤمنوا. ولكنهم رغم يقينهم بأن هذه الآيات من الله سبحانه وتعالى. لم يعترفوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 بها. . ويقول الحق جل جلاله. {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] والآيات في الكون كثيرة. لو أننا التفتنا إليها لآمَنَّا. فهي ليست محتاجة إلى فكر. بل إن الله تعالى، رحمة بنا جعلها ظاهرة. ليدركها الناس. كل الناس. ولكن البعض رغم ذلك يكذب بآيات الله. وهؤلاء هم الذين يريدون أن يتبعوا هوى النفس. والحق سبحانه وتعالى جمع الكافرين والمكذبين بآيات الله في عقاب واحد. . وقال جل جلاله: {أولئك أَصْحَابُ النار} والصاحب هو الذي يألف صاحبه. ويحب أن يجلس معه. ويقضي أجمل أوقاته. فكان قوله تعالى: أصحاب النار. دليل على عشق النار لهم. فهي تفرح بهم، عندما يدخلونها. كما يفرح الصديق بصديقه. ولا تريد أن تفارقهم أبدا. . ولذلك اقرأ الحق سبحانه وتعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] وهكذا نرى مدى العشق، بين النار والكافرين. إن النار تصاحبهم في كل مكان. وهي ليست مصاحبة كريهة بالنسبة للنار. ولكنها مصاحبة تحبها النار. فالنار حين تحرق كل كافر وآثم ومنافق تكون سعيدة. لأنها تعاقب الذين كفروا بمنهج الله وكذبوا بآياته في الحياة الدنيا. . وكذلك الحال بالنسبة للجنة. فإن الجنة أيضا تحب مصاحبة كل من آمن بالله وأخلص له العبادة وطبق منهجه. . واقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود: 23] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 أي أن الجنة تصاحب المؤمنين. وتحبهم وتلازمهم. مثلما تصاحب النار الكافرين والمكذبين. . وكما أن النار تكون سعيدة وهي تحرق الكافر. فالجنة تكون سعيدة وهي تمتع المؤمن. . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي أن العذاب فيها دائم. لا يتغير ولا يفتر. ولا يخفف. بل هو مستمر إلى الأبد. . واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 86] وهكذا نعرف أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل المنهج إلى الأرض مع آدم، وأن آدم. نزل إلى الأرض ومعه الهدى ليطبق أول منهج للسماء على الأرض. فكأن الله سبحانه وتعالى لم يترك الإنسان لحظة واحدة على الأرض دون أن يعطيه المنهج الذي يبين له طريق الهدى وطريق الضلال. ومع المنهج شرعت التوبة. وشرع قبول التوبة حتى لا ييأس الإنسان. ولا يحس أنه إذا أخطأ أو نسي أصبح مصيره جهنم. بل يحس أن أبواب السماء مفتوحة له دائما. وأن الله الذي خلقه رحيم به. إذا أخطأ فتح له أبواب التوبة وغفر له ذنوبه. حتى يحس كل إنسان برعاية الله سبحانه وتعالى له هو على الأرض. من أول بداية الحياة. فالمنهج موجود لمن يريد أن يؤمن. والتوبة قائمة لكل من يخطئ. وحذر الله سبحانه وتعالى آدم وذريته أنه من يطع ويؤمن يعش الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة. ومن يكفر ويكذب. فإن مصيره عذاب أبدي. لقد عرف الله آدم بعدوه إبليس. وطلب منه أن يحذره. فماذا فعل بنو آدم؟ هل استقبلوا منهج الله بالطاعة أو بالمعصية؟ وهل تمسكوا بتعاليم الله. أو تركوها وراء ظهورهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 بعد أن قص الله علينا قصة الخلق وكيف بدأت بآدم، وعداوة إبليس لآدم وسببها. قص علينا التجربة الأولى للمنهج في إحدى الجنات، وكيف أن آدم تعرض للتجربة فأغواه الشيطان وعصى. ثم نزل إلى الأرض مسلحا بمنهج الله. ومحميا بالتوبة من أن يطغى. بدأت مهمة آدم على الأرض. إن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يعرض علينا موكب الرسالات وكيف استقبل بنو آدم منهج الله بالكفر والعصيان. فاختار جل جلاله قصة بني إسرائيل لأنها أكثر القصص معجزات، وأنبياء بني إسرائيل من أكثر الأنبياء الذين أرسلوا لأمة واحدة وليس معنى هذا أنهم مفضلون. ولكن لأنهم كانوا أكثر الأمم عصيانا وآثاما فكانوا أكثرهم أنبياء. كانوا كلما خرجوا من معجزة انحرفوا. فتأتيهم معجزة أخرى. فينحرفون. وهكذا حكم الله عليهم لظلمهم أن يتفرقوا في الأرض ثم يتجمعوا مرة أخرى في مكان واحد. ليذوقوا العذاب والنكال جزاء لهم على معصيتهم وكفرهم. ولذلك أخذت قصة بني إسرائيل ذلك الحجم الضخم في كتاب الله. وفي تثبيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فموسى عليه السلام الذي أرسله الله إلى بني إسرائيل من أولي العزم من الرسل. ولذلك فإنك تجد فيه تربية أولا. وتربية ثانيا. . ولابد أن نلتفت إلى قول الحق سبحانه وتعالى: يا بني إسرائيل «فالحق جل جلاله. حين يريد أن ينادي البشر جميعا يقول: {يابنيءَادَمَ} واقرأ قوله تعالى: {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وقوله سبحانه: {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان} [الأعراف: 27] لماذا يخاطبنا الله تعالى بقوله: يا بني آدم؟ لأنه يريد أن يذكرنا بنعمة علينا منذ بداية الخلق. لأن هذه النعم تخص آدم وذريته. فالله تعالى خلق آدم بيديه. وأمر الملائكة أن تسجد له. وأعد له كونا مليئا بكل ما يضمن استمرار حياته. ليس بالضروريات فقط. ولكن بالكماليات. ثم دربه الحق على ما سيتعرض له من إغواء الشيطان. وأفهمه أن الشيطان عدو له. ثم علمه كلمات التوبة. ليتوب عليه. وأمده بنعم لا تعد ولا تحصى. فالله سبحانه وتعالى يريد أن يذكرنا بكل ذلك حتى نخجل من أن نرتكب معصية بعد كل هذا التكريم للإنسان. فإذا تذكرنا نعم الله علينا. . فإننا نخجل أن نقابل هذه النعم بالمعصية. وقد علمنا الله سبحانه وتعالى علما ميزنا الله تعالى فيه عن ملائكته. لذا كان يجب أن نظل شاكرين عابدين طوال حياتنا في هذه الدنيا. لكننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى بدأ هذه الآية الكريمة بقوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} لماذا؟ ومن هو إسرائيل؟ إسرائيل مأخوذة من كلمتين: اسر وإيل. . (اسر) يعني عبد مصطفى أو مختار. (وإيل) معناها الله في العبرانية. فيكون معنى الكلمة صفوة الله. والاصطفاء هنا ليعقوب وليس لذريته. . فإذا نظرنا إلى إسرائيل الذي هو يعقوب كيف أخذ هذا الاسم. نجد أنه أخذ الاسم لأنه ابتلى من الله بلاء كبيرا. استحق به أن يكون صفيا لله. وعندما ينادي الله تعالى قوم موسى بقوله: يا بني إسرائيل. فإنه يريد أن يذكرهم بمنزلة إسرائيل عند الله. ما واجهه من بلاء. وما تحمله في حياته. فاذكروا ما وصاكم به حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 حضرته الوفاة. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] ثم يأتي بعد ذلك قول يعقوب. . واقرأ قوله تعالى: {يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] تلك هي الوصية التي وصى بها يعقوب بنيه. . فيها علم وفيها عظة. علم بأن الله إله واحد. لا شريك له. وأن الدين هو الإسلام. وعظة وتذكير بأن الله اختار لهم الدين. فليحرصوا عليه حتى الموت. ولقد جاءت هذه الوصية حين حضر يعقوب الموت. وساعة الموت يكون الإنسان صادقا مع نفسه. وصادقا مع ربه. وصادقا مع ذريته. فكأنه سبحانه وتعالى حينما يقول: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} يريد أن يذكرهم بإسرائيل وهو يعقوب وكيف تحمل وظل صابرا. ووصيته لهم ساعة الموت. إن الله سبحانه وتعالى يذكر الأبناء بفضله على الآباء علهم يتعظون أو يخجلون من المعصية تماما كما يكون هناك عبد صالح أسرف أبناؤه على أنفسهم. فيقال لهم: ألا تخجلون؟ أنتم أبناء فلان الرجل الصالح. لا يصح أن ترتكبوا ما يغضب الله … {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 إسرائيل هو يعقوب ابن إسحاق. وإسحاق ابن إبراهيم. وإبراهيم انجب إسحاق وإسماعيل. . ورسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذرية إسماعيل. والله سبحانه وتعالى يقول: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ولكن الله سبحانه وتعالى حين يخاطب المسلمين لا يقول اذكروا نعمة الله. وإنما يقول: «اذكروا الله» لأن بني إسرائيل ماديون ودنيويون. فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول لهم: مادمتم ماديين ودنيويين. فاذكروا نعمة الله المادية عليكم. ولكننا نحن المسلمين أمة غير مادية. وهناك فرق بين أن يكون الإنسان مع النعمة. وأن يكون مع المنعم. الماديون يحبون النعمة. وغير الماديين يحبون المنعم. ويعيشون في معيته. ولذلك. فخطاب المسلمين: «اذكروا الله» لأننا نحن مع المنعم. بينما خطابه سبحانه لبني إسرائيل: «اذكروا نعمة الله» والحديث القدسي يقول: «أنا أهل أن أَتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له» فالله سبحانه وتعالى واجب العبادة. ولو لم يخلق الجنة والنار. . ولذلك فإن المؤمنين هم أهل الابتلاء من الله. لماذا؟ لأن الابتلاء منه نعمة. والله سبحانه وتعالى يباهي بعباده ملائكته. ويقول: إنهم يعبدونني لذاتي. فتقول الملائكة: بل يعبدونك لنعمتك عليهم. فيقول سبحانه لهم: سأقبضها عنهم ولا يزالون يحبونني. . ومن عبادي من أحب دعاءهم. فأنا أبتليهم حتى يقولوا يا رب. لأن أصواتهم يحبها الله سبحانه وتعالى. ولذلك إذا ابتلى عبدا في صحته مثلا. وسلب منه نعمة العافية. ترى الجاهل هو الذي ينظر إلى هذا نظرة عدم الرضا. وأما المتعمق فينظر إلى قول الله في الحديث القدسي: أن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول يوم القيامة: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده. أما علمت أنك لو عدته لوجدتني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 عنده» فلو فقد المؤمن نعمة العافية. . فلا ييأس فإن الله تعالى يريده أن يعيش مع المنعم. . وأنه طوال فترة مرضه في معية الله تعالى. ولذلك حين يقول الحق تبارك وتعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} معناها. إن لم تكونوا مؤمنين لذاتي. فاستحيوا أن ترتكبوا المعصية بنعمتي التي أنعمت عليكم. ولقد جاءت النعمة هنا لأن بني إسرائيل يعبدون الله من أجل نعمه. {اذكروا نِعْمَتِيَ} الذكر هو الحفظ من النسيان، لأن روتين الحياة يجعلنا ننسى المسبب للنعم. فالشمس تطلع كل يوم. كم منا يتذكر أنها لا تطلع إلا بإذن الله فيشكره. والمطر ينزل كل فترة. من منا يتذكر أن المطر ينزله الله. فيشكره. فالذكر يكون باللسان وبالقلب. والله سبحانه وتعالى غيب مستور عنا. وعظمته أنه مستور. ولكن نعم الله سبحانه تدلنا عليه. . فبالذكر يكون في بالنا دائما. وبنعمه يكون ذكره وشكره دائما. والحق سبحانه وتعالى طلب من بني إسرائيل أن يذكروا النعمة التي أنعمها عليهم فقط. وكان يجب عليهم أن يطيعوا الله فيذكروا المنعم. لأن ذكر الله سبحانه وتعالى يجعلك في ركن ركين. لا يصل إليك مكروه ولا شر. إن ذكر الله المنعم يعطينا حركة الحياة في كل شيء. فذكر الله يوجد في القلوب الخشوع. ويقلل من المعاصي وينتفع الناس كل الناس به، ويجعل حركة الحياة مستقيمة. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى. {اذكروا نِعْمَتِيَ} معناها اذكروني حتى بالنعمة التي أنعمت عليكم. وقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} العهد هو الميثاق. واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] إذن فالعهد أمر موثق بين العبد وربه. ما هو العهد الذي يريد الله من بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 إسرائيل أن يوفوا به ليفي الله بعهده لهم؟ نقول: إما أن يكون عهد الفطرة. وعهد الفطرة كما قلنا أن نؤمن بالله ونشكره على نعمه. وكما قلنا إذا هبط الإنسان في مكان ليس في أحد. ثم نام وقام فوجد مائدة حافلة بالنعم أمامه. ألا يسأل نفسه: من صنع هذا؟ لو أنه فكر قليلا لعرف أنه لابد أن يكون لها من صانع. خصوصا أن الخلق هنا فوق قدرات البشر. فإذا أرسل الله سبحانه وتعالى رسولا يقول إن الله هو الذي خلق وأوجد. ولم يوجد مدع ولا معارض نظرا لأن إيجاد هذه النعم فوق قدرة البشر. تكون القضية محسومة لله سبحانه وتعالى. إذن فذكر الله وشكره واجب بالفطرة السلمية، لا يحتاج إلى تعقيدات وفلسفات. والوفاء بعهد الله أن نعبده ونشكره هو فطرة الإيمان لما أعطاه لنا من نعم. على أن الحق سبحانه وتعالى نجده يقول: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وفي آية أخرى: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وفي آية ثالثة: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] ما هي هذه القضية التي يريد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهنا إليها في هذه الآيات الكريمة؟ الله سبحانه وتعالى يريد أن نعرف أنه قد وضع في يدنا مفتاح الجنة. ففي يد كل واحد منا مفتاح الطريق الذي يقوده إلى الجنة أو إلى النار. ولذلك إذا وفيت بالعهد أوفى الله. وإذا ذكرت الله ذكرك. وإذا نصرت الله نصرك. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 والحديث القدسي يقول: «وإن تقرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» هكذا يريد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهنا أن المفتاح في يدنا نحن. فإذا بدأنا بالطاعة. فإن عطاء الله بلا حدود. وإذا تقربنا إلى الله تقرب إلينا. وإذا بعدنا عنه نادانا. هذا هو إيمان الفطرة. هل هذا هو العهد المقصود من الله سبحانه في قوله: {أَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أو هو العهد الذي أخذه الله على الأنبياء ليبلغوا أقوامهم بأنهم إذا جاء رسول مصدق لما معهم فلابد أن يؤمنوا به وينصروه؟ فالحق سبحانه وتعالى أخذ على الأنبياء جميعا العهد لرسول الإسلام سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . أو هو العهد الذي أخذه الله بواسطة موسى عليه السلام على علماء بني إسرائيل الذين تلقوا التوراة ولقنوها وكتبوها وحفظوها. عهد بألا يكتموا منها شيئا. . واقرأ قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] والهدف من هذا العهد. ألا يكتموا ما ورد عن الإسلام في التوراة. وألا يخفوا صفات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التي جاءت بها. . والله سبحانه وتعالى قد أعطى صفات رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة وفي الإنجيل. . واقرأ قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 [البقرة: 89] ولقد جاء القرآن الكريم. مصدقا لما نزل من التوراة. وعرف بنو إسرائيل أنفسهم صدق ما نزل في القرآن. ولكنهم كفروا لأن رسول الله لم يكن من قومهم. . وقد كان أهل الكتاب من توراة وإنجيل يعرفون أن رسالة رسول الله هي الرسالة الخاتمة. وأنه لابد أن يؤمن به قوم كل نبي. هل هذا هو العهد الذي يوجب على كافة الأمم الإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونصرته إن أدركوه. وإن لم يدركوه فالمسئولية على أبنائهم وأحفادهم أن ينصروه ويؤمنوا به متى أدركوه. إن كانت هي عهد إيمان الفطرة، أو كانت هي عهد الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكلاهما وارد. وقوله تعالى: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أي بما وعدتكم من جنة النعيم في الآخرة. فالله سبحانه وتعالى بعد نزول الإسلام اختص برحمته الذين آمنوا بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وكل من لم يؤمن بهذا الدين لا عهد له عند الله. واقرأ قوله تبارك وتعالى عندما أخذت الرجفة موسى وقومه وطلب موسى من الله سبحانه وتعالى الرحمة. قال تعالى: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 156 - 157] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فالحق سبحانه وتعالى يذكر بني إسرائيل في هذه الآية الكريمة. بالعهد الذي أخذه عليهم. وينذرهم أن رحمته هي للمؤمنين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متى جاءت رسالته. . وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} أي أنه لا توجد قوة ولا قدرة في الكون إلا قوة الله سبحانه وتعالى. ولذلك فاتقوا يوما ستلاقون فيه الله ويحاسبكم. وهو سبحانه وتعالى قهار جبار. ولا نجاة من عذابه لمن لم يؤمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 بعد أن ذَكَّرَ الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بالعهود التي قطعوها على أنفسهم سواء بعدم التبديل والتغيير في التوراة. لإخفاء أشياء وإضافة أشياء. وذكرهم بعهدهم بالنسبة للإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي ذكر الله سبحانه وتعالى أوصافه في التوراة. حتى أن الحَبْر اليهودي ابن سلام كان يقول لقومه في المدينة: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد. أي أنه كان يُذَكِّرُ قومه. أن أوصاف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الموجودة في التوراة. لا تجعلهم يخطئونه. قال الحق تبارك وتعالى: {وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} . لأن القرآن مصدق للتوراة. والقصد هنا التوراة الحقيقية قبل أن يحرفوها. فالقرآن ليس موافقا لما معهم من المحرف أو المبدل من التوراة. بل هو موافق للتوراة التي لا زيف فيها. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} . . ولقد قلنا أن اليهود لم يكونوا أول كافر بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وإنما كانت قريش قد كفرت به في مكة. المقصود في هذه الآية الكريمة أول كافر به من أهل الكتاب. لماذا؟ لأن قريشا لا صلة لها بمنهج السماء. ولا هي تعرف شيئا عن الكتب السابقة. ولكن أحبار اليهود كانوا يعرفون صدق الرسالة. وكانوا يستفتحون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أهل المدينة ويقولون: «جاء زمن رسول سنؤمن به ونقتلكم قتل عاد وإرم» . ولما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بدلا من أن يسارعوا بالإيمان به. كانوا أول كافر به. والله سبحانه وتعالى لم يفاجئ أهل الكتاب بمجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وإنما نبههم إلى ذلك في التوراة والإنجيل. ولذلك كان يجب أن يكونوا أول المؤمنين وليس أول الكافرين. لأن الذي جاء يعرفونه. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وقوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} : الحق سبحانه وتعالى حينما يتحدث عن الصفقة الإيمانية. يستخدم كلمة الشراء وكلمة البيع وكلمة التجارة. اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] وفي آية أخرى يقول: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 10 - 11] إن الحق سبحانه وتعالى. . استعمل كلمة الصفقة والشراء والبيع بعد ذلك في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9] ونعلم أن التجارة هي وساطة بين المنتج والمستهلك. . المنتج يريد أن يبيع إنتاجه. والمستهلك محتاج إلى هذا الإنتاج. والربح عملية تطول فترة. . وتقصر فترة مع عملية تحرك السلعة والإقبال عليها إن كان سريعا أو بطيئا. وعملية الاتجار استخدمها الله سبحانه وتعالى ليبين لنا أنها أقصر طريق إلى النفع. فالتجارة تقوم على يد الإنسان. يشتري السلعة ويبيعها. ولكنها مع الله سيأخذ منك بعضا من حرية نفسك. ليعطيك أخلد وأوسع منها. وكما قلنا: لو قارنا بين الدنيا بعمرها المحدود عمر كل واحد منا كم سنة؟ خمسين. . ستين. . سبعين! {نجد أن الدنيا مهما طالت. . ستنتهي والإنسان العاقل هو الذي يضحي بالفترة الموقوته والمنتهية ليكون له حظ في الفترة الخالدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وبذلك تكون هذه الصفقة رابحة. إن النعيم في الدنيا على قدر قدرات البشر. والنعيم في الآخرة على قدر قدرات الله سبحانه وتعالى. يأتي الإنسان ليقول: لماذا أضيق على نفسي في الدنيا؟ لماذا لا أتمتع؟ نقول له: لا. . إن الذي ستناله من العذاب والعقاب في الآخرة لا يساوي ما أخذته من الدنيا. . إذن الصفقة خاسرة. أنت اشتريت زائلا. ودفعته ثمنا لنعيم خالد. . والله سبحانه وتعالى يقول لليهود: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تدفعوا الآيات الإيمانية التي أعطيت لكم لتأخذوا مقابلها ثمنا قليلا. . وعندما يأخذ الإنسان أقل مما يعطي. . فذلك قلب للصفقة. والقلب تأتي من الخسارة دائما. . وكأن الآية تقول: تدفعون آيات الله التي تكون منهجه المتكامل لتأخذوا عرضا من أعراض الدنيا. قيمته قليلة ووقته قصير. هذا قلب للصفقة. ولذلك جاء الأداء القرآني مقابلا لهذا القلب. ففي الصفقات. . الأثمان دائما تدفع والسلعة تؤخذ. ولكن في هذه الحالة التي تتحدث عنها الآية في قوله تعالى {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} قد جعلت الثمن الذي يجب أن يكون مدفوعا جعلته مشتري وهذا هو الحمق والخطأ. الله يقول {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تقبلوا الصفقة. . الشيء الذي كان يجب أن تضحوا به لا تجعلوه ثمنا. لأنك في هذه الحالة تكون قد جعلت الثمن سلعة. مادمت ستشتري الآيات بالثمن. . فقد جعلت آيات الله ثمنا لتحصل على مكاسب دنيوية. وليتك جعلتها ثمنا غاليا. بل جعلتها ثمنا رخيصا. لقد تنكرت لعهدك مع الله ليبقى لك مالك أو مركزك} ! أما إذا ضحى الإنسان بشيء من متع الدنيا. . ليأخذ متع الآخرة الباقية. . فتكون هذه هي الصفقة الرابحة. ذلك لأن الإنسان في الدنيا ينعم على قدر تصوره للنعيم. ولكنه في الآخرة ينعم على قدر تصور الله سبحانه وتعالى في النعيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 بعض الذين لا يريدون أن يحملوا أنفسهم على منهج الله يستعجلون مكاسب الصفقة. استعجالا أحمق. إنهم يريدون المتعة حراما أو حلالا. . نقول لكل واحد منهم: إن كنت مؤمنا بالآخرة: أو غير مؤمن فالصفقة خاسرة. . لأنك في كلتا الحالتين ستعذب في النار. . فكأنك اشتريت بإيمانك ودينك متعة زائلة. وجعلت الكفر ومعصية الله هما الثمن فقلبت الآية، وجعلت الشيء الذي كان يجب أن يشتري بمنهج الله وهو نعيم الآخرة يباع. . ويباع بماذا؟ بنعيم زائل! وعندما يأخذ الإنسان أقل مما يعطي. . يكون هذا قلبا للصفقة. فكأن الآية تقول: إنكم تدفعون آيات الله وما تعطيكم من خَيْرَيْ الدنيا والآخرة لتأخذوا عرضا زائلا من أعراض الدنيا وثمنه قليل. والثمن يكون دائما من الأعيان كالذهب والفضة وغيرهما. . وهي ليست سلعة. فهب أن معك كنز قارون ذهبا. وأنت في مكان منعزل وجائع. ألا تعطي هذا الكنز لمن سيعطيك رغيفا. . حتى لا تموت من الجوع؟ ولذلك يجب ألا يكون المال غاية أو سلعة. فإن جعلته غاية يكون معك المال الكثير. . ولا تشتري به شيئا لأن المال غايتك. فيفسد المجتمع. إن المال عبد مخلص. ولكنه سيد رديء. هو عبدك حين تنفقه. ولكن حين تخزنه وتتكالب عليه يشقيك ويمرضك. لأنك أصبحت له خادما. والآية الكريمة. . تعطينا فكرة عن اليهود لأن محور حياتهم وحركتهم هو المال والذهب. فالله سبحانه وتعالى حرم الربا لأن المال في الربا يصبح سلعة. فالمائة تأخذ بمائة وخمسين مثلا. . وهذا يفسد المجتمع، لأنه من المفروض أن يزيد المال بالعمل. فإذا أصبحت زيادة المال بدون عمل. فسدت حركة الحياة. وزاد الفقير فقرا. وزاد الغني غنى. وهذا ما نراه في العالم اليوم. فالدول الفقيرة تزداد فقرا لأنها تقترض المال وتتراكم عليها فوائده حتى تكون الفائدة أكثر من الدين نفسه. وكلما مر الوقت. زادت الفوائد. فيتضاعف الدين. ويستحيل التسديد. والدول الغنية تزداد غنى، لأنها تدفع القرض وتسترده بأضعاف قيمته. وإذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} يجب ألا نفهم أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 يمكن شراء آيات الله بثمن أعلى. . لا. . لأنه مهما ارتفع الثمن وعلا سيكون قليلا. وقليلا جدا. لأنه يقابل آيات الله. وآيات الله لا تقدر بثمن. فالصفقة خاسرة مهما كانت قيمتها. وقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِيَّايَ فاتقون} وفي الآية السابقة قال: {وَإِيَّايَ فارهبون} وهي وعيد. ولكن {وَإِيَّايَ فاتقون} واقع. فقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} هي وعيد وتحذير لما سيأتي في الآخرة. ولكن {وَإِيَّايَ فاتقون} يعني اتقوا صفات الجلال من الله تعالى. وصفات الجلال هي التي تتعلق ببطش الله وعذابه. ومن هذه الصفات الجبار والقهار والمتكبر والقادر والمنتقم والمذل. وغيرها من صفات الجلال. الله سبحانه وتعالى يقول: «اتقوا الله» ويقول «اتقوا النار» كيف؟ نقول إن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نجعل بيننا وبين النار وهي أحد جنود العذاب لله سبحانه وتعالى وقاية. ويريدنا أن نجعل بيننا وبين عذاب النار وقاية. ويريدنا أيضا. . أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال في الله وقاية. فقوله تعالى {وَإِيَّايَ فاتقون} أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية. حتى لا يصيبكم عذاب عظيم. وكيف نجعل بيننا وبين صفات الجلال في الله وقاية؟ أن تكون أعمالنا في الدنيا وفقا لمنهج الله سبحانه وتعالى. إذن فالتقوى مطلوبة في الدنيا. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 بعد أن حذر الحق سبحانه وتعالى اليهود من أن يبيعوا دينهم بثمن قليل وهو المال أو النفوذ الدنيوي. قال تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} مادة تلبس. مأخوذة من اللباس الذي نرتديه. واللبس هو التغطية أو التعمية بأن نخفي الحق ولا نظهره. فاللباس تغليف للجسم يستره فلا يبين تفصيلاته. . والحق هو القضية الثابتة المقدرة التي لا تتغير. فلنفرض أننا شهدنا شيئا يقع. ثم روى كل منا ما حدث. إذا كنا صادقين لن يكون حديثنا إلا مطابقا للحقيقة. ولكن إذا كان هناك من يحاول تغيير الحقيقة فيكون لكل منا رواية. وهكذا فالحق ثابت ولا يتغير. في التوراة آيات لم يحرفها اليهود. . وآيات محرفة. كل الآيات التي تتعلق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووصفه. . وأنه النبي الخاتم. . حرفها اليهود. والآيات التي لا تتعلق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يحرفوها. . فكأنهم خلطوا الحق بالباطل. . ما الذي جعلهم يدخلون الباطل ويحاولون إخفاء الحقائق؟ المصلحة الأولى: ليشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. . والباطل هو ما لا واقع له. ولذلك فإن أبواب الباطل متعددة. وباب الحق واحد. فالله سبحانه وتعالى يريد أن يبلغنا أن اليهود قد وضعوا في التوراة باطلا لم يأمر به الله. وكتموا الحقيقة عن رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولكن هل فعلوا ذلك عن طريق الخطأ أو السهو أو النسيان؟ لا بل فعلوه وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 يعلمون. نأتي مثلا إلى قول الحق تبارك وتعالى لليهود: {وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين} [البقرة: 58] وحطة أي حط عنا يا رب ذنوبنا. يأتي اليهود ويغيرون قول الله. فبدلا من أن يقولوا حطة. يقولوا حنطة. من يسمع هذا اللفظ قد لا يتنبه ويعتقد أنهم قالوا ما أمرهم الله به. مع أن الواقع أنهم حرفوه. ولذلك عندما كانوا يأتون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يقولون: راعنا ليا بألسنتهم. وكان المفروض أن يقولوا راعينا. . ولكنهم قالوا راعنا من الرعونة. . والله تعالى نبه المؤمنين برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يقولوا مثلهم. فقال جل جلاله: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا} . أي اتركوا هذه الكلمة نهائيا، هذا لبس الحق بالباطل. إذن فاليهود ألبسوا الحق بالباطل. والإنسان لا يلبس الحق بالباطل. . إلا إذا كان لا يستطيع مواجهة الحق. لأن عدم القدرة على مواجهة الحق ضعف نَفِرُّ منه إلى الباطل، لأن الحق يتعب صاحبه. . والإنسان لا يستطيع أن يَحْمل نفسه على الحق. وقوله تعالى: {وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي أنهم يفعلون ذلك عن عمد وليس عن جهل. فقد يكتم الإنسان حقا وهو لا يعلم أنه الحق. ولكن إذا كنت تعلمه فتلك هي النكبة لأنك تخفيه عامدا متعمدا. أو وأنتم تعلمون. قد يكون معناها أن اليهود وهم أهل الكتاب يعلمون ما سيصيبهم في الآخرة من العذاب الأليم. . بسبب إخفائهم الحق. فهم لا يجهلون ماذا سيحدث في الآخرة. ولكنهم يقدمون على عملهم مع علمهم أنه خطأ فيكون العذاب حقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 إقامة الصلاة معروفة. وهي تبدأ بالتكبير وتختم بالتسليم. بشرائطها من عناصر القيام والركوع والسجود. ولكن الحق يقول {وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين} إما أنه يريد منهم أن ينضموا إلى موكب الإيمان الجامع لأن صلاتهم لم يكن فيها ركوع. إذن فهو يريدهم أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولا يظنوا أن إيمانهم بموسى عليه السلام يعفيهم من أن يكونوا خاضعين لما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقولون ديننا كافينا. إنما جاء الإسلام لمن لا دين له وهم الكفار والمشركون. . فيقول لهم: {اركعوا مَعَ الراكعين} . إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى أن صلاتهم لن تقبل منهم إلا أن يكون فيها ركوع. وصلاة اليهود ليس فيها ركوع. . وإن كان فيها سجود، وفي كلتا الحالتين فإن الحق سبحانه وتعالى يلفتهم إلى ضرورة الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الحق سبحانه وتعالى حينما قال: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} يريد أن يلفتهم إلى أن العكس هو المطلوب وأنهم كان يجب أن يشتروا الإيمان ويختاروا الصفقة الرابحة. ولن يحدث ذلك إلا إذا آمنوا بالرسول الخاتم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فهذا هو الطريق الوحيد لرضا الله سبحانه وتعالى. الله سبحانه وتعالى يريد أن يهدم تكبرهم على الدين الجديد فأمرهم بالصلاة كما يصلي المسلمون. وبالزكاة كما يزكي المسلمون. فلا يعتقدون أن إيمانهم بموسى والتوراة سيقبل منهم بعد أن جاء الرسول الجديد الذي أمروا أن يؤمنوا به. بل إن إيمانهم بموسى والتوراة. لو كانوا مؤمنين بهما حقا. . يستوجب هذا الإيمان عليهم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لأن التوراة تأمرهم بذلك. فكأن عدم إيمانهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كفر بالتوراة ونقض لتعاليمها. والصلاة كما قلنا. . استحضار العبد وقفته بين يدي ربه. وحينما يقف العبد بين يدي الله. . لابد أن يزول كل ما في نفسه من كبرياء. ويدخل بدلا منه الخشوع والخضوع والذلة لله. والمتكبر غافل عن رؤية ربه الذي يقف أمامه. إنما عدم إيمانهم بهذا النبي. والوقوف بين يدي الله للصلاة كما يجب أن تؤدى، وكما فرضها الله تعالى من فوق سبع سموات. إنما هو رفض للخضوع لأوامر الله. وبعد ذلك تأتي الزكاة. لأن العبد المؤمن. لابد أن يوجه حركة حياته إلى عمل نافع يتسع له ولمن لا يقدر على الحركة في الحياة. والله سبحانه وتعالى حينما يطالبنا بالسعي في الأرض لا يطالبنا أن يكون ذلك على قدر احتياجاتنا فقط، بل يطالبنا أن يكون تحركنا أكثر من حاجة حياتنا. حتى يتسع هذا التحرك ليشمل حياة غير القادر على حركة الحياة. فيتسع المجتمع للجميع. ويزول منه الحقد والحسد، وتصفى النفوس. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 بعد أن لفت الله أنظار اليهود. إلى أن عدم إيمانهم بالإسلام هو كفر بالتوراة. . لأن تعاليم التوراة تآمرهم أن يؤمنوا بالرسول الجديد. وقد أعطوا أوصاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . وزمنه في التوراة. وأمروا أن يؤمنوا به. قال تبارك وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} لقد كان اليهود يبشرون بمجيء رسول جديد. ويعلنون أنهم سيؤمنون به. فلما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يكن من قومهم كفروا به. لأنهم كانوا يريدون أن تكون السطوة لهم. بأن يأتي الرسول الجديد منهم. فلما جاء من العرب. . عرفوا أن سطوتهم ستزول وأن سيادتهم الاقتصادية ستنتهي. فكفروا بالرسول وبرسالته. ولابد أن ننبه إلى أنه إذا كانت هذه الآيات قد نزلت في اليهود. فليس معناها أنها تنطبق عليهم وحدهم. بل هي تنطبق على أهل الكتاب جميعا. وغير المؤمنين. فالعبرة ليست بخصوص الموضوع. ولكن العبرة بعموم السبب. إن الكلام منطبق هنا حتى على المسلمين الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلا وهؤلاء هم خطباء الفتنة الذين رآهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. تقرض شفاهم بمقارض من نار. فسأل: من هؤلاء يا جبريل: فقال خطباء الفتنة. إنهم الذين يزينون لكل ظالم ظلمه. ويجعلون دين الله في خدمة أهواء البشر. وكان الأصل أن تخضع أهواء البشر لدين الله. وهؤلاء هم الذين يحاولون تحت شعار التجديد أن يجعلوا للناس حجة في أن يتحللوا من منهج الله. فهم يبررون ما يقع. ولا يتدبرون حساب الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 إن علماء الدين الذين يحملون منهج الله ليس من عملهم تبرير ما يقع من غيرهم. ومنهج الله لا يمكن أن يخضع أبداً لأهواء البشر. وعلى الذين يفعلون ذلك أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله. ويحاولوا استدراك ما وقع منهم. لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وقوله الحق سبحانه وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} يعطينا منهجاً آخر من مناهج الدعاة. لأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحمل منهج الله. . يريد أن يخرج من لا يؤمن من حركة الباطل التي ألفها. وإخراج غير المؤمن من حركة الباطل أمر شاق على نفسه. لأنه خروج عن الذي اعتاده. وبُعد عما ألفه. واعتراف أنه كان على باطل لذلك فهو يكون مفتوح العينين على من بين له طريق الإيمان ليرى هل يطبق ذلك على نفسه أم لا؟ أيطبق الناهي عن المنكر ما يقوله؟ فإذا طبقه عرف أنه صادق في الدعوة. وإذا لم يطبقه كان ذلك عذرا ليعود إلى الباطل الذي كان يسيطر على حركة حياته. إن الدين كلمة تقال. وسلوك يفعل. فإذا انفصلت الكلمة عن السلوك ضاعت الدعوة. فالله سبحانه وتعالى يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] لماذا. .؟ لأن من يراك تفعل ما تنهاه عنه يعرف أنك مخادع وغشاش. وما لم ترتضه أنت كسلوك لنفسك. لا يمكن أن تبشر به غيرك. لذلك نقرأ في القرآن الكريم: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً} [الأحزاب: 21] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 فمنهج الدين وحده لا يكفي. . إلا بالتطبيق. ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يأمر أصحابه بأمر إلا كان أسبقهم إليه، فكان المسلمون يأخذون عنه القدوة قولا وعملا، وكان عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. حين يريد أن يقنن أمراً في الإسلام يأتي بأهله وأقاربه ويقول لهم: لقد بدا لي أن آمر بكذا وكذا، والذي نفسي بيده من خالف منكم لأجعلنه نكالا للمسلمين. وكان عمر بن الخطاب بهذا يقفل أبواب الفتنة، لأنه يعلم من أين تأتي. . وفي الدعوة الإسلامية. . لابد أن يكون العلماء قدوة لينصلح أمر الناس. ففي كل علوم الدنيا القدوة ليست مطلوبة. إلا في الدين. فأنت إذا ذُكِرَ لك عالم كيمياء بارع. وقيل لك أنه يتناول الخمر. أو يفعل كذا. تقول مالي وسلوكه. أنا آخذ عنه علم الكيمياء لأنه بارع في ذلك. ولكن لا شأن لي بسلوكه. وكذلك كل علماء الأرض. ما عدا عالم الدين. فإذا كان هناك عالم يبصرك بالطريق المستقيم. وتتلقى عنه علوم دينك ثم بعد ذلك تعرف أنه يشرب الخمر أو يسرق. أتستمع له؟ أبدا. أنه يهبط من نظرك في الحال. ولا تحب أن تسمعه. ولا تجلس في مجلسه. مهما كان علمه. فستقول له كفاك دجلا. . وهكذا فإن عالم الدين لابد أن يكون قدوة. فلا ينهى عن منكر ويفعله. أو يأمر بمعروف وهو لا ينفذه. فالناس كلهم مفتحة أعينهم لما يصنع. والإسلام قبل أن ينتشر بالمنهج العلمي. . انتشر بالمنهج السلوكي. وأكبر عدد من المسلمين اعتنق هذا الدين من أسوة سلوكية قادته إليه. فالذين نشروا الإسلام في الصين. . كان أغلبهم من التجار الذين تخلقوا بأخلاق الإسلام. فجذبوا حولهم الكثيرين. فاعتنقوا الإسلام. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} [فصلت: 33] فالشرط الأول هو الدعوة إلى الله. والشرط الثاني العمل الصالح. وقوله {إِنَّنِي مِنَ المسلمين} لم ينسب الفضل لنفسه أو لذاته. ولكنه نسب الفضل إلى الإسلام. ولكن قولوا لي: أي فائدة أن نقول أننا مسلمون ونعمل بعمل غير المسلمين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 إذن فقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} يذكر الله بأن اليهود يقولون ما لا يفعلون. ولو كانوا يؤمنون حقا بالتوراة لآمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبالإسلام. لأن ذلك أمر في التوراة. ولكنهم نسوا أنفسهم. فهم أول مخالف للتوراة. لأنهم لم يتبعوها. . وهم يتلون كتابهم الذي يأمرهم بالإيمان الجديد. ومع أنهم متأكدون من صدق رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إلا أنهم لا يؤمنون. ولو كان عندهم ذرة من العقل لآمنوا بما يطلبه منهم كتابهم الذي يتلونه. ولكنهم لا يفكرون بعقولهم، وإنما يريدون علوا في الأرض. والآية كما قلنا لا تنطبق على اليهود وحدهم. بل على كل من يسلك هذا السلوك. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى أن الإيمان قدوة. وبعد أن لفتنا إلى أن التوراة تطالب اليهود. بأن يؤمنوا بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. يطلب الله سبحانه وتعالى الاستعانة بالصبر والصلاة. ومعنى الاستعانة بالصبر أن هناك أحداثا شاقة ستقع. وأن المسألة لن تكون سهلة. بل تحتاج إلى جهد. فالصبر معناه حمل النفس على أمر صعب. وهم ماداموا قد تعودوا على شراء آيات الله بثمن قليل. . لأنهم قلبوا الصفقة. فجعلوا آيات الله ثمنا لمتع الدنيا. واشتروا بها متعهم وملذاتهم. وبعد أن تعودوا على الربا وغيره من وسائل الكسب الحرام. لابد أن يستعينوا بالصبر إذا أرادوا العودة إلى طريق الإيمان. وكما قلنا فإن المسألة ليست بخصوصية الموضوع ولكن بعموم السبب. فإنها موجهة للجميع. فكل مؤمن يدخل منهج الإيمان محتاج إلى الاستعانة بالصبر ليحمل نفسه على مشقة المنهج وتكاليفه. وليمنع نفسه عن الشهوات التي حرمها الله سبحانه وتعالى. والصبر في الآية الكريمة فسره بعض العلماء بأنه الصيام، فكأن الله تعالى يأمرهم أن يجوعوا ويصبروا على ألم الجوع. ومشقة الإيمان والصلاة كما قلنا خشوع وخضوع وذلة لله. . تنهي استكبارهم بأن يؤمنوا بدين لم ينزل على أحد من أحبار اليهود. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} . ويطلب الحق في قوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} الاستعانة بشيئين هما الصبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 والصلاة. وكان سياق الآية يقتضي أن يقال: «وأنهما» لكن القرآن قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فهل المقصود واحدة منهما. الصلاة فقط. أم الصبر؟ نقول إنه عندما يأتي أمران منضمان إلى بعضهما لا تستقيم الأمور إلا بهما معا. . يكونان علاجا واحدا. . واقرأ قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] فقال يرضوه ولم يقل يرضوها. التفسير السابق نفسه نفهمه: ليس لله حق ولرسوله حق. ولكن الله ورسوله يلتقيان على حق واحد. وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} [الجمعة: 11] وكان المفروض أن يقال إليهما. ولكن التجارة واللهو لهما عمل واحد. هو شغل المؤمنين عن العبادة والذكر: {واستعينوا بالصبر والصلاة} لأن العلاج في الصبر مع الصلاة. والصبر كبير أن تتحمله النفس. وكذلك الصلاة. لأنهما يأخذان من حركة حياة الإنسان. والصبر هنا مطلوب ليصبروا على ما يمتنعون عنه من نعيم الدنيا وزخرفها. والصلاة تحارب الاستكبار في النفس. فكأن الوصفة الإيمانية لا تتجزأ. فلا يتم الصبر بلا صلاة، ولا تتقن الصلاة إلا بالصبر. وقوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى الخاشعين} . . ما معنى الخشوع؟ الخشوع هو الخضوع لمن ترى أنه فوقك بلا منازع. فالناس يتفاوتون في القيم والمواهب. وكل واحد يحاول أن يفاخر بعلوه ومواهبه. ويقول: أنا خير من فلان. أو أنت خير من فلان. إذن فمن الممكن أن يستكبر الإنسان بما عنده. ولكن الإنسان يخضع لمن كانت له حاجة عنده. لأنه لو تكبر عليه أتعبه في دنياه. ولذلك أعطى الله سبحانه وتعالى للناس المواهب على الشيوع والخشوع على الشيوع. فكل إنسان منا محتاج للآخر. هذا خشوع على الشيوع. وكل إنسان منا مميز بما لا يقدر عليه غيره. هذه مواهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 على الشيوع. هذا في البشر، أما بالنسبة لله سبحانه فإنه خشوع لمن خلق ووهب وأوجد. والخشوع يجعل الإنسان يستحضر عظمة الحق سبحانه ويعرف ضآلة قيمته أمام الحق سبحانه وتعالى ومدى عجزه أمام خالق هذا الكون. ويعلم أن كل ما عنده يمكن أن يذهب به الله تعالى في لحظة. . ذلك أننا نعيش في عالم الأغيار. ولذلك فنخضع للذي لا يتغير. لأن كل ما يحصل عليه الإنسان هو من الله وليس من ذاته. والذين يغترون بوجود الأسباب نقول لهم: اعبدوا واخشعوا لواهب الأسباب وخالقها. لأن الأسباب لا تعمل بذاتها. والله سبحانه وتعالى يجعل الأيام دولا. . أي متداولة بين الناس. إنسان يفاخر بقوته. يأتي من هو أقوى منه فيهزمه. إنسان يفاخر بماله. يضيع هذا المال في لحظة. . واقرأ قوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} [آل عمران: 140] ولذلك لابد أن نفهم. أن الإنسان الذي يستعلي بالأسباب سيأتي وقت لا تعطيه الأسباب. فالإنسان إذا بلغ في عينه وأعين الناس مرتبة الكمال. اغتر بنفسه. نقول له: لا تغتر بكمالات نفسك. فإن كانت موجودة الآن. فستتغير غدا. . فالخشوع لا يكون إلا لله. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} من هم الخاشعون؟ الخاشع هو الطائع لله. الممتنع عن المحرمات. الصابر على الأقدار. الذي يعلم يقينا داخل نفسه أن الأمر لله وحده. وليس لأي قوة أخرى. . فيخشع لمن خلقه وخلق هذا الكون له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 بعد أن أوضح لنا الحق سبحانه وتعالى أن الصبر والصلاة كبيرة إلا على كل من خشع قلبه لله. فهو يقبل عليهما بحب وإيمان ورغبة. أراد أن يعرفنا من هم الخاشعون. فقال جل جلاله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} . ما هو الظن؟ سبق أن تحدثنا عن النسب. وقلنا هناك نسبة أنا جازم بها والواقع يصدقها. عندما أقول مثلا: محمد مجتهد. فإذا كان هناك شخص اسمه محمد ومجتهد. أكون قد جزمت بواقع. فهذه نسبة مجزوم بها بشرط أن أستطيع أن أدلل على صدق ما أقول. فإذا كنت جازما بالنسبة على صدق ما أقول. . فهذا تقليد. مثلما يقول ابنك البالغ من العمر ست سنوات مثلا: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ولكن عقله الصغير لا يستطيع أن يدلل على ذلك. وإنما هو يقلد أباه أو مدرسيه. . فإذا كنت جازما بالشيء وهو ليس له وجود في الواقع. فهذا هو الجهل. والجاهل شر من الأمي. لأن الجاهل مؤمن بقضية لا واقع لها. ويدافع عنها. أما الأمي. . فهو لا يعلم. ومتى علم فإنه يؤمن. ولذلك لابد بالنسبة للجاهل أن تخرج الباطل من قلبه أولا. ليدخل الحق. وإذا كانت القضية غير مجزوم بها ومتساوية في النفي والوجود فإن ذلك يكون شكا. فإذا رجحت إحدى الكفتين على الأخرى يكون ذلك ظنا. والحق سبحانه وتعالى يقول: {الذين يَظُنُّونَ} ولم يقل: الذين تيقنوا أنهم ملاقوا ربهم. . لماذا لم يستخدم الحق تعالى لفظ اليقين وأبدله بالظن؟ لأن مجرد الظن أنك ملاق الله سبحانه وتعالى. . كاف أن يجعلك تلتزم بالمنهج. فما بالك إذا كنت متيقنا. فمجرد الظن يكفي. وإذا أردنا أن نضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى نقول: هب أنك سائر في طريق. وجاء شخص يخبرك أن هذا الطريق فيه لصوص وقطاع طرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فمجرد هذا الكلام يجعلك لا تمشي في هذا الطريق إلا إذا كنت مسلحا ومعك شخص أو اثنان. فأنت تفعل ذلك للاحتياط. إذن فمجرد الظن دفعنا للاحتياط. . إذن فقوله تعالى: {يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} فمجرد أن القضية راجحة. هذا يكفي لاتباع منهج الله. فتقي نفسك من عذاب عظيم. ويقول المعرّي في آخر حياته: زعم المنجّم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجساد قلتُ إليكما إن صحّ قولكما فلسْت بخاسرٍ ... أو صح قولي فالخسارُ عليكما فكل مكذب بالآخرة خاسر. والنفس البشرية لابد أن تحتاط للقاء الله. وأن تعترف أن هناك حشراً وتعمل لذلك. والحق سبحانه وتعالى يقول: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى أمر يقيني. فمادمت قد جئت إلى الدنيا مخلوقا من الله فأنت لا محالة سترجع إليه. وهذا اليوم يجب أن نحتاط له. حيطة كبرى. وأن نترقبه. لأنه يوم عظيم. . والحق سبحانه يقول: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2] ويقول جل جلاله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [المزمل: 17] إذا كان هذا حالنا يوم القيامة، فكيف لا يكفي مجرد الظن لأن نتمسك بمنهج الله. ونحن نحتاط لأحداث دنيوية لا تساوي شيئا بالنسبة لأهوال يوم القيامة. أن الظن هنا بأننا سنلاقي الله تعالى يكفي لأن نعمل له ألف حساب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 يدّعي بعض الناس أن هناك تكراراً. للآيات السبع التي سبق فيها تذكير بني إسرائيل. نقول: لا. لم تتكرر هذه الآيات. . وهي قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فارهبون وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فاتقون وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 40 - 46] هذه الآيات السبع كلها تذكر بني إسرائيل. برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والذي جاء وصف صفاته وزمنه في التوراة ولتذكيرهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. هو نعمة إليهم وإلى الناس جميعا. وإذا كان الله قد فضل بني إسرائيل بأن أرسل رسلا. فليس معنى ذلك أن ينكروا نعمة الله عليهم بالرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الخاتم. وبما أن أوصاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد ذكرت في التوراة وطلب منهم أن يؤمنوا به وينصروه فإن عدم إيمانهم به هو كفر بالتوراة. كما أن الإنجيل بشر بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وطلب منهم أن يؤمنوا به. فعدم إيمانهم به كفر بالإنجيل. وقوله تعالى: {اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي اذكروا أنني جعلت في كتابكم ما يثبت صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نبوته. والمعنى اذكروا نعمتي بأني فضلتكم على العالمين ممن عاصروكم وقت نزول رسالة موسى. وجعلت منكم الأنبياء. ومادام الحق سبحانه وتعالى. . قد فضلهم على العالمين. . فكيف يمّن عليهم؟ نقول الّمن هنا لشدة النكاية بهم. فالله سبحانه وتعالى. لشدة معصيتهم وكفرهم جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت. واقرأ قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 60] فالله سبحانه وتعالى يبين لنا كيف كفر بنو إسرائيل بأنبيائهم وقتلوهم. رغم أن الله تعالى أعطاهم خيرا كثيرا. . ولكنهم نكثوا العهد. . فاستحقوا العذاب. فهم لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 يجعلوا نعمة الله عليهم سببا في إخلاصهم والإيمان به سبحانه وتصديق منهجه. وتصديق الرسول الخاتم الذي ذكر عندهم في التوراة. كان يجب أن يؤمنوا بالله وأن يذكروا نعمه الكثيرة التي تفضل بها عليهم. والحق يريد أن يلفتنا إلى أنه مادام قد أنعم عليهم. . فلا يظنون أنهم غير مطالبين بالإيمان بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. إنما كان لابد أن يفهموا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء ليصحح لهم كتابهم. ويوضح لهم الطريق الصحيح. . فكان يجب عليهم أن ينصروه. والنعمة لا يمكن أن تستمر مع الكفر بها. وحتى لا نظن أن الله سبحانه وتعالى قد قسا عليهم بأن جعلهم أمما متفرقة في الأرض كلها. ثم بعد ذلك يجمعون في وطن واحد ليقتلوا. . واقرأ قوله تعالى: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} [الإسراء: 104] أي أرض تلك التي طلب الله سبحانه وتعالى من بني إسرائيل أن يسكنوها؟ مادام الحق سبحانه وتعالى قال: {اسكنوا الأرض} فهي الأرض كل الأرض. وهل تكون الأرض كلها وطنا لليهود. طبعاً لا. ولكن الحق سبحانه كتب عليهم أن يتفرقوا في الأرض. فلا تكون لهم دولة إلا عندما يشاء الله أن يجمعهم في مكان واحد. ثم يسلط عليهم عباده المؤمنين. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} [الإسراء: 4 - 6] هذه هي المرة الأولى التي انتصر فيها المسلمون على اليهود. يقول الحق سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وتعالى. {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} ومادام الحق سبحانه وتعالى قال عليهم فهي على المسلمين. لأنهم هم الذين انتصروا على اليهود. وقوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} معناها أنهم ينتصرون على المسلمين وهذا ما هو حادث الآن، وما شاهدناه وما نشاهده في الفترة الأخيرة. أي أن المدد والقوة تأتيهم من الخارج وليس من ذاتهم. ونحن نرى أن إسرائيل قائمة على جلب المهاجرين اليهود من الدول الأخرى وجلب الأموال والمساعدات من الدول الأخرى أيضا. أي أن كل هذا يأتيهم بمدد من الخارج. وإسرائيل لا تستطيع أن تعيش إلا بالمهاجرين إليها. وبالمعونات التي تأتيها. فالمدد لابد أن يأتي من الخارج. إذا كانت هناك معركة وطلب قائد المدد. . فمعناه أنه يريد رجالا يأتونه من خارج أرض المعركة ليصبحوا مددا وقوة لهذا الجيش. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} النفير هو الصوت العالي الذي يجذب الانتباه. ونحن نرى الآن أن إسرائيل تسيطر على وسائل الإعلام والدعاية في العالم. وأن صوتها عال ومسموع. . ويقول الحق سبحانه وتعالى: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . . ومعنى هذا أن المسجد الأقصى سيضيع من المسلمين ويصبح تحت حكم اليهود فيأتي المسلمون ويحاربونهم ويدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة في عهد عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. ويقول الله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} واللفيف هو الجمع غير المتجانس. الذي يتنافر مع نفسه ومع من حوله. وبما أن الله سبحانه وتعالى قد قضى أن يحدث قتال بين اليهود وبين المسلمين. . يستعيد فيه المسلمون المسجد الأقصى. فكان لابد أن يجمعهم في مكان واحد. لأنهم لو بقوا كجاليات متفرقة في كل دول العالم ومعزولة عن المجتمعات التي يعيشون فيها لاقتضى ذلك أن يحارب المسلمون العالم كله. ولكن الله سبحانه وتعالى سيأتي بهم من كل دولة إلى المكان الذي فيه بيت المقدس حتى يمكن أن يحاربهم المسلمون، وأن يدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة. فالحق سبحانه وتعالى يذكر بني إسرائيل بنعمه عليهم. وبمعاصيهم وكفرهم حتى لا يقول أحد إن الله سبحانه كان قاسيا عليهم لأنهم هم الذين كفروا. وهم الذين عصوا وأفسدوا في الأرض. فاستحقوا هذا العقاب من الله سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً} يذكرهم بهذا اليوم. وهو يوم القيامة الذي لا ينفع الإنسان فيه إلا عمله. ويطلب الحق سبحانه وتعالى منهم أن يجعلوا بينهم وبين صفات الجلال لله تعالى في ذلك اليوم وقاية. إن هناك آية أخرى تقول: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 123] وهذه الآية وردت مرتين. وصدر الآيتين متفق. ولكن الآية الأولى تقول: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} والآية الثانية: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} هل هذا تكرار؟ نقول لا. والمسألة تحتاج إلى فهم. فالآيتان متفقتان في مطلعهما: في قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} . ففي الآية الأولى قدم الشفاعة وقال: لا يقبل. والثانية أخر الشفاعة وقال لا تنفع. الشفاعة في الآية الأولى مقدمة. والعدل متأخر، وفي الآية الثانية العدل مقدم والشفاعة مؤخرة. . وفي الآية الأولى لا يقبل منها شفاعة. وفي الآية الثانية. . لا تنفعها شفاعة. والمقصود بقوله تعالى: {اتقوا يَوْماً} هو يوم القيامة الذي قال عنه سبحانه وتعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] وقوله تعالى: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} كم نفسا هنا؟ إنهما اثنتان. نفس عن نفس. هناك نفس أولى ونفس ثانية. فما هي النفس الأولى؟ النفس الأولى هي الجازية. والنفس الثانية. . هي المجزي عنها. . ومادام هناك نفسان فقوله تعالى: {لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} هل من النفس الأولى أو الثانية؟ إذا نظرت إلى المعنى فالمعنى أنه سيأتي إنسان صالح في يوم القيامة ويقول يا رب أنا سأجزي عن فلان أو أغني عن فلان أو أقضي حق فلان. النفس الأولى أي النفس الجازية تحاول أن تتحمل عن النفس المجزي عنها. ولكي نقرب المعنى ولله المثل الأعلى نفترض أن حاكما غضب على أحد من الناس وقرر أن ينتقم منه أبشع انتقام. يأتي صديق لهذا الحاكم ويحاول أن يجزي عن المغضوب عليه. فبما لهذا الرجل من منزلة عند الحاكم يحاول أن يشفع للطرف الثالث. وفي هذه الحالة إما أن يقبل شفاعته أو لا يقبلها. فإذا لم يقبل شفاعته فإنه سيقول للحاكم أنا سأسدد ما عليه. . أي سيدفع عنه فدية، ولا يتم ذلك إلا إذا فسدت الشفاعة. فإذا كانت المسألة وفي يوم القيامة ومع الله سبحانه وتعالى. . يأتي إنسان صالح ليشفع عند الله تبارك وتعالى لإنسان أسرف على نفسه. فلابد أن يكون هذا الإنسان المشفع من الصالحين حتى تقبل شفاعته عند الحق جل جلاله. واقرأ قوله سبحانه: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه} [البقرة: 255] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] والإنسان الصالح يحاول أن يشفع لمن أسرف على نفسه فلا تقبل شفاعته ولا يؤخذ منه عدل ولا يسمح لها بأي مساومة أخرى. إذن لا يتكلم عن العدل في الجزاء إلا إذا فشلت الشفاعة. هنا الضمير يعود إلى النفس الجازية. أي التي تتقدم للشفاعة عند الله. فيقول الحق سبحانه وتعالى: {لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} فلا يقبل منها أي مساومة أخرى. ويقول سبحانه: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . وهذا ترتيب طبيعي للأحداث. في الآية الثانية يتحدث الله تبارك وتعالى عن النفس المجزي عنها قبل أن تستشفع بغيرها وتطلب منه أن يشفع لها. لابد أن تكون قد ضاقت حيلها وعزت عليها الأسباب. فيضطر أن يذهب لغيره. وفي هذا اعتراف بعجزه. فيقول يا رب ماذا أفعل حتى أكفر عن ذنوبي فلا يقبل منه. فيذهب إلى من تقبل منهم الشفاعة فلا تقبل شفاعتهم. وإذا أردنا أن نضرب لذلك مثلا من القرآن الكريم فاقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] هؤلاء هم الذين يطلبون العدل من الله. بأن يعيدهم إلى الدنيا ليكفروا عن سيئاتهم. ويعملوا عملا صالحا ينجيهم من العذاب. ذلك أن الحسنات يذهبن السيئات. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 فماذا كان رد الحق سبحانه وتعالى عليهم. قال جل جلاله: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14] فهم عرضوا أن يكفروا عن سيئاتهم. بأن طلبوا العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا. فلم يقبل الله سبحانه وتعالى منهم هذا العرض. اقرأ قوله تبارك وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 53] لقد طلب هؤلاء الشفاعة أولا ولم تقبل. فدخلوا في حد آخر وهو العدل فلم يؤخذ مصداقا لقوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . . وهكذا نرى الاختلاف في الآيتين. فليس هناك تكرار في القرآن الكريم. . ولكن الآية التي نحن بصددها تتعلق بالنفس الجازية. أو التي تريد آن تشفع لمن أسرف على نفسه: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . والآية الثانية: {لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} . أي أن الضمير هنا عائد على النفس المجزي عنها. فهي تقدم العدل أولا: {ارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً} فلا يقبل منها، فتبحث عن شفعاء فلا تجد ولا تنفعها شفاعة. وهذه الآيات التي أوردناها من القرآن الكريم كلها تتعلق بيوم القيامة. على أن هناك مثلا آخر في قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] والآية الثانية في قوله سبحانه: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31] يقول بعض الناس إن «نرزقكم» في الآية الأولى «ونرزقهم» في الآية الثانية من جمال الأسلوب. نقول لا. قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} أي من فقر موجود. ومادام الفقر موجودا فالإنسان لا يريد أولادا ليزداد فقره. ولذلك قال له الحق سبحانه وتعالى: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . أي أن مجيء الأولاد لن يزيدكم فقرا. لأن لكم رزقكم ولهم رزقهم. وليس معنى أن لهم رزقهم أن ذلك سينقص من رزقكم. . فللأب رزق وللولد رزق. أما في الآية الثانية: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فكأن الفقر غير موجود. ولكنه يخشى أن رزق بأولاد بأنه الفقر. يقول له الحق: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} . أي أن رزقهم سيأتيهم قبل رزقكم. فعندما تقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {اتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} مكررة في الآيتين لا تظن أن هذا تكرار. لأن إحداهما ختامها: {لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . والثانية: {لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} . فالضمير مختلف في الحالتين. مرة يرجع إلى النفس الجازية فقدم الشفاعة وأخر العدل. ولكن في النفس المجزي عنها يتقدم العدل وبعد ذلك الشفاعة. الحق سبحانه وتعالى يقول: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان: 33] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 أي أن الإنسان لا يمكن أن يجزى عن إنسان مهما بلغت قرابته. . لا يجزى الولد عن أمه أو أبيه. أو يجزى الوالد عن أولاده. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37] وقول الحق سبحانه وتعالى: {لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} : {لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . العدل هو المقابل. كأن يقول المسرف على نفسه يا رب فعلت كذا وأسرفت على نفسي فأعدني إلى الدنيا أعمل صالحا. وكلمة العدل مرة تأتي بكسر العين وهي مقابل الشيء من جنسه. أي أن يعدل القماش قماش مثله ويعدل الذهب ذهب مثله. وعدل بفتح العين مقابل الشيء ولكن من غير جنسه. والعدل معناه الحق والعدل لا يكون إلا بين خصمين. ومعناه الإنصاف ومعناه الحق. والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير. وأنك لا تتحيز لجهة على حساب جهة أخرى. ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما كان يجلس مع أصحابه يوزع نظره إلى كل الجالسين. . حتى لا يقال أنه مهتم بواحد منهم عن الآخر. ولابد أن نعرف ما هي النفس. كلمة النفس إذا وردت في القرآن الكريم. فافهم أن لها علاقة بالروح. حينما تتصل الروح بالمادة وتعطيها الحياة توجد النفس. المادة وحدها قبل أن تتصل بها الروح تكون مقهورة ومنقادة مسبحة لله. فلا تقل الحياة الروحية والحياة المادية. لأن الروح مسبحة والمادة مسبحة. ولكن عندما تلتقي الروح بالمادة وتبدأ الحياة وتتحرك الشهوات يبدأ الخلل. والموت يترتب عليه خروج الروح من الجسد. الروح تذهب إلى عالمها التسخيري. والمادة تذهب إلى عالمها التسخيري. وذلك يجعلنا نفهم قول الحق سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 لماذا تشهد؟ لأنها لم تعد مسخرة للإنسان تتبع أوامره في الطاعة والمعصية. فحواسك مسخرة لك بأمر الله في الحياة الدنيا وهي مسبحة وعابدة. فإذا أطاعتك في معصية فإنها تلعنك لأنك أجبرتها على المعصية فتأتي يوم القيامة وتشهد عليك. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] ولقد شاع عند الناس لفظ الحياة المادية والحياة الروحية. لأن الحياة الروحية تختلف عن الروح التي في جسدك. وهي تنطبق على الملائكة مصداقا لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] وقوله جل جلاله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] هذه هي الروح التي فيها النقاء والصفاء. وقوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} . أي أن الله سبحانه وتعالى إذا أقضى عليهم العذاب لا يستطيع أحد نصرهم أو وقف عذابهم. لا يمكن أن يحدث هذا. لأن الأمر كله لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 بعد أن حذر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل من يوم لا تنفع فيه الشفاعة. أراد أن يذكرهم بفضله عليهم وبنعمه. قوله تعالى: «إذ» هي ظرف لشيء وسبق أن قلنا أن الظرف نوعان. لأن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى زمان يقع فيه وإلى مكان يقع فيه. وعندما أقول لك إجلس مكانك. هذا الظرف يراد به المكان. وعندما يخاطب الله عَزَّ وَجَلَّ عباده: أذكر إذ فعلت كذا. أي اذكر وقت أن فعلت كذا ظرف زمان. وقول الحق تبارك وتعالى: «وإذ نجيناكم» أي اذكروا الوقت الذي نجاكم فيه من فرعون. والآية التي نحن بصددها وردت ثلاث مرات في القرآن الكريم. قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} [الأعراف: 141] وقوله جل جلاله في سورة إبراهيم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 {إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} [إبراهيم: 6] الاختلاف بين الأولى والثانية هو قوله تعالى في الآية الأولى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} . وفي الثانية: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ} . «ونجينا» في الآية الأولى: «وأنجينا» في الآية الثانية. ما الفرق بين نجينا وأنجينا؟ هذا هو الخلاف الذي يستحق أن تتوقف عنده. . في سورة البقرة: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} . . الكلام هنا من الله. أما في سورة إبراهيم فنجد {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ} . الكلام هنا كلام موسى عليه السلام. ما الفرق بين كلام الله سبحانه وتعالى وكلام موسى؟ . . إن كلام موسى يحكي عن كلام الله. إن الله سبحانه وتعالى حين يمتن على عباده يمتن عليهم بقمم النعمة، ولا يمتن بالنعم الصغيرة. والله تبارك وتعالى حين امتن على بني إسرائيل قال: {نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} . ولم يتكلم عن العذاب الذي كان يلاقيه قوم موسى من آل فرعون. إنهم كانوا يأخذونهم أجراء في الأرض ليحرثوا وفي الجبال لينحتوا الحجر وفي المنازل ليخدموا. ومن ليس له عمل يفرضون عليه الجزية. ولذلك كان اليهود يمكرون ويسيرون بملابس قديمة حتى يتهاون فرعون في أخذ الجزية منهم. وهذا معنى قول الحق سبحانه وتعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} [البقرة: 61] أي أنهم يتمسكون ويظهرون الذلة حتى لا يدفعوا الجزية. ولكن الحق سبحانه وتعالى لم يمتن عليهم بأنه أنجاهم من كل هذا العذاب. بل يمتن عليهم بقمة النعمة. وهي نجاة الأبناء من الذبح واستحياء النساء. لأنهم في هذه الحالة ستستذل نساؤهم ورجالهم. فالمرأة لا تجد رجلا يحميها وتنحرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 كلمة نجَّى وكلمة أنجى بينهما فرق كبير. كلمة نَجَّى تكون وقت نزول العذاب. وكلمة أنجى يمنع عنهم العذاب. الأولى للتخليص من العذاب والثانية يبعد عنهم عذاب فرعون نهائيا. ففضل الله عليهم كان على مرحلتين. مرحلة أنه خلصهم من عذاب واقع عليهم. والمرحلة الثانية أنه أبعدهم عن آل فرعون فمنع عنهم العذاب. قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} ما هو السوء؟ إنه المشتمل على ألوان شتى من العذاب كالجلد والسخرة والعمل بالأشغال الشاقة. ما معنى يسوم؟ يقال سام فلان خصمه أي أذله وأعنته وأرهقه. وسام مأخوذة من سام الماشية تركها ترعى. لذلك سميت بالسام أي المتروكة. وعندما يقال إن فرعون يسوم بني إسرائيل سوء العذاب. معناها أن كل حياتهم ذل وعذاب. . فتجد أن الله سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن حكام مصر من الفراعنة يتكلم عن فراعنة قدماء كانوا في عهد عاد وعهد ثمود. واقرأ قوله تعالى: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر واليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد} [الفجر: 1 - 12] أي أن الله تبارك وتعالى جاء بحضارة الفراعنة وقدماء المصريين بعد عاد وثمود. وهذا دليل على أن حضارة عاد وثمود قديمة. والله سبحانه وتعالى وصف عادا بأنها التي لم يخلق مثلها في البلاد. أي أنها حضارة أرقى من حضارة قدماء المصريين. قد يتساءل بعض الناس كيف يصف الله سبحانه وتعالى عادا بأنها التي لم يخلق مثلها في البلاد. مع أنه يوجد الآن حضارات متقدمة كثيرة. نقول إن الله قد كشف لنا حضارة الفراعنة وآثارهم. ولكنه أخفى عنا حضارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 عاد. ولقد وجدنا في حضارة الفراعنة أشياء لم نصل إليها حتى الآن. مثل براعتهم في تحنيط الموتى والمحافظة على الجثث. وبناء الأهرامات وغير ذلك. وبما أن حضارة عاد كانت أرقى من حضارة الفراعنة. فإنها تكون قد وصلت إلى أسرار مازالت خافية على العالم حتى الآن. ولكنا لا نعرف شيئا عنها، لأن الله لم يكشف لنا آثارها. ولقد تحدث الحق تبارك وتعالى عن الفراعنة باسم فرعون. وتكلم عنهم في أيام موسى باسم آل فرعون. ولكن الزمن الذي كان بين عهدي يوسف وموسى لم يسم ملك مصر فرعون، إنما سماه العزيز الذي هو رئيس الوزراء ورئيسه الملك. وقال الحق تبارك وتعالى: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ} [يوسف: 50] إذن فالحاكم أيام يوسف كان يسمى ملكا ولم يسم فرعون. بينما حكام مصر قبل يوسف وبعده كانوا يلقبون بفرعون. ذلك لأنه قبل عهد يوسف عليه السلام حكم مصر الهكسوس أهل بني إسرائيل. فقد أغاروا على مصر وانتصروا على الفراعنة. وحكموا مصر سنوات حتى تجمع الفراعنة وطردوهم منها. والغريب أن هذه القصة لم تعرف إلا بعد اكتشاف حجر رشيد، وفك رموز اللغة الهيروغليفية. وكان ملوك الهكسوس من الرعاة الذين استعمروا مصر فترة. ولذلك نرى في قصة يوسف عليه السلام قول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ} . وهكذا نعلم أن القرآن الكريم قد روى بدقة قصة كل حاكم في زمنه. وصف الفراعنة بأنهم الفراعنة. ثم جاء الهكسوس فلم يكن هناك فرعون ولكن كان هناك ملك. وعندما جاء موسى كان الفراعنة قد عادوا لحكم مصر. فإذا كان هذا الأمر لم نعرفه إلا في مطلع القرن الخامس. عندما اكتشف الفرنسيون حجر رشيد، ولكن القرآن أرخ له التاريخ الصحيح منذ أربعة عشر قرنا. وهذه معجزة تنضم لمعجزات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 كبيرة في القرآن الكريم عن شيء كان مجهولا وقت نزول القرآن وأصبح معلوما الآن. لنجد أن القرآن جاء به في وضعه الصحيح والسليم. بعد أن تحدثنا عن الفرق بين نجيناكم وأنجيناكم. نتحدث عن الفرق بين {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} . و {يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ} . . الذبح غير القتل. . الذبح لابد فيه من إراقة دماء. والذبح عادة يتم بقطع الشرايين عند الرقبة، ولكن القتل قد يكون بالذبح أو بغيره كالخنق والإغراق. كل هذا قتل ليس شرطا فيه أن تسفك الدماء. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن فرعون حينما أراد أن ينتقم من ذرية بني إسرائيل انتقم منهم انتقامين. . انتقاما لأنهم كانوا حلفاء للهكسوس وساعدوهم على احتلال مصر. ولذلك فإن ملك الهكسوس اتخذ يوسف وزيرا. فكأن الهكسوس كانوا موالين لبني إسرائيل. وعندما انتصر الفراعنة انتقموا من بني إسرائيل بكل وسائل الانتقام. قتلوهم وأحرقوا عليهم بيوتهم. أما مسألة الذبح في قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} فلقد رأى فرعون نارا هبت من ناحية بيت المقدس فأحرقت كل المصريين ولم ينج منها غير بني إسرائيل. فلما طلب فرعون تأويل الرؤيا. قال له الكهان يخرج من ذرية إسرائيل ولد يكون على يده نهاية ملكك. فأمر القوابل (الدايات) بذبح كل مولود ذكر من ذرية بني إسرائيل. ولكن قوم فرعون الذين تعودوا السلطة قالوا لفرعون: إن بني إسرائيل يوشك أن ينقرضوا وهم يقومون بالخدمات لهم. فجعل الذبح سنة والسنة الثانية يبقون على المواليد الذكور. وهارون ولد في السنة التي لم يكن فيها ذبح فنجا. وموسى ولد في السنة التي فيها ذبح فحدث ما حدث. إذن سبب الذبح هو خوف فرعون من ضياع ملكه. وفرض الذبح حتى يتأكد قوم فرعون من موت المولد. ولو فعلوه بأي طريقة أخرى كأن القوة من فوق جبل أو ضربوه بحجر غليظ. أو طعنوه بسيف أو برمح قد ينجو من الموت. ولكن الذبح يجعلهم يتأكدون من موته في الحال فلا ينجو أحد. والحق يقول: {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} . كلمة الابن تطلق على الذكر، ولكن الولد يطلق على الذكر والأنثى. ولذلك كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الذبح للذكور فقط. أما النساء فكانوا يتركونهن أحياء. ولكن لماذا لم يقل الحق تبارك وتعالى يذبحون أبناءكم ويستحيون بناتكم بدلا من قوله يستحيون نساءكم. الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن الفكرة من هذا هو إبقاء عنصر الأنوثة يتمتع بهن آل فرعون. لذلك لم يقل بنات ولكنه قال نساء. أي أنهم يريدونهن للمتعة وذلك للتنكيل ببني إسرائيل. ولا يقتل رجولة الرجل إلا أنه يرى الفاحشة تصنع في نسائه. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} . ما هو البلاء؟ بعض الناس يقول إن البلاء هو الشر. ولكن الله تبارك وتعالى يقول: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} إذن هناك بلاء بالخير وبلاء بالشر. والبلاء كلمة لا تخيف. أما الذي يخيف هو نتيجة هذا البلاء؛ لأن البلاء هو امتحان أو اختبار. إن أديته ونجحت فيه كان خيرا لك. وأن لم تؤده كان وبالا عليك. والحق سبحانه وتعالى يقول في خليله إبراهيم: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] فإبراهيم نجح في الامتحان، والبلاء جاء لبني إسرائيل من جهتين. . بلاء الشر بتعذيبهم وتقتيلهم وذبح أبنائهم. وبلاء الخير بإنجائهم من آل فرعون. ولقد نجح بنو إسرائيل في البلاء الأول. وصبروا على العذاب والقهر وكان بلاء عظيما. وفي البلاء الثاني فعلوا أشياء سنتعرض لها في حينها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 مرة ثانية تأتي «وإذ» . ويأتي الانجاء وسيلة. هذه الوسيلة ذكرتها الآية الكريمة. فقد خرج موسى وقومه وكانوا ستمائة ألف كما تقول الروايات. وعرف فرعون بخروجهم فخرج وراءهم على رأس جيش من ألف ألف (مليون) . عندما رآهم قوم موسى كما يروي لنا القرآن الكريم: {قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129] وقال لهم موسى كما جاء في الكتاب العزيز: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] وعندما جاء قوم فرعون بعددهم الضخم يقاومون قوم موسى وتراءى الجمعان أي أنهم رأوهم رؤية العين قال قوم موسى «أنا لمدركون» وهذا كلام منطقي. فأمامهم البحر ووراءهم فرعون وجنوده. ولكن حين تخرج الأحداث من نطاق الأسباب إلى قدرة المسبب فهي لا تخضع لأسباب الكون. ولذلك قال لهم موسى بملء فمه: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وبذلك نقل المسألة من الأسباب إلى المسبب تبارك وتعالى. فبمنطق الأحداث يكون فرعون وجنوده سيدركونهم. ولكن بمنطق الحق سبحانه وتعالى فإنه سيهيئ لهم طريق النجاة. وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى موسى بأن يضرب بعصاه البحر فانفرق. وهكذا توقف قانون الماء وهو الاستطراق والسيولة. وانفرق البحر وأصبح كل جزء منه كالجبل. ذرات الماء تماسكت مع بعضها البعض لتكون جبلين كبيرين بينهما يابس يمر منه بنو إسرائيل. هذا هو معنى قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} والفرق هو الفصل بين شيئين. . وإذا كان البحر قد انشق. . فأين ذهب الطين المبتل في قاع البحر؟ . . قالوا إن الله أرسل ريحا مرت عليه فجففته. ولذلك قال الحق جل جلاله: {طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً} ويقال إنه حين كان موسى وقومه يعبرون البحر سألوا عن بقية إخوانهم. فقال لهم موسى أنهم في طرق أخرى موازية لطريقنا. قالوا نريد أن نطمئن عليهم. فرفع موسى يده إلى السماء وقال اللهم أَعِنِّي على أخلاقهم السيئة. فأوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه الحواجز فانفتحت طاقة بين كل ممر. فكانوا يرون بعضهم بعضا. وعندما رأى موسى عليه السلام فرعون وجيشه يتجهون إلى البحر ليعبروه. أراد أن يضرب البحر ليعود إلى السيولة. فلا يلحق بهم آل فرعون. ولكن الله أوحى إليه: {واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24] أي اترك البحر على ما هو عليه. حتى يتبعكم قوم فرعون. ظانين أنهم قادرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 على أن يسلكوا نفس الطريق ويمشوا فيه. وحينما يكون أولهم قريبا من شاطئكم وآخرهم عند الشاطئ الآخر. أعيد الماء إلى استطراقه. فأكون قد أنجيت وأهلكت بالسبب الواحد. فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يمن على بني إسرائيل بأنه أنجاهم من العذاب وأهلك عدوهم. فكان العطاء عطاءين. عطاء إيجاب بأن أنجاهم. وعطاء سلب بأن أهلك عدوهم. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} في هذه الآية لم يتحدث الحق جل جلاله عن فرعون. وإنما حدث عن إغراق آل فرعون. لماذا؟ لأن آل فرعون هم الذين أعانوه على جبروته وبطشه وطغيانه. هم الأداة التي استخدمها لتعذيب بني إسرائيل. والله سبحانه وتعالى أراد أن يرى بنو إسرائيل آل فرعون وهم يغرقون فوقفوا يشاهدونهم. وأنت حين ترى مصرع عدوك. تشعر بالمرارة التي في قلبك تزول. {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} تحتمل معنى آخر. أي ينظر بعضكم إلى بعض وأنتم غير مصدقين أنكم نجوتم من هذا البلاء العظيم. وفي نفس الوقت تطمئنون وأنتم تشاهدونهم. وهم يغرقون دون أن ينجو منهم أحد حتى لا يدخل في قلوبكم الشك. أنه ربما نجى بعضهم وسيعودون بجيش ليتبعوكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 قول الحق سبحانه وتعالى {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} هذا الوعد كان لإعطاء موسى المنهج، فحينما كلّم الله سبحانه وتعالى موسى بجانب الطور. . كان هذا لإبلاغ موسى عليه السلام أنه رسول من رب العالمين وأنه أرسله ليخلص بني إسرائيل من طغيان فرعون وعذابه. . وأنه سيمده بآيات ومعجزات. . حتى يقتنع فرعون وقومه أن موسى رسول من الله تبارك وتعالى. . بعد تكليف موسى بالرسالة وذهابه إلى فرعون. . وما حدث مع السحره ثم نجاة موسى وقومه. . بأن شق الله جل جلاله لهم البحر. . هذا في وقت لم يكن المنهج قد نزل بعد. . ولذلك بمجرد أن نجَّى الله سبحانه وتعالى موسى وقومه وأغرق فرعون. . كان لابد أن يتم إبلاغ موسى بالمنهج. وكان الوعد يشمل أربعين ليلة. . هذه الليالي الأربعون حددت كثلاثين أولا. . تم أتمها الحق سبحانه وتعالى بعشر أخرى. . واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] وعندما يتكلم الدين عن الزمن يتكلم دائما بالليلة. . والسبب في ذلك أنك لا تستطيع أن تحدد الزمن بدقة بالنهار. . الشمس تشرق وتغرب ثم تعود لتشرق. . فإذا نظرت إلى قرص الشمس. . لا يمكن أن تحدد في أي وقت من الشهر نحن. . هل في أوله أو في وسطه أو في آخره. . ولكن إذا جاء الليل بمجرد أن تنظر إلى القمر تستطيع أن تحدد الزمن. فإذا كان القمر هلالا فنحن في أوائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الشهر. . وإذا كان بدرا فنحن في وسطه وهكذا. . إن هناك مقاييس دقيقة بالنسبة للقمر وقياس الزمن في عرف الناس؛ الإنسان العادي يستطيع أن يحدد لك الزمن بالتقريب بالليالي. . ويقول لك البدوي في الصحراء، هذا القمر ابن كذا ليلة. وفي منطق الدين نحسب كل شيء بدخول الليل. . فهذه ليلة الأول من شهر رمضان نصلي فيها التراويح. . وليلة العيد لا تصلى فيها التراويح. . وليلة النصف من شعبان. . وليلة الإسراء والمعراج. . وفي كل مقاييس الدين الليل لا يتبع النهار إلا في شيء واحد هو يوم عرفة. . فلا نقول ليلة عرفة وإنما نقول يوم عرفة. . إذن الليلة هي ابتداء الزمن في الدين. . والزمن عند الله مدته اثنا عشر شهرا للعام الواحد. . السنة الميلادية تختلف عن السنة الهجرية. . والسبب في ذلك أن الله سبحانه وتعالى وزع رحمته على كونه. . فلو أن المواقيت الدينية سارت على مواقيت الشمس. . لجاء رمضان مثلا في شهر محدد لا يتغير. . يصومه الناس صيفا في مناطق محددة. وشتاء في مناطق محددة ولا يختلف أبدا. . فيظل رمضان يأتي في الصيف والحر دائما بالنسبة لبعض الناس. . وفي الشتاء والبرد دائما بالنسبة لبعض الناس. . ولكن لأن السنة الهجرية تقوم على حساب الهلال. . فمعنى ذلك أن كل نفحات الله في كونه تأتي في كل الفصول والأزمان. . فتجد رمضان في الصيف والشتاء. . وكذلك وقفة عرفات وكذلك كل المناسبات الدينية الطيبة. . لأن السنة الهجرية تنقص أحد عشر يوما عن السنة الميلادية. . والفرق سنة كل ثلاث وثلاثين سنة. والحق سبحانه يقول: {ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} . يريد أن يمّحص بني إسرائيل. . ويبين لنا كفرهم بنعم الله. فالله نجاهم من آل فرعون. . ولم يكادوا يعبرون البحر حتى رأوا قوما يعبدون الأصنام. . فقالوا كما يروى لنا القرآن الكريم: {ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 حدث هذا بمجرد خروجهم من البحر سالمين. . موسى عليه السلام أخذ النقباء وذهب لميقات ربه. وترك أخاه هارون مع بني إسرائيل. . وبنو إسرائيل عندما كانوا في مصر. . وكانوا يخدمون نساء آل فرعون. . أخذوا منهن بعض الحلي والذهب خلسة. . ومع أن فرعون وقومه متمردون على الله تبارك وتعالى. . فإن هذا لا يبرر سرقة حلي نسائهم. . فنحن لا نكافئ من عصى الله فينا بأن نعصي الله فيه. . ونصبح متساويين معهم في المعصية. . ولكن نكافئ من عصى الله فينا بأن نطيع الله فيه. . وأبو الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حينما بلغه أن شخصا سبه. . بعث له كتابا قال فيه. . يا أخي لا تسرف في شتمنا. . واجعل للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه. . بنو إسرائيل سرقوا بعض حلي نساء آل فرعون. . فجعلها الله فتنة لإغوائهم. . وزين لهم الشيطان أن يصنعوا منها عجلا يعبدونه. . صنعه لهم موسى السامري الذي رباه جبريل. . فأخذ الحلي وصهرها ليجعلها في صورة عجل له خوار. . وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى. أتعرف لماذا فتنهم الله سبحانه وتعالى بالعجل؟ لأن الذهب المصنوع منه العجل من أصل حرام. . والحرام لا يأتي منه خير مطلقا. . ولابد أن نأخذ العبرة من هذه الواقعة. . وهي أن الحرام ينقلب على صاحبه شراً ووبالا، إن كان طعامك حراما يدخل في تكوين خلاياك ويصبح في جسدك الحرام. . فإذا دخل الحرام إلى الجسد يميل فعلك إلى الحرام. . فالحرام يؤرق الجسد ويسوقه إلى المعاصي. . يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً} وقال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، ثم ذكر، الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأَنَّى يستجاب لذلك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وقد حصل لبني إسرائيل الشيء نفسه وسرقوا ذهب آل فرعون فانقلب عليهم ظلما، وقال الله تعالى عنهم: {ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} . وعد الله لموسى كما قال أهل العلم كان ثلاثين ليلة. . إتمام الثلاثين ليلة يؤتيه ما وعد. . وكلمة وعد هي الإخبار بشيء سار. والوعيد هي الإخبار بشيء سيئ. . فإذا سمعت وعدا فأعرف أنَّ ما سيجيء بعدها خير. وإذا سمعت وعيدا تعرف أن ما بعدها شر، إلا آية واحدة وهي قوله سبحانه وتعالى: {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} [الحج: 72] فهل الوعد هنا بخير أو المعنى اختلف؟ . . نقول: إن كانت النار موعودا فهي شر. . وإن كانت النار هي الموعودة والكفار هم الموعود بهم فهي خير للنار؛ لأن النار تفرح بتعذيب الكافرين من عباد الله. . ونعرف هذا الفرح من قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] ولا يستزيد الإنسان إلا من شيء يحبه. . والنار ككل شيء مسخر مسبحة لله تكره العصاة. . ولكنها غير مأمورة بحرقهم في الدنيا. . ولكن في الآخرة تكون سعيدة وهي تحرق العصاة والكافرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الله سبحانه وتعالى يمن على بني إسرائيل مرة أخرى. . مع أنهم ارتكبوا ذنبا من ذنوب القمة. . ومع ذلك عفا الله عنهم لأنه يريد أن يستبقي عنصر الخير للناس. . يريد أن يعلم خلقه أنه رب رحيم. يفتح أبواب التوبة للواحد بعد الآخر. . لتمحو خلايا الشر في النفس البشرية. . إن الإنسان حين يذنب ذنبا ينفلت من قضية الإيمان. . ولو لم تشرع التوبة والعفو من الله لزاد الناس في معاصيهم وغرقوا فيها. . لأنه إذا لم تكن هناك توبة وكان الذنب الواحد يؤدي إلى النار. . والعقاب سينال الإنسان فإنه يتمادى في المعصية. وهذا ما لا يريده الله سبحانه وتعالى لعباده. . وفي الحديث الشريف: «لَلَّهُ أفرحُ بتوبةِ عبدِه مِن أحدِكم سَقَطَ على بعيره وقد أضلَّه في أرضٍ فلاةٍ» معنى الحديث. . رجل معه بعير يحمل ماله وطعامه وشرابه وكل ما يملكه. هذا البعير تاه في صحراء جرداء. . بحث عنه صاحبه فلم يجده. . لقد فقده وفقد معه كل مقومات حياته. . ثم ينظر فيراه أمامه. . كيف تكون فرحته؟ . . طبعا بلا حدود. هكذا تكون فرحة الله تعالى بتوبة عبده المؤمن بل أشد من ذلك. إن الله تبارك وتعالى حين يفتح باب التوبة. يريد لحركة العالم أن تسير. . هب أن نفسا غفلت مرة. . أو قادتها شهوتها مرة إلى معصية. أو وسوس الشيطان لها كما حدث مع آدم وحواء. لو لم تكن هناك توبة ومغفرة. . لانقلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 كل هؤلاء إلى شياطين. . بل إن أعمال الخير تأتي من الذين أسرفوا على أنفسهم. . فهؤلاء يحسنون كثيرا ويفعلون الخير كثيرا. . مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] وقوله جل جلاله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] إذن فكون الله سبحانه وتعالى يتوب على بني إسرائيل مع أنهم كفروا بالقمة في عبادة العجل. . فذلك لأن الله يريد استبقاء الخير في كونه. . ولقد عبد بنو إسرائيل العجل قبل أن ينزل عليهم المنهج وهو التوراة. . ولكن هل بعد أن أنزل عليهم المنهج والتوراة تابوا وأصلحوا أو استمروا في معصيتهم وعنادهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الحق سبحانه وتعالى يذكر بني إسرائيل هنا. . أنه بعد أن أراهم من المعجزات الكثير. ونجاهم من آل فرعون وشق لهم البحر كان لابد أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا لا يشوبه أي نوع من التردد. . ذلك لأنهم رأوا وشهدوا. . وكانت شهادتهم عين يقين. أي شهدوا بأعينهم ماذا حدث. . ولكن هل استطاعت هذه المشاهدة أن تمحو من قلوبهم النفاق والكفر؟ . . لا. . لقد ظلوا معاندين طوال تاريخهم. لم يأخذوا أي شيء بسهولة. . إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحذر أمته من أن يكونوا كبني إسرائيل ويكونوا قوما شددوا فشدد الله عليهم. . وكان ذلك بالنسبة لقصة البقرة. . التي أمروا أن يذبحوها ليعرفوا من القاتل في جريمة قتل كادت تثير حروبا بينهم. . فأخذوا يسألون ما هي وما لونها إلى آخر ما سنتحدث عنه. . عندما نأتي إلى الآيات الكريمة الخاصة بهذه الواقعة. فلو ذبحوا أي بقرة لكفتهم. . لأنه يكفي أن يقول لهم الله سبحانه وتعالى إذبحوا بقرة فيذبحوا أي بقرة. وعدم التحديد يكون أسهل عليهم. . ولكنهم سألوا وظلوا يسألون فشدد عليهم. . بتحديد بقرة معينة بذاتها. . ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ذَرُوني ما تَرَكْتُكُمْ فإنما هلكَ من قبلِكُم بكثرةِ سؤالِهِمْ واختلافِهِمْ على أنبيائِهِم فإذا أمرتُكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نَهَيْتُكُم عن شيء فدعُوه» . والله سبحانه وتعالى في قوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان} . كأن إتيان موسى الكتاب والفرقان. . نعمة يجب أن يذكرها قومه. . وأن يستقبلوا منهج الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 على أنه نعمة. . فلا يأخذ الإنسان التكليف الإلهي من زاوية ما يقيد حركته ولا ما يعطيه له. . ذلك أن الله حين حرم عليك السرقة. . حرم على الناس جميعا أن يسرقوك. . فإذا أخذ منك حريتك أن تسرق. . فقد أخذ من الناس كل الناس حريتهم أن يسرقوا مالك. . وهذه حماية كبيرة لك. ما هو الكتاب. . وما هو الفرقان؟ . . الكتاب هو التوراة. . هو الذي يبين المنهج. . والفرقان هو الأشياء التي يفرق الله فيها بين الحق والباطل. . فكأن الفرقان تطلق مرة على التوراة. . لأنها تفرق بين الحق والباطل. وتطلق أيضا على كل ما يفرق بين الحق والباطل. . ولذلك سمي يوم بدر يوم الفرقان. . لأنه فرق بين الحق والباطل. . فكأن منهج الله وكتابه يبين لنا أين الحق وأين الباطل ويفرق بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 يذكّر الله تبارك وتعالى بني إسرائيل بقصة عبادة العجل. وهي قصة مخالفة خطيرة لمنهج الله ومخالفة في القمة. . عبادة الله وحده. والذي حدث أن موسى عليه السلام ذهب لميقات الله ومعه نقباء قومه ليتلقى المنهج والتوراة. . وأخبره الله سبحانه وتعالى أن قومه قد ضلوا وعبدوا غير الله. . وعاد موسى وهو في قمة الغضب. وأمسك بأخيه هارون يجره من رأسه ولحيته. . ويقول له لقد اخلفتك عليهم لكيلا يضلوا، فقال هارون عليه السلام: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] فتنة عبادة العجل حدثت بسبب السامري. . والسامري اسمه موسى السامري ولدته أمه في الصحراء وماتت فكفله جبريل ورباه. . وكان جبريل عليه السلام يأتيه على حصان. . يحمل له ما يحتاج إليه من طعام وشراب، وكان موسى السامري يرى حصان جبريل، كلما مشى على الأرض وقع منه تراب فتخضر وتنبت الأرض بعد هذا التراب. وأيقن أن في حافر الحصان سرّاً. . فأخذ قبضة من أثر الحصان ووضعها في العجل المصنوع من الذهب. فأخذ يحدث خوارا كأنه حي. . ولا تتعجب من أن صاحب الفتنة يجد معونة من الأسباب حتى يفتن بها الناس. . لأن الله تبارك وتعالى يريد أن يمتحن خلقه. والذي يحمل دعوة الحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 لابد أن يهيئه الله سبحانه وتعالى تهيئة خاصة. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن ينتقل إلى المدينة. . تعرض هو والمسلمون لابتلاءات كثيرة. . ولقد جاء حدث الإسراء والمعراج لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أن تخلت عنه أسباب الدنيا في مكة وذهب إلى الطائف يدعو أهلها فسلطوا عليه غلمانهم وسفهاءهم فقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين. . ورفع يديه إلى السماء بالدعاء المأثور: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس» . وليس هذا على الرسول وحده بل والمؤمنين معه. . حتى أن مصعب بن عمير فتى قريش المدلل. . الذي كان عنده من الملابس والأموال والعبيد ما لا يعد ولا يحصى رئي بعد إسلامه وهو يرتدي جلد حمار وذلك حتى يختبر الحق سبحانه وتعالى في قلب مصعب بن عمير حبه للإيمان. . هل يحب الدنيا أكثر أو يحب الله ورسوله أكثر. . حتى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. كان يقول للصحابة انظروا كيف فعل الإيمان بصاحبكم. والله تبارك وتعالى لابد أن يمحص ويختبر أولئك الذين سيحملون دعوته إلى الدنيا كلها. . لابد أن يكونوا صابرين على البلاء. أقوياء أمام خصوم الدعوة. . مستعدين لتحمل الأعباء والآلام. . لأن هذا هو دليل الصدق في الإيمان. . ولذلك تجد كل دعوة ضلال تأتي بالفائدة لأصحابها. . دعوة الشيوعية يستفيد منها أعضاء اللجنة المركزية. . أما الشعب فإنه يرتدي ملابس رخيصة. . ويسكن في بيوت ضيقة. أما السادة الذين ينفقون بلا حساب فهم أعضاء اللجنة المركزية. . هذه دعوة الباطل. . وعكس ذلك دعوة الحق. . صاحب الدعوة هو الذي يدفع أولا ويضحي أولا. لا ينتفع بما يقول بل على العكس يضحي في سبيل ما يقول. . إذن الباطل يأتي بالخير لصاحب الدعوة. فإذا رأيت دعوة تغدق على أتباعها فأعلم أنها دعوة باطل. . لولا أنها أعطت بسخاء ما تبعها أحد. والآية الكريمة التي نحن بصددها هي تقريع من موسى عليه السلام لقومه. . الذين نجاهم الله من آل فرعون وأهلك عدوهم فاتخذوا العجل إلها. . ومتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 حدث ذلك؟ في الوقت الذي كان موسى فيه قد ذهب لميقات ربه ليأتي بالمنهج. . والذين اتخذوا العجل إلها. . هل ظلموا الله سبحانه وتعالى أو ظلموا أنفسهم؟ . . ظلموا أنفسهم لأنهم أوردوها مورد التهلكة دون أن يستفيدوا شيئا. . والظالم على أنواع. . ظالم في شيء أعلى أي في القمة. . وظالم في مطلوب القمة. . الظالم في القمة هو الذي يجعل الله شريكا ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وعلاقة الشرك بالظلم أنك جئت بمن لم يخلق ومن لم يرزق شريكا لمن خلق ورزق. . وذلك الذي جعلته إلها كيف يعبد؟ . . العبادة طاعة العابد للمعبود. . فماذا قال لكم هذا العجل الذي عبدتموه من دون الله أن تفعلوا. . لذلك فأنتم ظالمون ظلم القمة. . والظلم الآخر هو الظلم فيما شرعت القمة. . بأن أخذتم حقوق الناس واستبحتموها. . في كلتا الحالتين لا يقع الظلم على الله سبحانه وتعالى ولكن على نفسك. لماذا؟ . . لأنك آمنت بالله أو لم تؤمن. سيظل هو الله القوي القادر العزيز. لن يُنْقصَ إِيمانك أو عدم إيمانك من ملكه شيئا. ثم تأتي يوم القيامة فيعذبك. فكأن الظلم وقع عليك. . وإذا أخذت حقوق الناس فقد تتمتع بها أياما أو أسابيع أو سنوات ثم تموت وتتركها وتأخذ العذاب. فكأنك ظلمت نفسك ولم تأخذ شيئا. . لذلك يقول الحق جل جلاله: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] وظلم الناس يعود على أنفسهم. . لأنه لا أحد من خلق الله يستطيع أن يظلم الله سبحانه وتعالى. . وقوله سبحانه {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ} . . الحق تبارك وتعالى قال في الآية السابقة «عفونا عنكم» ثم يقول هذه الآية {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ} . . لأن التوبة هي أصل المغفرة. أنت تتوب عن فعلك للذنب وتعتزم ألا تعود لمثله أبدا ويقبل الله توبتك ويعفو عنك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وقد كان من الممكن أن يأخذهم الله بهذا الذنب ويهلكهم كما حدث بالنسبة للأمم السابقة. . أما وقد شرع الله لهم أن يتوبوا. فهذا فضل من الله وعفو. . ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} . . فانظروا إلى دقة التكليف ودقة الحيثية في قوله تعالى: {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} الله سبحانه وتعالى يقول لهم. . أنا لم أغلب عليكم خالقا خلقكم أو آخذكم منه. . ولكن أنا الذي خلقتكم. ولكن الخالق شيء والبارئ شيء آخر. . خلق أي أوجد الشيء من عدم. . والبارئ أي سَوَّاهُ على هيئة مستقيمة وعلى أحسن تقويم. . ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2 - 3] ومن هنا نعرف أن الخلق شيء والتسوية شيء آخر. . بارئكم مأخوذة من برئ السهم. . وبرئ السهم يحتاج إلى دقة وبراعة. وقوله تعالى: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} لأن الذي خلقك وسواك كفرت به وعبدت سواه. فكأنك في هذه الحالة لابد أن تعيد له الحياة التي وهبها لك. . وعندما نزل حكم الله تبارك وتعالى. . جعل موسى بني إسرائيل يقفون صفوفا. وقال لهم أن الذي لم يعبد العجل يقتل من عبده. . ولكنهم حين وقفوا للتنفيذ. كان الواحد منهم يجد ابن عمه وأخاه وذوي رحمه أمامه فيشق عليه التنفيذ. . فرحمهم الله بأن بعث ضبابا يسترهم حتى لا يجدوا مشقة في تنفيذ القتل. . وقيل أنهم قتلوا من أنفسهم سبعين ألفا. وعندما حدث ذلك أستصرخ موسى وهارون ربهم. . وقالا البكية البكية. أي أبكوا عسى أن يعفو الله عنهم. ووقفوا يبكون أمام حائط المبكى فرحمهم الله. . وقوله تعالى: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} لأن هذه الأنفس بشهوتها وعصيانها. . هي التي جعلتهم يتمردون على المنهج. . إن التشريع هنا بالقتل هو كفارة الذنب. لأن الذي عبد العجل واتخذ إلها آخر غير الله. كونه يقدم نفسه ليقتل فهذا اعتراف منه بأن العجل الذي كان يعبده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 باطل. . وهو بذلك يعيد نفسه التي تمردت على منهج الله إلى العبادة الصحيحة. . وهذا أقسى أنواع الكفارة. . وهو أن يقتل نفسه إثباتا لإيمانه. . بأنه لا إله إلا الله وندما على ما فعل وإعلانا لذلك. . فكأن القتل هنا شهادة صادقة للعودة إلى الإيمان. وقوله تعالى {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} . . أي أن هذه التوبة هي أصدق أنواع التوبة. . وهي خير لأنها تنجيكم من عذاب الآخرة. . وقوله سبحانه {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} . التوبة الأولى أنه شرع لكم الكفارة. . والتوبة الثانية عندما تقبل منكم توبتكم. . وعفا عنكم عفوا أبديا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 بعد أن تاب الله على قوم موسى بعد عبادتهم للعجل. . عادوا مرة أخرى إلى عنادهم وماديتهم. فهم كانوا يريدون إلها ماديا. . إلها يرونه ولكن الإله من عظمته أنه غيب لا تدركه الأبصار. . واقرأ قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] فكون الله سبحانه وتعالى فوق إدراك البشر. . هذا من عظمته جل جلاله. . ولكن اليهود الذين لا يؤمنون إلا بالشيء المادي المحس. . لا تتسع عقولهم ولا قلوبهم إلى أن الله سبحانه وتعالى فوق المادة وفوق الأبصار. . وهذه النظرة المادية نظرة حمقاء. . والله تبارك وتعالى قد لفتنا إلى قضية رؤيته جهرا في الدنيا. . بقوله تعالى: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] أي أن الله جل جلاله وضع دليل القمة على وجود الله الذي لا تدركه الأبصار. وضع هذا الدليل في نفس كل واحد منا. وهي الروح الموجودة في الجسد. . والإنسان مخلوق من مادة نفخت فيها الروح فدبت فيها الحياة والحركة والحس. . إذن كل ما في جسدك من حياة. . ليس راجعا إلى المادة التي تراها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 أمامك. . وإنما يرجع إلى الروح التي لا تستطيع أن تدركها إلا بآثارها. . فإذا خرجت الروح ذهبت الحياة وأصبح الجسد رمة. إذا كانت هذه الروح التي في جسدك. . والتي تعطيك الحياة لا تستطيع أن تدركها مع أنها موجودة داخلك. . فكيف تريد أن تدرك الله سبحانه وتعالى. . كان يجب أولا أن تسأل الله أن يجعلك تدرك الروح التي في جسدك. . ولكن الله سبحانه وتعالى قال إنها من أمر الله. . واقرأ جل جلاله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] إذا كانت هذه الروح هي مخلوقة لله لا تدركها. . فكيف تطمع أن ترى خالقها. . وانظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله سبحانه. {حتى نَرَى الله جَهْرَةً} . . فكلمة نرى تطلق ويراد بها العلم. مثلا: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الفرقان: 43] أي أعلمت. . ولكن جاءت كلمة جهرة لتنفي العلم فقط وتطالب بالرؤية مجهورة واضحة يدركونها بحواسهم. وهذا دليل على أنهم متمسكون بالمادية التي هي قوام حياتهم. . نقول لهؤلاء إن سؤالكم يتسم بالغباء. . فأنتم حين تطلبون أن تروا الله جهرة. والمفروض أن الله تبارك وتعالى له مدلول عندكم. . ولذلك تطلبون رؤيته لتقارنوا المدلول على الموجود. . ذلك لو كانت القضية أصلا أن تعرفوا أن الله موجود أو غير موجود. . والذي شجعهم على أن يقولوا ما قالوا. . طلب موسى عليه السلام من الله سبحانه وتعالى أن يراه. واقرأ قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ولابد أن نعرف أن قضية رؤية الله في الدنيا محسوسة. . وأنه لا سبيل إلى ذلك والإنسان في جسده البشري. . لأن هذا الجسد له قوانين في ادراكاته. . ولكن يوم القيامة نكون خلقا بقوانين تختلف. . ففي الدنيا لابد أن تخرج مخلفات الطعام من أجسادنا. وفي الآخرة لا مخلفات. وفي الدنيا يحكمنا الزمن. . وفي الآخرة لا زمن. إذ يظل الإنسان شبابا دائما. . إذن فهناك تغيير. . المقاييس هنا غير المقاييس يوم القيامة في الدنيا بإعدادك وجسدك لا يمكن أن ترى الله. وفي الآخرة يسمح إعدادك وجسدك بأن يتجلى عليك الله سبحانه وتعالى. . وهذا قمة النعيم في الآخرة. أنت الآن تعيش في أثار قدرة الله. . وفي الآخرة تعيش عيشة الناظر إلى الله تبارك وتعالى. . وفي ذلك يقول الحق جل جلاله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] والإنسان في الدنيا قد اخترع آلات مكنته من أن يرى ما لا يراه بعينه المجردة يرى الأشياء الدقيقة بواسطة الميكرسكوب. والأشياء البعيدة بواسطة التلسكوب. . فإذا كان عمل الإنسان في الدنيا جعله يبصر ما لم يكن يبصره. . فما بالك بقدرة الله في الآخرة. . وإذا كان الإنسان عندما يضعف نظره. يطلب منه الطبيب استعمال نظارة. . فإذا ذهب إلى طبيب أمهر. . أجرى له عملية جراحية في عينه يستغني بها عن النظارة ويرى بدونها. . فما بالكم بإعداد الحق للخلق وبقدرة الله التي لا حدود لها في أن يعيد خلق العين بحيث تستطيع أن تتمتع بوجهه الكريم. ولقد حسم الله تبارك وتعالى المسألة مع موسى عليه السلام بأن أراه العجز البشري. . لأن الجبل بقوته وجبروته لم يستطع احتمال نور الله فجعله دكا. . وكأن الله يريد أن يفهم موسى. . أن الله تبارك وتعالى حجب عنه رؤيته رحمة منه. لأنه إذا كان هذا قد حدث للجبل فماذا كان يمكن أن يحدث بالنسبة لموسى. إذا كان موسى قد صعق برؤية المتجلَّى عليه. . فكيف لو رأى المتجلِّي؟ . . والإنسان حين يعجز عن إدراك شيء في الدنيا لأنه مخلوق بهذه الإمكانات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 يكون العجز عن الإدراك إدراكا لأن العجز عن الإدراك هو في عظمة الله سبحانه وتعالى. . وقوم موسى حينما طلبوا منه أن يروا الله جهرة أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون. . عندما اجترأوا هذا الاجتراء على الله أخذتهم الصاعقة. . والصاعقة إما نار تأتي وإما عذاب ينزل. . المهم أنه بلاء يعمهم. . والصاعقة قد أصابت موسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 فالحق سبحانه وتعالى يكمل لنا قصة الذين قالوا {أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} . موسى عليه السلام أصيب بالصاعقة أيضا. . عندما طلب أن ينظر إلى الله. ولكن هناك فرق بين الحالتين. . الله تبارك وتعالى يقول: {وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} [الأعراف: 143] ولكن الأمر لم يكن كذلك مع قوم موسى. فمع موسى قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّآ أَفَاقَ} أي أن الصاعقة أصابته بنوع من الإغماء. . ولكن مع قوم موسى. قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} . . فكأن قوم موسى ماتوا فعلا من الصاعقة. . فموسى أفاق من تلقاء نفسه. . أما أولئك الذين أصابتهم الصاعقة من قومه. . فقد ماتوا ثم بعثوا لعلهم يشكرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فالله سبحانه وتعالى يريد أن يمتن على بني إسرائيل بنعمه ومعجزاته. . ويرينا أنه برغم كل هذه النعم عاش بنو إسرائيل في عنادهم وتعنتهم، بعد أن طلب بنو إسرائيل أن يروا الله جهرة فقتلتهم الصاعقة. . ثم بعثهم الله تبارك وتعالى لعلهم يشكرون. . ذكر لنا الحق جل جلاله نعما أخرى من نعمه على بني إسرائيل. . وقال اذكروا إذ كنتم في الصحراء وليس فيها ظل تحتمون به من حرارة الشمس القاسية. . وليس فيها مكان تستظلون فيه، لأنه لا ماء ولا نبات في الصحراء. . فظلل الله سبحانه وتعالى عليكم بالغمام. . أي جاء الغمام رحمة من الله سبحانه وتعالى. . ثم بعد ذلك جاء المن والسلوى. . والمن نقط حمراء تتجمع على أوراق الشجر بين الفجر وطلوع الشمس. . وهي موجودة حتى الآن في العراق. . وفي الصباح الباكر يأتي الناس بالملاءات البيضاء ويفرشونها تحت الشجر. . ثم يهزون الشجر بعنف فتسقط القطرات الموجودة على ورق الشجر فوق الملاءات. . فيجمعونها وتصبح من أشهى أنواع الحلويات. فيها طعم القشدة وحلاوة عسل النحل. . وهي نوع من الحلوى اللذيذة المغذية سهلة الهضم سريعة الامتصاص في الجسم. والله سبحانه وتعالى جعله بالنسبة لهم وقود حياتهم. . وهم في الصحراء يعطيهم الطاقة. أما السلوى فهي طير من السماء ويقال أنه السمان. . يأتيهم في جماعات كبيرة لا يعرفون مصدرها. . ويبقى على الأرض حتى يمسكوا به ويذبحوه ويأكلوه. فالله تبارك وتعالى قد رزقهم بهذا الرزق الطيب من غمام يقيهم حرارة الشمس، ومَنّ يعطيهم وقود الحركة. وسَلْوَى كغذاء لهم، وكل هذا يأتيهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 السماء دونما تعب منهم. . ولكنهم لعدم إيمانهم بالغيبيات يريدون الأمر المادي وهم يخافون أن ينقطع المَنَّ والسلْوى عنهم يوما ما فماذا يفعلون؟ لو كانوا مؤمنين حقا لقالوا: إن الذي رزقنا بالمن والسلوى لن يضيعنا. . ولكن الحق جل جلاله ينزل لهم طعامهم يوميا من السماء وهم بدلا من أن يقابلوا هذه النعمة بالشكر قابلوها بالجحود. وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فالحق سبحانه وتعالى يتحدث للمرة الثالثة عن ظلم قوم موسى. . ففي المرة الأولى قال «وأنتم ظالمون» . وفي الآية الثانية قال: «ظلمتم أنفسكم» . . وفي هذه الآية قال: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . . ولقد سبق أن قلت أنه لا أحد يستطيع أن يظلم الله لأن الله سبحانه وتعالى باق بقدرته وقوته وعظمته. . لا يقلل منها لو كفر أهل الأرض جميعا ولا يزيد فيها لو آمن أهل الأرض كلهم. فقدرة الله باقية وكلمته ماضية. . ولكن نحن الذين نظلم أنفسنا. . بأن نوردها مورد التهلكة والعذاب الذي لا نجاة منه دون أن نعطيها شيئا. . إن الدنيا كما قلنا عالم أغيار. والنعمة التي أنت فيها زائلة عنك. إما أن تتركها بالموت أو تتركك هي وتزول عنك. . وتخرج من الدنيا تحمل أعمالك فقط. . كل شيء زال وبقيت ذنوبك تحملها إلى الآخرة. . ولذلك فإن كل من عصى الله وتمرد على دينه قد ظلم نفسه لأنه قادها إلى العذاب الأبدي طمعا في نفوذ أو مال زال بعد فترة قصيرة ولم يدم. . فكأنه ظلمها بأن حرمها من نعيم أبدي وأعطاها شهوة قصيرة عاجلة «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 من هذه الآية الكريمة نعرف أن بني إسرائيل رفضوا رزق السماء من المن والسلوى مع أنه كان رزقا عاليا. . عاليا في الجودة لأنه طعام حلو نقي شهي ينزل لهم من السماء مباشرة، وعاليا في الكثرة من أنه كان يأتيهم بلا عمل وبلا تعب وبكميات هائلة تكفيهم وتزيد. . وطلبوا من موسى طعام الأرض الذي يزرعونه بأيديهم ويرونه أمامهم كل يوم فقد كانوا يخافون أن يستيقظوا يوما فلا يجدون المن والسلوى. الحق سبحانه وتعالى يكمل لنا القصة في آية قادمة: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] فالله سبحانه وتعالى مازال يمتن على بني إسرائيل بنعمه وكيف قابلوها بالجحود. . فيذكرهم بإنجائهم من عذاب آل فرعون. . ويذكرهم بالبحر الذي انشق لهم فمشوا فيه ثم انقض الماء بعد ذلك على آل فرعون فأغرقهم. . ويذكرهم كيف أنهم عبدوا العجل بعد ذلك. . وكان من الممكن أن يهلكهم الله بذنوبهم. كما أهلك الأمم السابقة ولكنه عفا عنهم. . ثم يذكرهم بفضله عليهم بأن أعطاهم الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل. . ويذكرهم بأنهم طلبوا أن يروا الله جهرة. . فصعقوا وماتوا ثم بعثهم الله. ويذكرهم كيف ظللهم بالغمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 من حرارة الشمس المحرقة. . ورزقهم بالمن والسلوى. . ثم يذكرهم بأنهم طلبوا طعام الأرض فاستجاب لهم. في هذه الآية يقول الحق تبارك وتعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} . وفي آية أخرى يقول: {رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمْ} . الفرق في المعنى أن قوله تعالى: {حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} تدل على أن هناك أصنافاً كثيرة من الطعام. {ورَغَداً حَيْثُ شِئْتُمْ} يكون هناك صنف واحد والناس جائعون فيقبلون على الطعام. . عندما يقول الحق جل جلاله: كلوا رغداً يكون المخاطب هنا نوعين: إنسان غير جائع ولذلك تعد له ألوانا متعددة من الطعام لتغريه على الأكل. . فتقدم في هذه الحالة «حيث شئتم» فيقال: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} . . فإذا كان الإنسان جوعان يرضى بأي طعام. . فيقال رغدا حيث شئتم. إن المسألة في القرآن الكريم ليست تقديما وتأخيراً في الألفاظ. . ولكن المعنى لا يستقيم بدون هذا التغيير. . قوله تعالى {ادخلوا هذه القرية} . . والقرية هي هنا بيت المقدس أو فلسطين أو الأردن. . الحق تبارك وتعالى يقول: {وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين} . . والحق جل جلاله حين خاطبهم بين لنا أنهم لم يكونوا في حالة جوع شديد بحيث يأكلون أي شيء فقال: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} أي ستجدون فيها ألوانا كثيرة من الطعام تغريكم على الأكل ولو لم تكونوا جائعين. وقوله تعالى: {وادخلوا الباب سُجَّداً} . . أي ادخلوا الباب وأنتم في منتهى الخضوع. . {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي حط عنا ذنوبنا يا رب. . غير أنهم حتى في الأمر يغيرون مضمونه. . ويلبسون الحق بالباطل. . وهذه خاصية فيهم. . ولذلك دخلوا الباب وهم غير ساجدين. . دخلوه زاحفين على ظهورهم. . مع أن ما أمرهم الله به أقل مشقة مما فعلوه. . فكأن المخالفة لم تأت من أن أوامر الله شاقة. . ولكنها أتت من الرغبة في مخالفة أمر الخالق وبدلا من أن يقولوا حطة. أي حط عنا يا رب ذنوبنا قالوا حنطة والحنطة هي القمح. . ليطوعوا اللفظ لأغراضهم. . فكأن المسألة ليست عدم قدرة على الطاعة ولكن رغبة في المخالفة. ومع أن الحق تبارك وتعالى وعدهم بالمغفرة والرحمة والزيادة للمحسنين. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 فإنهم خالفوا وعصوا. . وقوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ المحسنين} يأتي في الآية الكريمة: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] أي لهم أجر مثل ما فعلوا أضعافا مضاعفة. . وما هي الزيادة؟ أن يروا الله يوم القيامة. هذه هي الزيادة التي ليس لها نظير في الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الله سبحانه وتعالى يشرح لنا في هذه الآية الكريمة كيف أن اليهود قوم معصية برغم نعم الله عليهم. . فلو أن الله سبحانه وتعالى كلفهم تكليفا لم يستطيعوه؛ لأنه شاق عليهم فربما كان لهم عذرهم. . ولكن الله تبارك وتعالى لا يكلف إلا بما هو في طاقة الإنسان أو أقل منها. . فيقول جل جلاله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] والله تبارك وتعالى لم يكلف بني إسرائيل بأن يدخلوا هذه القرية التي يقال: إنها القدس ويقال أنها قرية في فلسطين أو قرية في الأردن. . إلا بناء على طلبهم هم. فهم الذين طلبوا من موسى أن يدعو الله لهم أن يدخلوا واديا فيه زرع. . ليأكلوا مما تنتج الأرض ويطمئنوا على طعامهم. . لأنهم يخافون أن يأتي يوم. . لا ينزل عليهم المن والسلوى من السماء. . فلما استجاب الله لدعواهم وقال لهم ادخلوا الباب خاشعين. وقولوا يا رب حط عنا ذنوبنا. . بدل بنو إسرائيل القول فبدلا من أن يقولوا حطة قالوا حنطة. . وبدلوا طريقة الدخول فبدلا من أن يدخلوا ساجدين دخلوا على ظهورهم زاحفين. . وكان هذا رغبة في المخالفة. . فأصابهم الله بعذاب من السماء بما كانوا يفسقون. . أي يبتعدون عن منهج الله ولا يطبقونه. رغبة في المخالفة وإصرارا على العناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ومعناها: اذكر إذا استسقى موسى لقومه. . وهذه وردت كما بينا في عدة آيات في قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} [الأعراف: 141] وقول سبحانه: {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51] وقوله جل جلاله: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] وقلنا أن هذه كلها نعم امتن الله بها على بني إسرائيل وهو سبحانه وتعالى يذكرهم بها. إما مباشرة وإما على لسان موسى عليه السلام. والحق يريد أن يذكر بني إسرائيل حينما تاهوا في الصحراء أنه أظلهم بالغمام. . وسقاهم حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 طلبوا السقيا. . ولقد وصلت ندرة الماء عند بني إسرائيل لدرجة أنهم لم يجدوا ما يشربونه. . لأن الإنسان يبدأ الجفاف عنده لعدم وجود ماء يسقي به زرعه. . ثم يقل الماء فلا يجد ما يسقي به أنعامه. . ثم يقل الماء فلا يجد ما يشربه. . وهذا هو قمة الجفاف أو الجدب. . وموسى عليه السلام طلب السقيا من الله تبارك وتعالى. . ولا تطلب السقيا من الله إلا إذا كانت الأسباب قد نفدت. . وانتهت آخر نقطة من الماء عندهم؛ فالماء مصدر الحياة ينزله الله من السماء. . وينزله نقيا طاهرا صالحا للشرب والري والزرع وسقيا الأنعام. . والحق سبحانه وتعالى جعل ثلاثة أرباع الأرض ماء والربع يابسا. . حتى تكون مساحة سطح الماء المعرضة للتبخّر بواسطة أشعة الشمس كبيرة جدا فتسهل عملية البخر؛ فإنك إذا جئت بكوب ماء وتركته في حجرة مغلقة لمدة يومين أو ثلاثة. ثم عدت تجده ناقصا قيراطا أو قيراطين. ولكن إذا أمسكت ما في الكوب من ماء وألقيته على أرض الحجرة. . فأنه يجف قبل أن تغادرها لماذا؟ . . لأن مساحة سطح الماء هنا كبيرة. . ولذلك يتم البخر بسرعة ولا يستغرق وقتا. وهذه هي النظرية نفسها التي تتم في الكون. الله تبارك وتعالى جعل سطح الماء ثلاثة أرباع الأرض ليتم البخر في سرعة وسهولة. . فيتكون السحاب وينزل المطر نأخذ منه ما نحتاج إليه، والباقي يكون ينابيع في الأرض، مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} [الزمر: 21] هذه الينابيع تذهب إلى أماكن لا يصلها المطر. ليشرب منها الناس مِمّا نُسميه الآبار أو المياه الجوفية. . وتشرب منها أنعامهم. . فإذا حدث جفاف يخرج الناس رجالا ونساء وصبيانا وشيوخا. يتضرعون إلى الله ليمطرهم بالماء. . ونحن إذا توسلنا بأطفالنا الرضع وبالضعفاء يمطرنا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وبعض الناس يقولون أن المطر ينزل بقوانين علمية ثابتة. . يصعد البخار من البحار ويصبح سحابا في طبقات الجو العليا ثم ينزل مطرا. . تلك هي القوانين الثابتة لنزوله. وأن السحاب لابد أن يكون ارتفاعه عدد كذا من الأمتار. . ليصل إلى برودة الجو التي تجعله ينزل مطرا. ولابد أن يكون السحاب ملقحا. . نقول أن هذا كله مرتبط بمتغيرات. فالريح تهب أو لا تهب. وتحمل السحاب إلى منطقة عالية باردة ولا تحمله وغير ذلك. . إذن فكل ثابت محمول على متغير. . قد تعرف أنت القوانين الثابتة. . ولكن القوانين المتغيرة لا يمكن أن تنبأ بما ستفعل ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} [الجن: 16] إذن فعوامل سقوط المطر لا تخضع لقوانين ثابتة. ولكن المتغير هو العامل الحاسم. ليسوق السحاب إلى المناطق الباردة وإلى الارتفاع المطلوب. . ولابد أن نتنبه إلى أن هناك قوانين ثابتة في الكون وقوانين تتغير. . وأن القانون المتغير هو الذي يحدث التغيير. وقوله تعالى: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} . . تدل على أن هناك مُستسقى بفتح القاف وأن هناك مستسقي بكسر القاف. . مستسقي بكسر القاف أي ضارع إلى الله لينزل المطر. . أما المستسقى بفتح القاف فهو الله سبحانه وتعالى الذي ينزل المطر. . إن هذا الموقف خاص بالله تبارك وتعالى فلا توجد مخازن للمياه وليس هناك ماء في الأرض. . من أنهار أو آبار أو عيون ولا ملجأ إلا الله. . فلابد من التوسل لله تبارك وتعالى: عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان إذا قحطوا استسقي بالعباس بن المطلب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 بنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال: فيُسقون « بعض الناس يقولون هذا دليل على أن الميت لا يستعان به. . بدليل أن عمر ابن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لم يتوسل برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد موته، وإنما توسل بعم رسول الله. . نقول وبمن توسل عمر؟ . . أتوسل بالعباس أم بعم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ . . توسل بالرسول، وبذلك أخذنا الحجة أن الوسيلة ليست مقصورة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . وإنما تتعدى إلى أقاربه. . وهنا يأتي سؤال لماذا نقل الأمر من رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى عم الرسول؟ . . نقول لأن رسول الله قد انتقل ولا ينتفع الآن بالماء. . ولكن عمه العباس هو الحي الذي ينتفع بالماء. . لذلك كان التوسل بعم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولم يكن منطقيا أن يتوسلوا برسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهو ميت ولا يحتاج إلى الماء. . والذين أرادوا أن يأخذوا التوسل بذوي الجاه. . نقول لهم أن الحديث ضدكم وليس معكم. . لأنه أثبت أن التوسل جائز بمن ينتسب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لابد أن نتحدث كيف أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن قابل بنو إسرائيل النعمة بالجحود والنكران فكيف يسقيهم؟ . . نقول إنها النبوة الرحيمة التي كانت السبب في تنزل الرحمة تلو الرحمة على بني إسرائيل. . وكان طمع موسى في رحمة الله بلا حدود. . ولذلك فإن الدعوات كانت تتوالى من موسى عليه السلام لقومه. . وكانت الاستجابة من الله تأتي. كان من المفروض لاستكمال المعنى أن يقال وإذا استسقى موسى ربه لقومه فقال يا رب اسقهم. . ولكن هذه لم تأت حذفت وجاء بعدها الإجابة: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر} . . إذن قوله يا رب اسق قومي واستجابة الله له محذوفة لأنها مفهومة. . ولذلك جاء القرآن باللفتات الأساسية وترك اللفتات المفهومة لذكاء الناس. . تماما كما جاء في سورة النمل: الهدهد ذهب ورأى ملكة بلقيس وعرشها. وعاد إلى سليمان وأخبره. فطلب سليمان من الهدهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 أن يلقي إلى ملكة سبأ وقومها كتابا وقال: {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 28 - 29] فسليمان أمر الهدهد أن يلقي كتابا إلى بلقيس وقومها. . والآية التي بعدها جاءت بقوله تعالى: قالت {ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} كل التفاصيل حذفت من أن الهدهد أخذ الكتاب وطار إلى مملكة سبأ وألقى الكتاب أمام عرشها. . والتقطت بلقيس ملكة سبأ الكتاب وقرأته. . ودعت قومها وبدأت تروي إليهم قصة الكتاب. . كل هذا حُذف لأنه مفهوم. قال موسى يا رب اسق قومي. . والله سبحانه وتعالى قال له: إن أردت الماء لقومك. . كل هذا محذوف. . وتأتي الآية الكريمة: {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر} . {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر} لنا معها وقفة. . الإنسان حين يستسقي الله. . يطلب منه أن ينزل عليه مطرا من السماء، والحق تبارك وتعالى كان قادرا على أن ينزل على بني إسرائيل مطرا من السماء. ولكن الله جل جلاله أراد المعجزة. . فقال سأمدكم بماء ولكن من جنس ما منعكم الماء وهو الحجر الموجود تحت أرجلكم. . لن أعطيكم ماء من السماء. . ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يُرِي بني إسرائيل مدى الإعجاز. . فأعطاهم الماء من الحجر الذي تحت أرجلهم. ولكن من الذي يتأثر بالضرب: الحجر أم العصا؟ . . العصا هي التي تتأثر وتتحطم والحجر لا يحدث فيه شيء. . ولكن الله سبحانه وتعالى أراد بضربة واحدة من العصا أن ينفلق الحجر. . ولذلك يقول الشاعر: أيا هازئاً من صنوف القدرْ ... بنفسك تعنف لا بالقدرْ ويا ضاربا صخرةً بالعصا ... ضربْتَ العصا أم ضربْتَ الحجرْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 إن انفجار الماء من ضربة العصا دليل على أن العصا أشارت فقط إلى الصخرة فتفجر منها الماء. . وحتى لو كانت العصا من حديد. . هل تكون قادرة على أن تجعل الماء ينبع من الحجر؟ فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه كان من الممكن أن ينزل الماء من السماء. . ولكن الله أرادها نعمة مركبة. . ليعلموا أنه يستطيع أن يأتي الماء من الحجر الصلب. . وأن نبع الماء من متعلقات «كن» . هنا لابد أن ننظر إلى تعنت بني إسرائيل. قالوا لموسى هب أننا في مكان لا حجر فيه. من أين ينبع الماء؟ . . لابد أن نأخذ معنا الحجر حتى إذا عطشنا نضرب الحجر بالعصا. . ونسوا أن هناك ما يتم بالأسباب وما يتم بكلمة «كن» . . ولذلك تجد مثلا كبار الأطباء يحتارون في علاج مريض. . ثم يشفى على يد طبيب ناشئ حديث التخرج. . هل هذا الطبيب الناشئ يعرف أكثر من أساتذته الذين علموه؟ . . الجواب طبعا لا. إن التلميذ لا يتفوق على أستاذه الذي علمه فليس العلاج بالأسباب وحدها ولكن بقدرة المسبب. . ولذلك جاء موعد الشفاء على يد هذا الطبيب الناشئ. . فكشف الله له الداء وألهمه الدواء. يقول الحق سبحانه وتعالى: {فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} لماذا اثنتا عشرة عينا. لأن اليهود كانوا يعيشون حياة انعزال. كل مجموعة منهم كانت تسمى «سبطا» لها شيخ مثل شيخ القبيلة. . والحق تبارك وتعالى يقول: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} أي كل سبط أو مجموعة ذهبت لمشرب. . نبعت العيون من الحجر امتدت متشعبة إلى الأسباط جميعا كل في مكانه. . فإذا ما أخذوا حاجتهم ضرب موسى الحجر فيجف. ولذلك نعرف أن الحجر كان يعطيهم الماء على قدر الحاجة وكانت الجهة السفلى من الحجر الملامسة للأرض. . والجهة العليا التي ضرب عليها بالعصا لم ينبع منهما شيء، أما باقي الجهات الأربع فقد نبع منها كل منها ثلاثة ينابيع. وهناك شيء في اللغة يسمونه اللفظ المشترك. . وهو الذي يستخدم في معانٍ متعددة. . فإذا قلت سقى القوم دوابهم من العين. . العين هنا عين الماء. . وإذا قلت أرسل الأمير عيونه في المدينة يعني أرسل جنوده. . وإذا قلت اشتريته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 بعين أي بذهب. . وإذا قلت نظر إلي بعينه شذرا أي ببصره. . إذن كلمة عين تستخدم في أشياء متعددة. . ومعناها هنا عين الماء الجارية. قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} أي أن كل سبط عرف مكانه الذي يلزمه. . حتى لا يضيع من كل منهم الماء. . ولكن الإنسان حينما يكون مضطرا يلتزم بما يطلبه الله منه ويكون ملتزما بالأداء، فإذا فرج الله كربه وعادت إليه النعمة يعود إلى طغيانه. . ولذلك يقول الحق جل جلاله فيها: {كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} أي لا يكون شكركم على النعمة بالإفساد في الأرض. . واقرأ قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 15 - 15] هنا نرى أن أهل سبأ رزقهم الله فأعرضوا عن شكره. . كانوا يتيهون بالسد الذي يحفظ لهم مياه الأمطار. . ويمدهم بما يحتاجون إليه منها طوال العام، وأخذوا يتفاخرون بعلمهم ونسوا الله الذي علمهم. . فكان هذا السد هو النكبة أو الكارثة التي أهلكت زرعهم. . كذلك حدث لبني إسرائيل، قيل لهم: {كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} فأفسدوا في الأرض ونسوا نعمة الله فنزل بهم العذاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 هذه الآية الكريمة أيضا من آيات التذكير بنعم الله سبحانه وتعالى على موسى وعلى بني إسرائيل. . وكنا قد تعرضنا لمعنى طعام واحد عند ذكر المن والسلوى. . وقلنا أن تكرار نزول المن والسلوى كل يوم جعل الطعام لونا واحدا. . وكلمة واحد هي أول العدد. . فإذا إنضم إليه مثله يصير اثنين. . وإذا إنضم إليه مثله يصبح ثلاثة. . إذن فأصل العدد هو الواحد. . والواحد يدل على وحدة الفرد ولا يدل على وحدانية. . فإذا قلنا الله واحد فإن ذلك يعني أنه ليس كمثله أحد. . ولكنه لا يعني أنه ليس مكونا من أجزاء. . فأنت لست واحداً ولست أحداً لأنك مكون من أجزاء كما أن هناك من يشبهونك. . والشمس في مجموعتنا واحدة ولكنها ليست أحداً لأنها مكونة من أجزاء وتتفاعل. . والله سبحانه وتعالى واحد ليس كمثله شيء. . وأحد ليس مكونا من أجزاء. . ولذلك من أسمائه الحسنى الواحد الأحد. . ولا نقول أن الاسم مكرر فهذه تعني الفردية، وهذه تنفي التجزئة. وقوله تعالى: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} . . نلاحظ هنا أن الطعام وُصف بأنه واحد رغم أنه مكون من صنفين هما المن والسلوى. . ولكنه واحد لرتابة نزوله. . الطعام كان يأتيهم من السماء. . ولكن تعنتهم مع الله جعلهم لا يصبرون عليه فقالوا ما يدرينا لعله لا يأتي. . نريد طعاما نزرعه بأيدينا ويكون طوال الوقت أمام عيوننا. . وكأن هذه المعجزات كلها ليست كافية. . لتعطيهم الثقة في استمرار رزق الله. . إنهم يريدون أن يروا. . ألم يقولوا لموسى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ماذا طلبوا؟ . . قالوا: {فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض} . . {ادع لَنَا رَبَّكَ} أي أطلب من الله. . ولأن الدعاء لون من الطلب فإنك حين تتوجه إلى الله طالبا أن يعطيك. . فإنك تدعو بذلة الداعي أمام عزة المدعو. . والطلب إن كان من أدنى إلى أعلى قيل دعاء. . ومن مساوٍ إلى مساوٍ قيل طلب. . ومن أعلى إلى أدنى قيل أمر. . لقد طلب بنو إسرائيل من موسى أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يخرج لهم أطعمة مما تنبت الأرض. . وعددوا ألوان الأطعمة المطلوبة. . وقالوا: {مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} . . ولكنها كلها أصناف تدل على أن من يأكلها هم من صنف العبيد. . والمعروف أن آل فرعون إستعبدوا بني إسرائيل. . ويبدو أن بني إسرائيل أحبوا حياة العبودية واستطعموها. . الحق تبارك وتعالى كان يريد أن يرفع قدرهم فنزل عليهم المن والسلوى. . ولكنهم فضلوا طعام العبيد. . والبقل ليس مقصوداً به البقول فحسب. . ولكنه كل نبات لا ساق له مثل الخس والفجل والكرات والجرجير. . والقثاء هو القتة صنف من الخيار. . والفوم هو القمح أو الثوم. والعدس والبصل معروفان. . والله سبحانه وتعالى قبل أن يجيبهم أراد أن يؤنبهم: فقال {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ} . . عندما نسمع كلمة استبدال فاعلم أن الباء تدخل على المتروك. . تقول إشتريت الثوب بدرهم. . يكون معنى ذلك إنك أخذت الثوب وتركت الدرهم. قوله تعالى: {الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ} . . أي انهم تركوا الذي هو خير وهو المن والسلوى. . وأخذوا الذي هو أدنى. . والدنو هنا لا يعني الدناءة. . لأن ما تنتجه الأرض من نعم الله لا يمكن أن يوصف بالدناءة. . ولكن الله تبارك وتعالى يخلق بالأسباب ويخلق بالأمر المباشر. . ما يخلقه الله بالأمر المباشر منه بكلمة «كن» . . يكون خيرا مما جاء بالأسباب. . لأن الخلق المباشر لا صفة لك فيه. . عطاء خالص من الله. . أما الخالق بالأسباب فقد يكون لك دور فيه. . كأن تحرث الأرض أو تبذر البذور. . ما جاء خالصا من الله بدون أسبابك يقترب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 من عطاء الآخرة التي يعطي الله فيها بلا أسباب ولكن بكلمة «كن» . . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى} [طه: 131] فالله تبارك وتعالى يصف رزق الدنيا بأنه فتنة. . ويصف رزق الآخرة بأنه خير منه. . مع أن رزق الدنيا والآخرة، وكل رزق في هذا الوجود حتى الرزق الحرام هو من الله جل جلاله. . فلا رازق إلا الله ولكن الذي يجعل الرزق حراما هو استعجال الناس عليه فيأخذونه بطريق حرام. . ولو صبروا لجاءهم حلالا. . نقول إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرزق. . ولكنه سمى رزقا فتنة وسمى رزقا خيرا منه. . ذلك أن الرزق من الله بدون أسباب أعلى وأفضل منزلة من الرزق الذي يتم بالأسباب. . إذن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ} . . يكون المعنى أتستبدلون الذي هو رزق مباشر من الله تبارك وتعالى. . وهو المن والسلوى يأتيكم «بكن» قريب من رزق الآخرة بما هو أقل منه درجة وهو رزق الأسباب في الدنيا. . ولم يجب بنو إسرائيل على هذا التأنيب. . وقال لهم الحق سبحانه وتعالى: {اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} . . ولا يقال لهم ذلك إلا لأنهم أصروا على الطلب برغم أن الحق جل جلاله بين لهم أن ما ينزله إليهم خير مما يطلبونه.. نلاحظ هنا أن مصر جاءت منوّنةً. . ولكن كلمة مصر حين ترد في القرآن الكريم لا ترد منونة. . ومن شرف مصر أنها ذكرت أكثر من مرة في القرآن الكريم. . نلاحظ أن مصر حينما يقصد بها وادي النيل لا يأتي أبدا منونة وإقرأ قوله تعالى: {تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} [يونس: 87] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وقوله جل جلاله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي} [الزخرف: 51] وقوله سبحانه: {وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: 21] وقوله تبارك وتعالى: {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [يوسف: 99] كلمة مصر ذكرت في الآيات الأربع السابقة بغير تنوين. . ولكن في الآية التي نحن بصددها: {اهبطوا مِصْراً} بالتنوين. . هل مصر هذه هي مصر الواردة في الآيات المشار إليها؟ . . نقول لا. . لأن الشيء الممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. . إذا كان لبقعة أو مكان. . مرة تلحظ أنه بقعة فيبقى مؤنثاً. . ومرة تلحظ أنه مكان فيكون مذكرا. . فإن كان بقعةً فهو علم ممنوع من الصرف. . وإن كان مكانا تكون فيه علمية وليس فيه تأنيث. . ومرة تكون هناك علمية وأهمية ولكن الله صرفها في القرآن الكريم. . كلمات نوح ولوط وشعيب ومحمد وهود. . كل هذه الأسماء كان مفروضا أن تمنع من الصرف ولكنها صرفت. . فقيل في القرآن الكريم نوحا ولوط وشعيبا ومحمدا وهودا. . إذن فهل من الممكن أن تكون مصر التي جاءت في قوله تعالى: {اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} هي مصر التي عاشوا فيها وسط حكم فرعون. . قوله تعالى: {اهبطوا مِصْراً} من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الممكن أن يكون المعنى أي مصر من الأمصار. . ومن الممكن أن تكون مصر التي عاش فيها فرعون. . وكلمة مصر تطلق على كل مكان له مفتي وأمير وقاض. . وهي مأخوذة من الاقتطاع. . لأنه مكان يقطع إمتداد الأرض الخلاء. . ولكن الثابت في القرآن الكريم. . إن مصر التي لم تنون هي علم على مصر التي نعيش فيها. . أما مصراً التي خضعت للتنوين فهي تعني كل وادٍ فيه زرع. . وقوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} . . الذلة هي المشقة التي تؤدي إلى الإنكسار. . ويمكن أن ترفع عنك بأن تكون في حمى غيرك فيعزك بأن يقول إنك في حماه. . والله سبحانه وتعالى يقول عن بني إسرائيل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس} [آل عمران: 112] حبل من الله كما حدث عندما عاهدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة. . وعاشوا في حمى العهد. . إذن بحبل من الله أي على يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو المؤمنين به. . وبحبل من الناس أي في حماية دولة قوية كالولايات المتحدة الأمريكية. . إذا عاهدتهم عزوا وإن تركتهم ذلوا. . وقوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} ضربت أي طبعت طبعة قوية بضربة قوية تجعل الكتابة بارزة على النقود. . ولذلك يقال ضربت في مصر. . أي أعدت بضربة قوية أذلتهم وبقيت بارزة لا يستطيعون محوها. . أما المسكنة فهي انكسار في الهيئة. أهل الكتاب كانوا يدفعون الجزية والجزية كانت تؤخذ من الأغنياء. . وكانوا يلبسون الملابس القذرة. . ويقفون في موقف الذل والخزي حتى لا يدفعوا الجزية. وقوله تعالى: {وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله} . . أي غضب الله عليهم بذنوبهم وعصيانهم. حتى أصبح الغضب من كثرة عصيانهم كأنه سمة من سماتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 لماذا؟ : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي أنهم كانوا يكفرون بالنعم ولا يشكرون. . ويكفرون بالآيات ويشترون بها ثمنا قليلا. . ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يقتلون أنبياء الله بغير حق. . الأنبياء غير الرسل. . والأنبياء أسوة سلوكية ولكنهم لا يأتون بمنهج جديد. . أما الرسل فهم أنبياء بأنهم أسوة سلوكية ورسل لأنهم جاءوا بمنهج جديد. . ولذلك كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. والله سبحانه وتعالى يعصم أنبياءه ورسله من الخطيئة. . ولكنه يعصم رسله من القتل فلا يقدر عليهم أعداؤهم. . فمجيء الأنبياء ضرورة. . لأنهم نماذج سلوكية تسهل على الناس التزامهم بالمنهج، وبنو إسرائيل بعث الله لهم أنبياء ليقتدوا بهم فقتلوهم. . لماذا؟ . . لأنهم فضحوا كذبهم وفسقهم وعدم التزامهم بالمنهج. . ولذلك تجد الكافر والعاصي وغير الملتزم يغار ويكره الملتزم بمنهج الله. . ويحاول إزالته عن طريقه ولو بالقتل. . إذن فغضب الله عليهم من عصيانهم واعتدائهم على الأنبياء وما ارتكبوه من آثام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 بعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل وكيف كفروا بنعمه. . أراد أن يعرض لنا حساب الأمم التي سبقت أمم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم القيامة، ولقد وردت هذه الآية في سورة المائدة ولكن بخلاف يسير من التقديم والتأخير. . ففي سورة المائدة: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى} [المائدة: 69] أي أنه في سورة المائدة تقدمت الصابئون على النصارى. . واختلف الإعْراب فبينما في البقرة و «الصابئين» . . وفي المائدة و «الصابئون» . . وردت آية أخرى في سورة الحج: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17] الآيات الثلاث تبدو متشابهة. . إلا أنَّ هناك خلافات كثيرة. . ما هو سبب التكرار الموجود في الآيات. . وتقديم الصابئين مرة وتأخيرها. . ومع تقديمها رفعت وتغير الإعراب. . وفي الآيتين الأوليين (البقرة والمائدة) تأتي: {مَنْ آمَنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . . أما في الآية التي في سورة الحج فقد زاد فيها: {المجوس والذين أشركوا} . . واختلف فيها الخبر. . فقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} . عندما خلق الله وأنزله ليعمر الأرض أنزل معه الهدى. . واقرأ قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] مفروض أن آدم أبلغ المنهج لأولاده. . وهؤلاء أبلغوه لأولادهم وهكذا. . وتشغل الناس الحياة وتطرأ عليهم الغفلة. . ويصيبهم طمع الدنيا وجشعها ويتبعون شهواتهم. . فكان لابد من رحمة الله لخلقه أن يأتي الرسل ليذكروا وينذروا ويبشروا. . الآية الكريمة تقول: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} . . أي إيمان الفطرة الذي نزل مع آدم إلى الأرض. . وبعد ذلك جاءت أديان كفر الناس بها فأبيدوا من على الأرض. . كقوم نوح ولوط وفرعون وغيرهم. . وجاءت أديان لها اتباع حتى الآن كاليهودية والنصرانية والصابئية، والله سبحانه وتعالى يريد أن يجمع كل ما سبق في رسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء لتصفية الوضع الإيماني في الأرض. . إذن الذين آمنوا أولا سواء مع آدم أو مع الرسل. . الذين جاءوا بعده لمعالجة الداءات التي وقعت. . ثم الذين تسموا باليهود والذين تسموا بالنصارى والذين تسموا بالصابئة. . فالله تبارك وتعالى يريد أن يبلغهم لقد انتهى كل هذا. . فمن آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. . فكأن رسالته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ جاءت لتصفية كل الأديان السابقة. . وكل إنسان في الكون مطالب بأن يؤمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . فقد دعى الناس كلهم إلى الإيمان برسالته. . ولو بقي إنسان من عهد آدم أو من عهد إدريس أو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 عهد نوح أو إبراهيم أو هود. . وأولئك الذين نسبوا إلى اليهودية وإلى النصرانية وإلى الصابئية. . كل هؤلاء مطالبون بالإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتصديق بدين الإسلام. . فالإسلام يمسح العقائد السابقة في الأرض. . ويجعلها مركزة في دين واحد. . الذين آمنوا بهذا الدين: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . . والذين لم يؤمنوا لهم خوف وعليهم حزن. . وهذا إعلان بوحدة دين جديد. . ينتظم فيه كل من في الأرض إلى أن تقوم الساعة. . أما أولئك الذين ظلوا على ما هم عليه. . ولم يؤمنوا بالدين الجديد. . لا يفصل الله بينهم إلا يوم القيامة. . ولذلك فإن الآية التي تضمنت الحساب والفصل يوم القيامة. . جاء فيها كل من لم يؤمن بدين محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . بما فيهم المجوس والذين أشركوا. والحق تبارك وتعالى أراد أن يرفع الظن. . عمن تبع دينا سبق الإسلام وبقي عليه بعد السلام. . وهو يظن أن هذا الدين نافعه. . نقول له أن الحق سبحانه وتعالى قد حسم هذه القضية في قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وقوله جل جلاله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] إذن التصفية النهائية لموكب الإيمان والرسالات في الوجود حسمت. . فالذي آمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . لا يخاف ولا يحزن يوم القيامة. . والذي لم يؤمن يقول الله تبارك وتعالى له {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} . . إذن الذين آمنوا هم الذين ورثوا الإيمان من عهد آدم. . والذين هادوا هم أتباع موسى عليه السلام. . وجاء الاسم من قولهم: «إنا هدنا إليك» أي عدنا إليك. . والنصارى جمع نصراني وهم منسوبون إلى الناصرة البلدة التي ولد فيها عيسى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 السلام. . أو من قول الحواريين نحن أنصار الله في قوله تعالى: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] أما الصابئة فقد اختلف العلماء فيهم. . قال بعضهم هم أتباع نوح ولكنهم غيروا بعده وعبدوا من دون الله الوسائط في الكون كالشمس والقمر والكواكب. . أو الصابئة هم الذين انتقلوا من الدين الذي كان يعاصرهم إلى الدين الجديد. . أو هم جماعة من العقلاء قالوا ما عليه قومنا لا يقنع العقل. . كيف نعبد هذه الأصنام ونحن نصنعها ونصلحها؟ . . فامتنعوا عن عبادة أصنام العرب. . فقالوا عنهم إنهم صبئوا عن دين آبائهم. . أي تركوه وآمنوا بالدين الجديد. . وأيا كان المراد بالصابئين فهم كل من مال عن دينه إلى دين آخر. أننا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى. . جاء بالصابئين في سورة البقرة متأخرة ومنصوبة. . وفي سورة المائدة متقدمةً ومرفوعةً. . نقول هذا الكلام يدخل في قواعد النحو. . الآية تقول: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} . . نحن نعرف أَنَّ (إِنَّ) تنصب الاسم وترفع الخبر. . فالذين مبني لأنه إسم موصول في محل نصب إسم لأن: {والذين هَادُواْ} معطوف على الذين آمنوا يكون منصوباً أيضاً. . والنصارى معطوف أيضا على إسم إن. . والصابئين معطوف أيضا ومنصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم. . نأتي إلى قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} . هذه مستقيمة في سورة البقرة إعرابا وترتيبا. . والصابئين تأخرت عن النصارى لأنهم فرقة قليلة. . لا تمثل جمهرة كثيرة كالنصارى. . ولكن في آية المائدة تقدمت الصابئون وبالرفع في قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} . . الذين آمنوا إسم إن والذين هادوا معطوف. . و «الصابئون» كان القياس إعرابيا أن يقال والصابئين. . وبعدها النصارى معطوفة. . ولكن كلمة (الصابئون) توسطت بين اليهود وبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 النصارى. . وكسر إعرابها بشكل لا يقتضيه الظاهر. . وللعرب إذن مرهفة لغويا. . فمتى سمع الصابئين التي جاءت معطوفة على اسم إن تأتي بالرفع يلتفت لفتة قسرية ليعرف السبب. . حين تولى أبا جعفر المنصور الخلافة. . وقف على المنبر ولحن لحنة أي أخطأ في نطق كلمة. . وكان هناك إعرابي يجلس فآذت أُذنيه. . وأخطأ المنصور للمرة الثانية فحرك الإعرابي أُذنيه باستغراب. . وعندما أخطأ للمرة الثالثة قام الإعرابي وقال. . أشهد أنك وليت هذا الأمر بقضاء وقدر. . أي أنك لا تستحق هذا. . هذا هو اللحن إذا سمعه العربي هز أذنيه. . فإذا جاء لفظ مرفوعا والمفروض أن يكون منصوبا. . فإن ذلك يجعله يتنبه أن الله له حكمة وعلة. . فما هي العلة؟ . . الذين آمنوا أمرهم مفهوم والذين هادوا أمرهم مفهوم والنصارى أمرهم مفهوم. . أما الصابئون فهؤلاء لم يكونوا تابعين لدين. . ولكنهم سلكوا طريقا مخالفا. . فجاءت هذه الآية لتلفتنا أن هذه التصفية تشمل الصابئين أيضا. . فقدمتها ورفعتها لتلفت إليها الآذان بقوة. . فالله سبحانه وتعالى يعطف الإيمان على العمل لذلك يقول دائما: {آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} . . لأن الإيمان إن لم يقترن بعمل فلا فائدة منه. . والله يريد الإيمان أن يسيطر على حركة الحياة بالعمل الصالح. . فيأمر كل مؤمن بصالح العمل وهؤلاء لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 يمتنُّ الله سبحانه وتعالى مرة أخرى على بني إسرائيل بالنعم التي أنعم بها عليهم ويذكرهم بجحودهم بها. . ولكننا نلاحظ أن القرآن الكريم حينما يتكلم عن اليهود. . يتكلم عنهم بالخطاب المباشر. . فهل الذين عاصروا نزول القرآن وهم الذين أخذ الله تبارك وتعالى عليهم الميثاق. . هؤلاء مخاطبون بمراد آبائهم وأجدادهم الذين عاصروا موسى عليه السلام. نقول أنه كان المطلوب من كل جد أو أب أن يبلغ ذريته ما انتهت إليه قضية الإيمان. . فحين يمتن الله عليهم أنه أهلك أهل فرعون وأنقذهم. . يمتن عليهم لأنه أنقذ آباءهم من التذبيح. . ولولا أنه أنقذهم ما جاء هؤلاء اليهود المعاصرون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . فهم كانوا مطمورين في ظهور آبائهم. . ولكي ينقذهم الله كان لابد أن تستمر حلقة الحياة متصلة. . فمتى انتهت حياة الأب قبل أن يتزوج وينجب انتهت في اللحظة نفسها حياة ذريته. . الشيء نفسه ينطبق على قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} . . إمتنان على اليهود المعاصرين لنزول القرآن. . لأنه سبحانه وتعالى لو لم ينقذ آباءهم من الموت عطشا لماتوا بلا ذرية. إذن كل إمتنان على اليهود في عهد موسى هو إمتنان على ذريته في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . والحق سبحانه وتعالى أخذ على اليهود الميثاق القديم. . ولولا هذا الميثاق ما آمنوا ولا آمنت ذريتهم. وقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} . . أي أن الله تبارك وتعالى يذكرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 بأنهم بعد أن نجوا وأغرق الله فرعون وقومه ذهب موسى لميقات ربه ليتلقى عنه التوراة. . فعبد بنو إسرائيل العجل. وعندما عاد موسى بالتوراة وبالألواح. . وجدوا في تعاليمها مشقة عليهم. . وقالوا نحن لا نطيق هذا التكليف وفكروا ألا يلتزموا به وألا يقبلوه. التكليف هو من مكلف هو الله سبحانه وتعالى. . وهم يقولون إن الله كلفهم ما لا يطيقون. . مع أن الله جل جلاله لا يكلف نفسا إلا وسعها. . هذا هو المبدأ الإيماني الذي وضعه الحق جل جلاله. . يظن بعض الناس أن معنى الآية الكريمة: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] يظنون أننا نضع أنفسنا حكما على تكليف الله. . فإن كنا نعتقد أننا نقدر على هذا التكليف نقل هو من الله وإن كنا نعتقد أننا لا نقدر عليه بحكمنا نحن. . نقل الله لم يكلفنا بهذا لأنه فوق طاقتنا. . ولكن الحكم الصحيح هل كلفك الله بهذا الأمر أو لم يكلفك؟ إن كان الله قد كلفك فهو عليم بأن ذلك في وسعك؛ لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. . ونحن نسمع الآن صيحات تقول أن العصر لم يعد يحتمل. . وإن ظروف الدنيا وسرعة الحركة فيها وسرعة الأحداث هي تبرير أنه ليس في وسعنا أن نؤدي بعض التكاليف. . ربما كان هذا التكليف في الوسع في الماضي عندما كانت الحياة بسيطة وحركتها بطيئة ومشكلاتها محدودة. نقول لمن يردّد هذا الكلام: إن الذي كلفك قديما هو الله سبحانه وتعالى. إنه يعلم أن في وسعك أن تؤدي التكليف وقت نزوله. . وبعد آلاف السنين من نزوله وحتى قيام الساعة. . والدليل على ذلك أن هناك من يقوم بالتكليف ويتطوع بأكثر منه ليدخل في باب الإحسان؛ فهناك من يصلي الفروض وهي التكليف. . وهناك من يزيد عليها السنن. . وهناك من يقوم الليل. . فيظل يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بالتطوع من جنس ما فرض. . وهناك من يصوم رمضان ومن يتطوع ويصوم أوائل الشهور العربية. . أو كل اثنين وخميس على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 مدار العام أو في شهري رجب وشعبان. . وهناك من يحج مرة ومن يحج مرات. . وهناك من يلتزم بحدود الزكاة ومن يتصدق بأكثر منها. إذن كل التكاليف التي كلفنا الله بها في وسعنا وأقل من وسعنا. . ولا يقال أن العصر قد اختلف، فنحن الذين نعيش هذا العصر. . بكل ما فيه من متغيرات نقوم بالتكاليف ونزيد عليها دون أي مشقة، والله سبحانه وتعالى رفع فوق بني إسرائيل الطور رحمة بهم. . تماما كما يمسك الطبيب المشرط ليزيل صديداً تكوَّن داخل الجسد. . لأن الجسد لا يصح بغير هذا. لذلك عندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصيب بفضله ورحمته بني إسرائيل رغم أنوفهم. . رفع فوقهم جبل الطور الموجود في سيناء. . وقال لهم تقبلوا التكليف أو أطبق عليكم الجبل. . تماما كما أهلك الله تبارك وتعالى الذين كفروا ورفضوا الإيمان وقاوموا الرسل الذين من قبلهم. . قد يقول البعض إن الله سبحانه وتعالى أرغم اليهود على تكليف وهو القائل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256] وقوله تعالى: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] نقول إن الله جل جلاله لم يرغم أحدا على التكليف. . ولكنه رحمة منه خيرهم بين التكليف وبين عذاب يصيبهم فيهلكهم. . وهذا العذاب هو أن يُطْبقَ عليهم جبل الطور. . إذن المسألة ليس فيها إجبار ولكن فيها تخيير. . وقد خُيِّرَ الذين من قبلهم بين الإيمان والهلاك فلن يصدقوا حتى أصابهم الهلاك. . ولكن حينما رأى بنو إسرائيل الجبل فوقهم خشعوا ساجدين على الأرض. . وسجودهم دليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 على أنهم قبلوا المنهج. . ولكنهم كانوا وهم ساجدون ينظرون إلى الجبل فوقهم خشية أن يطبق عليهم. . ولذلك تجد سجود اليهود حتى اليوم على جهة من الوجه. . بينما الجهة الأخرى تنظر إلى أعلى وكان ذلك خوفا من أن ينقض الجبل عليهم. . ولو سألت يهودياً لماذا تسجد بهذه الطريقة يقول لك أحمل التوراة ويهتز منتفضا. . نقول أنهم اهتزوا ساعة أن رفع الله جبل الطور فوقهم. . فكانوا في كل صلاة يأخذون الوضع نفسه، والذين شهدوهم من أولادهم وذريتهم. . اعتقدوا أنها شرط من شروط السجود عندهم. . ولذلك أصبح سجودهم على جانب من الوجه. . ونظرهم إلى شيء أعلاهم يخافون منه. . أي أن الصورة التي حدثت لهم ساعة رفع جبل الطور لا زالوا باقين عليها حتى الآن. في هذه الآية الكريمة يقول الحق تبارك وتعالى: {وإذا رفعنا فوقكم الطور. .} وفي آية أخرى يقول المولى جل جلاله في نفس ما حدث: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171] «نتقنا» كأن الجبل وتد في الأرض ونريد أن نخلعه. . فنحركه يمينا ويسارا حتى يمكن أن يخرج من الأرض. . هذه الحركة والزحزحة والجذب هي النتق. . والجبل كالوتد تماما يحتاج إلى هز وزعزعة وجذب حتى يخرج من مكانه. . وهذه الصورة عندما حدثت خشعوا وسجدوا وتقبلوا المنهج. يقول الحق سبحانه وتعالى: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} . . الأخذ عادة مقابل للعطاء. . أنت تأخذ من معطٍ. . والتكليف أخذ من الله حتى تعطي به حركة صلاح في الكون. . إذن كل أخذ لابد أن يأتي منه عطاء؛ فأنت تأخذ من الجيل الذي سبقك وتعطي للجيل الذي يليك. . ولكنك لا تعطيه كما هو، ولكن لابد أن تضيف عليه. وهذه الإضافة هي التي تصنع الحضارات. وقوله تعالى: «بقوة» . . أي لا تأخذوا التكليف بتخاذل. . والإنسان عادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 يأخذ بقوة ما هو نافع له. . ولذلك فطبيعة مناهج الله أن تؤخذ بقوة وبيقين. . لتعطي خيرا كثيرا بقوة وبيقين. . وإذا أخذت منهج الله بقوة فقد ائتمنت عليه وأن صدرك قد انشرح وتريد أن تأخذ أكثر. . لذلك تجد في القرآن الكريم يسألونك عن كذا. . دليل على أنهم عشقوا التكليف وعلموا أنه نافع فهم يريدون زيادة النفع. ومادام الحق سبحانه وتعالى قال: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} . . فقد عشقوا التكليف ولم يعد شاقا على أنفسهم. وقوله تعالى: {واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . . إذكروا ما فيه أي ما في المنهج وأنه يعالج كل قضايا الحياة واعرفوا حكم هذه القضايا. . {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي تطيعون الله وتتقون عقابه وعذابه يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 بعد أن بيّن الحق سبحانه وتعالى لنا كيف أمر اليهود بأن يتذكروا المنهج ولا ينسوه. . وكان مجرد تذكرهم للمنهج يجعلهم يؤمنون بالإسلام وبرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه مكتوب عندهم في التوراة ومذكورة أوصافه. . ماذا فعل اليهود؟ يقول الحق تبارك وتعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك} . . أي أعرضتم عن منهج الله ونسيتموه ولم تلتفتوا إليه. . {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين} ما هو الفضل وما هي الرحمة؟ الفضل هو الزيادة عما تستحق. . يقال لك هذا حقك وهذا فضل مني أي زيادة على حقك. . عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «سدّدوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يُدْخِلُ أحداً الجنةَ عملهُ قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة» فإذا تساءلت كيف يتم هذا؟ وكيف أنه لا أحد يدخل الجنة بعمله؟ نقول نعم لأن عمل الدنيا كله لا يساوي نعمة من نعم الله على خلقه؛ فأنت تذكرت العمل ولم تتذكر الفضل. . وكل من يدخل الجنة فبفضل الله سبحانه وتعالى. . حتى الشهداء الذين أعطوا حياتهم وهي كل ما يملكون في هذه الدنيا. . يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 {فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170] فإذا كان هؤلاء الشهداء وهم في أعلى مراتب الجنة قد دخلوا الجنة بفضل الله. . فما بالك بمن هم أقل منهم أجرا. . والله سبحانه وتعالى له فضل على عباده جميعا. . واقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243] أما الرحمة فهي التي فتحت طريق التوبه لغفران الذنوب. والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه لولا هذا الفضل لبني إسرائيل. . ولولا أنه فتح لهم باب الرحمة والمغفرة ليعودوا مرة أخرى إلى ميثاقهم ومنهجهم. . لولا هذا لكانوا من الخاسرين الذين أصابهم خسران مبين في الدنيا والآخرة. . ولكن الله تبارك وتعالى بفضل منه ورحمة قد قادهم إلى الدين الذي حفظه الله سبحانه وتعالى بقدرته من أي تحريف. . فرفع عنهم عبء حفظ الكتاب. . وما ينتج عن ذلك من حمل ثقيل في الدنيا. . ورحمهم برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي أرسله رحمة للعالمين. . مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وأعطاهم فضل هذا الدين الخاتم الذي حسم قضية الإيمان في هذا الكون. . ومع هذه الرحمة وهذا الفضل. . بأن نزل إليهم في التوراة أوصاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وموعد بعثه. . فتح لهم بابا حتى لا يصبحوا من الخاسرين. . ولكنهم تركوا هذا الباب كما تولوا عن دينهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 بعد أن بين الله جل جلاله لنا كيف أنه فتح باب الفضل والرحمة لليهود فتركوه. . أراد أن يبين لنا بعض الذي فعلوه في مخالفة أوامر الله والتحايل عليها. . والله تبارك وتعالى له أوامر في الدين وأوامر تتعلق بشئون الدنيا. . وهو لا يحب أن نأخذ أي أمر له يتعلق بالدين أو بالدنيا مأخذ عدم الجد. . أو نفضل أمرا على أمر. . ولذلك تجد في سورة الجمعة مثلا قول الحق تبارك وتعالى: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 9 - 10] هذان أمران أحدهما في الدين والثاني يتعلق بالدنيا. . وكلاهما من منهج الله. . فالله لا يريدك أن تتاجر وتعمل وقت الصلاة. . ولا أن تترك عملك بلا داع وتبقى في المسجد بعد الصلاة. . إذا نودي للصلاة فإلى المسجد. . وإذا قضيت الصلاة فإلى السعي للرزق. . وهناك يومان في الأسبوع ذكرا في القرآن بالإسم وهما يوم الجمعة والسبت. . بينما أيام الأسبوع سبعة، خمسة أيام منها لم تذكر في القرآن بالإسم. . وهي الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. . الجمعة هي عيد المسلمين الذي شرع فيه إجتماعهم في المساجد وأداء صلاة الجماعة. . ونلاحظ أن يوم الجمعة لم يأخذ اشتقاقه من العدد. . فأيام الأسبوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 نسبت إلى الأعداد فيما عدا الجمعة والسبت. لذلك تجد الأحد منسوب إلى واحد والإثنين منسوب إلى إثنين. . والثلاثاء منسوب إلى ثلاثة والأربعاء منسوب إلى أربعة والخميس منسوب إلى خمسة. . كان المفروض أن ينسب يوم الجمعة إلى ستة ولكنه لم ينسب. . لماذا؟ لأنه اليوم الذي اجتمع فيه للكون نظام وجوده. . فسماه الله تبارك وتعالى الجمعة وجعله لنا عيدا. . والعيد هو اجتماع كل الكون في هذا اليوم، إجتماع نعمة الله في إيجاد الكون وتمامها في ذلك اليوم. . فالمؤمنون بالله يجتمعون اجتماع حفاوة بتمام خلق الكون لهم. . والسبت. . الباء والتاء تفيد معنى القطع. . وسبت ويسبت سبتا إذا انقطع عمله. . ونلاحظ أن خلق السموات والأرض تم في ستة أيام مصداقا لقوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الحديد: 4] وكان تمام الخلق يوم الجمعة. . وفي اليوم السابع وهو يوم السبت. . كان كل شيء قد استقر وفرغ من خلق الكون. . ولذلك له سبات أي أن هذا اليوم يسمى سباتا. . لأن فيه سكون الحركة بعد تمام الخلق. . فلما أراد اليهود يوما للراحة أعطاهم الله يوم السبت وأراد الحق تبارك وتعالى أن يبتليهم في هذا اليوم والابتلاء هو إمتحانهم فقد كانوا يعيشون على البحر وعملهم كان صيد السمك. . وكان الإبتلاء في هذا اليوم حيث حرم الله عليهم فيه العمل وجعل الحيتان التي يصطادونها تأتي إليهم وقد بدت أشرعتها وكانوا يبحثون عنها طوال الأسبوع وربما لا يجدونها. . وفي يوم السبت جاءتهم ظاهرة على سطح الماء تسعى إليهم لتفتنهم. . واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وهكذا يمتلئ سطح البحر بالأسماك والحيتان يوم السبت. . فإذا جاء صباح الأحد اختفت بعيدا وهم يريدون أن يجعلوا السبت عيدا لهم لا يفعلون فيه أي شيء. . ولكنهم في الوقت نفسه يريدون أن يحصلوا على هذه الأسماك والحيتان. . صنعوا شيئا اسمه الحياض العميقة ليحتالوا بها على أمر الله بعدم العمل في هذا اليوم. . وفي الوقت نفسه يحصلون على الأسماك. . هذه الحياض يدخلها السمك بسهولة. . ولأنها عميقة لا يستطيع الخروج منها ويتركونه يبيت الليل وفي الصباح يصطادونه. . وكان هذا تحايلا منهم على مخالفة أمر الله. . والله سبحانه وتعالى لا يحب من يحتال في شيء من أوامره. ويقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . . وهذه قصة مشهورة عند اليهود ومتواترة. . يعلمها الأجداد للآباء والأباء للأحفاد. . وهي ليست جديدة عليهم وإن كان المخاطبون هم اليهود المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ولذلك عندما سمع: {ولقد علمتم} أي لقد عرفتم ومعنى ذلك أن القصة عندكم معروفة. . وكأنها من قصص التراث التي يتناقلونها. . وقوله تعالى: {الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت} . . المفعول هنا واحد هنا حيلة مذكورة أنهم اعتدوا على أمر الله بالراحة يوم السبت. . هم حقيقة لم يصطادوا يوم السبت. . ولكنهم تحايلوا على الممنوع بنصب الفخاخ للحيتان والأسماك. . وكانوا في ذلك أغبياء. . وقد كان الممنوع أن يأخذوا السمك في حيازتهم بالصيد يوم السبت. . ولكنهم أخذوه في حيازتهم بالحيلة والفخاخ. . وقوله تعالى: «اعتدوا» أي تجاوزوا حدود الله المرسومة لهم. . وعادة حين يحرم الله شيئا يأتي بعد التحريم قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] لأنه يريد أن يمنعك من الإغراء. . حتى لا تقع في المعصية فيقول لك لا تقترب. . ولكن بني إسرائيل اعتدوا على حكم الله متظاهرين بالطاعة وهم عاصون. . وحسبوا أنهم يستطيعون خداع الله بأنهم طائعون مع أنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 عاصون. . وصدر حكم الله عليهم: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . وعادة أنك لا تأمر إنسانا أمرا إلا إذا كان في قدرته أن يفعله. . الأمر هنا أن يكونوا قردة. فهل يستطيعون تنفيذه؟ وأن يغيروا خلقتهم إلى قردة. . إنه أمر في مقدرة الله وحده فكيف يقول لهم كونوا قردة؟ نقول إن الآمر نفسه هنا هو الذي يستطيع أن يجعلهم قردة. . وهذا الأمر يسمى أمراً تسخيريّاً ولم يقل لهم كونوا قردة ليكونوا هم بإرادتهم قردة. . ولكنه سبحانه بمجرد أن قال كونوا قردة كانوا. . وهذا يدلنا على انصياع المأمور للأمر وهو غير مختار. . ولو كان لا يريد ذلك ولا يلزم أن يكونوا قد سمعوا قول الله أو قال لهم. . لأنه لو كان المطلوب منهم تنفيذ ما سمعوه ربما كان ذلك لازما. . ولكن بمجرد صدور الأمر وقبل أن ينتبهوا أو يعلموا شيئا كانوا قردة. ولقد اختلف العلماء كيف تحول هؤلاء اليهود إلى قردة؟ كيف مسخوا؟ قال بعضهم لقد تم المسخ وهم لا يدرون. . فلما وجدوا أنفسهم قد تحولوا إلى خلق أقل من الإنسان. . لم يأكلوا ولم يشربوا حتى ماتوا. . وقال بعض العلماء أن الإنسان إذا مسخ فإنه لا يتناسل، ولذلك فبمجرد مسخهم لم يتناسلوا حتى انقرضوا. . ولماذا لم يتناسلوا؟ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] ولو أنهم تناسلوا. . لتحمل الأبناء وزر آبائهم. . وهذا مرفوض عند الله. . إذن فمن رحمة الله أنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناسلون. . ويبقون فترة ثم ينقرضون بالأمراض والأوبئة وهذا ما حدث لهم. قد يقول بعض الناس لو أنهم مسخوا قردة. . فمن أين جاء اليهود الموجودون الآن؟ نقول لهم أنه لم يكن كل اليهود عاصين. . ولكن كان منهم أقلية هي التي عصت ومسخت. . وبقيت الأكثرية ليصل نسلها إلينا اليوم. . وقد قال علماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 آخرون أن هناك آية في سورة المائدة تقول: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 60] إذن هذه قضية قوم غضب الله عليهم ومسخهم قردة وخنازير وعبدة الطاغوت. . ولقد أخبرنا الله جل جلاله أن اليهود مسخوا قردة. . ولكنه لم يقل لنا أنهم مسخوا خنازير. . فهل مسخوا قردة؟ ثم بعد ذلك إزداد غضب الله عليهم ومسخوا خنازير؟ وهل نقلهم الله من إنسانية إلى بهيمية في القيم والإرادة والخلقة؟ نقول علينا أولا أن ننظر إلى البهيمية التي نقلهم الله إليها. . نجد أن القردة هي الحيوان الوحيد المفضوح العورة دائما. . وإن عورته لها لون مميز عن جسده. . وأنه لا يتأدب إلا بالعصا. . واليهود كذلك لم يقبلوا المنهج إلا عندما رفع فوقهم جبل الطور. . وما هم فيه الآن ليس مسخ خلقه ولكن مسخ خُلُق. . والخنازير لا يغارون على أنثاهم وهذه لازمة موجودة في اليهود. . وعبدة الطاغوت. . الطاغوت هو كل إنسان تجاوز الحد في البغي والظلم. . وعباد الطاغوت هم الطائعون لكل ظالم يعينونه على ظلمه وهم كذلك. إذن فعملية المسخ هذه سواء تمت مرة واحدة أو على مرتين مسألة شكلية. . ولكن الله سبحانه وتعالى أعطانا في الآية التي ذكرناها في سورة المائدة سمات اليهود الأخلاقية. . فكأنهم مسخوا خلقه ومسخوا أخلاقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 يريد الله تبارك وتعالى أن يلفتنا إلى أنه بعد أن جعل المسخة الخلقية والأخلاقية لليهود: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي ما معها: {وَمَا خَلْفَهَا} أي ما بعدها: «والنكال» هو العقوبة الشديدة. . والعقوبة لابد أن تنشأ عن تجريم أولا. . هذا هو المبدأ الإسلامي والمبدأ القانوني. . فرجال القانون يقولون لا عقوبة إلا بتجريم ولا تجريم إلا بنص. . قبل أن تعاقب لابد أن تقول أن هذا الفعل جريمة عقوبتها كذا وكذا. . وفي هذه الحالة عندما يرتكبها أي إنسان يكون مستحقا للعقوبة. . ومادام هذا هو الموقف فلابد من تشريع. والتشريع ليس معناه أن الله شرع العقوبة. . ولكن معناه محاولة منع الجريمة بالتخويف حتى لا يفعلها أحد. . فإذا تمت الجريمة فلابد من توقيع العقوبة. . لأن توقيعها عبرة للغير ومنع له من ارتكابها. . وهذا الزجر يسمى نكولا ومنها النكول في اليمين أي الرجوع فيه. إذن قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} . . أي جعلناهم زجرا وعقابا قويا. . حتى لا يعود أحد من بني إسرائيل إلى مثل هذه المخالفة: {نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} . . أي عقوبة حين يرويها الذين عاصروها تكفي لكيلا يقتربوا من هذه المعصية أبدا. . وتكون لهم موعظة لا ينسونها: {وَمَا خَلْفَهَا} يعني جعلناها تتوارثها الأجيال من بني إسرائيل جيلا بعد جيل. . كما بيننا الأب يحكي لابنه حتى لا يعود أحد في المستقبل إلى مثل هذا العمل من شدة العقوبة: {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} . . أي موعظة لكل الناس الذين سيبلغهم الله تبارك وتعالى بما حدث من بني إسرائيل وما عاقبهم به. . حتى يقوا أنفسهم شر العذاب يوم القيامة الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 سيكون فيه ألوان أشد كثيرا من هذا العذاب. . على أننا لابد أن نلفت الإنتباه إلى أن مبدأ أنه لا عقوبة إلا بتجريم ولا تجريم إلا بنص هو مبدأ إلهي. . ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] أي يأتي الرسول أولا ليجرم هذه الأفعال. . فإن ارتكبها أحد من خلق الله حقت عليه العقوبة. . ومن هنا فإن كل ما يقال عن قوانين بأثر رجعي مخالف لشريعة الله تبارك وتعالى وعدله. . فلا يوجد في عدالة السماء ما يقال عنه أثر رجعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 تعرضنا إلى هذه الآية الكريمة في بداية سورة البقرة. . لأن السورة سميت بهذا الاسم. . ونلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى أتى بحرف: «وإذ» . . يعني واذكروا: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} . . ولم يقل لماذا أمرهم بأن يذبحوا البقرة. . ولابد أن نقرأ الآيات إلى آخر القصة لنعرف السبب في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 72 - 73] والمفروض في كل الأمور أن الأمر تسبقه علته. . ولكن هذه عظمة القرآن الكريم. . لأن السؤال عن العلة أولا معناه أن الأمر صادر من مساو لك. . فإذا قال لك إنسان إفعل كذا. . تسأله لماذا حتى أطيع الأمر وأنفذه. . إذن الأمر من المساوي هو الذي تسأل عن علته. . ولكن الأمر من غير المساوي. . كأمر الأب لإبنه والطبيب لمريضه والقائد لجنوده. . مثل هذا الأمر لا يسأل عن علته قبل تنفيذه. . لأن الذي أصدره أحكم من الذي صدر إليه الأمر. . ولو أن كل مكلف من الله أقبل على الأمر يسأل عن علته أولا. . فيكون قد فعل الأمر بعلته. فكأنه قد فعله من أجل العلة. . ومن هنا يزول الإيمان. . ويستوي أن يكون الإنسان مؤمنا أو غير مؤمن. . ويكون تنفيذ الأمر بلا ثواب من الله. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 إن الإيمان يجعل المؤمن يتلقى الأمر من الله طائعا. . عرف علته أو لم يعرف. . ويقوم بتنفيذه لأنه صادر من الله. . ولذلك فإن تنفيذ أي أمر إيماني يتم لأن الأمر صادر من الله. . وكل تكليف يأتي. . علة حدوثه هي الإيمان بالله. . ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يبدأ كل تكليف بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا} . . أي يا من آمنت بالله ربا وإلها وخالقا. . خذ عن الله وافعل لأنك آمنت بمن أمرك. في هذه الآيات التي نحن بصددها أراد الله تعالى أن يبين لنا ذلك. فجاء بالأمر بذبح البقرة أولا. . وبالعلة في الآيات التي روت لنا علة القصة. . وأنت حين تعبد الله فكل ما تفعله هو طاعة لله سبحانه وتعالى. . سواء عرفت العلة أو لم تعرفها؛ فأنت تؤدي الصلاة لأن الله تبارك وتعالى أمرك بأن تصلي. . فلو أديت الصلاة على أنها رياضة أو أنها وسيلة للاستيقاظ المبكر. . أو أنها حركات لازمة لليونة المفاصل فإن صلاتك تكون بلا ثواب ولا أجر. . إن أردت الرياضة فاذهب إلى أحد النوادي وليدربك أحد المدربين لتكون الرياضة على أصولها. . وأن أردت اللياقة البدنية فهناك ألف طريقة لذلك. . وإن أردت عبادة الله كما أمرك الله فلتكن صلاتك التي فرضها الله عليك لأن الله فرضها. . وكذلك كل العبادات الأخرى. . الصوم ليس شعورا بإحساس الجائع. . ولا هو طريقة لعمل الرجيم ولكنه عباده. . إن لم تصم تنفيذا لأمر الله بالصوم فلا ثواب لك. . وإن جعلت للصيام أي سبب إلا العبادة فإنه صيام لا يقبله الله. . والله أغنى الشركاء عن الشرك. . فمن أشرك معه أحدا ترك الله عمله لمن أشركه. . وكذلك كل العبادات. هذا هو المفهوم الإيماني الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا إليه في قصة بقرة بني إسرائيل. . ولذلك لم يأت بالعلة أو السبب أولا. . بل أتى بالقصة ثم أخبرنا سبحانه في آخرها عن السبب. . وسواء أخبرنا الله عن السبب أو لم يخبرنا فهذا لا يغير في إيماننا بحقيقة ما حدث. . وإن القصة لها حكمة وإن خفيت علينا فهي موجودة. قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} . . أعطى الله تبارك وتعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الأمر أولا ليختبر قوة إيمان بني إسرائيل. . ومدى قيامهم بتنفيذ التكليف دون تلكؤ أو تمهل. . ولكنهم بدلا من أن يفعلوا ذلك أخذوا في المساومة والتباطؤ: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} . . كلمة قوم تطلق على الرجال فقط. . ولذلك يقول القرآن الكريم: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11] إذن قوم هم الرجال. . لأنهم يقومون على شئون أسرهم ونسائهم. . ولذلك يقول الشاعر العربي: وما أدري ولست أخال أدري ... أَقَوْمٌ آل حصنٍ أم نساءُ فالقوامة للرجال. . والمرأة حياتها مبنية على الستر في بيتها. . والرجال يقومون لها بما تحتاج إليه من شئون. . والمفروض أن المرأة سكن لزوجها وبيتها وأولادها وهي في هذا لها مهمة أكبر من مهمة الرجال. . قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ} . . الأمر طلب فعل. وإذا كان الآمر أعلى من المأمور نسميه أمرا. . وإذا كان مساويا له نسميه إلتماسا. . وإذا كان إلى أعلى نسميه رجاء ودعاء. . على أننا لابد أن نلتفت إلى قوله تعالى على لسان زكريا: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] هل هذا أمر من زكريا؟ طبعا لا. لأنه دعاء والدعاء رجاء من الأدنى إلى الأعلى. . قوله تعالى: {الله يَأْمُرُكُمْ} . . لو أن إنسانا يعقل أدنى عقل ثم يطلب منه أن يذبح بقرة. . أهذه تحتاج إلى إيضاح؟ لو كانوا ذبحوا بقرة لكان كل شيء قد تم دون أي جهد. . فمادام الله قد طلب منهم أن يذبحوا بقرة. . فكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 ما عليهم هو التنفيذ. . ولكن أنظر إلى الغباء حتى في السؤال. . إنهم يريدون أن يفعلوا أي شيء لإبطال التكليف. . لقد قالوا لموسى نبيهم إنك تهزأ بنا. . أي أنهم استنكروا أن يكلفهم الله تبارك وتعالى بذبح بقرة على إطلاقها دون تحديد. . فاتهموا موسى أنه يهزأ بهم. . كأنهم يرون أن المسألة صعبة على الله سبحانه وتعالى. . لا يمكن أن تحل بمجرد ذبح بقرة. . وعندما سمع موسى كلامهم ذهل. . فهل هناك نبي يهزأ بتكليف من تكليفات الله تبارك وتعالى. . أينقل نبي الله لهم أمرا من أوامر الله جل جلاله على سبيل الهزل؟ هنا عرف موسى أن هؤلاء اليهود هم جاهلون. . جاهلون بربهم وبرسولهم وجاهلون بآخرتهم. . وأنهم يحاولون أن يأخذوا كل شيء بمقاييسهم وليس بمقاييس الله سبحانه وتعالى. . فاتجه إلى السماء يستعيذ بالله من هؤلاء الجاهلين. . الذين يأتيهم اليسر فيريدونه عسرا. ويأتيهم السهل فيريدونه صعبا. . ويطلبون من الله أن يعنتهم وأن يشدد عليهم وأن يجعل كل شيء في حياتهم صعبا وشاقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وكان سؤالهم يبين نقص درجة الإيمان عندهم. . لم يقولوا ادع لنا ربنا. . بل قالوا إدع لنا ربك، وكأنه رب موسى وحده. . ولقد تكررت هذه الطريقة في كلام بني إسرائيل عدة مرات. . حتى إنهم قالوا كما يروي لنا القرآن الكريم: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولقد استمر الحوار بينهم وبين موسى فترة طويلة. . يوجهون السؤال لموسى فيدعو الله فيأتيه الجواب من الله تبارك وتعالى. . فبدلا من أن ينفذوا الأمر وتنتهي المسألة يوجهون سؤالا آخر. . فيدعو موسى ربه فيأتيه الجواب، ويؤدي الجواب إلى سؤال في غير محله منهم. . ثم يقطع الحق سبحانه وتعالى عليهم أسباب الجدل. . بأن يعطيهم أوصافا لبقرة لا تنطبق إلا على بقرة واحدة فقط. . فكأنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. . نأتي إلى أسئلة بني إسرائيل. . يقول الحق سبحانه وتعالى: {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ} . . سؤال لا معنى له ولا محل. . لأن الله تبارك وتعالى قال لهم إنها بقرة. . ولم يقل مثلا إنها حيوان على إطلاقه فلم يكن هناك محل للسؤال. . فجاء الحق تبارك وتعالى يقول لهم: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} . . الفارض في اللغة هو الواسع والمراد به بقرة غير مسنة. . ولكن ما العلاقة بين سن البقرة وبين الواسع؟ البقرة تتعرض للحمل كثيرا وأساسا هي للبن وللإنجاب. . ومادامت قد تعرضت للحمل كثيرا يكون مكان اللبن فيها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 اتساع. . أي أن بطنها يزداد اتساعا مع كل حمل جديد. . وعندما يكون بطن البقرة واسعاً يعرف أنها مسنة وولدت كثيرا وصارت فارضا. وكلمة «بكر» لها معانٍ متعددة منها أنه لم يطأها فحل. . ومنها أنها بكر ولدت مرة واحدة. . ومنها أنها ولدت مرارا ولكن لم يظهر ذلك عليها لأنها صغيرة السن. وقوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} . . يعني وسط بين هذه الأوصاف كلها. . الحق بعد ذلك يقرعهم فيقول: {فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ} . . يعني كفاكم مجادلة ونفذوا أمر الله واذبحوا البقرة. . ولكنهم لم يسكنوا أنهم يريدون أن يحاوروا. . ولذلك غيروا صيغة السؤال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 بحثوا عن سؤال آخر: ما لونها؟ كأن الله تبارك وتعالى حين حدثهم عن السن فتحوا الأبواب ليسألوا ما لونها؟ مع أنه سبحانه وتعالى قال لهم: {فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ} . . فلم يفعلوا بل سألوا ما لونها؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ} والصفرة لون من الألوان. . ثم قال جل جلاله: {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} . . يعني صفرة شديدة. . ثم قال: {تَسُرُّ الناظرين} . . يعني أن كل من ينظر إليها يُسر لنضارتها ونظافتها وحسن مظهرها وتناسق جسدها. . وصف البقرة بأنها صفراء هذا لون معروف. . وفي الألوان لا يمكن أن تحدد لونا إلا برؤيته. . ولذلك فإن المحسَّات في الألوان لابد أن تسبق معرفتها وبعد ذلك تأتي باللون المطلوب. . لذلك لا يقال صفراء فقط لأنك لا تستطيع تحديده؛ لأن اللون الأصفر له درجات لا نهاية لها. . ومزج الألوان يعطيك عدداً لا نهائيا من درجاتها. . ولذلك فإن المشتغلين بدهان المنازل لا يستطيعون أن يقوموا بدهان شقة بلون إلا إذا قام بعمل مزيج اللون كله مرة واحدة. . حتى يخرج الدهان كله بدرجة واحدة من اللون. . ولكن إذا طلبت منه أن يدهن الشقة باللون نفسه. . بشرط أن يدهن حجرة واحدة كل يوم فإنه لا يستطيع. . فإذا سمعت صفراء يأتي اللون الأصفر إلى ذهنك. . فإذا سمعت «فاقع» فكل لون من الألوان له وصف يناسبه يعطينا دقة اللون المطلوب. . «فاقع» أي شديد الصفرة. أظن أن المسألة قد أصبحت واضحة. . إنها بقرة لونها أصفر فاقع تسر الناظرين. . وكان من المفروض أن يكتفي بنو إسرائيل بذلك ولكنهم عادوا إلى السؤال مرة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وبرغم أن ما قيل لبني إسرائيل. . واضح تمام الوضوح عن البقرة. . وعمرها وشكلها ولونها ومنظرها. . فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدبهم فجعلهم ينظرون إلى البقر. . وهذا يقول هذه هي والآخر يقول لا بل هي في مكان كذا. . والثالث يقول لا بل هي في موقع كذا. . وعادوا إلى موسى يسألونه أن يعود إلى ربه ليبين لهم لأن البقر تشابه عليهم. . وهنا ذكروا الله الذي نسوه ولم ينفذوا أمره منذ أن قال لهم اذبحوا بقرة ثم قال لهم: {فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ} . . فطلبوا منه الهداية بعد أن تاهوا وضاعوا بسبب عنادهم وجدلهم. . وجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 «بقرة لا ذلول» . . البقرة الذلول هي البقرة المروضة الممرنة تؤدي مهمتها بلا تعب. . تماما مثل الخيل المروضة التي لا تتعب راكبها لأنها تم ترويضها. . وسيدنا إسماعيل هو أول من روض الخيل وساسها. . وقال الله سبحانه وتعالى لهم أول وصف للبقرة أنها ليست مروضة. . لا أحد قادها ولا قامت بعمل. . إنها انطلقت على طبيعتها وعلى سجيتها في الحقول بدون قائد. . {تُثِيرُ الأرض} أي لم تستخدم في حراثة الأرض أو فلاحتها. . {وَلاَ تَسْقِي الحرث} . . أي لم تستخدم في إدارة السواقي لسقية الزرع. . {مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا} أي خالية من العيوب لا أذنها مثقوبة. ولا فيها أي علامة من العلامات التي يميز الناس أبقارهم بها. . ولا رجلها عرجاء، خالية من البقع والألوان غير اللون الأصفر الفاقع. . وكلمة {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} . . أي لا شيء فيها. والمتأمل في وصف البقرة كما جاء في الآيات يرى الصعوبة والتشدد في اختيار أوصافها. . كأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يجازيهم على أعمالهم. . ولم يجد بنو إسرائيل إلا بقرة واحدة تنطبق عليها هذه المواصفات فقالوا {الآن جِئْتَ بالحق} كأن ما قاله موسى قبل ذلك كان خارجا عن نطاق الحق. وذبحوا البقرة ولكن عن كره منهم. . لأنهم كانوا حريصين على ألا يذبحوها، حرصهم على عدم تنفيذ المنهج. هم يريدون أن يماطلوا الله سبحانه وتعالى. . والله يقول لنا أن سمة المؤمنين أن يسارعوا إلى تنفيذ تكاليفه. . واقرأ قوله تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وهذه السرعة من المؤمنين في تنفيذ التكاليف. . دليل على عشق التكليف. . لأنك تسارع لتفعل ما يطلبه منك من تحبه. . وقوله تعالى: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} . . يدلنا على أنهم حاولوا الإبطاء في التنفيذ والتلكؤ. إننا لابد أن نلتفت إلى أن تباطؤ بني إسرائيل في التنفيذ خدم قضية إيمانية أخرى. . فالبقرة التي طلبها الله منهم بسبب عدم قيامهم بتنفيذ الأمر فور صدوره لهم بقرة نادرة لا تتكرر. . والمواصفات التي أعطيت لهم في النهاية. . لم تكن تنطبق إلا على بقرة واحدة ليتحكم صاحبها في ثمنها ويبيعها بأغلى الأسعار. . والقصة أنه كان هناك في بني إسرائيل رجل صالح. . يتحرى الحلال في الرزق والصدق في القول والإيمان الحقيقي بالله. وعندما حضرته الوفاة كان عنده عجلة وكان له زوجة وابنهما الصغير. . ماذا يفعل وهو لا يملك سوى العجلة. اتجه إلى الله وقال: اللهم إني استودعك هذه العجلة لولدي، ثم أطلقها في المراعي. . لم يوصِّ عليها أحداً ولكن استودعها الله. استودعها يد الله الأمينة على كل شيء. . ثم قال لامرأته إني لا أملك إلا هذه العجلة ولا آمن عليها إلا الله. . ولقد أطلقتها في المراعي. . وعندما كبر الولد قالت له أمه: إن أباك قد ترك لك وديعة عند الله وهي عجلة. . فقال يا أمي وأين أجدها؟ . . قالت كن كأبيك هو توكل واستودع، وأنت توكل واسترد. . فقال الولد: اللهم رب إبراهيم ورب موسى. . رد إلي ما استودعه أبي عندك. . فإذا بالعجلة تأتي إليه وقد أصبحت بقرة فأخذها ليريها لأمه. . وبينما هو سائر رآه بنو إسرائيل. فقالوا إن هذه البقرة هي التي طلبها الرب. . وذهبوا إلى صاحب البقرة وطلبوا شراءها فقال بكم. . قالوا بثلاثة دنانير. . فذهب ليستشير أمه فخافوا أن ترفض وعرضوا عليه ستة دنانير. . قالت أمه لا. . لا تباع. . فقال الابن لن أبيعها إلا بملء جلدها ذهبا، فدفعوا له ما أراد. . وهكذا نجد صلاح الأب يجعل الله حفيظا على أولاده يرعاهم وييسر لهم أمورهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 قصة القتيل هي أن رجلا ثريا من بني إسرائيل لم يكن له ولد يرثه. . وكان له أقارب كل منهم يريد أن يستأثر بأموال هذا الرجل. . والمال والذهب هما حياة بني إسرائيل. . فتآمر على هذا الرجل الثري ابن أخيه فقتله ليرثه ويستولي على أمواله. . ولكنه أراد أن يبعد التهمة عن نفسه فحمل الجثة وألقاها على باب قرية مجاورة ليتهم أهلها بقتل الثري. . وفي الصباح قام أهل القرية ووجدوا جثة الثري أمام قريتهم. . ووجدوه غريبا عن القرية فسألوا من هو؟ حتى وصلوا إلى ابن أخيه. . فتجمع أهل القتيل واتهموهم بقتله. . وكان أشدهم تحمسا في الاتهام القاتل ابن أخيه. . وقوله تعالى {فادارأتم فِيهَا} الدرأ هو الشيء حين يجئ إليك وكل واحد ينفيه عن نفسه. . إدارأتم أي أن كلا منكم يريد أن يدفع الجريمة عن نفسه فكل واحد يقول لست أنا. . وليس من الضروري أن يتهم أحد آخر غيره. . المهم أن يدفعها عن نفسه. ولقد حاول أهل القريتين. . قرية القتيل، والقرية التي وجدت أمامها الجثة. أن يدفع كل منهما شبهة الجريمة عن نفسه وربما يتهم بها الآخر. . ولم يكن هناك دليل دامغ يرجح اتهاما محددا. بل كانت الأدلة ضائعة ولذلك استحال توجيه اتهام لشخص دون آخر أو لقرية دون أخرى. وكان التشريع في ذلك الوقت ينص على أنه إذا وجد قتيل على باب قرية ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 يستدل على قاتله. . فإن قرية القتيل وأهله يأخذون خمسين رجلا من أعيان القرية التي وجدت بجوارها الجثة. . فيلقوا اليمين بأنهم ما قتلوه. . ولا علموا قاتله. . وإذا كان الأعيان والأكابر أقل من خمسين رجلا. . تكررت الأيْمان حتى تصير خمسين يمينا. . فيحلفون أنهم ما قتلوه ولا يعرفون قاتله. . عندما يتحمل بيت المال دية القتيل. . ولكن الله كان يريد شيئا آخر. . يريد أن يرد بهذه الجريمة على جحود بني إسرائيل باليوم الآخر. . ويجعل الميت يقف أمامهم وينطق اسم قاتله. . ويجعلهم يرون البعث وهم أحياء. . ولذلك قال سبحانه وتعالى: {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} . . أي أن بني إسرائيل أو أولئك الذين ارتكبوا الجريمة دبروها على أن تبقى في طي الكتمان فلا يعلم أحد عنها شيئا. . ولذلك جاء الشاب وقتل عمه دون أن يراه أحد. . ثم حمل الجثة خفية في ظلام الليل وخرج بها فلم يلتفت أحد إليه. . ثم ذهب إلى قرية مجاورة وألقى بالجثة على باب القرية وأهلها نائمون وانصرف عائدا. . كانت كل هذه الخطوات في رأيه ستجعل الجريمة غامضة لا تنكشف أبدا ولا يعرف سرها أحد. ولكن الله تبارك وتعالى أراد غير ذلك. . أراد أن يكشف الجريمة بطريقة لا تحتمل الجدل، وفي نفس الوقت يرد على جحود بني إسرائيل للبعث. . بأن يريهم البعث وهم أحياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 احتدم الخلاف بين بني إسرائيل وكادت تحدث فتنة كبيرة. . فقرروا أن يلجأوا إلى موسى عليه السلام ليطلب من الله تبارك وتعالى أن يكشف لهم لغز هذه الجريمة ويدلهم على القاتل. . وجاء الأمر من الله سبحانه وتعالى أن اذبحوا البقرة ولو ذبحوا بقرة أية بقرة لانتهت المشكلة. . ولكنهم ظلوا يقولون ما لونها وما شكلها إلى آخر ما رويناه. . حتى وصلوا إلى البقرة التي كان قد استودعها الرجل الصالح عند الله حتى يكبر ابنه فاشتروها وذبحوها. . فأمرهم الله أن يضربوه ببعضها. أي أن يضربوا القتيل بجزء من البقرة المذبوحة بعد أن سال دمها وماتت. . وانظر إلى العظمة في القصة. . جزء من ميت يُضرب به ميت فيحيا. . إذن المسألة أعدها الحق بصورة لا تجعلهم يشكون أبدا. . فلو أن الله أحياه بدون أن يضرب بجزء من البقرة. لقالوا لم يكن قد مات، كانت فيه حياه ثم أفاق بعد اغماءة. ولكن الله أمرهم أن يذبحوا بقرة حتى تموت ليعطيهم درسا إيمانيا بقدرة الله وهم الماديون الذين لا يؤمنون إلا بالماديات. . وأن يأخذوا جزءاً أو أجزاء منها وأن يضربوا به القتيل فيحيا وينطق باسم قاتله ويميته الله بعد ذلك. . يقول الحق جل جلاله. . {كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ليرى بنو إسرائيل وهم على قيد الحياة كيف يحيى الله الموتى وليعرفوا أن الإنسان لا يبقى حيا بأسباب الحياة. . ولكن بإرادة مسبب الحياة في أن يقول «كن فيكون» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 لماذا ذكر الحق سبحانه وتعالى القلب ووصفه بأنه يقسو ولم يقل نفوسكم لأن القلب هو موضع الرقة والرحمة والعطف. . وإذا ما جعلنا القلب كثير الذكر لله فإنه يمتلئ رحمة وعطفا. . والقلب هو العضو الذي يحسم مشاكل الحياة. . فإذا كان القلب يعمر باليقين والإيمان. . فكل جارحة تكون فيها خميرة الإيمان. وحتى نعرف قوة وقدرة وسعة القلب على الإيمان واحتوائه أوضح الله تعالى هذا المعنى في كتابه العزيز حيث يقول: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] وهكذا نرى أن الجلود تقشعر من هول الوعيد بالنار. . ومجرد قراءة ما ذكره القرآن عنها. . وبعد ذلك تأتي الرحمة، وفي هذه الحالة لا تلين الجلود فقط ولكن لابد أن تلين القلوب لأنها هي التي تعطي اللمحة الإيمانية لكل جوارح الجسد. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الجسد كله ألا وهي القلب» إذن فالقلب هو منبع اليقين ومصب الإيمان، وكما أن الإيمان في القلب فإن القسوة والكفر في القلب. . فالقلب حينما ينسى ذكر الله يقسو. . لماذا؟ . . لأنه يعتقد أنه ليس هناك إلا الحياة الدنيا وإلا المادة فيحاول أن يحصل منها على أقصى ما يستطيع وبأي طريقة فلا تأتي إلا بالظلم والطغيان وأخذ حقوق الضعفاء، ثم لا يفرط فيها أبدا لأنها هي منتهى حياته فلا شيء بعدها. إنه يجد إنساناً يموت أمامه من الجوع ولا يعطيه رغيفا. . وإذا خرج الإيمان من القلب خرجت منه الرحمة وخرج منه كل إيمان الجوارح. . فلمحة الإيمان التي في اليد تخرج فتمتد اليد إلى السرقة والحرام. . ولمحة الإيمان التي في العين تخرج فتنظر العين إلى كل ما حرم الله. ولمحة الإيمان التي في القدم تخرج فلا تمشي القدم إلى المسجد أبدا ولكنها تمشي إلى الخمارة وإلى السرقة. . لأنه كما قلنا القلب مخزن الإيمان في الجسم. ويشبه الحق تبارك وتعالى قسوة قلوبهم فيقول: {فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} . . الحجارة هي الشيء القاسي الذي تدركه حواسنا ومألوف لنا ومألوف لبني إسرائيل أيضا. . لأن لهم مع الحجارة شوطا كبيرا عندما تاهوا في الصحراء. . وعندما عطشوا وكان موسى يضرب لهم الحجر بعصاه. الله تبارك وتعالى لفتهم إلى أن المفروض أن تكون قلوبهم لينة ورفيقة حتى ولو كانت في قسوة الحجارة. . ولكن قلوبهم تجاوزت هذه القسوة فلم تصبح في شدة الحجارة وقسوتها بل هي أشد. ولكن كيف تكون القلوب أشد قسوة من الحجارة. . لا تنظر إلى لينونة مادة القلوب ولكن انظر إلى أدائها لمهمتها. الجبل قسوته مطلوبة لأن هذه مهمته أن يكون وتداً للأرض صلبا قويا، ولكن هذه القسوة ليست مطلوبة من القلب وليست مهمته. . أما قلوب بني إسرائيل فهي أشد قسوة من الجبل. . والمطلوب في القلوب اللين، وفي الحجارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 القسوة. . فكل صفة مخلوقة لمخلوق ومطلوبة لمهمة. . فالخطاف مثلا أعوج. . هذا العوج يجعله يؤدي مهمته على الوجه الأكمل. . فعوج الخطاف استقامة لمهمته. . وحين تفسد القلوب وتخرج عن مهمتها تكون أقسى من الحجارة. . وتكون على العكس تماما من مهمتها. . ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء} [البقرة: 74] هنا يذكرهم الله لما رأوه من الرحمة الموجودة في الحجارة. . عندما ضرب موسى الحجر بالعصا فانفجرت منه العيون. وذلك مثل حسي شهدوه. يقول لهم الحق جل جلاله: أن الرحمة تصيب الحجارة فيتفجر منها الأنهار ويخرج منها الماء ويقول سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} . . إذن فالحجارة يصيبها اللين والرحمة فيخرج منها الماء. ولكن قلوبكم إذا قست لا يصيبها لين ولا رحمة فلا تلين أبدا ولا تخشع أبدا. والله سبحانه وتعالى نزل عليكم التوراة وأعطاكم من فضله ورحمته وستره ومغفرته الكثير. . كان المفروض أن تلين قلوبكم لذكر الله. ولكن ما الفرق بين تفجر الأنهار من الحجارة وبين تشققها ليخرج منها الماء؟ عندما تتفجر الحجارة يخرج منها الماء. نحن نذهب إلى مكان الماء لنأخذ حاجتنا. . ولكن عندما تتفجر منها الأنهار فالماء هو الذي يأتي إلينا ونحن في أماكننا. . وفرق بين عطاء تذهب إليه وعطاء يأتي إليك. . أما هبوط الحجر من خشية الله فذلك حدث عندما تجلى الله للجبل فجعله دكا. واقرأ قوله تعالى: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 يذكرهم الحق سبحانه كيف أن الجبل حين تجلى الله له هبط وانهار من خشية الله. وهكذا لا يعطيهم الأمثلة مما وقع لغيرهم، ولكن يعطيهم الأمثلة مما وقع لهم. وقوله تعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي تذكروا أن الله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء وأن كل ما تعملونه يعرفه وأنكم ملاقونه يوم القيامة ومحتاجون إلى رحمته ومغفرته، فلا تجعلوا قلوبكم تقسو حتى لا يطردكم الله من رحمته كما خلت قلوبكم من ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 يعطينا الحق تبارك وتعالى هنا الحكمة. . فيما رواه لنا عن بني إسرائيل وعن قصصهم. لأنهم سيكون لهم دور مع المسلمين في المدينة، ثم في بيت المقدس، ثم في المسجد الأقصى. . فهو يروي لنا كيف أتعبوا نبيهم وكيف عصوا ربهم. وكيف قابلوا النعمة بالمعصية والرحمة بالجحود. وإذا كان هذا موقفهم يا محمد مع الله ومع نبيهم. . فلا تطمع أن يؤمنوا لك ولا أن يدخلوا في الإسلام، مع أنهم عندهم التوراة تدعوهم إلى الإيمان بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . هذه الآيات تحمل أعظم تعزية للرسول الكريم. وتطالبه ألا يحزن على عدم إيمان اليهود به لأنه عليه البلاغ فقط؛ ولكن حرص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أن يؤمن كل أهل الأرض يهود ونصارى وكفاراً، ليس معناه أنه لم يفهم مهمته، ولكن معناه أنه أدرك حلاوة التكليف من ربه، بحيث يريد أن يهدي كل خلق الله في الأرض. . فيطمئنه الله ويقول له لا تعتقد أنهم سيؤمنون لك. وليس معنى عدم إيمانهم أنك لست صادقا. . فتكذيبهم لك لا ينبغي أن يؤثر فيك. . فلا تطمع يا محمد أن يؤمنوا لك. . ما هو الطمع؟ . . الطمع هو رغبة النفس في شيء غير حقها وإن كان محبوبا لها. . والأصل في الإنسان العاقل ألا يطمع إلا في حقه. . والإنسان أحيانا يريد أن يرفه حياته ويعيش مترفا ولكن بحركة حياته كما هي. نقول له إذا أردت أن تتوسع في ترفك فلابد أن تتوسع في حركة حياتك؛ لأنك لو أترفت معتمدا على حركة حياة غيرك فسيفسد ميزان حركة الحياة في الأرض، أي إن كنت تريد أن تعيش حياة متزنة فعش على قدر حركة حياتك؛ لأنك إن فعلت غير ذلك تسرق وترتش وتفسد. فإن كان عندك طمع فليكن فيما تقدر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 إذن فكلمة «افتطمعون» هنا تحدد أنه يجب ألا نطمع إلا فيما نقدر عليه. هؤلاء اليهود هل نقدر على أن نجعلهم يؤمنون؟ يقول الله تبارك وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . هذا أمر زائد على ما كلفت به. . لأن عليك البلاغ، وحتى لو كان محببا إلى نفسك. . فإن مقدماتهم مع الله لا تعطيك الأمل في أنك ستصل إلى النتيجة التي ترجوها. . وهذه الآية فيها تسرية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عما سيلاقيه مع اليهود. وتعطيه الشحنة الإيمانية التي تجعله يقابل عدم إيمان هؤلاء بقوة وعزيمة. . لأنه كان يتوقعه فلا يحزن ولا تذهب نفسه حسرات، لأن الله تبارك وتعالى قد وضع في نفسه التوقع لما سيحدث منهم. . فإذا جاء تصرفهم وفق ما سيحدث. . يكون ذلك أمرا محتملا من النفس. . والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله} انظر إلى الأمانة والدقة. . فريق منهم ليس كلهم. . هذا هو ما استنبط منه العالم نظرية صيانة الاحتمال. . وهي عدم التعميم بحيث تقول أنهم جميعا كذا. لابد أن تضع احتمالا في أن شخصا ما سيؤمن أو سيشذ أو سيخالف. . هنا فريق من أهل الكتاب عرفوا صفات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التوراة والإنجيل. . وعندما بعث آمنوا به، وهؤلاء لم يحرفوا كلام الله. لو أن القرآن جاء بالحكم عاما لتغيرت نظرة الكافرين للإسلام. . ولقالوا لقد قال عنا هذا الدين أننا حرفنا كتاب الله ولكننا لم نحرفه ونحن ننتظر رسوله. . فكأن هذا الحكم غير دقيق. . ولابد أن شيئا ما خطأ. . لأن الله الذي نزل هذا القرآن لا يخفي عليه شيء ويعرف ما في قلوبنا جميعا. . ولكن لأن الآية الكريمة تقول أن فريقا منهم كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه. . الكلام بلا تعميم ومنطبق بدقة على كل حال. . والحق جل جلاله يقول: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . هذه معصية مركبة سمعوا كلام الله وعقلوه وعرفوا العقوبة على المعصية ثم بعد ذلك حرفوه. . لقد قرأوه في التوراة وقرأوا وصف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى أنهم يعرفونه كأبنائهم. . ثم حرفوا كلام الله وهم يعلمون. . ومعنى التحريف تغيير معنى الكلمة. . كانوا يقولون السَّأم عليكم بدلا من السلام عليكم. . ولم يتوقف الأمر عند التحريف بل تعداه إلى أن جاءوا بكلام من عندهم وقالوا أنه من التوراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 هذه صور من صور نفاق اليهود. والناس مقسمون إلى ثلاث: مؤمنون وكافرون ومنافقون. . المؤمن انسجم مع نفسه ومع الكون الذي يعيش فيه. . والكافر انسجم مع نفسه ولم ينسجم مع الكون، والكون يلعنه. . والمنافق لا انسجم مع نفسه ولا انسجم مع الكون، والآية تعطينا صورة من صور النفاق وكيف لا ينسجم المنافق مع نفسه ولا مع الكون. . فهو يقول ما لا يؤمن به. . وفي داخل نفسه يؤمن بما لا يقول. والكون كله يلعنه، وفي الآخرة هو في الدرك الأسفل من النار. وهذه الآية تتشابه مع آية تحدثنا عنها في أول هذه السورة. . وهي قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] في الآية الأولى كان الدور لليهود، وكان هناك منافقون من غير اليهود وشياطينهم من اليهود. . وهنا الدور من اليهود والمنافقين من اليهود. الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا} وهل الإيمان كلام؟ . . الإيمان يقين في القلب وليس كلاما باللسان. . والاستدلال على الإيمان بالسلوك فلا يوجد إنسان يسلك سبيل المؤمنين نفاقا أو رياء. . يقول آمنت نفاقا ولكن سلوكه لا يكون سلوك المؤمن. . ولذلك كان سلوكهم هو الذي يفضحهم. يقول تعالى: {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وفي سورة أخرى يقول الحق: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119] وفي سورة المائدة يقول سبحانه: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} [المائدة: 61] هنا أربع صور من صور المنافقين. . كلها فيها التظاهر بإيمان كاذب. . في الآية الأولى {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ} وفي الآية الثانية: {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} . وفي الآية الثالثة: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} . وفي الآية الرابعة: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} . إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما بعث كان اليهود يقولون للمؤمنين هذا هو نبيكم موجود عندنا في التوراة أوصافه كذا. . حينئذ كان أحبار اليهود ينهونهم عن ذلك ويقولون لهم: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} فكأنهم علموا صفات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولكنهم أرادوا أن يخفوها. . إن الغريب أنهم يقولون: {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} . وإذا كان هذا فتحا من الله فلا فضل لهم فيه. . ولو أراد الله لهم الفتح لآمنت القلوب. . قوله تعالى: {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} يدل على أن اليهود المنافقين والكفار وكل خلق الأرض يعلمون أنهم من خلق الله، وأن الله هو الذي خلقهم. . وماداموا يعلمون ذلك فلماذا يكفرون بخالقهم؟ {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ} أي لتكون حجتهم عليكم قوية عند الله. . ولكنهم لم يقولوا عند الله بل قالوا {عِنْدَ رَبِّكُمْ} والمحاجة معناها أن يلتقي فريقان لكل منهما وجهة نظر مختلفة. وتقام بينهما مناظرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 يدلي فيها كل فريق بحجته. واقرأ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك} [البقرة: 258] هذه هي المناظرة التي حدثت بين إبراهيم عليه السلام والنمرود الذي آتاه الله الملك. . ماذا قال إبراهيم؟ {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] هذه كانت حجة إبراهيم في الدعوة إلى الله، فرد عليه النمرود بحجة مزيفة. قال أنا أحيي وأميت. . ثم جاء بواحد من جنوده وقال لحراسه اقتلوه. . فلما اتجهوا إليه قال اتركوه. . ثم التفت إلى إبراهيم: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] جدل عقيم لأن هذا الذي أمر النمرود بقتله. كان حيا وحياته من الله. . والنمرود حين قال اقتلوه لم يمته ولكن أمر بقتله. . وفرق بين الموت والقتل. . القتل أن تهدم بنية الجسد فتخرج الروح منه لأنه لا يصلح لإقامتها. . والموت أن تخرج الروح من الجسد والبنية سليمة لم تهدم. . الذي يميت هو الله وحده، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] والنمرود لو قتل هذا الرجل ما كان يستطيع أن يعيده إلى الحياة. . ولكن إبراهيم عليه السلام. . لم يكن يريد أن يدخل في مثل هذا الجدل العقيم. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 الذي فيه مقارعة الحجة. بالحجة يمكن فيه الجدال ولو زيفا. . ولذلك جاء بالحجة البالغة التي لا يستطيع النمرود أن يجادل فيها: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258] هذا هو معنى الحاجّة. . كل طرف يأتي بحجته، وما داموا يحاجونكم عند ربكم وهم يعتقدون أن القضية لن تمر أمام الله بسلام لأنه رب الجميع وسينصف المظلوم من الظالم. . إذا كانت هذه هي الحقيقة فهل أنتم تعملون لمصلحة أنفسكم؟ الجواب لا. . لو كنتم تعلمون الصواب ما كنتم وقعتم في هذا الخطأ فهذا ليس فتحا. . وقوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ختام منطقي للآية. . لأن من يتصرف تصرفهم ويقول كلامهم لا يكون عنده عقل. . الذي يقول {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} يكون مؤمنا بأن له ربا، ثم لا يؤمن بهذا الإله ولا يخافه لا يمكن أن يتصف بالعقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 يبين الله لنا بأنه يعلم أمرهم وما يفعلون. لقد ظنوا أن الله غافل عندما خلا بعضهم إلى بعض وقالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} . . الله علم وسمع. . وعندما يلاقي المنافقون المؤمنين ويقولون آمنا. . {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} هذا انفعال حركي ليس فيه كلام يقال ولكن فيه واقع يرى. . ومع ذلك فهو ليس سرا. ما هو السر وما هو العلن؟ . . الأمر المعلن هو الذي يخرج منك إلى من عنده آلة السماع ليسمعك. . والأمر المعلن يخرج منك إلى من عنده آلة الرؤية ليراك. . فإن كان حركة بلا صوت فهذا عدته العين. . وإن كان بصوت فعدته الأذن. . هذه وسائل الإدراك الأصلية. وقوله تعالى {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ألم يكن أولى أن يقول سبحانه يعلم ما يعلنون وما يسرون. . وإذا كان يعلم ما نسر أفلا يعلم ما نعلن؟ . . لاشك أنه يعلم. . ولكنها دقة في البلاغة القرآنية؛ ذلك أن المتكلم هو الله سبحانه. ونحن نعلم أن الله غيب. . وغيب يعني مستور عن حواسنا. . ومادام الله غيبا فهو يعلم الغيب المستور. . ربما كان العلن الظاهر له قوانين أخرى. . فمثلا إذا كان هناك شخص في المنزل، ثم يقول «أنا اعلم ما في المنزل وما هو خارج المنزل. . لو قال أنا اعلم ما في المنزل لقلنا له أنت داخله فلا غرابة في ذلك. . ولكنك مستور عما في الخارج فكيف تعلمه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 ومادام الله غيباً فقوله ما يسرون أقرب لغيبه. وما يعلنون هي التي تحتاج وقفة. لا تظنوا أن الله تبارك وتعالى لأنه غيب لا يعلم إلا ما هو مستور وخفي فقط. . لا. . إنه يعلم المشهود والغائب. . إذن فالمناسب لأن الله غيب عن أبصارنا وكوننا لا ندركه أن يقول ما يسرون أولا. . ما معنى ما يسرون؟ . . السر هو ما لم تهمس به إلى غيرك. . لأن همسك للغير بالشيء لم يعد سرا. . ولكن السر هو ما تسره في نفسك ولا تهمس به لأحد من الناس. . وإذا كان السر هو ما تسره في نفسك، فالعلن هو ما تجاهر به. ويكون علنا مادام قد علمه اثنان. . والعلن عند الناس واضح والسر عندهم خفي. . والله سبحانه وتعالى حين يخبرنا أنه غيب. . فليس معنى ذلك أنه لا يعلم إلا غيباً. إنه يعلم السر والعلن. . والله جل جلاله يقول في القرآن الكريم: {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] فإذا كان السر هو ما تخفيه في نفسك وله واقع داخلك. .» ما هو أخفى «هو أن الله يعلم أنك ستفعله قبل أن تفعله. ويعلم أنه سيحدث منك قبل أن يحدث منك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 الله سبحانه وتعالى لازال يتحدث عن أهل الكتاب. . فبعد أن بين لنا الذين يقول: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} . . انتقل سبحانه وتعالى إلى طائفة أخرى وهم من أسماهم بالأميين. . وأصح قول في الأمي هو أنه كما ولدته أمه. أي لم يعلم شيئاً من ثقافة وعلم في الوجود منذ لحظة نزوله من بطن أمه. ولذلك فإن الأمي على إطلاقه هو الذي لا يكتسب شيئاً من ثقافة الوجود حوله، بصرف النظر عن أن يقال كما ولدته أمه. . لأن الشائع في المجتمعات أن الذي يعلم هم الخاصة لا العامة. . وعلى أية حال فالمعاني كلها ملتقية في تعريف الأمي. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} . . تلاحظ أن هناك معسكرات من الأميين واجهت الدعوة الإسلامية. . فالمعسكر الأول كان المشركين في مكة، والمعسكر الثاني كان أهل الكتاب في المدينة. وأهل الكتاب تطلق على أتباع موسى وأتباع المسيح. . ولكن في الجزيرة العربية كان هناك عدد لا يذكر من النصارى. . وكان هناك مجتمع. والمقصود من قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} هم اليهود الذين كان لهم مجتمع في المدينة. . ومادام الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} . . معنى هذا أنه لابد أن يكون هناك منهم غير أميين. . وهؤلاء هم الذين سيأتي قول الله تعالى عنهم في الآية التالية: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] هنا قسّم الله تبارك وتعالى اليهود إلى أقسام. . منهم قسم أُمِّي لا يعرفون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الكتاب وما يقوله لهم أحبارهم هو الذي يعرفونه فقط. . وهؤلاء ربما لو كانوا يعلمون ما في التوراة. . من صفات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لآمنوا به. . والكتاب هنا يقصد به التوراة. . والله سبحانه وتعالى لم ينف عنهم مطلق العلم. . ولكنه نفى خصوصية العلم، لأنه قال لا يعلمون إلا أماني. . فكأن الأماني يعلمونها من الكتاب. ولكن ما الأماني؟ . . إنها تطلق مرة بدون تشديد الياء ومرة بتشديد الياء. . فإن كانت التخفيف تكون جمع أمنية. . وإن كانت بالتشديد تكون جمع أمنية بالتشديد على الياء. . الأمنية تجدها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] هذه بالنسبة للجمع. أما بالنسبة للمفرد. . في قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] ما هي الأمنية؟ . . الأمنية هي الشيء الذي يحب الإنسان أن يحدث ولكن حدوثه مستحيل. . إذن لن يحدث ولن يكون له وجود. . ولذلك قالوا إن من معاني التمني اختلاق الأشياء. . الشاعر الذي قال: أَلا لَيْتَ الشَّبابَ يعودُ يوماً ... فَأُخْبِرُهُ بما فَعَلَ المَشِيبُ هل الشباب يمكن أن يعود؟ . . طبعاً مستحيل. . هذا شيء لن يحدث. . والشاعر الذي قال: لَيْتَ الكواكبَ تَدْنُو لِي فَأَنْظمَهَا ... عُقُودَ مَدْحٍ فَما أَرْضَى لَكُمْ كَلِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 هل النجوم ستنزل من السماء وتأتي إلى هذا الشاعر. . ينظمها أبيات شعر إلى حبيبته. . إذن من معاني التمني الكذب والاختلاق. ولقد فسر بعض المستشرقين قول الله تبارك وتعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى} (أي قرأ) : {أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} (أي في قراءته) . . وطبعا الشيطان لن يلقي في قراءة الرسول إلا كذبا وإفتراء وكفرا. . إقرأ قوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 19 - 22] قال أعداء الإسلام مادام قد ذكر في القرآن أسماء الغرانيق. . وهي الأصنام التي كان يعبدها الكفار. . ومنها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. . إذن فشفاعة هذه الأصنام ترتجى في الآخرة. . وهذا كلام لا ينسجم مع منطق الدين كله يدعو لعبادة الله وحده. . وخرج المستشرقون من ذلك بأن الدين فعلا يدعو لعبادة الله وحده. . إذن فيكون الشيطان قد ألقى في أمنيته فيما يقوله رسول الله. . ثم أحكم الله سبحانه آياته فقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم: 23] هم يريدون بذلك أن يشككوا. . في أنه من الممكن أن يلقي الشيطان بعض أفكاره في قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ولكن الله سبحانه ينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم آياته. إن الله جل جلاله لم يترك وحيه لعبث الشيطان. . ولذلك سنبحث الآية بعيداً عن كل ما قيل. . نقول لو أنك تنبهت إلى قول الله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى} لو قلنا تمنى بمعنى قرأ، ثم أن الله ينسخ ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته. . إذن هو سبحانه لن يترك رسوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 يخطئ. . وبذلك ضمنا أن كل ما ينتهي إليه الرسول صواب. . وأن كل ما وصلنا عن الرسول محكم. . فنطمئن إلى أنه ليس هناك شيء يمكن أن يلقيه الشيطان في تمني الرسول ويصلنا دون أن ينسخ. فإذا قلنا: إن الله ينسخ ما يلقي الشيطان فما الذي جعلكم تعرفون ما ألقاه الشيطان مادام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقل لكم إلا المحكم. . ثم من هو الرسول؟ بَشَرٌ أُوحِيَ إليه بمنهج من السماء وأمر بتبليغه. . ومن هو النبي؟ . . بشر أوحي إليه بمنهج. ولم يؤمر بتبليغه. . ومادام لم يؤمر بتبليغه يكون خاصا بهذا النبي. . ويكون النبي قدوة سلوكية. . لأنه يطبق منهج الرسول الذي قبله فهو لم يأت بجديد. الآية الكريمة جاءت بكلمتي رسول أو نبي. . إذا كان معنى أمنية الشيطان مستقيما بالنسبة للرسول فهو غير مستقيم بالنسبة للنبي. . لأن النبي لا يقرأ شيئاً، ومادام النبي ذكر في الآية الكريمة فلابد أن يكون للتمني معنى آخر غير القراءة. . لأن النبي لم يأت بكلام يقرؤه على الناس. . فكأنه سيقرأ كلاما محكما ليس فيه أمنية الشيطان أي قراءته. إن التمني لا يأتي بمعنى قراءة الشيطان. . وأمنية الرسول والنبي أن ينجحا في مهمتهما. . فالرسول كمبلغ لمنهج الله، النبي كأسوة سلوكية. . المعنى هنا يختلف. . الرسول أمنيته أن يبلغ منهج الله. . والشيطان يحاول أن ينزع المنهج من قلوب الناس. . هذا هو المعنى. . والله سبحانه وتعالى حين يحكم آياته ينصر الإيمان ليسود منهج الله في الأرض وتنتظم حركة الناس. . هذا هو المعنى. وكلمة تمني في هذه الآية الكريمة بمعنى أن الرسول أو النبي يحب أن يسود منهجه الأرض. . والشيطان يلقي العراقيل والله يحكم آياته وينصر الحق. ويجب أن نفهم الآية على هذا المعنى. . وبهذا ينتفي تماما ما يدعيه المستشرقون من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما كان يقرأ ما يوحى إليه يستطيع الشيطان أن يتدخل ويضع كلاما في الوحي. . مستحيل. وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} . . معناها أنه يأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 قوم لا يعرفون شيئاً عن الكتاب إلا ظنا. . فيصدقهم هؤلاء الأميون دون علم. . وكان الله سبحانه يريد أن يلفتنا إلى أن كثيرا من المذاهب الدينية في الأرض ينشأ عن المبلغين لها. . فهناك أناس يأتمنون آخرين ليقولوا لهم ما إنتهت إليه الأحكام الدينية. . فيأتي الأمي أو غير المثقف يسأل عالما عن حكم من الأحكام الشرعية. . ثم يأخذ منه الحكم ويطبقه دون أن يناقشه. . لأن علمه قد إنتهى عند السؤال عن الفتوى. . والحق سبحانه وتعالى كما يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] أي لا يحمل أحد ذنب أحد يوم القيامة. . فيقول تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] بعض الناس يظن أن الآيتين بينهما تعارض. . نقول لا. . ومن يرتكب إثما يحاسب عليه. . ومن يضل غيره بفتوى غير صحيحة يحل له بها ما حرم الله. . فإنه يحمل معاصيه ومعاصي من أضل. . فيكون له وزر لأنه ضل، ووزر لأنه أضل غيره. . بل وأكثر من ذلك. . فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» ولابد أن نتنبه إلى خطورة الفتوى في الدين بغير علم. . الفتوى في الدنيا أقصى ما يمكن أن تؤدي إليه هو أن تجعلك تخسر صفقة. . لكن الفتوى في الدين ستدوم عمرا طويلا. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 الحق تبارك وتعالى يقول: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} . . والظن كما قلنا هو نسبة راجحة ولكن غير مؤكدة. . وإذا كان التمني كما ورد في اللغة هو القراءة. . فهؤلاء الأمِّيون لا يعلمون الكتاب إلا قراءة لسان بلا فهم. . ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن اليهود: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] وهكذا نرى أن هناك صنفا يحمل التوراة وهو لا يعرف عنها شيئا. . والله جل جلاله قال إن مثله كالحمار. . ولكن أقل من الحمار، لأن الحمار مهمته أن يحمل الأثقال. . ولكن الإنسان ليست مهمته أن يحمل ما يجهل. . ولكن لابد أن يقرأ الكتاب ويعلم المطلوب منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 هذه الآية الكريمة جاءت في القسم الثاني من اليهود وهو المقابل للأميين. . وهم إما أميون لا يعلمون الكتاب. . وإما يعلمون ولكنهم يغيرون فيه ويكتبونه بأيديهم ويقولون هذا من عند الله. ولذلك توعدهم الله تبارك وتعالى فقال: ويل لهم، وبدأ الآية بالوعيد بالجزاء مباشرة. نلاحظ أن كلمة ويل في اللغة تستعمل معها كلمتي ويح وويس. . وكلها تعني الهلاك والعذاب. . وتستعمل للتحسر على غفلة الإنسان عن العذاب. . واقرأ قوله تعالى: {ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وقوله جل جلاله: {ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} [الأنبياء: 97] هذه الويلات تعني الحسرة وقت رؤية العذاب. . وقيل إن الويل وَادٍ في جهنم يهوي الإنسان فيه أربعين خريفا والعياذ بالله. . والحق تبارك وتعالى ينذر الذين يكتبون الكتاب بأيديهم أن عذابهم يوم القيامة سيكون مضاعفا. . لأن كل من ارتكب إثما نتيجة لتزييفهم للكتاب سيكونون شركاء وسيحملون عذابهم معهم يوم القيامة، وسيكون عذابهم مضاعفا أضعافا كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} . . ألم يكن يكفي أن يقول الحق فويل للذين يكتبون الكتاب ويكون المعنى مفهوما. . يكتبون الكتاب بماذا؟ بأيديهم. . نقول لا. . لأن الفعل قد يتم بالأمر وقد يتم بالفعل. . رئيس الدولة مثلا يتصل بأحد وزرائه ويقول له ألم أكتب إليك كتابا بكذا فلماذا لم تنفذه؟ هو لم يكتب هذا الكتاب بيده ولكنهم كتبوه بأمره، ورؤساء الدول نادرا ما يكتبون كتبا بأيديهم. إن الله سبحانه وتعالى يريد هنا أن يبين لنا مدى تعمد هؤلاء للإثم. . فهم لا يكتفون مثلا بأن يقولوا لغيرهم إكتبوا. . ولكن لاهتمامهم بتزييف كلام الله سبحانه وتزويره يقومون بذلك بأيديهم ليتأكدوا بأن الأمر قد تم كما يريدون تماما. . فليس المسألة نزوة عابرة. . ولكنها مع سبق الإصرار والترصد. . وهم يريدون بذلك أن يشتروا ثمنا قليلا، هو المال أو ما يسمى بالسلطة الزمنية. . يحكمون ويكون لهم نفوذ وسلطان. ولقد كان أهل الكتاب في الماضي إذا اختلفوا في شيء. . ذهبوا إلى الكهان والرهبان وغيرهم ليقضوا بينهم. . لماذا؟ لأن الناس حين يختلفون يريدون أن يستتروا وراء ما يحفظ كبرياءهم إن كانوا مخطئين. . يعني لا أنهزم أمامه ولا ينهزم أمامي. . وإنما يقولون ارتضينا حكم فلان. . فإذا كنا سنلجأ إلى تشريع السماء ليحكم بيننا. . لا يكون هناك غالب ومغلوب أو منهزم ومنتصر. . ذلك حين أخضع أنا وأنت لحكم الله يكون كل منا راضيا بنتيجة هذا الحكم. ولكن رجال الدين اليهودي والمسيحي أخذوا يصدرون فتاوى متناقضة. . كل منهم حسب مصلحته وهواه. . ولذلك تضاربت الأحكام في القضايا المتشابهة. . لأنه لم يعد الحكم بالعدل. . بل أصبح الحكم خاضعا لأهواء ومصالح وقضايا البشر. . وحين يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هذا من عند الله. . إنما يريدون أن يخلعوا على المكتوب قداسة تجعل الإنسان يأخذه بلا مناقشة. . وبذلك يكونون هم المشرعين باسم الله، ويكتبون ما يريدون ويسجلونه كتابه، وحين أحس أهل الكتاب بتضارب حكم الدين بما أضافه الرهبان والأحبار، بدأوا يطلبون تحرير الحكم من سلطة الكنيسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ولكن لماذا يكتب هؤلاء الناس الكتاب بأيديهم ويقولون هذا من عند الله؟! . . الحق سبحانه وتعالى يقول: {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} . . وقد قلنا إن الإنسان لا يشتري الثمن. . ولكن يدفع الثمن ويشتري السلعة. . ولكنك هنا تدفع لتأخذ ثمنا. . تدفع من منهج الله وحكم الله فتغيره وتبدله لتأخذ ثمنا موقوتا. . والله سبحانه وتعالى يعطيك في الآخرة الكثير ولكنك تبيعه بالقليل. . وكل ثمن مهما بلغ تأخذه مقابل منهج الله يعتبر ثمنا قليلا. والحق سبحانه وتعالى: يقول {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} . . الآية الكريمة بدأت بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} . . ثم جاء قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} . . فساعة الكتابة لها ويل وعذاب. . وساعة بيع الصفقة لها ويل وعذاب. . والذي يكسبونه هو ويل وعذاب. لقد انتشرت هذه المسألة في كتابة صكوك الغفران التي كانت تباع في الكنائس لمن يدفع أكثر. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} . . وكلمة كسب تدل على عمل من أعمال جوارحك يجلب لك خيرا أو نفعا وهناك كسب وهناك اكتسب. . كسب تأتي بالشيء النافع، واكتسب تأتي بالشيء الضار. . ولكن في هذه الآية الكريمة الحق سبحانه وتعالى قال: {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} . . وفي آية ثانية قال: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} . فلماذا تم هذا الإستخدام؟ نقول إن هذا ليس كسبا طبيعيا، إنما هو افتعال في الكسب. . أي اكتساب. . ولابد أن نفهم إنه بالنسبة لجوارح الإنسان. . فإن هناك القول والفعل والعمل. . بعض الناس يعتقد إن هناك القول والعمل. . نقول لا. . هناك قول هو عمل اللسان. . وفعل هو عمل الجوارح الأخرى غير اللسان. . وعمل وهو أن يوافق القول الفعل. . لذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 إذن هناك قول وفعل وعمل. . والإنسان إذا استخدم جوارحه استخداما سليما بفعل ما هو صالح له. . فإذا انتقل إلى ما هو غير صالح إلى ما يغضب الله فإن جوارحه لا تفعل ولكنها تفتعل. . تتصادم ملكاتها بعضها مع بعض والإنسان وهو يفتح الخزانة ليأخذ من ماله يكون مطمئنا لا يخاف شيئا. . والإنسان حين يفتح خزانة غيره يكون مضطربا وتصرفاته كلها افتعال. . والإنسان مع زوجته منسجم في هيئة طبيعية، بعكس ما يكون في وضع مخالف. . إنها حالة افتعال. . وكل من يكسب شيئا حراما افتعله. . ولذلك يقال عنه اكتسب. . إلا إذا تمرس وأصبح الحرام لا يهزه، أو ممن نقول عنهم معتادو الإجرام. . في هذه الحالة يفعل الشيء بلا افتعال لأنه اعتاد عليه. . هؤلاء الذين وصلوا إلى الحد الذي يكتبون فيه بأيديهم ويقولون من عند الله. . أصبح الإثم لا يهزهم، ولذلك توعدهم الله بالعذاب مرتين في آية واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 هنا يكشف الله سبحانه وتعالى فكر هؤلاء الناس. . لقد زين لهم الشيطان الباطل فجعلهم يعتقدون أنهم كسبوا فعلا وأنهم أخذوا المال والجاه الدنيوي وفازوا به. . لأنهم لن يعذبوا في الآخرة إلا عذابا خفيفا قصيرا. . ولذلك يفضح الله تبارك وتعالى ما يقولونه بعضهم مع بعض. . ماذا قالوا؟ : {وقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} . المس يعني اللمس الخفيف أو اقتراب شيء من شيء. . ولكن لا يحس أحدهما بالآخر إلا إحساسا خفيفا لا يكاد يذكر. . فإذا أتيت إلى إنسان ووضعت أَنَا مِلَكَ على يده يقال مسست. . ولكنك لم تستطع بهذا المس أن تحس بحرارة يده أو نعومة جلده. . ولكن اللمس يعطيك إحساسا بما تلمس: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} وهكذا أخذوا أقل الأقل في العذاب. . ثم أقل الأقل في الزمن فقالوا أياما معدودة. . الشيء إذا قيل عن معدود فهو قليل. . أما الشيء الذي لا يحصى فهو الكثير. . ولذلك حين يتحدث الله عن نعمه يقول سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: 18] فمجرد الإقبال على العد معناه أن الشيء يمكن إحصاؤه. . فإن لم يكن ممكنا لا يُقبل أحد على عده، ولا نرى من حاول عدَّ حبات الرمل أو ذرات الماء في البحار. . نِعَمُ الله سبحانه وتعالى ظاهرة وخفية لا يمكن أن تحصى، ولذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 لا يقبل لا يُقبل أحد على إحصائها. . وإذا سمعت كلمة «أياما معدودة» فأعلم أنها أيام قليلة. . ولذلك نرى في سورة يوسف قول الحق جل جلاله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. . دليل على غبائهم لأن مدة المس لا تكون إلا لحظة. . ولكنها أماني وضعها الشيطان في عقولهم ليأتي الرد من الله في قوله سبحانه: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} أي إذا كان ذلك وعداً من الله، فالله لا يخلف وعده. والله يأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول لهم لستم أنتم الذين تحكمون وتقررون ماذا سيفعل الله سبحانه وتعالى بكم. . بل هو جل جلاله الذي يحكم. . فإن كان قد أعطاكم عهدا فالله لا يخلف وعده. وقوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . . هنا أدب النبوة والخلق العظيم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . فبدلا من أن يقول لهم أتفترون على الله أو أتكذبون على الله. . أو أتختلقون على الله ما لم يقله. . قال: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} إن الذي يختلق الكلام يعلم أنه مختلق. . إنه أول من يعلم كذب ما يقول، وقد يكون له حجة ويقنع من أمامه فيصدقه، ولكنه يظل يعلم إن ما قاله مختلق رغم أنهم صدقوه. . ولذلك فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها» إذن مختلق الشيء يعرف إن هذا الشيء مختلق. وهؤلاء اليهود هم أول من يعلم إن قولهم. . {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} قول مختلق. . ولكن لمن يقولون على الله ما هو افتراء وكذب؟ يقولون للأميين الذين لا يعرفون الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 أراد الله سبحانه وتعالى أن يوضح كذبهم. . فجاء القرآن قائلا: «بلى» وهي حرف جواب مثل نعم تماما. . ولكن «بلى» حرف جواب في النفي. . يعني ينفي الذي قبله. . هم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ورسول الله سألهم هل اتخذوا عند الله عهدا أو يقولون على الله ما لا يعلمون، فجاء القرآن ليقول: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . . بداية الجواب ببلى تنفي ما قالوا. . لأن بلى تأتي بعد النفي. . ونعم تأتي بعد الإجابة. . فإذا قال إنسان ليس لك عندي شيء وقلت نعم، فمعناها أنه صحيح أنك ليس لك عندي شيء. . أما إذا قلت بلى، فمعنى ذلك أن لك عندي شيئا أو أشياء. . ولذلك بعد قولهم {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} . . لو جاء بعدها نعم، لكان قولهم صحيحا، ولكن بلى نفت. . وجاء الكلام بعدها مؤكدا النفي: {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هم قالوا لن تمسنا النار. . قال لن تمسكم فقط بل أنتم فيها خالدون. . وقوله تعالى: {أَصْحَابُ النار} . . الصحبة تقتضي نوعا من الملازمة فيها تجاذب المتصاحبين. . ومعنى ذلك أنه سيكون هناك تجاذب بينهم وبين النار. . هنا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} . . وكان السياق يقتضي أن يقال اكتسب. . ولكن لأنهم ظنوا أنهم كسبوا. . كما بينا في الآية السابقة. . وقوله تعالى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} . . إحاطة بحيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 لا يوجد منفذ للإفلات من الخطيئة لأنها محيطة به. وأنسب تفسير لقوله تعالى: {كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} . . أن المراد الشرك. . لأن الشرك هو الذي يحيط بالإنسان ولا مغفرة فيه. . والله تعالى يقول: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] ولذلك فهؤلاء لم يكونوا عصاة فقط. . ولكنهم كانوا كافرين مشركين. والدليل قوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . . وأصحاب الصغائر أو الكبائر الذين يتوبون منها لا يخلدون في النار. . ولكن المشرك بالله والكافر به هم الخالدون في النار. . وكل من لم يؤمن بسيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كافر. . لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [آل عمران: 85] ولذلك قلت هناك فرق بين. . الإنسان الذي يرتكب معصية لأنه لا يقدر على نفسه فيندم ويتوب. . وبين إنسان يفرح بالمعصية. . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} [النساء: 17] وهناك من يندم على المعصية وهذا له توبة. . وهناك من يفرح بالمعصية وهذا يزداد معصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 عندما يذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم. . العذاب والنار، يأتي بالمقابل وهو النعيم والجنة. . وذلك أن المقابلة ترينا الفرق. . وتعطي للمؤمن إحساسا بالسعادة. . لأنه زحزح عن عذاب الآخرة، وليس هذا فقط. . بل دخل الجنة ليقيم خالدا في النعيم. . ولذلك يقول سبحانه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] إذن الفوز في الآخرة ليس على درجة واحدة ولكن على درجتين. . أولى درجات الفوز أن يزحزح الإنسان على النار ولو إلى الأعراف وهذا فوز عظيم. . يكفي إنك تمر على الصراط المضروب فوق النار وترى ما فيها من ألوان العذاب، ثم بعد ذلك تنجو من هذا الهول كله. . يكفي ذلك ليكون فوزا عظيما. . لأن الكافر في هذه اللحظة يتمنى لو كان ترابا حتى لا يدخل النار. . فمرور المؤمن فوق الصراط ورؤيته للنار نعمة لأنه يحس بما نجا منه. . فإذا تجاوز النار ودخل إلى الجنة لينعم فيها نعيما خالدا كان هذا فوزاً آخر. . ولذلك حرص الله تبارك وتعالى أن يعطينا المرحلتين. فلم يقل: من زحزح عن النار فاز. . ولم يقل من أدخل الجنة فاز. . بل قال {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} . . وجاءت هذه الآية الكريمة بعد آيات العذاب لتعطينا المقارنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 أخذ الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل ثمانية أشياء: الميثاق. . وهو العهد الموثق المربوط ربطا دقيقا وهو عهد الفطرة أو عهد الذر. . مصداقا لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] وهناك عهد آخر أخذه سبحانه وتعالى على رسله جميعا. . أن يبشروا برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ويطلبوا من أتباعهم أن يؤمنوا به عند بعثه. . أو ألا يكتموا ما في كتبهم وإلا يغيروه. . والميثاق هو كل شيء فيه تكليف من الله. . ذلك أنك تدخل في عقد إيماني مع الله سبحانه وتعالى بأن تفعل ما يأمر به وتترك ما نهى عنه. . هذا هو الميثاق. . كلمة الميثاق وردت في القرآن الكريم بوصف غليظ. . في علاقة الرجل بالمرأة. . قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 20 - 21] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 نقول نعم لأن هذا الميثاق سيحل للمرأة أشياء لا تكون إلا به. . أشياء لا تحل لأبيها أو لأخيها أو أي إنسان عدا زوجها. . والرجل إذا دخل على ابنته وكانت ساقها مكشوفة تسارع بتغطيته. . فإذا دخل عليها زوجها فلا شيء عليها. . إذن هو ميثاق غليظ لأنه دخل مناطق العورة وأباح العورة للزوج والزوجة. . ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] إن كلا منهما يغطي ويخفي ويستر عورة الآخر. . والأب لا يفرح من انتقال ولاية ابنته إلى غيره. . إلا انتقال هذه الولاية لزوجها. . ويشعر بالقلق عندما تكبر الفتاة ولا تتزوج. الحق يقول: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} هذا الميثاق شمل ثلاثة شروط: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} أي تعبدون الله وحده. . وتؤمنون بالتوراة وبموسى نبيا. . لماذا؟ لأن عبادة الله وحده هي قمة الإيمان. . ولكن لا تحدد أنت منهج عبادته سبحانه. . بل الذي يحدد منهج العبادة هو المعبود وليس العابد. . لابد أن تتخذ المنهج المنزل من الله وهو التوراة وتؤمن به. . ثم بعد ذلك تؤمن بموسى نبيا. . لأنه هو الذي نزلت عليه التوراة. . وهو الذي سيبين لك طريق العبادة الصحيحة. وبدون هذه الشروط الثلاثة لا تستقيم عبادة بني إسرائيل. . وقوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} لأنهما السبب المباشر في وجودك. . ربياك وأنت صغير، ورعياك، وقوله تعالى: «إحسانا» معناه زيادة على المفروض. لأنك قد تؤدي الشيء بالقدر المفروض منك. . فالذي يؤدي الصلاة مثلا بقدر الغرض يكون قد أدى. . أما الذي يصلي النوافل ويقوم الليل يكون قد دخل في مجال الإحسان. . أي عطاؤه أكثر من المفروض. . والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 15 - 19] وهكذا نرى أن الإحسان زيادة على المفروض في الصلاة والتسبيح والصدقة والله تبارك وتعالى يريد منك أن تعطي لوالديك أكثر من المفروض أو من الواجب عليك. . وقوله تعالى: {وَذِي القربى} . . يحدد الله لنا فيها المرتبة الثانية بالنسبة للإحسان. . فالله جل جلاله أوصانا أن نحسن لوالدينا ونرعى أقاربنا. . ولو أن كل واحد منا قام بهذه العملية ما وجد محتاج أو فقير أو مسكين في المجتمع. . والله يريد مجتمعا لا فقر فيه ولا حقد. . وهذا لا يتأتى إلا بالتراحم والإحسان للوالدين والأقارب. . فيكون لكل محتاج في المجتمع من يكفله. . ويقول الله سبحانه: «واليتامى» . . واليتيم هو من فقد أباه وهو طفل لم يبلغ مبلغ الرجال. . هذا في الإنسان. . أما في الحيوان فإن اليتيم من فقد أمه. . لأن الأمومة في الحيوان هي الملازمة للطفل، ولأن الأب غير معروف في الحيوان ولكن الأم معروفة. . اليتيم الذي فقد أباه فقد من يعوله ومن يسعى من أجله ومن يدافع عنه. . والله سبحانه وتعالى جعل الأم هي التي تربي وترعى. . والأب يكافح من أجل توفير احتياجات الأسرة. . ولكن الحال إنقلب الآن ولذلك يقول شوقي رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ الْيَتِيمُ مَنِ انْتَهَى أَبَوَاهُ مِنْ ... هَمِّ الْحَيَاةِ وَخَلَّفََاهُ ذَلِيلاَ إِنّ الْيَتِيمَ هُوَ الَّذِي تَلْقَى لَهُ ... أُمَّاَ تَخَلَّتْ أَوْ أَباًً مَشْغُولاَ إن اليتيم يكون منكسرا لأنه فقد والده فأصبح لا نصير له. . فإذا رأينا في المجتمع الإسلامي أن كل يتيم يرعاه رعاية الأب كل رجال المجتمع. . فذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 يجعل الأب لا يخشى أن يترك إبنه بعد وفاته. . إذن فرعاية المجتمع لليتيم تضمن أولا حماية حقه، لأنه إذا كان يتيما وله مال فإن الناس كلهم يطمعون في ماله، لأنه لا يقدر أن يحميه. . هذه واحدة. . والثانية أن هذا التكافل يُذْهِب الحقد من المجتمع ويجعل كل إنسان مطمئنا على أولاده. . وقوله سبحانه وتعالى: «والمساكين» . . في الماضي كنا نقول إن المساكين هم الذين لا يملكون شيئا على الإطلاق ليقيموا به حياتهم. . إلى أن نزلت الآية الكريمة في سورة الكهف: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر} [الكهف: 79] فعرفنا أن المسكين قد يملك. . ولكنه لا يملك ما يكفيه. . وهذا نوع من التكافل الإجتماعي لابد أن يكون موجودا في المجتمع. . حتى يتكافل المجتمع كله. . فأنت إن كنت فقيرا أو مسكينا ويأتيك من رجل غني ما يعينك على حياتك. . فإنك ستتمنى له الخير لأن هذا الخير يصيبك. . ولكن إذا كان هذا الغني لا يعطيك شيئا. . هو يزداد غنى وأنت تزداد فقرا. . تكون النتيجة أن حقده يزداد عليك. . ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} . . كلمة حسنا بضم الحاء ترد بمعنى حسن بفتح الحاء. . والحسن هو ما حسنه الشرع. . ذلك أن العلماء اختلفوا: هل الحسن هو ما حسَّنه الشرع أو ما حسنه العقل؟ نقول: ما حسنه العقل مما لم يرد فيه نص من تحسين الشرع. . لأن العقل قد يختلف في الشيء الواحد. . هذا يعتبره حسنا وهذا يعتبره قبيحا. . والله تبارك وتعالى يقول: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] هذا هو معنى قوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} . . ثم جاء قوله جل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 جلاله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} وقد تكلمنا عن معنى إقامة الصلاة وما يجعلها مقبولة عند الله. وهناك فرق بين أن تقول صلوا. . وبين أن تقول أقيموا الصلاة. . أقيموا الصلاة معناها صلّ ولكن صلاة على مستواها الذي يطلب منك. . وإقامة الصلاة كما قلنا هي الركن الذي لا يسقط أبدا عن الإنسان. . ويقول الحق: {وَآتُواْ الزكاة} . . بالنسبة للزكاة عندما يقول الله سبحانه: {وَذِي القربى واليتامى والمساكين} . . نقول أن الأقارب واليتامى والمساكين لهم حق في الزكاة ماداموا فقراء. . لنحس جميعا أننا نعيش في بيئة إيمانية متكاملة متكافلة. . يحاول كل منا أن يعاون الآخر. . فالزكاة في الأساس تعطي للفقير ولو لم يكن يتيما أو قريبا. . فإن لكل فقير حقوقا ورعاية. . فإذا كان هناك فقراء أقارب أو يتامى يصبح لهم حقان. . حق القريب وحق الفقير. . وإن كان يتيما فله حق اليتيم وحق الفقير. . بعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى عناصر الميثاق الثمانية. . قال: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} . . تولى يعني أعرض أو لم يُطعْ أو لم يستمع. . يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} . . هذا هو واقع تاريخ بني إسرائيل. . لأن بعضهم تولى ولم يطع الميثاق وبعضهم أطاع. . إن القرآن لم يشن حملة على اليهود، وإنما شن حملة على المخالفين منهم. ولذلك احترم الواقع وقال: {إِلاَّ قَلِيلاً} . . وهذا يقال عنه بالنسبة للبشر قانون صيانة الاحتمال. . إن الحق جل جلاله يتكلم بإنصاف الخالق للمخلوق. . لذلك لم يقل {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} بل قال إلا قليلا. «توليتم» يعني أعرضتم، ولكن الله تبارك وتعالى يقول: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} نريد أن نأخذ الدقة الأدائية. . إذا أردنا أن نفسر توليّ. . فمعناها أعرض أو رفض الأمر. . ولكن الدقة لو نظرنا للقرآن لوجدنا أنه حين يلتقي المؤمن بالكافر في معركة. . فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [الأنفال: 16] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 إذن فالتولي هو الإعراض. . والحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بين لنا أن الإعراض يتم بنوايا مختلفة. . المقاتل يوم الزحف يعرض أو يتولى ليس بنية الهرب من المعركة. . ولكن بنية أن يذهب ليقاتل في مكان آخر أو يعاون إخوانه الذين تكاثر عليهم الأعداء. . هذا إعراض ولكن ليس بنية الهرب من المعركة. . ولكن بنية القتال بشكل أنسب للنصر. . نفرض أن إنسانا مدين لك رأيته وهو قادم في الطريق فتوليت عنه. . أنت لم تعرض عنه كرها. . ولكن رحمة لأنك لا تريد المساس بكرامته. . إذن هناك تولٍّ أو إعراض ليس بنية الإعراض. والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن هؤلاء اليهود تولوا بنية الإعراض، ولم يتولوا بأي نية أخرى. . أي أنهم أعرضوا وهم متعمدون أن يعرضوا. . وليس لهدف آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 قلنا ساعة تسمع «إذ» فأعلم أن معناها أذكر. . وقلنا إن الميثاق هو العهد الموثق. . وقوله تعالى: {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ} . . والله تبارك وتعالى ذكر قبل ذلك في الميثاق عبادة الله وحده. . وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين. . وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة. . وكلها أوامر أي وكلها افعل. . إستكمالا للميثاق. . يقول الله في هذه الآية الكريمة ما لا تفعل. . فالعبادة كما قلنا هي إطاعة الأوامر والامتناع عن النواهي. . أو ما نهى عنه الميثاق: {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ} ومعناها لا يسفك كل واحد منكم دم أخيه. . لا يسفك بعضكم دم بعض. ولكن لماذا قال الله: «دماءكم» ؟ لأنه بعد ذلك يقول: {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} . . الحكم الإيماني يخاطب الجماعة الإيمانية على أنها وحدة واحدة. . لذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى» فكأن المجتمع الإيماني وحدة واحدة. . والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 ولكن إذا كنت أنا الداخل فكيف أسلم على نفسي؟ كأن الله يخاطب المؤمنين على أساس أنهم وحدة واحدة. . وعلى هذا الأساس يقول سبحانه: {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ} . . أي لا تقتلوا أنفسكم. . السفك معناه حب الدم. . «ودماءكم» هو السائل الموجود في الجسم اللازم للحياة. . وقوله تعالى: {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} يعني لا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم. . ثم ربط المؤمنين من بني إسرائيل بقوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} . . أقررتم أي اعترفتم: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} الشهادة هي الإخبار بمشاهد. . والقاضي يسأل الشهود لأنهم رأوا الحادث فيروون ما شاهدوا. . وأنت حين تروي ما شاهدت. . فكأن الذين سمعوا أصبح ما وقع مشهودا وواقعا لديهم. . وشاهد الزور يغير المواقع. الحق سبحانه وتعالى يخاطب اليهود المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ويذكرهم بما كان من آبائهم الأولين. . وموقفهم من أخذ الميثاق حين رفع فوقهم جبل الطور وهي مسألة معروفة. . والقرآن يريد أن يقول لهم إنكم غيرتم وبدلتم فيما تعرفون. . فالذي جاء على هواكم طبقتموه. . والذي لم يأت على هواكم لم تطبقوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 يخاطب الحق جل جلاله اليهود ليفضحهم لأنهم طبقوا من التوراة ما كان على هواهم. . ولم يطبقوا ما لم يعجبهم ويقول لهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} . إنه يذكرهم بأنهم وافقوا على الميثاق وأقروه. ولقد نزلت هذه الآية عندما زنت امرأة يهودية وأرادوا ألا يقيموا عليها الحد بالرجم. . فقالوا نذهب إلى محمد ظانين أنه سيعفيهم من الحد الموجود في كتابهم. . أو أنه لا يعلم ما في كتابهم. . فلما ذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم هذا الحكم موجود عندكم في التوراة. . قالوا عندنا في التوراة أن نلطخ وجه الزاني والزانية بالقذارة ونطوف به على الناس. . قال لهم رسول الله لا. . عندكم آية الرجم موجودة في التوراة فانصرفوا. . فكأنهم حين يحسبون أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيخفف حدا من حدود الله. . يذهبون إليه ليستفتوه. والحق سبحانه وتعالى يقول: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} . . أي بعد أن أخذ عليكم الميثاق ألا تفعلوا. . تقتلون أنفسكم. . يقتل بعضكم بعضا، أو أن من قتل سيقتل. فكأنه هو الذي قتل نفسه. . والحق سبحانه قال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} . . لماذا جاء بكلمة هؤلاء هذه؟ لإنها إشارة للتنبيه لكي نلتف إلى الحكم. وقوله تعالى: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ} وحذرهم بقوله: {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} . . وجاء هذا في الميثاق. ما هو الحكم الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 يريد الحق تبارك وتعالى أن يلفتنا إليه؟ نقول إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما هاجر إلى المدينة إنتقل من دار شرك إلى دار إيمان. . ومعنى دار إيمان أن هناك مؤمنين سبقوا. . فهناك من آمن من أهل المدينة. . لقد هاجر المسلمون قبل ذلك إلى الحبشة ولكنها كانت هجرة إلى دار أمن وليست دار إيمان. . ولكن حين حدثت بيعة العقبة وجاء جماعة من المدينة وعاهدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآمنوا به. . أرسل معهم الرسول مصعب بن عمير ليعلمهم دينهم. . وجاءت هجرة الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على خميرة إيمانية موجودة. . لما جاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة أفسد على اليهود خطة حياتهم. . فاليهود كانوا ممثلين في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. . وكان هناك في المدينة الأوس والخزرج. . وبينهما حروب دائمة قبل أن يأتي الإسلام. . فاليهود قسموا أنفسهم إلى قوم مع الأوس وقوم مع الخزرج حتى يضمنوا استمرار العداوة. . فكلما هدأ القتال أهاجوا أحد المعسكرين على الآخر ليعود القتال من جديد. . وهم كذلك حتى الآن وهذه طبيعتهم. إن الذي صنع الشيوعية يهودي، والذي صنع الرأسمالية يهودي. . والذي يحرك العداوة بين المعسكرين يهودي. . وكان بنو النضير وبنو قينقاع مع الخزرج وبنو قريظة مع الأوس. . فإذا إشتبك الأوس والخزرج كان مع كل منهم حلفاؤه من اليهود. عندما تنتهي المعركة ماذا كان يحدث؟ إن المأسورين من بني النضير وبني قينقاع يقوم بنو قريظة بالمساعدة في فك أسرهم. . مع أنهم هم المتسببون في هذا الأسر. . فإذا إنتصرت الأوس وأخذوا أسرى من الخرج ومن حلفائهم اليهود. . يأتي اليهود ويعملون على إطلاق سراح الأسرى اليهود. . لأن عندهم نصاً أنه إذا وجد أسير من بني إسرائيل فلابد من فك أسره. والحق سبحانه وتعالى يقول لهم إن أعمالكم في أن يحارب بعضكم بعضا وأن تسفكوا دماءكم. . لا تتفق مع الميثاق الذي أخذه الله عليكم بل هي مصالح دنيوية. . تقتلون أنفسكم والله نهاكم عن هذا: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ} والله نهاكم عن هذا: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} . . وهذا ما كان يحدث في المدينة في الحروب بين الأوس والخزرج كما بينا. . والأسارى جمع أسير وهي على غير قياسها، لأن القياس فيها أسرى. . ولذلك نرى في آية أخرى أنه يأتي قول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67] ولكن القرآن أتى بها أسارى. . واللغة أحيانا تأتي على غير ما يقتضيه قياسها لتلفتك إلى معنى من المعاني. . فكسلان تجمع كسالى. والكسلان هو هابط الحركة. . الأسير أيضا أنت قيدت حركته. . فكأن جمع أسير على أسارى إشارة إلى تقييد الحركة. . القرآن الكريم جاء بأسارى وأسرى. . ولكنه حين استخدم أسارى أراد أن يلفتنا إلى تقييد الحركة مثل كسالى. . ومعنى وجود الأسرى أن حربا وقعت. . لحرب تقتضي الالتقاء والالتحام. . ويكون كل واحد منهم يريد أن يقتل عدوه. كلمة الأسر هذه أخذت من أجل تهدئة سعار اللقاء. . فكأن الله أراد أن يحمي القوم من شراسة نفوسهم وقت الحرب فقال لهم إستأسروهم. . لا تقتلوهم إلا إذا كنتم مضطرين للقتل. . ولكن خذوهم أسرى وفي هذا مصلحة لكم لأنكم ستأخذون منهم الفدية. . وهذا تشريع من ضمن تشريعات الرحمة. . لأنه لو لم يكن الأسر مباحا. . لكان لابد إذا إلتقى مقاتلان أن يقتل أحدهما الآخر. . لذلك يقال خذه أسيرا إلا إذا كان وجوده خطراً على حياتك. وقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} . . كانت كل طائفة من اليهود مع حليفتها من الأوس أو الخزرج. . وكانت تخرج المغلوب من دياره وتأخذ الديار. . وبعد أن تنتهي الحرب يفادوهم. . أي يأخذون منهم الفدية ليعيدوا إليهم ديارهم وأولادهم. لماذا يقسم اليهود أنفسهم هذه القسمة. . إنها ليست تقسيمة إيمانية ولكنها تقسيمة مصلحة دنيوية. . لماذا؟ لأنه ليس من المعقول وأنتم أهل كتاب. . ثم تقسمون أنفسكم قسما مع الأوس وقسما مع الخزرج. . ويكون بينكم إثم وعدوان. وقوله تعالى: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم وَالْعُدْوَانِ} . . تظاهرون عليهم. أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 تعاونون عليهم وأنتم أهل دين واحد: «بالإثم» . . والإثم هو الشيء الخبيث الذي يستحي منه الناس: «والعدوان» . . أي التعدي بشراسة. . وقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} . . أي تأخذون القضية على أساس المصلحة الدنيوية. . وتقسمون أنفسكم مع الأوس أو الخزرج. . تفعلون ذلك وأنتم مؤمنون بإله ورسول وكتاب. . مستحيل أن يكون دينكم أو نبيكم قد أمركم بهذا. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا} أي إنكم فعلتم ذلك وخالفتم لتصلوا إلى مجد دنيوي ولكنكم لم تصلوا إليه. . سيصيبكم الله بخزي في الدنيا. . أي أن الجزاء لن يتأخر إلى الآخرة بل سيأتيكم خزي وهو الهوان والذل في الدنيا. . وماذا في الآخرة؟ يقول الله تعالى: {وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب} الخزي في الدنيا أصابهم على يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين. . وأخرج بنو قينقاع من ديارهم في المدينة. . كذلك ذبح بنو قريظة بعد أن خانوا العهد وخانوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمين. . وهكذا لا يؤخر الله سبحانه وتعالى جزاء بعض الذنوب إلى الآخرة. . وجزاء الظلم في الدنيا لا يؤجل إلى الآخرة، لأن المظلوم لابد أن يرى مصرع ظالميه حتى يعتدل نظام الكون. . ويعرف الناس أن الله موجود وأنه سبحانه لكل ظالم بالمرصاد. . اليهود أتاهم خزي الدنيا سريعا: {يَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب} . قد يتساءل الناس ألا يكفيهم الخزي في الدنيا عن عذاب الآخرة؟ نقول لا. . لأن الخزي لم ينلهم في الدنيا حدا. . ولم يكن نتيجة إقامة حدود الله عليهم. . فالخزي حين ينال الإنسان كحد من حدود من حدود الله يعفيه من عذاب الآخرة. . فالذي سرق وقطعت يده والذي زنا ورجم. . هؤلاء نالهم عذاب من حدود الله فلا يحاسبون في الآخرة. . أما الظالمون فالأمر يختلف. . لذلك فإننا نجد إناسا من الذين ارتكبوا إثما في الدنيا يلحون على إقامة الحد عليهم لينجوا من عذاب الآخرة. . مع أنه لم يرهم أحد أو يعلم بهم أحد أو يشهد عليهم أحد. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 حتى لا يأتي واحد ليقول: لماذا لا يعفي الظالمون الذي أصابهم خزي في الدنيا من عذاب الآخرة؟ نقول إنهم في خزي الدنيا لم يحاسبوا عن جرائمهم. . أصابهم ضر وعذاب. . ولكن أشد العذاب ينتظرهم في الآخرة. . وما أهون عذاب الدنيا هو بقدرة البشر بالنسبة لعذاب الآخرة الذي هو بقدرة الله سبحانه وتعالى، كما أن هذه الدنيا تنتهي فيها حياة الإنسان بالموت، أما الآخرة فلا موت فيها بل خلود في العذاب. ثم يقول الحق جل جلاله: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . . أي لا تحسب أن الله سبحانه وتعالى يغفل عن شيء في كونه فهو لا تأخذه سنة نوم. . وهو بكل شيء محيط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ويذكر لنا الله سبحانه وتعالى سبب خيبة هؤلاء وضلالهم لأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة. . جعلوا الآخرة ثمنا لنزواتهم ونفوذهم في الدنيا. . هم نظروا إلى الدنيا فقط. . ونظرة الإنسان إلى الدنيا ومقارنتها بالآخرة تجعلك تطلب في كل ما تفعله ثواب الآخرة. . فالدنيا عمرك فيها محدود. . ولا تقل عمر الدنيا مليون أو مليونان أو ثلاثة ملايين سنة. . عمر الدنيا بالنسبة لك هو مدة بقائك فيها. . فإذا خرجت من الدنيا انتهت بالنسبة لك. . والخروج من الدنيا بالموت. . والموت لا أسباب له ولذلك فإن الإسلام لا يجعل الدنيا هدفا لأن عمرنا فيها مظنون. . هناك من يموت في بطن أمه. . ومن يعيش ساعة أو ساعات، ومن يعيش إلى أرذل العمر. . إذن فاتجه إلى الآخرة، ففيها النعيم الدائم والحياة بلا موت المتعة على قدرات الله. . ولكن خيبة هؤلاء أنهم إشتروا الدنيا بالآخرة. . ولذلك يقول الحق عنهم: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} . . لا يخفف عنهم العذاب أي يجب ألا يأمنوا أن العذاب في الآخرة سيخفف عنهم. . أو ستقل درجته أو تنقص مدته. . أو سيأتي يوما ولا يأتي يوما وقوله: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} . . النصرة تأتي على معنيين. . تأتي بمعنى أنه لا يغلب. . وتأتي بمعنى أن هناك قوة تنتصر له أي تنصره. . كونه يغلب. . الله سبحانه وتعالى غالب على أمره فلا أحد يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. . ولكن الله يملك النفع والضر لكل خلقه. . ويملك تبارك وتعالى أن يقهر خلقه على ما يشاء. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} [الأعراف: 188] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 أما مسألة أن ينصره أحد. . فمن الذي يستطيع أن ينصر أحدا من الله. . واقرأ قوله سبحانه وتعالى عن نوح عليه السلام: {وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله} [هود: 30] يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} . . أمر لم يقع بعد بل سيقع مستقبلا. . يتحدث الله سبحانه وتعالى عنه بلهجة المضارع. . نقول إن كل أحداث الكون وما سيقع منها هو عند الله تم وانتهى وقضى فيه. . لذلك نجد في القرآن الكريم قوله سبحانه: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] أتى فعل ماضي. . ولا تستعجلوه مستقبل. . كيف يقول الله سبحانه وتعالى أتى ثم يقول لا تستعجلوه؟ إنه مستقبل بالنسبة لنا. . أما بالنسبة لله تبارك وتعالى فمادام قد قال أتى. . فمعنى ذلك أنه حدث. . فلا أحد يملك أن يمنع أمرا من أمور الله من الحدوث. . فالعذاب آت لهم آت. . ولا يخفف عنهم لأن أحدا لا يملك تخفيفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وبعد أن بيّن الحق سبحانه وتعالى لنا ما فعله اليهود مع نبيهم موسى عليه السلام. . أراد أن يبين لنا ما فعله بنو إسرائيل بعد نبيهم موسى. . وأراد أن يبين لنا موقفهم من رسول جاءهم منهم. . ولقد جاء لبني إسرائيل رسل كثيرون لأن مخالفاتهم للمنهج كانت كثيرة. . ولكن الآيةَ الكريمة ذكرت عيسى عليه السلام. . لأن الديانتين الكبيرتين اللتين سبقتا الإسلام هما اليهودية والنصرانية. . ولكن لابد أن نعرف أنه قبل مجيء عيسى. . وبين رسالة موسى ورسالة عيسى عليهما السلام رسل كثيرون. . منهم داود وسليمان وزكريا ويحيى وغيرهم. . فكأنه في كل فترة كان بنو إسرائيل يبتعدون عن الدين. . ويرتكبون المخالفات وتنتشر بينهم المعصية. . فيرسل اللهُ رسولا يعدل ميزانَ حركة حياتهم. . ومع ذلك يعودون مرة أخرى إلى معصيتهم وفسقهم. . فيبعث اللهُ رسولا جديداً. . ليزيل الباطل وهوى النفس من المجتمع ويطبق شرع الله. . ولكنهم بعده يعودون مرة أخرى إلى المعصية والكفر. وقال اللهُ سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب} والقائلُ هو اللهُ جل جلاله. . والكتابُ هو التوراةُ: {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} . . واللهُ تبارك وتعالى بين لنا موقفَ بني إسرائيل من موسى. . وموقِفَهُم من رسولِ الله صلى اللهُ عليه وسلم خاتمِ الأنبياءِ والمرسلين. . ولكنه لم يبين لنا موقفَهُم من الرسلِ الذين جاءوا بعد موسى حتى عيسى ابن مريم. الحقُ سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا. . إلى أنه لم يترك الأمر لبني إسرائيل بعد موسى. . أن يعملوا بالكتاب الذي أرسل معه فقط. . ولكنه أتبع ذلك بالرسل. . حين تسمع «قفينا» . . أي اتبعنا بعضهم بعضا. . كل يخلف الذي سبقه. «وقفينا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 مشتقة من قفا. . وقفا الشيء خلفه. . وتقول قفوت فلاناً أي سرت خلفه قريباً منه. إن الحق يريد أن يلفتنا إلى أن رسالةَ موسى لم تقف عند موسى وكتابه. . ولكنه سبحانه أرسل رسلاً وأنبياءَ ليذكروا وينبهوا. . ولقد قلنا إن كثرةَ الأنبياءِ لبني إسرائيلَ ليست شهادة لهم ولكنها شهادة عليهم. . إنهم يتفاخرون أنهم أكثرُ الأممِ أنبياءً. . ويعتبرون ذلك ميزة لهم ولكنهم لم يفهموا. . فكثرة الأنبياء والرسل دلالةَ على كثرة فساد الأمة، لأن الرسل إنما يجيئون لتخليص البشريةِ من فساد وأمراض وإنقاذها من الشقاء. . وكلما كثُرَ الرسلُ والأنبياءُ دل ذلك على أن القومَ قد انحرفوا بمجرد ذهابِ الرسولِ عنهم، ولذلك كان لابد من رسول جديد. . تماما كما يكون المريض في حالةٍ خطرةٍ فيكثر أطباؤه بلا فائدةٍ. . وليقطع اللهُ سبحانه وتعالى عليهم الحجةَ يومَ القيامةِ. . لم يترك لهم فترةً من غفلةٍ. . بل كانت الرسلُ تأتيهم واحدا بعد الآخر على فتراتٍ قريبةٍ. وإذا نظرنا إلى يوشع وأشمويه وشمعون. وداود وسليمان وشعيب وأرميا. وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى. . نرى موكبا طويلاً جاء بعد موسى. . حتى إنه لم تمر فترةٌ ليس فيها نبي أو رسول. . وحتى نفرقَ بين النبيِ والرسولِ. . نقول النبيُ مرسلٌ والرسولُ مرسلٌ. . كلاهما مرسلٌ من اللهِ ولكن النبيَ لا يأتي بتشريعٍ جديدٍ. . وإنما هو مرسلٌ على منهجِ الرسولِ الذي سَبَقَهُ. . واقرأ قولَهُ سبحانه: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} [الحج: 52] إذن فالنبي مرسل أيضاً. . ولكنه أسوةٌ سلوكيةٌ لتطبيقِ منهجِ الرسولِ الذي سبقه. وهل اللهُ سبحانه وتعالى قص علينا قصص كل الرسل والأنبياء الذين أرسلهم؟ اقرأ قوله تبارك وتعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] إذن هناك رسلٌ وأنبياء أرسلوا إلى بني إسرائيل لم نعرفهم. . لأن الله لم يقصص علينا نبأهم. . ولكن الآية الكريمة التي نحن بصددها لم تذكر إلا عيسى عليه السلام. . باعتباره من أكثر الرسل أتباعا. . والله تبارك وتعالى حينما أرسل عيسى أيده بالآيات والبينات التي تثبت صدقَ بلاغه عن اللهِ. . ولذلك قال جل جلاله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} . . وعيسى ابنُ مريمَ عليه السلام جاء ليرد على المادية التي سيطرت على بني إسرائيل. . وجعلتهم لا يعترفون إلا بالشيء المادي المحسوس. . فعقولهم وقلوبهم أغلقت من ناحية الغيب. . حتى إنهم قالوا لموسى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} . . وحين جاءهم المن والسلوى رزقاً من الله. . خافوا أن ينقطع عنهم لأنه رزقٌ غيبيّ فطلبوا نبات الأرض. . لذلك كان لابد أن يأتي رسول كل حياته ومنهجه أمور غيبية. . مولده أمر غيبي، وموته أمر غيبي ورفعه أمر غيبي ومعجزاته أمور غيبية حتى ينقلهم من طغيان المادية إلى صفاء الروحانية. لقد كان أول أمره أن يأتي عن غير طريق التكاثر الماديّ. . أي الذي يتم بين الناس عن طريق رجل وأنثى وحيوان منويّ. . واللهُ سبحانه وتعالى أراد أن يخلع من أذهان بني إسرائيل أن الأسباب المادية تحكمه. . وإنما هو الذي يحكم السبب. هو الذي يخلق الأسباب ومتى قال: «كن» كان. . بصرف النظر عن المادية المألوفة في الكون. . وفي قضية الخلق أراد الله جل جلاله للعقول أن تفهم أن مشيته هي السبب وهي الفاعلة. . واقرأ قوله سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 فكأن الله سبحانه وتعالى جعل الذكورة والأنوثة هما السبب في الإنجاب. . ولكنه جعل طلاقة القدرة مهيمنةً على الأسباب. . فيأتي رجل وامرأة ويتزوجان ولكنهما لا ينجبان. . فكأن الأسباب نفسها عاجزة عن أن تفعل شيئا إلا بإرادة المسبب. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} . . لماذا قال الحق تبارك وتعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} . . ألم يكن باقي الرسل والأنبياء مؤيدين بروح القدس؟ نقول: لقد ذكر هنا تأييد عيسى بروح القدس لأن الروح ستشيع في كل أمر له. . ميلاداً ومعجزةً وموتاً. . والروحُ القدس هو جبريل عليه السلام لم يكن يفارقه أبدا. . لقد جاء عيسى عليه السلام على غير مألوف الناس وطبيعة البشر مما جعله معرضاً دائماً للهجوم. . ولذلك لابد أن يكون الوحي في صحبته لا يفارقه. . ليجعل من مهابته على القوم ما يرد الناس عنه. . وعندما يتحدث القرآن أنه رفع إلى السماء. . اختلف العلماء هل رفع إلى السماء حيا؟ أو مات ثم رفع إلى السماء؟ نقول: لو أننا عرفنا أنه رُفع حيا أو مات فما الذي يتغير في منهجنا؟ لا شيء. . وعندما يقال إنه شيء عجيب أن يرفع إنسان إلى السماء، ويظل هذه الفترة ثم يموت. . نقول إن عيسى ابنَ مريمَ لم يتبرأ من الوفاة. . إنه سيُتَوَفّى كما يُتَوَفَّى سائر البشر. . ولكن هل كان ميلاده طبيعياً؟ الإجابة لا. . إذن فلماذا تتعجب إذا كانت وفاته غير طبيعية؟ لقد خلق من أم بدون أب. . فإذا حدث أنه رفع إلى السماء حياً وسينزل إلى الأرض فما العجب في ذلك؟ ألم يصعد رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى السماء حياً؟ ثم نزل لنا بعد ذلك إلى الأرض حياً؟ لقد حدث هذا لمحمدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . إذن فالمبدأ موجود. . فلماذا تستبعد صعود عيسى ثم نزوله في آخر الزمان؟ والفرق بين محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعيسى هو أن محمداً لم يمكث طويلاً في السماء، بينما عيسى بقى. . والخلاف على الفترة لا ينقض المبدأ. عن ابن المسيب أنه سمع أبا هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وهذا الحديث موجود في صحيح البخاري. . فقد جعله الله مثلا لبني إسرائيل. . واقرأ قوله سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} . . البينات هي المعجزات مثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله وغير ذلك من المعجزات. . وهي الأمور البينة الواضحة على صدق رسالته. لكننا إذا تأملنا في هذه المعجزات. . نجد أن بعضها نسبت لقدرة الله كإحياء الموتى جاء بعدها بإذن الله. . وبعضها نسبها إلى معجزته كرسول. . ومعروف أنه كرسول يؤيده اللهُ بمعجزات تخرق قوانين الكون. . ولكن هناك فرقاً بين معجزة تعطي كشفاً للرسول. . وبين معجزة لابد أن تتم كل مرة من الله مباشرة. . واقرأ الآية الكريمة: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49] وهكذا نرى في الآية الكريمة أنه بينما كان إخبار عيسى لما يأكل الناس وما يدخرون في بيوتهم كشفاً من الله. . كان إحياء الموتى في كل مرة بإذن الله. . وليس كشفا ولا معجزة ذاتية لعيسى عليه السلام. . إن كل رسول كان مؤيداً بروح القدس وهو جبريل عليه السلام. . ولكن الله أيد عيسى بروح القدس دائما معه. . وهذا معنى قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} . . وأيدناه مشتقة من القوة ومعناها قويناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 بروح القدس في كل أمر من الأمور. . وكلمة روح تأتي على معنيين. . المعنى الأول ما يدخل الجسم فيعطيه الحركة والحياة. . وهناك روح أخرى هي روح القيم تجعل الحركة نافعة ومفيدة. . ولذلك سمى الحق سبحانه وتعالى القرآن بالروح. . واقرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] والقرآن روح. . من لا يعمل به تكون حركة حياته بلا قيم. . إذن كل ما يتصل بالمنهج فهو روح. . والقدس هذه الكلمة تأتي مرة بضم القاف وتسكين الدال. . ومرة بضم القاف وضم الدال. . وكلا اللفظين صحيح وهي تفيد الطهر والتنزه عن كل ما يعيب ويشين. . والقدس يعني المطهر عن كل شائبة. قوله تبارك وتعالى: {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم} قوله تعالى: «أفكلما» . . هناك عطف وهناك استفهام، وهي تعني أكفرتم، وكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم. . أي إن اليهود جعلوا أنفسهم مشرعين من دون الله. . وهم يريدون أن يشرعوا لرسلهم. . فإذا جاء الرسول بما يخالف هواهم كذَّبوه أو قتلوه. وقوله تعالى: {بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ} . . هناك هَوَى بالفتحة على الواو وهَوِيَ بالكسرة على الواو. . هَوَى بالفتحة على الواو بمعنى سقط إلى أسفل. . وهَوِيَ بالكسرة على الواو معناه أحب وأشتهى. . اللفظان ملتقيان. . الأول معناه الهبوط، والثاني حب الشهوة والهوى يؤدي إلى الهبوط. . ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى حينما يشرع يقول (تَعَالَوْا) ومعناها؟ إرتفعوا من موقعكم الهابط. . إذن فالمنهج جاء ليعصمنا من السقوط. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . يعطينا هذا المعنى، وكيف أن الدين يعصمنا من أن نهوى ونسقط في جهنم يقول: «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعْن فيه فأنا آخذ بحجزكم وأنتم موحمون فيه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 ومعنى آخذ بحجزكم أي آخذ بكم. . وكأننا نقبل على النار ونحن نشتهيها باتباعنا شهوتنا. . ورسول الله بمنهج الله يحاول أن ينقذنا منها. . ولكن رب نفسٍ عشقت مصرعها. . والحق تبارك وتعالى يقول: {استكبرتم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] معنى استكبرتم أي أعطيتم لأنفسكم كبرا لستم أهلا له. . ادعيتم أنكم كبارٌ ولستم كباراً. . ولكن هل المشروع مساو لك حتى تتكبر على منهجه؟ طبعا لا. . قوله تعالى: {ففريقاً كذبتم} . . والكذب كلام يخالف الواقع. . أي أنكم اتهمتم الرسل بأنهم يقولون كلاما يخالف الواقع. لأنه يخالف ما تشتهيه أنفسكم. . وقوله تعالى: {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} . . التكذيب مسألة منكرة. . ولكن القتل أمر بشع. . وحين ترى إنسانا يتخلص من خصمه بالقتل فاعلم أنها شهادة بضعفه أمام خصمه. . وإن طاقته وحياته لا تطيق وجود الخصم. . ولو أنه رجلٌ مكتمل الرجولة لما تأثر بوجود خصمه. . ولكن لأنه ضعيف أمامه قتله. . قوله تعالى: {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} . . مثل نبي الله يحيى ونبي الله زكريا. . وهناك قصص وروايات تناولت قصة سالومي. . وهي قصة راقصة جميلة أرادت إغراء يحيى عليه السلام فرفض أن يخضع لإغرائها. . فجعلت مهرها أن يأتوها برأسه. . وفعلا قتلوه وجاءوها برأسه على صينية من الفضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 الله سبحانه وتعالى يذكر لنا كيف برر بنو إسرائيل عدم إيمانهم وقتلهم الأنبياء وكل ما حدث منهم. . فماذا قالوا؟ لقد قالوا {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} والغلف مأخوذ من الغلاف والتغليف. . وهناك غلْف بسكون اللام، وغلُف بضم اللام. . مثل كتاب وكتب {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي مغلفة وفيها من العلم ما يكفيها ويزيد، فكأنهم يقولون إننا لسنا في حاجة إلى كلام الرسل. . أو {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي مغلفة ومطبوع عليها. . أي أن الله طبع على قلوبهم وختم عليها حتى لا ينفذ إليها شعاع من الهداية. . ولا يخرج منها شعاع من الكفر. إذا كان الله سبحانه وتعالى قد فعل هذا. . ألم تسألوا أنفسكم لماذا؟ ما هو السبب؟ والحق تبارك وتعالى يرد عليهم فيقول: {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} : لفظ «بل» يؤكد لنا أن كلامهم غير صحيح. . فهم ليس عندهم كفاية من العلم بحيث لا يحتاجون إلى منهج الرسل. . ولكنهم ملعونون ومطرودون من رحمة الله. . فلا تنفذ إشعاعات النور ولا الهداية إلى قلوبهم. . ولكن ذلك ليس لأن ختم عليها بلا سبب. . ولكنه جزاء على أنهم جاءهم النور والهدى. . فصدوه بالكفر أولا. . ولذلك فإنهم أصبحوا مطرودين من رحمة الله. . لأن من يصد الإيمان بالكفر يطرد من رحمة الله، ولا ينفذ إلى قلبه شعاع من أشعة الإيمان. وهنا يجب أن نتنبه إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يبدأهم باللعنة. وبعض الناس الذين يريدون أن يهربوا من مسئولية الكفر - علها تنجيهم من العذاب يوم القيامة - يقولون إن الله سبحانه وتعالى قال: {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [فاطر: 8] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 تلك هي حجة الكافرين الذين يظنون إنها ستنجيهم من العذاب يوم القيامة. . إنهم يريدون أن يقولوا إن الله يضل من يشاء. . ومادام اللهُ قد شاء أن يضلني فما ذنبي أنا؟ وهل أستطيع أن أمنع مشيئة الله. . نقول له: إن الله إذا قيد أمرا من الأمور المطلقة فيجب أن نلجأ إلى التقييد. . والله تبارك وتعالى يقول: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37] ويقول سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [التوبة: 19] ويقول جل جلاله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 24] والحق سبحانه وتعالى أخبرنا أنه منع إعانته للهداية عن ثلاثة أنواع من الناس. . الكافرين والظالمين والفاسقين. . ولكن هل هو سبحانه وتعالى منع معونة الهداية أولا؟ أم أنهم هم الذين ارتكبوا من الضلال ما جعلهم لا يستحقون هداية الله؟! إنسان واجه الله بالكفر. . كفر بالله. . رفض أن يستمع لآيات الله ورسله. . ورفض أن يتأمل في كون الله. . ورفض أن يتأمل في خلقه هو نفسه ومن الذي خلقه. . ورفض أن يتأمل في خلق السموات والأرض. . كل هذا رفضه تماما. . ومضى يصنع لنفسه طريق الضلال ويشرع لنفسه الكفر. . لأنه فعل ذلك أولا. . ولأنه بدأ بالكفر برغم أن الله سبحانه وتعالى وضع له في الكون وفي نفسه آيات تجعله يؤمن بالله، وبرغم ذلك رفض. هو الذي بدأ والله سبحانه وتعالى ختم على قلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 الإنسان الظالم يظلم الناس ولا يخشى الله. . يذكرونه بقدره الله وقوة الله فلا يلتفت. . يختم الله على قلبه. . كذلك الإنسان الفاسق الذي لا يترك منكرا إلا فعله. . ولا إثما إلا ارتكبه. . ولا معصية إلا أسرع إليها. . لا يهديه الله. . أكنت تريد أن يبدأ هؤلاء الناس بالكفر والظلم والفسوق ويصرون عليه ثم يهديهم الله؟ يهديهم قهرا أو قَسْراً، والله سبحانه وتعالى خلقنا مختارين؟ طبعا لا. . ذلك يضع الاختيار البشري في أن يطيع الإنسان أو يعصى. والحق تبارك وتعالى أثبت طلاقة قدرته فيما نحن مقهورون فيه. . في أجسادنا التي تعمل أعضاؤها الداخلية بقهر من الله سبحانه وتعالى وليس بإرادة منا كالقلب والتنفس والدورة الدموية. . والمعدة والأمعاء والكبد. . كل هذا وغيره مقهور لله جل جلاله. . لا نستطيع أن نأمره ليفعل فيفعل. . وأن نأمره ألا يفعل فلا يفعل. . وأثبت الله سبحانه وتعالى طلاقة قدرته فيما يقع علينا من أحداث في الكون. . فهذا يمرض، وهذا تدهمه سيارة، وهذا يقع عليه حجر. . وهذا يسقط، وهذا يعتدي عليه إنسان. . كل الأشياء التي تقع عليك لا دخل لك فيها ولا تستطيع أن تمنعها. . بقى ذلك الذي يقع منك وأهمه تطبيق منهج الله في افعل ولا تفعل. . هذا لك اختيار فيه. إن الله سبحانه وتعالى أوجد لك هذا الاختيار حتى يكون الحساب في الآخرة عدلا. . فإذا اخترت الكفر لا يجبرك الله على الإيمان. . وإذا اخترت الظلم لا يجبرك الله على العدل. . وإذا اخترت الفسوق لا يجبرك الله على الطاعة. . إنه يحترم اختيارك لأنه أعطاك هذا الاختيار ليحاسبك عليه يوم القيامة. لقد أثبت الله لنفسه طلاقة القدرة بأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء. ولكنه سبحانه قال إنه لا يهدي القوم الكافرين ولا القوم الظالمين ولا القوم الفاسقين. . فمن يرد أن يخرج من هداية الله فليكفر أو يظلم أو يفسق. . ويكون في هذه الحالة هو الذي اختار فحق عليه عقاب الله. . لذلك فقد قال الكافرون من بني إسرائيل إن الله ختم على قلوبهم فهم لا يهتدون، ولكنهم هم الذين اختاروا هذا الطريق ومشوا فيه. . فاختاروا عدم الهداية. . لقد أثارت هذه القضية جدلا كبيراً بين العلماء ولكنها في الحقيقة لا تستحق هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 الجدل. . فالله سبحانه وتعالى قال: {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} . . واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله. . ويتم ذلك بقدرة الله سبحانه وتعالى. . لأن الطرد يتناسب مع قوة الطارد. فمثلا. . إبنك الصغير يطرد حجرا أمامه تكون قوة الطرد متناسبة مع سنه وقوته. . والأكبر أشد فأشد. . فإذا كان الطارد هو الله سبحانه وتعالى فلا يكون هناك مقدارٌ لقوة اللعن والطرد يعرفه العقل البشري. قوله تعالى: {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} . . أي طردهم الله بسبب كفرهم. . والله تبارك وتعالى لا يتودد للناس لكي يؤمنوا. . ولا يريد للرسل أن يتعبوا أنفسهم في حمل الناس على الإيمان. . إنما وظيفة الرسول هي البلاغ حتى يكون الحساب حقا وعدلا. . واقرأ قوله جل جلاله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] أي إنهم لا يستطيعون ألا يؤمنون إذا أردناهم مؤمنين قهرا. . ولكننا نريدهم مؤمنين اختيارا. . وإيمان العبد هو الذي ينتفع به. . فالله لا ينتفع بإيمان البشر. . وقولنا لا إله إلا الله لا يسند عرش الله. . قلناها أو لم نقلها فلا إله إلا الله. . ولكننا نقولها لتشهد علينا يوم القيامة. . نقولها لتنجينا من أهوال يوم القيامة ومن غضب الله. . وقوله تعالى: «بكفرهم» يعطينا قضية مهمة هي: أنه تبارك وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك. فمن يشرك معه أحدا فهو لمن أشرك. . لذلك يقول الحق جل جلاله في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاءِ عن الشِّركِ من عَمِلَ عملا أَشْرَكَ فيه معي غيري تركْتُهُ وشِركُه» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وشهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه بالألوهية. . هي شهادة الذات للذات. . وذلك في قوله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق خلقا يشهدون أنه لا إله إلا الله. . شهد لنفسه بالألوهية. . ولنقرأ الآية الكريمة: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] والله سبحانه وتعالى شهد لنفسه شهادة الذات للذات. والملائكة شهدوا بالمشاهدة. . وأولو العلم بالدليل. . والحق تبارك وتعالى يقول: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} . . عندما تقول قليلا ما يحدث كذا، فإنك تقصد به هنا صيانة الإحتمال، لأنه من الممكن أن يثوب واحد منهم إلى رشده ويؤمن. . فيبقي اللهُ البابَ مفتوحا لهؤلاء. ولذلك نجد الذين أسرفوا على أنفسهم في شبابهم قد يأتون في آخر عمرهم ويتوبون. . في ظاهر الأمر أنهم أسرفوا على أنفسهم. . ولكنهم عندما تابوا واعترفوا بخطاياهم وعادوا إلى طريق الحق تقبل الله إيمانهم. . لذلك يقول الله جل جلاله: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} أي أن الأغلبية تظل على كفرها. . والقلة هي التي تعود إلى الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 بعد أن بين لنا الله سبحانه وتعالى. . أن بني إسرائيل قالوا إن قلوبهم غلف لا يدخلها شعاع من الهدى أو الإيمان. . أراد تبارك وتعالى أن يعطينا صورة أخرى لكفرهم بأنه أنزل كتابا مصدقا لما معهم ومع ذلك كفروا به. . ولو كان هذا الكتاب مختلفا عن الذي معهم لقلنا إن المسألة فيها خلاف. . ولكنهم كانوا قبل أن يأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وينزل عليه القرآن كانوا يؤمنون بالرسول والكتاب الذي ذكر عندهم في التوراة. . وكانوا يقولون لأهل المدينة. . أَهَلّ زمن رسول سنؤمن به ونتبعه ونقتلكم قبل عاد وإرم. لقد كان اليهود يعيشون في المدينة. . وكان معهم الأوس والخزرج وعندما تحدث بينهم خصومات كانوا يهددونهم بالرسول القادم. . فلما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كفروا به وبما أنزل عليه من القرآن. واليهود في كفرهم كانوا أحد أسباب نصرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . لأن الأوس والخرزج عندما بعث الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قالوا هذا النبي الذي يهددنا به اليهود وأسرعوا يبايعونه. . فكأن اليهود سخرهم الله لنصرة الإسلام وهم لا يشعرون. والرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يذهب إلى الناس في الطائف. . وينتظر القبائل عند قدومها إلى مكة في موسم الحج ليعرض عليهم الدعوة فيصدونه ويضطهدونه. . وعندما شاء الله أن ينتشر دعوة الإسلام جاء الناس إلى مكة ومعهم الأوس والخزرج إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يذهب هو إليهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وأعلنوا مبايعته والإيمان برسالته ونشر دعوته. . دون أن يطلب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ منهم ذلك. . ثم دعوه ليعيش بينهم في دار الإيمان. . كل هذا تم عندما شاء الله أن ينصر الإسلام بالهجرة إلى المدينة وينصره بمن اتبعوه. ويقول الحق تبارك وتعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} . . أي أنهم قبل أن يأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يستفتحون بأنه قد أطل زمن رسول سنؤمن به ونتبعه. . فلما جاء الرسول كذبوه وكفروا برسالته. وقوله تعالى: {عَلَى الذين كَفَرُواْ} . . أي كفار المدينة من الأوس والخزرج الذين لم يكونوا أسلموا بعد. . لأن الرسول لم يأت. . الحق سبحانه وتعالى يعطينا تمام الصورة في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} . وهكذا نرى أن بني إسرائيل فيهم جحود مركب جاءهم الرسول الذي انتظروه وبشروا به. . ولكن أخذهم الكبر رغم أنهم موقنون بمجيء الرسول الجديد وأوصافه موجودة عندهم في التوراة إلا أنهم رفضوا أن يؤمنوا فاستحقوا بذلك لعنة الله. . واللعنة كما قلنا هي الطرد من رحمة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 عندما رفض اليهود الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وطردهم الله من رحمته. . بيّن لنا أنهم: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} . . وكلمة إشترى سبق الحديث عنها وقلنا إننا عادة ندفع الثمن ونأخذ السلعة التي نريدها. . ولكن الكافرين قلبوا هذا رأسا على عقب وجعلوا الثمن سلعة. . على أننا لابد أن نتحدث أولا عن الفرق بين شرى واشترى. . شَرَى بمعنى باع. . واقرأ قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20] ومعنى الآية الكريمة أنهم باعوه بثمن قليل. . واشترى يعني ابتاع. . ولكن اشترى قد تأتي بمعنى شرى. . لأنك في بعض الأحيان تكون محتاجا إلى سلعة ومعك مال. . وتذهب وتشتري السلعة بمالك وهذا هو الوضع السليم. . ولكن لنفرض أنك احتجت لسلعة ضرورية كالدواء مثلا. . وليس عندك المال ولكن عندك سلعة أخرى كأن يكون عندك ساعة أو قلم فاخر. . فتذهب إلى الصيدلية وتعطي الرجل سلعة مقابل سلعة. . أصبح الثمن في هذه الحالة مشترى. . إذن فمرة يكون البيع مشتري ومرة يكون مبيعاً. . والحق تبارك وتعالى يقول: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} . . وكأنما يعيرهم بأنهم يدعون الذكاء والفطنة. . ويؤمنون بالمادية وأساسها البيع والشراء. . لو كانوا حقيقة يتقنون هذا لعرفوا أنهم قد أتموا صفقة خاسرة. . الصفقة الرابحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 كانت أن يشتروا أنفسهم مقابل التصديق بما أنزل الله على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ولكنهم باعوا أنفسهم واشتروا الكفر فخسروا الصفقة لأنهم أخذوا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. . والله سبحانه وتعالى يجعل بعض العذاب في الدنيا ليستقيم ميزان الأمور حتى عند من لم يؤمن بالآخرة. . فعندما يرى ذلك من لا يؤمن بالآخرة عذابا دنيويا يقع على ظالم. . يخاف من الظلم ويبتعد عنه حتى لا يصيبه عذاب الدنيا ويعرف أن في الدنيا مقاييس في الثواب والعقاب. . وحتى لا ينتشر في الأرض فساد من لا يؤمن بالله ولا بالآخرة. . وضع الحق تبارك وتعالى قصاصا في الدنيا. . واقرأ قوله جل جلاله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] والله سبحانه وتعالى في قصاصه يلفت المؤمن وغير المؤمن إلى عقوبة الحياة الدنيا. . فيأتي للمرابي الذي يمتص دماء الناس ويصيبه بكارثة لا يجد بعدها ما ينفقه. . ولذلك نحن نقول يا رب إن القوم غرهم حلمك واستبطأوا آخرتك فخذهم ببعض ذنوبهم أخذ عزيز مقتدر حتى يعتدل الميزان. والله تبارك وتعالى جعل مصارع الظالمين والباغين والمتجبرين في الدنيا. . جعلها الله عبرة لمن لا يعتبر بمنهج الله. فتجد إنسانا ابتعد عن دينه وأقبلت عليه الدنيا بنعيمها ومجدها وشهرتها ثم تجده في آخر أيامه يعيش على صدقات المحسنين. . وتجد امرأة غرها المال فانطلقت تجمعه من كل مكان حلالا أو حراما وأعطتها الدنيا بسخاء. . وفي آخر أيامها تزول عنها الدنيا فلا تجد ثمن الدواء. . وتموت فيجمع لها الناس مصاريف جنازتها. . كل هذه الأحداث وغيرها عبرة للناس. . ولذلك فهي تحدث على رؤوس الأشهاد. . يعرفها عدد كبير من الناس. . إما لأنها تنشر في الصحف وإما أنها تذاع بين أهل الحي فيتناقلونها. . المهم أنها تكون مشهورة. وتجد مثلا أن اليهود الذين كانوا زعماء المدينة تجار الحرب والسلاح. . ينتهي بهم الحال أن يطردوا من ديارهم وتؤخذ أموالهم وتسبى نساؤهم. . أليس هذا خزيا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 قوله تعالى: {أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله بَغْياً} . . البغي تجاوز الحد، والله جعل لكل شيء حدا مَنْ تجاوزه بَغَى. . والحدود التي وضعها الله سبحانه هي أحكام. . ومرة تكون أوامر ومرة تكون نواهي. ولذلك يقول الحق بالنسبة للأوامر: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] ويقول تعالى بالنسبة للنواهي: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ولكن ما سبب بغيهم؟ . . بغيهم حسد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تأتي إليه الرسالة. . وعلى العرب أن يكون الرسول منهم. . واليهود اعتقدوا لكثرة أنبيائهم أنهم الذين ورثوا رسالات الله إلى الأرض. . وعندما جاءت التوراة والإنجيل يبشران برسول خاتم قالوا إنه منا. . الرسالة والنبوة لن تخرج عنا فنحن شعب الله المختار. . ولذلك كانوا يعلنون أنهم سيتبعون النبي القادم وينصرونه. . ولكنهم فوجئوا بأنه ليس منهم. . حينئذ ملأهم الكبر والحسد وقالوا مادام ليس منا فلن نتبعه بل سنحاربه. . لقد خلعت منهم الرسالات لأنهم ليسوا أهلا لها. . وكان لابد أن يعاقبهم الله على كفرهم ومعصيتهم ويجعل الرسالة في أمة غيرهم. . والله تبارك وتعالى يقول: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ} [فاطر: 16 - 17] لقد اختبرهم الله في رسالات متعددة ولكنهم كما قرأنا في الآيات السابقة. . كذبوا فريقا من الأنبياء. ومن لم يكذبوه قتلوه. . لذلك كان لابد أن ينزع الله منهم هذه الرسالات ويجعلها في أمة غيرهم. . لتكون أمة العرب فيها ختام رسالات السماء إلى الأرض. . ولذلك بغوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وقوله تعالى: {بَغْياً أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} . . ومن هنا نعرف أن الرسالات واختيار الرسل. . فضل من الله يختص به من يشاء. . والله سبحانه حين يطلق أيدينا ويملكنا الأسباب. . فإننا لا نخرج عن مشيئته بل نخضع لها. . ونعرف أنه لا ذاتية في هذا الكون. . وذلك حتى لا يغتر الإنسان بنفسه. . فإن بطل العالم في لعبة معينة هو قمة الكمالات البشرية في هذه اللعبة. . ولكن هذه الكمالات ليست ذاتية فيه لأن غيره يمكن أن يتغلب عليه. . ولأنه قد يصيبه أي عائق يجعله لا يصلح للبطولة. . وعلى كل حال فإن بطولته لا تدوم. . لأنها ليست ذاتية فيه ومَنْ وهبها له وهو الله سيهبها لغيره متى شاءَ. . ولذلك لابد أن يعلم الإنسان أن الكمال البشري متغير لا يدوم لأحد. . وأن كل من يبلغ القمة ينحدر بعد ذلك لأننا في عالم أغيار. . ولابد لكل من علا أن ينزل. . فالكمال لله وحده. . والله سبحانه يحرس كماله بذاته. إذن اليهود حسدوا رسول الله. . حسدوا نزول القرآن على العرب. . والحق سبحانه يقول: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} . . والله جل جلاله يخبرنا أنه غضب عليهم مرتين. الغضب الأول أنهم لم ينفذوا ما جاء في التوراة فغضب الله عليهم. . والغضب الثاني حين جاءهم رسول مذكور عندهم في التوراة ومطلوب منهم أن يؤمنوا به فكفروا به. . وكان المفروض أن يؤمنوا حتى يرضى الله عنهم. . ولذلك غضب الله عليهم مرة أخرى عندما كفروا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} . . العذاب في القرآن الكريم وُصِفَ بأنه أليم. . وَوُصِفَ بأنه عظيم وَوُصِفَ بأنه مهين. . أليم أي شديد الألم يصيب من يعذب بألم شديد. . ولكن لنفرض أن الذي يعذب يتجلد. . ويحاول ألا يظهر الألم حتى لا يشمت فيه الناس. . يأتيه الله بعذاب عظيم لا يقدر على احتماله. . ذلك أن عظمة العذاب تجعله لا يستطيع أن يحتمل. . فإذا كان الإنسان من الذين تزعموا الكفر في الدنيا. . ووقفوا أمام دين الله يحاربونه وتزعموا قومهم. . يأتيهم الله تبارك وتعالى بعذاب مهين. . ويكون هذا أكثر إيلاما للنفس من الألم. . تماما كما تأتي لرجل هو أقوى مَنْ في المنطقة يخافه الناس جميعا ثم تضربه بيدك وتسقطه على الأرض. . تكون في هذه الحالة قد أهنته أمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 الناس. . فلا يستطيع بعد ذلك أن يتجبر أو يتكبر على واحد منهم. . ويكون هذا أشد إيلاما للنفس من ألم العذاب نفسه ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} [مريم: 69 - 70] وقوله جل جلاله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] ذلك هو العذاب المهين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 يبين لنا الحق سبحانه وتعالى موقف اليهود. . من عدم الإيمان برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . مع أنهم أُومروا بذلك في التوراة. . فيقول جل جلاله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي إذا دعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يؤمنوا بالإسلام وأن يؤمنوا بالقرآن رفضوا ذلك {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أي نؤمن بالتوراة ونكفر بما وراءه، أي بما نزل بعده. ونحن نعرف أن الكفر هو الستر. . ولو أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء يناقض ما عندهم ربما قالوا: جاء ليهدم ديننا ولذلك نكفر به. . ولكنه جاء بالحق مصدقا لما معهم. إذن حين يكفرون بالقرآن يكفرون أيضا بالتوراة. . لأن القرآن يصدق ما جاء في التوراة. وهنا يقيم الله تبارك وتعالى عليهم الحجة البالغة. . إن كفركم هذا وسلوكك ضد كل نبي جاءكم. . ولو أنكم تستقبلون الإيمان حقيقة بصدر رحب. . فقولوا لنا لِمَ قتلتم أنبياء الله؟ . . ولذلك يقول الحق: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ} . . هل هناك في كتابكم التوراة أن تقتلوا أولياء الله. . كأن الحق سبحانه وتعالى قد أخذ الحجة من قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ} . . إذا كان هذا صحيحا وأنكم تؤمنون بما أنزل عليكم فهاتوا لنا مما أنزل إليكم وهي التوراة ما يبيح لكم قتل الأنبياء إن كنتم مؤمنين بالتوراة. . وطبعا لم يستطيعوا ردا لأنهم كفروا بما أنزل عليهم. . فهم كاذبون في قولهم نؤمن بما أنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 علينا. . لأن ما ينزل عليهم لم يأمرهم بقتل الأنبياء. . فكأنهم كفروا بما أنزل عليهم. . وكفروا بما أنزل على محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. والقرآن يأتينا بالحجة البالغة التي تخرس أفواه الكافرين وتؤكد أنهم عاجزون غير قادرين على الحجة في المناقشة. . وهنا لابد أن نتنبه إلى قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ} . . قوله تعالى: «من قبلُ» طمأنة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن قتلهم الأنبياء انتهى، وفي الوقت نفسه قضاء على آمال اليهود في أن يقتلوا محمدا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . والله يريد نزع الخوف من قلوب المؤمنين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن ما جرى للرسل السابقين من بني إسرائيل لن يجري على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . وبذلك قطع القرآن خط الرجعة على كل من يريد أذى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . لأن ذلك كان عهدا وانتهى. . وأنهم لو تآمروا على قتله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلن يفلحوا ولن يصلوا إلى هدفهم. واليهود بعد نزول هذه الآية الكريمة لم يتراجعوا عن تآمرهم ولن يكفوا عن بغيهم في قتل الرسل والأنبياء. . فحاولوا قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أكثر من مرة. . مرة وهو في حيهم ألقوا فوقه حجرا ولكن جبريل عليه السلام أنذره فتحرك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكانه قبل إلقاء الحجر. . ومرة دسوا له السم، ومحاولات أخرى فشلت كلها. إذن فقوله تعالى: «من قبل» معناها. . إن كنتم تفكرون في التخلص من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتله كما فعلتم في أنبيائكم نقل لكم: إنكم لن تستطيعوا أن تقتلوه. ولقد كانت هذه الآية كافية لإلقاء اليأس في نفوسهم حتى يكفوا عن أسلوبهم في قتل الأنبياء ولكنهم ظلوا في محاولاتهم، وفي الوقت نفسه كانت الآية تثبيتا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وللمؤمنين. بأن اليهود مهما تآمروا فلن يمكنهم الله من شيء. . وقوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} . . أي بما أنزل إليكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 بعد أن بين لنا الله سبحانه وتعالى رفضهم للإيمان بما أنزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . بحجة أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم فقط. . أوضح لنا أن هذه الحجة كاذبة وأنهم في طبيعتهم الكفر والإلحاد. . فقال سبحانه: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ موسى بالبينات} . . أي أن موسى عليه السلام أيده الله ببينات ومعجزات كثيرة كانت تكفي لتملأ قلوبكم بالإيمان وتجعلكم لا تعبدون إلا الله. . فلقد شق لكم البحر ومررتم فيه وأنتم تنظرون وترون. . أي أن المعجزة لم تكن غيبا عنكم بل حدثت أمامكم ورأيتموها. . ولكنكم بمجرد أن تجاوزتم البحر وذهب موسى للقاء الله. . بمجرد أن حدث ذلك اتخذتم العجل إلها من دون الله وعبدتموه. . فكيف تدعون أنكم آمنتم بما أنزل إليكم. . لو كنتم قد آمنتم به ما كنتم اتخذتم العجل إلهاً. والحق تبارك وتعالى يريد أن ينقض حجتهم في أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم. . ويرينا أنهم ما آمنوا حتى بما أنزل إليهم. . فجاء بحكاية قتل الأنبياء. . ولو أنهم كانوا مؤمنين حقا بما أنزل إليهم فليأتوا بما يبيح لهم قتل أنبيائهم ولكنهم كاذبون. . أما الحجة الثانية فهي إن كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم. . فقولوا لنا كيف وقد جاءكم موسى بالآيات الواضحة من العصا التي تحولت إلى حية واليد البيضاء من غير سوء والبحر الذي شققناه لكم لتنجوا من قوم فرعون. . والقتيل الذي أحياه لله أمامكم بعد أن ضربتموه ببعض البقرة التي ذبحتموها. . آيات كثيرة ولكن بمجرد أن ترككم موسى وذهب للقاء ربه عبدتم العجل. إذن فقولكم نؤمن بما أنزل إلينا غير صحيح. . فلا أنتم مؤمنون بما أنزل إليكم ولا أنتم مؤمنون بما أنزل من بعدكم. . وكل هذه حجج الهدف منها عدم الإيمان أصلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وقوله تعالى: {ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} . . واتخاذ العجل في ذاته ليس معصية إذا اتخذته للحرث أو للذبح لتأكل لحمه. . ولكن المعصية هي اتخاذ العجل معبودا. . وقوله تعالى: {اتخذتم العجل} . . أي أن ذلك أمر مشهود لم تعبدوا العجل سرا بل عبدتموه جهرا، ولذلك فهو أمر ليس محتاجا إلى شهود ولا إلى شهادة لأنه حدث علنا وأمام الناس كلهم. . وذكر حكاية العجل هذه ليشعروا بذنبهم في حق الله. . كأن يرتكب الإنسان خطأ ثم يمر عليه وقت. . وكلما أردنا أن نؤنبه ذكرناه بما فعل. . وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} . . أي ظالمون في إيمانكم. . ظالمون في حق الله بكفركم به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 بعد أن ذَكَّرهم الله سبحانه وتعالى بكفرهم بعبادتهم للعجل. . وكان هذا نوعا من التأنيب الشديد والتذكير بالكفر. . أراد أن يؤنبهم مرة أخرى وأن يُذَكِّرَهُم أنهم آمنوا خوفا من وقوع جبل الطور عليهم. . ولم يكن الجبل سيقع عليهم. . لأن الله لا يقهر أحدا على الإيمان. . ولكنهم بمجرد أن رأوا جبل الطور فوقهم آمنوا. . مثلهم كالطفل الذي وصف له الطبيب دواء مرا ليشفى. ولذلك فإن رَفْعَ الله سبحانه وتعالى لجبل الطور فوقهم ليأخذوا الميثاق والمنهج. . لا يقال إنه فعل ذلك إرغاما لكي يؤمنوا. . إنه إرغام المحب. . يريد الله من خلقه ألا يعيشوا بلا منهج سماوي فرفع فوقهم جبل الطور إظهارا لقوته وقدرته تبارك وتعالى حتى إذا استشعروا هذه القوة الهائلة وما يمكن أن تفعله لهم وبهم آمنوا. . فكأنهم حين أحسوا بقدرة الله آمنوا. . تماما كالطفل الصغير يفتح فمه لتناول الدواء المر وهو كاره. . ولكن هل أعطيته الدواء كرها فيه أو أعطيته له قمة في الحب والإشفاق عليه؟ الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى أنه لم يترك حيلة من الحيل حتى يتلقى بنو إسرائيل منهج الله الصحيح. . نقول إنه لم يترك حيلة إلا فعلها. . لكن غريزة الاستكبار والعناد منعتهم أن يستمروا على الإيمان. . تماما كما يقال للأب إن الدواء مر لم يحقق الشفاء وطفلك مريض. . فيقول وماذا افعل أكثر من ذلك أرغمته على شرب الدواء المر ولكنه لم يشف. وقول الله تعالى: «ميثاقكم» . هل الميثاق منهم أو هو ميثاق الله؟ . طبعا هو ميثاق الله. . ولكن الله جل جلاله خاطبهم بقوله: «ميثاقكم» لأنهم أصبحوا طرفا في العقد. . وماداموا قد أصبحوا طرفا أصبح ميثاقهم. . ولابد أن نؤمن أن رفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 جبل الطور فوق اليهود لم يكن لإجبارهم لأخذ الميثاق منهم حتى لا يقال أنهم أجبروا على ذلك. . هم اتبعوا موسى قبل أن يرفع فوقهم جبل الطور. . فلابد أنهم أخذوا منهجه باختيارهم وطبقوه باختيارهم لأن الله سبحانه وتعالى لم يبق الطور مرفوعا فوق رءوسهم أينما كانوا طوال حياتهم حتى يقال أنهم أجبروا. . فلو أنهم أجبروا لحظة وجود جبل الطور فوقهم. . فإنهم بعد أن انتهت هذه المعجزة لم يكن هناك ما يجبرهم على تطبيق المنهج. . ولكن المسألة أن الله تبارك وتعالى. . حينما يرى من عباده مخالفة فإنه قد يخيفهم. . وقد يأخذهم بالعذاب الأصغر علهم يعودون إلى إيمانهم. . وهذا يأتي من حب الله لعباده لأنه يريدهم مؤمنين. . ولكن اليهود قوم ماديون لا يؤمنون إلا بالمادة والله تبارك وتعالى أراد أن يريهم آية مادية على قلوبهم تخشع وتعود إلى ذكر الله. . وليس في هذا إجبار لأنه كما قلنا إنه عندما انتهت المعجزة كان يمكنهم أن يعودوا إلى المعصية. . ولكنها آية تدفع إلى الإيمان. . وقوله تعالى: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} لأن ما يؤخذ بقوة يعطى بقوة. . والأخذ بقوة يدل على عشق الآخذ للمأخوذ. . وما دام المؤمن يعشق المنهج فإنه سيؤدي مطلوباته بقوة. . فالإنسان دائما عندما يأخذ شيئا لا يحبه فإنه يأخذه بفتور وتهاون. قوله تعالى: {واسمعوا قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} . . القول هو عمل اللسان والفعل للجوارح كلها ما عدا اللسان. . هناك قول وفعل وعمل. . القول أن تنطق بلسانك والفعل أن تقوم جوارحك بالتنفيذ. . والعمل أن يطابق القول الفعل. . هم: {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} هم سمعوا ما قاله لهم الله سبحانه وتعالى وعصوه. . ولكن (عصينا) على أي شيء معطوفة؟ . . إنها ليست معطوفة على «سمعنا» . . ولكنها معطوفة على (قالوا) . . قالوا سمعنا في القول وفي الفعل عصينا. . وليس معنى ذلك أنهم قالوا بلسانهم عصينا في الفعل. . فالمشكلة جاءت من عطف عصينا على سمعنا. . فتحسب أنهم قالوا الكلمتين. . لا. . هم قالوا سمعنا ولكنهم لم ينفذوا فلم يفعلوا. والله سبحانه وتعالى يريدهم أن يسمعوا سماع طاعة لا سماع تجرد أي مجرد سماع. . ولكنهم سمعوا ولم يفعلوا شيئا فكأن عدم فعلهم معصية. قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} . الحق تبارك وتعالى يريد أن يصور لنا ماديتهم. . فالحب أمر معنوي وليس أمراً ماديّاً لأنه غير محسوس. . وكان التعبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 يقتضي أن يقال وأشربوا حب العجل. . ولكن الذي يتكلم هو الله. . يريد أن يعطينا الصورة الواضحة الكاملة في أنهم أشربوا العجل ذاته أي دخل العجل إلى قلوبهم. لكن كيف يمكن أن يدخل العجل في هذا الحيز الضيق وهو القلب. . الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى الشيوع في كل شيء بكلمة أُشْرِبُوا. . لأنها وصف لشرب الماء والماء يتغلغل في كل الجسم. . والصورة تعرب عن تغلغل المادية في قلوب بني إسرائيل حتى كأن العجل دخل في قلوبهم وتغلغل كما يدخل الماء في الجسم مع أن القلب لا تدخله الماديات. ويقول الحق جل جلاله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ} . . كأن الكفر هو الذي أسقاهم العجل. . هم كفروا أولا. . وبكفرهم دخل العجل إلى قلوبهم وختم عليها. . وقوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} . . هم قالوا نؤمن بما أنزل علينا ولا نؤمن بما جاء بعده. . قل هل إيمانكم يأمركم بهذا؟ . . وهذا أسلوب تهكم من القرآن الكريم عليهم. . مثل قوله تعالى: {أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] هل الطهر والطهارة مبرر لإخراج آل لوط من القرية؟ . . طبعا لا. . ولكنه أسلوب تهكم واستنكار. . والحق أن إيمانهم بهذا بل يأمرهم بالإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 156 - 157] هذا هو ما يأمرهم به إيمانهم. . أن يؤمنوا بالنبي الأمي محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . والله تبارك وتعالى يعلم ما يأمرهم به الإيمان لأنه منه جل جلاله. . ولذلك عندما يحاولون خداع الله. . يتهكم الله سبحانه وتعالى عليهم ويقول لهم: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} . وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} دليل على أنهم ليسوا مؤمنين. . ولكن لازال في قلوبهم الشرك والكفر أو العجل الذي عبدوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 والله سبحانه وتعالى يريد أن يفضح اليهود. . ويبين إن إيمانهم غير صحيح وأنهم عدلوا وبدلوا واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. . وهو سبحانه يريدنا أن نعرف أن هؤلاء اليهود. . لم يفعلوا ذلك عن جهل ولا هم خُدعوا بل هم يعملون أنهم غيروا وبدلوا. . ويعرفون أنهم جاءوا بكلام ونسبوه إلى الله سبحانه وتعالى زورا وبهتانا. . ولذلك يطلب من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يفضحهم أمام الناس ويبين كذبهم بالدليل القاطع. . فيقول: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة} : «قل» موجهة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي قل لهم يا محمد. . ولا يقال هذا الكلام إلا إذا كان اليهود قالوا إن لهم: «الدار الآخرة عند الله خالصة» . الشيء الخالص هو الصافي بلا معكر أو شريك. أي الشيء الذي لك بمفردك لا يشاركك فيه أحد ولا ينازعك فيه أحد. . فالله سبحانه وتعالى يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن كانت الآخرة لهم وحدهم عند الله لا يشاركهم فيها أحد. . فكان الواجب عليهم أن يتمنوا الموت ليذهبوا إلى نعيم خالد. . فمادامت لهم الدار الآخرة وماداموا موقنين من دخول الجنة وحدهم. . فما الذي يجعلهم يبقون في الدنيا. . أَلاَ يتمنون الموت كما تمنى المسلمون الشهادة ليدخلوا الجنة. . وليست هذه هي الافتراءات الوحيدة من اليهود على الله سبحانه وتعالى. . واقرأ قوله جل جلاله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] من الذي قال؟ اليهود قالوا عن أنفسهم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 والنصارى قالوا عن أنفسهم لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا. . كل منهم قال عن نفسه إن الجنة خاصة به. ولقد شكل قولهم هذا لنا لغزا في العقائد. . من الذي سيدخل الجنة وحده. . اليهود أم النصارى؟ نقول: إن الله سبحانه وتعالى أجاب عن هذا السؤال بقوله جل جلاله: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113] وهذا أصدق قول قالته اليهود وقالته النصارى بعضهم لبعض. فاليهود ليسوا على شيء والنصارى ليسوا على شيء. . وكلاهما صادق في مقولته عن الآخر. . في الآية الكريمة التي نحن بصددها. . اليهود قالوا إن الدار الآخرة خالصة لهم. . سنصدقهم ونقول لهم لماذا لا يتعجلون ويتمنون الموت. . فالمفروض أنهم يشتاقون للآخرة مادامت خالصة لهم. . ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . . ولكنها أمانٍ كاذبة عند اليهود وعند النصارى. . واقرأ قوله سبحانه: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير} [المائدة: 18] إذن هم يتوهمون أنهم مهما فعلوا من ذنوب فإن الله لن يعذبهم يوم القيامة. . ولكن عدل الله يأبى ذلك. . كيف يعذب بشرا بذنوبهم ثم لا يعذب اليهود بما اقترفوا من ذنوب. . بل يدخلهم الجنة في الآخرة. . وكيف يجعل الله سبحانه وتعالى الجنة في الآخرة لليهود وحدهم. . وهو قد كتب رحمته لأتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين برسالة الإسلام. . وأبلغ اليهود والنصارى بذلك في كتبهم. . واقرأ قوله سبحانه وتعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 156 - 157] إذا كانت هذه هي الحقيقة الموجودة في كتبهم. . والحق تبارك وتعالى يقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [آل عمران: 85] فكيف يَدَّعِي اليهود أن الدار الآخرة خالصة لهم يوم القيامة؟ ولكن الحق جل جلاله يفضح كذبهم ويؤكد لنا أن ما يقولونه هم أول من يعرف إنه كذب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 إنهم لن يتمنوا الموت أبدا بل يخافوه. . والله تبارك وتعالى حين أنزل هذه الآية. . وضع قضية الإيمان كله في يد اليهود. . بحيث يستطيعون إن أرادوا أن يشككوا في هذا الدين. . كيف؟ ألم يكن من الممكن عندما نزلت هذه الآية أن يأتي عدد من اليهود ويقولوا ليتنا نموت. . نحن نتمنى الموت يا محمد. فادع لنا ربك يميتنا. . ألم يكن من الممكن أن يقولوا هذا؟ ولو نفاقا. . وَلو رياءً ليهدموا هذا الدين. . ولكن حتى هذه لم يقولوها ولم تخطر على بالهم. . أنظر إلى الإعجاز القرآني في قوله سبحانه: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} . لقد حكم الله سبحانه حكما نهائيا في أمر إختياري لعدو يعادي الإسلام. . وقال إن هذا العدو وهم اليهود لن يتمنوا الموت. . وكان من الممكن أن يفطنوا لهذا التحدي. . ويقولوا بل نحن نتمنى الموت ونطلبه من الله. . ولكن حتى هذه لم تخطر على بالهم؛ لأن الله تبارك وتعالى إذا حكم في أمر اختياري فهو يسلب من أعداء الدين تلك الخواطر التي يمكن أن يستخدموها في هدم الدين. . فلا تخطر على بالهم أبدا مثلما تحداهم الله سبحانه من قبل في قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] ولقد نزلت هذه الآية الكريمة قبل أن يقولوا. . بدليل إستخدام حرف السين في قوله: «سيقولُ» . . ووصفهم الله جل جلاله بالسفهاء. . ومع ذلك فقد قالوا. . ولو أن عقولهم تنبهت لسكتوا ولم يقولوا شيئا. . وكان في ذلك تحدٍ للقرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الكريم. . كانوا سيقولون لقد قال الله سبحانه وتعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} . . ولكن أحدا لم يقل شيئا فأين هم هؤلاء السفهاء ولماذا لم يقولوا؟ وكان هذا يعتبر تحديا للقرآن الكريم في أمر يملكون فيه حرية الاختيار. . ولكن لأن الله هو القائل والله هو الفاعل. . لم يخطر ذلك على بالهم أبدا، وقالوا بالفعل. في الآية الكريمة التي نحن بصددها. . تحداهم القرآن أن يتمنوا الموت ولم يتمنوه. . وكان الكلام المنطقي مادامت الدار الآخرة خالصة لهم. . والله تحداهم أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين لتمنوه. . ليذهبوا إلى نعيم أبدي. . ولكن الحق حكم مسبقا أن ذلك لن يحدث منهم. . لماذا؟ لأنهم كاذبون ويعلمون أنهم كاذبون. . لذلك فهم يهربون من الموت ولا يتمنونه. انظروا مثلا إلى العشرة المبشرين بالجنة. . عمار بن ياسر في الحرب في حنين. . كان ينشد وهو يستشهد الآن ألقى الأحبة محمدا وصحبه. . كان سعيداً لأنه أصيب وكان يعرف وهو يستشهد أنه ذاهب إلى الجنة عند محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحابته. . هكذا تكون الثقة في الجزاء والبشرى بالجنة. . وعبد الله بن رواحة كان يحارب وهو ينشد ويقول: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد وشرابها والإمام علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يدخل معركة حنين ويرتدي غلالة ليس لها دروع. . لا ترد سهما ولا طعنة رمح. . حتى إن إبنه الحسن يقول له: يا أبي ليست هذه لباس حرب. . فيرد علي كرم الله وجهه: يا بني إن أباك لا يبالي أسقط على الموت أم سقط الموت عليه. . وسيدنا حذيفة بن اليمان ينشد وهو يحتضر. . حبيب جاء على ناقة لا ربح من ندم. . إذن الذين يثقون بآخرتهم يحبون الموت. وفي غزوة بدر سأل أحد الصحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . يا رسول الله أليس بيني وبين الجنة إلا أن أقاتل هؤلاء فيقتلوني. . فيجيب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نعم. . وكان في يد الصحابي تمرات يمضغها. . فيستبطئ أن يبقى بعيدا عن الجنة حتى يأكل التمرات فيلقيها من يده ويدخل المعركة ويستشهد. هؤلاء هم الذين يثقون بما عند الله في الآخرة. . ولكن اليهود عندما تحداهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 القرآن الكريم بقوله لهم: {فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . . سكنوا ولم يجيبوا. . ولو تمنوا الموت لانقطع نفس الواحد منهم وهو يبلع ريقه فماتوا جميعا. . قد يقول قائل وهل التمني باللسان؟ ربما تمنوا بالقلب. . نقول ما هو التمني؟ نقول إن التمني هو أن تقول لشيء محبوب عندك ليته يحدث. فهو قول. . وهب أنه عمل قلبي فلو أنهم تمنوا بقلوبهم لأطلع الله عليها وأماتهم في الحال. . ولكن مادام الحق تبارك وتعالى قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} . . فهم لن يتمنوه سواء كان باللسان أو بالقلب. . لأن الإدعاء منهم بأن لهم الجنة عند الله خالصة أشبه بقولهم الذي يرويه لنا القرآن في قوله سبحانه: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80] وقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} . . أي أن أعمالهم السيئة تجعلهم يخافون الموت. . أما صاحب الأعمال الصالحة فهو يسعد بالموت. . ولذلك نسمع أن فلانا حين مات كان وجهه أشبه بالبدر لأن عمله صالح. . فساعة الموت يعرف فيها الإنسان يقينا أنه ميت. . فالإنسان إذا مرض يأمل في الشفاء ويستبعد الموت. . ولكن ساعة الغرغرة يتأكد الإنسان أنه ميت ويستعرض حياته في شريط عاجل. . فإن كان عمله صالحا تنبسط أساريره ويفرح لأنه سينعم في الآخرة نعيما خالدا. . لأنه في هذه الساعة والروح تغادر الجسد يعرف الإنسان مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار. . وتتسلمه إما ملائكة الرحمة وإما ملائكة العذاب. . فالذي أطاع الله يستبشر بملائكة الرحمة. . والذي عصى وفعل ما يغضب الله يستعرض شريط أعماله. . فيجده شريط سوء وهو مقبل على الله. . وليست هناك فرصة للتوبة أو لتغيير أعماله. . عندما يرى مصيره إلى النار تنقبض أساريره وتقبض روحه على هذه الهيئة. . فيقال فلان مات وهو أسود الوجه منقبض الأسارير. إذن فالذي أساء في دنياه لا يتمنى الموت أبدا. . أما صاحب العمل الصالح فإنه يستبشر بلقاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهى عن تمني الموت فقال: «لاَ يَتَمَنَّينَّ أحدُكم الموتَ ولا يدعو به من قَبلِ أن يَأْتِيَه إلا أن يكون قد وَثِقَ بعملِه» نقول إن تمني الموت المنهي عنه هو تمني اليأس وتمني الاحتجاج على المصائب. . يعني يتمنى الموت لأنه لا يستطيع أن يتحمل قدر الله في مصيبة حدثت له. . أو يتمناه احتجاجا على أقدار الله في حياته. . هذا هو تمني الموت المنهي عنه. . أما صاحب العمل الصالح فمستحب له أن يتمنى لقاء الله. . وإقرأ قوله تعالى في آخر سورة يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [يوسف: 101] وقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أي لا تتمنوا الموت جزعا مما يصيبكم من قدر الله. . ولكن إصبروا على قدر الله. . وقوله تعالى: {والله عَلِيمٌ بالظالمين} . . لأن الله عليم بظلمهم ومعصيتهم. . هذا الظلم والمعصية هو الذي يجعلهم يخافون الموت ولا يتمنونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الحق سبحانه وتعالى بعد أن فضح كذبهم. . في أنهم لا يمكن أن يتمنوا الموت لأنهم ظالمون. . وماداموا ظالمين فالموت أمر مخيف بالنسبة لهم. . وهم أحرص الناس على الحياة. . حتى إن حرصهم يفوق حرص الذين أشركوا. . فالمشرك حريص على الحياة لأنه يعتقد أن الدنيا هي الغاية. . واليهود أشد حرصا على الحياة من المشركين لأنهم يخافون الموت لسوء أعمالهم السابقة. . لذلك كلما طالت حياتهم ظنوا أنهم بعيدون عن عذاب الآخرةِ. . الحياة لا تجعلهم يواجهون العذاب ولذلك فهم يفرحون بها. إن اليهود لا يبالون أن يعيشوا في ذلة أو في مسكنة. . أو أي نوع من أنواع الحياة. . المهم أنهم يعيشون في أي حياة. . ولكن لماذا هم حريصون على الحياة أكثر من المشركين؟ لأن المشرك لا آخرة له فالدنيا هي كل همه وكل حياته. . لذلك يتمنى أن تطول حياته بأي ثمن وبأي شكل. . لأنه يعتقد أن بعد ذلك لا شيء. . ولا يعرف أن بعد ذلك العذاب. . واليهود أحرص من المشركين على حياتهم. وقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} . . الود هو الحب. . أي أنهم يحبون أن يعيشوا ألف سنة أو أكثر. . ولكن هب أنه عاش ألف سنة أو حتى أكثر من ذلك. . أيزحزحه هذا عن العذاب؟ لا. . طول العمر لا يغير النهاية. فمادامت النهاية هي الموت يتساوى من عاش سنوات قليلة ومن عاش ألوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 السنين. . قوله تعالى: «يعمر» بفتح العين وتشديد الميم يقال عنها إنها مبنية للمجهول دائما. . ولا ينفع أن يقال يعمر بكسر الميم. . فالعمر ليس بيد أحد ولكنه بيد الله. . فالله هو الذي يعطي العمر وهو الذي ينهيه. . وبما أن العمر ليس ملكا لإنسان فهو مبني للمجهول. . والعمر هو السن الذي يقطعه الإنسان بين ميلاده ووفاته. . ومادة الكلمة مأخوذة من العمار لأن الجسد تعمره الحياة. وعندما تنتهي يصبح الجسد أشلاء وخرابا. . قوله تعالى: «ألف سنة» . . لماذا ذكرت الألف؟ لأنها هي نهاية ما كان العرب يعرفونه من الحساب. ولذلك فإن الرجل الذي أسر في الحرب أخت كسرى فقالت كم تأخذ وتتركني؟ قال ألف درهم. . قالوا له بكم فديتها؟ قال بألف. . قالوا لو طلبت أكثر من ألف لكانوا أعطوك. . قال والله لو عرفت شيئا فوق الألف لقلته. . فالألف كانت نهاية العدد عند العرب. . ولذلك كانوا يقولون ألف ألف ولم يقولوا مليونا. . وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ} . . معناها أنه لو عاش ألف سنة أو أكثر فلن يهرب من العذاب. وقوله تعالى: {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} . . أي يعرف ما يعملونه وسيعذبهم به سواء عاشوا ألف سنة أو أكثر أو أقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الله تبارك وتعالى أراد أن يلفتنا إلى أن اليهود لم يقتلوا الأنبياء ويحرفوا التوراة ويشتروا بآيات الله جاه الدنيا فقط. . ولكنهم عادوا الملائكة أيضا. . بل إنهم أضمروا العداوة لأقرب الملائكة إلى الله الذي نزل بوحي القرآن وهو جبريل عليه السلام. . وأنهم قالوا جبريل عدو لنا. الخطاب هنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ولقد جلس ابن جوريا أحد أحبار اليهود مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال له من الذي ينزل عليك بالوحي؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جبريل. . فقال اليهودي لو كان غيره لآمنا بك. . جبريل عدونا لأنه ينزل دائما بالخسف والعذاب. . ولكن ميكائيل ينزل بالرحمة والغيث والخصب. . وأيضا هو عدوهم لأنهم اعتقدوا أن بيت المقدس سيخربه رجل اسمه بختنصر، فأرسل اليهود إليه من يقتله. . فلقى اليهودي غلاما صغيرا وسأله الغلام ماذا تريد؟ قال إني أريد أن أقتل بختنصر لأنه عندنا في التوراة هو الذي سيخرب بيت المقدس. . فقال الغلام إن يكن مقدرا أن يخرب هذا الرجل بيت المقدس فلن تقدر عليه. . لأن المقدر نافذ سواء رضينا أم لم نرضى. . وإن لم يكن مقدرا فلماذا تقتله؟ أي أن الطفل قال له إذا كان الله قد قضى في الكتاب أن بختنصر سيخرب بيت المقدس. . فلا أحد يستطيع أن يمنع قضاء الله. . ولن تقدر عليه لتقتله وتمنع تخريب بيت المقدس على يديه. . وإن كان هذا غير صحيح فلماذا تقتل نفسا بغير ذنب. . فعاد اليهودي دون أن يقتل بختنصر. . وعندما رجع إلى قومه قالوا له إن جبريل هو الذي تمثل لك في صورة طفل وأقنعك ألا تقتل هذا الرجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ويروى أن سيدنا عمر بن الخطاب كان له أرض في أعلى المدينة. . وكان حين يذهب إليها يمر على مدارس اليهود ويجلس إليهم. . وظن اليهود أن مجلس عمر معهم إنما يعبر عن حبه لهم. . فقالوا له إننا نحبك ونحترمك ونطمع فيك. . ففهم عمر مرادهم فقال والله ما جالستكم حبا فيكم. . ولكني أحببت أن أزداد تصورا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأعلم عنه ما في كتابكم. . فقالوا له ومن يخبر محمدا بأخبارنا وأسرارنا؟ فقال عمر إنه جبريل ينزل عليه من السماء بأخباركم. . قالوا هو عدونا. . فقال عمر كيف منزلته من الله؟ قالوا إنه يجلس عن يمين الله وميكائيل يجلس على يسار الله. . فقال عمر مادام الأمر كما قلتم فليس أحدهما عدواً للآخر لأنهما عند الله في منزلة واحدة. . فمن كان عدواً لأحدهما فهو عدو لله. . فلن تشفع لكم عداوتكم لجبريل ومحبتكم لميكائيل لأن منزلتهما عند الله عالية. إن عداوتهم لجبريل عليه السلام تؤكد ماديتهم. . فهم يقيسون الأمر على البشر. . إن الذي يجلس على يمين السيد ومن يجلس على يساره يتنافسان على المنزلة عنده. . ولكن هذا في دنيا البشر. . ولكن عند الملائكة لا شيء من هذا. . الله عنده ما يجعله يعطي لمن يريد المنزلة العالية دون أن ينقص من الآخر. . ثم إن الله سبحانه وتعالى اسمه الحق. . وما ينزل به جبريل حق وما ينزل به ميكائيل حق. . والحق لا يخاصم الحق. . وقال لهم عمر أنتم أشدّ كفرا من الحمير. . ثم ذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يكد الرسول يراه حتى قال له وافقك ربك يا عمر. . وتنزل قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} فقال عمر يا رسول الله. . إني بعد ذلك في إيماني لأصلب من الجبل. إذن فقولهم ميكائيل حبيبنا وجبريل عدونا من الماديات، والله تبارك وتعالى يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . إنهم يُعَادُون جبريل لأنه نزل على قلبك بإذن الله. . ومادام نزل من عند الله على قلبك. . فلا شأن لهم بهذا. . وهو مصدق لما بين يديهم من التوراة. . وهو هدى وبشرى للمؤمنين. . فأي عنصر من هذه العناصر تنكرونه على جبريل. . إن عداوتكم لجبريل عداوة لله سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وهكذا أعطى الله سبحانه وتعالى الحُكْم. . فقال إن العداوة للرسل. . مثل العداوة للملائكة. . مثل العداوة لجبريل وميكائيل. . مثل العداوة لله. ولقد جاء الحق سبحانه وتعالى بالملائكة ككل. . ثم ذكر جبريل وميكائيل بالاسم. إن المسألة ليست مجزأة ولكنها قضية واحدة. . فمن كان عدوا للملائكة وجبريل وميكائيل ورسل الله. . فهو أولا وأخيرا عدو لله. . لأنه لا انقسام بينهم فكلهم دائرون حول الحق. . والحق الواحد لا عدوان فيه. . وإنما العدوان ينشأ من تصادم الأهواء والشهوات. وهذا يحدث في أمور الدنيا. والآية الكريمة أثبتت وحدة الحق بين الله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل. . ومن يعادي واحدا من هؤلاء يعاديهم جميعا وهو عدو الله سبحانه. . واليهود أعداء الله لأنهم كفروا به. . وأعداء الرسل لأنهم كذبوهم وقتلوا بعضهم. وهكذا فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى وحدة الحق في الدين. . مصدره هو الله جل جلاله. . ورسوله من الملائكة هو جبريل. . ورسله من البشر هم الرسل والأنبياء الذين بعثهم الله. . وميكائيل ينزل بالخير والخصب لأن الإيمان أصل وجود الحياة. . فمن كان عدوا للملائكة والرسل وجبريل وميكائيل فهو كافر. . لأن الآية لم تقل إن العداوة لهؤلاء هي مجرد عداوة. . وإنما حَكَمَ الله عليهم بأنهم كافرون. . الله سبحانه وتعالى لم يخبر محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذا الحكم فقط، وإنما أمره بأن يعلنه حتى يعرفه الناس جميعا ويعرفوا أن اليهود كافرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 إنتقل الله سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى تأكيد صدق رسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . وأن الآيات فيها واضحة بحيث إِن كل إنسان يعقل ويريد الإيمان يؤمن بها. . ولكن الذين يريدون الفسق والفجور. . هم هؤلاء الذين لا يؤمنون. . ما معنى الآيات البينات؟ إن الآية هي الأمر العجيب. . وهو عجيب لأنه معجز. . والآيات معجزات للرسول تدل على صدق بلاغه عن الله. . وهي كذلك الآيات في القرآن الكريم. . وبينات معناها أنها أمور واضحة لا يختلف عليها ولا تحتاج إلى بيان: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون} . . والفسق هو الخروج عن الطاعة وهي مأخوذة من الرطبة. . البلح قبل أن يصبح رطبا لا تستطيع أن تنزع قشرته ولكن عندما يصبح رطبة تجد أن القشرة تبتعد عن الثمرة فيقال فسقت الرطبة. . ولذلك من يخرج عن منهج الله يقال له فاسق. والمعنى أن الآيات التي أيد بها اللهُ سبحانه وتعالى محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ظاهرة أمام الكفار ليست محتاجة إلى دليل. . فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي لم يقرأ كلمة في حياته. . يأتي بهذا القرآن المعجز لفظا ومعنى. . هذه معجزة ظاهرة لا تحتاج إلى دليل. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي لا تغريه الدنيا كلها. . ليترك هذا الدين مهما أعطوه. . دليل على أنه صاحب مبدأ ورسالة من السماء. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي يخبر بقرآن موحى من السماء عن نتيجة حرب ستقع بعد تسع سنوات. . ويخبر الكفار والمنافقين بما في قلوبهم ويفضحهم. . ويتنبأ بأحداث قادمة وبقوانين الكون. . وغير ذلك مما احتواه القرآن المعجز من كل أنواع الإعجاز علميا وفلكيا وكونيا. . كل هذه آيات بينات يتحدى القرآن بها الكفار. . كلها آيات واضحة لا يمكن أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 يكفر بها إلا الذي يريد أن يخرج عن منهج الله، ويفعل ما تهواه نفسه. . إن الإعجاز في الكون وفي القرآن وفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . كل هذا لا يحتاج إلا لمجرد فكر محايد. . لنعرف أن هذا القرآن هو من عند الله مليء بالمعجزات لغة وعلما. . وإنه سيظل معجزة لكل جيل له عطاء جديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى أن الدين الإسلامي، وكتابه القرآن فيه من الآيات الواضحة ما يجعل الإيمان به لا يحتاج إلا إلى وقفة مع العقل مما يجعل موقف العداء الذي يقفه اليهود من الإسلام منافيا لكل العهود التي أخذت عليهم، منافيا للإيمان الفطري، ومنافيا لأنهم عاهدوا الله ألا يكتموا ما جاء في التوراة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومنافيا لعهدهم أن يؤمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومنافيا لما طلب منهم موسى أن يؤمنوا بالإسلام عندما يأتي الرسول، مصداقا لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] وهكذا نعرف أن موسى عليه السلام الذي أُخذ عليه الميثاق قد أبلغه إلى بني إسرائيل، وأن بني إسرائيل كانوا يعرفون هذا الميثاق جيداً عند بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكانت عندهم أوصاف دقيقة للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . ولكنهم نقضوه كما نقضوا كثيرا من المواثيق. . منها عهدهم بعدم العمل في السبت، وكيف تحايلوا على أمر الله بأن صنعوا مصايد للأسماك تدخل فيها ولا تستطيع الخروج وهذا تحايل على أمر الله، ثم كان ميثاقهم في الإيمان بالله إلها واحداً أحدا، ثم عبدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 العجل. . وكان قولهم لموسى عليه السلام بعد أن أمرهم الله بدخول واد فيه زرع. . لأنهم أرادوا أن يأكلوا من نبات الأرض بدلا من المن والسلوى التي كانت تأتيهم من السماء. . قالوا لموسى: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . . وغير ذلك الكثير من المواثيق بالنسبة للحرب والأسرى والعبادة، حتى عندما رفع الله تبارك وتعالى جبل الطور فوقهم ودخل في قلوبهم الرعب وظنوا أنه واقع عليهم، ولم يكن هذا إلا ظنا وليس حقيقة. . لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} . . وبمجرد ابتعادهم عن جبل الطور نقضوا الميثاق. ثم نقضوا عهدهم وميثاقهم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما هاجر إلى المدينة وذلك في غزوة الخندق. . وعندما أرادوا أن يفتحوا طريقا للكفار ليضربوا جيوش المؤمنين من الخلف. قوله تعالى {نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} قلنا إن هذا يسمى قانون صيانة الاحتمال. . لأن منهم من صان المواثيق. . ومنهم من صدق ما عهد الله عليه. . ومنهم مثلا من كان يريد أن يعتنق الدين الجديد ويؤمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. إذن فليسوا كلهم حتى لا يقال هذا على مطلق اليهود. . لأن فيهم أناسا لم ينقضوا العهد. . ويريد الله تبارك وتعالى أن يفتح الباب أمام أولئك الذين يريدون الإيمان، حتى لا يقولوا لقد حكم الله علينا حكما مطلقا ونحن نريد أن نؤمن ونحافظ على العهد، ولكن هؤلاء الذين حافظوا على العهد كانوا قلة. . ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} . . أي أن الفريق الناقض للعهد. . الناقض للإيمان هم الأكثرية من بني إسرائيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 بعد أن تحدث الله سبحانه وتعالى عن اليهود الذين نقضوا المواثيق الخاصة بالإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونقضوها وهم يعلمون. . قال الله سبحانه: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} . . أي أن ما جاء في القرآن مصدق لما جاء في التوراة. . لأن القرآن من عند الله والتوراة من عند الله. . ولكن التوراة حرفوها وكتموا بعضها وغيروا وبدلوا فيها فأخفوا ما يريدون إخفاءه. . لذلك جاء القرآن الكريم ليظهر ما أخفوه ويؤكد ما لم يخفوه ولم يتلاعبوا فيه. وقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} . . قلنا إن هناك كتابا نبذوه أولا وهو التوراة. . ولما جاءهم الكتاب الخاتم وهو القرآن الكريم نبذوه هو الآخر وراء ظهورهم. . ما معنى نبذه؟ . . المعنى طرحه بعيدا عنه. . إذن ما في كتابهم من صفات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نبذوه بعيدا. . ومن التبشير بمجيء رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ نبذوه هو الآخر. . لأنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا ويقولون أتى زمن نبي سنؤمن به ونقتلكم قتل عاد وإرم. وقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ} . . يعني نبذ جماعة وبقيت جماعة أخرى لم تنبذ الكتاب. . بدليل أن ابن سلام وهو أحد أحبار اليهود صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآمن به. . وكعب الأحبار مخيريق أسلم. . فلو أن القرآن عمم ولم يقل فريق لقيل إنه غير منصف لهؤلاء الذين آمنوا. وقوله تعالى: {وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} . . النبذ قد يكون أمامك. . وكونه أمامك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فأنت تراه دائما، وربما يغريك بالإقبال عليه، ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم أي جعلوه وراءهم حتى ينسوه تماما ولا يلتفتوا إليه. وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} . . أي يتظاهرون بأنهم لا يعلمون ببشارة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأوصافه. . وقوله تعالى: «كأنهم» . . دليل على أنهم يعلمون ذلك علم يقين. . لأنهم لو كانوا لا يعلمون. . لقال الحق سبحانه: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} وهم لا يعلمون. . إذن هم يعلمون يقينا ولكنهم تظاهروا بعدم العلم. . ولابد أن نتنبه إلى أن نبذ يمكن أن يأتي مقابلها فنقول نبذ كذا واتبع كذا. . وهم نبذوا كتاب الله ولكن ماذا اتبعوا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 يخبرنا الحق تبارك وتعالى أن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين. . لأن النبذ يقابله الإتباع. . واتبعوا يعني اقتدوا وجعلوا طريقهم في الاهتداء هو ما تتلوه الشياطين على ملك سليمان. . وكان السياق يقتضي أن يقال ما تلته الشياطين على ملك سليمان. . ولكن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم أن هذا الاتباع مستمر حتى الآن كأنهم لم يحددوا المسألة بزمن معين. إنه حتى هذه اللحظة هناك من اليهود من يتبع ما تلته الشياطين على ملك سليمان، ونظرا لأن المعاصرين من اليهود قد رضوا وأخذوا من فعل أسلافهم الذين اتبعوا الشياطين فكأنهم فعلوا. الحق سبحانه يقول: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} ولكن الشياطين تلت وانتهت. . واستحضار اليهود لما كانت تتلوه الشياطين حتى الآن دليل على أنهم يؤمنون به ويصدقونه. . الشياطين هم العصاة من الجن. . والجن فيهم العاصون والطائعون والمؤمنون. . وإقرأ قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} [الجن: 11] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 وقوله سبحانه عن الجن: {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} [الجن: 14] إذن الجن فيهم المؤمن والكافر. . والمؤمنون من الجن فيهم الطائع والعاصي. . والشياطين هم مردةُ الجنِ المتمردون على منهج الله. . وكل متمرد على منهج الله نسميه شيطانا. . سواء كان من الجن أو من الإنس. . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} [الأنعام: 112] إذن فالشياطين هم المتمردون على منهج الله. . قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . . يعني ما كانت تتلو الشياطين أيام ملك سليمان. . ولكن ما هي قصة ملك سليمان والشياطين؟ . . الشياطين كانوا قبل مجيء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان الله قد مكنهم من قدرة الاستماع إلى أوامر السماء وهي نازلة إلى الأرض. . وكانوا يستمعون للأوامر تلقى من الملائكةِ وينقلونها إلى أئمة الكفر ويزيدون عليها بعض الأكاذيب والخرافات. . فبعضها يكون على حق والأكثر على باطل. . ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] وكان الشياطين قبل نزول القرآن يستقرون السمع، ولكن عند بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إمتنع ذلك كله، حتى لا يضع الشياطين خرافاتهم في منهج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو في القرآن. . ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} [الجن: 9] أي أن الشياطين كانت لها مقاعد في السماء تقعد فيها لتستمع إلى ما ينزل من السماء إلى الأرض ليتم تنفيذه. . ولكن عند نزول القرآن أرسل الله سبحانه وتعالى الشهب وهي النجوم المحترقة فعندما تحاول الشياطين الاستماع إلى ما ينزل من السماء ينزل عليهم شهاب يحرقهم. . ولذلك فإن عامة الناس حين يرون شهابا يحترق في السماء بسرعة يقولون: سهم الله في عدو الدين. . كأن المسألة في أذهان الناس وجعلتهم يقولون: سهم الله في عدو الدين. . الذي هو الشيطان. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن: 8] {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10] أي أن الأمر اختلط على الشياطين لأنهم لم يعودوا يستطيعون استراق السمع. . ولذلك لم يعرفوا هل الذي ينزل من السماء خير أو شر؟ . . أنظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء} . . كأنهم صعدوا حتى بلغوا السماء لدرجة أنها أصبحت قريبة لهم حتى كادوا يلمسونها. . فالله تبارك وتعالى في هذه الحالة وهي اتباع اليهود لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والتعاويذ والأشياء التي تضر ولا تفيد أراد أن يبرئ سليمان من هذا كله. . فقال جل جلاله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} . . وكان المنطق يقتضي أن يخص الله سبحانه وتعالى حكاية الشياطين قبل أن يبرئ سليمان من الكفر الذي أرادوا أن ينشروه. . ولكن الله أراد أن ينفي تهمة الكفر عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 سليمان ويثبتها لكل من اتبع الشياطين فقال جل جلاله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ} . إذن الشياطين هم الذين نشروا الكفر. . وكيف كفر الشياطينُ وبماذا أغروا أتباعهم بالكفر؟ . . يقول الله سبحانه وتعالى: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} . ما قصة كل هذا؟ . . اليهود نبذوا عهد الله واتبعوا ما تتلو الشياطين أيام سليمان، وأرادوا أن ينسبوا كل شيء في عهد سليمان على أنه سحر وعمل شياطين، وهكذا أراد اليهود أن يوهموا الناس أن منهج سليمان هو من السحر ومن الشياطين. والحق سبحانه وتعالى أراد أن يبرئ سليمان من هذه الكذبة. . سليمان عليه السلام حين جاءته النبوة طلب من الله سبحانه وتعالى أن يعطيه ملكا لا يعطيه لأحد من بعده. . واقرأ قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} [ص: 35 - 38] وهكذا أعطى سليمان الملك على الإنس والجن ومخلوقات الله كالريح والطير وغير ذلك. . حين أخذ سليمان الملك كان الشياطين يملأون الأرض كفراً بالسحر وكتبه. فأخذ سليمان كل كتب السحر وقيل أنه دفنها تحت عرشه. . وحين مات سليمان وعثرت الشياطين على مخبأ كتب السحر أخرجتها وأذاعتها بين الناس. . وقال أولياؤهم من أحبار اليهود إن هذه الكتب من السحر هي التي كان سليمان يسيطر بها على الإنس والجن، وأنها كانت منهجه، وأشاعوها بين الناس. . فأراد الله سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وتعالى أنْ يبرئ سليمان من هذه التهمة ومن أنه حكم بالسحر ونشر الكفر. . قال جل جلاله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر} . ما هو السحر؟ . . الكلمة مشتقة من سحر وهو آخر ساعات الليل وأول طلوع النهار. . حيث يختلط الظلام بالضوء ويصبح كل شيء غير واضح. . هكذا السحر شيء يخيل إليك أنه واقع وهو ليس بواقع. . إنه قائم على شيئين. . سحر العين لترى ما ليس واقعا على أنه حقيقة. . ولكنه لا يغير طبيعة الأشياء. . ولذلك قال الله تبارك وتعالى في سحرة فرعون: {سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] إذن فالساحر يسيطر على عين المسحور ليرى ما ليس واقعا وما ليس حقيقة. . وتصبح عين المسحور خاضعة لإرادة الساحر. . ولذلك فالسحر تخيل وليس حقيقة. . واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] إذن مادام الله سبحانه وتعالى قال: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} . . فهي لا تسعى. . إذن فالسحر تخيل. . وما الدليل على أن السحر تخيل؟ . . الدليل هو المواجهة التي حدثت بين موسى وسحرة فرعون. . ذلك أن الساحر يسحر أعين الناس ولكن عينيه لا يسحرهما أحد. . حينما جاء السحرة وموسى. . اقرأ قوله سبحانه: {قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 65 - 66] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 عندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم خُيِّل للموجودين إنها حيات تسعى. . ولكن هل خيل للسحرة إنها حيات؟ طبعا لا. . لأن أحدا لم يسحر أعين السحرة. . ولذلك ظل ما ألقوه في أعينهم حبالا وعِصِيّاً. . حين ألقى موسى عصاه واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: 69 - 70] هنا تظهر حقيقة السحر. . لماذا سجد السحرة؟ لأن حبالهم وعصيهم ظلت كما هي حبالا وعصيا. . ذلك أن أحدا لم يسحر أعينهم. . ولكن عندما ألقى موسى عصاه تحولت إلى حية حقيقية. . فعرفوا أن هذا ليس سحرا ولكنها معجزة من الله سبحانه وتعالى. . لماذا؟ لأن السحر لا يغير طبيعة الأشياء، وهم تأكدوا أن عصا موسى قد تحولت إلى حية. . ولكن حبالهم وعصيهم ظلت كما هي وإن كان قد خيل إلى الناس أنها تحولت إلى حية. إذن فالسحر تخيل والساحر يرى الشيء على حقيقته لذلك فإنه لا يخاف. . بينما المسحورون الذين هم الناس يتخيلون أن الشيء قد تغيرت طبيعته. . ولذلك سجد السحرة لأنهم عرفوا أن معجزة موسى ليست سحرا. . ولكنها شيء فوق طاقة البشر. السحر إِذن تخيل والشياطين لهم قدرة التشكل بأي صورة من الصور، ونحن لا نستطيع أن ندرك الشيطان على صورته الحقيقية، ولكنه إذا تشكل نستطيع أن نراه في صورة مادية. . فإذا تشكل في صورة إنسان رأيناه إنسانا، وإذا تشكل في صورة حيوان رأيناه حيوانا، وفي هذه الحالة تحكمه الصورة. . فإذا تشكل كإنسان وأطلقت عليه الرصاص مات، وإذا تشكل في صورة حيوان ودهمته بسيارتك مات، ذلك لأن الصورة تحكمه بقانونها. . وهذا هو السر في إنه لا يبقى في تشكله إلا لمحة ثم يختفي في ثوان. . لماذا؟ لأنه يخشى ممن يراه في هذه الصورة أن يقتله خصوصا أن قانون التشكل يحكمه. . ولذلك فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين تشكل له الشيطان في صورة إنسان قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 «ولقد هممت أن أربطه في سارية المسجد ليتفرج عليه صبيان المدينة ولكني تذكرت قَول أخي سليمان:» رب هب لي مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي «. فتركته» الحديث لم يُخَرَّجْ. ومن رحمة الله بنا أنه إذا تشكل الشيطان فإن الصورة تحكمه. . وإلا لكانوا فزعونا وجعلوا حياتنا جحيما. . فالله سبحانه وتعالى جعل الكون يقوم على التوازن حتى لا يطغى أحد على أحد. . بمعنى أننا لو كنا في قرية وكلنا لا نملك سلاحا وجد التوازن. . فإذا ملك أحدنا سلاحا وادعى أنه يفعل ذلك ليدافع عن أهل القرية، ثم بعد ذلك استغل السلاح ليسيطر على أهل القرية ويفرض عليهم إتاوات وغير ذلك، يكون التوازن قد اختل وهذا مالا يقبله الله. السحر يؤدي لاختلال التوازن في الكون. . لأن الساحر يستعين بقوة أعلى في عنصرها من الإنسان وهو الشيطان وهو مخلوق من نار خفيف الحركة قادر على التشكل وغير ذلك. . الإنسان عندما يطلب ويتعلم كيف يسخر الجن. . يدعي أنه يفعل ذلك لينشر الخير في الكون، ولكنها ليست حقيقة. . لأن هذا يغريه على الطغيان. . والذي يخل بأمن العالم هو عدم التكافؤ بين الناس. . إنسان يستطيع أن يطغى فإذا لم يقف أمامه المجتمع كله إختل التوازن في المجتمع. والله سبحانه وتعالى يريد تكافؤ الفرص ليحفظ أمن وسلامة الكون. . ولذلك يقول لنا لا تطغوا وتستعينوا بالشياطين في الطغيان حتى لا تفسدوا أمن الكون. ولكن الله جل جلاله شاءت حكمته أن يضع في الكون ما يجعل كل مخلوق لا يغتر بذاتيته. . ولا يحسب أنه هو الذي حقق لنفسه العلو في الأرض. . ولقد كانت معصية إبليس في أنه رفض أن يسجد لآدم. إنه قال: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] إذن فقد أخذ عنصر الخلق ليدخل الكبر إلى نفسه فيعصي، ولذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلم البشر من القوانين، ما يجعل هذا الأعلى في العنصر وهو الشيطان يخضع للأدنى وهو الإنسان، حتى يعرف كل خلق الله أنه إن ميزهم الله في عنصر من العناصر، فإن هذا ليس بإرادتهم ولا ميزة لهم. . ولكنه بمشيئة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 سبحانه وتعالى. . فأرسل الملكين ببابل هاروت وماروت ليعلما الناس السحر. الذي يخضع الأعلى عنصراً للأدنى. واقرأ قوله سبحانه: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} . . فالله تبارك وتعالى أرسل الملكين هاروت وماروت ليعلما الناس السحر. . ولقد رويت عن هذه الملكين قصص كثيرة. . ولكن مادام الله سبحانه وتعالى قد أرسل ملكين ليعلما الناس السحر. . فمعنى ذلك أن السحر علم يستعين فيه الإنسان بالشياطين. . وقيل إن الملائكة قالوا عن خلق آدم كما يروي لنا القرآن الكريم: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 20] حينئذ طلب الحق جل جلاله من الملائكة. . أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض لينظروا ماذا يفعلان؟ فاختاروا هاروت وماروت. . وعندما نزلا إلى الأرض فتنتهما امرأة فارتكبا الكبائر. هذه القصة برغم وجودها في بعض كتب التفسير ليست صحيحة. . لأن الملائكة بحكم خلقهم لا يعصون الله. . ولأنه من تمام الإيمان أن يؤدي المخلوق كل ما كُلِّف به من الله جل جلاله. . وهذان الملكان كلفا بأن يعلما الناس السحر. . وأن يحذرا بأن السحر فتنة تؤدي إلى الكفر وقد فعلا ذلك. . والفتنة هي الامتحان. . ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} . . إذن فهذان الملكان حذرا الناس من أن ما يعلمانه من السحر فتنة تؤدي إلى الكفر. . وإنها لا تنفع إلا في الشر وفي التفريق بين الزوج وزوجه. . وإن ضررها لا يقع إلا بإذن الله. . فليس هناك أي قوى في هذا الكون خارجة عن مشيئة الله سبحانه وتعالى. . ثم يأتي قول الحق تبارك وتعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 يَعْلَمُونَ} . . إن الله سبحانه وتعالى يخبرنا أن تعلم السحر يضر ولا ينفع. . فهو لا يجلب نفعا أبدا حتى لمن يشتغل به. . فتجد من يشتغل بالسحر يعتمد في رزقه على غيره من البشر فهم افضل منه. . وهو يظل طوال اليوم يبحث عن إنسان يغريه بأنه يستطيع أن يفعل له أشياء ليأخذ منه مالا، وتجد شكله غير طبيعي وحياته غير مستقرة وأولاده منحرفين. وكل من يعمل بالسحر يموت فقيرا لا يملك شيئا وتصيبه الأمراض المستعصية، ويصبح عبرة في آخر حياته. إذن فالسحر لا يأتي إلا بالضرر ثم بالفقر ثم بلعنة الله في آخر حياة الساحر. . والذي يشتغل بالسحر يموت كافرا ولا يكون له في الآخرة إلا النار. . ولذلك قد اشتروا أنفسهم بأسوأ الأشياء لو كانوا يعلمون ذلك. . لأنهم لم يأخذوا شيئا إلا الضر. . ولم يفعلوا شيئا إلا التفريق بين الناس. . وهم لا يستطيعون أن يضروا أحدا إلا بإذن الله. والله سبحانه وتعالى إذا كانت حكمته قد اقتضت أن يكون السحر من فتن الدنيا وابتلاءاتها. . فإنه سبحانه قد حكم على كل من يعمل بالسحر بأنه كافر. . ولذلك لا يجب أن يتعلم الإنسان السحر أو يقرأ عنه. . لأنه وقت تعلمه قد يقول سأفعل الخير ثم يستخدمه في الشر. . كما أن الشياطين التي يستعين بها الساحر غالبا ما تنقلب عليه لتذيقه وبال أمره وتكون شرا عليه وعلى أولاده. . واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] أي أن الذي يستعين بالجن ينقلب عليه ويذيقه ألوانا من العذاب. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 يفتح الله جل جلاله أمام عباده أبواب التوبة والرحمة. . لقد بين لهم أن السحر كفر، وأن من يقوم به يبعث كافرا يوم القيامة ويخلد في النار. . وقال لهم سبحانه وتعالى لو أنهم امتنعوا عن تعلم السحر ليمتازوا به على من سواهم إمتيازا في الضرر والإيذاء. . لكان ذلك خيرا لهم عند الله تبارك وتعالى. . لأن الملكين اللذين نزلا لتعليم السحر قال الله سبحانه عنهما: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} . إذن فممارسة السحر كفر. فلو أنهم آمنوا بهذه القضية وبأنهم يدخلون في الكفر واتقوا الله لكان ذلك ثوابا لهم عند الله وخيراً في الدنيا والآخرة. . ولكن ما هي المثوبة؟ هي الثواب على العمل الصالح. . يقابلها العقوبة وهي العقاب على العمل السيئ. . وهي مشتقة من ثاب أي رجع. . ولذلك يسمى المبلغ عن الإمام في الصلاة المثوب. . لأن الإمام يقول الله أكبر فيرددها المبلغ عن الإمام بصوت عال حتى يسمعها المصلون الذين لا يصلهم صوت الإمام. . وهذا إسمه التثويب. . أي إعادة ما يقوله الإمام لتزداد فرصة الذين لم يسمعوا ما قاله الإمام. . وكما قلنا فهي مأخوذة من ثاب أي رجع. . لأن الإنسان عندما يعمل صالحا يرجع عليه عمله الصالح بالخير. . فلا تعتقد أن العمل الصالح يخرج منك ولا يعود. . ولكنه لابد أن يعود عليك بالخير. وإذا نظرنا إلى دقة التعبير القرآني: {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ} . نجد أن كلمة مثوبة مأخوذة من نفس معنى كلمة ثوب وجمعه ثياب. . وكان الناس قديما يأخذون أصواف الأغنام ليصنعوا منها ملابسهم. . فيأتي الرجل بما عنده من غنم ويجز صوفها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 ثم يعطيه لآخر ليغزله وينسجه ثوبا ويعيده إلى صاحبه. . فكأن ما أرسله من الصوف رد إليه كثوب. . ولذلك سميت مثوبة لأن الخير يعود إليك لتنتفع به نفعا عاليا. . وكذلك الثواب عن العمل الصالح يرتد إليك بالنفع العالي. إذن فكلمة ثوب جاء منها الثواب، والله سبحانه وتعالى علمنا أن الثواب لستر العورة. . والعمل الصالح يستر الأمراض المعنوية والنفسية في الإنسان. . وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26] فكأن هناك لباسين أحدهما لستر العورة. . والثاني لستر الإنسان من العذاب. . ولباس التقوى خير من لباس ستر العورة. . قوله تعالى: {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ} . . انظر إلى المثوبة التي تأتي من عند الله. . إذا كان الثواب يأتيك من عند من صنعه جميلا مزركشا وله ألوان مبهجة. . إذا كان هذا ما يصنعه لك بشر فما بالك بالثواب الذي يأتيك من عند الله. إنه قمة الجمال. فالله هو القادر على أن يرد الثواب بقدراته سبحانه فيكون الرد عاليا وعاليا جدا، بحيث يضاعف الثواب مرات ومرات. على أننا لابد أن نتنبه إلى قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا} قلنا معنى اتقوا أنهم جعلوا بينهم وبين صفات الجلال في الله وقاية. . ولذلك قلنا إن بعض الناس يتساءل. . كيف يقول الله تبارك وتعالى: «اتقوا الله» . . ويقول جل جلاله: «اتقوا النار» . . نقول إن معنى اتقوا الله أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية: «واتقوا النار» . . أي اجعلوا بينكم وبين عذاب النار وقاية. . لأن النار من متعلقات صفات الجلال. . لذلك فإن قوله: «اتقوا الله» . . تساوي: «اتقوا النار» . . والحق تبارك وتعالى حينما قال: «اتقوا» أطلقها عامة. . والحذف هنا المراد به التعميم. . والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن السحرة لو آمنوا بأن تعلم السحر فتنة تؤدي إلى الكفر. . واتقوا الله وخافوا عذابه في الآخرة لكان ذلك خيراً لهم. . لذلك قال جل جلاله: {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ} . . وساعة تسمع كلمة خير تأتي إلى الذهن كلمة شر. . لأن الخير يقابله الشر. . ولكن في بعض الأحيان كلمة خير لا يقابلها شر. ولكن يقابلها خير أقل. وكلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 خير هي الوحيدة في اللغة العربية التي يساوي الإسم فيها أفعل التفضيل. . فأنت تقول هذا فاضل وهذا مفضول عليه. . كلمة خير إسم تفضيل فيقال ذلك خير من كذا. . أي واحد منهما يعطي أكثر من الآخر. . وكلمة خير إذا لم يأت مقابلها أي خير من كذا يكون مقابلها شر. . فإذا قلت فلان خير من فلان. . فكلاهما إشترك في الخير ولكن بدرجة مختلفة. . والخير هو ما يأتي لك بالنفع. . ولكن مقياس النفع يختلف باختلاف الناس. . واحد ينظر إلى النفع العاجل وآخر ينظر إلى النفع الآجل. . وفي ظاهر الأمر كل منهما أراد خيرا. وإذا أردنا أن نقرب ذلك إلى الأذهان فلنقل إن هناك أخوين أحدهما يستيقظ مبكراً ليذهب إلى مدرسته والثاني ينام حتى الضحى، ويخرج من البيت ليجلس على المقهى. . الأول يحب الخير لنفسه والثاني يحب الخير لنفسه والخلاف في تقييم الخير. . الكسول يحب الخير العاجل فيعطي نفسه حظها من النوم والترفيه وعدم العمل. . والمجتهد يحب الخير الآجل لنفسه لذلك يتعب ويشقى سنوات الدراسة حتى يرتاح بعد ذلك ويحقق مستقبلا مرموقا. الفلاح الذي يزرع ويذهب إلى حقله في الصباح الباكر ويروي ويبذر الحب ويشقى، يأتيه في آخر العام محصول وافر وخير كثير. . والفلاح الذي يجلس على المقهى طول النهار أعطى نفسه خير الراحة، ولكن ساعة الحصاد يحصد الندم. إذن كل الناس يحبون الخير ولكن نظرتهم ومقاييسهم تختلف. . فمنهم من يريد متعة اليوم، ومنهم من يعمل لأجل متعة الغد. . والله تبارك وتعالى حين يأمرنا بالخير. . قد يكون الخير متعبا للجسد والنفس. . ولكن النهاية متاع أبدي في جنة الخلد. إذن فالخير الحقيقي هو ما جاء به الشرع. . لماذا؟ لأن الخير هو ما ليس بعده بعد. . فأنت تولد ثم تكبر ثم تتخرج في الجامعة. . ثم تصبح في أعلى المناصب ثم تموت ثم تبعث ثم تدخل الجنة. . وبعدها لا شيء إلا الخلود في النعيم. قوله تعالى: {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} . . الله ينفي عنهم العلم بينما في الآية السابقة أثبت لهم العلم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} . . نقول إن العلم الذي لا يخضع حركة الإنسان له فكأنه لم يعلم شيئا. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 لأن هذا العلم سيكون حجة على صاحبه يوم القيامة وليته لم يعلمه. . واقرأ قول الشاعر: رُزِقُوا وما رُزِقٌوا سَمَاحَ يد ... فكأنهم رُزِقُوا وما رُزِقُوا خُلِقُوا وما خُلِقُوا لمكرُمَةٍ ... فكأنهم خُلِقُوا وما خُلِقُوا فكأن العلم لم يثبت لك لأنك لم تنفع به. . والله سبحانه وتعالى يقول: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا. .) وهكذا نفى الله عن الناس العلم الحقيقي. . وأثبت لهم العلم الدنيوي الظاهر. . وقوله جل جلاله: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الجمعة: 5] أي أنهم حملوا التوراة علما ولكنهم لم يحملوها منهجا وعملا. . وهؤلاء السحرة علموا أَنَّ مَنْ يمارس السحر يكفر. . ومع ذلك لم يعملوا بما علموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 هذا نداء للمؤمنين. . لأن الآية الكريمة تبدأ: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} . . نعرف أن الإيمان هنا هو سبب التكليف. . فالله لا يكلف كافرا أو غير مؤمن. . ولا يأمر بتكليف إلا لمن آمنوا. . فمادام العبد قد آمن فقد أصبحت مسئولية حركته في الحياة عند ربه. . ولذلك يوحي إليه بمنهج الحياة. . أما الكافر فلا يكلفه الله بشيء. إذن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} . . أمر لمن آمن بالله ورضى به إلها ومشرعا. . قوله: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} . . نداء للمؤمنين وقوله: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} . . نهى. . وكأن راعنا كانت مقولة عندهم يريد الله أن ينهاهم عنها. . والإيمان يلزمهم أن يستمعوا إلى نهي الله. ما معنى راعنا؟ نحن نقول في لغتنا الدارجة (راعينا) . . يعني احفظنا وراقبنا وخذ بيدنا وكلها مأخوذة من مادة الرعاية والراعي. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» وأصل المادة مأخوذة من راعي الغنم. . لأن راعي الغنم لابد أن يتجه بها إلى الأماكن التي فيها العشب والماء. . أي إلى أماكن الرعي. . وأن يكون حارسا عليها حتى لا تشرد واحد أو تضل فتفتك بها ذئاب الصحاري. . وأن يوفر لها الراحة حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 لا تتعب وتنفق في الطريق. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «كنتُ أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة» ولكن لماذا استبدل الحق سبحانه وتعالى كلمة راعنا بكلمة انظرنا؟ إن عند اليهود في العبرانية والسريانية كلمة راعنا ومعناها الرعونة. . ولذلك كانوا إذا سمعوا من صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلمة راعنا. . اتخذوها وسيلة للسباب بالنسبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . والمسلمون لا يدرون شيئا. . لذلك أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتركوا هذه الكلمة. . حتى لا يجد اليهود وسيلة لستر سبابهم، وأمرهم بأن يقولوا: انظرنا. ثم قال الحق سبحانه وتعالى: «واسمعوا» . . والله هنا يشير إلى الفرق بين اليهود والمؤمنين. . فاليهود قالوا سمعنا وعصينا، ولكن الله يقول للمؤمنين إسمعوا سماع طاعة وسماع تنفيذ. سعد بن معاذ سمع واحدا من اليهود يقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ راعنا وسعد كان من أحبار اليهود ويعرف لغتهم فلما سمع ما قاله فهم مراده. فذهب إلى اليهودي وقال له لو سمعتها منك مرة أخرى لضربت عنقك. . وقال اليهودي أو لستم تقولونها لنبيكم؟ أهي حرام علينا وحلال لكم؟ فنزلت الآية الكريمة تقول: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا} . . ولو تأملنا كلمة (راعنا) وكلمة (انظرنا) لوجدنا المعنى واحدا. . ولكن (انظرنا) تؤدي المعنى وليس لها نظير في لغة اليهود التي تعني الإساءة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . وقوله تعالى: {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . . أي من يقولون راعنا إساءةً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم عذاب أليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 ثم كشف الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين العداوة التي يكنها لهم أهل الكتاب من اليهود والمشركين. . الذين كفروا لأنهم رفضوا الإيمان بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . فيلفتهم إلى أن اليهود والمشتركين يكرهون الخير للمؤمنين. . فتشككوا في كل أمر يأتي منهم، واعلموا أنهم لا يريدون لكم خيرا. . قوله تعالى: «ما يود» . . أي ما يحب، والود معناه ميل القلب إلى من يحبه. . والود يختلف عن المعروف. . أنت تصنع معروفا فيمن تحب ومن لا تحب. . ولكنك لا تود إلا من تحب. . لذلك قال الله تبارك وتعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] ثم بعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليقول عن الوالدين: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] يقول بعض المستشرقين إن هناك تناقضا بين الآيتين. . كيف أن الله سبحانه وتعالى يقول: لا توادوا من يحارب الله ورسوله. . ثم يأتي ويقول إذا حاول أبواك أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 يجعلاك تشرك بالله فصاحبهما في الدنيا معروفا. . وطبعا الوالدان اللذان يحاولان دفع ابنهما إلى الكفر إنما يحاربان الله ورسوله. . كيف يتم هذا التناقض؟ . نقول إنكم لم تفهموا المعنى. . إن الإنسان يصنع المعروف فيمن يحب ومن لا يحب كما قلنا. . فقد تجد إنسانا في ضيق وتعطيه مبلغا من المال كمعروف. . دون أن يكون بينك وبينه أي صلة. . أما الود فلا يكون إلا مع من تحب. إذن: {مَّا يَوَدُّ} معناها حب القلب. . أي أن قلوب اليهود والنصارى والمشركين لا تحب لكم الخير. . إنهم يكرهون أن ينزل عليكم خير من ربكم. . بل هم في الحقيقة لا يريدون أن ينزل عليكم من ربكم أي شيء مما يسمى خيرا. . والخير هو وحي الله ومنهجه ونبوة رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقوله تعالى: {مِّنْ خَيْرٍ} . . أي من أي شيء مما يسمى خير. . فأنت حين تذهب إلى إنسان وتطلب منه مالا يقول لك ما عندي من مال. . أي لا أملك مالا، ولكنه قد يملك جنيها أو جنيهين. . ولا يعتبر هذا مالا يمكن أن يوفي بما تريده. . وتذهب إلى رجل آخر بنفس الغرض تقول أريد مالا. . يقول لك ما عندي من مال. . أي ليس عندي ولا قرش واحد، ما عندي أي مبلغ مما يقال له مال حتى ولو كان عدة قروش. والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم أن أهل الكتاب والكفار والمشركين. . مشتركون في كراهيتهم للمؤمنين. . حتى إنهم لا يريدون أن ينزل عليكم أي شيء من ربكم مما يطلق عليه خير. وقوله تعالى: {مِّن رَّبِّكُمْ} . . تدل على المصدر الذي يأتي منه الخير من الله. . فكأنهم لا يحبون أن ينزل على المؤمنين خير من الله. . وهو المنهج والرسالة. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} . . أي أن الخير لا يخضع لرغبة الكافرين وأمانيهم. . والله ينزل الخير لمن يشاء. . والله قد قسم بين الناس أمور حياتهم الدنيوية. . فكيف يطلب الكافرون أن يخضع الله منهجه لإرادتهم؟ واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 31 - 32] اعترض الكفار على نزول القرآن على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا لو نزل على رجل من القريتين عظيم. . فيرد عليهم سبحانه وتعالى. . أنتم لا تقسمون رحمة الله ولكن الله يقسم بينكم حياتكم في الدنيا. الحق تبارك وتعالى في الآية التي نحن بصددها يقول: {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} . . ساعة تقرأ كلمة يختص تفهم أن شيئا خصص لشيء دون غيره. . يعني أنني خصصت فلانا بهذا الشيء: {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} . . أي يعطي الرحمة لمن يشاء لكي يؤدي مهمته أو ينزل رحمته على من يشاء، فليس لهؤلاء الكفار أن يتحكموا في مشيئة الله، وحسدهم وكراهيتهم للمؤمنين لا يعطيهم حق التحكم في رحمة الله. . ولذلك أراد الله أن يرد عليهم بأن هذا الدين سينتشر ويزداد المؤمنون به. . وسيفتح الله به أقطارا ودولا. . وسيدخل الناس فيه أفواجا وسيظهره على الدين كله. ولو تأملنا أسباب انتصار أي عدو على من يعاديه لوجدنا إنها إما أسباب ظاهرة واضحة وإما مكر وخداع. . بحيث يظهر العدو لعدوه أنه يحبه ويكيد له في الخفاء حتى يتمكن منه فيقتله. . ولقد هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة سرا. . لماذا؟ لأن الله أراد أن يقول لقريش لن تقدروا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولو بالمكر والخداع والتبييت. . هم بيتوا الفتية ليقتلوه. . وجاءوا من كل قبيلة بفتى ليضيع دمه بين القبائل. . وخرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووضع التراب على رءوس الفتية. . الله أرادهم أن يعرفوا أنهم لن يقدروا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمكر والتبييت والخداع ولا بالعداء الظاهر. قوله تعالى: {والله ذُو الفضل العظيم} . . الفضل هو الأمر الزائد عن حاجتك الضرورية. . ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من كان معه فضل ظهر فَلْيَعُدْ به على من لا ظهر له ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 وفضل مال أي مال زائد على حاجته. هذا عن الفضل بالنسبة للبشر. أما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فإن كل ما في كون الله الآن وفي الآخرة هو فضل الله لأنه زائد على حاجته؛ فالله غير محتاج لخلقه ولا لكل نعمه التي سبقت والتي ستأتي. ولذلك قال: {والله ذُو الفضل العظيم} . . أي ذو الفضل الهائل الزائد على حاجته؛ لأنه ربما يكون عندي فضل، ولكني أبقيه لأنني سأحتاج إليه مستقبلا. والفضل الحقيقي هو الذي من عند الله. لذلك فإن الله سبحانه وتعالى هو ذو الفضل العظيم؛ لأنه غير محتاج إلى كل خلقه أو كونه؛ لأن الله سبحانه كان قبل أن يوجد شيء، وسيكون بعد ألا يوجد شيء. وهذا ما يسمى بالفضل العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 ولكن ما هو السبب؟ السبب أن أهل الكتاب والمشركين لا يريدون خيرا للمؤمنين في دينهم؛ لأنهم أحسوا أن ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في زمنه خير مما جاء به موسى وبقى إلى زمن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . وخير مما جاء به عيسى في زمن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وليس معنى ذلك أننا نحاول أن ننقص ما جاء به الرسل السابقون. . لكننا نؤكد أن الرسل السابقين جاءوا في أزمانهم بخير ما وُجد في هذه الأزمان. . فكل رسالة من الرسالات التي سبقت رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . وجاءت لقوم محدّدين ولزمن محدّد ثم جاء نبي جديد لينسخ ما في الرسالة السابقة لقوم محددين. . وزمن محدد. . واقرأ قول عيسى عليه السلام حينما بعث إلى بني إسرائيل كما يروي لنا القرآن الكريم: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50] فكأن عيسى عليه السلام جاء لينسخ بعض أحكام التوراة. . ويحل لبني إسرائيل بعض ما حرمه الله عليهم. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو الرسول الخاتم أعطى الخير كله؛ لأنه دينه للعالمين وباق إلى يوم القيامة. وهكذا نرى أن المؤمنين بالرسل كلما جاء رسول جديد كانوا ينتقلون من خير إلى خير. . وفيما تتفق فيه الرسالات كانوا ينتقلون إلى مثل هذا الخير. . وذلك فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 يتعلق بالعقائد، وإلى زيادة في الخير فيما يتعلق بمنهج الحياة. . هناك في رسالات السماء كلها أمور مشتركة لا فرق فيها بين رسول ورسول وهي قضية الإيمان بإله واحد أحد له الكمال المطلق. . سبحانه في ذاته، وسبحانه في صفاته، وسبحانه في أفعاله. . كل ذلك قدر الرسالات فيه مشترك. . ولكن الحياة في تطورها توجد فيها قضايا لم تكن موجودة ولا مواجهة في العصر الذي سبق. . فإذا قلنا إن رسالة بقيمتها العقائدية تبقى. . فإنها لا تستطيع أن تواجه قضايا الحياة التي ستأتي بها العصور التي بعدها فيما عدا الإسلام. . لأنه جاء دينا خاتما لا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة. . على أننا نجد من يقول وماذا عن قول الله سبحانه وتعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13] نقول إن هذا يأتي في شيء واحد. . يتعلق بالأمر الثابت في رسالات السماء وهو قضية قمة العقيدة والإيمان بالله الواحد. . أما فيما يتعلق بقضايا الحياة فإننا نجد أحكاما في هذه الحركة حسب ما طرأ عليها من توسعات. . ولذلك عندما جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعطى أشياء يعالج بها قضايا لم تكن موجودة في عهد الرسل السابقين. يقول الله تبارك وتعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} . . كلمة ننسخ معناها نزيل آية كانت موجودة ونأتي بآية أخرى بدلا منها. . كما يقال نسخت الشمس الظل. . أي أن الظل كان موجودا وجاءت الشمس فمحته وحلت هي مكانه. . ويقال نسخت الكتاب أي نقلته إلى صور متعددة، ونسخ الشيب الشباب أي أصبح الشاب شيخا. . وقوله تعالى «ننسها» لها معان متعددة. . قد يعني ذلك أن الله يجعل الإنسان يسهو ويغفل عنها. . فتضيع من ذاكرته أو يتركها إلى غيرها. . والعلماء إختلفوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 هذه المسألة. . وكان هذا الاختلاف لأن أحدهم يلحظ ملحظا وغيره يلحظ ملحظا آخر وكلاهما يريد الحق. . نأتي للنسخ في القرآن الكريم. . قوم قالوا لا نسخ في القرآن أبدا. . لماذا؟ لأن النسخ بداء على الله. . ما معنى البداء؟ هو أن تأتي بحكم ثم يأتي التطبيق فيثبت قصور الحكم عن مواجهة القضية فيعدل الحكم. . وهذا محال بالنسبة لله سبحانه وتعالى. . نقول لهم طبعا هذا المعنى مرفوض ومحال أن يطلق على الله تبارك وتعالى. . ولكننا نقول إن النسخ ليس بداء، وإنما هو إزالة الحكم والمجيء بحكم آخر. . ونقول لهم ساعة حكم الله الحكم أولا فهو سبحانه يعلم أن هذا الحكم له وقت محدود ينتهي فيه ثم يحل مكانه حكم جديد. . ولكن الظرف والمعاجلة يقتضيان أن يحدث ذلك بالتدريج. . وليس معنى ذلك أن الله سبحانه قد حكم بشيء ثم جاء واقع آخر أثبت أن الحكم قاصر فعدل الله عن الحكم. . إن هذا غير صحيح. لماذا؟ . . لأنه ساعة حكم الله أولا كان يعلم أن الحكم له زمن أو يطبق لفترة. . ثم بعد ذلك ينسخ أو يبدل بحكم آخر. إذن فالمشرع الذي وضع هذا الحكم وضعه على أساس أنه سينتهي وسيحل محله حكم جديد. . وليس هذا كواقع البشر. . فأحكام البشر وقوانينهم تعدل لأن واقع التطبيق يثبت قصور الحكم عن مواجهة قضايا الواقع. . لأنه ساعة وضع الناس الحكم علموا أشياء وخفيت عنهم أشياء. . فجاء الواقع ليظهر ما خفى وأصبح الحكم لابد أن ينسخ أو يعدل. . ولكن الأمر مع الله سبحانه وتعالى ليس كذلك. . أمر الله جعل الحكم موقوتا ساعة جاء الحكم الأول. مثلا حين وجه الله المسلمين إلى بيت المقدس. . أكانت القضية عند الله أن القبلة ستبقى إلى بيت المقدس طالما وجد الإسلام وإلى يوم القيامة؟ ثم بدا له سبحانه وتعالى أن يوجه المسلمين إلى الكعبة؟ لا. . لم تكن هذه هي الصورة. . ولكن كان في شرع الله أن يتوجه المسلمون أولا إلى بيت المقدس فترة ثم بعد ذلك يتوجهون إلى الكعبة إلى يوم القيامة. إذن فالواقع لم يضطر المشرع إلى أن يعدل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 وإنما كان في علمه وفي شرعه أنه سيغير القبلة بعد فترة إلى الكعبة. . ولعل لذلك هدفا إيمانيا في أن العلة في الأمور هي أنها من الله؛ فالاتجاه إلى بيت المقدس أو الاتجاه إلى الكعبة لا يكلف المؤمنين جهدا إيمانيا إضافيا. . ولا يضع عليهم تكاليف جديدة. فالجهد نفسه الذي أبذله للاتجاه إلى الشرق أبذله للاتجاه إلى الغرب. ولكن الاختبار الإيماني أن تكون علة الأمر أنه صادر من الله. . فإذا قال الله اتجه إلى بيت المقدس إتجهنا. . فإذا قال اتجه إلى الكعبة اتجهنا. . ولا قدسية لشيء في ذاته. . ولكن القدسية لأمر الله فيه. والله تبارك وتعالى حين أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم لم يسجدوا لذات آدم ولكنهم سجدوا لأمر الله بالسجود لآدم. والله سبحانه وتعالى اختار الكعبة المشرفة بيتا ومسجدا له في الأرض. . واتخذت الكعبة مقامها العالي عند المسلمين ليس لأنها بقعة في مكان ما جاءها إبراهيم والأنبياء وحج إليها الناس، ولكن مقامها جاء من أنها هي بيت الله باختيار الله لها. . وكل مساجد الأرض هي بيوت الله باختيار خلق الله. . ولكن المسجد الوحيد الذي هو بيت الله باختيار الله هو الكعبة. . ولذلك كان لا بد لكل المساجد التي هي باختيار خلق الله. . أن تتجه إلى المسجد الذي هو باختيار الله. . ولكن العلة الإيمانية الكبرى هي أن نؤمن أن صدور الأمر من الله هو الحيثية لاتباع هذا الأمر دون أن نبحث عن أسبابه الدنيوية. فإذا قال الله سبحانه وتعالى الصلاة خمس مرات في اليوم. . فدون أن نبحث عن السبب أو نقول لماذا خمسة؟ فلننقص منها. . دون أن نفعل ذلك نصلي خمس مرات في اليوم والسبب أن الله قال، وهكذا الزكاة، وهكذا الصوم وهكذا الحج. . كلها تتم طاعة لله. . وهكذا تغيير القبلة تم اختباراً للطاعة الإيمانية لله. . فالله موجود في كل مكان. . فلا يأتي أحد ليقول لماذا الكعبة؟ وهل الله ليس موجوداً إلا في الكعبة؟ نقول لا إنه موجود في كل مكان. . ولكنه أمرنا أن نتجه إلى الكعبة. . ونحن لا نتجه إليها لأننا نعتقد أن الله تبارك وتعالى موجود في هذا المكان فقط. . ولكن طاعة لأمر الله الذي أمرنا أن تكون قبلتنا إلى الكعبة. ولعل تغيير القبلة يعطينا فلسفة نسخ الآيات. . لماذا؟ لأنه لم توجد أية ظروف أو تجد وقائع، أو تظهر أشياء كانت خفية تجعل الاتجاه إلى بيت المقدس صعبا أو محوطا بالمشاكل أو غير ذلك، ولكن تغيير القبلة جاء هنا لأن الله سبحانه وتعالى شاء أن يتوجه المسلمون إلى بيت المقدس فترة ثم يتوجهوا إلى الكعبة إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 إذن فكل آية نسخت كان في علم الله سبحانه وتعالى أنها ستطبق لفترة معينة ثم بعد ذلك ستعدل. . وكان كل من الحكم الذي سينسخ، والوقت الذي سيستغرقه، والحكم الذي سيأتي بعده معلوما عند الله تبارك وتعالى ومقررا منذ الأزل وقبل بداية الكون. . وأيضا فإن الله أراد أن يلفتنا بالتوجه إلى بيت المقدس أولا. . لأن الإسلام دين يشمل كل الأديان، وأن بيت المقدس سيصبح من مقدسات الإسلام. . وأنه لا يمكن لأحد أن يدعي أن المسلمين لن يكون لهم شأن في بيت المقدس، لذلك أسرى الله سبحانه وتعالى برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى بيت المقدس. . ليثبت أن لبيت المقدس قداسة في الإسلام وإنه من المقدسات عند الله. . ومن هنا كان التوجه إلى بيت المقدس كقبلة أولى، ثم نسخ الله القبلة إلى الكعبة. . فالحق جل جلاله يقول: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} . . أي أن النسخ يكون إما أن يأتي الله سبحانه وتعالى بخير من هذه الآية أو يأتي بمثلها. . وهل الآية المنسوخة كان هناك خير منها ولم ينزله الله؟ نقول لا. . المعنى أن الآية المنسوخة كانت خيراً في زمانها. . والحكم الثاني كان زيادة في الخير بعد فترة من الزمن. . كلاهما خير في زمنه وفي أحكامه. . والله تبارك وتعالى أنزل الآية الكريمة: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ولكن من يستطيع أن يتقي الله حق تقاته. . ذلك صعب على المسلمين. . ولذلك عندما نزلت الآية قالوا ليس منا من يستطيع أن يتقي الله حق تقاته. . فنزلت الآية الكريمة: {فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} [التغابن: 16] الذي يتقي الله حق تقاته خير، أم الذي يتقي الله ما استطاع؟ طبعا حق تقاته خير من قدر الاستطاعة. . ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 نقول إنك لم تفهم عن الله. . {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} في الآية الأولى أو {فاتقوا الله مَا استطعتم} في الآية الثانية. . أي الحالتين أحسن؟ نقول إن العبرة بالنتيجة. . عندما تريد أن تقيم شيئا لابد أن تبحث عن نتيجته أولا. ولنقرب المعنى للأذهان سنضرب مثلا ولله المثل الأعلى. . نفرض أن هناك تاجرا يبيع السلع بربح خمسين في المائة. . ثم جاء تاجر آخر يبيع نفس السلع بربح خمسة عشر في المائة. . ماذا يحدث؟ سيقبل الناس طبعا على ذلك الذي يبيع السلع بربح خمسة عشر في المائة ويشترون منه كل ما يريدون، والتاجر الذي يبيع السلع بربح خمسين في المائة يحقق ربحا أكبر. . ولكن الذي يبيع بربح خمسة عشر في المائة يحقق ربحا أقل ولكن بزيادة الكمية المبيعة. . يكون الربح في النهاية أكبر. والذي يطبق الآية الكريمة: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} يحقق خيرا أكبر في عمله. . ولكنه لا يستطيع أن يتقي الله حق تقاته إلا في أعماله محدودة جدا. إذن الخير هنا أكبر ولكن العمل الذي تنطبق عليه الآية محدود. أما قوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} فإنه قد حدد التقوى بقدر الاستطاعة. . ولذلك تكون الأعمال المقبولة كثيرة وإن كان الأجر عليها أقل. عندما نأتي إلى النتيجة العامة. . أعمال أجرها أعلى ولكنها قليلة ومحدودة جدا. . وأعمال أجرها أقل ولكنها كثيرة. . أيهما فيه الخير؟ طبعا الأعمال الكثيرة ذات الأجر الأقل في مجموعها تفوق الأعمال القليلة ذات الأجر المرتفع. إذن فقد نسخت هذه الآية بما هو خير منها. . رغم أن الظاهر لا يبدو كذلك، لأن اتقاء الله حق تقاته خير من اتقاء الله قدر الاستطاعة. . ولكن في المحصلة العامة الخير في الآية التي نصت على الاستطاعة. . نأتي بعد ذلك إلى قوله تعالى: {أَوْ مِثْلِهَا} . . هنا توقف بعض العلماء: قد يكون مفهوما أن ينسخ الله آية بخير منها، ولكن ما هي الحكمة في أن ينسخها بمثلها؟ إذا كانت الآية التي نسخت مثل الآية التي جاءت. . فلماذا تم النسخ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 نقول إننا إذا ضربنا مثلا لذلك فهو مثل تغيير القبلة. . أن الله تبارك وتعالى حين أمر المسلمين بالتوجه إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس نسخ آية بمثلها. . لأن التوجه إلى الكعبة لا يكلف المؤمن أية مشقة أو زيادة في التكليف. . فالإنسان يتوجه ناحية اليمين أو إلى اليسار أو إلى الأمام أو إلى الخلف وهو نفس الجهد. . والله سبحانه وتعالى كما قلنا موجود. . وهنا تبرز الطاعة الإيمانية التي تحدثنا عنها وأن هناك أفعالا نقوم بها لأن الله قال. . وهذه تأتي في العبادات لأن العبادة هي طاعة عابد لأمر معبود. . والله تبارك وتعالى يريد أن نثبت العبودية له عن حب واختيار. . فإن قال افعلوا كذا فعلنا. . وإن قال لا تفعلوا لا نفعل. . والعلة في هذا أننا نريد اختياراً أن نجعل مراداتنا في الكون خاضعة لمرادات الله سبحانه وتعالى. . إذن مثلها لم تأت بلا حكمة بل جاءت لحكمة عالية. والحق سبحانه وتعالى يقول: {أَوْ نُنسِهَا} ما معنى ننسها؟ قال بعض العلماء إن النسخ والنسيان شيء واحد. . ولكن ساعة قال الله الحكم الأول كان في إرادته ومشيئته وعلمه أن يأتي حكم آخر بعد مدة. . ساعة جاء الحكم الأول ترك الحكم الثاني في مشيئته قدرا من الزمن حتى يأتي موعد نزوله. إذن فساعة يأتي الحكم الأول. . يكون الحكم مرجأ ولكنه في علم الله. ينتظر انقضاء وقت الحكم الأول: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} هي الآية المنسوخة أو التي سيتم عدم العمل بها: {أَوْ نُنسِهَا} . . أي لا يبلغها الله للرسول والمؤمنين عن طريق الوحي مع أنها موجودة في علمه سبحانه. . ويجب أن نتنبه إلى أن النسخ لا يحدث في شيئين: الأول: أمور العقائد فلا تنسخ آية آية أخرى في أمر العقيدة. . فالعقائد ثابتة لا تتغير منذ عهد آدم حتى يوم القيامة. . فالله سبحانه واحد أحد لا تغيير ولا تبديل، والغيب قائم، والآخرة قادمة والملائكة يقومون بمهامهم. . وكل ما يتعلق بأمور العقيدة لا ينسخ أبدا. . والثاني: الإخبار من الله عندما يعطينا الله تبارك وتعالى آية فيها خبر لا ينسخها بآية جديدة. . لأن الإخبار هو الإبلاغ بشيء واقع. . والحق سبحانه وتعالى إخباره لنا بما حدث لا ينسخ لأنه بلاغ صدق من الله. . فلا تروى لنا حادثة الفيل ثم تنسخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 بعد ذلك وتروى بتفاصيل أخرى لأنها أبلغت كما وقعت. . إذن لا نسخ في العقائد والإخبار عن الله. . ولكن النسخ يكون في التكليف. . مثل قول الحق تبارك وتعالى: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] كأن المقياس ساعة نزول هذه الآية أن الواحد من المؤمنين يقابل عشرة من الكفار ويغلبهم. . ولكن كانت هذه عملية شاقة على المؤمنين. . ولذلك نسخها الله ليعطينا على قدر طاقتنا. . فنزلت الآية الكريمة: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66] والحق سبحانه وتعالى علم أن المؤمنين فيهم ضعف. . لذلك لن يستطيع الواحد منهم أن يقاتل عشرة ويغلبهم. . فنقلها إلى خير يسير يقدر عليه المؤمنون بحيث يغلب المؤمن الواحد اثنين من الكفار. . وهذا حكم لا يدخل في العقيدة ولا في الإخبار. . وفي أول نزول القرآن كانت المرأة إذا زنت وشهد عليها أربعة يمسكونها في البيت لا تخرج منه حتى تموت. . واقرأ قوله تعالى: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 وبعد أن شاع الإسلام وامتلأت النفوس بالإيمان. . نزل تشريع جديد هو الرجم أو الجلد. . ساعة نزل الحكم الأول بحبسهن كان الحكم الثاني في علم الله. . وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} . . وقوله سبحانه: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] وقوله تعالى حتى يأتي الله بأمره. . كأن هناك حكما أو أمرا في علم الله سيأتي ليعدل الحكم الموجود. . إذن الله حين أبلغنا بالحكم الأول أعطانا فكرة. . إن هذا الحكم ليس نهائيا وأن حكما جديدا سينزل. . بعد أن تتدرب النفوس على مراد الله من الحكم الأول. . ومن عظمة الله أن مشيئته اقتضت في الميراث أن يعطي الوالدين اللذين بلغا أرذل العمر فقال جل جلاله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 180] وهكذا جعلها في أول الأمر وصية ولم تكن ميراثا. . لماذا؟ لأن الإنسان إن مات فهو الحلقة الموصولة بأبيه. . أما أبناؤه فحلقة أخرى. . ولما استقرت الأحكام في النفوس وأقبلت على تنفيذ ما أمر به الله. . جعل سبحانه المسألة فرضا. . فيستوفى الحكم. ويقول جل جلاله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 11] وهكذا بعد أن كان نصيب الوالدين في تركة الإبن وصية. . إن شاء أوصى بها وإن شاء لم يوصي أصبحت فرضا. . وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . . أي كل شيء يدخل في إرادة الله وقدرته سبحانه. . إذا قلنا إذا جاء الله بحكم لعصر فهذا هو قمة الخير. . لأنه إذا عُدل الحكم بعد أن أدى مهمته في عصره، فإن الحكم الجديد الذي يأتي هو قمة الخير أيضا. . لأن الله على كل شيء قدير، يواجه كل عصر بقمة الخير للموجودين فيه. . ولذلك فمن عظمة الله أنه لم يأت بالحكم خبرا من عنده ولكنه أشرك فيه المخاطب. . فلم يقل سبحانه «إن الله على كل شيء قدير» . . ولكنه قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . . لأنه واثق أن كل من يسمع سيقول نعم. . وهذا ما يعرف بالاستفهام الإنكاري أو التقريري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى لنا أن هناك آيات نسخت في القرآن. . أراد أن يوضح لنا أنه سبحانه له طلاقة القدرة في كونه يفعل ما يشاء. . ولذلك بدأ الآية الكريمة: {أَلَمْ تَعْلَمْ} . . وهذا التعبير يسمى الاستفهام الاستنكاري أو التقريري. . لأن السامع لا يجد إلا جوابا واحدا بأنه يقر ما قاله الله تبارك وتعالى. . ويقول نعم يا رب أنت الحق وقولك الحق. قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} . . الملك يقتضي مالكا ويقتضي مملوكا. . ويقتضي قدرة على استمرار هذا الملك وعدم زواله. . فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه يقدر ويملك المقدرة. . والإنسان ليست له قدرة التملك ولا المقدرة على استبقاء ما يملكه. . والإنسان لا يملك الفعل في الكون. . إن أراد مثلا أن يبني عمارة قد لا يجد الأرض. . فإن وجد الأرض قد لا يجد العامل الذي يبني. . فإن وجده قد لا يجد مواد البناء. . فإن وجد هذا كله قد تأتي الحكومة أو الدولة وتمنع البناء على هذه الأرض. . أو أن تكون الأرض ملكا لإنسان آخر فتقام القضايا ولا يتم البناء. والحق سبحانه وتعالى يقول: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} . . أي أن كل شيء في الوجود هو ملك لله وهو يتصرف بقدرته فيما يملك. . ولذلك عندما هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة. . كان اليهود يملكون المال ولهم معرفة ببعض العلم الدنيوي لذلك سادوا المدينة. . وبدأوا يمكرون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمين. . والله تبارك وتعالى طمأن رسوله بأن طلاقة القدرة في الكون هي لله وحده. . وأنه إذا كان لهم ملك فإنه لا يدوم لأن الله ينزع الملك ممن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 يشاء ويعطيه لمن يشاء. . ولذلك حينما يأتي يوم القيامة ويُهلك الله الأرض ومن عليها. . يقول سبحانه: {لِّمَنِ الملك اليوم} [غافر: 16] ويرد جل جلاله بشهادة الذات للذات فيقول: {لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] ومادام الله هو المالك وحده. . فإنه يستطيع أن ينزع من اليهود وغيرهم ومن الدنيا كلها ما يملكونه. . ويحدثنا العلماء أن العسَسَ وهم الجنود الذين يسيرون ليلا لتفقد أحوال الناس وجدوا شخصا يسير ليلا. . فلما تقدموا منه جرى فجروا وراءه إلى أن وصل إلى مكان خرب ليستتر فيه. . تقدم العسس وأمسكوا به وإذا بهم يجدون جثة قتيل في المكان. . فقالوا له أنت القاتل لأنك جريت حين رأيتنا ولأنك موجود الآن في المكان الذي فيه جثة القتيل. . فأخذوه ليحاكموه فقال لهم أمهلوني لأصلي ركعتين لله. . فأمهلوه فصلى ثم رفع يديه إلى السماء وقال اللهم إنك تعلم أنه لا شاهد على براءتي إلا أنت. . وأنت أمرتنا ألا نكتم الشهادة فأسألك ذلك في نفسك. . فبينما هم كذلك إذا أقبل رجل فقال. . أنا قاتل هذا القتيل وأنا أقر بجريمتي. . فتعجب الناس وقالوا لماذا تقر بجريمتك ولم يرك أحد ولم يتهمك أحد. . فقال لهم والله ما أقررت إنما جاء هاتف فأجرى لساني بما قلت. . فلما أقر القاتل بما فعل وقام ولي المقتول وهو أبوه فقال. . اللهم إني أشهدك إني قد أعفيت قاتل ابني من دينه وقصاصه. انظر إلى طلاقة قدرة الحق سبحانه وتعالى. . القاتل أراد أن يختفي ولكن أنظر إلى دقة السؤال من السائل أو المتهم البريء. . وقد صلى ركعتين لله. . لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علمنا أنه إذا حزبنا أمر قمنا إلى الصلاة فليس أمامنا إلا هذا الباب. . وبعد أن صلى سأل الله أنت أمرتنا ألا نكتم الشهادة ولا يشهد ببراءتي أحد إلا أنت فأسألك ذلك في نفسك وبعد ذلك كان ما كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وهذه القصة تدلنا على أننا في قبضة الله. . أردنا أو لم نرد. . بأسباب أو بغير أسباب. . لماذا؟ . . لأن الله له ملك السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير. . وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} . . الولي هو من يواليك ويحبك. . والنصير هو الذي عنده القدرة على أن ينصرك وقد يكون النصير غير الولي. . الحق تبارك وتعالى يقول أنا لكم وليٌّ ونصير أي محب وأنصركم على من يعاديكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 ثم ينقل الحق جل جلاله المسلمين بعد أن بين لهم أنه وليهم ونصيرهم. . ينقلهم إلى سلوك أهل الكتاب من اليهود مع رسلهم حتى يتفادوا مثل هذا السلوك فيقول جل جلاله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ} . . الحق يقول للمؤمنين أم تريدون أن تسألوا رسول الله كما سأل اليهود موسى. . ولم يشأ الحق أن يشبه المسلمين باليهود فقال: {كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ} . . وكان من الممكن أن يقول أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سأل اليهود موسى. . ولكن الله لم يرد أن يشبه اليهود بالمؤمنين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . وهذا تكريم من الله للمؤمنين بأن ينزههم أن يتشبهوا باليهود. . وقد سأل اليهود موسى عليه السلام وقالوا كما يروي لنا القرآن الكريم: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً} [النساء: 153] وقد سأل أهل الكتاب والكفار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يروي لنا القرآن الكريم: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 {أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 92 - 93] الله تبارك وتعالى يهيب بالمؤمنين أن يسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . كما سأله أهل الكتاب والكفار ويقول لهم أن اليهود قد سألوا موسى أكبر من ذلك. . فبعد أن رأوا المعجزات وشق الله البحر لهم. . وعبروا البحر وهم يشاهدون المعجزة فلم تكن خافية عنهم. . بل كانت ظاهرة لهم واضحة. . دالة دلالة دامغة على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى عظيم قدراته. . ورغم هذا فإن اليهود قالوا لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. . أي لم تكفهم هذه المعجزات. . وكأنما كانوا بماديتهم يريدون أن يروا في حياتهم الدنيوية من لا تدركه الأبصار. . وبمجرد أن عبروا البحر أرادوا أن يجعل لهم موسى صنما يعبدونه وعبدوا العجل رغم كل الآيات التي شاهدوها. وقوله تعالى: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} . . قلنا إن الباء في قوله تعالى: «بالإيمان» تدخل دائما على المتروك. . كأن تقول اشتريت هذا بكذا درهم. . يعني تركت الدراهم وأخذت البضاعة. . ومعناها أن الكفر مأخوذ والإيمان متروك. . فقد أخذ اليهود الكفر وتركوا الإيمان حين قالوا لموسى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} . . وقوله سبحانه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} . ما هو الضلال؟ . . هو أن تسلك سبيلا لا يؤدي بك إلى غايتك. . و «سواء السبيل» . . السواء هو الوسط. . و «سواء السبيل» . . هو وسط الطريق. . والله تبارك وتعالى يقول: {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 أي في وسط الجحيم. . أي أنه يكون بعيدا عن الحافتين بعداً متساوياً. . وسواء الطريق هو وسطه. . والسبيل أو الطريق كان قبل استخدام التكنولوجيا الحديثة تكون أطرافه وعرة من جنس الأرض قبل أن تمهد. . أي لا تصلح للسير. . ولذلك فإن السير في وسط الطريق يبعدك عن المتاعب والصعوبات. ويريد الله من المؤمنين به أن يسيروا في الطريق الممهد أو في وسط الطريق لأنه أكثر أمانا لهم. . فهم فيه لن يضلوا يمينا ولا يسارا بل يسيروا على منهج الله والإيمان. . وطريق الإيمان دائما ممهد لا يقودهم إل الكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 هذه الآية الكريمة تتناول أحداثا وقعت بعد غزوة أحد. . وفي غزوة أحد طلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . من الرماة ألا يغادروا مواقعهم عند سفح الجبل سواء انتصر المسلمون أو انهزموا. . فلما بدأت بوادر النصر طمع الرماة في الغنائم. . فخالفوا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهزمهم الله. . ولكن الكفار لم يحققوا نصرا لأن النصر هو أن تحتل أرضا وتبقى. هؤلاء الكفار بعد المعركة انطلقوا عائدين إلى مكة. . حتى أن المسلمين عندما خرجوا للقائهم في اليوم التالي لم يجدوا أحداً. . يهود المدينة استغلوا هذا الحدث. . وعندما التقوا بحذيفة بن اليمان وطارق وغيرهما. . قالوا لهم إن كنتم مؤمنين حقا لماذا إنهزمتم فارجعوا إلى ديننا واتركوا دين محمد. . فقال لهم حذيفة ماذا يقول دينكم في نقض العهد؟ . . يقصد ما تقوله التوراة في نقض اليهود ولعهودهم مع الله ومع موسى. . ثم قال أنا لن انقض عهدي مع محمد ما حييت. . أما عمار فقال. . لقد آمنت بالله ربا وآمنت بمحمد رسولا وآمنت بالكتاب إماما وآمنت بالكعبة قبلة وآمنت بالمؤمنين إخوة وسأظل على هذا ما حييت. وبلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قاله حذيفة وطارق بن ياسر فسر بذلك ولكن اليهود كانوا يستغلون ما حدث في أحد ليهزموا العقيدة الإيمانية في قلوب المسلمين كما استغلوا تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ليهزوا الإيمان في القلوب وقالوا إذا كانت القبلة تجاه بيت المقدس باطلة فلماذا اتجهتم إليها، وإذا كانت صحيحة فلماذا تركتموها، فنزل قول الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 انظر إلى دقة التعبير القرآني في قوله تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب} . . فكأن بعضهم فقط هم الذين كانوا يحاولون رد المؤمنين عن دينهم. . ولكن كانت هناك قلة تفكر في الإيمان بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . ولو أن الله جل جلاله حكم على كل أهل الكتاب لسد الطريق أمام هذه القلة أن يؤمنوا. . أي أن أهل الكتاب من اليهود يحبون أن يردوكم عن دينكم وهؤلاء هم الكثرة. . لأن الله تعالى قال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب} . وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً} . . كفارا بماذا؟ . . بما آمنتم به أو بما يطلبه منكم دينكم. . وهم لا يفعلون ذلك عن مبدأ أو عقيدة أو لصالحكم ولكن: {حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} . . فدينهم يأمرهم بعكس ذلك. . يأمرهم أن يؤمنوا برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ولذلك فهم لا ينفذون ما تأمرهم به التوراة حينما يرفضون الإيمان بالإسلام. . والذي يدعوهم إلى أن يحاولوا ردكم عن دينكم هو الحسد. . والحسد هو تمني زوال النعمة عمن تكره. . وقوله تعالى: {حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} . . أي هذه المسألة من ذواتهم لأنهم يحسدون المسلمين على نعمة الإيمان. . ويتمنون زوال هذه النعمة. . التي جعلت من المسلمين إخوانا متحابين متكاتفين مترابطين. . بينما هم شيع وأحزاب. . وهناك حسد يكون من منطق الدين وهذا مباح. . ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فَسُلِّط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس» فكأن الحسد حرام في غير هاتين الحالتين. . فكأن هؤلاء اليهود يحسدون المسلمين على دينهم. . وهذا الحسد من عند أنفسهم لا تقره التوراة ولا كتبهم. . وقوله سبحانه: {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق} . . أي بعد ما تأكدوا من التوراة من شخصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنه النبي الخاتم. وقوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} . . ما هو العفو وما هو الصفح؟ . . يقال عفت الريح الأثر أي مسحته وأزالته. . فالإنسان حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 يمشي على الرمال تترك قدمه أثرا فتأتي الريح وتعفو الأثر أي تزيله. . ولذلك فإن العفو أن تمحو من نفسك أثر أي إساءة وكأنه لم يحدث شيء. . والصفح يعني طي صفحات هذا الموضوع لا تجعله في بالك ولا تجعله يشغلك. . وقوله تعالى: {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} . . أن هذا الوضع بالنسبة لليهود وما يفعلونه في المؤمنين لن يستمر لأن الله سبحانه قد أعد لهم أمرا ولكن هذا الأمر لم يأت وقته ولا أوانه. . وعندما يأتي سيتغير كل شيء. . لذلك يقول الله للمؤمنين لن تظلوا هكذا. . بل يوم تأخذونهم فيه بجرائمهم ولن يكون هذا اليوم بعيدا. . عندما يقول الله سبحانه: {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} . . فلابد أن أمر الله آت. . لأن هذه قضية تتعلق بجوهر الإيمان كله. . فلا يقال أبدا حتى يأتي الله بأمره ثم لا يجيء هذا الأمر. . بل أمر الله بلا شك نافذ وسينصركم عليهم. . وقوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . . أن الله له طلاقة القدرة في ملكه. . ولذلك إذا قال أنه سيأتي بأمر فسيتحقق هذا الأمر حتما وسيتم. . ولا توجد قدرة في هذا الكون إلا قدرة الله سبحانه. . ولا قوة إلا قوته جل جلاله. . ولا فعل إلا ما أراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن أقصى أماني أهل الكتاب أن يردونا كفارا، وأن هذا حسدا منهم. أراد الله تبارك وتعالى أن يبين لنا ما الذي يكرهه أهل الكتاب. . وقال إن الذي يتعبهم ميزان العدل والحق الذي نتبعه. . منهج الله سبحانه وتعالى. . ولذلك يأمر الله المؤمنين أن يثبتوا ويتمسكوا بالإيمان، وأن يقبلوا على التكليف فهذا أحسن رد عليهم. . والتكاليف التي جاء بها الإسلام منها تكليفات لا تتطلب إلا وقتاً من الزمن وقليلا من الفعل كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. إن شهادة لا إله إلا الله تقال مرة في العمر. . والزكاة والصوم مرة كل عام. . والحج للمستطيع مرة في العمر. . ولكن هناك من العبادات ما يتكرر كل يوم ليعطي المؤمن شحنة اليقين والإيمان ويأخذه من دنياه بالله أكبر خمس مرات في اليوم. . وهذه هي العبادة التي لا تسقط أبدا. . والإنسان سليم والإنسان مريض. . فالمؤمن يستطيع أن يصلي واقفا وأن يصلي جالسا وأن يصلي راقدا. . وأن يجري مراسم الصلاة على قلبه. . لذلك كانت هذه أول عبادة تذكر في قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} أي والتفتوا إلى نداءات ربكم للصلاة. . وعندما يرتفع صوت المؤذن بقوله الله أكبر فهذه دعوة للإقبال على الله. . إقبال في ساعة معلومة لتقفوا أمامه سبحانه وتعالى وتكونوا في حضرته يعطيكم الله المدد. . ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إذا حزبه أمر صلى» ومعنى حزبه أمر. . أي ضاقت به أسبابه فلم يجد مخرجا ولا طريقا إلا أن يلجأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 إلى الله. . إذا حدث هذا يتوضأ الإنسان ويصلي ركعتين غير الفريضة. . ثم يدعو ما يشاء فيفرج الله كربه. . إذن: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} هي الرد المناسب على كل محاولاتهم ليسلبوكم دينكم. . ذلك أن هذا التكليف المقرر لإعلان الولاء الإيماني لله كل يوم خمس مرات. . نترك كل ما في الدنيا ونتجه إلى الله بالصلاة. . إنها عماد الدين وأساسه. وقوله تعالى: {وَآتُواْ الزكاة} . . إيتاء الزكاة لا يحدث إلا إذا كان لديهم ما هو زائد عن حاجتك. . فكأن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نضرب في الأرض لنكسب حاجتنا وحاجة من نعول ونزيد. . وبذلك يخرج المسلمون من سيطرة اليهود الإقتصادية التي يستذلون بها المسلمين. فالمؤمن حين يأتي الزكاة معناه أن حركته اتسعت لتشمل حاجته وحاجة غيره. . ولذلك حتى الفقير يجد في الزائد في أموال المسلمين ما يكفي حاجته. . فلا يذهب إلى اليهودي ليقترض بالربا. . ولذلك فالله سبحانه وتعالى يريد أن يتكامل المسلمون. . بحيث تكفي أموالهم غنيهم وفقيرهم والقادر على العمل منهم وغير القادر. والله تبارك وتعالى يزيد أموال المسلمين بأكثر مما يخرج منها من زكاة. . ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه» وقد سميت «الزكاة» لأنها في ظاهرها نقص وفي حقيقتها زيادة. . والربا ظاهره زيادة وحقيقته نقص. . وفي ذلك يقول الله جل جلاله: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276] ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} . . إذن لابد أن يطمئن المؤمن لأن حركة حياته هي ثواب وأجر عند الله تبارك وتعالى. . فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 صلى فله أجر وإذا زكى فله أجر، وإذا تصدق فله أجر، وإذا صام فله أجر، وإذا حج فله أجر، كل ما يفعله من منهج الله له أجر، وليس أجرا بقدر العمل، بل أضعاف العمل. . وإقرأ قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] وهكذا نعرف أن كل حركة في منهج الله ليس فقط لها أجر عند الله سبحانه وتعالى. . ولكنه أجر مضاعف أضعافا مضاعفة. . وهو أجر ليس بقدرات البشر ولكنه بقدرة الله سبحانه. . ولذلك فهو ليس مضاعفا فقط في عدد المرات ولكنه مضاعف في القدرة أيضا. . فكأن كل إنسان مؤمن لا أجر له في الآخرة. . وإذا أُعطى في الدنيا يُعطي عطاء المثل. . ولكن المؤمن وحده له عطاء الآخرة أضعافا مضاعفة. . وهو عطاء ليس زائلا كعطاء الدنيا ولكنه باق وخالد. والخير الذي تفعله لن تدخره عندك أو عند من قد ينكره. . ويقول لا شيء لك عندي ولكن الله سيدخره لك. . فانظر إلى الإطمئنان والعمل في يد الله الأمينة، وفي مشيئته التي لا يغفل عنها شيء، وفي قدرته التي تضاعف أضعافا مضاعفة. . وتجده في الوقت الذي تكون في أحوج اللحظات إليه وهو وقت الحساب. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . . أي لا تعتقد أن هناك شيئا يخفى على الله، أو أن أحدا يستطيع أن يخدع الله؛ فالله سبحانه وتعالى بصير بكل شيء. . ليس بالظاهر منك فقط. . ولكن بما تخفيه في نفسك ولا تطلع عليه أحدا من خلق الله، إنه يعلم كل شيء واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} [إبراهيم: 38] وهكذا نطمئن إلى أن الله بصير بكل شيء، وانظر إلى قوله جل جلاله: «تعملون» لتفهم أهمية العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 بعد أن بين الحق تبارك وتعالى كيف أن كل عمل في منهج الله له أجر، وأجر باق وثابت ومضاعف عند الله ومحفوظ بقدرة الله سبحانه. . أراد أن يرد على ادعاءات اليهود والنصارى الذين يحاولون أن يثيروا اليأس في قلوب المؤمنين بالكذب والإحباط علهم ينصرفون عن الإسلام. . لذلك فقد أبلغنا الله سبحانه بما افتروه. واقرأ قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} . . وفي هذه الآية الكريمة يظهر التناقض بين أقوال اليهود والنصارى. . ولقد أوردنا كيف أن اليهود قد قالوا {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً} . . وقالت النصارى: «لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا» . . والله سبحانه وتعالى يفضح التناقض في آية ستأتي في قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113] ومعنى ذلك أنهم تناقضوا في أقوالهم، فقالت النصارى: إنهم سيدخلون الجنة وحدهم، وقالت اليهود القول نفسه. ثم قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا أو نصرانيا. . ثم قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء. ويقول الناس إذا كنت كذوبا فكن ذكورا؛ ذلك أن الذي يكذب تتناقض أقواله لأنه ينسى مادام قد قال غير الحقيقة، ولذلك تجد أن المحقق أو القاضي يظل يسأل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 المتهم أسئلة مختلفة. . حتى تتناقض أقواله فيعرف أنه يكذب. . فأنت إذا رويت الواقعة كما حدثت فإنك ترويها مائة مرة دون أي خلاف في التفاصيل. ولكنك إذا كذبت تتناقض مع نفسك. . والله سبحانه وتعالى يقول: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} . . ما هي الأماني؟ . . هي أن تعلق نفسك بأمنية وليس لهذه الأمنية سند من الواقع يوصلك إلى تحقيق هذه الأمنية. . ولكن إذا كان التمني قائما على عمل يوصلك إلى تحقيق الأمنية فهذا شيء آخر. بعض الناس يقول التمني وإن لم يتحقق فإنه يروح عن النفس. . فقد ترتاح النفس عندما تتعلق بأمل كاذب وتعيش أياما في نوع من السعادة وإن كانت سعادة وهمية. . نقول إن الصدمة التي ستلحق بالإنسان بعد ذلك ستدمره. . ولذلك لا يكون في الكذب أبدا راحة. . فأحلام اليقظة لا تتحقق لأنها لا تقوم على أرضية من الواقع وهي لا تعطي الإنسان إلا نوعا من بعد عن الحقيقة. . ولذلك يقول الشاعر: مُنَى إِنْ تَكُنْ حقاً تَكُنْ أَحْسَنَ الْمنَى ... وَإِلاّ فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَناً رَغْدَا يعني الأماني لو كانت حقيقة أو تستند إلى الحقيقة فإنها أحسن الأماني لأنها تعيش معك. . فإن لم تكن حقيقة يقول الشاعر: فقد عشنا بها زمنا رغدا ... أماني من ليلى حسان كأنما سقتنا بها ليلى على ظمأ بردا ... وقوله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} تبين لنا أن الأماني هي مطامع الحمقى لأنها لا تتحقق. . والحق سبحانه يقول: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} . . وما هو البرهان؟ . . البرهان هو الدليل. . ولا تطلب البرهان إلا من إنسان وقعت معه في جدال واختلفت وجهات النظر بينك وبينه. . ولا تطلب البرهان إلا إذا كنت متأكداً أن محدثك كاذب. . وأنه لن يجد الدليل على ما يدعيه. هب أن شخصا ادعى أن عليك مالا له. . وطلب منك أن تعيده إليه وأنت لم تأخذ منه مالا. . في هذه الحالة تطلب منه تقديم الدليل. . (فالكمبيالة) التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 كتبتها له أو الشيك أو إيصال الأمانة. . وأضعف الإيمان أن تطلب منه شهودا على أنك أخذت منه المال. . ولكن قبل أن تطالبه بالدليل. . يجب أن تكون واثقا من نفسك وأنه فعلا يكذب وأنك لم تأخذ منه شيئا. إذن فقوله الحق سبحانه: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} . . كلام من الله يؤكد أنهم كاذبون. . وأنهم لو أرادوا أن يأتوا بالدليل. . فلن يجدوا في كتب الله ولا في كلام رسله ما يؤكد ما يدعونه، وإن أضافوه يكن هذا افتراء على الله ويكن هناك الدليل الدامغ على أن هذا ليس من كلام الله ولكنه من افتراءاتهم. إذن فليس هناك برهان على ما يقولونه. . ولو كان هناك برهان ولو كان في هذا الكلام ولو جزءا من الحقيقة. . ما كان الله سبحانه وتعالى يطالبهم بالدليل. إذن لا تقول هاتوا برهانكم إلا إذا كنت واثقا أنه لا برهان على ما يقولون؛ لأنك رددت الأمر إليه فيما يدعيه. . وهو يحب أن يثبته ويفعل كل شيء في سبيل الحصول على برهان. . ولا يمكن أن يقول الله: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} . . إلا وهو سبحانه يعلم أنهم يكذبون. . ولذلك قال: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . . أي إن كنتم واثقين من أن ما تقولونه صحيح؛ لأن الله يعرف يقينا أنكم تكذبون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 بعد أن بين لنا الله تبارك وتعالى كذب اليهود وطالبهم بالدليل على ما قالوه من أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى جاء بحقيقة القضية ليخبرنا جل جلاله من الذي سيدخل الجنة. . فقال: «بلى» . . وعندما تقرأ: «بلى» اعلم أنها حرف جواب ولابد أن يسبقها كلام ونفي. . فساعة يقول لك إنسان ليس لي عليك دين. . إذا قلت له نعم فقد صدقت أنه ليس عليه دين. . ولكن إذا قلت بلى فذلك يعني أن عليه دينا وأنه كاذب فيما قاله. . إذن بلى تأتي جوابا لتثبيت نفي ما تقدم. هم قالوا {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} . . عندما يقول الله لهم بلى فمعنى ذلك أن هذا الكلام غير صحيح. . وأنه سيدخلها غير هؤلاء. . وليس معنى أنه سيدخلها غير اليهود والنصارى. . أن كل يهودي وكل نصراني سيدخل الجنة. . لأن الله سبحانه وتعالى قد حكم حينما جاء الإسلام بأن الذي لا يسلم لا يدخل الجنة. . واقرأ قوله جل جلاله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [آل عمران: 85] لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى. . أنه لن يدخلها اليهود ولا النصارى. . لأن القرآن أزلي. . ما معنى أزلي؟ . . أي أنه يعالج القضايا منذ بداية الخلق وحتى يوم القيامة. . فالقرآن كلام الله تبارك وتعالى. . فلو أنه قال لن يدخل الجنة إلا من آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لكان في هذا تجاوزٌ. . لأن هناك من آمن بموسى وقت رسالته وعاصره واتبعه وحسن دينه ومات قبل أن يدرك محمدا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 فهل هذا لا يدخل الجنة ويجازى بحسن عمله. . وهناك من النصارى من آمن بعيسى وقت حياته. . وعاصره ونفذ تعاليمه ومنهجه ثم مات قبل أن يُبْعَثَ محمدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . أهذا لن يدخل الجنة؟ . . لا. . يدخل وتكون منزلته حسب عمله ويجازى بأحسن الجزاء. . ولكن بعد أن بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجاء الإسلام ونزل القرآن، فكل من لم يؤمن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لن يدخل الجنة. . بل ولن يراها. . ولذلك جاء كلام الله دقيقا لم يظلم أحدا من خلقه. إذن فقوله تعالى: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} . . أي لا يدخل الجنة إلا من أسلم وجهه لله وهو محسن. . فقد يسلم واحد وجهه لله ويكون منافقا يظهر غير ما يبطن. . نقول إن المنافقين لم يكونوا محسنين ولكنهم كانوا مسيئين. . لأن لهم شخصيتين شخصية مؤمنة أمام الناس وشخصية كافرة في الحقيقة أو في قلوبهم. قوله تعالى: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} تدلنا على أن كل شيء أسلم لله لأن الوجه هو أشرف شيء في الإنسان. . فيه التمييز وفيه السمة وفيه التشخص وهو أعلى ما في الجسم. . وحينما عرفوا الإنسان قالوا حيوان ناطق أي حيوان مفكر. . وقال بعضهم حيوان مستوي القامة يعني قامته مرفوعة. . والقامة المرفوعة على بقية الجسم هي الوجه. . والإنسان مرفوع على بقية أجناس الأرض. . إذن هو مرفوع على بقية الأجناس ووجهه مرفوع عليه. . فإذا أسلم وجهه لله يكون قد أسلم أشرف شيء فيه لله. . ولذلك قيل. . أقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد. . لماذا؟ . . لأنه جاء بالوجه الذي رفعه الله به وكرمه. . وجعله مساويا لقدميه ليستوي أكمل شيء فيه بأدنى شيء. . فلم يبقى عنده شيء يختال به على الله. الحق سبحانه وتعالى يقول: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} . . كلمة {أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} . . دلت على أن الله لم يجعلنا مقهورين. . ولكنه كلفنا وجعلنا مختارين أن نفعل أو لا نفعل. . فإن فعلنا فلنا أجر. . ولأن التكليف من الله سبحانه وتعالى فالمنطقي أن يكون الأجر عند الله. . وألا يوجد خوف أو حزن. . لأن الخوف يكون من شيء سيقع. . والحزن يأتي على شيء قد وقع. . ولا هذه ولا تلك تحدث عندما يكون أجرنا عند الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 إن الإنسان حين يكون له حق عند مساويه. . فربما يخاف أن ينكر المساوي هذا الحق أو يطمع فيه، أو يحتاج إليه فيدعي عدم أحقيته فيه، ولكن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين. . ولذلك فهو لا يطمع فيما في أيدينا من خير لأنه من عنده. . ولا يطمع فيما معنا من مال لأن عنده خزائن السموات والأرض. الله سبحانه لا ينكر حقا من حقوقنا لأنه يعطينا من فضله ويزيدنا. . ولذلك فإن ما عند الله لا خوف عليه بل هو يضاعَف ويزداد. . وما عند الله لا حزن عليه. . لأن الإنسان يحزن إذا فاته خير. . ولكن ما عند الله باق لا يفوتك ولا تفوته. . فلا يوجد شيء عند الله سبحانه وتعالى تحزن عليه لأنه فات. . ولذلك كان قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . . أدق ما يمكن أن يقال عن حالة المؤمنين في الآخرة. . أنهم يكونون فرحين بما عند الله لا خوف عندهم ولا حزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 نقول إن أصدق ما قاله اليهود والنصارى. . هو أن كل طائفة منهم اتهمت الأخرى بأنها ليست على شيء. . فقال اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء. . والعجيب إن الطائفتين أهل كتاب. . اليهود أهل كتاب والنصارى أهل كتاب. . ومع ذلك كل منهما يتهم الآخر بأنه لا إيمان له وبذلك تساوى مع المشركين. الذين يقولون إن أهل الكتاب ليسوا على شيء. . أي أن المشركين يقولون اليهود ليسوا على شيء والنصارى ليسوا على شيء. . واليهود يقولون المشركون ليسوا على شيء والنصارى ليسوا على شيء. . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} . . وبذلك أصبح لدينا ثلاث طوائف يواجهون الدعوة الإسلامية. . طائفة لا تؤمن بمنهج سماوي ولا برسالة إلهية وهؤلاء هم المشركون. . وطائفتان لهم إيمان ورسل وكتب هم اليهود والنصارى. . ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} . . أي الذين لا يعلمون دينا ولا يعلمون إلها ولا يعلمون أي شيء عن منهج السماء. . اتحدوا في القول مع اليهود والنصارى وأصبح قولهم واحدا. وكان المفروض أن يتميز أهل الكتاب الذين لهم صلة بالسماء وكتب نزلت من الله ورسل جاءتهم للهداية. . كان من المفروض أن يتميزوا على المشركين. . ولكن تساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون. . وهذا معنى قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} . . ومادامت الطوائف الثلاث قالوا على بعضهم نفس القول. . يكون حجم الخلاف بينهم كبيرا وليس صغيرا. . لأن كل واحد منهم يتهم الآخر أنه لا دين له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 هذا الخلاف الكبير من الذي يحكم فيه؟ لا يحكم فيه إلا الله. . فهو الذي يعلم كل شيء. . وهو سبحانه القادر على أن يفصل بينهم بالحق. . ومتى يكون موعد هذا الفصل أو الحكم؟ أهو في الدنيا؟ لا. . فالدنيا دار اختبار وليست دار حساب ولا محاسبة ولا فصل في قضايا الإيمان. . ولذلك فإن الحكم بينهم يتم يوم القيامة وعلى مشهد من خلق الله جميعا. والحق سبحانه وتعالى يقول: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . . ومعنى الحكم هنا ليس هو بيان المخطئ من المصيب فالطوائف الثلاث مخطئة. . والطوائف الثلاث في إنكارها للإسلام قد خرجت عن إطار الإيمان. . ويأتي الحكم يوم القيامة ليبين ذلك ويواجه المخالفين بالعذاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 فالحق جل جلاله بعد أن بين لنا موقف اليهود والنصارى والمشركين من بعضهم البعض ومن الإسلام، وكيف أن هذه الطوائف الثلاث تواجه الإسلام بعداء ويواجه بعضها البعض باتهامات. . فكل طائفة منها تتهم الأخرى أنها على باطل. . أراد أن يحذرهم تبارك وتعالى من الحرب ضد الإسلام ومحاربة هذا الدين فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه} . . مساجد الله هي الأماكن التي يتم فيها السجود لله. . والسجود علامة الخضوع وعلامة العبودية كما بينا. . لأنك تضع أشرف شيء فيك وهو وجهك على الأرض خضوعا لله وخشوعا له. قبل الإسلام كان لا يمكن أن يصلي أتباع أي دين إلا في مكان خاص بدينهم. . مكان مخصص لا تجوز الصلاة إلا فيه. . ثم جاء الله بالإسلام فجعل الأرض كلها مسجدا وجعلها طهورا. . ومعنى أن تكون الأرض كلها مسجداً هو توسيع على عباد الله في مكان التقائهم بربهم وفي أماكن عبادتهم له حتى يمكن أن تلتقي بالله في أي مكان وفي أي زمان. . لأنه لا يحدد لك مكانا معينا لا تصح الصلاة إلا فيه. . وأنت إذا أردت أن تصلي ركعتين لله بخلاف الفرض. . مثل صلاة الشكر أو صلاة الاستخارة أو صلاة الخوف. . أو أي صلاة من السنن التي علمها لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . فإنك تستطيع أن تؤديها في أي وقت. . فكأنك تلتقي بالله سبحانه أين ومتى تحب. ومادام الله تبارك وتعالى أنعم على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى أمته بأن جعل لهم الأرض مسجدا طهورا فإنما يريد أن يوسع دائرة التقاء العباد بربهم. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «أُعطيتُ خمسا لم يُعْطَهُن أحد من الأنبياء قبلي. نُصرْتُ بالرعب مسيرةَ شهر، وجُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأُحِلَّتْ لِيَ الغنائمُ ولم تحل لأحد قبلي وأُعْطِيتُ الشفاعةَ وكان النبي يُبْعَثُ إلى قومه خاصة وَبُعِثْتُ إلى الناسِ عامة» ولكن لماذا خص الله أمة محمد بهذه النعمة؟ لأن الإسلام جاء على موعد مع ارتقاءات العقل وطموحات الدنيا. . كلما ارتقى العقل في علوم الدنيا كشف قوانين وتغلب على عقبات. . وجاء بمبتكرات ومخترعات تفتن عقول الناس. . وتجذبهم بعيدا عن الدين فيعبدون الأسباب بدلا من خالق الأسباب. يريد الحق تبارك وتعالى أن يجعل عبادتهم له ميسرة دائما حتى يعصمهم من هذه الفتنة. . وهو جل جلاله يريدنا حين نرى التليفزيون مثلا ينقل الأحداث من أقصى الأرض إلى أقصاها ومن القمر إلى الأرض في نفس لحظة حدوثها. . أن نسجد لله على نعمه التي كشف لنا عنها في أي مكان نكون فيه. . فخصائص الغلاف الجوي موجودة في الكون منذ خلق الله السموات والأرض. . لم يضعها أحد من خلق الله في كون الله هذه الأيام. . ولكنها خلقت مع خلق الكون. . وشاء الله ألا ندرك وجودها ونستخدمها إلا هذه الأيام. . فلابد أن نسجد لله شكرا على نعمه التي كشفت لنا أسرارا في الكون لم نكن نعرفها. . وهذه الأسرار تبين لنا دقة الخلق وتقربنا إلى قضايا الغيب. فإذا قيل لنا أن يوم القيامة سيقف خلق الله جميعا وهم يشاهدون الحساب. . وإن كل واحد منهم سيرى الحساب لحظة حدوثه. . لا نتعجب ونقول هذا مستحيل. . لأن أحداث العالم الهامة نراها الآن كلها لحظة حدوثها ونحن في منتهى الراحة. . ونحن جالسون في منازلنا أمام التليفزيون. . أي أننا نراها جميعا في وقت واحد دون جهد. . فإذا كانت هذه هي قدرات البشر للبشر. . فكيف بقدرات خالق البشر للبشر؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 عندما نرى أسرار قوانين الله في كونه. . لابد أن نسجد لعظمة الخالق سبحانه وتعالى، الذي وضع كل هذا العلم والإعجاز في الكون. . وهذا السجود يقتضي أن تكون الأرض كلها مساجد حتى يمكنك وأنت في مكانك أن تسجد لله شكرا. . ولا تضطر للذهاب إلى مكان آخر قد يكون بعيدا أو الطريق إليه شاقا فينسيك هذا شكر الله والسجود له. . فالله سبحانه وتعالى شاء أن يوسع على المؤمنين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دائرة الالتقاء بربهم؛ لأن هناك أشياء ستأتي الرسالة المحمدية في موعد كشفها لخلق الله. . وكلما انكشف سر من أسرار الوجود إغتر الإنسان بنفسه. . ومادام الغرور قد دخل إلى النفس البشرية. . فلابد أن يجعل الله في الكون ما يعدل هذا الغرور. لقد كانت الأمور عكس ذلك قبل بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . كانت الأمور فطرية فإذا امتنعت الأمطار ونضبت العيون والآبار. . لم يكن أمامهم إلا أن يتوجهوا إلى السماء بصلاة الاستسقاء. . وكذلك في كل أمر يصعب عليهم مواجهته. . ولكن الآن بعد أن كشف الله لخلقه عن بعض أسراره في كونه. . أصبحت هناك أكثر من وسيلة يواجه بها الإنسان عددا من أزمات الكون. . هذه الوسائل قد جعلت البشر يعتقدون أنهم قادرون على حل مشكلاتهم. . بعيدا عن الله سبحانه وتعالى وبجهودهم الخاصة. . فبدأ الاعتماد على الخلق بدلا من الإعتماد على الحق. . ولذلك نزل قول الحق سبحانه وتعالى: {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [النور: 35 - 36] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 ما هي هذه البيوت التي يرى فيها الناس نور الله تبارك وتعالى؟ هي المساجد. . فَعُمَّارُ المساجد وزوارها الدائمون على الصلاة فيها هم الذين يرون نور الله. . فإذا أتى قوم يجترئون عليها ويمنعون أن يذكر اسم الله فيها. . فمعنى ذلك أن المؤمنين القائمين على هذه المساجد ضعفاء الإيمان ضعفاء الدين تجرأ عليهم أعداؤهم. . لأنهم لو كانوا أقوياء ما كان يجرؤ عدوهم على أن يمنع ذكر اسم الله في مساجد الله. . أو أن يسعى إلى خرابها فتهدم ولا تقام فيها صلاة الجمعة. . ولكن ساعة يوجد من يخرب بيتا من بيوت الله. . يهب الناس لمنعه والضرب على يده يكون الإيمان قويا. . فإن تركوه فقد هان المؤمنون على عدوهم. . لماذا؟ لأن الكافر الذي يريد أن يطفئ مكان إشعاع نور الله لخلقه. . يعيش في حركة الشر في الوجود التي تقوى وتشتد كلما استطاع غير المؤمنين أن يمنعوا ذكر اسم الله في بيته وأن يخربوه. وقول الحق سبحانه وتعالى: {أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} . . أي أن هؤلاء الكفار ما كان يصح لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين أن يفتك بهم المؤمنون من أصحاب المسجد والمصلين فيه. . فإذا كانوا قد دخلوا غير خائفين. . فمعنى ذلك أن وازع الإيمان في نفوس المؤمنين قد ضعف. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} . . معناه أنه لا يوجد أحد أظلم من ذلك الذي يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. . أي أن هذا هو الظلم العظيم. . ظلم القمة. . وقوله تعالى: {وسعى فِي خَرَابِهَآ} . . أي في إزالتها أو بقائها غير صالحة لأداء العبادة. . والسعي في خراب المسجد هو هدمه. ويختم الحق سبحانه الآية الكريمة بقولة: {لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} . . أي لن يتركهم الله في الدنيا ولا في الآخرة. . بل يصيبهم في الدنيا خزي. . والخزي هو الشيء القبيح الذي تكره أن يراك عليه الناس. . قوله تعالى: {لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ} . . هذا مظهر غيرة الله على بيوته. . وانظر إلى ما أذاقهم الله في الدنيا بالنسبة ليهود المدينة الذين كانوا يسعون في خراب مساجد الله. . لقد أخذت أموالهم وطردوا من ديارهم. . هذا حدث. . وهذا معنى قوله تعالى الخزي في الدنيا. . أما في الآخرة فإن أعداء الله سيحاسبون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 حسابا عسيرا لتطاولهم على مساجد الله سبحانه، ولكن في الوقت نفسه فإن المؤمنين الذين سكتوا على هذا وتخاذلوا عن نصرة دين الله والدفاع عن بيوت الله. . سيكون لهم أيضا عذاب أليم. إنني أحذر كل مؤمن أن يتخاذل أو يضعف أمام أولئك الذين يحاولون أن يمنعوا ذكر الله في مساجده. . لأنه في هذه الحالة يكون مرتكبا لذنبهم نفسه وربما أكثر. . ولا يتركه الله يوم القيامة بل يسوقه إلى النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 بعد أن بين الله سبحانه وتعالى جزاء الذين يخربون مساجد الله ويهدمونها. . ويمنعون أن يذكر فيها اسمه والعذاب الذي ينتظرهم في الآخرة أراد أن يذكرنا بأن تنفيذ هذا على مستوى تام وكامل عملية مستحيلة لأن الأرض كلها مساجد. . وتخريبها معناه أن تخرب الأرض كلها. . لأن الله تبارك وتعالى موجود في كل مكان فأينما كنتم فستجدون الله مقبلا عليكم بالتجليات. وقوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ الله} . . أي هناك وجه الله. . وقوله تعالى: {الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . . أي لا تضيقوا بمكان التقاءاتكم بربكم؛ لأن الله واسع موجود في كل مكان في هذا الكون وفي كل مكان خارج هذا الكون. . ولكن إذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} لا يعني تحديد جهة الشرق أو جهة الغرب فقط. . ولكنه يتعداها إلى كل الجهات شرقها وغربها. . شمالها وجنوبها والشمال الشرقي والجنوب الغربي وكل جهة تفكر فيها. ولكن لماذا ذكرت الآية الشرق والغرب فقط؟ لأن بعد ذلك كل الجهات تحدد بشروق الشمس وغروبها. . فهناك شمال شرقي وجنوب شرقي وشمال غربي وجنوب غربي. . كما إن الشرق والغرب معروف بالفطرة عند الناس. . فلا أحد يجهل من أين تشرق الشمس ولا إلى أين تغرب. فأنت كل يوم ترى شروقا وترى غروبا. الله سبحانه وتعالى حين يقول: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} فليس معناها حصر الملكية لهاتين الجهتين ولكنه ما يعرف بالاختصاص بالتقديم. . كما تقول بالقلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 كتبت وبالسيارة أتيت. . أي أن الكتابة هي خصوص القلم والإتيان خصوص السيارة. . وهذا ما يعرف بالاختصاص. . فهذا مختص بكذا وليس لغيره شيء فيه. . ولذلك فإن معنى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} . . أن الملكية لله سبحانه وتعالى لا يشاركه فيها أحد. . وتغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ليس معناه أن الله تبارك وتعالى في بيت المقدس والاتجاه بعد ذلك إلى الكعبة ليس معناه أن الله جل جلاله في الكعبة. إن توحيد القبلة ليس معناه أكثر من أن يكون للمسلمين اتجاه واحد في الصلاة. . وذلك دليل على وحدة الهدف. . فيجب أن تفرق بين اتجاه في الصلاة واتجاه في غير الصلاة. . اتجاه في الصلاة نكون جميعا متجهين إلى مكان محدد إختاره الله لنا لنتجه إليه في الصلاة. . والناس تصلي في جميع أنحاء العالم متجهة إلى الكعبة. . الكعبة مكانها واحد لا يتغير. . ولكن اتجاهنا إليها من بقاع الأرض هو الذي يتغير. . فواحد يتجه شمالا وواحد يتجه جنوبا وواحد يتجه شرقا وواحد يتجه غربا. . كل منا يتجه اتجاها مختلفا حسب البقعة التي يوجد عليها من الأرض. . ولكننا جميعا نتجه إلى الكعبة رغم اختلاف وجهاتنا إلا أننا نلتقي في اتجاهنا إلى مكان واحد. الله جل جلاله يريدنا أن نعرف أننا إذا قلنا: «وللهِ المشرقُ» فلا نظن أن المشرق إتجاه واحد بل إن المشرق يختلف باختلاف المكان. . فكل مكان في الأرض له مشرق وله مغرب. . فإذا أشرقت الشمس في مكان فإنها في نفس الوقت تغرب في مكان آخر. . تشرق عندي وتغرب عند غيري. . وبعد دقيقة تشرق عند قوم وتغرب عند آخرين. . فإذا نظرت إلى الشرق وإلى الغرب بالنسبة لشروق الشمس الظاهري وغروبها. . تجد أن المشرق والمغرب لا ينتهيان من على سطح الأرض. . في كل دقيقة شروق وغروب. وقوله تعالى: {إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . . أي يتسع لكل ملكه لا يشغله شيء عن شيء. . ولذلك عندما سئل الإمام علي كرم الله وجهه. . كيف يحاسب الله الناس جميعا في وقت واحد؟ قال كما يرزقهم جميعا في وقت واحد. . إذن فالله لا يشغله شيء عن شيء. . ولا يحتاج في عمله إلى شيء. . إنما عمله «كن فيكون» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن له كل شيء في الكون لا يشغله شيء عن شيء. . أراد أن يرد على الذين حاولوا أن يجعلوا لله معينا في ملكه. . الذين قالوا اتخذ الله ولداً. . الله تبارك وتعالى رد عليهم أنه لماذا يتخذ ولدا وله ما في السموات والأرض كل له قانتون. . وجاء الرد مركزا في ثلاث نقاط. . قوله تعالى: «سبحانه» أي تنزه وتعالى أن يكون له ولد. . وقوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} . . فإذا كان هذا ملكه وإذا كان الكون كله من خلقه وخاضعا له فما حاجته للولد؟ وقوله سبحانه: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} . . أي كل من في السموات والأرض عابدون لله جل جلاله مقرون بألوهيته. قضية إن لله سبحانه وتعالى ولداً جاءت في القرآن الكريم تسع عشرة مرة ومعها الرد عليها. . ولأنها قضية في قمة العقيدة فقد تكررت وتكرر الرد عليها مرة بعد أخرى. . وإذا نظرت للذين قالوا ذلك تجد أن هناك أقوالا متعددة. . هناك قول قاله المشركون. . واقرأ القرآن الكريم: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى البنات على البنين} [الصافات: 151 - 153] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 وقول اليهود كما يروي لنا القرآن: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] وقول النصارى: {وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] ثم في قصة خلق عيسى عليه السلام من مريم بدون رجل. . الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً} [مريم: 88 - 93] والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن هذا إدعاء خطير مستقبح مستنكر وممقوت. . لقد عالجت سورة مريم المسألة علاجا واسعا. . علاجا اشترك فيه انفعال كل أجناس الكون غير الإنسان. . انفعال السموات والأرض والجبال وغيرها من خلق الله التي تلعن كل من قال ذلك. . بل وتكاد شعورا منها بفداحة الجريمة أن تنفطر السماء أي تسقط قطعا صغيرة. . وتنشق الأرض أي تتمزق. . وتخر الجبال أي تسقط كتراب. . كل هذا من هول ما قيل ومن كذب ما قيل. . لأن هذا الادعاء افتراء على الله. ولقد جاءت كل هذه الآيات في سورة مريم التي أعطتنا معجزة خلق عيسى. . كما وردت القضية في عدة سور أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 والسؤال هنا ما هي الشبهة التي جعلتهم يقولون ولد الله؟ ما الذي جعلهم يلجأون إلى هذا الافتراء؟ القرآن يقول عن عيسى بن مريم. . كلمة الله ألقاها إلى مريم. . نقول لهم كلنا كلمة «كن» . لماذا فتنتم في عيسى ابن مريم هذه الفتنة؟ والله سبحانه وتعالى يشرح المسألة فيقول: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] قوله كمثل آدم لمجرد مجاراة الخصم. . ولكن المعجزة في آدم أقوى منها في عيسى عليه السلام. . أنتم فتنتم في عيسى لأن عنصر الأبوة ممتنع. . وآدم امتنع فيه عنصر الأبوة والأمومة. . إذن فالمعجزة أقوى. . وكان الأولى أن تفتنوا بآدم بدل أن تفتنوا بعيسى. . ومن العجيب أنكم لم تذكروا الفتنة في آدم وذكرتم الفتنة فيما فيه عنصر غائب من عنصرين غائبين في آدم. . وكان من الواجب أن تنسبوا هذه القضية إلى آدم ولكنكم لم تفعلوا. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . قال له الله إن القضية ليست قضية إنكار ولكنها قضية كاذبة. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81] أي لن يضير الله سبحانه وتعالى أن يكون له ولد. . ولكنه جل جلاله لم يتخذ ولدا. . فلا يمكن أن يعبد الناس شيئا لم يكن لله. . وإنما ابتدعوه واختلقوه. . الله جل جلاله يقول: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} . . قوله تعالى: {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} تعطي الله سبحانه وتعالى الملكية لكل ما في الكون. . والملكية تنافي الولدية. . لماذا؟ لأن الملكية معناها أن كل ما في الكون من خلق الله. . كل شيء هو خالقه بدون معارض. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 ومادام هو خالقه وموجده. . فلا يمكن أن يكون هذا الشيء جزءا منه. . لأن الذي يخلق شيئا يكون فاعلا. . والفاعل له مفعول. . والمفعول لا يكون منه أبدا. . هل رأيت واحدا صنع صنعة منه؟ الذي يصنع سيارة مثلا. . هل صنعها من لحمه أو من لحم البشر؟ وكذلك الطائرة والكرسي والساعة والتليفزيون. . هل هذه المصنوعات من جنس الذي صنعها؟ طبعا لا. إذن مادام ملكية. . فلا يقال إنها من نفس جنس صانعها. . ولا يقال إن الفاعل أوجد من جنسه. . لأن الفاعل لا يوجد من جنسه أبدا. . كل فاعل يوجد شيئا أقل منه. . فقول الله: «سبحانه» . . أي تنزيه له تبارك وتعالى. . لماذا؟ لأن الولد يتخذ لاستبقاء حياة والده التي لا يضمنها له واقع الكون. . فهو يحمل اسمه بعد أن يموت ويرث أملاكه. . إذن هو من أجل بقاء نوعه. . والذي يريد بقاء النوع لا يكفيه أن يكون له ولد واحد. لو فرضنا جدلا إن له ولداً واحداً فالمفروض أن هذا الولد يكون له. . ولكننا لم نر أولادا لمن زعموا أنه ابن الله. . وعندما وقبلما يوجد الولد ماذا كان الله سبحانه وتعالى يفعل وهو بدون ولد؟ وماذا استجد على الله وعلى كونه بعد أن اتخذ ولدا كما يزعمون. . لم يتغير شيء في الوجود. . إذن إن وجود ولد بالنسبة للإله لم يعطه مظهرا من مظاهر القوة. . لأن الكون قبل أن يوجد الولد المزعوم وبعده لم يتغير فيه شيء. إذن فما سبب اتخاذ الولد؟ معونة؟ الله لا تضعف قوته. . ضمان للحياة؟ الله حياته أزليه. . هو الذي خلق الحياة وهو الذي يهبها وهو حي لا يموت. . فما هي حاجته لأي ضمان للحياة؟ الحق سبحانه وتعالى تنفعل له الأشياء. . أي أنه قادر على إبراز الشيء بمقتضى حكمه. . وهو جل جلاله له كمال الصفات أزلا. . وبكمال صفاته خلق هذا الكون وأوجده. . لذلك فهو ليس في حاجة إلى أحد من خلقه. . لأنه ساعة خلق كانت له كل صفات القدرة على الخلق. . بل قبل أن يخلق كانت له كل صفات الخالق وبهذه الصفات خلق. . والله سبحانه وتعالى كان خالقا قبل أن يخلق أحدا من خلقه. . وكان رزاقا قبل أن يوجد من يرزقه. . وكان قهارا قبل أن يوجد من يقهره. . وكان توابا قبل أن يوجد من يتوب عليه. . وبهذه الصفات أوجد وخلق ورزق وقهر وتاب على خلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 إذن كل هذا الكون لم يضف صفة من صفات الكمال إلى الله. . بل إن الله بكمال صفاته هو الذي أوجد. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في حديث قدسي: «يا عبادي لَوْ أَنَّ أولَكُم وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إنسان مَسْألته ما نقص ذلك مِنْ ملكي شيئا إلا كما يَنْقُصُ المخِيطُ إذا غُمس في البحر. .» ثم إذا كان لله سبحانه وتعالى زوجة وولد. . فمن الذي وجد أولا؟ . . إذا كان الله سبحانه وتعالى قد وجد أولا. . ثم بعد ذلك أوجد الزوجة والولد فهو خالق وهما مخلوقان. . وإن كان كل منهم قد أوجد نفسه فهم ثلاثة آلهة وليسوا إلها واحدا. . إذن فالولد إما أن يكون مخلوقا أو يكون إلها. . والكمال الأول لله لم يزده الولد شيئا. . ومن هنا يصبح وجوده لا قيمة له. . وحين يعرض الحق تبارك وتعالى هذه القضية يعرضها عرضا واسعا في كثير من سور القرآن الكريم وأولها سورة مريم في قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} [مريم: 88] إنه سبحانه منزه عن التماثل مع خلقه. . لا بالذات ولا بالصفات ولا بالأفعال. . كل شيء تراه في الوجود. . الله منزه عنه. . وكل شيء يخطر على بالك فالله غير ذلك. . قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} . . فتلك قضية تناقض اتخاذ الولد لأن كل ما في السموات والأرض خاضع لله. . قوله تعالى؛ {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} . . أي خاضعون، وهذا يؤكد لنا أن كون الله في قبضة الله خاضع مستجيب اختيارا أو قهرا لأمر الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 بعد أن بين الله تبارك وتعالى. . أن قولهم اتخذ الله ولدا هو افتراء على الله. . أراد الحق أن يلفتنا إلى بعض من قدراته. . فقال جل جلاله: {بَدِيعُ السماوات والأرض} . . أي خلق السموات والأرض وكل ما فيها من خلق على غير مثال سابق. . أي لم يكن هناك سماء أو أرض أو ملائكة أو جن أو إنسان. . ثم جاء الله سبحانه وتعالى وأوجد متشابها لهم في شكل أو حجم أو قدرة. . أي أنه سبحانه لم يلجأ إلى ما نسميه نحن بالقالب. إن الذي يصنع كوب الماء يصنع أولا قالبا يصب فيه خام الزجاج المنصهر. . فتخرج في النهاية أكواب متشابهة. . وكل صناعة لغير الله تتم على أساس صنع القالب أولا ثم بعد ذلك يبدأ الإنتاج. . ولذلك فإن التكلفة الحقيقية هي في إعداد القالب الجيد الذي يعطينا صورة لما نريد. . والذي يخبز رغيفا مثلا قد لا يستخدم قالبا ولكنه يقلد شيئا سبق. . فشكل الرغيف وخامته سبق أن تم وهو يقوم بتقليدهما في كل مرة. . ولكنه لا يستطيع أن يعطي التماثل في الميزان أو الشكل أو الاستدارة. . بل هناك اختلاف في التقليد ولا يوجد كمال في الصناعة. وحين خلق الله جل جلاله الخلق من آدم إلى أن تقوم الساعة. . جعل الخلق متشابهين في كل شيء. . في تكوين الجسم وفي شكله في الرأس والقدمين واليدين والعينين. . وغير ذلك من أعضاء الجسم. . تماثلا دقيقا في الشكل وفي الوظائف. . بحيث يؤدي كل عضو مهمته في الحياة. . ولكن هذا التماثل لم يتم على قالب وإنما تم بكلمة كن. . ورغم التشابه في الخلق فكل منا مختلف عن الآخر اختلافا يجعلك قادرا على تمييزه بالعلم والعين. . فبالعلم كل منا له بصمة أصبع وبصمة صوت يمكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 أن يميزها خبراء التسجيل. . وبصمة رائحة قد لا نميزها نحن ولكن تميزها الكلاب المدربة. . فتشم الشيء ثم تسرع فتدلنا على صاحبه ولو كان بين ألف من البشر. . وبصمة شفرة تجعل الجسد يعرف بعضه بعضا. . فإن جئت بخلية من جسد آخر لفظها. وإن جئت بخلية من الجسد نفسه اتحد معها وعالج جراحها. وإذا كان هذا بعض ما وصل إليه العلم. . فإن هناك الكثير مما قد نصل إليه ليؤكد لنا أنه رغم تشابه بلايين الأشخاص. . فإن لكل واحد ما يميزه وحده ولا يتكرر مع خلق الله كلهم. . وهذا هو الإعجاز في الخلق ودليل على طلاقة قدرة الله في كونه. والله سبحانه وتعالى يعطينا المعنى العام في القرآن الكريم بأن هذا من آياته وأنه لم يحدث مصادفة ولم يأت بطريق غير مخطط بل هو معد بقدرة الله سبحانه. . فيقول جل جلاله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ} [الروم: 22] هذا الاختلاف يمثل لنا طلاقة قدرة الله سبحانه في الخلق على غير مثال. . فكل مخلوق يختلف عمن قبله وعمن بعده وعمن حوله. . مع أنهم في الشكل العام متماثلون. . ولو أنك جمعت الناس كلهم منذ عهد آدم إلى يوم القيامة تجدهم في صورة واحدة. . وكل واحد منهم مختلف عن الآخر. . فلا يوجد بشران من خلق الله كل منهما طبق الأصل من الآخر. . هذه دقة الصنع وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: «بديع» . . والدقة تعطي الحكمة. . والإبراز في صور متعددة يعطي القدرة. . ولذلك بعد أن نموت وتتبعثر عناصرنا في التراب يجمعنا الله يوم القيامة. . والإعجاز في هذا الجمع هو أن كل إنسان سيبعث من عناصره نفسها وصورته نفسها وهيئته نفسها التي كان عليها في الدنيا. ولذلك قال الحق سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 إذن الله سبحانه وتعالى بطلاقة قدرته في الإيجاد قد خلقنا. . وبطلاقة قدرته في إعادة الخلق يحيينا بعد الموت. . بشكلنا ولحمنا وصفاتنا وكل ذرة فينا. . هل هناك دقة بعد ذلك؟ . لو أننا أتينا بأدق الصناع وأمهرهم وقلنا له: اصنع لنا شيئا تجيده. فلما صنعه قلنا له: اصنع مثله. إنه لا يمكن أن يصنع نموذجا مثله بالمواصفات نفسها؛ لأنه يفتقد المقاييس الدقيقة التي تمده بالمواصفات نفسها التي صنعها. إنه يستطيع أن يعطينا نموذجا متشابها ولكن ليس مثل ما صنع تماما. لكن الله سبحانه وتعالى يتوفى خلقه وساعة القيامة أو ساعة بعثهم يعيدهم بمكوناتهم نفسها التي كانوا عليها دون زيادة أو نقص. وذلك لأنه الله جل جلاله لا يخلق وفق قوالب معينة، وإنما يقول للشيء: كن فيكون. تقول الآية الكريمة: {بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . «وكن» وردت كثيرا في القرآن الكريم. . وفي اللغة شيء يسمى المشترك. . اللفظ يكون واحدا ومعانيه تختلف حسب السياق. . فمثلا كلمة قضى لها معاني متعددة ولها معنى يجمع كل معانيها. . مرة يأتي بها الحق بمعنى فرغ أو انتهى. . في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: 200] ومعناها إذا انتهيتم من مناسك الحج. . ومرة يقول سبحانه: {فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ} [طه: 72] والمعنى إفعل ما تريد. . وفي آية أخرى يقول الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] والمعنى هنا أنه إذا قال الله شيئا لا يترك للمؤمنين حق الاختيار. . ومرة يصور الله جل جلاله الكفار في الآخرة وهم في النار يريدون أن يستريحوا من العذاب بالموت. واقرأ قوله سبحانه: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77] لِيَقْضِ علينا هنا معناها يميتنا. . ومعنى آخر في قوله تعالى: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر} [إبراهيم: 22] أي لما انتهى الأمر ووقع الجزاء. . وفي موقع آخر قوله سبحانه: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29] قضى الأجل هنا بمعنى أتم الأجل وفي قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس: 54] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 أي حكم وفصل بينهم. . وقوله جل جلاله: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4] بمعنى أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم. . إذن «قضى» لها معان متعددة يحددها السياق. . ولكن هناك معنى تلتقي فيه كل المعاني. . وهو قضى أي حكم وهذا هو المعنى الأم. إذن معنى قوله تعالى: {إِذَا قضى أَمْراً} . . أي إذا حكم بحكم فإنه يكون. . على أننا يجب أن نلاحظ قول الحق: {وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} . . معنى يقول له أن الأمر موجود عنده. . موجود في علمه. . ولكنه لم يصل إلى علمنا. . أي أنه ليس أمرا جديدا. . لأنه مادام الله سبحانه وتعالى قال: «يقول له» . . كأنه جل جلاله يخاطب موجودا. . ولكن هذا الموجود ليس في علمنا ولا نعلم عنه شيئا. . وإنما هو موجود في علم الله سبحانه وتعالى. . ولذلك قيل أن لله أموراً يبديها ولا يبتديها. . إنها موجودة عنده لأن الأقلام رُفِعَتْ، والصحف جفت. . ولكنه يبديها لنا نحن الذين لا نعلمها فنعلمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 الحق سبحانه وتعالى حين قال: {الذين لاَ يَعْلَمُونَ} . . أي لا يعلمون عن كتاب الله شيئا لأنهم كفار. . وهؤلاء سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكلمهم الله. . ومعنى أن يكلمهم الله أن يسمعوا كلاما من الله سبحانه. . كما سمع موسى كلام الله. وماذا كانوا يريدون من كلام الله تبارك وتعالى. . أكانوا يريدون أن يقول لهم الله إنه أرسل محمداً رسولا ليبلغهم بمنهج السماء. . وكأن كل المعجزات التي أيد الله بها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى رأسها القرآن الكريم لم تكن كافية لإقناعهم. . مع أن القرآن كلام معجز وقد أتى به رسول أمي. . سألوه عن أشياء حدثت فأوحى الله بها إليه بالتفصيل. . جاء القرآن ليتحدى في أحداث المستقبل وفي أسرار النفس البشرية. . وكان ذلك يكفيهم لو أنهم استخدموا عقولهم ولكنهم أرادوا العناد كلما جاءتهم آية كذبوا بها وطلبوا آية أخرى. . والله سبحانه وتعالى قد أبلغنا أنه لا يمكن لطبيعة البشر أن تتلقى عن الله مباشرة. . واقرأ قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} [الشورى: 51] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 إذن فالبشر حتى المصطفى من الله والمؤهل للتلقي عن الله. . لا يكلمه الله إلا وحيا أو إلهامَ خاطرٍ أو من وراء حجاب كما كلم موسى. . أو يرسل رسولا مبلغا للناس لمنهج الله. . أما الاتصال المباشر فهو أمر تمنعه بشرية الخلق. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ} . . والآيات التي يطلبها الكفار ويأتي بها الله سبحانه وتعالى ويحققها لهم. . لا يؤمنون بها بل يزدادون كفرا وعنادا. . والله جل جلاله يقول: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} [الإسراء: 59] إذن فالآيات التي يطلبها الكفار ليؤمنوا لا تجعلهم يؤمنون. . ولكن يزدادون كفرا حتى ولو علموا يقينا أن هذه الآيات من عند الله سبحانه وتعالى كما حدث لآل فرعون. . واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [النمل: 13 - 14] وهكذا فإن طلبهم أن يكلمهم الله أو تأتيهم آية كان من باب العناد والكفر. . والحق سبحانه يقول: {كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} . . فبنو إسرائيل قالوا لموسى أرنا الله جهرة. . الذين لا يعلمون قالوا لولا يكلمنا الله. . ولكن الذين قالوا أرنا الله جهرة كانوا يعلمون لأنهم كانوا يؤمنون بالتوراة. . فتساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون. . لذلك قال الله تبارك وتعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} . . أي قلوب أولئك الذين كانوا خاضعين للمنهج والذين لا يخضعون لمنهج قد تشابهت بمنطق واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 ولو أن الذين لا يعلمون قالوا ولم يقل الذين يعلمون لهان الأمر. . وقلنا جهلهم هو الذي أوحى إليهم بما قالوا. . ولكن ما عذر الذين علموا وعندهم كتاب أن يقولوا أرنا الله جهرة. . إذن فهناك شيء مشترك بينهم تشابهت قلوبهم في الهوى. . إن مصدر كل حركة سلوكية أو حركة جارحة إنما هو القلب الذي تصدر عنه دوافع الحركة. . ومادام القلب غير خالص لله فيستوى الذي يعلم والذي لا يعلم. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . . ما هو اليقين؟ هو استقرار القضية في القلب استقراراً لا يحتمل شكا ولا زلزلة. . ولا يمكن أن تخرج القضية مرة أخرى إلى العقل. . لتناقش من جديد لأنه أصبح يقينا. . واليقين يأتي من إخبار من تثق به وتصبح أخباره يقينا. . فإذا قال الله قال اليقين. . وإذا قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكلامه حق. . ولذلك من مصداقية الإيمان أن سيدنا أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. . عندما قيل له إن صاحبك يقول إنه صُعد به إلى السماء السابعة وذهب إلى بيت المقدس في ليلة واحدة. . قال إن كان قد قال فقد صدق. إن اليقين عنده نشأ من إخبار من يثق فيه وهذا نسميه علم يقين. . وقد يرتقي الأمر ليصير عين يقين. . عندما ترى الشيء بعينك بعد أن حُدثت عن رؤية غيرك له. . ثم تدخل في حقيقة الشيء فيصبح حق يقين. . إذن اليقين علم إذا جاء عن إخبار من تثق به. . وعين يقين إذا كان الأمر قد شوهد مشاهدة العين. . وحق يقين هو أن تدخل في حقيقة الشيء. . والله سبحانه وتعالى يشرح هذا في قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم} [التكاثر: 1 - 6] هذه هي المرحلة الأولى أن يأتينا علم اليقين من الله سبحانه وتعالى. . ثم تأتي المرحلة الثانية في قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 7] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 أي أنتم ستشاهدون جهنم بأعينكم يوم القيامة. . هذا علم يقين وعين يقين. . يأتي بعد ذلك حق اليقين في قوله تعالى: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 92 - 95] والمؤمن عافاه الله من أن يعاين النار كحق يقين. . إنه سيراها وهو يمر على الصراط. . ولكن الكافر هو الذي سيصلاها حقيقة يقين. . ولقد قال أهل الكتاب لأنبيائهم ما يوافق قول غير المؤمنين. . فاليهود قالوا لموسى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} . . والمسيحيون قالوا لعيسى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} قال: {اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} . . وهكذا شجع المؤمنون بالكتاب غير المؤمنين بأن يطلبوا رؤية الله ويطلبوا المعجزات المادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 هنا لابد أن نلتفت إلى أن الله سبحانه وتعالى حينما يخبرنا عن قضية من فعله. يأتي دائما بنون العظمة التي نسميها نون المتكلم. . ونلاحظ أن نون العظمة يستخدمها رؤساء الدول والملوك ويقولون نحن فلان أمرنا بما هو آت. . فكأن العظمة في الإنسان سخرت المواهب المختلفة لتنفيذ القرار الذي يصدره رئيس الدولة. . فيشترك في تنفيذه الشرطة والقضاء والدولة والقوات المسلحة إذا كان قرار حرب. . تشترك مواهب متعددة من جماعات مختلفة تتكاتف لتنفيذ القرار. . والله تبارك وتعالى عنده الكمال المطلق. . كل ما هو لازم للتنفيذ من صفات الله سبحانه وتعالى. . فإذا تحدث الله جل جلاله عن فعل يحتاج إلى كمال المواهب من الله تبارك وتعالى يقول «إنا» : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ولكن حين يتكلم الله عن ألوهيته وحده وعن عبادته وحده يستخدم ضمير المفرد. . مثل قوله سبحانه: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري} [طه: 14] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 ولا يقول فاعبدنا. . إذن ففي كل فعل يأتي الله سبحانه بنون العظمة. . وفي كل أمر يتعلق بالعبادة والتوحيد يأتي بالمفرد. . وذلك حتى نفهم أن الفعل من الله ليس وليد قدرته وحدها. . ولا علمه وحده ولا حكمته وحدها ولا رحمته وحدها. . وإنما كل فعل من أفعال الله تكاملت فيه صفات الكمال المطلق لله. إن نون العظمة تأتي لتلفتنا إلى هذه الحقيقة لتبرز للعقل تكامل الصفات في الله. . لأنك قد تقدر ولا تعلم. . وقد تعلم ولا تقدر، وقد تعلم وتغيب عنك الحكمة. إذن فتكامل الصفات مطلوب. قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق} يعني بعثناك بالحق رسولا. . والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا يتناقض. . فإذا رأيت حدثا أمامك ثم طلب منك أن تحكي ما رأيت رويت ما حدث. . فإذا طلب منك بعد فترة أن ترويه مرة أخرى فإنك ترويه بنفس التفاصيل. . أما إذا كنت تكذب فستتناقض في أقوالك. . ولذلك قيل إن كنت كذوبا فكن ذكورا. إن الحق لا يتناقض ولا يتغير. . ومادام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أرسل بالحق. . فإنَّ عليه لأن يبلغه للناس وسيبقى الحق حقا إلى يوم القيامة. وقوله تعالى: {بَشِيراً وَنَذِيراً} . . البشارة هي إخبار بشيء يسرك زمنه قادم. . والإنذار هو الإخبار بشيء يسوؤك زمنه قادم ربما استطعت أن تتلافاه. . بشير بماذا؟ ونذير بماذا؟ يبشر من آمن بنعيم الجنة وينذر الكافر بعذاب النار. . والبشرى والإنذار يقتضيان منهجا يبلغ. . من آمن به كان بشارة له. ومن لا يؤمن كان إنذارا له. ثم يقول الحق جل جلاله: {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} . . أي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس مسئولا عن الذين سيلقون بأنفسهم في النار والعذاب. إنه ليس مسئولا عن هداهم وإنما عليه البلاغ. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 ويقول جل جلاله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] فالله سبحانه وتعالى لو أرادنا أن نؤمن قسرا وقهرا. . ما استطاع واحد من الخلق أن يكفر. . ولكنه تبارك وتعالى يريد أن نأتيه بقلوب تحبه وليس بقلوب مقهورة على الإيمان. . إن الله سبحانه وتعالى خلق الناس مختارين أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا. . وليس لرسول أن يرغم الناس على الإيمان بالقهر. . لأن الله لو أراد لقهر كل خلقه. أما أصحاب الجحيم فهم أهل النار. والجحيم مأخوذة من الجموح. . وجمحت النار يعني اضطربت، وعندما ترى النار متأججة يقال جمحت النار. . أي أصبح لهيبها مضاعفا بحيث يلتهم كل ما يصل إليها فلا تخمد أبدا. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . أنه لا يجب أن ينشغل قلبه بالذين كفروا لأنه قد أنذرهم. . وهذا ما عليه، وهذه مهمته التي كلفه الله بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 كان اليهود يدخلون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مدخل لؤم وكيد فيقولون هادنا، أي قل لنا ما في كتابنا حتى ننظر إذا كنا نتبعك أم لا. . يريد الله تبارك وتعالى أن يقطع على اليهود سبيل الكيد والمكر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . بأنه لا اليهود ولا النصارى سيتبعون ملتك. . وإنما هم يريدون أن تتبع أنت ملتهم. . أنت تريد أن يكونوا معك وهم يطمعون أن تكون معهم. . فقال الله سبحانه: {وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} . . نلاحظ هنا تكرار النفي وذلك حتى نفهم أن رضا اليهود غير رضا النصارى. . ولو قال الحق تبارك وتعالى، ولن ترضى عنك اليهود والنصارى بدون لا. . لكان معنى ذلك أنهم مجتمعون على رضا واحد أو متفقون. . ولكنهم مختلفون بدليل أن الله تعالى قال: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113] إذن فلا يصح أن يقال فلن ترضى عنك اليهود والنصارى. . والله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لن ترضى عنك اليهود ولن ترضى عنك النصارى. . وإنك لو صادفت رضا اليهود فلن ترضى عنك النصارى. . وإن صادفت رضا النصارى فلن ترضى عنك اليهود. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 ثم يقول الحق سبحانه: {حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} . . والملة هي الدين وسميت بالملة لأنك تميل إليها حتى ولو كانت باطلا. . والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 3 - 6] فجعل لهم دينا وهم كافرون ومشركون. . ولكن ما الذي يعصمنا من أن نتبع ملة اليهود أو ملة النصارى. . الحق جل جلاله يقول: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} [آل عمران: 73] فاليهود حرفوا في ملتهم والنصارى حرفوا فيها. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معه هدى الله. . والهدى هو ما يوصلك إلى الغاية من أقصر طريق. . أو هو الطريق المستقيم باعتباره أقصر الطرق إلى الغاية. . وهدى الله طريق واحد، أما هدى البشر فكل واحد له هدى ينبع من هواه. ومن هنا فإنها طرق متشعبة ومتعددة توصلك إلى الضلال. . ولكن الهدى الذي يوصل للحق هو هدى واحد. . هدى الله عَزَّ وَجَلَّ. وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ} إشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أن ملة اليهود وملة النصارى أهواء بشرية. . والأهواء جمع هوى. . والهوى هو ما تريده النفس باطلا بعيدا عن الحق. . لذلك يقول الله جل جلاله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .. والله تبارك وتعالى يقول لرسوله لو اتبعت الطريق المعوج المليء بالشهوات بغير حق. . سواء كان طريق اليهود أو طريق النصارى بعدما جاءك من الله من الهدى فليس لك من الله من ولي يتولى أمرك ويحفظك ولا نصير ينصرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 وهذا الخطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجب أن نقف معه وقفة لنتأمل كيف يخاطب الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي اصطفاه. . فالله حين يوجه هذا الخطاب لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . فالمراد به أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتباع رسول الله الذين سيأتون من بعده. . وهم الذين يمكن أن تميل قلوبهم إلى اليهود والنصارى. . أما الرسول فقد عصمه الله من أن يتبعهم. والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعلم يقينا أن ما لم يقبله من رسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . لا يمكن أن يقبله من أحد من أمته مهما علا شأنه. . وذلك حتى لا يأتي بعد رسول الله من يدعي العلم. . ويقول نتبع ملة اليهود أو النصارى لنجذبهم إلينا. . نقول له لا ما لم يقبله الله من حبيبه ورسوله لا يقبله من أحد. إن ضرب المثل هنا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مقصود به أن أتباع ملة اليهود أو النصارى مرفوض تماما تحت أي ظرف من الظروف، لقد ضرب الله سبحانه المثل برسوله حتى يقطع على المغرضين أي طريق للعبث بهذا الدين بحجة التقارب مع اليهود والنصارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن اليهود والنصارى قد حرفوا كتبهم، أراد أن يبين أن هناك من اليهود والنصارى من لم يحرفوا في كتبهم. . وأن هؤلاء يؤمنون بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وبرسالته. . لأنهم يعرفونه من التوراة والإنجيل. ولو أن الله سبحانه لم يذكر هذه الآية لقال الذين يقرأون التوراة والإنجيل على حقيقتيهما. . ويفكرون في الإيمان برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . لقالوا كيف تكون هذه الحملة على كل اليهود وكل النصارى ونحن نعتزم الإيمان بالإسلام. . وهذا ما يقال عنه قانون الاحتمال. . أي أن هناك عددا مهما قل من اليهود أو النصارى يفكرون في اعتناق الإسلام باعتباره دين الحق. . وقد كان هناك جماعة من اليهود عددهم أربعون قادمون من سيناء مع جعفر بن أبي طالب ليشهدوا أمام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنهم قرأوا التوراة غير المحرفة وآمنوا برسالته. . وأراد الله أن يكرمهم ويكرم كل من سيؤمن من أهل الكتاب. . فقال جل جلاله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} [البقرة: 121] أي يتلونه كما أنزل بغير تحريف ولا تبديل. . فيعرفون الحقائق صافية غير مخلوطة بهوى البشر. . ولا بالتحريف الذي هو نقل شيء من حق إلى باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 يقول الله تبارك وتعالى: {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون} . . ونلاحظ أن القرآن الكريم يأتي دائما بالمقارنة. . ليكرم المؤمنين ويلقي الحسرة في نفوس المكذبين. . لأن المقارنة دائما تظهر الفارق بين الشيئين. إن الله سبحانه يريد أن يعلم الذين آتاهم الله الكتاب فلم يحرفوه وآمنوا به. . ليصلوا إلى النعمة التي ستقودهم إلى النعيم الأبدي. . وهي نعمة الإسلام والإيمان. . مقابل الذين يحرفون التوراة والإنجيل فمصيرهم الخسران المبين والخلود في النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 لو رجعنا إلى ما قلناه عندما تعرضنا للآية (40) من سورة البقرة. . وقوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فارهبون} . . فالحق سبحانه وتعالى لم ينه الجولة مع بني إسرائيل قبل أن يذكرهم بما بدأهم به. . إنه سبحانه لا ينهي الكلام معهم في هذه الجولة. . إلا بعد أن يذكرهم تذكيرا نهائيا بنعمه عليهم وتفضيله لهم على كثير من خلقه. . ومن أكبر مظاهر هذا التفضيل. . الآية الموجودة في التوراة تبشر بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وذلك تفضيل كبير. التذكير بالنعمة هنا وبالفضل هو تقريع لبني إسرائيل أنهم لم يؤمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أنه مذكور عندهم في التوراة. . وكان يجب أن يأخذوا هذا الذكر بقوة ويسارعوا للإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه تفضيل كبير من الله سبحانه وتعالى لهم. . والله جل جلاله قال حين أخذت اليهود الرجفة. . وطلب موسى عليه السلام من ربه الرحمة. . قال كما يروي لنا القرآن الكريم: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 156 - 157] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 هذه الآية الكريمة تشابهت مع الآية 48 من سورة البقرة. . التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} . نقول إن هذا التشابه ظاهري. . ولكن كل آية تؤدي معنى مستقلا. . ففي الآية 48 قال الحق سبحانه: {لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} . . وفي الآية التي نحن بصددها قال: {لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} . . لماذا؟ لأن قوله تعالى {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} . . لو أردنا النفس الأولى فالسياق يناسبها في الآية الأولى. . ولو أردنا النفس الثانية فالسياق يناسبها في الآية الثانية التي نحن بصددها. . فكأن معنا نفسين إحداهما جازية والثانية مجزي عنها. . والجازية هي التي تشفع. . فأول شيء يقبل منها هو الشفاعة. . فإن لم تقبل شفاعتها تقول أنا أتحمل العدل. . أي أخذ الفدية أو ما يقابل الذنب. . ولكن النفس المجزي عنها أول ما تقدم هو العدل أو الفداء. . فإذا لم يقبل منها تبحث عن شفيع. . ولقد تحدثنا عن ذلك بالتفصيل عند تعرضنا للآية 48 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 يأتي الحق سبحانه وتعالى إلى قصة إبراهيم عليه السلام. . ليصفي الجدل والتشكيك الذي أحدثه اليهود عند تغيير القبلة. . واتجاه المسلمين إلى الكعبة المشرفة بدلا من بيت المقدس. . كذلك الجدل الذي أثاره اليهود بأنهم شعب الله المختار وأنه لا يأتي نبي إلا منهم. يريد الله تبارك وتعالى أن يبين صلة العرب بإبراهيم وصلتهم بالبيت. . فيقول الحق جل جلاله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} . . ومعناها اذكر إذا ابتلى الله إبراهيم. . وإذ هنا ظرف وهناك فرق بينها وبين إذا الشرطية في قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً} [النصر: 1 - 2] إذا هنا ظرف ولكنه يدل على الشرط. . أما إذ فهي ظرف فقط. . وقوله تعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} . . معناها اذكر وقت أن ابتلى إبراهيم بكلمات. ما معنى الابتلاء؟ الناس يظنون أنه شر ولكنه في الحقيقة ليس كذلك. . لأن الابتلاء هو إمتحان إن نجحنا فيه فهو خير وإن رسبنا فيه فهو شر. . فالابتلاء ليس شرا ولكنه مقياس لاختبار الخير والشر. الذي ابتلى هو الله سبحانه. . هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 الرب. . والرب معناه المربي الذي يأخذ من يربيه بأساليب تؤهله إلى الكمال المطلوب منه. . ومن أساس التربية أن يمتحن المربي من يربيه ليعلم هل نجح في التربية أم لا؟ والابتلاء هنا بكلمات والكلمات جمع كلمة. . والكلمة قد تطلق على الجملة مثل قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 4 - 5] إذن فالكلمة قد تطلق على الجملة وقد تطلق على المفرد. . كأن تقول مثلا محمد وتسكت. . وفي هذه الحالة لا تكون جملة مفيدة. . والكلمة المرادة في هذه الآية هي التكليف من الله. قوله سبحانه إفعل ولا تفعل. . فكأن التكليف من الله مجرد كلمة وأنت تؤدي مطلوبها أو لا تؤديه. . وقد اختلف العلماء حول الكلمات التي تلقاها إبراهيم من ربه. . نقول لهم أن هذه الكلمات لابد أن تناسب مقام إبراهيم أبي الأنبياء. . إنها ابتلاء يجعله أهلا لحمل الرسالة. . أي لابد أن يكون الابتلاء كبيراً. . ولقد قال العلماء إن الابتلاءات كانت عشرة وقالوا أربعين منها عشرة في سورة التوبة وهي قوله تعالى: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله} [التوبة: 112] وهذه رواية عبد الله بن عباس. . وعشرة ثانية في سورة المؤمنون. وفي قوله سبحانه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أولئك هُمُ الوارثون} [المؤمنون: 1 - 10] وبعد ذلك قال: {أولئك هُمُ الوارثون} . وفي سورة الأحزاب يذكر منهم قوله جل جلاله: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35] وفي سورة المعارج يقول: {إِلاَّ المصلين الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين والذين هُم مِّنْ عَذَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 22 - 34] نخرج من هذا الجدل، بأن نقول إن الله ابتلى إبراهيم بكلمات تكليفية افعل كذا ولا تفعل كذا. . وابتلاه بأن أُلقِي في النار وهو حي فلم يجزع ولم يتراجع ولم يتجه إلا لله وكانت قمة الابتلاء أن يذبح ابنه. وكون إبراهيم أدى جميع التكليفات بعشق وحب وزاد عليه من جنسها. . وكونه يلقى في النار ولا يبالي يأتيه جبريل فيقول ألك حاجة فيرد إبراهيم أما إليك فلا. . وأما إلى الله فعلمه بحالي يغنيه عن سؤالي. . وكونه وهو شيخ كبير يبتلى بذبح ابنه الوحيد فيطيع بنفس مطمئنة ورضا بقدر الله. . يقول الحق: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 36 - 37] أي وَفَّي كل ما طلب منه وأداه بعشق للمنهج ولابتلاءات الله. . لقد نجح إبراهيم عليه السلام في كل ما ابتلي به أو اختبر به. . والله كان أعز عليه من أهله ومن نفسه ومن ولده. . ماذا كافأه الله به؟ قال: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 أي أن الحق تبارك وتعالى أئتمنه أن يكون إماماً للبشر. . والله سبحانه كان يعلم وفاء إبراهيم ولكنه اختبره لنعرف نحن البشر كيف يصطفي الله تعالى عباده المقربين وكيف يكونوا أئمة يتولون قيادة الأمور. . استقبل إبراهيم هذه البشرى من الله وقال كما يروي لنا القرآن الكريم: {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] ما هي الذرية؟ هي النسل الذي يأتي والولد الذي يجئ. . لأنه يحب استطراق الخير على أولاده وأحفاده وهذه طبيعة البشر، فهم يعطون ثمرة حركتهم وعملهم في الحياة لأولادهم وأحفادهم وهم مسرورون. . ولذلك أراد إبراهيم أن ينقل الإمامية إلى أولاده وأحفاده. . حتى لا يحرموا من القيم الإيمانية تحرس حياتهم وتؤدي بهم إلى نعيم لا يزول. . ولكن الله سبحانه وتعالى يرد على إبراهيم بقضية إيمانية أيضا هي تقريع لليهود. . الذي تركوا القيم وعبدوا المادة فيقول جل جلاله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] فكأن إبراهيم بأعماله قد وصل إلى الإمامية. . ولكن هذا لا ينتقل إلا للصالحين من عباده العابدين المسبحين. وقول الحق سبحانه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} مقصود به اليهود الذين باعوا قيمهم الإيمانية بالمادة، وهو استقراء للغيب أنه سيأتي من ذرية إبراهيم من سيفسق ويظلم. ومن العجائب أن موسى وهارون عليهما السلام كانا رسولين. . الرسول الأصيل موسى وهارون جاء ليشد أزره لأنه فصيح اللسان. . وشاءت إرادة الله سبحانه أن تستمر الرسالة في ذرية هارون وليس في ذرية موسى. . والرسالة ليست ميراثا. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 وقوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} . . فكأن عهد الله هو الذي يجذب صاحبه أي هو الفاعل. . نأتي بعد ذلك إلى مسألة الجنس والدم واللون. . بنوة الأنبياء غير بنوة الناس كلهم فالأنبياء اصطفاؤهم اصطفاء قيم وأبناؤهم هم الذين يأخذون منهم هذه القيم وليسوا الذين يأخذون الجنس والدم واللون. . ولو رجعنا إلى قصة نوح عليه السلام حين غرق ابنه. . رفع يديه إلى السماء وقال: {رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] فرد عليه الحق سبحانه وتعالى فقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] إن أهل النبوة هم الذين يأخذون القيم عن الأنبياء. . ولولا أن الحق سبحانه قال لنا {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} . . لاعتقدنا أنه ربما جاء من رجل آخر أو غير ذلك. . ولكن الله يريدنا أن نعرف أن عدم نسبة ابن نوح إلى أبيه بسبب {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 وضّحت لنا الآية التي سبقت أن اليهود قد انتفت صلتهم بإبراهيم عليه السلام. . بعد أن تركوا القيم والدين واتجهوا إلى ماديات الحياة. . أنتم تدعون أنكم أفضل شعوب الأرض لأنكم من ذرية إسحق بن إبراهيم والعرب لهم هذه الأفضلية والشرف لأنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم. . إذن فأنتم غير مفضلين عليهم. . فإذا انتقلنا إلى قصة بيت المقدس وتحول القبلة إلى الكعبة. . نقول إن ذلك مكتوب منذ بداية الخلق أن تكون الكعبة قبلة كل من يعبد الله. الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} . . تأمل كلمة البيت وكلمة مثابة. . بيت مأخوذ من البيتوته وهو المأوى الذي تأوى إليه وتسكن فيه وتستريح وتكون فيه زوجتك وأولادك. . ولذلك سميت الكعبة بيتا لأنها هي المكان الذي يستريح إليه كل خلق الله. . ومثابة يعني مرجعا تذهب إليه وتعود. . ولذلك فإن الذي يذهب إلى بيت الله الحرام مرة يحب أن يرجع مرات ومرات. . إذن فهو مثابة له لأنه ذاق حلاوة وجوده في بيت ربه. . وأتحدى أن يوجد شخص في بيت الله الحرام يشغل ذهنه غير ذكر الله وكلامه وقرآنه وصلاته. . تنظر إلى الكعبة فيذهب كل ما في صدرك من ضيق وهم وحزن ولا تتذكر أولادك ولا شئون دنياك ولو ظلت جاذبية بيت الله في قلوب الناس مستمرة لتركوا كل شئون دنياهم ليبقوا بجوار البيت. . ولذلك كان عمر بن الخطاب حريصا على أن يعود الناس إلى أوطانهم وأولادهم بعد انتهاء مناسك الحج مباشرة. . ومن رحمة الحق سبحانه أن الدنيا تختفي من عقل الحاج وقلبه. . لأن الحجيج في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 بيت ربهم. . وكلما كربهم شيء أو همهم شيء توجهوا إلى ربهم وهم في بيته فيذهب عنهم الهم والكرب. . ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] أفئدة وليست أجساما وتهوى أي يلقون أنفسهم إلى البيت. . والحج هو الركن الوحيد الذي يحتال الناس ليؤدوه. . حتى غير المستطيع يشق على نفسه ليؤدي الفريضة. . والذي يؤديه مرة ويسقط عنه التكليف يريد أن يؤديه مرة أخرى ومرات. إن من الخير أن تترك الناس يثوبون إلى بيت الله. . ليمحو الله سبحانه ما في صدورهم من ضيق وهموم مشكلات الحياة. وقوله تعالى: {مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} . . أمنا يعني يؤمّن الناس فيه. . العرب حتى بعد أن تحللوا من دين إسماعيل وعبدوا الأصنام كانوا يؤمنون حجاج بيت الله الحرام. . يلقي أحدهم قاتل أبيه في بيت الله فلا يتعرض له إلا عندما يخرج. والله سبحانه وتعالى يضع من التشريعات ما يريح الناس من تقاتلهم ويحفظ لهم كبرياءهم فيأتي إلى مكان ويجعله آمنا. . ويأتي إلى شهر ويجعله آمنا لا قتال فيه لعلهم حين يذوقون السلام والصفاء يمتنعون عن القتال. والكلام عن هذه الآية يسوقنا إلى توضيح الفرق بين أن يخبرنا الله أن البيت آمن وأن يطلب منا جعله آمنا. . إنه سبحانه لا يخبرنا بأن البيت آمن ولكن يطلب منا أن نؤمّن من فيه. . الذي يطيع ربه يؤمن من في البيت والذي لا يطيعه لا يؤمنه. . عندما يحدث هياج من جماعة في الحرم اتخذته ستاراً لتحقيق أهدافها. . هل يتعارض هذا مع قوله تعالى: {مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} . . نقول لا. . إن الله لم يعط لنا هذا كخبر ولكن كتشريع. . إن أطعنا الله نفذنا هذا التشريع وإن لم نطعه لا ننفذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 وقوله تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . . وهنا نقف قليلا فهناك مَقام بفتح الميم ومُقام بضم الميم. . قوله تعالى: {ياأهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13] مَقام بفتح الميم إسم لمكان من قام. . ومُقام بضم الميم اسم لمكان من أقام. . فإذا نظرت إلى الإقامة فقل مُقام بضم الميم. . وإذا نظرت إلى مكان القيام فقل مقام بفتح الميم. . إذن فقوله تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} بفتح الميم اسم المكان الذي قام إبراهيم فيه ليرفع القواعد من البيت ويوجد فيه الحجر الذي وقف إبراهيم عليه وهو يرفع القواعد. ولكن لماذا أمرنا الله بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ لأنهم كانوا يتحرجون عن الصلاة فيه. . فالذي يصلي خلف المقام يكون الحجر بينه وبين الكعبة. . وكان المسلمون يتحرجون أن يكون بينهم وبين الكعبة شيء فيخلون من الصلاة ذلك المكان الذي فيه مقام إبراهيم. . ولذلك قال سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ وسؤال عمر ينبع من الحرص على عدم الصلاة وبينه وبين الكعبة عائق وهم لا يريدون ذلك. . ولما رأى عمر مكانا في البيت ليس فيه صلاة يصنع فجوة بين المصلين أراد أن تعم الصلاة كل البيت. . فنزلت الآية الكريمة: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى. . فكأنه جل جلاله أقر وجود مكان إبراهيم في مكانه فاصلا بين المصلين خلفه وبين الكعبة. . وذلك لأن مقام إبراهيم له قصة تتصل بالعبادة وإتمامها على الوجه الأكمل، والمقام سيعطينا حيثية الإتمام لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 إذن هناك آيات واضحة يريدنا الله سبحانه أن نراها ونتفهمها. . فمقام إبراهيم هو مكان قيامه عندما أمره الله برفع القواعد من البيت. . والترتيب الزمني للأحداث هو أن البيت وُجد أولا. . ثم بعد ذلك رفعت القواعد ووضع الحجر الأسود في موقعه وقد وضعه إبراهيم عليه السلام. إن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يعطينا التاريخ بقدر ما يريد أن يعطينا العبرة؛ فقصة بناء البيت وقع فيها خلاف بين العلماء. . متى بني البيت؟ بعض العلماء جعلوا بداية البناء أيام إبراهيم وبعضهم يرى أنه من عهد آدم وفريق ثالث يقول إنه من قبل آدم. . وإذا حكمنا المنطق والعقل وقرأنا قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} [البقرة: 127] نسأل ما الرفع أولا؟ هو الصعود والإعلاء، فكل بناء له طول وله عرض وله ارتفاع. . ومادامت مهمة إبراهيم هي رفع القواعد فكأن هناك طولا وعرضا للبيت وإن إبراهيم سيحدد البعد الثالث وهو الارتفاع. . إن البيت كان موجودا قبل إبراهيم. . ثم جاء الطوفان الذي غمر الأرض في عهد نوح فأخفى معالمه. . فأراد الله سبحانه وتعالى أن يظهره ويبين مكانه للناس. والكعبة ليست هي البيت ولكنها هي المكين الذي يدلنا على مكان البيت. . إذن فالذين فهموا من قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} . . بمعنى أن إبراهيم هو الذي بنى البيت. . نقول لهم إن البيت كان موجودا قبل إبراهيم وأن مهمة إبراهيم اقتصرت على رفع القواعد لإظهار مكان البيت للناس. . ودليلنا على ذلك أنه الآن وقد ارتفع البناء حول الكعبة. . من يصلي على السطح لا يسجد للكعبة ولكنه يسجد لجوّ الكعبة. . ومن يصلي في الدور الأسفل يصلي أيضا للكعبة لأن المكان غير المكين. ولعل أكبر دليل على ذلك من القرآن الكريم. . أن إبراهيم حين أخذ هاجر وابنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 إسماعيل وتركهما في بيت الله الحرام ولم يكن قد بنى الكعبة في ذلك الوقت. . ذكر البيت واقرأ قول الحق تبارك وتعالى في دعاء إبراهيم وهو يترك هاجر وطفلها الرضيع: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة} [إبراهيم: 37] يعني أن البيت كان موجودا وإسماعيل طفل رضيع. . ولكن القواعد من البيت قد أقيمت بعد أن أصبح إسماعيل شابا يافعا يستطيع أن يعاون أباه في بناء الكعبة. . إذن فمكان بيت الله الحرام كان موجودا قبل أن يبني إبراهيم عليه السلام الكعبة. . ولكن مكان البيت لم يكن ظاهرا للناس، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى لإبراهيم مكان البيت حتى يضع له العلامة التي تدل الناس عليه. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج: 26] إن كثيرا من المفسرين يخفى عليهم حقيقة ما جاء في القرآن. والمفروض أننا حين نتعرض لقضية بناء البيت لابد أن نستعرض جميع الآيات التي وردت في القرآن الكريم حول هذه القصة. . ومنها قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] والكلام هنا عن البيت. والقول إنه وضع للناس. والناس هم آدم وذريته حتى تقوم الساعة. . وعلى ذلك لابد أن نفهم أن البيت مادام وضع للناس فالناس لم يضعوه. . ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضعه وحدده، وعدل الله يأبى إلا أن يوجد البيت قبل أن يخلق آدم. ولذلك فإن الملائكة هم الذين وضعوه بأمر الله وحيث أراد الله لبيته أن يوضع. . والله مع نزول آدم إلى الأرض شرع التوبة وأعد هذا البيت ليتوب الناس فيه إلى ربهم وليقيموا الصلاة ويتعبدوا فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 وعندما أراد إبراهيم أن يقيم القواعد من البيت كان يكفي أن يقيمها على قدر طول قامته ولكنه أتى بالحجر ليزيد القواعد بمقدار ارتفاع الحجر. . ويريد الله سبحانه وتعالى بمقام إبراهيم واتخاذه مصلى أن يلفتنا إلى أن الإنسان المؤمن لابد أن يعشق التكليف. . فلا يؤديه شكلا ولكن يؤديه بحب ويتحايل ليزيد تطوعا من جنس ما فرض الله عليه. إن الحجر الموجود في مقام إبراهيم إنما هو دليل على عشقه عليه السلام لتكاليف ربه ومحاولته أن يزيد عليها. وإن الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم به حفر على شكر قدميه. . وهما بين قائل أن الحجر لان تحت قدمي إبراهيم من خشية الله. . وبين قائل إن إبراهيم هو الذي قام بحفر مكان في الحجر على هيئة قدميه. . حتى إذا وقف عليه ورفع يده إلى أعلى ما يمكن ليعلي القواعد من البيت كان توازنه محفوظا. وقوله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ} دليل على البيت زالت معالمه تماما وأصبح مثل سائر الأرض فذبحت فيه الذبائح وألقيت المخلفات، فأمر الله سبحانه وتعالى أن يطهر هو وإسماعيل البيت من كل هذا الدنس ويجعله مكانا لثلاث طوائف: «الطائفين» وهذه مأخوذة من الطواف وهو الدوران حول الشيء. . ولذلك يسمون شرطة الحراسة بالليل طوافة لأنهم يطوفون في الشوارع في أثناء الليل. والله جل جلاله يقول: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم} [القلم: 19 - 20] وهذه هي قصة الحديقة التي منع أولاد الرجل الصالح بعد وفاته حق الفقراء والمساكين فيها فأرسل الله سبحانه من طاف بها. . أي مشى في كل جزء منها فأحرق أشجارها. . فالطائف هو الذي يطوف. . {والعاكفين} هم المقيمون {والركع السجود} هم المصلون فتطهير البيت للطواف به والإقامة والصلاة فيه. . وهو مطهر أيضا لأنه سيكون قبلة للمسلمين لكل راكع أو ساجد في الأرض حتى قيام الساعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} . . ومادام الله قد جعله أمنا فما هي جدوى دعوة إبراهيم أن تكون مكة بلدا آمنا. . نقول إذا رأيت طلبا لموجود فاعلم أن القصد منه هو دوام بقاء ذلك الموجود. . فكأن إبراهيم يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يديم نعمة الأمن في البيت. . ذلك لأنك عندما تقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 136] هو خاطبهم بلفظ الإيمان ثم طلب منهم أن يؤمنوا. . كيف؟ نقول إن الله سبحانه يأمرهم أن يستمروا ويداوموا على الإيمان. . ولذلك فإن كل مطلوب لموجود هو طلبٌ لاستمرار هذا الموجود. وقول إبراهيم: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} . . أي يا رب إذا كنت قد جعلت هذا البيت آمنا من قبل فأمنه حتى قيام الساعة. . ليكون كل من يدخل إليه آمنا لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 موجود في واد غير ذي زرع. . وكانت الناس في الماضي تخاف أن تذهب إليه لعدم وجود الأمان في الطريق. . أو آمنا أي أن يديم الله على كل من يدخله نعمة الإيمان. وقوله تعالى: {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} تكررت في آية أخرى تقول: {اجعل هذا البلد آمِناً} . . فمرة جاء بها نكرة ومرة جاء بها معرفة. . نقول إن إبراهيم حين قال: {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} . . طلب من الله شيئين. . أن يجعل هذا المكان بلدا وأن يجعله آمنا. ما معنى أن يجعله بلدا؟ هناك أسماء تؤخذ من المحسات. . فكلمة غصب تعني سلخ الجلد عن الشاة وكأن من يأخذ شيئا من إنسان غصبا كأنه يسلخه منه بينما هو متمسك به. كلمة بلد حين تسمعها تنصرف إلى المدينة. . والبلد هو البقة تنشأ في الجلد فتميزه عن باقي الجلد كأن تكون هناك بقعة بيضاء في الوجه أو الذراعين فتكون البقعة التي ظهرت مميزة ببياض اللون. . والمكان إذا لم يكن فيه مساكن ومبان فيكون مستويا بالأرض لا تستطيع أن تميزه بسهولة. . فإذا أقمت فيه مباني جعلت فيه علامة تميزه عن باقي الأرض المحيطة به. وقوله تعالى: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} . . هذه من مستلزمات الأمن لأنه مادام هناك رزق وثمرات تكون مقومات الحياة موجودة فيبقى الناس في هذا البلد. . ولكن إبراهيم قال: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} فكأنه طلب الرزق للمؤمنين وحدهم. . لماذا؟ لأنه حينما قال له الله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 قال إبراهيم: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] قال الله سبحانه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] فخشي إبراهيم وهو يطلب لمن سيقيمون في مكة أن تكون استجابة الله سبحانه كالاستجابة السابقة. . كأن يقال له لا ينال رزق الله الظالمون. فاستدرك إبراهيم وقال: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} . . ولكن الله سبحانه أراد أن يلفت إبراهيم إلى أن عطاء الألوهية ليس كعطاء الربوبية. . فإمامة الناس عطاء ألوهية لا يناله إلا المؤمن، أما الرزق فهو عطاء ربوبية يناله المؤمن والكافر. لأن الله هو الذي استدعانا جميعا إلى الحياة وكفل لنا جميعا رزقنا. . وكأن الحق سبحانه حين قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} . . كان يتحدث عن قيم المنهج التي لا تعطى إلا للمؤمن ولكن الرزق يعطى للمؤمن والكافر. . لذلك قال الله سبحانه: {وَمَن كَفَرَ} . . وفي هذا تصحيح مفاهيم بالنسبة لإبراهيم ليعرف أن كل من استدعاه الله تعالى للحياة له رزقه مؤمنا كان أو كافرا. والخير في الدنيا على الشيوع. فمادام الله قد استدعاك فإنه ضمن لك رزقك. إن الله لم يقل للشمس أشرقي على أرض المؤمن فقط، ولم يقل للهواء لا يتنفسك ظالم وإنما أعطى نعمة استبقاء الحياة واستمرارها لكل من خلق آمن أو كفر. . ولكن من كفر قال عنه الله سبحانه وتعالى: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} . . التمتع هو شيء يحبه الإنسان ويتمنى دوامه وتكراره. وقوله تعالى: {فَأُمَتِّعُهُ} دليل على دوام متعته، أي له المتعة في الدنيا. ولكل نعمة متعة، فالطعام له متعة والشراب له متعة والجنس له متعة. . إذن التمتع في الدنيا بأشياء متعددة. ولكن الله تبارك وتعالى وصفه بأنه قليل. . لأن المتعة في الدنيا مهما بلغت وتعدّدت ألوانها فهي قليلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 واقرأ قوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار} . . ومعنى أضطره أنه لا اختيار له في الآخرة، فكأن الإنسان له اختيار في الحياة الدنيا يأخذ هذا ويترك هذا ولكن في الآخرة ليس له اختيار. . فلا يستطيع وهو من أهل النار مثلا أن يختار الجنة بل إن أعضاءه المسخرة لخدمته في الحياة الدنيا والتي يأمرها بالمعصية فتفعل، لا ولاية له عليها في الآخرة وهذا معنى قوله سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] أي أن الجوارح التي كانت تطيع الكافر في المعاصي في الدنيا لا تطيعه يوم القيامة؛ فاللسان الذي كان ينطق كلمة الكفر والعياذ بالله يأتي يوم القيامة يشهد على صاحبه. . والقدم التي كانت تمشي إلى أماكن الخمر واللهو والفسوق تشهد على صاحبها، واليد التي كانت تقتل وتسرق تشهد على صاحبها. وقوله: «اضطره» معناه أن الإنسان يفقد اختياره في الآخرة ثم ينتهي إلى النار وإلى العذاب الشديد مصداقا لقوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} . . أي أن الله سبحانه وتعالى يحذر الكافرين بأن لهم النار والعذاب في الآخرة ليس على اختيار منهم ولكن وهم مقهورون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اذكر عندما كان إبراهيم يرفع القواعد من البيت. . وجاءت {يَرْفَعُ} هنا فعلا مضارعا لِتصويرِ الحدث الآن وفي المستقبل. ولكن هل يرفع إبراهيم القواعد من البيت الآن؟ أم أنه رفع وانتهى؟ طبعا هو رفع وانتهى، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يستحضر حالة إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت. . والله يريد من المؤمنين أن يتصوروا عملية الرفع، فلم يكن إبراهيم يملك سلما حتى يرفعه ويقف فوقه، ولم يكن يملك «سقالة» . . ولكن غياب هذه النعم لم يمنع إبراهيم من أن يتحايل ويأتي بالحجر. إن الله يريد منا ألا ننسى هذه العملية، وإبراهيم وابنه إسماعيل يذهبان للبحث عن حجر، ولابد أن يكون الحجر خفيف الوزن ليستطيعا أن يحملاه إلى مكان البناء. . ثم يقف إبراهيم على الحجر وإسماعيل يناوله الأحجار الأخرى التي سيتم بها رفع القواعد من البيت. ورغم المشقة التي يتحملها الاثنان. . هما سعيدان. . وكل ما يطلبانه من الله هو أن يتقبل منهما. والقبول والمقابلة والاستقبال كلها من مادة مواجهة. . أي أنهما يسألان الله في موقف المعرض عن عمله، إنهما لا يريدان إلا الثواب: {تَقَبَّلْ مِنَّآ} أي أعطنا الثواب عما نعمله لأجلك وتنفيذا لأمرك. وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} . . أي أنت يا رب السميع الذي تسمع دعاءنا وتسمع ما نقول. . «والعليم» . . العليم بنيتنا ومدى إخلاصنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 لك. . وإننا نفعل هذا العمل ابتغاء لوجهك ولا نقصد غيرك. . ذلك أن الأعمال بالنيات، وقد يعمل رجلان عملا واحدا. أحدهما يثاب لأنه يعمله إرضاء لله وتقربا منه والآخر لا يثاب لأنه يفعله من أجل الدنيا. والله سبحانه وتعالى عليم بالنية فإن كان العمل خاصا لله تقبله، وإذا لم يكن خالصا لوجهه لا يتقبله. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» إذن فالعمل إن لم يكن خالصا لله فلا ثواب عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 هناك فرق بين أن تُكَلَّفَ بشيء فتفعله بحب، وأن تفعل شكلية التكليف وتخرج من عملك خروج الذي ألقى عن كاهله عبء التكليف. . في هذه الآية الكريمة دعاء إبراهيم وابنه إسماعيل وكانا يقولان يا رب أنت أمرتنا أن نرفع القواعد من البيت وقد فعلنا ما أمرتنا. . وليس معنى ذلك أننا اكتفينا بتكليفك لنا لأننا نريد أن نذوق حلاوة التكليف منك مرات ومرات. . {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} نسلم كل أمورنا إليك. إن الإنسان لا يمكن أن ينتهي من تكليف ليطلب تكليفا غيره إلا إذا كان قد عشق حلاوة التكليف ووجد فيه استمتاعا. . ولا يجد الإنسان استمتاعا في التكليف إلا إذا استحضر الجزاء عليه. . كلما عمل شيئا استحضر النعيم الذي ينتظره على هذا العمل فطلب المزيد. إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بمجرد أن فرغا من رفع القواعد من البيت قالا: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ولم يكتفيا بذلك بل أرادا امتداد حلاوة التكليف إلى ذريتهما من بعدهما. . فيقولان: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} . . ليتصل أمد منهج الله في الأرض ويستمر التكليف من ذرية إلى ذرية إلى يقوم القيامة. . ثم يقولان: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} . . أي بين لنا يا رب ما تريده منا. بين لنا كيف نعبدك وكيف نتقرب إليك. . والمناسك هي الأمور التي يريد الله سبحانه وتعالى أن نعبده بها. وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} ترينا أن إبراهيم يرغب في فتح أبواب التكليف على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 نفسه، لأنه لا يرى في كل تكليف إلا تطهيرا للنفس وخيرا للذرية ونعيما في الآخرة. . ولذلك يقول كما يروي لنا الحق: {وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم} . . وتب علينا ليس ضروريا أن نفهمها على أنها توبة من المعصية. . وأن إبراهيم وإسماعيل وقعا في المعصية فيريدان التوبة إلى الله. . وإنما لأنهما علما أن من سيأتي بعدهما سيقع في الذنب فطلبا التوبة لذريتهما. . ومن أين عَلِما؟ عندما قال الله سبحانه وتعالى لإبراهيم: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} . . لقد طلبا من الله تبارك وتعالى التوبة والرحمة لذريتهما. . والله يحب التوبة من عباده وهو سبحانه أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم وقع على بعيره وقد أضله في فلاة. . لأن المعصية عندما تأخذ الإنسان من منهج الله لتعطيه نفعا عاجلا فإن حلاوة الإيمان إن كان مؤمنا ستجذبه مرة أخرى إلى الإيمان بعيدا عن المعاصي. . ولذلك قيل إن انتفعت بالتوبة وندمت على ما فعلت فإن الله لا يغفر لك ذنوبك فقط ولكن يبدل سيئاتك حسنات. . وقلنا أن تشريع التوبة كان وقاية للمجتمع كله من أذى وشر كبير. . لأنه لو كان الذنب الواحد يجعلك خالدا في النار ولا توبة بعده لتجبر العصاة وازدادوا شرا. . ولأصيب المجتمع كله بشرورهم ولَيَئِسَ الناس من آخرتهم لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» لذلك فمن رحمة الله سبحانه أنه شرع لنا التوبة ليرحمنا من شراسة الأذى والمعصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 دعاء إبراهيم عليه السلام الله سبحانه وتعالى ليتم نعمته على ذريته ويزيد رحمته على عباده. . بأن يرسل لهم رسولا يبلغهم منهج السماء حتى لا تحدث فترة ظلام في الأرض تنتشر فيها المعصية والفساد والكفر ويبعد الناس فيها الأصنام كما حدث قبل إبراهيم. كلمة {رَسُولاً مِّنْهُمْ} ترد على اليهود الذين أحزنهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من العرب، وأن الرسالة كان يجب أن تكون فيهم. . ونحن نقول لهم إن جدنا وجدكم إبراهيم وأنتم من ذرية يعقوب بن اسحق. ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذرية إسماعيل بن إبراهيم وأخ لإسحاق. . ولا حجة لما تدعونه من أن الله فَضَّلَكم واختاركم على سائر الشعوب. . إنما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يسلب منكم النبوة لأنكم ظلمتم في الأرض وعهد الله لا يناله الظالمون. أراد الحق تبارك وتعالى أن يقول لهم أن هذا النبي من نسل إبراهيم وأنه ينتمي إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وقوله تعالى: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} . . أي آيات القرآن الكريم. وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة} . . يجب أن نعرف أن هناك فرقا بين التلاوة وبين التعليم. فالتلاوة هي أن تقرأ القرآن، أما التعليم فهو أن تعرف معناها وما جاءت به لتطبقه وتعرف من أين جاءت. . وإذا كان الكتاب هو القرآن الكريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 فإن الحكمة هي أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التي قال الحق سبحانه وتعالى فيها في خطابه لزوجات النبي: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة} [الأحزاب: 34] وقوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} أي ويطهرهم ويقودهم إلى طريق الخير وتمام الإيمان. وقوله جل جلاله: {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} . . أي العزيز الذي لا يغلب لجبروته ولا يسأله أحد. . «والحكيم» الذي لا يصدر منه الشيء إلا بحكمة بالغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 ما ملة إبراهيم؟ إنها عبادة الله وحده لا شريك له وعشق التكاليف؛ فإبراهيم وَفَّى كل ما كلفه به الله وزاد عليه. . وقابل الابتلاء بالطاعة الصبر. . فعندما ابتلاه الله بذبح ابنه الوحيد لم يتردد وكان يؤدي التكاليف بعشق ويحاول أن يستبقي المنهج السليم في ذريته. قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ} يعني يعرض ويرفض. ويقال رغب في كذا أي أحبه وأراده. ورغب عن كذا أي صَدَّ عنه وأعرض. . والذين يصدُّون عن ملة إبراهيم ويرفضونها هؤلاء هم السفهاء الجهلة، لذلك قال عنهم الله سبحانه وتعالى: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} . . دليل على ضعف الرأي وعدم التفرقة بين النافع والضار. . فعندما يكون هناك من ورثوا مالاً وهم غير ناضجي العقل لا يتفق عقلهم مع سنهم نسميهم السفهاء. . والسفيه هو من لم ينضج رأيه ولذلك تنقل قوامته على ماله إلى ولي أو وصي؛ لأنه بِسَفَهِهِ غيرُ قادر على أن ينفق المال فيما ينفع. والقرآن الكريم يعالج هذه المسألة علاجا دقيقا فيقول: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً وارزقوهم فِيهَا واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء: 5] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى سمى أموال السفهاء بأموالي الولي ولم يعتبرها مال السفيه لأنه ليس أهلا للقيام عليها. . وجعل هذه الأموال تحت إشراف شخص آخر أكثر نضجا وحكمة. وقوله تعالى: «أموالكم» ليكون الولي أو الوصي حريصا عليها كَمَالِهِ أو أكثر ولكن هو قيم فقط. . فإذا بلغ الإنسان سن الرشد أو شفى السفيه من سفاهته يرد إليه ماله ليتصرف فيه. ونحن نرى عددا من الأبناء يرفعون قضايا على آبائهم وأمهاتهم يتهمونهم فيها بالسفه لأنهم لا يحسنون التصرف في أموالهم. . ثم يأخذون هذه الأموال ويبعثرونها هم. . والذي يجب أن يعلمه كل من يقوم بهذه العملية أنه لا حق له في إنفاق المال وتبذيره لحسابه الخاص، ولكنّ هناك حكمين: إما أن يكون الشخص فقيرا فله أن يأكل بالمعروف. . وإما أن يكون غنيا فيجعل عمله في الولاية لله لا يتقاضى عنه شيئا. . أما أن يأخذ المال ويبعثره على نفسه وشهواته وعلى زوجته وأولاده فهذا مرفوض ويحاسب عليه. . والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} [النساء: 6] إذن الذي يعرض عن ملة إبراهيم هو سفيه لا يملك عقلا يميز بين الضار والنافع. ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} . . اصطفاه في الدنيا بالمنهج وبأن جعله إماما وبالابتلاء. . وكثير من الناس يظن أن ارتفاع مقامات بعضهم في أمور الدنيا هو اصطفاء من الله لهم بأن أعطاهم زخرف الحياة الدنيا ويكون هذا مبررا لأن يعتقدوا أن لهم منزلةً عالية في الآخرة. . نقول لا، فمنازل الدنيا لا علاقة لها بالآخرة. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} . . وأضاف: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} . . لنعلم أن إبراهيم عليه السلام له منزلة عالية في الدنيا ونعيم في الآخرة أي الاثنين معا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه قال لإبراهيم أسلم فقال أسلمت. . إذن فمطلوب الحق سبحانه وتعالى من عبده أن يسلم إليه. . ولم يقل الحق أسلم إِليّ، لأنها مفهومة. . ولم يقل أسلم لربك لأن الإسلام لا يكون إلا لله. لأنه هو سبحانه المأمون علينا. . على أن إبراهيم عليه السلام قال في رده: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} . ومعنى ذلك أنه لن يكون وحده في الكون. لأنه إذا أسلم لله الذي سخر له ما في السماوات والأرض. . يكون قد انسجم مع الكون المخلوق من الله للإنسان. . ومَنْ أكثرُ نضجاً في العقل ممن يُسلم وجهه لله سبحانه. . لأنه يكون بذلك قد أسلمه إلى عزيز حكيم قوي لا يقهر، قادر لا تنتهي قدرته. . غالب لا يغلب، رزاق لا يأتي الرزق إلا منه. فكأنه أسلم وجهه للخير كله. والدين عند الله سبحانه وتعالى منذ عهد آدم إلى يوم القيامة هو إسلام الوجه لله، ولماذا الوجه؟ لأن الوجه أشرف شيء في الإنسان يعتز به ويعتبره سمة من سمات كرامته وعزته. . ولذلك فنحن حين نريد منتهى الخضوع لله في الصلاة نضع جباهنا ووجوهنا على الأرض. . وهذا منتهى الخشوع والخضوع أن تضع أشرف ما فيك وهو وجهك على الأرض إعلانا لخضوعك لله سبحانه وتعالى. والله جل جلاله يريد من الإنسان أن يسلم قيادته لله. . بأن يجعل اختياراته في الدنيا لما يريده الله تبارك وتعالى. . فإذا تحدث لا يكذب، لأن الله يحب الصدق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 وإذا كلف بشيء يفعله لأن التكليف في صالحنا ولا يستفيد الله منه شيئا. . وإذا قال الله تعالى تصدق بمالك أسرع يتصدق بماله ليرد له أضعافا مضاعفة في الآخرة وبقدرة الله. وهكذا نرى أن الخير كله للإنسان هو أن يجعل مراداته في الحياة الدنيا طبقا لما أراده الله. . وفي هذه الحالة يكون قد انسجم مع الكون كله وتجد أن الكون يخدمه ويعطيه وهو سعيد. أما من يسلم وجهه لغير الله فقد اعتمد على قوي يمكن أن يضعف، وعلى غني يمكن أن يفتقر. . وعلى موجود يمكن أن يموت ويصبح لا وجود له. ولذلك فهو في هذه الحالة يتصف بالسفاهة لأنه اعتمد على الضار وترك النافع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 عندما تقرأ كلمة وصى فاعلم أن الوصية تأتي لحمل الإنسان على شيء نافع في آخر وقت لك في الدنيا؛ لأن آخر ساعات الإنسان في الدنيا إن كان قد عاش فيها يغش الناس جميعا فساعة يحتضر لا يغش نفسه أبدا ولا يغش أحدا من الناس لماذا؟ لأنه يحس إنه مقبل على الله سبحانه فيقول كلمة الحق. النصح أو الوصية هي عظة تحب أن يستمسك بها من تنصحه وتقولها له مخلصا في آخر لحظة من لحظات حياته. . ولذلك سيأتي الله سبحانه وتعالى ليبين لنا ذلك في قوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي} [البقرة: 133] وهكذا يريد الله سبحانه أن يبين لنا أن الوصية دائما تكون لمن تحب. . وأن حب الإنسان لأولاده أكيد سواء أكان هذا الإنسان مؤمنا أم كافرا. . ونحن لا نتمنى أن يكون في الدنيا من هو أحسن منا إلا أبناءنا ونعمل على ذلك ليكون لهم الخير كله. وصّى إبراهيم بنيه، ويعقوب وصى بنيه. . وكانت الوصية {يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين} إذن فالوصية لم تكن أمرا من عند إبراهيم ولا أمرا من عند يعقوب. ولكن كانت أمرا اختاره الله للناس فلم يجد إبراهيم ولا يعقوب أن يوصيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 أولادهما إلا بما اختاره الله. . فكأن إبراهيم ائتمن الله على نفسه فنفذ التكاليف وائتمنه على أولاده فأراد منهم أن يتمسكوا بما اختاره لهم الله. قوله تعالى: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} . . إبراهيم هو الأب الكبير وابنه اسحق وابن اسحق يعقوب. . ويعقوب هو الأب المباشر لليهود. . ويعقوب وصاهم كما يروي لنا القرآن الكريم: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} . أنت لا تنهى إنسانا عن أمر إلا إذا كان في إمكانه أن يتجنبه ولا تأمره به إلا إذا كان في إمكانه أن ينفذه. . فهل يملك أولاد يعقوب أن يموتوا وهم مسلمون؟ والموت لا يملكه أحد. . إنه يأتي في أي وقت فجأة. . ولكن مادام يعقوب قد وصى بنيه: {لاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} فالمعنى لا تفارقوا الإسلام لحظة حتى لا يفاجئكم الموت إلا وأنتم مسلمون. والله سبحانه وتعالى أخفى موعد الموت ومكانه وسببه. . ليكون هذا إعلاما به ويتوقعه الناس في أي سن وفي أي مكان وفي أي زمان. . ولذلك قد نلتمس العافية في أشياء يكون الموت فيها. . والشاعر يقول: إن نام عنك فكل طب نافع ... أو لم ينم فالطب من أسبابه أي إن لم يكن قد جاء الأجل، فالطب ينفعك ويكون من أسباب الشفاء. . أما إذا جاء الأجل فيكون الطب سببا في الموت، كأن تذهب لإجراء عملية جراحية فتكون سبب موتك. . فالإنسان لابد أن يتمسك بالإسلام وبالمنهج ولا يغفل عنه أبدا. . حتى لا يأتيه الموت في غفلته فيموت غير مسلم. . والعياذ بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 هذا خطاب من يعقوب ينطبق ويمس اليهود المعاصرين لنزول القرآن الكريم. . يعقوب قال لأبنائه ماذا تعبدون من بعدي: {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . . هذا إقرار من الأسباط أبناء يعقوب بأنهم مسلمون وأن آباءهم مسلمون. . وتأمل دقة الأداء القرآني في قوله تعالى: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} . . فكأنه لم يحدث بعد موت إبراهيم وحين كان يعقوب يموت لم يحدث أن تغير المعبود وهو الله سبحانه وتعالى الواحد. . ولذلك قالوا كما يروي لنا القرآن الكريم: {إلها وَاحِداً} . . وسنأخذ من هذه الآية لقطة تفيدنا في أشياء كثيرة لأن القرآن سيتعرض في قصة إبراهيم أنه تحدث مع أبيه في شئون العقيدة. . فقال كما يروي لنا القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 74] ونحن نعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من سلالة إسماعيل ابن إبراهيم. . والرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 أنا سيد ولد آدم» فإذا كان آزرُ أبو إبراهيم كافراً وعابداً للأصنام. . فكيف تصح سلسلة النسب الشريف؟ نقول إنه لو أن القرآن قال {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ} وسكت لكان المعنى أن المخاطب هو أبو إبراهيم. . ولكن قول الله: {لأَبِيهِ آزَرَ} . . جاءت لحكمة. لأنه ساعة يذكر اسم الأب يكون ليس الأب ولكن العم. . فأنت إذا دخلت منزلا وقابلك أحد الأطفال تقول له هل أبوك موجود ولا تقول أبوك فلان لأنه معروف بحيث لن يخطئ الطفل فيه. . ولكن إذا كنت تقصد العم فإنك تسأل الطفل هل أبوك فلان موجود؟ فأنت في هذه الحالة تقصد العم ولا تقصد الأب. . لأن العم في منزلة الأب خصوصا إذا كان الأب متوفيا. إذن قول الحق سبحانه وتعالى: {لأَبِيهِ آزَرَ} بذكر الاسم فمعناه لعمه آزر. . فإذا قال إنسان هل هناك دليل على ذلك؟ نقول نعم هناك دليل من القرآن في هذه الآية الكريمة: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} . . والآباء جمع أب، ثم حدد الله تبارك وتعالى الآباء، إبراهيم وهو الجد يطلق عليه أب. . وإسماعيل وهو العم يطلق عليه أب واسحق وهو أبو يعقوب وجاء إسماعيل قبل اسحق. إذن ففي هذه الآية جمع أب من ثلاثة هم إبراهيم وإسماعيل واسحق. . ويعقوب الذي حضره الموت وهو ابن اسحق، ولكن أولاد يعقوب لما خاطبوا أباهم قالوا آباءك ثم جاءوا بأسمائهم بالتحديد. . وهم إبراهيم الجد وإسماعيل العم واسحق أبو يعقوب وأطلقوا عليهم جميعا لقب الأب. . فكأن إسماعيل أطلق عليه الأب وهو العم وإبراهيم أطلق عليه الأب وهو الجد واسحق أطلق عليه الأب وهو الأب. . فإذا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنا أشرف الناس حسباً ولا فخر» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 يقول بعض الناس كيف ذلك ووالد إبراهيم كان غير مسلم. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أنا سيد ولد آدم» فإذا قال أحدهم كيف هذا وأبو إبراهيم عليه السلام كان مشركا عابدا للأصنام. . نقول له لم يكن آزر أبا لإبراهيم وإنما كان عمه، ولذلك قال القرآن الكريم {لأَبِيهِ آزَرَ} وجاء بالاسم يريد به الأبوة غير الحقيقية. . فأبوة إبراهيم وأبوة اسحق معلومة لأولاد يعقوب. . ولكن إسماعيل كان مقيما في مكة بعيدا عنهم، فلماذا جاء اسمه بين إبراهيم واسحق؟ نقول جاء بالترتيب الزمني لأن إسماعيل أكبر من اسحق بأربعة عشر عاما. . وكونه وصف الثلاثة بأنهم آباء. . إشارة لنا من الله سبحانه وتعالى أن لفظ الأب يطلق على العم. . والله تبارك وتعالى يريدنا أن نتنبه لمعنى كلمة آزر. . ويريد أن يلفتنا أيضا إلى أن تعدد البلاغ عن الله لا يعني تعدد الآلهة. . لذلك قال سبحانه: {إلها وَاحِداً} . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 وقوله تعالى: «خلت» أي انفردت. وخلا فلان بفلان أي انفرد به. . وخلا المكان من نزيله أي أصبح المكان منفردا، والنزيل منفردا ولا علاقة لأحدهما بالآخر. . الله تبارك وتعالى يقول: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] أي إنفردوا هم وشياطينهم ولم يعد في المكان غيرهم؛ ولقد قلنا إن كل حدث لابد أن يكون له محدث، ولا حدث يوجد بذاته، وكل حدث يحتاج إلى زمان ويحتاج إلى مكان. . فإذا قال الحق تبارك وتعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} فمعناه إنه انقضى زمانها وانفرد عن زمانكم. والمقصود بقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي انتهى زمانها. . وتلك إسم إشارة لمؤنث مخاطب وأمة هي المشار إليه، والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولعامة المسلمين. . والله سبحانه وتعالى حين يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ} فكأنها مميزة بوحدة عقيدتها ووحدة إيمانها حتى أصبحت شيئا واحدا. . ولذلك لابد أن يخاطبها بالوحدة. . واقرأ قوله تعالى: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون} [الأنبياء: 92] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 وتلك هنا إشارة لأمة إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب. . هم جماعة كثيرة لهم عقيدة واحدة. وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} . . أي تلك جماعة على دين واحد تحاسب عما فعلته كما ستحاسبون أنتم على ما فعلتم. . ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] وإبراهيم فرد وليس جماعة؟ نقول نعم إن إبراهيم فرد ولكن اجتمعت فيه من خصال الخير ومواهب الكمال ما لا يجتمع إلا في أمة. وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ} يراد بها إفهام اليهود ألا ينسبوا أنفسهم إلى إبراهيم نسبا كاذبا لأن نسب الأنبياء ليس نسباً دمويا أو جنسيا أو انتماء. . وإنما نسب منهج واتباع. . فكأن الحق يقول لليهود لن ينفعكم أن تكونوا من سلالة إبراهيم ولا اسحق ولا يعقوب. . لأن نسب النبوة هو نسب إيماني فيه اتباع للمنهج والعقيدة. . ولا يشفع هذا النسب يوم القيامة لأن لكل واحد عمله. قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} . . الكسب يؤخذ على الخير والاكتساب يؤخذ في الشر لأن الشر فيه افتعال. إننا لابد أن نلتفت ونتنبه إلى آيات القرآن الكريم حتى نستطيع أن نرد على أولئك الذين يحاولون الطعن في القرآن. . فلا يوجد معنى لآية تهدمها آية أخرى ولكن يوجد عدم فهم. يأتي بعض المستشرقين ليقول هناك آية في القرآن تؤكد أن الله سبحانه وتعالى يعطي بالأنساب وذلك في قوله جل جلاله: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: 21] الأبناء مؤمنون، وقوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} كلمة ألحقنا تأتي عندما تلحق ناقصا بكامل. . فإذا كان الاثنان مؤمنين فكأنك تزيد درجة الأبناء إكراما لآبائهم المؤمنين. . نقول إن الإيمان شيء والعمل بمقتضى الإيمان شيء آخر. . الأب والذرية مؤمنون ولكن الآباء تفانوا في العمل والأبناء ربما قصروا قليلا. . ولكن هنا رفع درجة بالنسبة للمؤمنين أي لابد أن يكون الأب والذرية مؤمنين. . ولكن غير المؤمنين مبعدون ليس لهم علاقة بآبائهم انقطعت الصلة بينهم بسبب الإيمان والكفر. . فالآباء لهم أعمال حسنة كثيرة. . والأبناء لهم أعمال حسنة أقل. . ينزل الله الأبناء في الجنة مع آبائهم لأن الإيمان واحد. وقوله تعالى: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ} أي أنقصناهم من عملهم من شيء. . إذن فالآباء والذرية مأخوذون بإيمانهم، والله بفضله يلحق الأبناء بالآباء. قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} . . هذه عملية الإيمان في العقيدة. . قد يقول البعض إن الله تبارك وتعالى يقول: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الطور: 21] ويقول سبحانه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] فكيف يأخذ الأبناء جزاء بدون سعي؟ نقول افهموا النصوص جيدا. قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} تحدد العدل ولكنها لا تحدد الفضل الذي يعطيه الله سبحانه لمن شاء من عباده، وهذا يعطي بلا حساب. . ثم من الذي قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 إن هذا ليس من سعيهم؟ إن إلحاق الأبناء المؤمنين بالمنزلة العالية لآبائهم تكريم لعمل الآباء وليس زيادة لعمل الأبناء. ولقد روى لنا العلماء أن ولدا كان مؤمنا طائعا عابدا وأبوه كان مسرفا على نفسه. . فلما مات الأب حزن عليه ابنه ولكنه رأى أن أباه جالس فوق رأسه ومعه واحدة من الحور العين تؤنسه. . فتعجب الإبن كيف ينال أبوه هذه المكافأة وقد كان مسرفا على نفسه فسأله: كيف وصلت لهذه المنزلة؟ فقال الأب أي منزلة. . قال الابن أن تكون معك واحدة من الحور العين. . فقال الأب وهل فهمت أنها نعيم لي. . قال الابن نعم. . فقال الأب: لا، أنا عقوبة لها. . الله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] إذن أنت في الآخرة ستفرح بفضل الله ورحمته أكثر من فرحك بعملك الصالح. . مصداقا لحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لن يُدْخِلَ الجنة أحداً عَمَلُه، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمته» ربما يأتي أحد ويقول الصلاة على الميت ما هو القصد الشرعي منها. . إن كانت تفيده فستكون الفائدة زيادة على عمله. . وإن لم تكن تعطيه أكثر من عمله فما فائدتها؟ . نقول مادام الشرع كلفنا بها فلها فائدة. وهل تظن أن الصلاة على الميت ليست من عمله؟ هي داخلة في عمله لأنه مؤمن وإيمانه هو الذي دفعك للصلاة عليه. . والذي تدعو له بالخير وبالرحمة وبالمغفرة ويتقبلها الله. . أيقال أنه أخذ غير عمله؟ لا؛ إنك لم تدع له إلا بعد أن أصابك الخير منه. . ولكنك لا تدعو مثلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 لإنسان أخذ بيدك إلى خمارة أو إلى فاحشة أو إلى منكر. . بل تدعو لمن أعطاك خيرا فإن استجاب الله لك فهو من عمله. الله سبحانه وتعالى يقول إن ما كان يعمله من سبقكم من الأمم لا تسألون عنه. . وإن كنتم تدعون أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا نقل لكم أنتم لن تسألوا عما كان يعمل إبراهيم ولكن عليكم أنفسكم. . السؤال يكون عن عملكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 عندما تأتي قالوا فمعناها إن الذين قالوا جماعة. . الذين قالوا هم اليهود والنصارى. ولكن كلا منهم قال قولا مختلفا عن الآخر. . قالت اليهود كونوا هودا. وقالت النصارى كونوا نصارى. . ونحن عندنا عناصر ثلاثة: اليهود والنصارى والمشركون. ويقابل كل هؤلاء المؤمنون. . {وَقَالُواْ كُونُواْ} من المقصود بالخطاب؟ المؤمنين. . أو قد يكون المعنى وقالت اليهود للمؤمنين والمشركين والنصارى كونوا هودا. . وقالت النصارى لليهود والمشركين والمؤمنين كونوا نصارى. . لأن كل واحد منهما لا يرى الخير إلا في نفسه. . ولكن الإسلام جاء وأخذ من اليهودية موسى وتوراته الصحيحة، وأخذ من المسيحية عيسى وإنجيله الصحيح. . وكل ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومعنى ذلك أن الإسلام أخذ وحدة الصفقة الإيمانية المعقودة بين الله سبحانه وبين كل مؤمن. . ولذلك تجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] ونلاحظ أن المشركين لم يدخلوا في القول لأنهم ليسوا أهل كتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 قوله تعالى: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} . . أي رد عليهم، والخطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنني سأكون تابعا لدين إبراهيم وهو الحنيفية. . وهم لا يمكن أن يخالفوا في إبراهيم فاليهود اعتبروه نبيا من أنبيائهم. . والنصارى اعتبروه نبيا من أنبيائهم ولم ينفوا عنه النبوة ولكن كلا منهم أراد أن ينسبه لنفسه. ما معنى حنيفا؟ إن الاشتقاقات اللفظية لابد أن يكون لها علاقة بالمعنى اللغوي. . الحنف ميل في القدمين أن تميل قدم إلى أخرى. . هو تقوس في القدمين فتميل القدم اليمنى إلى اليسار أو اليسرى إلى اليمين هذا هو الحنف. . ولكن كيف يؤتي بلفظ يدل على العوج ويجعله رمزا للصراط المستقيم؟ . لقد قلنا إن الرسل لا يأتون إلا عندما تعم الغفلة منهج الله. . لأنه مادام وجد من أتباع الرسول من يدعو إلى منهجه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يكون هناك خير. النفس البشرية لها ألوان. . فهناك النفس اللوامة تصنع شرا مرة فيأتي من داخل النفس ما يستنكر هذا الشر فتعود إلى الخير. . ولكن هناك النفس الأمارة بالسوء وهي التي لا تعيش إلا في الشر تأمر به وتغري الآخرين بفعله. . إذا فسد المجتمع وأصبحت النفوس أمارة بالسوء ينطبق عليها قول الحق سبحانه: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] تتدخل السماء برسول يعالج اعوجاج المجتمع. . ولكن الله تبارك وتعالى وضع عنصر الخيرية في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى قيام الساعة. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 إذن فقد ائتمن الله تبارك وتعالى أمة محمد على المنهج. . ومادام فيها من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فلن يأتي رسول بعد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. نعود إلى قوله تعالى حنيفا. . قلنا إن الحنف هو الاعوجاج. . ونقول إن الاعوجاج عن المعوج اعتدال. . والرسل لا يأتون إلا بعد اعوجاج كامل في المجتمع. . ليصرفوا الناس عن الاعوجاج القائم فيميلون إلى الاعتدال. . لأن مخالفة الاعوجاج اعتدال. . وقوله تعالى: «حنيفا» تذكرنا بنعمة الله على الوجود كله لأنه يصحح غفلة البشر عن منهج الله ويأخذ الناس من الاعوجاج الموجود إلى الاعتدال. . والهداية عند اليهود والنصارى مفهومها تحقيق شهوات نفوسهم لأن بشرا يهدي بشرا. . والله سبحانه وتعالى قال: {وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ولقد تعايش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة مع اليهود ولكنهم حاربوه ولم يرضوا عنه. . وإبراهيم عليه السلام كان مؤمنا حقا ولم يكن مشركا. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 هذه الآية الكريمة تعطينا تفسيرا لقوله تعالى: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} . . إيمان بالله وحده لا شريك له. . إيمان بما أنزل إلينا وهو القرآن وما أنزل لإبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى أي التوراة وما أوتي عيسى أي الإنجيل وما أوتي النبيون بالإجمال. . فالبلاغ الصحيح عن الله منذ عهد آدم حتى الآن هو وحدة العقيدة بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. . ووحدة الكون بأن الله هو الخالق وهو المدبر وكل شيء يخرج عن الألوهية لله الواحد الأحد. . وأن كل شيء يخرج عن ذلك يكون من تحريف الديانات السابقة هو افتراء على الله سبحانه لا نقبله. قوله تعالى: {قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا} وهو القرآن الكريم. ولا يمكن أن يعطف عليه ما يصطدم معه. . ولذلك فإن ما أنزل على إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط هذه ملة إبراهيم. . وهذا يؤكد لنا أن ملة إبراهيم من وحي الله إليه. . والرسالات كلها كما قلنا تدعو لعبادة الله الواحد الواحد الذي لا شريك له. وقوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . . أي أن إبراهيم كان مسلما وكل الأنبياء كانوا مسلمين وكل ما يخالف ذلك من صنع البشر. . ومعنى الإسلام أن هناك مسلما ومسلما إليه هو الله عَزَّ وَجَلَّ. ونحن نسلم له في العبودية سبحانه وفي اتباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 منهجه. . والإنسان لا يسلم وجهه إلا لمن هو أقدر منه وأعلم منه وأقوى منه ولمن لا هوى له. . فإن تشككت في أحد العناصر فإسلامك ليس حقيقة وإنما تخيل. . وأنت لا تسلم زمامك لله سبحانه وتعالى إلا وأنت متأكد أن قدراته سبحانه فوق قدرات المخلوقين جميعا، وأنه سبحانه غني عن العالمين، ولذلك فإنه غير محتاج إلى ما في يدك بل هو يعطيك جل جلاله من الخير والنعم ولا يوجد إلا الوجود الأعلى لتسلم وجهك له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 نقول إن السؤال الذي يطرح نفسه بالنسبة لهذه الآية. . هل لِما آمنا به مثل حتى يؤمنوا به؟ إنك لكي تؤمن لابد أن تقول لا إله إلا الله محمد رسول الله. . فهل إذا قالها أحد بعدك يكون قال ما قلته أم مثل ما قلته؟ يكون قال مثل ما قلت. أي إنني حين أعلن إيماني وآخذ الشهادة التي قلتها أنت أكون قد قلت مثلها لأن ما نطقت به لا يفارقك أنت. . ولكني إذا صنعت شيئا وقلت لغيري إصنع مثله، هو سيصنع شيئا جديدا ولن يصنع ما صنعته أنا. الشيء نفسه حين تقول لي: تصدق بمثل ما تصدق به فلان. لن تكون الصدقة هي المال نفسه بل تكون مثله. نقول لمن يردد هذا الكلام: إنك لم تفهم المعنى إيمانهم أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله وإيمان غيرهم أن يقولوا مثل هذه العبارة أي أن يعلنوا إيمانهم مثلنا بالله ورسوله. . فالمثل هنا يرتبط بالشهادة وكل من آمن بالإسلام نطق بالشهادتين مثل من سبقوه في الإيمان. فالمثلية هنا في العبارة وإيمانهم هو أن يقولوا مثل ما قلنا. يقول الحق تبارك وتعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا} أي اهتدوا إلى الحق. . {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} وتولوا يعني أعرضوا. وشقاق يعني خلافا معكم وخلافا مع بعضهم البعض؛ فلكل منهم وجهة نظر يدعيها، وهداية اخترعها. . حتى إذا التقوا في الكفر فلن يلتقوا في أسباب الكفر كل واحد اتخذ سببا ولذلك اختلفوا. . والشقاق من المشقة والنزاع والمشاجرة، والشق هو الفرقة بين شيئين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 وقوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} أي لا تلتفت إلى معاركهم ولا إلى حوارهم فالله يكفيك بكل الوسائل عمن سواه واقرأ قوله سبحانه: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36] الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا حاول اليهود والنصارى والمنافقون أن يكيدوا لك ويؤذوك والمؤمنين، فالله سبحانه وتعالى يكفيك لأنه عليم سميع بصير لا يخفى عليه شيء. . ولقد حاول اليهود قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أكثر من مرة وحاولوا إيذاءه بالسحر فأبطل الله كيدهم وأظهر ما خفي منه وأطلع رسوله عليه. . فمهما استخدموا من وسائل ظاهرة أو خفية فسيكفيك الله شرها ولذلك قال تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم} . . أي سميع بما يقال، عليم بما يدبرونه. بل يعلم ما في صدورهم قبل أن ينطقوا به. . فلا تعتقد أن شيئا يفوت على الله سبحانه أو يفلت منه. إن كل حركة قبل أن تحدث يعلمها سبحانه، وكل كيد قبل أن يتم هو محبطه. فإذا كان الله سبحانه وتعالى معك فماذا تخشى؟ وممن تخاف؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يصل إليك؟ . وأنت معك عليم بكل ما سيحدث حتى يوم القيامة وبعد يوم القيامة. . ومادام معك القوي الذي لا يضعف أبدا والحي الذي لا يموت أبدا والعليم بكل شيء فلا تخشى أحدا لأنك في أمان الله سبحانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 ما هي الصبغة؟ الصبغة هي إدخال لون على شيء بحيث يغيره بلون آخر. . تصبغ الشيء أحمر أو أزرق أو أي لون تختاره. والصبغ ينفذ في المصبوغ خاصة إذا كان المصبوغ له شعيرات مسام كالقطن أو الصوف. . ولذلك فإن الألياف الصناعية لا يمكن أن تصبغ لماذا؟ لأن شعرة القطن أو الصوف أشبه بالأنبوبة في تركيبها. وإذا جئنا بقنديل من الزيت ووضعنا فيه فتيلا من القطن بحيث يكون رأس الفتيل في الزيت ثم تشغله من أعلاه نجد أن الزيت يسري في الأنابيب ويشعل الفتيل. . فإذا جربنا هذا في الألياف الصناعية فلا يمكن أن يسري فيها الزيت وإنما النار تأكل الألياف لأنه ليس فيها أنابيب شعرية كالقطن والصوف. . ولذلك تجد الألياف الصناعية سهلة في الغسيل لأن العرق لا يدخل في مسامها بينما الملابس القطنية تحتاج لجهد كبير لأن مسامها مشبعة بالعرق والتراب. إذن الصبغة لابد أن تتدخل مادتها من مسام القماش. . أما الطلاء فهو مختلف. إنه طبقة خارجية تستطيع أن تزيلها. . ولذلك فإن الذين يفتون في طلاء الأظافر بالنسبة للسيدات ويقولون إنه مثل الحناء نقول لهم لا. . الحناء صبغة تتخلل المادة الحية وتبقى حتى يذهب الجلد بها أي لا تستطيع أن تزيلها عندما تريد. . ولكن الطلاء يمكن أن تزيله في أي وقت ولو بعد إتمامه بلحظات. . إذن فطلاء الأظافر ليس صبغة. قوله سبحانه: {صِبْغَةَ الله} فكأن الإيمان بالله وملة إبراهيم وما أنزل الله على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 رسله هي الصبغة الإلهية التي تتغلغل في الجسد البشري. . ولماذا كلمة صبغة؟ حتى نعرف أن الإيمان يتخلل جسدك كله. . إنه ليس صبغة من خارج جسمك ولكنها صبغة جعلها الله في خلايا القلب موجودة فيه ساعة الخلق. . ولذلك فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه» فكأن الإيمان صبغة موجودة بالفطرة. . إنها صبغة الله. . فإن كان أبواه مسلمين ظل على الفطرة. وإن كان أبواه من اليهود أو النصارى يهودانه أو ينصرانه أي يأخذانه ويضعانه في ماء ويقولون صبغناه بماء المعمودية. . هذا هو معنى صبغة الله. ويريد الحق سبحانه أن يبين لنا ذلك بأن يجعل من آيات قدرته اختلاف ألواننا. . هذا الاختلاف في اللون من صبغة الله. . اختلاف ألوان البشر ليس طلاء وإنما في ذات التكوين. . فيكون هذا أبيض وهذا أسمر وهذا أصفر وهذا أحمر، هذه هي صبغة الله. . وما يفعلونه من تعميد للطفل لا يعطي صبغة. لأن الإيمان والدين لا يأتي من خارج الإنسان وإنما يأتي من داخله. . ولذلك فإن الإيمان يهز كل أعضاء الجسد البشري. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] هذا هو التأثير الذي يضعه الله في القلوب. . أمر داخلي وليس خارجيا. . أما إيمان غير المسلمين فهو طلاء خارجي وليس صبغة لأنهم تركوا صبغة الله. . ونقول لهم: لا. هذا الطلاء من عندكم أنتم، أما ديننا فهو صبغة الله. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} . . استفهام لا يمكن أن يكذبوه ولكن الجواب يأتي على وفق ما يريده السائل سبحانه من أنه لا يوجد من هو أحسن من الله صبغة. وقوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} أي مطيعون لأوامره والعابد هو من يطيع أوامر الله ويجتنب ما نهى عنه. والأوامر دائما تأتي بأمر فيه مشقة يطلب منك أن تفعله والنهي يأتي عن أمر محبب إلى نفسك هناك مشقة أن تتركه. . ذلك أن الإنسان يريد النفع العاجل، النفع السطحي، والله سبحانه وتعالى يوجهنا إلى النفع الحقيقي. . النفع العاجل يعطيك لذة عاجلة ويمنحك نعيما دائما في الآخرة وتمتعا بقدرات الله سبحانه وتعالى. . وأنت حين تسمع المؤذن ولا تقوم للصلاة لأنها ثقيلة على نفسك قد أعطيت نفسك لذة عاجلة كأن تشغل نفسك بالحديث مع شخص أو بلعب الطاولة أو بغير ذلك. . وتترك ذلك النفع الحقيقي الذي يقودك إلى الجنة. . ولذلك قال الله سبحانه: {إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} [البقرة: 45 - 46] إذن العبادة أمر ونهي. . أمر يشق على نفسك فتستثقله، ونهى عن شيء محبب إلى نفسك يعطيك لذة عاجلة ولذلك تريد أن تفعله. . إذن فقوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} . . أي مطيعون لأوامره لأننا آمنا بالآمر إلها وربا يعبد. . فإذا آمنت حبب الله إليك فعل الأشياء التي كنت تستثقلها وسهل عليك الامتناع عن الأشياء التي تحبها لأنها تعطيك لذة عاجلة. . هذه هي صبغة الله التي تعطينا العبادة. . واقرأ قوله تبارك وتعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ ولكن الله حَبَّبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان أولئك هُمُ الراشدون} [الحجرات: 7] وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى بصبغة الإيمان يحبب إلينا الخير ويجعلنا نبغض الشر. . لا عن رياء ونفاق خارج النفس كالطلاء ولكن كالصبغة التي تتخلل الشيء وتصبح هي وهو شيئا واحدا لا يفترقان. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 تحديد الأمر بِقُلْ إيقاظ لمهمة التكليف عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . والله سبحانه وتعالى حين يقول لرسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قل كان يكفي أن يقول ما يريده سبحانه. . فأنت إذا قلت لابنك اذهب إلى أخيك وقل له أبوك يأمرك بكذا فيذهب الولد ويقول هذا الكلام دون أن يقول كلمة قل. . ولكن خطاب الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكلمة قل تلفتنا إلى أن هذا الأمر ليس من عنده ولكنه من عند الله سبحانه، ومهمة الرسول هي البلاغ. إن تكرار كلمة «قل» في الآيات هي نسبة الكلام المقول إلى عظمة قائله الأول وهو الله تبارك وتعالى. . فالكلام ليس من عند رسول الله ولكن قائله هو الله جل جلاله. قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} . . المحاجة معناها حوار بالحجة، كل من المتحاورين يأتي بالحجة التي تؤيد رأيه أو وجهة نظره. . وإذا قرأت قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] أي قال كل منهما حجته. . ولابد أن يكونا خصمين كل منهما يعاند رأيه الرأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 الآخر وكل يحاول أن يأتي بالحجة التي تثبت صدق كلامه فيرد عليه خصمه بالحجة التي تهدم هذا الكلام وهكذا. قوله تعالى: {أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} . . ومادام الله رب الجميع كان من المنطق أن نلتقي لأنه ربي وربكم حظنا منه سواء. . ولكن مادامت قد قامت الحجة بيننا فأحدنا على باطل. . واقرأ قوله سبحانه: {والذين يُحَآجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16] والمحاجة لا يمكن أن تقوم بين حق وحق وإنما تقوم بين حق وباطل وبين باطل وباطل. . لأن هناك حقا واحدا ولكن هناك مائة طريق إلى الباطل. . فمادامت المحاجة قد قامت بيننا وبينكم ونحن على حق فلابد أنكم على باطل. . وليحسم الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة ويمنع الجدل والجدال قال سبحانه: {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} . . أي لا نريد جدلا لأن الجدل لن يفيد شيئا. . نحن لنا أعمالنا وأنتم لكم أعمالكم وكل عمل سيجازى صاحبه عليه بمدى إخلاصه لله. . ونحن أخلصنا العبادة لله وحدة وأنتم اتجهتم بعبادتكم إلى ما تحبه أهواؤكم. إن الله سبحانه وتعالى الذي هو ربنا وربكم لا يفضل أحدا على أحد إلا بالعمل الصالح المخلص لوجه الله. . ولذلك فنحن نضع الإخلاص أولا وقد يكون العمل واحدا أمام الناس. . هذا يأخذ به ثوابا وذلك يأخذ به وزرا وعذابا فالمهم هو أن يكون العمل خالصا لله. قد يقول إنسان إن الإخلاص في العمل والعمل مكانه القلب. . ومادام الإنسان لا يؤذي أحدا ولا يفعل منكرا فليس من الضروري أن يصلي مادامت النية خالصة. . نقول إن المسألة ليست نيات فقط ولكنها أعمال ونيات. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 «إنما الأعمال بالنيات» فلابد من عمل بعد النية. . لأن النية تنتفع بها وحدك والعمل ويعود على الناس. . فإذا كان في نيتك أن تتصدق وتصدقت انتفع الفقراء بمالك. . ولكن إذا لم يكن في نيتك فعل الخير وفعلته لتحصل على سمعة أو لترضي بشرا انتفع الفقراء بمالك ولن تنتفع أنت بثواب هذا المال. . والله سبحانه وتعالى يريد أن يقترن عملك بنية الإخلاص لله. . والعمل حركة في الحياة. والنية هي التي تعطي الثواب لصاحبه أو تمنع عنه الثواب ولذلك يقول الله جل جلاله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271] فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نتصدق. . والفقير سينتفع بالصدقة سواء كانت نيتك أن يقال عنك رجل الخير المتصدق. . أو أن يقال عنك رجل البر والتقوى أو أن تخفي صدقتك. . فالعمل يفعل فينتفع به الناس سواء أردت أو لم ترد. أنت إذا قررت أن تبني عمارة، النية هنا هي التملك. ولكن انتفع ألوف الناس بهذا العمل ابتداء من الذي باع لك قطعة الأرض والذي أعد لك الرسم الهندسي وعمال الحفر والذي وضع الأساس ومن قام بالبناء وغيرهم وغيرهم. . هؤلاء انتفعوا من عملك برزق لهم. . سواء أكان في بالك الله أم لم يكن في بالك الله فقد انتفعوا. إذن فكل عمل فيه نفع للناس أردت أو لم ترد. . ولكن الله لا يجزي على الأعمال بإطلاقها وإنما يجزي على النيات بإخلاصها. . فإن كان عملك خالصا لله جزاك الله عليه. . وإن كان عملك لهدف آخر فلا جزاء لك عند الله لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك. إن الذين يتعجبون من أن إنسانا كافرا قدم كشفاً هاماً للبشرية ولكنه لم يكن مؤمنا بالله. . يتعجبون أيعذب في النار؟ نقول نعم لأنه عمل وليس في قلبه الله. . ولذلك يجازى في الحياة الدنيا، فتقام له التماثيل ويطلق اسمه على الميادين ويخلد اسمه في الدنيا التي عمل من أجلها. . ولكن مادام ليس في نيته الله فلا جزاء له عند الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 اليهود والنصارى إدعوا أن الأنبياء السابقين لموسى وعيسى كانوا يهودا أو نصارى. فاليهود ادعوا أنهم كانوا يهودا. والنصارى ادعوا أنهم كانوا نصارى، الله سبحانه وتعالى يرد عليهم بقوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} . والسؤال هنا لا يوجد له إلا رد واحد لأنهم لن يستطيعوا أن يقولوا نحن أعلم من الله. . وقلنا إنه إذا طرح سؤال في القرآن الكريم فلابد أن يكون جوابه مؤيدا بما يريده الحق سبحانه وتعالى ولا يوجد له إلا جواب واحد. . ولذلك فإن قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} والله لاشك أعلم وهذا واقع. إذن فكأن الله بالسؤال قد أخبر عن القضية. . ولكن يلاحظ في هذه الآية الكريمة ذكر إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط. . وفي ذكر إسماعيل دائما مع اسحق ويعقوب يدل على وحدة البلاغ الإيماني عن الله؛ لأن إسماعيل كان في أمة العرب واسحق ويعقوب كانا في بني إسرائيل. والحق سبحانه وتعالى يتحدث عن وحدة المصدر الإيماني لخلقه؛ لأنه لا علاقة أن يكون إسماعيل للعرب واسحق لغير العرب بوحدة المنهج الإلهي. ولذلك تقرأ قول الحق تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] والله الذي بعث إسماعيل هو الله الذي بعث اسحق إله واحد أحد. . ومادام الإله واحداً فالمنهج الإيماني لابد أن يكون واحدا. . فإذا حدث خلاف فالخلاف من البشر الذين يحرفون المنهج ليحققوا شهوات ومكاسب لهم. . وكل نفس لها ما كسبت فلن ينفعكم نسبكم إليهم ولن يضيف إليكم شيئا في الآخرة. . إن كانوا مؤمنين فلن ينفعكم أن تكفروا وأن تقولوا نحن ننتسب إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق. . وإن كانوا غير ذلك فلا يضركم شيئا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 بعض الناس يقول إن هذه الآية مكررة فقد تقدمتها آية تقول: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 133 - 134] بعض السطحيين يقولون إن في هاتين الآيتين تكرارا. . نقول إنك لم تفهم المعنى. . الآية الأولى تقول لليهود إن نسبكم إلى إبراهيم واسحق لن يشفع لكم عند الله بما حرفتموه وغيرتموه في التوراة. . وبما تفعلونه من غير ما شرع الله. فاعملوا أن عملكم هو الله ستحاسبون عليه وليس نسبكم. أما في الآية التي نحن بصددها فقد قالوا إن إبراهيم وإسماعيل واسحق كانوا هودا أو نصارى. . الله تبارك وتعالى لا يجادلهم وإنما يقول لهم لنفرض وهذا فرض غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 صحيح إن إبراهيم وإسماعيل واسحق كانوا هودا أو نصارى فهذا لن يكون عذرا لكم. . لأن لهم ما كسبوا ولكم ما كسبتم، فلا تأخذوا ذلك حجة على الله يوم القيامة. . ولا تقولوا إننا كنا نحسب أن إبراهيم وإسماعيل واسحق كانوا هودا أو نصارى أي كانوا على غير دين الإسلام لأن هذه حجة غير مقبولة. . وهل أنتم أعلم أم الله سبحانه الذي يشهد بأنهم كانوا مسلمين. إياك أن تقول إن هناك تكراراً. . فإن السياق في الآية الأولى يقول لا شفاعة لكم يوم القيامة في نسبكم إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق. . والسياق في الآية الثانية يقول لا حجة لكم يوم القيامة في قولكم إنهم كانوا هودا أو نصارى. . فلن ينفعكم نسبكم إليهم ولن يقبل الله حجتكم. . وهكذا فإن المعنى مختلف تماما يمس موقفين مختلفين يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 هذه الآية نزلت لتصفي مسألة توجه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس. . وهذا أول نسخ في القرآن الكريم. . يريد الله سبحانه وتعالى أن يعطيه العناية اللائقة؛ لأنه سيكون مثار تشكيك وجدل عنيف من كل من يعادي الإسلام؛ فكفار قريش سيأخذون منه ذريعة للتشكيك وكذلك المنافقون واليهود. الله تبارك وتعالى يريد أن يحدد المسألة قبل أن تتم هذه التشكيكات. . فيقول جل جلاله: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} . . حرف السين هنا يؤكد إنهم لم يقولوا بعد. . ولذلك قال سبحانه: {سَيَقُولُ السفهآء} فقبل أن يتم تحويل القبلة قال الحق تعالى: إن هذه العملية ستحدث هزة عنيفة يستغلها المشككون. وبرغم أن الله سبحانه وتعالى قال: {سَيَقُولُ السفهآء} . . أي أنهم لم يقولوها إلا بعد أن نزلت هذه الآية. . مما يدل على أنهم سفهاء حقا؛ لأن الله جل جلاله أخبر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قرآن يتلى ويصلى به ولا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة. . قال: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} . . فلو أنهم امتنعوا عن القول ولم يعلقوا على تحويل القبلة لكان ذلك تشكيكا في القرآن الكريم. . لأنهم في هذه الحالة كانوا يستطيعون أن يقولوا: إن قرآنا أنزله الله على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة. . قال: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ} . . ولم يقل أحد شيئا. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 ولكن لأنهم سفهاء فعلا. . والسفه جهل وحمق وطيش قالوها. . فكانوا وهم الكافرون بالقرآن الذين يريدون هدم هذا الدين من المثبتين للإيمان الذين تشهد أعمالهم بصدق القرآن. لأن الله سبحانه قال: {سَيَقُولُ السفهآء} وهم قالوا فعلا. . ولقد قال كفار مكة عن الكعبة إنها بيتنا وبيت آبائنا وليست بيت الله. . فصرف الله رسوله في أول الإسلام ووجهه إلى بيت المقدس. . وعندئذ قال اليهود: يسفه ديننا ويتبع قبلتنا. . والله سبحانه وتعالى أراد أن يحتوي الإسلام كل دين قبله فتكون القداسة للكل. . ولذلك أسرى برسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى بيت المقدس. . حتى يدخل بيت المقدس في مقدسات الإسلام لأنه أصبح محتوى في الإسلام. ولم يشأ الله أن يجعل القبلة إلى الكعبة أول الأمر لأنهم كانوا يقدسونها على أنها بيت العرب وكانوا يضعون فيها أصنامهم. . ووضع الأصنام في الكعبة شهادة بأن لها قداسة في ذاتها. . فالقداسة لم تأت بأصنامهم بل هم أرادوا أن يحموا هذه الأصنام فوضعوها في الكعبة. . لماذا لم يضعوها في مكان آخر؟ لأن الكعبة مقدسة بدون أصنام. والله سبحانه وتعالى حين قال: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} . . وَلاّه يعني حرفه ورده. . والقبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس. . وهنا يأتي الحق برد جامع هو أن أوامر الله الإيمانية لا ترتبط بالعلة. . إنما علة التنفيذ فيما يأمرنا الله سبحانه به جل جلاله أن الله هو الآمر. . ولو أن الحق تبارك وتعالى بين لنا السبب أو العلة في تغيير القبلة لما كان الأمر امتحانا للإيمان في القلوب. . لأن الإيمان والعبادة هي طاعة معبود فيما يأمر وما ينهي. . يقول لك الله عظم هذا الحجر وهو الحجر الأسود الموجود في الكعبة وتعظمه بالاستلام والتقبيل. . ويقول لك: ارجم هذا الحجر الذي يرمز إلى إبليس فترجمه بالحصى، ولا يقول الله سبحانه لماذا؟ لأنه لو قال لماذا ضاع الإيمان هنا وأصبح الأمر مسألة إقناع واقتناع. فأنا حين أقول لك لا تأكل هذا لأنه مر وكل هذا لأنه حلو يكون السبب واضحا. . ولكن الله تبارك وتعالى يقول لك كل هذا ولا تأكل هذا. . فإن أكلت مما حرمه تكون آثما. وإن امتنعت تكون طائعا وتثاب. إذن العلة الإيمانية هي أن الأمر صادر من الله سبحانه. . ولو أنك امتنعت عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 شرب الخمر لأنها ضارة بالصحة أو تفسد الكبد فلا ثواب لك، ولو امتنعت عن أكل لحم الخنزير لأن فيه كمية كبيرة من الكولسترول وله مضار كثيرة فلا ثواب لك. . ولكنك لو امتنعت عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير لأن الله حرمهما. . فهذه هي العبادة وهذا هو الثواب. الله سبحانه وتعالى أراد أن يرد على هؤلاء السفهاء فقال: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . . أي أنك إذا اتجهت إلى بيت المقدس أو اتجهت إلى الكعبة أو اتجهت إلى أي مكان في هذا الكون فالله موجود فيه. . فبيت المقدي ليس له خصوصية بذاته، والكعبة ليس لها خصوصية بذاتها. . ولكن أمر الله تبارك وتعالى هو الذي يعطيهما هذه الخصوصية. . فإذا اتجهنا إلى بيت المقدس فنحن نتجه إليه طاعة لأمر الله. . فإذا قال الله سبحانه اتجهوا إلى الكعبة اتجهنا إليها طاعة لأمر الله. قوله تعالى: {يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . . الصراط هو الطريق المستقيم لا التواء فيه بحيث يكون أقرب المسافات إلى الهدف. والله سبحانه وجهنا لبيت المقدس فهو صراط مستقيم نتبعه. . وجهنا إلى الكعبة فهو صراط مستقيم نتبعه. . فالأمر لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 ساعة ترى كذلك فهناك تشبيه. . الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نتنبه إلى نعمته في أنه جعلنا أمة وسطاً. . فكل ما يشرعه الله يدخل في باب النعم على المؤمنين. . وإذا كان الاتجاه إلى الكعبة هو اختبار لليقين الإيماني في نفوس المسلمين. . فإنه سبحانه جعلنا أمة وسطا نعمة منه، ومادمنا وسطا فلابد أن هناك أطرافا حتى يتحدد الوسط. . هذا طرف ثم الوسط ثم طرف آخر. . ووسط الشيء منتصفه أو ما بين الطرفين. ولكن ما معنى أمة وسطا؟ وسط في الإيمان والعقيدة. فهناك من أنكروا وجود الإله الحق. . وهناك من أسرفوا فعددوا الآلهة. . هذا الطرف مخطئ وهذا الطرف مخطئ. . أما نحن المسلمين فقلنا لا إله إلا الله وحده لا شريك له واحد أحد. . وهذه بديهية من بديهيات هذا الكون. . لأن الله تبارك وتعالى خلق الكون وخلق كل ما فيه وقال سبحانه إنه خلق. . ولم يأت ولن يأتي من يدعي الخلق. . إذن فالدعوى خالصة لله تبارك وتعالى. . ولو كان في هذا الكون آلهة متعددة لادعى كل واحد منهم الخلق. . ولذلك فإن الله جل جلاله يقول: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 أي لتنازع الخلق ولاضطرب الكون. . فالإسلام دين وسط بين الإلحاد وتعدد الآلهة. . على أن هناك أناساً يسرفون في المادية ويهملون القيم الروحية. . وأناساً يهملون المادة ويؤمنون بالقيم الروحية وحدها. واقع الحياة أن الماديين يفتنون الروحانيين لأن عندهم المال والقوة. . الإسلام جاء وسطا فيه المادة والروح. . وإياك أن تقول أن الروح أحسن من المادة أو المادة أحسن من الروح. . فالمادة وحدها والروح وحدها مسخرة وعابدة ومسبحة لله تعالى. . لكن حين تختلط المادة بالروح فإنه توجد النفس، والنفس هي التي لها اختيار تطيع أو تعصي. . تعبد أو تكفر والعياذ بالله. الله سبحانه يريد من المؤمنين أن يعيشوا مادية الحياة بقيم السماء. . وهذه وسطية الإسلام، لم يأخذ الروح وحدها ولا المادة وحدها. . وإنما أوجد مادية الحياة محروسة بقيم السماء. . فحين يخبرنا الله سبحانه أنه سيجعلنا أمة وسطا تجمع خير الطرفين نعرف أن الدين جاء ليعصم البشر من أهواء البشر. الله تبارك وتعالى يريدنا أن نبحث في ماديات الكون بما يخلق التقدم والرفاهية والقوة للبشرية. . فما هو مادي معملي لا يختلف البشر فيه. . لكن ما يدخل فيه أهواء البشر ستضع السماء لكم قانونه. . فإذا عشتم بالأهواء ستشقون. . وإذا عشتم بنظريات السماء ستسعدون. قد يتساءل البعض هل الشيوعية التي جاءت منذ أكثر من نصف قرن ارتقت بشعوبها أم لا؟ نقول انظروا إليها الآن لقد بنت ما ادعته من ارتقاءات على الكذب والزيف. . ثم تراجعت ثم انهارت تماما. . وكما انهارت الشيوعية ستنهار الرأسمالية لأنهما طرفان متناقضان إنما نحن أمة وسطا. . ولذلك أعطانا الله سبحانه خيري الدنيا والآخرة. الحق سبحانه يقول: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} . . أي أن الحجة ستكون لكم في المستقبل. . وسيضطر العالم إلى الرجوع إلى ما يقننه دينكم. . والله تبارك وتعالى قال: {أُمَّةً وَسَطاً} ولم يقل الوسط بكسر الواو أي المنتصف حتى لا يقال إن هؤلاء الرأسماليين والشيوعيين سيتراجعون إلى الحق تماما. . ولكن بعضهم سيميل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 قليلا إلى هذه الناحية أو تلك بحيث يتم اللقاء. . ولذلك عندما يقولون نأخذ أموال الأغنياء ونوزعها على الفقراء. . نقول لهم وعندما يأتي فقير في المستقبل. . من أين تعطيه بعد أن قضيت على الأغنياء؟ . وقد سمعت من شخص له تجربة في السياسة والحكم. . قال إن الذي كان يعمل معي وأضاع ماله كله على الخمر والقمار والنساء كان أحسن مني. . لأنني احتفظت بأموالي ونميتها فقالوا إنك إقطاعي وصادروها. . بينما ذلك الذي أسرف لم يفعلوا به شيئا. . قلت إن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تنمي مالك. . لأنك إن لم تنمه ودفعت عنه زكاة 2. 5 ... فالمال يفنى خلال أربعين سنة. . ولكن إذا نميت مالك وجاءوا إلى ناتج عملك وأخذوه بدعوى أنك إقطاعي فإنهم يقضون على العمل في المجتمع. . لأنه إذا كنت ستأخذ ناتج عمله بدون حق فلماذا يعمل؟ إن الإسلام جاء ليزيد مجال حركة الحياة ويضمن مال المتحرك. . ليأخذ من ماله زكاة ويعين غير القادر حتى لا يحقد على المجتمع. . هذا وسط. وقوله تعالى: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} . . فكأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه ستحدث في الكون معركة لن يفصل فيها إلا شهادة هذه الأمة. . فاليمين أو الرأسمالية على خطأ، والشيوعية على خطأ. . أما منهج الله الذي وضع الموازين القسط للكون ولحياة الإنسان فهو الصواب. . ثم يخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيكون شهيدا علينا. . هل كان عملنا وتحركنا مطابقا لما أنزله على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبلغه الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لنا؟ أم أننا اتبعنا أهواءنا وانحرفنا عن المنهج. الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيكون شهيداً علينا في هذه النقطة. . تلك الآية وإن كانت قد بشرت الأمة الوسط بأن العالم سيعود إلى حكمها، فذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا سادت شهادة الحق والعدل فيها: وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} . . هذه عودة إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. . الله تبارك وتعالى لا يفضل اتجاها على اتجاه. . ولذلك فإن الذين يتجهون إلى الكعبة ستختلف اتجاهاتهم حسب موقع بلادهم من الكعبة. . هذا يتجه إلى الشرق. وهذا يتجه إلى الشمال الشرقي. . وهذا يتجه إلى الجنوب الغربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 إنه ليس هناك عند الله اتجاه مفضل على اتجاه. . ولكن تغيير القبلة جعله الله سبحانه اختبارا إيمانيا ليس علم معرفة ولكن علم مشهد. . لأن الله سبحانه وتعالى يعلم. . ولكنه جل جلاله يريد أن يكون الإنسان شهيدا على نفسه يوم القيامة. . ولكنه اختبار إيماني ليعلم الله مدى إيمانكم ومن سيطيع الرسول فيما جاءه من الله ومن سينقلب على عقبيه. . فكأن أمر تحويل القبلة سيحدث هزة إيمانية عنيفة في المسلمين أنفسهم. . فيعلم الله من يستمر في إيمانه واتباعه لرسول الله. . ومن سيرفض ويتحول عن دين الإسلام. وقوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} . . والله يريد هنا العلم الذي سيكون شهيدا على الناس يوم القيامة. . وعملية الابتلاء أو الاختبار في تغيير القبلة عملية شاقة. . إلا على المؤمنين الذين يرحبون بكل تكليف. . لأنهم يعرفون أن الإيمان هو الطاعة ولا ينظرون إلى علة الأشياء. ولكن الكفار والمنافقين واليهود لم يتركوا عملية تحويل القبلة تمر هكذا فقالوا: إن كانت القبلة هي الكعبة فقد ضاعت صلاتكم أيام اتجهتم إلى بيت المقدس. . وإن كانت القبلة هي بيت المقدس فستضيع صلاتكم وأنتم متجهون إلى الكعبة. نقول لهم لا تعزلوا الحكم عن زمنه. . قبلة بيت المقدس كانت في زمنها والكعبة تأتي في زمنها. . لا هذه اعتدت على هذه ولا هذه اعتدت على هذه. . ولقد مات أناس من المؤمنين وهم يصلون إلى بيت المقدس فقام المشككون وقالوا صلاتهم غير مقبولة. . ورد الله سبحانه بقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} . . لأن الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس كانوا مطيعين لله مؤمنين به فلا يضيع الله إيمانهم. وقوله تعالى: {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} . . أي تذكروا أنكم تؤمنون برب رءوف لا يريد بكم مشقة. . رحيم يمنع البلاء عنكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 نحن نعلم أن «قد» للتحقيق. . و «نرى» . . فعل مضارع مما يدل على أن الحدث في زمن التكلم. . الحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . أنه يحب ويشتاق أن يتجه إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس. . وكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قد اعتاد أن يأتيه الوحي من علو. . فكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يتجه ببصره إلى السماء مكان إيتاء الوحي. . ولا يأتي ذلك إلا إذا كان قبله متعلقا بأن يأتيه الوحي بتغيير القبلة. . فكأن هذا أمر شغله. إن الله سبحانه يحيط رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه قد رأى تقلب وجه رسوله الكريم في السماء وأجابه ليتجه إلى القبلة التي يرضاها. . فهل معنى ذلك أن القبلة التي كان عليها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي بيت المقدس لم يكن راضيا عنها؟ نقول لا. . وإنما الرضا دائما يتعلق بالعاطفة، وهناك فرق بين حب العاطفة وحب العقل. . ولذلك لا يقول أحد إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن راضيا عن قبلة بيت المقدس. . وإنما كان يتجه إلى بيت المقدس وفي قلبه عاطفة تتجه إلى الكعبة. . هذا يدل على الطاعة والالتزام. الله يقول لرسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} أي تحبها بعاطفتك. . ورسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يتطلع إلى هذا التغيير، فكأن عواطفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اتجهت لتضع مقدمات التحويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 قال الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} . . والمراد بالوجه هو الذات كلها وكلمة شطر معناها الجهة، والشطر معناه النصف. . وكلا المعنيين صحيح لأنه حين يوجد الإنسان في مكان يصبح مركزاً لدائرة ينتهي بشيء اسمه الأفق وهو مدى البصر. . وما يخيل إليك عنده أن السماء انطبقت على الأرض. إن كل إنسان منا له دائرة على حسب نظره فإذا ارتفع الإنسان تتسع الدائرة. . وإذا كان بصره ضعيفا يكون أفقه أقل، ويكون هو في وسط دائرة نصفها أمامه ونصفها خلفه. إذن الذي يقول الشطر هو النصف صحيح والذي يقول أن الشطر هو الجهة صحيح. وقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} . . أي اجعل وجهك جهة المسجد الحرام أو اجعل المسجد الحرام في نصف الدائرة التي أمامك. . وفي الزمن الماضي كانت العبادات تتم في أماكن خاصة. . إلى أن جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجعل الله له الأرض كلها مسجدا. إن المسجد هو مكان السجود ونظراً لأن السجود هو منتهى الخضوع لله فسمي المكان الذي نصلي فيه مسجدا. . ولكن هناك فرق بين مكان تسجد فيه ومكان تجعله مقصورا على الصلاة لله ولا تزاول فيه شيئا آخر. المسجد مخصص للصلاة والعبادة. . أما المكان الذي تسجد فيه وتزاول حركة حياتك فلا يسمى مسجداً إلا ساعة تسجد فيه. . والكعبة بيت الله. باختيار الله. وجميع مساجد الأرض بيوت الله باختيار خلق الله. . ولذلك كان بيت الله باختيار الله قبلة لبيوت الله باختيار خلق الله. وقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} يعني أينما كنتم. . {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} . . لأن الآية نزلت وهم في مسجد بني سلمة بالمدينة فتحول المسلمون إلى المسجد الحرام. . وحتى لا يعتقد أحد أن التحويل في هذا المسجد فقط وفى الوقت الذي نزلت فيه الآية فقط قال تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} . . وقوله جل جلاله: {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} . . أي أن الذين أوتوا الكتاب ويحاولون التشكيك في اتباع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . يعلمون أن رسول الله هو الرسول الخاتم ويعرفون أوصافه التي ذكرت في التوراة والإنجيل. . ويعلمون أنه صاحب القبلتين. . ولو لم يتجه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من بيت المقدس إلى الكعبة. . لقالوا إن التوراة والإنجيل تقولان إن الرسول الخاتم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي إلى قبلتين فلماذا لم تتحقق؟ ولكان هذا أدعى إلى التشكيك. إذن فالذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه الحق من ربهم. . لأنه في التوراة أن الرسول الذي سيجيء وسيتجه إلى بيت المقدس ثم يتجه إلى البيت الحرام. . فكأن هذا التحويل بالنسبة لأهل الكتاب تثبيت لإيمانهم بالرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وليس سببا في زعزعة اليقين. وقوله تعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} . . يريد الحق تبارك وتعالى أن يطمئن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تشكيكهم لا يقدم ولا يؤخر. . فموقفهم ليس لطلب الحجة ولكن للمكابرة. . فهم لا يريدون حجة ولا دليلا إيمانياً. . ولكنهم يريدون المكابرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 اتباع القبلة مظهر إيماني في الدين، فمادمت آمنت بدينك فاتبع قبلتك. . لا أؤمن بدينك لا اتبع قبلتك. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ} ساعة تسمع «ولئن» واو ولام وإن. . هذا قسم. فكأن الحق تبارك وتعالى أقسم أنه لو أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أهل الكتاب بكل آية ما آمنوا بدينه ولا اتبعوا قبلته. . لماذا؟ لأنهم لا يبحثون عن دليل ولا يريدون الاقتناع بصحة الدين الجديد. . ولو كانوا يريدون دليلا أو اقتناعا لوجدوه في كتبهم التي أنبأتهم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنه النبي الخاتم وأعطتهم أوصافه. . فكأن الدليل عندهم ولكنهم يأخذون الأمر سفها وعنادا ومكابرة. وقوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} . . فكأنه حين جاءت الآية بتغير القبلة أعلمنا الله أن المسلمين لن يعودوا مرة أخرى إلى الاتجاه نحو بين المقدس ولن يحولهم الله إلى جهة ثالثة. . ولكي يعلمنا الله سبحانه وتعالى أن اليهود والنصارى سيكونون في جانب ونحن سنكون في جانب آخر. . وأنه ليس هناك التقاء بيننا وبينهم. قال سبحانه: {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} . . فالخلاف في القبلة مستمر إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 وقول الحق: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين} . . حين يخاطب اللهُ سبحانه وتعالى رسوله وحبيبه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذه الآية. . وهو يعلم أن محمدا الرسول المعصوم لا يمكن أن يتبع أهواءهم. . نقول إن المقصود بهذه الآية هي أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إن الله يخاطب أمته في شخصه قائلا: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين} . . ما هي أهواء أهل الكتاب؟ هي أن يهادنهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو يقول إن ما حرفوه في كتبهم أنزله الله. . وهكذا يجعل هوى نفوسهم أمراً متبعا. . فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفت أمة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. . إلى أن كل من يتبع أهواء أهل الكتاب وما حرفوه سيكون من الظالمين مهما كانت درجته من الإيمان. . وإذا كان الله تبارك وتعالى لن يقبل هذا من رسوله وحبيبه فكيف يقبله من أي فرد من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ إن الخطاب هنا يمس قمة من قمم الإيمان التي تفسد العقيدة كلها. . والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أنه لا يتسامح فيها ولا يقبلها حتى لو حدثت من رسوله ولو أنها لن تحدث. . ولكن لنعرف أنها مرفوضة تماما من الله على أي مستوى من مستويات الإيمان حتى في مستوى القمة فتبتعد أمة محمد عن مثل هذا الفعل تماما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 الله تبارك وتعالى يقول إن الذين جاءهم الكتاب قبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرفونه. . يعرفون ماذا؟ هل يعرفون أمر تحويل القبلة؟ أم يعرفون أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبعثه ورسالته التي يحاولون أن يشككوا فيها؟ الله سبحانه وتعالى يشرح لنا ذلك في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89] فكأن اليهود والنصارى يعرفون رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ومكتوب في التوراة والإنجيل أنه الحق ومطلوب منهم أن يؤمنوا به. . إن كعب الأحبار كان جالسا وعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان موجودا فسأله عمر أكنتم تعرفونه يا كعب؟ أي أكنتم تعرفون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورسالته وأوصافه؟ فقال كعب وهو من أحبار اليهود. . أعرف كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد. . فلما سألوه لماذا؟ قال لأن ابني أخاف أن تكون امرأتي خانتني فيه أما محمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) فأوصافه مذكورة بالدقة في التوراة بحيث لا نخطئه. إذا فأهل الكتاب يعرفون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويعرفون زمنه ورسالته. . والذين أسلموا منهم وآمنوا فعلوا ذلك عن اقتناع، أما الذين لم يؤمنوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 وكفروا بما جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عرفوا ولكنهم كتموا ما يعرفونه. . ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . . وساعة تقول كتم الشيء. . فكأن الشيء بطبيعته كان يجب أن يبرز وينتشر. . والحق بطبيعته لابد أن يبرز وينتشر ولكن إنكار الحق وكتمه يحتاج إلى مجهود. إن الذين يحققون في القضايا الدقيقة يحاولون أن يمنعوا القوة أن تكتم الحق. . فيجعلون من يحققون معه لا ينام حتى تنهار قواه فينطق بالحقيقة. . لأن النطق بالحق لا يحتاج إلى مجهود، أما كتم الحق فهو الذي يحتاج إلى كجهود وقوة، وعدم النطق بالحق عملية شاقة. . ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . . أي أنهم ليسوا جاهلين ولكنهم على علم بالحقيقة. . والحق من الله فهل يستطيع هؤلاء كتمانه؟ طبعا لا، لابد أن يظهر. . فإذا انتشر الكذب والباطل فهو كالألم الذي يحدث في الجسد. . الناس تكره الألم ولكن الألم من جنود الشفاء لأنه يجعلك تحس أن هناك شيئا أصابه مرض فتتجه إليه بأسباب العافية. إن أخطر الأمراض هي التي لا يصاحبها ألم ولا تحس بها إلا بعد أن يكون قد فات وقت العلاج. . والحق دائما غالب على أمره ولذلك لا توجد معركة بين حقين. . أما الباطل فتوجد معركة بين باطل وباطل. وبين حق وباطل. لأنه لا يوجد إلا حق واحد أما الباطل فكثير. . والمعارك بين الحق والباطل تنتهي بهزيمة الباطل بسرعة. . ولكن الذي يطول هو معركة بين باطلين. . ولذلك فإن معارك العصر الحديث تطول وتتعب الدنيا. . فمعارك الحرب العالمية الثانية مثلا لازالت آثارها ممتدة حتى الآن في الحرب الباردة وغير ذلك من الحروب الصغيرة. . ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 الحق من الله سبحانه وتعالى. . ومادام من الله فلا تكونن من الذين يشكون في أن الحق سينتصر. . ولكن الحق لابد من قوة تحميه. . وكما يقول الشاعر: السيف إن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل فما فائدة أن يكون معك سيف بتار. . دون أن توجد اليد القوية التي ستضرب به. . ونحن غالبا نكون مضيعين للحق لأننا لا نوفر له القوة التي ينتصر بها. وقوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} . . الممتري هو الذي يشك في حدوث الشيء. . والشك معناه أنه ليست هناك نسبة تتغلب على نسبة. . أي أن الاحتمالين متساويان. . ولكن الحق من الله ولا توجد نسبة تقابله. . ولذلك لا يجب أن نشك ولا ندخل في جدل عقيم حول انتصار الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 شاء الله سبحانه أن يجعل الإنسان مختارا. . ومن هنا فإن له الاختيار في أن يؤمن أو لا يؤمن. . أن ينصر الحق أو ينصر الباطل. . أن يفعل الخير أو يفعل الشر. . كل هذه اختبارات شاء الله أن يعطيها للإنسان في الدنيا بحيث يستطيع أن يفعل أو لا يفعل. . ولكن هذا لن يبقى إلى الأبد. إن هذا الاختيار موجود في الحياة الدنيا. ولكن بشرية الإنسان تنتهي ساعة الاحتضار فعند مواجهة الموت ونهاية العمر يصبح الإنسان مقهورا وليس مختارا. . فهو لا يملك شيئا لنفسه ولا يستطيع أن يقول لن أموت الآن. . انتهت بشريته وسيطرته على نفسه حتى أعضاؤه تشهد عليه. . ففي الحياة الدنيا كل واحد يختار الوجهة التي يتجه إليها، هذا يختار الكفر وهذا يختار الإيمان. . هذا يختار الطاعة وهذا يختار المعصية، فمادام للإنسان اختيار فكل واحد له وجهة مختلفة عن الآخر. . والذي يهديه الله يتجه إلى الخيرات وكأنه يتسابق إليها. . لماذا؟ لأنه لا يعرف متى يموت ولذلك كلما تسابق إلى خير كان ذلك حسنة أضافها لرصيده. إن المطلوب من المؤمنين في الحياة الدنيا أن يتسابقوا إلى الخيرات قبل أن يأتيهم الأجل ولا يحسب واحد منهم أنه سيفلت من الله. . لأنه كما يقول عَزَّ وَجَلَّ: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً} . . أي أنه ليس هناك مكان تستطيعون أن تختفوا فيه عن علم الله تبارك وتعالى بل هو يعرف أماكنكم جميعا واحدا واحدا وسيأتي بكم جميعا مصداقا لقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: 47] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 وقوله سبحانه: {ففروا إِلَى الله إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50] أي أن الحق جل جلاله يريدنا أن نعرف يقينا أننا لا نستطيع أن نفر من علمه. ولا من قدره ولا من عذابه. . وأن الطريق الوحيد المفتوح أمامنا هو أن نفر إلى الله. . وأنه لا منجاة من الله إلا إليه. . ولذلك لا يظن كافر أو عاص أنه سيفلت من الله. . ولا يظن أنه لن يكون موجودا يوم القيامة أو أنه لن يحاسب أو أنه يستطيع أن يختفي. إن غرور الدنيا قد يركب بعض الناس فيظنون أنهم في منعة من الله وأنهم لن يلاقوه. . نقول لهم إنكم ستفاجأون في الآخرة حين تعرفون أن الحساب حق والجنة حق والنار حق. ستفاجأون بما سيحدث لكم. . ومن لم يؤمن ولم يسارع إلى الخير سيلقى الخزي والعذاب الأليم. . إن الله ينصحنا أن نؤمن وأن نسارع في الخيرات لننجوا من عذابه، ويقول لنا لن يفلت واحد منكم ولا ذرة من ذرات جسده من الوقوف بين يدي الله للحساب. . ولذلك ختم الله هذه الآية الكريمة بقوله: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . . أي أن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء ولا يخرج عن طاعته شيء. . إنه سبحانه على كل شيء قدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 لابد أن نتأمل كم مرة أكد القرآن الكريم قضية تحويل القبلة. . أكدها ثلاث مرات متقاربة. . لأن تحويل القبلة أحدث هزة عنيفة في نفوس المؤمنين. . والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُذهب هذا الأثر ويؤكد تحويل القبلة تأكيدا إيمانيا. لقد جاء بثلاث آيات التي هي أقل الجمع. . واحدة للمتجه إلى الكعبة وهو داخل المسجد. . والثانية للمتجه وهو خارج المسجد. . والثالثة للمتجه من الجهات جميعا. قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} . . هو رد على المنافقين واليهود والنصارى الذين حاولوا التشكيك في الإسلام. . بأن واجهوا المسلمين بقضية تغيير القبلة. . على أساس أنها قضية ما كان يجب أن تتم لأنه ليس فيها زيادة في التكليف ولا مشقة زائدة تزيد ثواب المؤمن. . فالجهد الذي يبذله المؤمن في الاتجاه إلى المسجد الأقصى هو نفس الجهد الذي يبذله في الاتجاه إلى البيت الحرام. . فأنت إذا اتجهت في صلاتك يمينا أو شمالا أو شرقا أو غربا فإن ذلك لا يضيف إليك مشقة. فما هو سبب التغيير؟ . نقول لهم إن هذه ليست حجة للتشكيك في تحويل القبلة لأن الاتجاه إلى المسجد الحرام هو طاعة الله. . ومادام الله سبحانه وتعالى قد قال فعلينا أن نطيع طاعة إيمانية. . يقول المولى جل جلاله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . . أي أن ما فعلتموه من تحويل القبلة هو حق جاءكم من الله تبارك وتعالى. . والله عَزَّ وَجَلَّ ليس غافلا عن عملكم بحيث تكونون قد اتجهتم إلى البيت الحرام. بل الله يعلم ما تبدون وما تكتمون. . فاطمئنوا أنكم على الحق وولوا وجوهكم تجاه المسجد الحرام. . واعملوا أن الله سبحانه محيط بكم في كل ما تعملون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 الحق تبارك وتعالى يؤكد لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتوجه هو والمسلمون إلى المسجد الحرام. . سواء كانوا في المدينة أو في خارج المدينة أو في أي مكان على الأرض. . وتلك هي قبلتهم في كل صلاة بصرف النظر عن المكان الذين يصلون فيه. وقوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} . . الناس هنا المقصود بهم المنافقون واليهود والنصارى. . حجة في ماذا؟ لأن المسلمين كانوا يتجهون إلى بيت المقدس فاتجهوا إلى المسجد الحرام. . وليس لبيت المقدس قدسية في ذاته ولا للمسجد الحرام قدسية في ذاته كما قلنا. . ولكن نحن نطيع الأمر من الآمر الأعلى وهو الله. . إن الله تبارك وتعالى أطلق على المنافقين واليهود والنصارى كلمة (ظلموا) ووصفهم بأنهم الذين ظلموا. . فمن هو الظالم؟ الظالم هو من ينكر الحق أو يغير وجهته. أو ينقل الحق إلى باطل والباطل إلى حق. . والظلم هو تجاوز الحد وكأنه سبحانه وصفهم بأنهم ق تجاوزوا الحق وأنكروه يقول سبحانه: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أي لا تخشوا الذين ظلموا: {واخشوني وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . . أي أن الخشية لله وحده والمؤمن لا يخشى بشرا. . لأنه يعلم أن القوة لله جميعا. . ولذلك فإنه يقدم على كل عمل بقلب لا يهاب أحدا إلا الحق. وقوله سبحانه: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . . تمام النعمة هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 الإيمان. وتمام النعمة هو تنفيذ مطلوبات الإيمان. . فإذا هدانا الله للإيمان فهذا من تمام نعمة علينا. ولكي يكونُ الإيمان صحيحا ومقبولا فلابد أن أؤدي مطالبه والمداومة على تنفيذ تكليفات الله لنا، فلا نجعل التكليف ينقطع. لأن التكليف نعمة بغيرها لا تصلح حياتنا ولا تتوالى نعم التكليف من الله سبحانه وتعالى إلا إذا أقبلنا على منهج الله بعشق. . وأنت حينما تأتي إلى المنهج قد يكون شاقا، ولكن إذا تذكرت ثواب كل طاعة فإنك ستخشع وتعشق التكليف. . لأنك تعرف العمل الصالح بثوابه والعمل في المعصية بعقابه. . ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45 - 46] إذن الخاشعون هم الذين يقرنون الطاعة بالثواب والمعصية بالعقاب والعذاب، لأن الذي ينصرف عن الطاعة لمشقتها عزل الطاعة عن الثواب فأصبحت ثقيلة، والذي يذهب إلى المعصية عزل المعصية عن العقاب فأصبحت سهلة. . فمن تمام النعمة أن يديم الله علينا فعل مطلوبات الإيمان. . ولذلك في حجة الوداع نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الآية الكريمة: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3] وكان ذلك إخبارا بتمام رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن الأحكام التكليفية قد انتهت. . ولكن الذين يستثقلون التكليف تجدهم يقولون لك لقد عم الفساد والله لا يكلف نفسا إلا وسعها. . كأنه يحكم بأن هذا في وسعه وهذا ليس في وسعه وعلى ضوئه يأخذ التكليف. . نقول له أَكَلَّفَ الله أم لم يُكلِّف، إن كان قد كَلّف فيكون التكليف في وسعك. . لأنه سبحانه حين يجد مشقة يأمر التخفيف مثل إباحة قصر الصلاة للمسافر وإباحة الإفطار في رمضان للمريض والمسافر فهو سبحانه قد حدد ما في وسعك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . . الهداية هي الطريق المستقيم الموصل إلى الغاية وهو أقصر الطرق، وغاية هذه الحياة هي أن تصل إلى نعيم الآخرة. . الله أعطاك في الدنيا الأسباب لتحكم حركة حياتك ولكن هذه ليست غاية الحياة. . بل الغاية أن نذهب إلى حياة بلا أسباب وهذه هي عظمة قدرة الله سبحانه وتعالى. . والله جل جلاله يأتي ليعلمنا في الآخرة أنه خلقنا لنعيش في الدنيا بالأسباب وفي الآخرة لنعيش في كنفه بلا أسباب. إذن قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . . أي لعلكم تنتبهون وتعرفون الغاية المطلوبة منكم. . ولا يظن أحدكم أن الحياة الدنيا هي الغاية أو هي النهاية أو هي الهدف. . فيعمل من أجل الدنيا فيأخذ منها ما يستطيع حلالا أو حراما باعتبارها المتعة الوحيدة المخلوقة له. . نقول لا، إنه في هذه الحالة يكون قد ضل ولم يهتد لأنه لو اهتدى لعرف أن الحياة الحقيقية للإنسان هي في الآخرة. ولعرف أن نعيم الآخرة الذي لا تفوته ولا يفوتك. . يجب أن يكون هدفنا في الحياة الدنيا فنعمل ما نستطيع لنصل إلى النعيم بلا أسباب في الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 الله جل جلاله بعد أن حدثنا عن الهداية إلى منهجه وإلى طريقه. حدثنا عن نعمته علينا بإرسال رسول يتلو علينا آيات الله. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي ستأتي على يديه قمة النعم وهو القرآن والدين الخاتم. قوله تعالى: {رَسُولاً مِّنْكُمْ} أي ليس من جنس آخر. ولكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول منكم تعرفونه قبل أن يكلف بالرسالة وقبل أن يأتي بالحجة. . لماذا؟ لأنه معروف بالخلق العظيم وبالقول الكريم والأمانة وبكل ما يزيد الإنسان رفعة وعلوا واحتراما. . إن أول من آمن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هم أولئك الذين يعرفونه أكثر من غيرهم. . كأبي بكر الصديق وزجته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ السيدة خديجة وابن عمه علي بن أبي طالب. . هؤلاء آمنوا دون أن يطلبوا دليلا لأنهم أخذوا الإيمان من معرفتهم برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يكلف بالرسالة. . فهم لم يعرفوا عنه كذبا قط. فقالوا إن الذي لا يكذب على الناس لا يمكن أن يكذب على الله فآمنوا. . فالله سبحانه وتعالى من رحمته أنه أرسل إليهم رسولا منهم أميا ليعلمه ربه. . ولذلك قال الحق تبارك وتعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 الحق سبحانه يقول: {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} . . الآيات هي القرآن الكريم والتزكية هي التطهير ولابد أن يكون هناك دنس ليطهرهم منه. . فيطهرهم من عبادة الأصنام ومن وأد البنات والخمر والميسر والربا. . ومعنى التزكية أيضا سلب الضار فكأنه جاءهم بالنفع وسلب منهم الضر. وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة} . . الكتاب على إطلاقه ينصرف إلى القرآن الكريم والحكمة هي وضع الشيء في موضعه. . والكتاب يعطيك التكليف إما أن يأمرك بشيء وإما أن ينهاك عن شيء. إذن فهي دائرة بين الفعل والترك. . والحكمة أن تفعل الفعل الذي يحقق لك خيرا ويمنع عنك الشر. وهي مأخوذة من الحكمة أو الحديدة التي توضع في فم الجواد لتحكم حركته في السير والوقوف، وتصبح كل حركة تؤدي الغرض منها والحكمة أيضا هي أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مصداقا لقوله تعالى: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة} [الأحزاب: 34] وقوله سبحانه: {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} لأنكم أمة أمية. فإن بهرتكم الدنيا بحضارتها فستبهرونهم بالإشعاعات الإيمانية التي تجعلكم متفوقين عليهم. . فكل ما يأتيكم من السماء هو فوق كل حضارات الأرض. . لذلك يقول عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ما عمر لولا الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 قوله تعالى: «فاذكروني» أي كل هذه النعم والفضل عليكم يجب ألا تنسوها. . أن تعيشوا دائما في ذكر من أنعم عليكم. . فالله سبحانه وتعالى يريد من عباده الذكر وهم كلما ذكروه سبحانه وشركوه شكرهم وزادهم. . والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: «أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» هذه هي رغبة الكريم في أن يعطي بشرط أن نكون أهلا للعطاء لأنه يريد أن يعطيك أكثر وأكثر. . فقوله تعالى: «اذكروني» أي اذكروا الله في كل شيء. في نعمه. في عطائه. في ستره. في رحمته. في توبته. يقول بعض الصالحين: سمعت فيمن سمع عن حبيبي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنك إذا ما أقبلت على شرب الماء فقسمه ثلاثا. . أول جرعة قبل باسم الله واشربها، ثم قل الحمد لله وابدأ شرب الجرعة الثانية وقل باسم الله وبعد الانتهاء منها قل الحمد لله. . ثم قل باسم الله واشرب الجرعة الثالثة واختمها بقولك الحمد لله. فمادام هذه الماء في جوفك فلن تحدثك ذرة من جسدك بمعصية الله. جربها يوما في نفسك وقل باسم الله واشرب، وقل الحمد لله وكررها ثلاث مرات فإنك تكون قد استقبلت النعمة بذكر المنعم وأبعدت عن نفسك حولك وقوتك، وأنهيت النعمة بحمد الله. ولكن لماذا الماء؟ لأن الماء في الجوف أشبع من أي شيء آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 قوله تعالى: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} الشكر على النعمة يجعل الله سبحانه وتعالى يزيدك منها. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] وشكر الله يذهب الغرور عن نفسك فلا تفتنك الأسباب وتقول أوتيته على علم مني. {وَلاَ تَكْفُرُونِ} أي لا تستروا نعم الله بل اجعلوها دائما على ألسنتكم. . فإن كل نعمة من نعم الله لو استقبلت بقولك «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» لا ترى في النعمة مكروها أبدا لأنك حصنت النعمة بسياج المنعم. . أعطيت لله حقه في نعمته فإن لم تفعل وتركتها كأنها منك وأنت موجدها ونسيت المنعم وهو الله سبحانه وتعالى فإن النعمة تتركك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 الله سبحانه وتعالى يطالبنا أن نستعين بالصبر والصلاة. . على ماذا؟ على كل ما يطلبه منا الله. . على تكليفاته ومنهجه نستعين على ذلك بالصبر والصلاة. . ولكن لماذا الصبر؟ لأن الصبر هو منع النفس من أي شيء يحدث وهو يأخذ ألوانا شتى حسب تسامي الناس في العبادة. فمثلا سئل الإمام علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن حق الجار؟ قال: تعلمون أنك لا تؤذيه؟ قالوا نعم. . قال وأن تصبر على أذاه. . فكأنه ليس مطلوبا منك فقط ألا تؤذي جارك بل تصبر على أذاه. . والصبر هو الذي يعينك على أن تفعل ما أمرك الله به ولا تفعل ما نهاك عنه. إن الله منعك من أشياء هي من شهوات النفس وأمرك بأشياء فيها مشقة وهذه محتاجة إلى الصبر. . وأنت أن أخذت منهج الله تعبداً ستأخذه فيما بعد عادة. يقول أحد الصالحين في دعائه: اللهم إني أسألك ألا تكلني إلى نفسي فإني أخشى يا رب ألا تثيبني على الطاعة لأنني أصبحت أشتهيها فسبحانك أمرتنا أن نحارب شهواتنا. . انظر إلى الطاعة من كثرة حب الله أصبحت مرغوبة محببة إلى النفس. . رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقول لبلال ساعة الآذان: «أرحنا بها يا بلال» ولم يقل كما يقول بعض الناس والعياذ بالله أرحنا منها؛ ذلك أن هناك من يقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 لك أن الصلاة تكون على كتفي مثل الجبل وأرتاح، نقول له أنت ترتاح بها ولا ترتاح منها؛ لأنك وقفت بين يدي الله المكلف، ومادام الإنسان واقفا أمام ربه فكل أمر شاق يصبح سهلا. يقول أحد العابدين: أنا لا أواجه الله بعبوديتي ولكن أواجهه بربوبيته فأرتاح لأنه ربي ورب العالمين. . الذي له أب يعينه لا يحمل هما فما بالك بالذي له رب يعينه وينصره. قول الحق سبحانه: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} أي أنه يطلب منك أن تواجه الحياة في معية الله؛ فأنت لو واجهت المشكلات في معية من تثق في قوته تواجه الأمور بشجاعة فما بالك إذا كنت في معية الله وكل شيء في الوجود خاضع لله، أيجرؤ شيء أن يقف أمامك وأنت مع الله؟ إن الأحداث لا تملأ الخلق بالفزع والهلع إلا ساعة الانفلات من حضانة ربهم. . وإنما من يعيش في حضانة ربه لا يجرؤ عليه الشيطان فالشيطان خناس. . ما معنى خناس؟ إذا سهوت عن الله اجترأ عليك وإذا ذكرت الله خنس وضعف؛ فهو لا قوة له. . وهو لا يدخل مع الله سبحانه وتعالى في معركة، وإنما يدخل مع خلق الله الذين ينسون الله ويبتعدون عنه يقول القرآن الكريم: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82 - 83] ومادام الله سبحانه وتعالى مع الصابرين فلابد أن نعشق الصبر. . وكيف لا نعشق ما يجعل الله معنا؟ يقول الحق جل جلاله في الحديث القدسي: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده» يقول بعض الصالحين: اللهم إني استحي أن أسألك الشفاء والعافية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 حتى لا يكون ذلك زهدا في معيتي لك. . إذن لابد أن نعشق الصبر لأنه يجعلنا دائماً في معية الله. الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} . . ونحن نريد أن يكون الله سبحانه معنا دائما. . إن هذه الآية لا تجعل الإنسان ييأس مهما لقى في حركة حياته من المشقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 الحق جل جلاله يعلم أن أحداث الإيمان وخصوم الإيمان سيواجهون المسلمين بمشقة عنيفة. . لا تهددهم في أموالهم فقط ولكن تهددهم في نفوسهم، فأراد الله عَزَّ وَجَلَّ أن يعطي المؤمنين مناعة ضد هذه الأحداث. . وأوصاهم بالصبر والصلاة يواجهون بها كل حدث يهزهم بعنف. . قال لهم إن المسألة قد تصل إلى القتل. . إلى الاستشهاد في سبيل الله. وأراد أن يطمئنهم بأن الشهادة هي أعلى مرتبة إيمانية يستطيع الإنسان المؤمن أن يصل إليها في الدنيا فقال سبحانه: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ} . إن القتل هو أشد ما يمكن أن يقع على الإنسان. . فأنت تصاب في مالك أو في ولدك أو في رزقك أو في صحتك، أما أن تصاب في نفسك فتقتل فهذه هي المصيبة الكبرى. . والله سبحانه سَمَّى الموتَ مصيبة واقرأ قوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت} [المائدة: 106] الله تبارك وتعالى أراد أن يفهم المؤمنون أن الذي يقتل في سبيل الله لا يموت. . وإنما يعطيه الله لونا جديدا من الحياة فيه من النعم ما لا يعد ولا يحصى. يقول جل جلاله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 ما هو مظهر الحياة التي يعيشونها؟ الحياة عندنا مظهرها الحركة، والذي قتل في سبيل الله ما هي حركته؟ حركته بالنسبة لغير المؤمنين خصوم الإسلام والإيمان بأنه لن يسلب منه الحياة. . لأنه سيذهب إلى حياة أسعد والموت ينقله إلى خير مما هو يعيش فيه. . فإذا كان الكفار قد قتلوه فهم لم يسلبوه شيئا وإنما نقلوه إلى نعمة أكبر مما كان يعيش فيها. . أما بالنسبة للمؤمنين فإنه سيحمي لهم منهج الله ليصل إليهم إلى أن تقوم الساعة. إن كل المعارك التي يستشهد فيها المؤمنون إنما هي سلسلة متصلة لحماية حركة الإيمان في الوجود. . وعظمة الحياة ليست في أن أتحرك أنا ولكن أن اجعل مَن بعدي يتحرك. . والمؤمن حين يستشهد يبقى أثره في الوجود لكل حركة من متحرك بعده. . فكل حركة لحماية الإيمان تستشهد به وبما فعله وتأخذ من سلوكه الإيماني دافعا لتقاتل وتستشهد. فكأن الحركة متصلة والعملية متصلة. . أما الكافر فإن الحياة تنتهي عنده بالموت ولكن تنتظره حياة أخرى حينما يبعث الله الناس جميعا ثم يأتي بالموت فيموت. . وحين يموت الموت تصبح الحياة بلا موت إما في الجنة وإما في النار. الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعلم أن من يقتل في سبيل الله هو حي عند ربه ينتقل من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة مباشرة. . ولا يكتب عليه الموت في حياة البرزخ حتى يوم القيامة مثل من يموت ميتة طبيعية ولا يموت شهيدا. . ولأن هذه الحياة حياة الشهداء أخفى الله سبحانه عنا تفاصيلها لأنها من حياة الآخرة. . وهي غيب عنا قال تبارك وتعالى: {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} . . ومادمنا لا نشعر بها فلابد أن تكون حياة أعلى من حياتنا الدنيوية. الذي استشهد في عرف الناس سلب نفسه الحياة ولكنه في عرف الله أخذ حياة جديدة. . ونحن حين نفتح قبر أحد الشهداء نجد جسده كما هو فنقول إنه ميت أمامنا. . لابد أن تتنبه إنك لحظة فتحت عليه انتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة والله سبحانه قال: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} ولم يقل أحياء في عالم الشهادة. . فهو حي مادام في عالم الغيب ولكن أن تفتح وتكشف تجده جسدا في قبره لأنه انتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة. . أما كيف؟ قلنا إن الغيب ليس فيه كيف. . لذلك لن تعرف وليس مطلوبا منك أن تعرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 إننا حين نجري عملية جراحية لمريض يعطيه الطبيب (البنج) لكي يفقده الوعي والحس ولكن لا يعطيه له ليموت ثم يبدأ يجري العملية فلا يشعر المريض بشيء من الألم. فالمادة لا تحس لأنها هي التي أجريت عليها العملية والجسد لازال فيه الحياة من نبض وتنفس ولكنه لا يحس. . ولكن النفس الواعية التي غابت هي التي تحس بالألم. أنت عندما يكون هناك ألم في جسدك وتنام ينقطع الإحساس بالألم فكأن الألم ليس مسألة عضوية ولكنه مرتبط بالوعي. . فعند النوم تنتقل إلى عالم آخر قوانينه مختلفة. . والعلماء فحصوا مخ الإنسان وهو نائم فوجدوا أنه لا يستطيع أن يعمل أكثر من سبع ثوان يرى فيها رؤيا يظل يحكيها ساعات. . فإذا قال الحق تبارك وتعالى: «إنهم أحياء عند ربهم» . . فلابد أن نأخذ هذه الحياة على أنها بقدرات الله ومن عنده. . والله عَزَّ وَجَلَّ أراد أن يقرب لنا مسألة البعث والقيامة مثل مسألة النوم. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [الزمر: 42] فكأن الحق جل جلاله يعطي الشهداء حياة دائمة خالدة لأنهم ماتوا في سبيله. . ومادام تعالى قال: «لا تشعرون» فلا تحاول أن تدركها بشعورك وحسك لأنك لن تدركها على أن الشهيد لابد أن يقتل في سبيل الله وليس لأي غرض دنيوي. . وإنما لتكون كلمة الله هي العليا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 نعرف أن مجرد الابتلاء ليس شرا، ولكن الشر هو أن تسقط في الابتلاء، فكل ابتلاء هو اختبار وامتحان، ولم يقل أحد: إن الامتحانات شر، إنها تصير شراً من وجهة نظر الذي لم يتحمل مشاق العمل للوصول إلى النجاح، أما الذي بذل الجهد وفاز بالمركز الأول، فالامتحانات خير بالنسبة له، إذن فقوله الحق: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي سنصنع لكم امتحاناً يصفي البطولة للعقيدة الجديدة. والحق سبحانه قد ذكر لنا قبل هذه الآية قمة الابتلاءات؛ وهي أن ينال الإنسان الاستشهاد في سبيل الله، وذكر ثواب الشهيد، وهو البقاء على هيئة من الحياة عند ربه، وكان ذلك مقدمة للابتلاءات الأقل، فقمة الابتلاء في حدود إدراكنا هي فقد الحياة، وأراد الحق أن يعطي المؤمنون مناعة فيما دون الحياة، مناعة من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات. وكل ما دون حياة الفرد هو أمر ترفي بالنسبة لفقد الحياة نفسها، فمن لم يفقد حياته، فستأتي له ابتلاءات فيما دون حياته وهي ابتلاءات الخوف والجوع ونقص الأموال، ونقص في عدد الأخوة المؤمنين، وكذلك نقص في الثمرات، وكل هذه أشياء يحبها الإنسان، ويأتي التكليف ليطلب من المؤمن أن يترك بعضا مما يحب، وتلك الابتلاءات تدخل في نطاق بقاء التكليف. وأول تلك الابتلاءات هو الخوف، والخوف هو انزعاج النفس وعدم اطمئنانها من توقع شيء ضار، فالنفس لها ملكات متعددة، وعندما يصيبها الخوف، فهي تعاني من عدم الانسجام، والخوف خورٌ لا ضرورة له، لأنك إذا كنت تريد أن تؤمن نفسك من أمر يُخيفك، فأنت تحتاج إلى أن تجتهد بأسبابك لتعوق هذا الذي يُخيفك، أما إن استسلمت للانزعاج، فلن تستطيع مواجهة الأمر المخيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 بكل ملكاتك، لأنك ستواجهه ببعض من الملكات الخائرة المضطربة، بينما أنت تحتاج إلى استقرار الملكات النفسية ساعة الخوف؛ حتى تستطيع أن تمد نفسك بما يؤمنك من هذا الخوف. أما إن زاد انزعاجك عن الحد، فأنت بذلك تكون قد أعنت مصدر الخوف على نفسك؛ لأنك لن تواجه الأمر بجميع قواك، ولا بجميع تفكيرك. إذن فالذي يخاف من الخوف؛ نقول له: أنت معين لمصدر الخوف على نفسك، وخوفك وانزعاجك لن يمنع الخوف، ولذلك لابد لك من أن تنشغل بما يمنع الأمر المخوف، ودع الأمر المخوف إلى أن يقع، فلا تعش في فزعه قبل أن يأتيك، فآفة الناس أنهم يعيشون في المصائب قبل وقوعها، وهم بذلك يطيلون على أنفسهم أمد المصائب. إن المصيبة قد تأتي مثلا بعد شهر، فلماذا تطيل من عمر المصيبة بالتوجس منها والرهبة من مواجهتها؟ إنك لو تركتها إلى أن تقع؛ تكون قد قصرت مسافتها. ولك أن تعرف أن الحق سبحانه وتعالى ساعة تأتي المصيبة فهو برحمته ينزل معه اللطف، فكأنك إن عشت في المصيبة قبل أن تقع، فأنت تعيش في المصيبة وحدها معزولة عن اللطف المصاحب لها، لكن لو ظللت صابراً محتسباً قادراً على مواجهة أي أمر صعب، فأنت لن تعيش في المصيبة بدون اللطف. لقد كانت الدعوة إلى الله بالإسلام ما زالت وليدة، لذلك كان لابد من إعداد القدوة المؤمنة إعداداً قوياً، وكان الخوف متوقعاً، لأن خصوم الدعوة يكيدون لها ويُبَيتون، وهذا هو الابتلاء. وما المراد من المؤمن حين يواجه ابتلاء الخوف؟ إن عليه أن يجعل من الخوف ذريعة لاستكمال الأسباب التي تمنع وقوع الأمر المخوف، فإن صنع ذلك يكون قد نجح في هذا الابتلاء. ونأتي إلى الابتلاء الثاني في هذه الآية الكريمة، وهو الجوع. إن الجوع شهوة غالبة إلى الطعام، وهو ضروري لاستبقاء الحياة، ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى بالإنسان أن ضمن له في ذاته غذاء يدخره من وقت رخائه لينفعه وقت شدته. فالإنسان يحتفظ بالغذاء الزائد على صورة شحم ولحكم، وحين يجوع ولا يجد طعاماً، فهو يأخذ من هذا الشحم، فإذا انتهى الشحم، فهو يأخذ من اللحم، وإذا انتهى اللحم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 يأخذ الجسم غذاءه من العظم، من أجل أن يستبقى الإنسان الحياة. والإنسان مكون من أجهزة متعددة، وسيد هذه الأجهزة المخ، ومادامت الحياة موجودة في خلايا المخ فإن كل شيء فيك جاهز للعمل، لكن إذا ماتت هذه الخلايا، انتهى كل شيء، وذلك هو السبب في أن يقال: إن فلاناً مات ثم أعطوه دواء معينا فعادت إليه الحياة. إنهم يتناسون الحقيقة العلمية المؤكدة، وهي أن الحياة لا تغادر الإنسان إلا إذا توقف المخ عن العمل، ولذلك فهناك إنسان قد يتوقف قلبه فيعالجه الأطباء بصدمة كهربية تعيد تشغيل القلب، أو يشقون الصدر لتدليك القلب. لكن إذا ماتت خلايا المخ فهذا هو الموت. فأجهزة الجسم كلها في خدمة ذلك السيد وهو المخ. ومن العجيب أنك تجد سيد الإنسان وهو المخ في قمته، والحيوانات كذلك مخها في قمتها، أما النبات فسيده في جذوره، فالورق يذبل أولا، ثم تحف الأغصان الرفيعة، ثم الجذع، ويجف الجذر في النهاية عندما لا يأتيه بعض الماء، وعندما يأتي بعض الماء إلى الجذور في الوقت المناسب فهي تعود إلى الاخضرار، وتنمو وتعود إليها الحياة، وكذلك المخ في الإنسان، فساعة ينهي الإنسان مخزونه من شحمه ومن لحمه ويتغذى على العظام، فإنقاذه يأتي من إيصال الغذاء إلى المخ. ولذلك قالت المرأة العربية التي لم تكن تعرف التشريح: «نحن مرت علينا سنون، سنة أذابت الشحم، وسنة مَحَقَتْ اللحم، وسنة محت العظم» . ويجب أن نفهم أن الجوع يُحسِّن لنا كل رزق في الحياة؛ فإنك إن كنت جوعان صار كل طعام شهياً، والذي يرغم الناس على إعداد ألوان مختلفة من الأطعمة؛ إنما هو عدم الجوع؛ فالإنسان يريد أن يُشهِّي لنفسه ليأكل، لكنه لو كان جوعان لكفاه أي طعام، ولذلك قالوا: «طعام الجائع هنئ وفراش المتعب وطئ» . فساعة يكون الإنسان متعبا فهو ينام على أرض خشنة؛ ويستغرق في النوم، وإن لم يكن الإنسان متعبا، فهو يظل يتقلب في الفراش حتى ولو كان من الديباج. إذن فابتلاء الجوع هو أن تصبر على الضروري من الطعام الذي يقيم لك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 الحياة، وأنت تأكله كوقود لحركة الحياة، ولا تأكله التذاذا، وحين يقتات الإنسان ليضمن لنفسه وقود الحياة فأي طعام يكفيه. ولذلك شرع الله الصوم لنصبر على أذى الجوع، لأن المؤمنين قد تضطرهم معركة ما لأن يعيشوا فيها ساعات طويلة دون طعام، فإن لم يكونوا مدربين على تحمل قسط من الجوع فسيخورون ويتعبون. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعد المؤمن إعدادا كافيا كاملا، فالمؤمن يواجه الخوف فيستعد، ويواجه الجوع فيأخذ من قوت الحياة بقدر الضرورة. ولذلك تجد أن المجتمعات تواجه متاعب الاقتصاد بالتقشف، ولكن بعض المجتمعات لا تستطيع ذلك، فتجد الناس في تلك المجتمعات لا تتقشف، ولهذا نقول لمن يعيش حياة الترف: أنت لا تعد نفسك الإعداد اللازم لمواجهة تقلبات الزمن. وأقول كما قال إبراهيم بن أدهم: وإذا غلا شيء عليَّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا إن أي شيء إذا غلا سعره، لا يشتريه، ويتركه، فيكون أرخص شيء لأنه لن يدفع فيه مالا ليشتريه. وأما الابتلاء الثالث وهو نقص الأموال فمصدره أن المؤمنين سينشغلون عن حياتهم بأمر الدعوة، وإذا ما شغلوا عن حركة الحياة لمواجهة العدو فسيضطرون إلى التضحية بحركة الحياة التي تنتج المال ولذلك تنقص الأموال، لأن حركتهم في الحياة توجهت إلى مقاومة خصوم الله. وكذلك سيواجهون العدو مقاتلين؛ وقد يستشهد منهم عدد. وأخيراً يواجهون نقص الثمرات، والثمرات هي الغاية من كل عمل. والحق سبحانه وتعالى حين يعدنا هذا الإعداد، فإذا نجحنا فيه تكون لنا البشرى، لأننا صبرنا على كل هذه المنغصات: صبر على الخوف، وصبر على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 الجوع، وصبر على نقص الأموال، وصبر على نقص الأنفس، وصبر على نقص الثمرات. إذن فالمهم أن ينجح المؤمن في كل هذه الابتلاءات؛ حتى يواجه الحياة صلبا؛ ويواجه الحياة قويا. ويعلم أن الحياة معبر، ولا يشغله المعبر عن الغاية؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 والمصيبة هي الأمر الذي ينال الإنسان منه المشقة والألم، وهي مأخوذة من إصابة الهدف. والمؤمن يستقبل المصيبة واثقا أنها على قدر إيلامها يكون الثواب عليها، ولذلك عندما فرح الكفار بما يصيب المسلمين في بعض المعارك، أنزل الله ذلك القول الحق للمؤمنين: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51] أي قولوا أيها المؤمنون لهؤلاء الحمقى من الكافرين: إنه لن يحدث لنا إلا ما كتبه الله. وعندما نتأمل قوله الحق: {مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي أن المسألة ستكون لحسابنا، وسنأخذ عليها حسن الثواب من الله، ولم يقل الحق: كتب الله علينا، لأنها لو كانت كذلك لكان معناها أنها جزاء وعقاب من الله. وأي أمر يصيب الإنسان، إما أن يكون له دخل فيه، وعند ذلك لا يصح أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 يجزع لأنه هو الذي جاء بالأمر المؤلم لنفسه، وإما أن تكون مصيبة لا دخل له بها، وحدثت له من غيره مثلا، وعند ذلك عليه أن يبحث عن سببها: أعدلا أم ظلما؟ إن كانت عدلا فهي قد جبرت الذنب، وإن كانت ظلما فسوف يقتص الله له ممن ظلمه. وعلى هذا فالمؤمن في كلتا الحالتين رابح. إذن فالمؤمن يستقبل كل مصيبة متوقعا أن يأتي له منها خير. وعلى كل مؤمن أن يقيم نفسه تقييما حقيقيا، «هل لي على الله حق؟ أنا مملوك الله وليس لي حق عنده، فما يجريه علي فهو يجريه في ملكه هو» . ومن لا يعجبه ذلك فليتأب على أي مصيبة؛ ويقول لها: «لا تصيبيني» ، ولن تستطيع درء أي مصيبة ومادمنا لا نستطيع أن نمنع وقوع المصائب والأحداث، فلنقبلها كمؤمنين لأن الحق سبحانه وتعالى يريد بنسبتنا إليه أن يعزنا ويكرمنا. إنه يدعونا أن نقول: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . إننا بهذا القول ننسب ملكيتنا إلى الله ونقبل ما حدث لنا. ولابد لنا هنا أن نأتي بمثال ولله المثل الأعلى هل رأيت إنسانا يفسد ملكه؟ أبداً. إن صاحب الملك يعمل كل ما يؤدي إلى الصلاح في ملكه، وإن رأى الناس في ظاهر الأمر أنه فساد، فما بالنا بالله سبحانه وتعالى ونحن ملك له، وهو سبحانه لا يُعرِّض ملكه أبداً للضرر، وإنما يقيمه على الحكمة والصلاح. {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي نحن مملوكون لله، ونحن راجعون إليه، وحتى إن كان في مصائب الدنيا ظلم لنا وقع علينا من إنسان، فسوف نأخذ ثواب ما ظُلمنا فيه عند الرجوع إلى الله، إذن فنحن لله ابتداء بالملكية، ونحن لله نهاية في المرجع؛ هو سبحانه ملك القوسين؛ الابتداء والانتهاء، ولذلك علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند أي مصيبة تصيب الإنسان أن يسترجع؛ أي أن يقول: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . وزادنا أيضا أن نقول: «اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها» إنك إذا ما قلتها عند أي مصيبة تصيبك فلا بد أن تجد فيما يأتي بعدها خيراً منها، وحتى إن نسى الإنسان أن يقول ذلك عند وقوع المصيبة، ثم تذكرها وقالها فله جزاؤها، كأنه قالها ساعة المصيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 وهناك قصة عن أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها؛ حين مات أبو سلمة زوجها وكان ملء السمع والبصر وجزعت عليه أم سلمة، فقيل لها قولي: ما علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قالت: وما علمكم؟ قالوا: «إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها» فقالت ما قيل لها، فإذا بها بعد انقضاء عدتها يذهب إليها النبي خاطبا، فقيل لها: أوجد خير من أبي سلمة أم لم يوجد؟ قالت: ما كنت لأتسامى أي أتوقع مثل هذا الموقف «. فإذن، كل مصيبة يتعرض لها الإنسان يجب أن يقول عندها:» إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها «. وماذا يكون حال الذين يقولون هذا الدعاء؟ . هاهو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 فلننظر إلى غاية الغايات التي يدربنا الله عليها لنحمل الدعوة، ولنحمي منهج الحق، ولنهدم دولة المبطلين، هذه غاية؛ لكنها ليست الغاية النهائية، فالغاية النهائية أننا نفعل ذلك لنأخذ رحمات الله وبركاته في الآخرة. إذن، فالغاية النهائية في كل إيمان وفي كل عمل هي ابتغاء مرضاة الله ورحمته. وكما قال المرحوم الشيخ سيد قطب رحمة الله عليه: إياك أن يشغلك عن صلوات الله وتحياته وبركاته شيء ولو انتصار العقيدة نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 كأن انتصار العقيدة وسيلة لتنال بها الصلوات والرحمة من ربك، فكل شيء ما عدا ذلك وسيلة تسلم إلى غاية، وغاية المؤمن أن يكون من الذين يشملهم قول الله: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون} [البقرة: 157] ونحن نعرف أن الصلاة في اللغة هي الدعاء، للناس صلاة، وللملائكة صلاة، ولله صلاة، فهو القائل: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} [الأحزاب: 43] وكلنا نعيش برحمات الله، حتى الكافر يعيش على الأرض برحمة الله، ويأخذ أسباب حياته برحمة الله، والنعم والخيرات التي يعيش عليها تأتيه بسبب رحمة الله، والمؤمن يأخذ نعم الدنيا برحمة الله ويزيد الله له بالبركة والاطمئنان، والاطمئنان نعمة كبرى، فمن يعش في هذه الحياة وهو مطمئن إلى غاية أفضل من هذه الحياة، فهذا لون عظيم من الاطمئنان. فالصلاة من الله عطاء الرحمة والبركة. والصلاة من الملائكة استغفار. والصلاة من المؤمنين دعاء. والدعاء حين تدعوه لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخير وبالرحمة وبالبركة وهو دعاء لك، لماذا؟ لأن كل منزلة ينالها رسول الله عائدة لأمته وللعالم أجمع. فمن الذي يشفع عند الله في يوم الحشر ليعجل الله بالفصل بين الخلائق؟ . إنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 إذن فكل خير يناله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو خير لأمته، فإذا دعوت له فكأنك تدعو لنفسك إنك عندما تصلي عليه مرة يصلي الله عليك عشراً. أليس في ذلك خير لك؟ {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون} [البقرة: 157] والمهتدون هم الذين التزموا الطريق الموصل للغاية، والغاية هي صلوات من ربهم ورحمة، وأنت الآن متمتع بنعم الله بأسباب الله، وعند الله في الآخرة سوف تتمتع بإذن الله بنعم الله وبلقاء الله. بعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 والصفا والمروة جبلان صغيران، يعرفهما الذين زاروا الأماكن المقدسة، والذين لم يذهبوا؛ أسأل الله أن يروهما عين اليقين، وحين يرونهما يكون هذا علم اليقين. وهذان الجبلان كانت سيدتنا هاجر أم إسماعيل قد ترددت بينهما لتطلب الماء لولدها بعد أن تركهما إبراهيم عليه السلام عند بيت الله الحرام. وبالله عليك، فبماذا تفكر امرأة عندما يتركها زوجها مع رضيعها في مكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 لا طعام فيه ولا ماء؟ هنا قالت هاجر قولتها المشهورة: إلى من تكلنا؟ آلله أمرك بذلك؟ فقال سيدنا إبراهيم: نعم. فقالت: إذن لن يضيعنا، لقد استغنت بالخالق عن المخلوق، ولم تنطق مثل هذا القول إلا بوحي من المسبب، وهذه أول قضية إيمانية مع ملاحظة الأرضية الإيمانية التي وجدت عليها، حينما دعا إبراهيم عليه السلام ربه قائلا: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة} [إبراهيم: 37] وإذا قرأت {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} فاعلم أنه غير ذي ماء، فحيث يوجد الماء؛ يوجد الزرع، فالماء هو الأصل الأصيل في استبقاء الحياة، وعندما يغيب الماء عن أم ووليدها، فماذا يكون حالهما؟ لقد عطش ولدها وأرادت أن تبحث عن نبع ماء أو طير ينزل في مكان لتعلم أن فيه ماء، أو ترى قافلة تسير ومعها ماء؛ لذلك خرجت إلى أعلى مكان وتركت الوادي، وصعدت إلى أعلى جبل الصفا فلم تجد شيئا، فنظرت إلى الجهة الأخرى؛ إلى المروة، وصعدت عليها فلم تجد شيئا. وظلت تتردد بين الصفا والمروة سبعة أشواط. ولنا أن نتصور حالتها، امرأة في مثل سنها، وفي مثل وحدتها، وفي مثل عدم وجود ماء عندها، ولابد أنها عطشت كما عطش وليدها، وعندما بلغ منها الجهد، انتهت محاولاتها، وعادت إلى حيث يوجد الوليد. ولو أن سعيها بين الصفا والمروة أجدى، فرأت ماء لقلنا: إن السعي وحده قد جاء لها بالماء، لكنها هي التي قالت من قبل: «إذن لن يضيعنا» ، وهي بهذا القول قد ارتبطت بالمسبِّب لا بالسبب، فلو أنه أعطاها بالسبب المباشر وهو بحثها عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 الماء لما كان عندها حجة على صدقها في قولها: «إذن لن يضيعنا» . ويريد الحق أن ينتهي سعيها سبع مرات بلا نتيجة، وتعود إلى وليدها؛ فتجد الماء عند قدم الوليد. وهكذا صدقت هاجر في يقينها، عندما وثقت أن الله لن يضيعها، وأراد الله أن يقول لها: نعلم لن أضيعك، وليس بسعيك؛ ولكن بقدم طفلك الرضيع؛ يضرب بها الأرض، فينبع منها الماء. وضرب الوليد للأرض بقدمه سبب غير فاعل في العادة، لكن الله أراده سببا حتى يستبقى السببية ولو لم تؤد إلى الغرض. وحين وجدت هاجر الماء عند قدم رضيعها أيقنت حقا أن الله لم يضيعها. وظل السعي شعيرة من شعائر الحج إلى بيت الله الحرام، استدامة لإيمان المرء بالمسبب وعدم إهماله للسبب، وحتى يقبل الإنسان على كل عمل وهو يؤمن بالمسبب. ولذلك يجب أن نفرق بين التوكل والتواكل. إن التوكل عمل قلب وليس عمل جوارح، والتواكل تعطيل عمل جوارح. ليس في الإسلام تواكل، إنما الجوارح تعمل والقلوب تتوكل. هكذا كان توكل هاجر، لقد عملت وتوكلت على الله؛ فرزقها الله بما تريد بأهون الأسباب، وهي ضربة قدم الوليد للأرض، وبقيت تلك المسألة شعيرة من شعائر الحج وهي سبعة أشواط بين الصفا والمروة. وعندما غفل الناس عن عبادة الله، ودخلت عبادة الأصنام في الجزيرة العربية أوجدوا على جبل الصفا صنما أسموه «إسافا» وعلى المروة صنما أسموه «نائلة» . وكانوا يترددون بين إساف ونائلة، لا بين الصفا والمروة، لقد نقلوا العبادة من خالصية التوحيد إلى شائبية الوثنية. فلما جاء الإسلام أراد الله ألا يوجه المسلمين في صلاتهم إلى البيت المحرم إلا بعد أن يطهر البيت ويجعله خالصا لله، فلما ذهب بعض المؤمنين إلى الكعبة تحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة؛ لأن «إسافا» و «نائلة» فوق الجبلين، فكأنهم أرادوا أن يقطعوا كل صلتهم بعادات الجاهلية، واستكبر إيمانهم أن يترددوا بين «إساف» و «نائلة» ، فأنزل الله قوله الحق: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} ، أي لا تتحرجوا في هذا الأمر لأنكم ستسعون بين الصفا والمروة؛ لا بين إساف ونائلة كما كان يفعل المشركون الوثنيون، إذن فالعمل هنا كان بالنية. لقد كانت نية السعي الأولى عند هاجر هي الإيمان بالله والأخذ بالأسباب، لكن الوثنية قلبت قمة الإيمان إلى حضيض الكفر، وكان لابد أن يستعيد المسلمون نية الإيمان الأولى عند زيارة البيت المحرم بالسعي بين الصفا والمروة، فنحن في الإسلام نرضخ لأمر الآمر، قال لنا: «قبلوا الحجر الأسود» ، وفي الوقت نفسه أمرنا أن نرجم الحجر الذي يرمز إلى إبليس، هكذا تكون العبرة بالنية؛ وليس بشكل العمل، وتكون العبرة في إطاعة أمر الله. وكأن الحق بهذه الآية يقول للمؤمنين: إن المشركين عبدوا «إسافا» و «نائلة» ، لكن أنتم اطرحوا المسألة من بالكم، واذهبوا إلى الصفا والمروة، فالصفا والمروة من شعائر الله، وليستا من شعائر الوثنية، ولكن ضلال المشركين هو الذي خلع عليهما الوثنية في إساف وفي نائلة. لقد أراد الوثنيون بوضع «إساف» على الصفا «ونائلة» على المروة أن يأخذوا صفة التقديس للأوثان، فلولا أن الصفا والمروة من المقدسات سابقا لما وضعوا عليهما أحجارهم ولما جاءوا بأصنامهم ليضعوها على الكعبة، هذا دليل على أن قداسة هذه الأماكن أسبق من أصنامهم، لقد حموا وثنيتهم بوضع «إساف» و «نائلة» على الصفا والمروة. وبعد أن بين الحق للمؤمنين أن الصفا والمروة من شعائر الله، ينبه على أن المكين ساكن المكان لا ينجس المكان، بدليل أن الإيمان عندما كتبت له الغلبة، كسر الأصنام وأزالها من الكعبة وأصبح البيت طاهرا، وعندما كان المؤمنون يتحرجون عن أن يفعلوا فعلا من أفعال الجاهلية طمأنهم الحق سبحانه وتعالى، وقال لهم: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله} . وكلمة «صفا» معناها الحجر الأملس، وأصبح كذلك من كثرة الملامسين له على مر الزمان، وقيل: إن الصفا منسوبة إلى اصطفاء آدم، وقيل: إن المروة منسوبة إلى المرأة التي هي حواء، لكنه كلام يقال لا نتوقف عنده كثيرا، لأنه علم لا ينفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 وجهل لا يضر، فالمهم بالنسبة لنا أنه مكان ترددت بينه هاجر وهي تطلب الماء لابنها، إن الحق جعل السعي بينهما من شعائر الله، والشعائر هي معالم العبادة، وتطلق دائماً على المعالم المكانية، ويقال: هذا مطاف، وهذا مسعى، وهذا مرمى الجمرات، وهذا المشعر الحرام. إن كلمة «المشعر» تعني المكان الذي له عبادة مخصوصة، وبما أن الصفا والمروة مكانان فقد جاء وصفهما بأنهما {مِن شَعَآئِرِ الله} . {فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} كأن الحج والعمرة لهما شيء يجعلهما في مقام الفرضية ولهما شيء آخر يجعلهما في مقام التطوع، فإن أدى المسلم الحج والعمرة مرة يكون قد أدى الفرض، وهذا لا يمنع من أن تكرار الحج والعمرة هو تطوع مقبول بإذن الله، له شكر من الله. وساعة نقول: «لا جناح عليك أن تفعل كذا» فمعنى ذلك أنك إن فعلت فلا إثم عليك، لكن ليس خطأ في أن تفعل، وليس فرضاً في أن تفعل، وهذا ما جعل بعض الناس يقولون: إن السعي بين الصفا والمروة ليس ركنا من أركان الحج، ونقول لهؤلاء: هذه آية جاءت لسبب، وهو أنهم كانوا يتحرجون من الطواف في مكان يطوف فيه المشركون فقال لهم: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} . إن نفي الجناح لا يعني أنك إن لم تفعل يصح، لا، إنه سبحانه يرد على حالة كانوا يتحرجون منها، وقوله تعالى: {يَطَّوَّفَ بِهِمَا} يستدعي منا وقفة، إن الحاج أو المعتمر يسعى بين الصفا والمروة، فلماذا وصف الحق هذا السعي ب {يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . لكي نعرف ذلك لابد أن نوضح معنى «طاف» و «جال» و «دار» . إن «طاف» تعني «دار حول الشيء» ، فما هي الدورة التي بين الصفا والمروة؛ حتى يسميها الحق طوافا؟ . إن الدائر حول الدائرة يبدأ من أي نقطة منها كبداية، لتكون تلك النقطة نهاية، فكل طواف حول دائرة تجد فيه أن كل بداية فيها تعتبر نهاية، وكل نهاية تعتبر بداية، وأي حركة من وإلى شيء واحد يصنع دائرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 وصحيح أن من يسعى بين الصفا والمروة لا يدور، ولكنه سيذهب من الصفا إلى المروة ثم ينقلب عائدا إلى الصفا، ثم منها إلى المروة، وهكذا يصير الأمر طوافا. ومثال آخر من حياتنا اليومية، إن الشرطي الذي يطوف لحراسة الشوارع والمنازل بالليل، قد يلف المدينة كلها، ويمكن أن يلف شارعاً واحداً هو مكان حراسته، هذا الدوران في الشارع من أوله إلى آخره عدة مرات يسمى طوافا بينهما، وهكذا نفهم معنى {يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، أي يمشي بينهما عدة مرات من بداية إلى نهاية. وهكذا نجد أن السعي بين الصفا والمروة هو جزء من شعائر الحج والعمرة. ونجد أن الفرضية في الحج والعمرة أساسية، والتطوع بتكرار الحج والعمرة هو خير. {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} وهذا القول يقتضي أن نفهم أن الشاكر أصابته نعمة من المشكور، فما الذي أصاب الحق هنا من تكرار الحج؟ . إن المؤمن عندما يؤدي ما افترضه الله عليه فهو يؤدي الفرض، لكن عندما يزيد بالتطوع حبا في النسك ذاته فهذه زيادة يشكره الله عليها، إذن فالشكر من الله عَزَّ وَجَلَّ يفيد أن نعمة ستجيء، والحق سبحانه وتعالى حين يفترض على عبدا كذا من الفروض يلتزم العبد بذلك، فإذا زاد العبد من جنس ما افترضه الله عليه، فقد دل ذلك على حبه وعشقه للتكليف من الله، وإذا ما أحب وعشق التكليف من الله بدون أن يطلبه الله منه ويلزمه به بل حببه إليه، فهو يستحق أن يشكره الله عليه، وشكر الله للعبد هو عطاء بلا نهاية. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 والحق سبحانه حين يعرض هذه القضية، يبين لنا موقف الجزاء من الذين يكتمون ما أنزل الله، لقد كتم بعض من أهل الكتاب البينات التي أنزلها الله في الكتاب الذي معهم، بينات تثبت صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نبوته، وهذا الكتمان سيورث شرورا، وكلما نال العالم شر من كتمانهم فسيلعنهم، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله. والحق سبحانه وتعالى ينبه المؤمنين بسيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن هذا الجزاء من الطرد ومن اللعن ليس مقصورا على هؤلاء، وإنما ينسحب ويشمل كل من يكتم ما أنزل الله من البينات، إذن فذلك فيه واقع مما حدث من أهل الكتاب، وفيه أيضا تحذير للذين يؤمنون بالإسلام أن يكتموا بينات الله؛ وإلا صاروا إلى ما صار إليه هؤلاء، وهو اللعن. وكلمة «اللعن» وردت في القرآن إحدى وأربعين مرة، وساعة تأتي للعذاب تكون للطرد والإبعاد بغضب، وهو الخلود في النار، وساعة يكون الطرد إبعاد تأديب، فلا يوجد بغضب؛ لأن المؤدب لا يغضب على من يؤدبه، وإنما يغضب لمن يؤدبه. وعندما يحدث الطرد من بعد غضب، فذلك دليل على أنه ليس من بعد ذلك رجعة، فالإنسان إذا ترك لشيء صامت ليعذب به كالنار، يقول لنفسه: «ربما جاء من يرق لحالي ويعطف علي فيخرجني من النار» ، إنه يقول ذلك لنفسه: لأن الذي يعذب به صامت لا عاطفة له، لكن ما المخرج إذا كانت اللعنة من الله والملائكة والناس؟ كما يقول الحق في آية أخرى: {أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} [آل عمران: 87] ويتضح لنا هنا أن لعنة الله تكون في الدنيا وفي الآخرة، ويلعنهم اللاعنون من الناس، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا فيها نجد أن اللعنة أشمل، لأن « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 اللاعنون» تضم الناس وغير الناس من الكائنات الأخرى، كأن كل من في الوجود يشترك في لعنهم، وعلى سبيل المثال، إذا حبس الله الماء عن قوم لعصيانهم، فالنبات يلعنهم لأنه حُرم من الماء، وتلعنهم الحيوانات لأنها حُرمت من الماء، وتلعنهم الأمكنة لأنهم خالفوا ما عليه الأمكنة من التسبيح لله. أما لعنة الآخرة حيث لا ري لنبات أو حيوان؛ فسيكون اللعن لهم صادرا من الله والملائكة والناس أجمعين. والناس هم بنو آدم إلى أن تقوم الساعة، وهؤلاء منهم كافر ومنهم مؤمن، كيف إذن يوجد اللعن ممن كفر مع أنه هو أيضا ملعون؟ نقول: نحن في الدنيا نجد من يخدع غيره في دين الله، وهناك من ينخدع، فإذا ما انجلت الأمور في الآخرة، وانفضح الخادعون، وأسقط في يد المخدوعين، فهنا يتبرأ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعُوا، يتبرأ الخادع من المخدوع، ويتبرأ المخدوع من الخادع، وكلما دخلت أمة من المخدوعين إلى النار لعنت الأمة التي خدعتها، وكلما دخلت أمة خادعة إلى النار، فإنها تلعن الذين استسلموا للخديعة، ويتبادلون اللعن. يقول الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166] ويقول أيضا: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] إذن فاللعنة موجودة بين الكافرين بعضهم لبعض، كما هي موجودة في الدنيا أيضا، فالذين يكفرون بمنهج الله وينحرفون ويظلمون، هؤلاء يتلقون اللعنة من أهل منهج الله، ويتلقون اللعنة من المظلومين منهم، ثم يأتي لهم موقف آخر، يأتي لهم من يظلمهم، فيلعنونه ويلعنهم، وهكذا يلعنهم الناس أجمعون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 واللعن بطرد وغضب وزجر يختلف عن اللعن التأديبي الذي يأخذ صيغة الإبعاد، كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع المتخلفين في غزوة تبوك، وغزوة تبوك كانوا يسمونها غزوة العسرة، لأنها جاءت في مشقة من كل جهاتها، لبعد المكان بين تبوك والمدينة، ومشقة أخرى من نقص الدواب التي تحمل المقاتلين، فقد كان كل عشرة من المقاتلين يتناوبون على دابة واحدة، ومشقة وعسرة في الزاد، حتى أنهم كانوا يأكلون التمر بدوده، وكانوا يأكلون الشحم والدهن والإهالة الزنخة، وعسرة في الماء حتى أنهم كانوا يذبحون البعير ليشربوا من فرثه وكرشه الماء، وعسرة في الجو القائظ الشديد الحرارة، كانت كل الظروف صعبة وقاسية وتحتم ألا يخرج للغزوة إلا الصادق في يقينه. لقد كانت تلك الغزوة اختبارا وابتلاء للإيمانية في نفوس الناس. ولذلك فإن بعضهم استسلم لحديث النفس في أن يظل بالمدينة، وقال واحد منهم: «أظل ظليل وراحة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في القيظ؟ {والله لا يكون هذا أبدا» ، ثم قام وتبع جيش المؤمنين، وآخر عنده بستان فيه ظلال وثمار؛ فنظر إلى بستانه وقال: «أأنت الذي منعتني أن أكون في ركاب رسول الله؟} والله لا تكون ملكي بعد الآن، وأنت لله في سبيل الله» ، وثالث جلس في بيته وأمامه زوجته الجميلة وحوله أشجار وزروع، فقال: «أأجلس في ظل ورطب وماء وامرأة حسناء ورسول الله في حمارة القيظ، والله لا يكون هذا أبدا» ، وامتطى حصانه إلى الصحراء لينضم لجيش المسلمين. وعندما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منتصرا اعتذر له من لم يشاركوه رحلة النصر بأنهم كانوا لا يملكون وسائل الحرب من دواب ودروع وسيوف ونبال، فقبل رسول الله علانيتهم وترك سرائرهم لله، إلا ثلاثة صدقوا وقالوا: «يا رسول الله ما كنا أغنى منا ساعة امتنعنا عن الذهاب معك فعندنا عدة الحرب والدواب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 لقد أمر رسول الله الناس ألا يكلموهم ولا يتعاملوا معهم، واستكان اثنان منهم وظلا في بيتهما، وهما هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، أما كعب بن مالك فكان يخرج ويلقى الناس فلا يكلمه أحد، ويذهب للصلاة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويسارق النظر إلى النبي ويسلم عليه، لكن رسول الله لا يرد، ويغض طرفه ويعرض عنه، حتى أن كعباً يقول: «فانظر هل حرك رسول الله شفتيه برد السلام أم لا؟» . لماذا كل ذلك؟ . لقد أرادها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسيلة إيضاح لكيفية إبعاد التأديب. وضاقت الدنيا على الثلاثة، وذهب كعب إلى ابن عمه أبي قتادة وتسلق عليه الحائط، لأنه يعلم أنه لو طرق الباب فلن يفتح له. ورغم تسلق الحائط إلا أن ابن العم أعرض عنه، فقال راجيا: «أنشدك الله، أنشدك الله، أنشدك الله» كل ذلك وابن عمه لا يرد عليه، ثم قال له: «تعلم أني أحب رسول الله» . فلم يرد عليه ابن العم وظل يتوسل سائلا عن موعد العفو، فقال أبو قتادة: «الله ورسوله أعلم» . فلما مضت أربعون ليلة على هذا الإبعاد، فإذا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصعد التأديب فيطلب من الرجال الثلاثة من خلال رسول أرسله إليهم ألا يقربوا نساءهم. لقد دخل العزل إلى دائرة جديدة وهي دائرة المجتمع الخاص حيث الرجل وامرأته، فقال كعب لرسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أطلق زوجتي» ؟ . قال الرسول: «بل لا تقربها» . وقال قوم لكعب: اذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو فلتذهب امرأتك لتستأذنه في أن تظل معك لتخدمك؛ فقد استأذنت امرأة هلال بن أمية رسول الله؛ فأذن لها أن تخدم زوجها. فقال كعب: والله لا أفعل، لأن امرأة هلال حينما ذهبت إلى رسول الله قال لها: «لا يقربنك» فقالت: «يا رسول الله والله إن هلالا ما به حركة لشيء» فأذن لها أن تظل لتخدمه. لكني رجل شاب وأخاف أن أستأذن رسول الله فلا يعطيني هذا الحق. هكذا كان إبعاد التأديب، وليس بالطرد الكامل من حظيرة الإيمان، بدليل أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جعل من يتلقون التأديب أهلا لأوامر يلقيها عليهم، ثم جاءت البشرى بالإفراج بعد عشرة أيام عندما أنزل الحق قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118] وهكذا لم يقفل الحق الباب بل جعله مفتوحا أمام الإنسان، حتى لمن كفر، وحتى لمن كتم، فلا يظن أن سابق كفره أو تراخيه عن نصرة الحق سيغلق أمامه الباب، أو يحول بينه وبين ربه، لذلك يقول الحق: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فأولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 أي أعلنوا التوبة وهي أمر ذاتي، وأصلحوا بمقدار ما أفسدوا، وبينوا للناس بمقدار ما كتموا، إذن شرط التوبة أن يعود كل حق لصاحبه، فالذي كتم شيئا عليه أن يبينه، فالكتمان لا يؤثر فقط في العلاقة بين العبد والرب، ولكنه يضر العباد، والحق سبحانه حين يفتح باب التوبة للعبد يقول: {تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 ومادة «تاب» تعني الرجوع إلى الله، فعندما يتوب العبد فهو يعود إلى ربه طالبا المغفرة عن العصيان والذنب، وعندما يتوب الله على عبد، فذلك يعني أن الله قبل توبته، فبعد أن كان مقدرا له أن يعذب فإن الله يعفو عنه فلا يعذبه، إذن فالتوبة كلها رجوع إلى الله، وحين تقدم التوبة من الله على التوبة من العباد في قوله: {تاب عليهم ليتوبوا} ، فمعنى ذلك أن الحق شرع التوبة وقننها ليفتح باب الرجوع إليه، فهناك ثلاث مراحل للتوبة: المرحلة الأولى: هي أن الله شرع التوبة. المرحلة الثانية: هي أن يتوب العبد. المرحلة الثالثة: أن يقبل الله التوبة. وكلها تعني الرجوع عن المعصية والذنب. إذن فأي إنسان يذنب ذنبا لابد أن يصلح هذا الذنب من جنس ما فعل، فإن فعل ذنبا سرا فيكفيه أن يتوب سرا، أما إن كسر حدود الله علنا، فنقول له: لا يستقيم أبدا أن تعصي الله علنا أمام الناس وتكون أسوة سيئة لأناس تجعلهم يتجرأون ولذلك فالمثل العامي يقول: «تضربني في شارع وتصالحني في حارة» . إن الذي يكسر حداً من حدود الله أمام الناس نقول له: لابد أن تعلن توبتك أمام الناس جميعاً، ولذلك نحن ندرأ الحدود بالشبهات، لكن الذي يتباهى بأنه ارتكب الذنب لا نتركه، مثلا الذي شهد عليه أربعة بأنه ارتكب ذنبا من الكبائر كالزنى، لقد ظل يفعل الذنب باستهتار إلى أن شهد عليه أربعة، هل يعقل أن نقول له: ندرأها بالشبهات؟ . لا. هو كسر الحد علنا فوجبت معاقبته بإقامة الحد. وأما الذين تابوا وأصلحوا ما أفسدوه وبيَّنوا للناس ما كتموه فجزاؤهم توبة من الله. ومن لطف الله بالإنسان أن شرع التوبة حتى يشعر الناس بالذنب، وجعلها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 فعل التائب؛ ومن فعل قابل التوبة، وهو الله سبحانه فقال: {تابوا} و {أتوب} ، كل ذلك حتى لا يستشعر الإنسان عندما يرتكب ذنبا ويتوب أنها مسألة مستعصية، إن الحق يقول: {فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} إنه سبحانه يتوب على من تاب عن الذنب ويتوب عن المذنبين جميعا، فهو تعالى «تواب» وهي كلمة تعني المبالغة في الصفة. ويقول الحق بعد ذلك: {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 إنهم الذين أصروا على عدم التوبة فكان جزاؤهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ويضيف سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 وساعة يأتي الحق في عذاب الكافرين ويتكلم عن النار عذابا وعن الزمان خلودا ثم يُصَعِّد الخلود بالأبدية، فنحن نعرف بذلك أن هناك عذاباً في النار، وخلوداً فيها، وأبدية. ولأن رحمة الله سبقت غضبه في التقنين العذابي، لم يذكر الخلود في النار أبداً إلا في سورة الجن، قال: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [الجن: 23] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 ومادام فيه مقيد، فإن كل مطلق من التأبيد يُحمل عليه، وكون الحق لم يأت بكلمة «أبداً» عند ذكر العذاب، فهذا دليل على أن رحمته سبقت غضبه حتى في تقنين العذاب، وهناك إشكال يَرِدُ في سطحية الفهم فحين يقول الحق: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 105 - 108] فإنّ الحق يتحدث عن يوم الحشر، وعن البشر شقيهم وسعيدهم، فالذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، ولنا أن نتخيل صورة التنفس داخل النار وسط جوها المكفهر باللهب. إن الإنسان يتنفس ليستروح بالهواء؛ فكيف يأخذه من النار؟ . إن في ذلك عذاباً عظيماً. وأهل النار خالدون فيها مادامت السماوات والأرض. ويتساءل السطحيون «إن الله يضع الذين شقوا في النار مادامت السماوات والأرض، ويقول القول نفسه عن الذين سعدوا بالجنة» ونقول لهم: السماوات والأرض الآن؛ تختلف عن السماوات والأرض في الآخرة، إن السماوات والأرض في الدنيا هي أسباب ومعاش، أما في الآخرة فنحن لا نأكل بالأسباب، إنما بالمسبب، نحن نحيا في الآخرة بكلمة «كن» ، ولا نعيش بأسباب الحرث والزرع والمطر. إن الحق يبدل السماوات والأرض في اليوم الآخر، واقرأ إن شئت قول الحق: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 ومن هذا القول نفهم أن المقصود هو السماوات والأرض المبدلة. ونلحظ أن الحق جاء في أمر خلود الأشقياء بالمشيئة فقال: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} ، فكأن خلود الأشقياء في النار تنقضه وتضع نهاية له مشيئة الله؛ لأن الأشقياء ليسوا هم الكفار فحسب، بل منهم بعض المؤمنين العصاة الأشقياء، وهؤلاء المؤمنون العصاة سيدخلون النار على قدر حظهم من المعاصي، وساعة تقوم الساعة ويأتي الجزاء يدخلون النار ويأخذون جزاءهم، لكن بعد أخذ الجزاء يخرجون، إذن، فسينتهي الخلود من آخر الزمن، فيكون المعنى: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} أن يستمروا في النار إلى وقت محدد. أما بالنسبة للجنة. فالاستثناء يكون من البدء، لماذا؟ لأن المؤمن الذي عصى الله لن يدخل الجنة من البداية، وإنما سيقضي فترة في النار ثم يدخل الجنة، إذن فالخلود في الجنة بالنسبة له قد نقص من أوليته. أما الشقي فالخلود في النار نقص من آخريته، إذن {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} ؛ تعني أن المؤمن العاصي لن يدخل الجنة من بدء الآخرة. إذن: «إلا» هنا جاء لاستثناء الزمن أوله بالنسبة للسعداء، أو استثناء الزمن من آخره بالنسبة للعصاة الأشقياء، ولذلك لا تجد تناقضا، ذلك التناقض الذي تصنعه سطحية الفهم. أما قوله الحق: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} فهو أن الإنسان عندما يعذب بشيء فإن تكرار العذاب عليه ربما يجعله يألف العذاب، لكن الواقع يقول: إن العذاب يشتد عليه، فالتخفيف لا علاقة له بالزمن، وقوله الحق: {وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} نعرف منه أن الإنظار هو الإمهال، والمعنى أنهم لا يؤخرون عن عذابهم؛ أو لا ينظرون بمعنى لا ينظر إليهم. وهناك آية تفيد هذا المعنى في قوله تعالى: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} {آل عمران: 77] لأن النظر يعطي شيئا من الحنان، ولماذا قال: لا ينظرون؟ . لأنك قد تتجه ناحيته فتنظره دون قصد، بتلقائية. ولكن النظرة لا تتجه عطفا عليه، وهو سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 لا ينظر إليهم أساسا، لأن النظرة قد توحي بلون من الشفقة، بذلك تكون لا يُنظرون؛ أي لا ينظر إليهم أبداً، فكأنهم أهملوا إهمالا تاماً. ويقول الحق من بعد ذلك: {وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 وتلك هي قضية الحق الأساسية، و {وإلهكم} يعني أن المعبود إله واحد، فالواقع أن الإله الحق موجود قبل أن يوجد الكفر. و {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} هذه قضية ثانية، لأن غفلة الناس هي التي جعلت بعضا من نفوس الناس تلتفت إلى آلهة أخرى. وقوله الحق أنه سبحانه: {إله وَاحِدٌ} أي ليس له ثان، والفارق بين {واحد} و {أحد} هو أن {واحد} تعني ليس ثان، و {أحد} يعني ليس مركباً ولا مكوناً من أجزاء، ولذلك فالله لا يمكن أن نصفه بأنه «كل» أو «كلي» لأن «كل» يقابلها «جزء» و «كلي» يقابلها «جزئي» ، و «كل» هو أن يجتمع من أجزاء. والله متفرد بالوحدانية، وسبحانه المنزه عن كل شيء وله المثل الأعلى، وأضرب هذا المثل للتقريب لا للتشبيه، إن الكرسي «كل» مكون من خشب ومسامير وغراء وطلاء، فهل يمكن أن نطلق على الخشب أنه «كرسي» أو على المسامير أو على الغراء أو على الطلاء؟ . لا. إذن كل جزء لا يطلق على «الكل» ، بل الكل ينشأ من اجتماع الأجزاء. و «الكلي» يطلق على أشياء كثيرة؛ لكن كل شيء منها يحقق الكلي، فكلمة «إنسان» نقول عنها «كلي» ؛ جزئياتها محمد وزيد وبكر وعمر وخالد، فنقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 زيد إنسان، وهو قول صحيح، ونقول عمر إنسان وذلك قول صحيح. والله سبحانه وتعالى لا هو «كلي» لأنه واحد، ولا هو «كل» لأنه أحد. إن القضية الأساسية في الدين هي {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو} والقرآن لا ينفي ويقول: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} إلا حين توجد غفلة تعطي الألوهية لغير الله، أو تعطي الألوهية لله ولشركاء معه، إن القرآن ينفي ذلك ويقول: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} وليس هناك شيء غير الله إلا نعمة منه سبحانه أو مُنَعم عليه. إن ما دون الله إما نعمة وإما منعم عليه بالنعمة، وهذه كلها نفح الرحمن، ونفح الرحيم. ومادام كل شيء ما عدا الله إما نعمة وإما منعم عليه فلا توصف النعمة بأنها إله، ولا يقال في المنعم عليه: إنه إله، لأن المُنعم عليه معناه أن غيره أفاض عليه نعمه، لأن النعمة موهوبة، والمُنَعم عليه موهوب إليه، فإذا كانت هبة أو موهوبة إليه فلا يصح أن تكون إلها، لكن الذين يُفتنون إنما يفتنون في الأسباب، والحق سبحانه وتعالى هو المسبب لكل الأسباب. وبعد ذلك يلفتنا الحق سبحانه إلى خدمة هذه القضية فيدعونا أن ننظر في الكون ونتأمل في النعمة الموجودة لنا، وبعد ذلك فأنت يا من أنعم الله عليه بهذه النعمة إن وجدت أحدا يدعيها لنفسه فأعطها واتركها له وانسب النعم إلى موجدها وهو الله وإياك أن تشرك في نعمة الله أحداً غيره، لأن الله يقول: في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه» . ويلفتنا الحق إلى الكون فيقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 إن الله سبحانه برحمته خلق الإنسان منعماً عليه، وخلق كل ما في الكون نعمة له، ويلفتنا إلى الدليل على هذه القضية بالكون نفسه. ويحدد مظاهر في الكون لم يدع أحد أنه خلقها وأوجدها، فإذا ما جاء الناس الذين لا يؤمنون بالإله الواحد يزحزحون الألوهية إلى سواه نقول لهم: هذا الكون العجيب الذي يتمثل في الأرض ويتمثل في السماء، ويتمثل في اختلاف الليل والنهار، ويتمثل في الفلك التي تجري في البحر، ويتمثل في ما أنزل الله من السماء من ماء، ويتمثل في السحاب المسخر بين السماء والأرض؛ كل هذه الآيات أي الأمور العجيبة. . تلفت إلى أن موجدها أعظم منها. إنه سبحانه يريد أن ينبه العقل إلى أن يستقبل نعمة الوجود في ذاته وفي الكون المسخر له ليستنبط من هذه الآيات العجيبة صدق الله في قوله: {. . وإلهكم إله وَاحِدٌ} ، لأنه ليس من المعقول أن يخلق غير الله كل ذلك الخلق ثم يسكت عنه! ، فضلا عن أن أحداً لم يدع أنه خلقها، وما دام لم يدع أحدٌ ذلك، وأنت أيها الإنسان لم تخلقها، ورغم الكفر والعناد لم يدع أحد هذه القضية قط، إذن سيظل الملك لله وحده إلى أن يقول أحدٌ: أنا لي الملك، ولم يوجد إلى الآن من يجرؤ على هذه الكلمة، وهذا دليل على أن الله واحد أحد. إن الحق سبحانه يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] لماذا؟ . لأن الناس من الأرض قد خُلقوا، وبما في الأرض عاشوا، فالأصل هو أن خلق السماوات والأرض أَكبر من خلق الناس؛ فالناس أبناء الأرض، واقتياتهم منها وبقاء حياتهم عليها. ومن المعقول أن الحق سبحانه قد خلق ما يخلق منه الإنسان قبل أن يخلق الإنسان، وحتى يعيش ذلك الإنسان أمده الله بجنس ما خُلِق منه. واذكروا جيدا أننا قلنا إن الله حين يعرض قضية الخلق للإنسان؛ فهو سبحانه يعرضها عرضا فيه مناعة ضد أي قضية أخرى تناقضها. ولذلك يقول لنا: إن خلق السماوات والأرض وخلقكم هو أمر غيبي، وما دام أمراً غيبياً فلا رائي له ولا مشاهد له إلا الذي خلقه، فخذوا علم الخلق منه، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] فيجب أن نحذر هؤلاء المضللين الذين يحاولون إضلالنا بقضايا ليست حقيقية، فالحق قد علم أزلا بأنه سيوجد قوم يقولون: إن السماء والأرض خلقتا بطريقة كذا، والإنسان خلق بأسلوب كذا، وعندما نسمع هؤلاء نقول: هؤلاء هم المضللون، وقد نبهنا الله أزلا إليهم. إذن، فوجود المضللين هو عين الدليل على صدق الله، هؤلاء الذين قالوا: الأرض كانت جزءا من الشمس وانفصلت عنها، والإنسان أصله قرد، لأنه لو لم يوجد مضللون لقلنا: «أين يا رب ما قلت عنهم إنهم مضللون؟» . وحينما يعرض الله سبحانه وتعالى أنه خلقنا من الأرض؛ وجعل اقتياتنا منها، فإن العلم يأتي حتى من الكافرين بالله ليؤيد هذه القضية. فحينما حللوا الإنسان؛ وجدوه مكونا من ستة عشر عنصرا، وحللوا الطين الذي يأتي منه الزرع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 والخصوبة فوجدوه ستة عشر عنصرا أيضا تتطابق مع عناصر الإنسان، أولها الأكسجين وآخرها المنجنيز. وعلى ذلك فالحق عندما يقول: أنا خلقت الإنسان من طين. نقول له: صدقت يا رب فقد جعلت اقتياتنا مما يخرج من الطين. إذن فمسألة خلق السماوات والأرض يجب أن يبدأ منها التعجب، وأنت أيها الإنسان يجب أن تفطن إلى ما خُلق لك لتستدل على خالقك، ولتؤمن ولتشهد أنه إله واحد، وإن حاول أحد إضلالك وقال لك: هناك إله آخر، فقل: لا إله إلا هو سبحانه. وحين يتكلم الحق عن الإنسان فهو سبحانه يتكلم عن مكين في الكون، وهذا المكين في الكون يحتاج إلى شيئين: إلى زمان، وإلى مكان. والمكان للإنسان هو الأرض التي يسير عليها والسماء التي تظلله، والزمان هو ما ينشأ من الليل وما ينشأ من النهار، ولذلك يريد الحق سبحانه أن يعطينا العبرة في اختلاف الليل والنهار. ومعنى اختلاف الليل والنهار أن كلا منهما يأتي خلف الآخر، والنهار يأتي خلف الليل، والليل يأتي خلف النهار. {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] فاختلاف الليل والنهار يعني ألا يكون النهار سرمداً أي دائما لا ينقطع، ولا يكون الليل كذلك سرمداً، ولذلك فإن هناك آيات أخرى يمتن فيها الحق علينا بهذه النعمة فيقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 71 - 72] إذن فأنت أيها المتحرك في الكون ينطبق عليك ما ينطبق على كل متحرك، لابد لك من سكون بقدر حركتك، ولذلك انقسم الزمان إلى ليل تسكن فيه، وإلى نهار تتحرك فيه، ولذلك يقول الحق: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} [الفرقان: 47] ويعلم سبحانه أزلا أنه لا يمكن أن يكون الليل أي وقت الراحة سباتا لكل الناس، بل لابد من أناس يقومون بأمور تقتضي اليقظة بالليل، ولهؤلاء يقول سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار} [الروم: 23] إنه يعطي فرصة لهؤلاء الذين تظل عيونهم ساهرة طوال الليل ليستريحوا بالنهار إذن فمن عظمة الحق أنه جعل الزمان خلفة، فلو كان الليل سرمدا والنهار سرمدا لفسدت الحياة، ولذلك نجد أن الحق أقسم بقوله: {والضحى واليل إِذَا سجى} [الضحى: 1 - 2] فالضحى محل الحركة والكدح، والليل محل السكون، ولابد أن يوجد الاثنان معا. والحق سبحانه يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار والفلك التي تَجْرِي فِي البحر} وكلمة «فلك» يستوي فيها المفرد والجمع، كقوله عن سفينة نوح: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} . يعني يصنع سفينة واحدة أما الفلك التي تجري فهي كل الفلك. وكيف يكون جريان الفلك في الماء آية؟ . إن الإنسان يدرك أن الماء لو لم يكن على هذه السيولة، لما استطاعت المراكب أو الفلك الإبحار فوقه، بل لابد أن يكون الماء سائلا حتى تستطيع أن تجري فوقها الفلك، وقبل اختراع آلات البخار كانت هذه الفلك تجري في البحر بقوة الرياح، لماذا؟ . لأن المائية تنقسم قسمين: مائية أنهار. ومائية بحار. ومياه الأنهار تجري دائما من أعلى إلى أسفل ناحية المصب، ولذلك فمن المعقول أن نسلم جريان السفينة فيها إلى مجرى الماء، ولكن إذا كنا نريد أن نسيرها عكس جريان الماء؛ فلا بد من الريح ليساعدنا على ذلك، ونحن نأخذ كلمة الريح على أنها الهواء. ولكن الريح هي القوة؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] يعني قوتكم، أي أن النزاع إنما ينتج عنه تبديد القوة، وكانت الريح قوة ظاهرة، وعندما توصل الإنسان إلى اختراع آلة البخار وتم تشغيل السفن به، استغنى الإنسان عن تشغيل السفن بالريح. وهكذا نعرف أن كلمة «الريح» تؤخذ على أنها الرياح، وتؤخذ أيضا على أنها مطلق القوة، وتؤخذ ثالثا على معنى الرائحة. والقرآن يوضح لنا ذلك، فعند استخدام معنى الريح كمطلق القوة نجد القرآن يقول: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ} [الشورى: 33] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 أي أن الله حين يشاء يعطل القوة المحركة لأي شيء فهو سبحانه يفعل. أما عن معنى الريح كرائحة فنحن نجده في قوله الحق: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُف} [يوسف: 94] إن يعقوب والد يوسف عليهما السلام كان يملك حاسة شم قوية، فعندما خرجت القافلة من مصر، قال والده: إني أشم رائحة يوسف. وفي الريف نحن نسمع من يقول: «سأنتقم من فلان ولا اجعل له ريحة في الأرض» ، ويقصد أنه لن يجعل له أثراً في الأرض، ولماذا استخدم هنا كلمة الرائحة؟ . لقد ثبت حديثا فقط أن الرائحة هي أبقى الآثار بالنسبة إلى الكائن الحي، بدليل أن الذين عندهم حاسة الشم قوية من الكائنات كالكلاب البوليسية يستدلون برائحة الجاني على مكان وجوده، كأن الجاني يترك أثرا لرائحته في مكان الجريمة، وكل ما هو مطلوب أن يوجد من له حاسة شم قوية ليستدل عليه. والحق سبحانه وتعالى أعطانا العقل، ولكنه أبقى لبعض منا ولغير العاقل ما لا تستطيع أغلبيتنا أن تصل إليه، وأصبح الكلب الذي هو حيوان بهيم أعجم يستدل على أشياء لا نستطيع نحن أن نستدل عليها، لأنه لا يزال في عالم الحس فقط، بينما الإنسان أخذ جانباً من عالم الحس. وجانبا من العقل. وقوله الحق: {وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} فهل يعني هذا القول أن الماء في السماء؟ . لا. إن الماء أصله في الأرض، لكن ماء الأرض الثابت لا ينفع لرينا ولا لري زرعنا إنه ملح أجاج مُرٌّ، والذي يوجد على الأرض منه هو مخزون فقط، ولذلك وضع الله له المواد الكيماوية التي تجعله لا يفسد ولا تتغير صفاته وطبيعته، ثم تتسع رقعة الماء على قدر اليابس ثلاث مرات، لماذا؟ . لأن الله يريد أن تتسع صفحة الماء اتساعا يجعل للبخر مصادر كبيرة واسعة هذا البخر هو عملية التقطير الإلهي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 إن إنزال الماء من السماء هو الذي نراه على هيئة المطر، لكن تسبق نزوله مراحل متعددة هي بخر وتكثيف وتلقيح الرياح للسحاب وغيرها. وتلك المراحل المتعددة اهتدينا إليها مؤخرا، بدليل أننا حاولنا تقليد هذه الدورة، بأن نبخر الماء المالح ونكثفه لنستخرج ماء مقطرا، لكن ذلك له تكاليفه المالية العالية، فكوب واحد من الماء المقطر يستغرق وقتا ويستلزم جهدا وتكاليف بينما المعمل الإلهي يدر لنا ماءً غدقاً لا حصر لكمياته، إن هذا المعمل يعمل ونحن لا ندري. إن الدورة المائية تبدأ بصعود البخار من الماء، وبعد ذلك يصادف منطقة باردة فينزل ماء عذبا. ومن دقة الخالق الحكيم سبحانه أن جعل منسوب الماء العذب دائما أعلى من منسوب الماء الصالح، فلو كان منسوب المالح أعلى من العذب فسيطغى عليه ويفسده، ولا نجد ماء نشربه، لكن الخالق الحكيم جعل منسوب المياه العذبة في الأنهار أعلى من ماء البحار والمحيطات حتى ينساب الماء من النهر إلى البحر؛ وذلك لا يسبب ضررا. فالحق سبحانه وتعالى يعلمنا أنه أنزل من السماء ماء، كيف ينزل هذا الماء؟ . هذا ما عرفناه مؤخرا، وبالماء العذب يُحيي الله الأرض بعد موتها، وما هو الموت؟ إن الموت هو ذهاب الحركة، كذلك الأرض عندما تجف فلا تبقى لها حركة، ونحن لا نستطيع بحواسنا أن ندرك حركة الأرض أثناء نمو النبات، لكن الله عَزَّ وَجَلَّ يؤكد ذلك في قوله {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ} [الحج: 5] فالأرض عندما ينزل عليها المطر تنتفخ قشرتها، وتطفو تلك القشرة على سطح الأرض، ثم ماذا يحدث؟ . {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 وهذا هو معنى قوله تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} . ثم تمضي الآية {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} أي نشر فيها كل ما يدب على الأرض، و {وَتَصْرِيفِ الرياح} ومعنى التصريف هو التحويل والتغيير، أي توجيه الرياح إلى نواح مختلفة سواء إلى الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب، وهذا الاختلاف لم يجعل للهواء مساراً رتيباً، وعندما نتأمل عملية الاستطراق في الهواء نجد أنها تعطي اعتدالا مزاجيا للهواء، فمرة يأتي من ناحية حارة؛ ليهب على المناطق الباردة، ومرة يأتي من المناطق الباردة؛ فيهب على المناطق الحارة، وهذا التصريف نعمة من نعم الله، فلو كانت الرياح ثابتة لصارت مرهقة للبشر. ونحن نسمع عن أسماء الرياح مثل الصبا والدابور، وريح الشمال، وريح الجنوب، والنكباء، والزعزع، والصرصر، وساعة تسمع كلمة {الرياح} بصيغة الجمع، فلنعم أنها للخير، وإن جاءت «ريح» بصيغة المفرد فلنعلم أنها عقيم ضارة. مثل قوله الحق: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} ، لكن هذه القاعدة كسرتها آية واحدة في قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] لماذا؟ . لأن الريح لو اختلفت على السفينة لكانت كارثة؛ فكان لابد أن تأتي الرياح إلى السفينة من اتجاه واحد، ولذلك لم يترك الله كلمة «ريح» مطلقة، وإنما وصفها بأنها ريح طيبة. وفي قول آخر يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] إنه سبحانه يلفتنا إلى قدرته، حتى لا يعتقد أحد أن الله خلق الخلق وخلق لهم قانونا ثم تخلى عن حكمهم، لا، إنه سبحانه هو ما يزال قيوم السماوات والأرض وله مطلق القدرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 {والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض} . والتسخير معناه حمل الشيء على حركة مطلوبة منه لا اختيار له فيها، والله يسخر السحاب لأنه يريده أن يمطر هنا، فيأتي مسخر الرياح فيسوقه إلى حيث يريد الله، وأنت قد تنتفع بمطر ينزل من سحابة في غير مكانك، ونحن ننتفع في مصر بماء النيل برغم أن المطر ينزل في جنوب السودان، وفي هضاب الحبشة، ولو اقتصرنا على الماء الذي ينزل من سماء مصر لكنا قد هلكنا عطشا، وهذا يؤكد معنى قوله تعالى: {إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء} [الأعراف: 57] إن السحاب يسير مسخراً إلى غاية مطلوبة منه ولا إرادة له فيها. ويختم الحق الآية بقوله: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي أنها عجائب لقوم يعقلون. وحين يقول الحق: {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فكأنه ينبه المَلَكَة المفكرة العاقلة في الإنسان. وحين يخاطبك مخاطب؛ وينبه فيك الملكة العاقلة؛ فأعلم أن ما يخبر به ينتهي عقلك إليه بمجرد أن تفكر، وإلاّ لو لم يكن الأمر كذلك؛ ما كانت هناك ضرورة أن يذكر لك كلمة العقل. والقرآن الكريم دائما يقول: «يتفكرون» ، و «يعقلون» و «يتدبرون» و «يتذكرون» وكل ذلك معناه أنهم لو فكروا، ولو عقلوا، ولو تدبروا، ولو تذكروا؛ لانتهوا إلى الحقيقة التي يريدها الله. والحق سبحانه وتعالى ينبه المسلم دائما لأن يستقبل الأمور بعقله وبفكره وبتدبره وبتذكره، لأنه سبحانه يعلم أن الإنسان إذا فكر أو عقل أو تذكر أو تدبر فسوف ينتهي إلى ذات القضية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 الند هو الشبيه والنظير، والكافر هو من يجعل لله شبيهاً ونظيراً، والمشركون لا يخلون الله عن الألوهية، إنما يشركون معه غيره أنداداً، وهم يحبون هؤلاء الأنداد كحبهم لله، أو يُحبونهم كحُبكم أنتم لله، فكما يُحب المؤمن ربه، يحب الكافر إلهه الذي اتخذه معبوداً. {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} لماذا؟ . لأن هذا هو الحب الذي لا يختلف عليه أحد، ولكن حب هؤلاء المشركين للآلهة المتعددة المزيفة يختلف؛ فعندما يمس المشرك الضر يضرع إلى الله وليس إلى الآلهة المزيفة، مصداقا لقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} [يونس: 12] إن المشرك يكتشف بفطرته كذبه على نفسه في مسألة اتخاذه أندادا لله، ولذلك إذا عزت عليه الأسباب، ووقع في مأزق فهو لا يخدع نفسه ويقول: يا صنم أنجدني: وإنما يقول: «يا رب أنقذني» . أما المؤمن فهو لا يغير حُبه لله أبداً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 المؤمن يحب ربه في السراء والضراء، وعلى ذلك يكون الذين آمنوا أشد حباً لله، لأنهم لا ينسونه، لا في الرخاء ولا في الشدة لكن الكافرين لا يعرفون الله الحق إلا في الشدائد، فإذا مرت المسألة فإنهم يسلكون كما يصف القرآن سلوك كل كافر منهم: {مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12] {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} [الزمر: 8] إنهم ينسون الله، ويعودون إلى تقديس الأنداد المزيفة، وهم بذلك يظلمون أنفسهم. {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب} ، ويفاجأ هؤلاء المشركون بأمر عجيب لم يكن في حسبانهم، هم آمنوا بأنداد ويأتون يوم القيامة ليروا تلك الأنداد وهي وقود للنار تعذبهم، ولو لم تأت معهم حجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها لقالوا: «إن الحجارة ستجدنا من هذا العذاب» . وها هو ذا الحق سبحانه يبين لهم: أن الحجارة ليست معكم في العذاب فقط، بل هي وقود النار التي تعذبون بها، ومصداقا لقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] وكذلك قوله الحق عن النار: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 {وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] وبذلك ينقطع عن الكافرين المشركين كل أمل في أن تنقذهم آلهتهم المزيفة. {إِذْ يَرَوْنَ العذاب} أي يرون العذاب حق اليقين، وقد سبق أن أُخبروا به، لكنهم لم يؤمنوا باليوم الآخر؛ لكن لو صدقوا بيوم القيامة وآمنوا لكفاهم أن يروا العذاب عين اليقين، ويختم الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب} أي أنهم ساعة يرون العذاب حق اليقين سيدركون عندها أن القوة لله وأنه شديد العقاب. ثم يبين الحق سبحانه وتعالى ماذا سيكون حالهم عندما يرون العذاب، فيقول: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 إن كل من زين الكفر والعصيان لغيره سيتبرأ من كل من زَيَّنَ لهم معصية الله والشرك به، حتى الشيطان؛ العُمدة في إغوائهم سيتبرأ منهم، وسيقول ساعتها: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 فلن يستطيع الشيطان أن ينقذ أحدا من المشركين، ولن يصرخ فيأتي له المشركون لإنقاذه، وإن صرخ المشركون؛ فلن يأتي لهم الشيطان لينقذهم، وسيتبرأ كل منهم من الآخر، وسيتبرأ الكافرون من كل من زين لهم الشرك بالله، أو سيقول الكافرون لمن زينوا لهم الشرك بالله: «نحن أبرياء منكم ولا علاقة لنا بكم» . وجاءت الآية بالذين اتبعوا أولا لأنهم المفتون فيهم، ثم جاءت بالذين اتبعوا من بعد ذلك، إنهم يرون العذاب وتتقطع بهم الأسباب، وأصبحت كل نفس بما كسبت رهينة، والشيطان نفسه يعترف بأنه لم يكن صاحب سلطان إلا بأن داهم، فمن استجاب له، جيء به إلى هذا المصير، والسلطان إما أن يكون سلطان حجة، وإما سلطان قهر، ولم يكن للشيطان سلطان قهر على الكافرين، ولم يكن له إلا عمل واحد بلا سلطان، وهو أن دعاهم إلى الشرك بالله؛ فاستجابوا له. فماذا يحدث عندما تتقطع بهم الأسباب؟ إن الحق سبحانه يقول: {وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 إن تبرؤ الذين اتَّبَعُوا من الذين اتُّبِعُوا لن ينفعهم، وتمنيهم أن تكون لهم كرة أي عودة ليتبرأوا منهم لن يجدي، ويريهم الله أعمالهم التي سبقت حسرات عليهم. ولا تكون الحسرة إلا إذا أصيب الإنسان بمصيبة لا منأى من النجاة منها، {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} أي لن ينفعهم ندمهم على ما سبق من أعمالهم السيئة، ولن يجدي هذا الندم في إخراجهم من النار. ويقول الحق من بعد ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 إن من رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ على عباده أنه لم يقصر الخطاب على الذين آمنوا؛ وإنما وسع الدائرة لتشمل المؤمنين وغيرهم؛ فقال: {ياأيها الناس} فكأنه خلق ما في الأرض جميعا للناس جميعا، وهذا ما قلنا عنه: إنه عطاء الربوبية لكل البشر، من آمن منهم ومن لم يؤمن، فهو سبحانه خلق كل الخلق، مؤمنهم وكافرهم، ومادام قد خلقهم واستدعاهم إلى الوجود فهو يوجه الخطاب لهم جميعا؛ مؤمنهم وكافرهم؛ وكأن الخطاب يقول للكافرين: حتى ولو لم تؤمنوا بالله، فخذوا من المؤمنين الأشياء الحلال واستعملوها لأنها تفيدكم في دنياكم؛ وإن لم تؤمنوا بالله، لأن من مصلحتكم أن تأكلوا الحلال الطيب، فالله لم يحرم إلا كل ضار، ولم يحلل إلا كل طيب. هنا موقف يقفه كثير من الذين أسرفوا على أنفسهم، ويحبون أن تكون قضية الدين وقضية التحريم وقضية التحليل، قضايا كاذبة؛ لأنه لا ينجيهم أمام أنفسهم إلا أن يجدوا أشياء يكذبون بها الدين، لأنهم لم يستطيعوا أن يحملوا أنفسهم على مطلوبات الله، فلما لم يستطيعوا ذلك لم يجدوا منفذا لهم إلا أن يقولوا: إن قضايا الدين كاذبة بما فيها التحليل والتحريم. إنهم يقولون: مادام الله قد حرم شيئا فلماذا خلقه في الكون؟ . كأنهم يعتقدون أن كل مخلوق في الأرض قد خُلق ليؤكل، وما علموا أن لكل مخلوق في الأرض مهمة، فهم الآن يمسكون الحيات والثعابين ليستخلصوا منها السموم؛ حتى يقتلوا بها الميكروبات التي تقتل الإنسان، وكانوا قبل اكتشاف فائدة السم في الثعبان يتساءلون «وما فائدة خلق مثل هذه الثعابين؟» . فلما أحوجهم الله وألجأهم إلى أن يستفيدوا بما في الثعابين من سم؛ ليجعلوه علاجاً أدركوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 حكمة الله من خلق هذه الأنواع، لقد خلقها لا لنأكلها، وإنما لنعالج بها. فأنت إذا رأيت شيئا محرما لا تقل لماذا خلقه الله، لأنك لا تعرف ما هي مهمته، فليست مهمة كل مخلوق أن يأكله الإنسان، إنما لكل مخلوق مهمة قد لا تشعر بأدائها في الكون. وهذه مسألة نستعملها نحن في ذوات نفوسنا، على سبيل المثال؛ عندما يأتي الصيف ونخشى على ملابسنا الصوفية من الحشرات؛ فنأتي لها بما يقتل الحشرات، وهو «النفتالين» ، ونحذر أبناءنا من عدم الاقتراب منه وأكله. إن «النفتالين» لا يؤكل، ولكنه مفيد في قتل الحشرات الضارة. كذلك «الفينيك» نشتريه ونضعه في زجاجة في المنزل لنطهر به أي مكان ملوث، ونحذر الأطفال منه لأنه ضار لهم، ولكنه نافع في تطهير المنزل من الحشرات، وكذلك المخلوقات التي لا نعرف حكمة خلقها، لقد خلقها الله لمهمة خاصة بها، فلا تنقل شيئا من مهمته إلى مهمة أخرى. وإذا كان الإنسان لم يدرك حتى الآن فائدة بعض المخلوقات، فما أكثر ما يجهل، وهو يكتشف كل يوم سرا من أسرار مخلوقات الله. وعلى سبيل المثال، كانوا ينظرون إلى نوع من السمك لا يتجاوز حجمه عقلة الإصبع؛ ولا يكبر أبدا، واحتاروا في فائدته، وعندما ذهبنا للسعودية ورأينا الأماكن التي نأخذ منها الماء الذي قد يفسد، ووجدنا هذا النوع من السمك بكثرة، فسألناهم عن حقيقة هذا السمك، فقالوا: إنه لا يكبر ويظل على هذا الحجم، ومهمته تنقية المياه في الأماكن التي لا يقوم الإنسان بتنقيتها. وجربنا حقيقة ما قالوا؛ فألقينا بعضا من مخلفات الطعام؛ فوجدنا هذه الأسماك تخرج من حيث لا ندري وتلقف هذه البقايا؛ ولا تتركها حتى تنهيها. هكذا يخلق الحي القيوم مخلوقات لتحفظ مخلوقات أخرى، هو سبحانه يقول للإنسان: لا تأكل هذا وكل ذاك؛ لحكمة قد لا نعرفها. مثال آخر، الطائر المعروف بأبي قردان صديق الفلاح، كانت وظيفته في الحياة أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 يأكل الحشرات والديدان عند ري الأرض، ومنذ أن اختفى هذا الطائر بيتأثر المبيدات؛ استفحل خطر الديدان على الزرع وبخاصة دودة القطن. إنها معادلة إلهية مركبة تركيبا دقيقا. وكذلك الذباب، يتساءل بعض الناس «ما حكمة وجوده في الحياة؟» وهم لا يعرفون أن الذباب يؤدي للإنسان دورا هاما هو أكل القاذورات وما بها من أمراض، ولو تحصن الناس بالنظافة لما جاءهم الذباب. إذن، فكل شيء في الوجود مرتب ترتيبا دقيقا، إنه ترتيب خالق عليم حكيم، مادام الحكيم هو الذي خلق؛ فلا يعترض أحد ويقول لماذا خلق كذا وكذا؟ ، لأن لكل مخلوق دوراً يؤديه في الكون. ولذلك ينبه الخالق الناس مؤمنهم وكافرهم بأن يأكلوا الحلال الطيب من الأرض، وهو يقول للكافر؛ إنك إن تعقلت الأمور؛ لوجدت أن كل ما أمرتك به هو لصالحك، وحتى لو لم تؤمن فأنا أدلك على ما ينفع، فلا تأكل إلا الحلال الطيب، انظر إلى المؤمنين بماذا سمح لهم من طعام وكل مثلهم. وقد أثبت الواقع والتاريخ؛ أن الكافرين يلجأون إلى منهج الله في بعض الأقضية؛ ليحلوا مشاكل حياتهم، لا بدين الله كدين، ولكن بأوامر الله كنظام، فلو كان عند الكافرين بالله حكمة حتى فيما يتعلق بشئون دنياهم؛ لأخذوا ما أمر الله به المؤمنين واتبعوه. والمثال على ذلك؛ عندما يحرم الحق سبحانه وتعالى لحم الميتة، أي التي ماتت ولم تذبح، إن لحمها ضار بالصحة، لأن أوعية الدم في الحيوان وفي كل كائن حي هي وعاءان! إما أوردة وإما شرايين، والدم قبل أن يذهب إلى الكلى أو الرئة يكون دما فاسدا، ونحن عندما نذبح الحيوان يسيل منه الدم الفاسد وغير الفاسد ويخرج، ويصير اللحم خالصا، لكن الحيوان الذي لم يذبح؛ لم يذك، يعني لم يُطَهّر من فساد الدم، وهو ضار للإنسان. والحق سبحانه وتعالى عندما يقول: {ياأيها الناس} فكأنه يدعو غير المؤمنين: لو عقلتم، لوجب أن تحتاطوا إلى حياتكم بألا تأكلوا إلا حلالا أحله الله للمؤمنين. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} . أي لا تسيروا وراء الشيطان، فالخطوة هي المسافة بين القدمين عند المشي، أي بين النقلة والنقلة، ولا تجعلوا الشيطان قائدكم؛ لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 الشيطان عداوته لكم مسبقة، ويجب أن تحتاطوا بسوء الظن فيه؛ فهو الذي عصى ربه؛ ولا يصح أن يطاع في أي أمر، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وعداوة الشيطان للإنسان قديمة من أيام آدم. ويقول الحق عن أوامر الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 والسوء هو كل ذنب لا حد فيه، مثل الغيبة أو النميمة، والفحشاء هي كل ذنب فيه حد وفيه عقوبة. والشيطان يأمركم أن تقولوا على الله ما تجهلون. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 وهذه الآية تعالج قضية خطيرة في المجتمع الإسلامي، قضية تقليد الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 لعادات آبائهم. والتقليد هو نشأة طبيعية في الإنسان، لأن الإنسان حين يخرج للوجود مُمداً بطاقة الحياة؛ فهذه الطاقة تريد أن تتحرك؛ وحركتها تأتي دائما وفق ما ترى من حركة السابق لها، فالطفل الصغير لا يعرف أن يده تتناول أشياء إلا إذا رأى في البيئة المحيطة به إنسانا يفعل ذلك، وحين يريد الطفل أن يتحرك، فهو يقلد حركة الذين حوله، ولذلك تجد الأطفال دائما يقلدون آباءهم في معظم حركاتهم، وحين يوجد الأطفال مع أجيال متعاقبة تمثل أعماراً مختلفة، فإن الطفل الصغير يقلد في حركته البدائية خليطاً من حركات هذه الأجيال، فهو يقلد جده، ويقلد جدته، ويقلد أباه وأمه، وإخوته؛ فتنشأ حركات مختلطة تمثل الأجيال كلها. ولذلك فاندماج الطفل في أسرة مكونة من آباء وأجداد، تمثل في الإنسان طبيعة الحياة المتصلة بمنهج الحركة في الأرض وبمنهج السماء؛ لأن الطفل حين يعيش مع أبيه فقط، قد يجده مشغولا في حركة الحياة التي ربما شدته عن قيم الحياة أو عن منهج السماء؛ لكنه حين يرى أبا لأبيه؛ هو جده قد فزع من حركة الحياة، واتجه إلى منهج القيم؛ لأنه قريب عهد فيما يظن بلقاء الله، فإن كان لا يصلي في شبابه فهو يصلي الآن، وإن كان لا يفعل الطاعات سابقا؛ أصبح يفعلها الآن، وهكذا يرى الطفل حركة الحياة الجامحة في الدنيا والتلهف عليها من أبيه، ويجد الإقبال على القيم والعبادات من جده، ولذلك تجده ربما عاون جده على الطاعة؛ فساعة يسمع الطفل المؤذن يقول: «الله أكبر» ، فهو يعرف أن جده يريد أن يصلي؛ فيذهب هو ويأتي بالسجادة ويفرشها لجده؛ ويقف مقلداً جده، وإن كانت بنتا، فنحن نجدها تقلد أمها أو جدتها وتضع الغطاء على رأسها لتصلي، إذن، فاندماج الأجيال يعطي الخير من الحركتين، حركة مادية الحياة وحركة قيم منهج السماء، ولذلك يمتن الحق علينا قائلا: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] إذن، فتقليد الأجيال اللاحقة للأجيال السابقة أمر تقتضيه طبيعة الوجود. وحين يدعو الله الناس أن يتبعوا ما ينزله على الرسل فهو ينهاهم أن يتبعوا تقليد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 الآباء في كل حركاتهم، لأنه قد تكون حركة الآباء قد اختلت بالغفلة عن المنهج أو بنسيان المنهج، لذلك يدعونا ويأمرنا سبحانه: أن ننخلع عن هذه الأشياء ونتبع ما أنزل الله، ولا نهبط إلى مستوى الأرض، لأن عادات ومنهج الأرض قد تتغير، ولكن منهج السماء دائما لا يتغير، فاتبعوا ما أنزل الله. والناس حين يحتجون يقولون: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. وتلك قضية تبريرية في الوجود، ولو كان ذلك حقاً وصدقاً، ومطابقا للواقع، لما كرر الله الرسالات بعد أن علم آدم كل المنهج الذي يريد؛ لأننا لو كنا نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. لكان أبناء آدم سيتبعون ما كان يفعله آدم، وأبناء أبناء آدم يتبعون آباءهم، وهكذا يظل منهج السماء موجوداً متوارثاً فلا تغيير فيه. إذن فما الذي اقتضى أن يتغير منهج السماء؟ إن هذا دليل على أن الناس قد غيروا المنهج، ولذلك فقولهم: {نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} هي قضية مكذوبة، لأنهم لو اتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم؛ لظل منهج الله في الأرض مضيئا غير متأثر بغفلة الناس ولا متأثرا بانحرافات أهل الأرض عن منهج السماء. وهو تبرير يكشف أن ما وجدوا عليه آباءهم يوافق أهواءهم. وقوله الحق: {اتبعوا} أي اجعلوا ما أنزل عليكم من السماء متبوعا وكونوا تابعين لهذا المنهج؛ لا تابعين لسواه؛ لأن ما سوى منهج السماء هو منهج من صناعة أهل الأرض، وهو منهج غير مأمون، وقولهم: {مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} أي ما وجدنا عليه آباءنا، وما تفتحت عليه عيوننا فوجدناه حركة تُحتذى وتُقتدى. والحق يبين لهم أن هذا كلام خاطئ، وكلام تبريري وأنتم غير صادقين فيه، وعدم الصدق يتضح في أنكم لو كنتم متبعين لمنهج السماء؛ لما تغير المنهج، هذا أولا، أما ثانيا، فأنتم في كثير من الأشياء تختلفون عن آبائكم، فحين تكون للأبناء شخصية وذاتية فإننا نجد الأبناء حريصين على الاختلاف، ونجد أجيالا متفسخة، فالأب يريد شيئا والابن يريد شيئا آخر، لذلك لا يصح أن يقولوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} ؛ لأنه لو صح ذلك لما اختلف منهج الله على الأرض لكن المنهج اختلف لدخول أهواء البشر، ومع ذلك نرى بعضاً من الخلاف في سلوك الأبناء عن الآباء، ونقبل ذلك ونقول: هذا بحكم تغيير واختلاف الأجيال، أي أن الأبناء أصبحت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 لهم ذاتية. ولذلك فالقول باتباع الأبناء للآباء كذب لا يمثل الواقع. والحق سبحانه وتعالى يرد على هذه القضية لأنها قضية تبريرية لا دليل لها من صدق، ولا برهان لها من واقع. ويقول سبحانه: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} أي أيتبعون ما وجدوا عليه آباءهم حتى ولو كان آباؤهم لا يعقلون ولا يهتدون؟ . إذن، الرد جاء من ناحيتين، من ناحية التعقل، ومن ناحية الاهتداء، وكل من التعقل والاهتداء منفي عن الآباء في هذه الآية، فأنتم تتبعونهم اتباعا بلا تفكير، اتباعا أعمى. والإنسان لا يطيع طاعة عمياء إلا لمن يتيقن صدق بصيرته النافذة المطلقة، وهذه لا يمكن أن تتأتى من بشر إلى بشر، فالطاعة المطلقة لا تصح أن تكون لشيء إلا لمنهج السماء، وحين تكون طاعة عمياء لمن تثق ببصره الشافي الكافي الحكيم؛ فهي طاعة مبصرة وبصيرة في آن واحد. لأنك تحمي نفسك من خطأ بصرك، وخطأ بصيرتك، وتلتزم في التبعية بمن تعتقد أن بصره وبصيرته لا يخطئان أبداً، عندها لا تكون طاعة عمياء. إذن. فالحق سبحانه وتعالى ينبههم إلى أنه لا يصح أن تقولوا: إنكم تتبعون ما وجدتم عليه آباءكم؛ لأنه يجوز أن يكون آباؤكم لا يعقلون، ويجوز أن يكونوا غير مهتدين. لو كان آباؤكم لهم عقل أو لهم اهتداء، عند ذلك يكون اتباعكم لهم أمرا سليما، لا لأنكم اتبعتم آباءكم، ولكن لأنكم اتبعتم المعقول والهدى. وهكذا نجد أن قضية التقليد هي أمر مزعوم، لأنك لا تقلد مساويك أبداً، ولكنك تتبع من تعتقد أنه أحكم منك، ومادام مساويا لك فلا يصح أن تقلده في كل حركة. بل يجب أن تعرض الحركة على ذهنك، ولذلك فتكليف الله لعباده لم ينشأ إلا بعد اكتمال العقل بالبلوغ. فهو سبحانه لا يأخذ العقل على غرة قبل أن ينضج؛ بل لا يكلف الله عبداً إلا إذا نضج عقله؛ ولا يكلفه إن لم يوجد له عقلاً، ولا يكلفه إن لم تكن قوته وراء عقله؛ فإن كان الإنسان سليم القوة والعقل فإن تكليفه يكون تاما، فسبحانه لا يكلف إلا صاحب العقل الناضج والذي لديه قدره تمكنه من تنفيذ ما اهتدى إليه عقله، أي غير مُكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 فالذي يكلف الإنسان بمقتضى هذه الأشياء هو عالم أن العقل إن وجد ناضجا بلا إكراه فلا بد أن يهتدي إلى قضية الحق. إن الحق سبحانه لم يكلف الإنسان إلا بعد أن تكتمل كل ملكات نفسه، لأن آخر ملكة تتكون في الإنسان هي مَلَكَة الغريزة، أي أن يكون صالحا للإنجاب، وصالحا لأن تمتد به الحياة. وقلنا من قبل: إن الثمرة التي نأكلها لا تصبح ثمرة شهية ناضجة إلا بعد أن تؤدي مهمتها الأولى؛ فمهمتها ليست في أن يأكلها الإنسان فقط. إنما أن توجد منها بذرة صالحة لامتداد الحياة، وعندما توجد البذرة يكون أكل الثمرة صالحا، كذلك الإنسان؛ لا يكون صالحاً لامتداد الحياة إلا بعد البلوغ أو في سن البلوغ، وسبحانه وتعالى جعل لهذه الغريزة سعاراً؛ لأن الحياة التي ستأتي من خلالها لها تبعات أولاد ومشقات، فلو لم يربطها الله بهذه اللذة لانصرف عنها كثير من الناس، لكنه سبحانه يربطها باللذة حتى يوجد امتداد الحياة بدافع عنيف وقوي من الإنسان. فالحق سبحانه لا يفاجئ الإنسان بتكليف إلا بعد أن يُعِده إعدادا كاملا، لأنه لو كلفه قبل أن ينضج غريزيا، وقبل أن تصبح له قدرة على استبقاء النوع، لقال الإنسان: إن الله كلفني قبل أن يُوجد فيَّ ذلك، عندئذ لا يكون التعاقد الإيماني صحيحاً. ولذلك يؤخر الحق تكليفه لعباده حتى يكتمل لهم نضج العقل ونضج الغريزة معا، وحتى يدخل الإنسان في التكليف بكل مقوماته، وبكل غرائزه، وانفعالاته؛ حتى إذا تعاقد إيمانيا؛ فإن عليه أن يلتزم بتعاقده. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يربي في الإنسان ذاتيته من فور أن يصبح صالحا لاستبقاء النوع في غيره، ومادامت قد أصبحت له ذاتية متكاملة، فالحق يريد أن يُنهي عنه التبعية لغيره، عند ذلك لا يقولن أحد: «أفعل مثل فعل أبي» . لكن هناك من قالوا: {نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} ، لماذا يتبعون آباءهم في المنهج الباطل، ولا يتبعونهم في باقي أمور الدنيا، وفي الملابس، وفي الأكل، وفي كل مناحي الحياة؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 إذن فلا شيء قد جعلهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم إلا لأنهم وجدوا فيه ما يوافق هواهم، بدليل أنهم انسلخوا عن تبعيتهم لآبائهم في أشياء رأوها في سلوك الآباء وخالفوهم فيها، وماداموا قد خالفوهم في أشياء كثيرة؛ فلماذا يتبعونهم في الدين الزائف؟ . إن الله يريد أن يخلص الإنسان من إسار هذا الاتباع، ويلفت العباد. تعقلوا يا من أصبحت لكم ذاتية، وليعلم كل منكم أنه بنضج العقل يجب أن يصل إلى الهداية إلى الخالق الواحد الأحد، فإن كنت قد التحمت بأبيك في أول الأمر لأنه يعولك ويمدك، فهذا الأب هو مجرد سبب أراده الله لك، ولكن الله هو خالقك، وهو الذي أنزل المنهج الذي يجب أن تلتحم به لتصير حياتك إلى نماء وخير. وهو سبحانه يقول: {واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان: 33] إن الحق سبحانه وتعالى يفصل لنا هذا الأمر بدقة، فإذا كان الآباء لا يعقلون؛ فماذا عن موقف الأبناء؟ . إن على الأبناء أن يصلحوا أنفسهم بمنهج الحق. وقد وردت في سورة المائدة آية أخرى بالمعنى نفسه ولكن بخلاف في اللفظ، فهنا في سورة البقرة يقول الحق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله} . وفي آية سورة المائدة يقول الحق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] وبين الآيتين اتفاق واختلاف، فقوله الحق هنا: {اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله} وهي تعني أن نمعن النظر وأن نطبق منهج الله. وآية سورة المائدة {تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} هذا هو الخلاف الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 والخلاف الثاني في الآيتين هو في جوابهم على كلام الحق، ففي هذه السورة سورة البقرة قالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} وهذا القول فيه مؤاخذة لهم. لكنهم في سورة المائدة قالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} ، وهذه تعني أنهم اكتفوا بما عندهم؛ ونفوا اتباع منهج السماء، وهذا الموقف أقوى وأشد نفيا، لذلك نجد أن الحق لم يخاطبهم في هذه الآية ب {اتبعوا} بل قال لهم: {تَعَالَوْاْ} أي ارتفعوا من حضيض ما عندكم إلى الإيمان بمنهج السماء. ومادمتم قد قلتم: حسبنا بملء الفم؛ فهذا يعني أنكم اكتفيتم بما أنتم عليه. وكلمة {حَسْبُنَا} فيها بحث لطيف؛ لأن من يقول هذه الكلمة قد حسب كلامه واكتفى، وكلمة الحساب تدل على الدقة، والحساب يفيد العدد والأرقام. فقولهم: {حَسْبُنَا} تعني أنهم حسبوا الأمر واكتفوا به ونجد كل ورود لهذه الكلمة في القرآن يفيد أنها مرة تأتي لحساب الرقم المادي، ومرة تأتي لحساب الإدراك الظني. فالحق يقول: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] ومعناها: هل ظن الناس أن يتركوا دون اختبار لإيمانهم؟ . هذا حساب ليس بالرقم، وإنما حساب بالفكر، والحساب بالفكر يمكن أن يخطئ، ولذلك نسميه الظن. والحق سبحانه يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] إذن، فكلمة «حساب» تأتي مرة بمعنى الشيء المحسوب والمعدود، ومرة تأتي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 المعنويات، ونعرفها بالفعل، فإذا قلت: حَسَبَ يَحسِب؛ فالمعنى عَدَّ. وإذا قلت: حَسِبَ يَحسَب؛ فهي للظن. وفيه ماضٍ وفيه مضارع، إن كنت تريد العد الرقمي الذي لا يختلف فيه أحد تقول: «حَسَبَ بفتح السين في الماضي وبكسرها في المضارع يَحسِب» . وإن أردت بها حسبان الظن الذي يحدث فيه خلل تقول: «حَسِبَ» بالكسر، والمضارع «يَحْسَبُ» بالفتح. وعندما يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن حساب الآخرة، فمعنى ذلك أنه شيء محسوب، لكن إذا بولغ في المحسوب يكون حسبانا، وكما نقول: «غفر غفراً» و «شكر شكراً» ، يمكن أن نقول: «غفر غفراناً» و «شكر شكراناً» . كذلك «حسب حسباناً» ، والحسبان هو الحساب الدقيق جداً الذي لا يخطئ أبداً. ولذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى بكلمة «حسبان» في الأمور الدقيقة التي خلقت بقدر ونظام دقيق؛ إن اختل فيها شيء يحدث خلل في الكون، فيقول: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 15] أي أن الكون يسير بنظام دقيق جداً؛ لا يختل أبداً، لأنه لو حدث أدنى خلل في أداء الشمس والقمر لوظيفتيهما؛ فنظام الكون يفسد. لذلك لم يقل الحق: «الشمس والقمر بحساب» ، وإنما قال: {بحسبان} وبعد ذلك فيه فرق بين «الحسبان» و «المحسوب بالحسبان» ؛ والحق سبحانه وتعالى حينما يقول: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ اليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً} [الأنعام: 96] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 لم يقل: بحسبان، لأنها هي في ذاتها حساب وليست محسوبة، أي أن حسابها آلي. وتأتي الكلمة بصورة أخرى في سورة الكهف في قوله تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء} [الكهف: 40] المعنى هنا شيء للعقاب على قدر الظلم. تماما هذه هي مادة الحساب. . وقولهم: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} في ظاهرها أبلغ من قولهم: {نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} لكن كل من اللفظين مناسب للسياق الذي جاء فيه ف {اتبعوا} يناسبها {نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا} وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ} يناسبها قولهم: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} ؛ يعني كافينا ما عندنا ولا نريد شيئا غيره. ومن هنا نفهم لماذا جاء الحق في آية البقرة بقوله: {اتبعوا} ، وفي آية المائدة: {تَعَالَوْاْ} ، وجاء جوابهم في سورة البقرة: {بَلْ نَتَّبِعُ} ، وفي سورة المائدة: {حَسْبُنَا} . وهناك خلاف ثالث في الآيتين: ففي آية البقرة قال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً} . وفي آية المائدة قال؛ {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً} . الخلاف في {لاَ يَعْقِلُونَ} و {لاَ يَعْلَمُونَ} . وما الفرق بين «يعقلون» و «يعلمون» ؟ . إن «يعقلون» تعني ما ينشأ عن فكرهم وتدبرهم للأمور، لكن هناك أناس لا يعرفون كيف يعقلون، ولذلك يأخذون القضايا مسلماً بها كعلم من غيرهم الذي عقل. إذن فالذي يعلم أقل منزلة من الذي يعقل، لأن الذي عقل هو إنسان قد استنبط، وأما الذي علم فقد أخذ علم غيره. وعلى سبيل المثال، فالأمي الذي أخذ حكما من الأحكام هو قد علمه من غيره، لكنه لم يتعقله، إذن فنفي العلم عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 شخص أبلغ من نفي التعقل؛ لأن معنى «لا يعلم» أي أنه ليس لديه شيء من علم غيره أو علمه. وعندما يقول الحق سبحانه: {لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً} فمعنى ذلك أنه من المحتمل أن يعلموا، لكن عندما يقول: {لاَ يَعْلَمُونَ} فمعناه أنهم لا يعقلون ولا يعلمون، وهذا يناسب ردهم. فعندما قالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ} فكان وصفهم ب {لاَ يَعْقِلُونَ} . وعندما قالوا: {حَسْبُنَا} وصفهم بأنهم {لاَ يَعْلَمُونَ} كالحيوانات تماما. ونخلص مما سبق أن هناك ثلاث ملحوظات على الآيتين: في الآية الأولى قال: {اتبعوا} ، وكان الرد منهم {نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا} والرد على الرد {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً} . وفي الآية الثانية قال: {تَعَالَوْاْ} ، وكان الرد منهم {حَسْبُنَا} ، فكان الرد عليهم {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً} . وهكذا نرى أن كلا من الآيتين منسجمة، ولا يقولن أحد: إن آية جاءت بأسلوب، والأخرى بأسلوب آخر، فكل آية جاءت على أسلوبها يتطلبها فهي الأبلغ، فكل آية في القرآن منسجمة كلماتها مع جملها ومع سياقها. وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} مبنية للمفعول ليتضمن كل قول جاء على لسان أي رسول من الله من بدء الرسالات، فهي ليست قضية اليوم فقط إنما هي قضية قيلت من قبل ذلك. إن المعنى هو: إذا قيل لهم من أي رسول، اتبعوا ما أنزل الله قالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} . ويختم الحق الآية في سورة البقرة بقوله: {وَلاَ يَهْتَدُونَ} . وكذلك كان ختام آية المائدة: {وَلاَ يَهْتَدُونَ} ؛ لنعلم أن هدى السماء لا يختلف بين عقل وعلم، فالأولى جاءت بعد قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} والثانية جاءت في ختام قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} وذلك للدلالة على أن هدى السماء لا يختلف بين من يعقلون ومن يعلمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 والذي ينعق هو الذي يُصَوِّتُ ويصرح للبهائم، وهو الراعي، إذن، فكلمة ينعق أعطتنا صورة راع يرعى بهائم. وكان هذا الصياح من الراعي ليلفت الماشية المرعية لتسير خلفه، وهو لا يقول لها ما يريده أن تفعله، وإنما ينبهها بالصوت إلى ما يريد، ويسير أمامها لتسير خلفه إلى المرعى أو إلى نبع الماء، فالنداء لفتة ودعاء فقط، لكن ما يراد من الدعاء يصير أمرا حركيا تراه الماشية. فكأن الماشية المرعية لا تفهم من الراعي إلا النداء والدعاء، إنما دعاء ونداء لماذا؟ فهي لا تعرف الهدف منه، إلا بأن يسلك الراعي أمامها بما يرشدها. وهكذا نفهم أن هناك «راعيا» ، و «ماشية» ، و «صوتا من الراعي» وهو مجرد دعاء ونداء. مقابل هؤلاء الثلاثة في قضيتنا هو الرسول حين يدعو فيكون هو «الراعي» ويدعو من؟ ، يدعو «الرعية» الذين هم الناس. وبماذا يدعو الرعية؟ . أيناديها فقط لتأتيه، أم يناديها لتأتيه ويأمرها بأشياء؟ . إنه يأمرها باتباع منهج السماء. وهذا هو الفارق بين الراعي في الماشية والراعي في الآدميين. فعندما يأتي الرسول ويقول: «يا قوم إني لكم رسول، وإني لكم نذير» فهذا هو الدعاء، ومضمون ذلك الدعاء هو «اعبدوا الله» . «انظروا في السماوات والأرض» ، «افعلوا كذا من أوامر وانتهوا عن تلك النواهي» ، هذا ما يريده الرسول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 إذن فالرسول يشترك مع الراعي في الدعاء والنداء، وهم اشتركوا مع المَرْعِىّ في أنهم لم يفهموا إلا الدعاء والنداء فقط، وفي الاستجابة هم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ، فالمدعو به لم يسمعوه، وكأنهم اشتركوا مع الحيوان في أنهم لا يستمعون إلا للدعاء والنداء، إنما المدعو به ومضمون النداء هم لا يعقلونه ولا يفهمونه. وبكم لا ينطقون بمطلوب الدعوة وهو «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» ، وليس عندهم عقل يدير حركة العيون لينظروا في ملكوت السماوات والأرض ليظهر لهم وجه الحق في هذه المسألة. إذن فمثل الذين كفروا بالرسول كمثل الماشية مع الراعي، فهم لا يسمعون إلا مجرد الدعاء، كما أن الماشية تسمع الراعي ولا تعقل، مع الفارق؛ لأن الدواب ليس مطلوبا منها أن ترد على من يناديها. ولا تسمع غير ذلك من المدعو به لذا كان الكافرون شر الدواب. وقوله الحق: {صُمٌّ} أي مصابون بالصمم؛ وهو آفة تمنع الأذن من أداء مهمتها. و {بُكْمٌ} أي مصابون بآفة تصيب اللسان؛ فتمنعه من أداء مهمته، إلا أن السبب في الصمم سبب إيجابي، لأن هناك شيئا قد سد منفذ السمع فلا تسمع، وبسبب الصمم فهم بكم، والبكم هو عجز اللسان عن الكلام، لأن الإنسان إن لم يسمع فهو لن يتكلم. ولذلك فإن الإنسان إذا وجد في بيئة عربية فهو يتكلم اللغة العربية، وإذا نشأ الإنسان في بيئة إنجليزية فهو يتكلم لغة إنجليزية. وهب أنك قد نشأت في بيئة تتكلم العربية ثم لم تسمع كلمة من كلماتها هل تتكلم بها؟ لا. إذن فاللسان ينطق بما تسمعه الأذن، فإذا لم تسمع الأذن لا يتكلم اللسان. والصمم يسبق البكم، ولذلك فالبكم هو آفة سلبية، وتجد أن اللسان يتحرك ويُصوّت أصواتاً لا مدلول لها ولا مفهوم. فهل نفهم من قوله تعالى عنهم: {صُمٌّ} أنهم مصابون بالصمم؟ . لا. إن الحق يقول: لقد جعلت الأذن لتسمع السماع المفيد؛ فكأنها معطلة لا تسمع شيئا. وكذلك اللسان أوجدته ليتكلم الكلام المفيد، بحيث من لا يتكلم به كأنه أبكم، والعقل أوجدته ليفكر به؛ فإذا لم يفكر تفكيرا سليما منطقياً، فكأن صاحبه لا عقل له. فالأصم حقيقة خير من الذي يملك حاسة السمع ولا يفهم بها، لأن الأصم له عذره، والأبكم كذلك، والمجنون أيضا له عذره، فليت هؤلاء الكفار كانوا كذلك، لقد صموا آذانهم عن سماع الدعوة، وهم بكم عن النطق بما ينجيهم بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهم عمي عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 النظر في آيات الكون، فلو أن عندهم بصر لنظروا في الكون كما قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} [آل عمران: 190] فلو أنهم نظروا في خلق السماوات والأرض؛ لاهتدوا بفطرتهم إلى أن لهذا الوجود المتقن المحكم صانعا قد صنعه، لكنهم لا يعقلون، لأن عملية العقل تنشأ بعد أن تسمع، وبعد اكتمال الحواس، ولذلك فالإنسان في تكوينه الأول حركي حسيّ، يرى ويسمع ويتذوق ثم يتكون عنده من بعد ذلك القضايا العقلية. ويقول الحق بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 وهذا خطاب من الله للذين آمنوا بأن يأكلوا من الطيبات، وقد سبق في الآية 168 خطاب مماثل في الموضوع نفسه؛ ولكن للناس جميعا وهو قوله تعالى: {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} . وقلنا: إن الحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب الناس جميعا، فهو يلفتهم إلى قضية الإيمان، ولكن حين يخاطب المؤمنين فهو يعطيهم أحكام الإيمان، فالله لا يكلف بحكم إلا من آمن به، أما من لم يؤمن به، فلا يكلفه بأي حكم، لأن الإيمان التزام. ومادمت قد التزمت بأنه إله حكيم؛ فخذ منه أحكام دينك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 وعدل الله اقتضى ألا يكلف إلا من يؤمن، وهذا على خلاف مألوف البشر، لأن تكليفات القادة من البشر للبشر تكون لمن يرضى بقيادتهم ومن لم يرض، وإذا كان للقائد من البشر قوة، فإنه يستخدمها لإرغام من يوجدون تحت ولايته على تنفيذ ما يقول. وخطاب الله للمؤمنين هنا جاء بقوله: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ذلك أن المؤمن يتقين تماما بأن الله هو الخالق وهو الذي يرزق. ويذيل الآية الكريمة بقوله: {واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، فشكر العبد المؤمن للرب الخالق واجب، مادام العبد المؤمن يختص الله بالعبادة. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 ونجد أن استخدام «الموت» يأتي في كلمات منوعة، ففيه: «مَيِّت» و «مَيْتَة» ، و «ميّتة» ومثال ذلك ما يقوله الحق: {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} [فاطر: 9] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 و «الميّت» بتشديد الياء هو من ينتهي أمره إلى الموت وإن كان حياً، فكل واحد يقال له أنت ميّت، أي مصيره إلى الموت، ولذلك يخاطب الله رسوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] إذن فكلمة «مَيّت» معناها أنك ستموت، رغم أنك الآن حي. لكن عندما نقول: «مَيْت» ، بتسكين الياء، فمعناها مات بالفعل، وفي الشعر العربي جاء: وما الميْت إلا من إلى القبر يُحمل ... والحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} ، ولو قال: «الميِّتة» بتشديد الياء، لقلنا: إن كل شيء سيموت يصير محرما، لكن كلام الله هنا «الميْتة» بالياء الساكنة وهي الميتة بالفعل، وهي التي خرجت روحها حتفا؛ لأنه فيه خروج الروح إزهاقا بمعنى أن تذبحه فيموت؛ لكن هناك مخلوقات تموت حتف أنفها، وساعة تموت الحيوانات حتف أنفها تُحتبس فيها خلاصة الأغذية التي تناولتها وهي الموجودة بالدم؛ وهذا الدم فيه أشياء ضارة كثيرة، ففي الدم مواد ضارة فاسدة استخلصتها أجهزة الجسم وهو حي، وكانت في طريقها إلى الخروج منه، فإذا ما ذبحناه؛ سال كل الدم الفاسد والسليم، ولأن درء المفسدة مقدمة على جلب المصلحة، فإننا نضحي بالدم السليم مع الدم الفاسد. وهذا الدم يختزنه الجسم عندما يموت، وتظل بداخله الأشياء الضارة فيصبح اللحم مملوءاً بالمواد الضارة التي تصيب الإنسان بالأمراض. ونظرة بسيطة إلى دجاجتين، إحداهما مذبوحة أريق دمها، والأخرى منخنقة أي لم يرق دمها، فإننا نجد اختلافا ظاهرا في اللون، حتى لو قمنا بطهي هذه وتلك فسنجد اختلافا في الطعم، سنجد طعم الدجاجة المذبوحة مقبولا، وسنجد طعم الدجاجة الميتة غير مقبول، وكان الذين لا يؤمنون بإله أو بمنهج يقومون بذبح الحيوانات قبل أكلها، لماذا؟ لقد هدتهم تجاربهم إلى أن هذه عملية فيها مصلحة، وإن لم يعرفوا طريقة الذبح الإسلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 وحين يحرم الله {الميتة} فليس هناك أحد منا مطالب أن يجيب عن الله؛ لماذا حرم الميتة؟ ، لأنه يكفينا أن الله قال: إنها حرام، وما دام الذي رزقك قال لك: لا تأكل هذه؛ فقد أخرجها من رزقيه النفعية المباشرة، ولو لم يكن فيها ضرر نعلمه، هو سبحانه قد قال: لا تأكلها، فلا تأكلها، لأنه هو الذي رزق، وهو الذي خلقك، وهو الذي يأمرك بألا تأكلها، فليس من حقك بعد ذلك أن تسأل لماذا حرمها علي؟ . وهب أننا لم نهتد إلى حكمة التحريم، ولم نعرف الأذى الذي يصيب الإنسان من أكل الميتة؟ هل كان الناس يقفون عند الأمر حتى تبدو علته، أم كانوا ينفذون أوامر الله بلا تفكير؟ لقد استمع المؤمنون لأوامر الحق ونفذوها دون تردد. إذن، فما دام الله يخاطبنا، فبمقتضى حيثية الإيمان يجب أن نتقبل عنه الحكم وعلة قبول الحكم هي صدوره من الذي حكم. أما أن نعرف علة الحكم، فهذه عملية إيناس للعقل، وتطمين على أن الله لم يكلفنا بأمر إلا وفيه نفع لنا، والمؤمن لا يصح أن يجعل إيمانه رهنا بمعرفة العلة. إن الحق يقول: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} والآية صريحة في أن كل ميتة حرام، ومادامت ميتة فقد كان فيها حياة وروح ثم خرجت، لكننا نأكل السمك وهو ميت، وذلك تخصيص من السنة لعموم القرآن، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أحل لكم ميتتان: السمك والجراد، ودمان: الكبد والطحال» . لماذا هذا الاستثناء في التحليل؟ لأن للعرف في تحديد ألفاظ الشارع مدخلاً، فإذا حلفت ألا تأكل لحماً وأكلت سمكا فهل تحنث؟ . لا تحنث، ويمينك صادقة؛ رغم أن الله وصف السمك بأنه لحم طري، إلا أن العرف ساعة يُطلق اللحم لم يدخل فيه السمك. إذن، فالعرف له اعتبار، لذلك فالزمخشري صاحب الكشاف يقول في هذه المسألة: «لو حلفت ألا تأكل اللحم وأكلت السمك فإجماع العلماء على أنك لم تحنث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 في يمينك» . وضرب مثلا آخر فقال: لو حلفت بأن تركب دابة، والكافر قد أسماه الله دابة فقال: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} فهل يجوز ركوب الكافر؟ . لا يجوز فكان مقتضى الآية أنه يصح لك أن تركبه وعلق على ذلك قائلا: صحيح أن الدابة هي كل ما يدب على الأرض، إلا أن العرف خصها بذوات الأربع. لهذا كان للعرف مدخل في مسائل التحليل والتحريم. فإذا قال قائل: إن الله حرم الميتة، والسمك والجراد ميتة فلماذا نأكلها؟ . نرد عليه: إن العرف جرى على أن السمك والجراد ليسا لحماً، بدليل قولهم: «إذا كثر الجراد أرخص اللحم» ، وذلك يعني أن الجراد ليس من اللحم. أما بالنسبة للسمك، فالسمك لم يكن كالميتة التي حرمها الله لأن الميتة المحرمة هي كل ما يذبح ويسيل دمه، والسمك لا نفس سائلة له أي لا دم له. والجراد أيضا لا دم فيه، إذن، فتحليل أكله وهو ميت إنما جاء بسبب عدم وجود نفس سائلة يترتب عليها انتقال ما يضر من داخله إلى الإنسان، وكذلك الكبد والطحال أيضا ليسا بدم؛ فالدم له سيولة، والكبد والطحال لحم متجمد متماسك، خلاصة دم تكّون منه عضو الكبد وعضو الطحال. إذن، السنة لها لدور بيان في التحليل والتحريم، وقوله الحق: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} يعني أنه سبحانه قد حرمها لأجل بقاء الدم في الميتة وعدم سيلانه، ومن باب أولى؛ كان تحريم الدم أمراً واجباً. وحرم الحق «لحم الخنزير» وقلنا إن علة الإقبال عليه الحكم هو أمر الله به، فإذا أثبت الزمن صدق القضية الإيمانية في التحليل؛ فذلك موضوع يؤكد عملية الإيمان، لكن لو انتظرنا وأجلنا تنفيذ حكم الله حتى نتأكد من علة التحريم؛ لكنا نؤمن بالعلماء والاكتشافات العلمية قبل أن نؤمن بالله. لأننا إن انتظرنا حتى يقول العلماء كلمتهم؛ فقد اعتبرنا العلماء آمن علينا من الله. وهل يوجد مخلوق آمن على مخلوق من الخالق؟ . إن ذلك مستحيل. إذن فالمؤمن من يأخذ كل حكم صادر من الله، وهو متيقن أن الله لا يأمره إلا بشيء نافع له، وفي الحقيقة فالشيء الضار غير ضار في ذاته، فقد ينفع في أشياء أخرى. ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى فأنت ساعة تعاقب ابنك بأمر من الأمور، فتحرمه من المصروف أو تحرمه من أكلة شهية، فإن ذلك العقاب ليس ضاراً في ذاته، إنما إغراقك إياه بما يحب ويطلب، مع سيره في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 طريق لا ترتضيه، هو دعوة للابن أن يستمر في فعل ما لا ترتضيه. إن عدم تربية الابن بالثواب والعقاب هو أمر ضار. ولذلك نقول للذين يريدون أن يوجدوا علة لكل مُحَرَّم: أنتم لم تفطنوا إلى تحريم التأديب، فهناك تحريم لأمر لأنه ضار، وهناك تحريم لأمر آخر لأنك تريد أن تحرمه تأديباً له، وأنت لا يصح منك أن تجعل عملية التأديب في القيم دون عملية الإصلاح في المادة البدنية. والحق سبحانه وتعالى أرحم بخلقه من الأب بابنه، وهو قد حرم بعضاً من طيبات الحياة على بني إسرائيل للتأديب، فقال عَزَّ وَجَلَّ: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] فالحق حرم عليهم الطيبات كتأديب لهم على ظلمهم لأنفسهم. إذن، ساعة ترى تحريماً فلا تنظر إلى تحريم الشيء الضار، لكن انظر أيضا إلى أن هناك تحريماً من أجل التأديب، لأن إباحة بعض من الطيبات لهؤلاء مع كونهم مخالفين للمنهج هو إغراء لهم بأن يكونوا مخالفين دائماً، ظالمين لأنفسهم. فالحق قد منع ما يضر الإنسان في بدنه، ومنع أيضا بعضا من الطيبات على بعض المخالفين كتأديب لهم. وبالنسبة لتحريم الخنزير، فقد شاءت إرادة الله عَزَّ وَجَلَّ أن يكشف لخلقه سر التحريم، فأثبت العلماء أن هناك أمراضاً في الخنزير لم تكن معروفة قبل ذلك، وتبين لهم خطورتها مثل الدودة الشريطية، وإِذا كان الحق سبحانه وتعالى قد كشف لهم سراً واحداً هو الدورة الشريطية، فربما هنا أسرار أخرى أخطر من الدودة الشريطية. ويحرم الحق أيضا {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} والإهلال هو رفع الصوت، ولذلك يقال: هلل أي رفع صوته بلا إله إلا الله، ويسمى الهلال هلالاً؛ لأننا ساعة نراه نهلل ونقول: «الله أكبر، ربي وربك الله» وساعة يولد الولد، ويخرج من بطن أمه يتنبه إلى حياته وإلى ذاتية وجوده بعد أن كان ملتحما بذاتية أمه فهو يصرخ، إنه يبدأ حياته بالصراخ، ولذلك فالذين ينتظرون مولد الطفل عندما يستمعون لصرخته يطمئنون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 ولذلك يقول الشاعر: لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد كأن الوليد يقبل على شيء فيه نكد، ولا يلتفت إلى ما في اتساع الدنيا ورغد العيش فيها. وإلا فما يبكيه وإنها لأوسع ما كان فيه وأرغد؟ . فكأن صرخة الوليد هي صرخة الانتقال من رحم الأم إلى مواجهة الحياة. كانت حياة الطفل في بطن أمة رتيبة وغذاؤه من الحبل السري، لكنه ساعة ينفصل من أمه تنقطع صلته بجهاز تحضير الغذاء في رحم الأم، وفقد المدد الغذائي في لحظة خروجه من بطن أمه ولم يأته مدد الرضاعة بعد؛ فالرضاعة من مدد الدنيا، ولا يأخذها إلا إذا أخذ أقل نسبة من الهواء ليدير الرئة، ولذلك يحرص الأطباء في أن ينزل الوليد من جهة رأسه دائماً، لأنه لو نزل من ناحية رجليه ورأسه مازال بالداخل، فإن أنفاسه تكون محبوسة في بطن أمه، ويكاد يموت، ولذلك يكشفون الآن على الأم ليعرفوا وضع الجنين، ويقوم الطبيب بإجراء الجراحة القيصرية حرصا على حياة الوليد، وأول شيء يقوم به الطبيب بعد ميلاد الطفل هو أن يسلك منافذ الهواء إلى أنفه، وبعد ذلك يعالج بقية الأعضاء. إنها صرخة الغريزة، تماماً مثل ما تسهو أُمه عنه وجاء موعد رضعته فهو يصرخ وهكذا نعرف أن الإهلال هو رفع الصوت، وقوله الحق: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} يعني هو رفع الصوت لحظة الذبح، والذبح نوعان: ذبح لنفعك لتأكل ويأكل غيرك، وذبح قربى لله. وما أهل به لله، هو ذبح قربى لله، أما {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} فهو الذبح لمنفعة الإنسان فقط، وتقرباً إلى أصنامهم وأوثانهم وما يعبدونه من دون الله. ومادام الله هو الذي أعطى الحيوانات وسخرها لنا من أجل أن نأكلها؛ فعلينا أن نذكر المنعم، وأن تكون القربى لله وحده هي القصد الأول. ولذلك فالمؤمنون يتقربون ويأكلون، أما الكفار فيأكلون ولا يتقربون لله وإنما يذبحون ويتقربون إلى آلهتهم. والحق سبحانه وتعالى حينما شرع، فتشريعه يضع الاحتمالات، وليس كالمشرعين من البشر الذين تضطرهم أحداث الحياة بعد التشريع إلى أن يغيروا ما شرعوا؛ لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 حدثت أقضية بعد تطبيق التشريع لم تكن في بالهم ساعة شرعوا، وذلك لقصور علمهم عما يحدث في الكون من القضايا التي تضطرهم وتلجئهم إلى أن يعدلوا القانون. فتعديل أي قانون بشري معناه حدوث أقضية لا يوجد لها تكييف في القانون عند التطبيق؛ فيلجأ المشرعون إلى تعديل القانون، ليضعوا فيه ما يتسع لهذه الأقضية. ولكن الحق سبحانه وتعالى ساعة قنن. . فهو يقنن تقنينا يحمل في طياته كل ما يمكن أن يستجد من أقضية دون حاجة إلى تعديل، ولأن الإسلام جاء منهاجاً خاتما ولا منهج للسماء بعده، لذلك كان متضمنا كافة الاحتمالات. لقد كان من المعقول تعديل التقنينات عندما كانت الرسل تتوالى، لكن عندما ختم الله رسالات السماء بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان لابد أن تكون التشريعات التي أنزلها الله على رسوله تحمل في ذاتها ضمانات تكفل ذلك. إذن، فالضرورات التي اقتضت المشروع الوضعي أن يعدل قانوناً غفل عن جزئياته ساعة وضعه الأول، مثل هذه الأمور لا توجد في تشريعات السماء، لأن الله يعلم الأقضية التي تجئ. وهب أن الضرورة التي تستلزم التعديل لم تكن موجودة، وبعد ذلك جدت ضرورات، أكان الحق يميت خلقه لأنه قال: لا تأكلوا الميتة؟ عندئذ كنا سنقول: ما هذه الحكاية؟ صحيح الميتة ستضر، وإنما المخمصة والمجاعة ستميت، فلماذا لا نتحمل أكل ما يضر بدلاً من أن نمتنع عن الأكل فنموت من الجوع؟ إذن فهي عدالة الحق التي قالت: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فالاضطرار له شرط هو: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} . وغير باغ يعني غير متجاوز الحد، فيأخذ على قدر حاجته الضرورية، مثلاً، لا يقول: إن الله أحل الميتة لمثل ما أنا عليه من الاضطرار ويملأ بطنه منها، لا، إن عليه أن يأخذ على قدر استبقاء الحياة. ولا يظن أن ذلك يصبح حلالاً، بل يقول: إن هذا حرام أبيح للاضطرار. وأيضا لابد أن نلحظ قيمة الحقوق المتعلقة بالآخرين، هب أن إنساناً يملك فنجان ماء لا يكفيه إلا ليروي حلقه، وبعد ذلك جاء شخص آخر مضطر وقوي وضربه ليأخذ منه هذا الفنجان. نقول لهذا المعتدي: لا تعتد لأن للملكية سبقاً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 فإن اتسعت لكما كمية الماء معاً فأهلاً وسهلاً، وإن لم تتسع، فصاحب الملكية أولى بالماء، ولا يقولن هذا الآخر: «أنا مضطر لأن آخذها منه» . إن اضطراره سيدفع عنه المضرة ويوقعها في غيره. إذن، فالمقاييس عند الضرورة تظل كما هي، فلابد من احترام الحق والسبق، ولا يصح أن نتجاوز بالضرورة قدرها، هذا معنى قوله: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، وقوله الحق: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} يدل على أن المسألة فيها إثم أباحها الله عَزَّ وَجَلَّ للضرورة؛ وذلك حتى لا نحلها تحليلاً دائماً، فإذا مازالت الضرورة عدنا إلى أصل الحكم. ويختم الحق الآية بقوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ونتساءل: ما علاقة {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بهذه الآية؛ إن المغفرة والرحمة تقتضيان ذنوباً، وما سبق كله هو قول الحق وتشريعه، وتحريم الميتة إلا عند الضرورة هو كلام الحق، والمضطر حين يأخذ منها على قدر الضرورة فإنما هو إباحة من الحق، فلا ذنب إذن يقتضي تذييل الآية بقوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ؟ . ونقول: إذا كان الله يغفر مع الذنب، أفلا يغفر مع الضرورة التي شرع لها الحكم، إن المنطق يقول: إن الله يغفر الذنب الذي يحدث بلا مناسبة تستدعيه، أفلا يغفر للمضطر الذي أجبرته الظروف على أكل الميتة؟ . إن الله غفور في الأصل أفلا يغفر لمن أعطاه رخصة؟ إذن فهو غفور رحيم، ولن يكتب على المضطر ذنباً من جراء اضطراره. إن رحمة الله التي تغفر للعاصي الذي اجترأ على الحق بلا مناسبة، هو سبحانه الذي كتب المغفرة لمن اضطر وكسر قاعدة التحريم عند الاضطرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 إن الحق سبحانه وتعالى ينزل بوساطة رسله على خلقه ليحكم المنهج حركة الحياة للناس وعلى الناس، إنه يحكم للناس أي لمصالحهم، ويحكم على الناس إن فوتوا المصالح، لأن الذي يُفَوِّت مصلحة لسواه عنده، لابد أن يلحظ أن غيره سيفوّت عليه مصلحة عنده. إذن، فمن الإنصاف في التشريع أن تجعل له وعليه، فكل «تكليف عليه» يقابله «تكليف له» ، لأنه إن كان له حق، فحقه واجب على سواه، ومادام حقه واجباً على ما سواه، فلزم أن يكون حق غيره واجباً عليه؛ وإلا فمن أين يأخذ صاحب الحق حقه؟ والحق سبحانه وتعالى حين ينزل المنهج يبلغه الرسل ويحمله أولو العلم؛ ليبلغوه للناس، فالذين يكتمون ما أنزل الله إنما يصادمون منهج السماء. ومصادمة منهج السماء من خلق الله لا تتأتى إلا من إنسان يريد أن ينتفع بباطل الحياة؛ ليأكل حق الناس. فحين يكتمون ما أنزل الله، فقد أصبحوا عوائق لمنهج الله الذي جاء ليسيطر على حركة الحياة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 وما نفعهم في ذلك؟ . لابد أن يوجد نفع لهم، هذا النفع لهم هو الثمن القليل، مثل «الرشا» ، أو الأشياء التي كانوا يأخذونها من أتباعهم ليجعلوا أحكام الله على مقتضى شهوات الناس. فالله يبين لهم: أن الشيء لا يُثمن إلا بتثمين من يعلم حقيقته، وأنتم تُثَمّنون منهج الله، ولا يصح أن يُثَمِّن منهج الله إلا الله. ولذلك يجب أن يكون الثمن الذي وضعه الله لتطبيق المنهج ثمنا مربحا مقنعا لكم، فإن أخذتم ثمنا على كتمان منهج الله وأرضيتم الناس بتقنين يوافق أهواءهم وشهواتهم، فقد خسرتم في الصفقة؛ لأن ذلك الثمن مهما علا بالتقدير البشري، فهو ثمن قليل وعمره قصير. والأثمان عادة تبدأ من أول شيء يتعقل بحياة الإنسان هو قوام حياته من مأكل ومشرب، لذلك قال الله سبحانه وتعالى: {أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} وإذا كانوا يأكلون في بطونهم ناراً فكيف يكون استيعاب النار لكل تلك البطون؟ لأن المؤمن كما قال الرسول يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء، أي أن الكافر لا يأكل إلا تلذذاً بالطعام؛ فهو يريد أن يتلذذ به دائما حتى يضيق بطنه بما يدخل فيه. لكن المؤمن يأخذ من الطعام بقدر قوام الحياة، فسيد الخلق محمد بن عبد الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول في الحديث الشريف: «حسب ابن آدم لقيمات يقمن أوده» . إذن فالأكل عند المؤمن هو لمقومات الحياة وكوقود للحركة، ولكن الكافر يأخذ الأكل كأنه متعة ذاتية. والحق يقول: {أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} يعني كما أرادوا امتلاء بطونهم شهوة ولذة، فكذلك يجعل الله العذاب لهم من جنس ما فعلوه بالثمن القليل الذي أخذوه، فهم أخذوا ليملأوا بطونهم من خبيث ما أخذوا وسيملأ الله بطونهم ناراً، جزاء وفاقا لما فعلوا، وهذا لون من العقاب المادي يتبعه لون آخر من العقاب هو {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} أي أن الحق ينصرف عنهم يوم لا أنس للخلق إلا بوجه الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 ونحن حين نقرأ كلمة «لا يكلم فلان فلاناً» نستشعر منها الغضب؛ لأن الكلام في البشر هو وسيلة الأنس، فإذا ما امتنع إنسان عن كلام إنسان، فكأنه يبغضه ويكرهه. إذن {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} معناها أنه يبغضهم، وحسبك بصدود الله عن خلقه عقابا وعذابا. لقد والاهم بالنعمة وبعد ذلك يصد عنهم. ويقول قائل: كيف نقرأ هنا أن الحق لا يكلمهم، وهو سبحانه القائل: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 106 - 108] نقول: صحيح أنه سبحانه يقول لهم: {وَلاَ تُكَلِّمُونِ} ولكن الكلام حين ينفي من الله فالمقصود به هو كلام الحنان وكلام الرحمة وكلام الإيناس واللطف، أما كلام العقوبة فهو اللعنة. إذن {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} أي لا يكلمهم الحق وصلا للأنس. ولذلك حين يؤنس الله بعض خلقه يطيل معهم الكلام. ومثال ذلك عندما جاء موسى لميقات ربه، ماذا قال الله له؟ قال عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17] فهل يعني هذا السؤال أن الله يستفهم من موسى عما بيده؟ . إنه سؤال الإيناس في الكلام حتى يخلع موسى من دوامة المهابة. وضربنا مثلا لذلك ولله المثل الأعلى حينما يذهب شخص إلى بيت صديقه ليزوره، فيأتي ولده الصغير ومعه لعبة، فيقول الضيف للطفل: ما الذي معك؟ إن الضيف يرى اللعبة في يد الطفل، لكن كلامه مع الطفل هو للإيناس. وعندما جاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 كلام الله بالإيناس لموسى قال له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17] كان يكفي موسى أن يقول: عصا، وتنتهي إجابته عن السؤال، ولو قال موسى: عصا، لكان ذلك منه عدم استيعاب لتقدير إيناس الله له بالكلام، لكن سيدنا موسى عليه السلام انتهز سؤال الله له ليطيل الأنس بالله فيقول: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] تأمل التطويل في إجابة موسى. إنّ كلمة {هِيَ} زائدة، و {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} زائدة أي غير محتاج إليها في إفادة المعنى، و {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} تطويل أكثر «و {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} رغبة منه في إطالة الحديث أكثر. إذن فكلام الله والنظر إليه سبحانه افضل النعم التي ينعم الله بها على المؤمنين يوم القيامة. فإذا كان الله سيمنع عن الكافرين وسائل التكريم المادي فلا يكلمهم، فهذه مسألة صعبة. {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وبعد أن يحرمهم من الكلام والاستئناس بحضرته؛ ولا يطهرهم من الخبائث التي ارتكبوها؛ ولا يجعلهم أهلا لقربه، بعد ذلك يعذبهم عذاباً شديداً؛ كأن فيه عذابا سابقا؛ ثم يأتي العذاب الأشد، لأنهم لابد أن يلاقوا عذابا مضاعفاً، لأنهم كتموا منهج الله عن خلق الله، فتسببوا في إضلال الخلق، فعليهم وزر ضلالهم وأوزار فوق أوزارهم لأنهم أضلوا سواهم. ومسألة كلام الله للناس أخبرنا بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر» . ما سر حرمان هؤلاء من كلام الله وتزكيته والنظر إليهم؟ إن الشيخ الزاني يرتكب إثماً، لا ضرورة له لأنه لا يعاني من سعار المراهقة. والملك الذي يكذب، إنما يكذب على قوم هم رعيته، والكذب خوف من الحق، فمِمّنْ يخاف الملك إذا كان الناس تحت حكمه؟ . وعائل الأسرة عندما يصيبه الكبر وهو فقير، سيسبب له هذا الكبر الكثير من المتاعب ويضيق عليه سبل الرخاء وسبل العيش ويجعله في شقاء من العيلة، فإن أراد أحد مساعدته فسيكون الكبر والاستعلاء على الناس حائلاً بينه وبين مساعدته، وهذا هو معنى «لا يكلمهم ولا يزكيهم» ، فما معنى «ولا ينظر إليهم» ؟ إن النظر شراك العطف، ولذلك يقطع الحق عنهم باب الرحمة والعطف من الأصل، وهو النظر إليهم، ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم، وعندما تسمع صيغة «فعيل» فنحن نأخذها بمعنى فاعل أو مفعول، لذلك نفهم «أليم» على أنه مؤلم. ثم يقول الحق: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 يذكر الله لنا حيثية الحكم عليهم؛ ولماذا لا يكلمهم؛ ولماذا لا يزكيهم، ولماذا يكون لهم في الآخرة عذاب أليم؟ إنّهم قد بدلوا الضلالة بالهدى؛ والعذاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 بالمغفرة. وعندما ترى فظاعة العقاب فلا تستهوله، ولكن انظر إلى فظاعة الجرم. إن الناس حين يفصلون الجريمة عن العقاب فهم يعطفون على المجرم؛ لأنهم لا يرون المجرم إلا حالة عقابه ومحاكمته ونسوا جريمته، ولذلك فساعة ترى عقوبة ما وتستفظعها؛ فعليك استحضار الجرم الذي أوجب تلك العقوبة. ولذلك نجد الناس غالباً ما يعطفون على كل المجرمين الذين يحاكمون وتصدر عليهم عقوبات صارمة، لأن الجريمة مر عليها وقت طويل، ولم نرها، وآثارها وتبعاتها انتهت. ولم يبق إلا المجرم؛ فيعطفون عليه، ولذلك فمن الخطأ أن تطول الإجراءات في المحاكمات، بل لابد من محاكمة المجرم من فور وقوع الجريمة وهي ساخنة؛ حتى لا يعطف عليه الجمهور، لأن تعطيف قلب الجمهور عليه يجعل العقوبة قاسية. {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} ونعرف أن «الباء» تدخل على المتروك، فالضلالة هنا أُخِذَتْ وترك الهدى، واستبدلوا العذاب بالمغفرة، وماداموا قد أخذوا الضلالة بدلا من الهدى، والعذاب بدلا من المغفرة، فالعدالة أن يأخذوا العذاب الأليم. وبعد ذلك يقول الحق: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} هذا تبشيع للعقاب حتى يُنَِّفر منه الناس. ويريد منا الله أن نتعجب، كيف يجوز للضال أن يترك الهدى ويأخذ الضلال، وبعد ذلك تكون النتيجة أن يأخذ العذاب ويترك المغفرة. فما الذي يعطيه الأمل في أن يصبر على النار؟ ، هل عنده صبر إلى هذا الحد يجعله يقبل على الذنب الذي يدفعه إلى النار؟ . وما الذي جعله يصبر على هذا العذاب؟ أعنده قوة تُصَبِّره على النار؟ وما هذه القوة؟ . وكأن الحق يقول: أنت غير مدرك لما ينتظرك من الجزاء وإلا ما الذي يصبرك على هذه النار؟ إنك تتمادى في طغيانك وضلالك، وتنسى أن النار ستكون من نصيبك؛ فإذا كنت متيقناً أن النار من نصيبك؛ فكيف أخذت أماناً من صبرك على النار. فالنار أمر لا يصبر عليه إنسان أبداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 ويقول الحق بعد ذلك: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 وذلك إشارة إلى ما تقدم، وما تقدم هو الضلالة التي أخذوها وتركوا الهدى، والعذاب الذي أخذوه بدلاً من المغفرة، ونار يعذبون فيها، وقد صبروا عليها، إنها ثلاثة أشياء ملتقية؛ العذاب، والضلالة، والنار. فالضلال هو السبب الأصيل في العذاب، فإذا قال الله: عاقبتهم بكذا لأنهم ضلوا، فذلك صحيح، وإذا قال: فعلت فيهم ذلك لأنهم استحقوا العذاب، فهو صادق، والعذاب كحكم عام يكون بالنار. إذن، عندما يقول الحق: بالنار أو بالعذاب أو بالضلال فمرجعها جميعا واحد، يقال عنه: «ذلك» . {ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق} والذي يغير الكتاب ويكتمه إنما يكره الحق. {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . إنها هوة واسعة يسقطون فيها، فالشقاق في القيم المنهجية السماوية هو هوة كبيرة، فلو كان الخلاف في أمور مادية لأمكن للبشر أن يتحملوها فيما بينهم، ولكانت مسألة سهلة. ولكن الخلاف في أمر قيمي لا يقدر البشر على أن يصلحوه فيما بينهم، من هنا فإن شقة الخلاف واسعة، ولا يقوى على حلها إلا الله، ولذلك قال سبحانه: {إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون} [الزمر: 3] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 وعندما جاء الأمر من الحق سبحانه وتعالى بتحويل القبلة إلى الكعبة واتجاه المسلمين في صلواتهم إليها بعد أن كانوا يصلون ووجهتهم إلى بيت المقدس، عند ذلك حدثت بلبلة، وصار لكل أتباع ملة قبلة خاصة: فالمسلون يتجهون إلى الكعبة، واليهود يتجهون إلى بيت المقدس، والنصارى يتجهون إلى الشرق. وهذه الآية تؤكد أن الخلاف ليس في مسألة اتجاه الصلاة، وقبل تحويل القبلة كان كل من يصلي يتجه إلى مُتجه، وتغيير المتجه ليس فيه مشقة. والحق سبحانه وتعالى يقول لهم: لا تجعلوا أمر الاتجاه إلى الكعبة هو كل البر؛ لأن هذا الأمر لا مشقة فيه؛ فلا مشقة في توجه المسلمين إلى الكعبة بعد أن كانوا متوجهين إلى بيت المقدس، إنما المسألة هي امتثال لأمر الآمر، فالبر إذن ليس في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 الأمور السهلة التي لا مشقة فيها، وإنما في الخير الواسع الكثير، ويشمل الإيمان ويشمل التقوى، ويشمل الصدق، ويشمل الطاعة، ويشمل الإحسان، وكل وجوه الخير تدخل في كلمة «البر» . فالبر معناه كبير واسع، ومادام معناه متسعا هكذا فكل ناحية منه تحتاج إلى مشقة. وانظروا إلى مطلوب البر، ومتعلقات البر التي تتطلب منكم المشقة، ولا تختلفوا في المسألة السهلة اليسيرة التي لا يوجد فيها أدنى تعب مثل مسألة تغيير اتجاه القبلة، فإن كنتم تعتقدون أن ذلك هو البر نقول لكم: لا، البر له مسئوليات تختلف، إن مُتعلق البر هو أن يُختبر صدق الإيمان، ويظهر الإيثار لمطلوب الله على الراحة، ويتطلب من المؤمن أن يقبل على الطاعة وإن شقت عليه، ويتطلب أن يمتنع المسلم عن المعاصي؛ وأن يعرف أن للمعاصي لذة عاجلة، لكن عقابها كبير، كل ذلك هو من مطلوبات البر والإيمان، فلا تجعلوا مسألة التوجه إلى الكعبة أو إلى بيت المقدس، أو إلى المشرق هو المشكلة؛ لأن وجوهكم ستتولى إلى جهة ما وإن لم تؤمروا. والبر كما نعلم هو الخير الواسع الذي يشمل كل وجوه الجمال في الكون يقول الحق: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} . ولماذا جعل الله الحديث عن البر حديثا عن ذات مجسدة؛ برغم أن البر معنى؟ . إن الحق يجسد المعنى وهو البر في ذات العبد الذي آمن لأنه سبحانه حينما يريد أن يؤكد معنى من المعاني يجعل الذات مجسدة فيه. وعلى سبيل المثال ولله المثل الأعلى عندما نقول: «فلان عادل» ، أي نحن نصفه بما يحقق للسامع أنه رجل يعرف العدل. ولكن عندما نقول: «فلان عدل» فكأنه هو العدل ذاته، وكذلك عندما نقول: «فلان صادق» فمعنى ذلك أنه صاحب ذات اتصفت بالصدق، ومن الممكن للذات أن تنفصل عن الصدق يوما، ولكن حين نقول: «فلان صدق» فمعنى ذلك أن الصدق قد امتزج به فلا ينحل عنه أبدا، أو أن الحق يريد أن يقول لنا: لكن صاحب البر هو من آمن بالله، أو يقول: «ولكن البر هو بر من آمن بالله» ، أو أن الإخبار بالذات «من آمن» عن الصفة «البر» دليل على امتزاج الذات في الصفة امتزاجا لا تتخلى عنه أبدا فكأن البر قد تجسد فيهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 وكل هذه الأقوال يتسع لها النص القرآني الكريم. والحق يقول: {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله} هذه بداية الإيمان، ويأتي بعد ذلك بنهاية الإيمان وهو ضرورة الإيمان ب {اليوم الآخر} ، إن بداية القوس هي الإيمان بالله وطرفه الأخير الإيمان باليوم الآخر. وهنا نتساءل: وكيف يأتي الإيمان باليوم الآخر؟ نقول: يأتي الإيمان باليوم الآخر بأن تؤمن بالله ثم تؤمن بما يخبرك به الله، فلا تقل: أنا جعلتهما في صف واحد، بل الإيمان بالله أولا، وبعد ذلك الإيمان بما أخبرني به الله، وقد أخبر سبحانه: أن هناك يوما آخر، فصدقت ما أخبر به. وتأتي مسألة الإيمان بالملائكة فيقول الحق: {والملائكة} فكيف نؤمن بخلق من خلق الله لا نراه؟ . إننا مادمنا قد آمنا بالقمة، وهي الإيمان بالله، والله أخبرنا بأن هناك ملائكة، وحتى لو كان وجود الملائكة غيبيا فنحن نؤمن بها؛ لأن الذي أخبر بها هو الله، وكذلك نؤمن بالجن برغم أننا لا نراه، وكل ما يتعلق بالغيبيات هو إخبار ممن آمنت به، لذلك تؤمن بها. والمسائل الإيمانية كلها غيبية، ولا تقول في الأمر الحسي: «إنني آمنت به» ، إنما تقول: «آمنت» في الأمر الغيبي؛ لأنه أمر غيبي لا تأنس به الحواس والإدراكات، وتريد أن تجعله عقيدة، والعقيدة هي أمر يُعقد فلا ينحل أبدا، ولأنه أمر غيبي فربما ينفلت منا؛ لأنه لو كان أمرا مشهديا لما غفل عنه الإنسان أبدا؛ لأن مشهديته ستجعلك تتذكره، إنما هو أمر غيبي، ويسمى عقيدة، أي أمراً معقوداً لا يُحل أبدا. والقمة العقدية هي أن تؤمن بالله، ثم تؤمن بما يخبرك به الله من غيبيات لا دليل لك عليها إلا أن الله قال بها، فإن رأيت في متعلقات الإيمان أمورا محسة فاعلم أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 الجهة في الإيمان منفكة؛ لأنه سيأتي ذكر الملائكة واليوم الآخر وكلاهما غيب، وبعد ذلك سيذكر الكتاب والنبيين، وهما محسوسان. صحيح أن الكتاب أمر محس والنبيين كذلك، لكننا لم نحس أن الله أنزل الكتاب، وأن الله بعث النبيين. ونحن لم نكن على قيد الحياة وقت نزول الكتاب ولا وقت بعث النبي، وجاء إيماننا لأننا صدقنا أن الله أنزل وحياً على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الوحيث نزل بالكتاب، وأن الله اختار محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليكون مبلغا لهذا الوحي، وكل هذه أمور غيبية لم نرها. والغيبيات هي أرضية الحركة الإيمانية؛ أو أساس الإيمان. وبعد ذلك تنتقل الآية من الحديث عن الأمر العقدي، لتبين لنا أن البر مكون من أمور عقدية هي أساس لأمور حركية، والأمور الحركية هي المقصودة من كل تدين. فالحق سبحانه لا يعنيه أن يؤمن به أحد، ولا يعنيه أن تؤمن بملائكته، وكتبه ورسله، لكن الأمر الذي يريده الله هو أن تنتظم حركة الحياة في الأرض بمنهج الله، ولذلك ينتقل الحديث إلى الأمر المادي فيقول: {وَآتَى المال على حُبِّهِ} كأن الإنسان قد ملك المال وبعد ذلك «آتاه» . وعندما تقول: «آتيت» فهي تعني أعطيت، وهي تختلف عن «أتيت» التي تعني «جئت» . وما هو المال؟ إن المال هو كل ما يتمول إلا أننا نصرفه إلى شيء يمكن أن يأتي بكل متمول وأسميناه بالنقد. وأصبحت له الغلبة؛ لأننا نشتري بالنقد كل شيء، لكن المعنى الأصلي للمال هو كل ما يتمول، وكيف يجئ المال لك أو لي أو لأي إنسان؟ . أَخَرَجَ أحد منا من بطن أمه وهو يملك شيئا؟ . لا. إن ما يملكه الإنسان يأتي إما من متحرك في الحياة قبلك إن كان والدك أو جدك وإما من حركتك أنت. إذن لا يقال: «آتى المال» إلا إذا ثبتت له حركة ذاتية يصير بها متمولا، أو ورث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 عن متمول، والمتمول هو الذي يتحرك في الحياة حركة قد تكون لنفسه، وإن اتسعت حركته فستكون لأبنائه، وإن اتسعت أكثر فستكون لأحفاده. والحق يقول: {وَآتَى المال على حُبِّهِ} وكلمة الحب مصدر، والمصدر أحيانا يضاف إلى فاعله، وأحيانا يضاف إلى المفعول الواقع عليه، مثلا كلمة «ضرب» نحن نقول: ضرب زيد عُمَرَ، وهكذا نجد ضاربا هو «زيد» ومضروبا هو «عمَر» . وإذا قيل: «أعجبني ضَرْبُ زيدٍ» . إن قلت: «لعمر» عرفنا الضارب والمضروب، وإن سكت عند قولك: أعجبني ضرب زيد «فهي تحتمل معنيين، الضرب الصادر من زيد، أو الضرب الواقع على زيد. فساعة تأتي بالمصدر ويضاف إلى شيء فيصح أن يضاف إلى فاعله وأن يضاف إلى مفعوله. {وَآتَى المال على حُبِّهِ} يمكن أن نفهمه على أكثر من معنى: يمكننا أن نفهمها على أنه يعطي المال وهو يحب المال، ويحتمل أن نفهمها على أنه يؤتي المال لأنه يحب أن يعطي مما يحبه من المال عملا بقول الله تعالى {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} . . وهي تحتمل المعنيين. ويمكن أن تُصَعِّد المعنى فيصير» وآتى المال على حب الإيتاء أي الإعطاء «أي يُحب الإعطاء وترتاح نفسه للإعطاء، ومن الممكن تصعيدها تصعيدا آخر يشمل كل ما سبق فيصبح المعنى: وآتى المال على حب الله الذي شرع له ذلك، وكل هذه المعاني محتملة. والحق يقول: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان: 8] ويقول سبحانه أيضا: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 وتعطينا كل هذه الآيات وضوح الفرق بين الملكية، وبين حب المملوك، فمن الممكن أن تكون لديك أشياء كثيرة أنت مالكها، ولكن ليس كل ما تملكه تحبه، فعندما تؤتي المال فمن المحتمل أن تكون قد نزعته من ملكيتك وأنت لا تحبه. وبذلك أخرجته من ملكيتك فقط، وإما أن تكون محبا للشيء الذي تعطيه لغيرك، وبذلك تكون قد أخرجته من ملكيتك، ومن حبك له. وإما أن يكون المال الذي في يدك مجرد أداة لك ولغيرك وليس له مكانة في قلبك ولذلك يقول الشاعر: لا أبالي توفير مالي لدهري ... منفقا فيه في رخاء وبأس إن يكن في يدي وليس بقلبي ... فهو ملكي وليس يملك نفسي إن قوله الحق: {وَآتَى المال على حُبِّهِ} تعطينا إما منزلة إخراجه من الملك وإما منزلة إخراجه من القلب الذي يحبه. ولذلك يعيب الحق على جماعة من الناس يريدون العمل على طاعة الله، لكنهم لا ينفقون لله إلا مما يكرهون. ويقول الله في حقهم {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} . ولكن لمن يكون ذلك المال الذي ينطبق عليه القول: {وَآتَى المال على حُبِّهِ} ؟ . إنه، ل {ذَوِي القربى} ألا ترون إنساناً له حركة في الحياة قد اتسعت لنفسه، ثم نرى قرباه الذين لا يقدرون على الحركة محتاجين، كيف تكون حالة نفسيته إذن؟ . لابد أن تكون نفسية متعبة؛ لأن المفروض في الإنسان المؤمن أن يجعل كل الناس قرباه، ونذكر في هذا المقام قصة معاوية عندما كان أميراً للمسلمين، ودخل عليه الحاجب وهو يقول: يا أمير المؤمنين رجل بالباب يدعي أنه «أخوك» ، فقال معاوية: أبلغ بك الأمر ألا تعرف إخوتي؟ أدخله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 فلما دخل الرجل قال له معاوية: أي إخوتي أنت؟ قال: أخوك من آدم. فماذا قال معاوية:؟ . قال: رحمٌ مقطوعة، والله لأكونن أول من وَصلها. وأكرمه. فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يصل قرباه من الناس كافة، ألا يستطيع أن يصل خاصة أقاربه؟ . كيف يستطيب المؤمن إذن نعيم الحياة وهو يجد أقاربه محتاجين، حتى لو نظرنا بعيدا عن الدين والإنسانية، ألا تستحق المسألة أن يجود الإنسان بما عنده على أهله؟ . وفي دائرة الإيمان حين يجعل الله حركة الحياة في التكافل دوائر، فهو سبحانه يريد أن يوزع خير المجتمع على المجتمع؛ لأنه سبحانه حينما أراد استبقاء النوع شرع لنا طهر الالتقاء بين الرجل والمرأة بعقد علني وشهود، لماذا؟ . لأن الثمرة من الزواج هي الأبناء التي ستأتي بقطاع جديد من البشر في الكون، وهذا القطاع لابد أن يكون محسوبا على الرجل أمام الناس، وإن لم يرع الرجل في أبنائه حق الله يلمه الناس على ذلك لأنهم أبناؤه. ولذلك عندما نرى شخصا يخفي زواجه، كأن يتزوج زواجا عرفيا مثلا نقول له: أنت تريد أن تأتي بثمرة منك ثم تنكرها، فيأتي أبناء غير محسوبين عليك. ولذلك فلنكن على ثقة من أن كل مشرد في الأرض نراه هو نتيجة لخطيئة إما معلنة، وإما لا يقدر على إعلانها رجل لم يتحمل مسئولية علاقته بالمرأة، ولا يهمل رجل ولدا منسوبا له إلا إذا تشكك في نسبه إليه، وهذا ما يجعله ينكر نسبه. إذن فعملية الطهر التي أرادها الله سبحانه وتعالى في الالتقاءات بين الرجل والمرأة، إنما أرادها سبحانه لأنه يشرع لبناء أجيال جديدة، ينشأ منها مجتمع المستقبل، وقبل أن يوجد هؤلاء الأبناء لابد أن يكون لهم رصيد وأساس يتحملهم، فجعل الله لنا الأولاد والأحفاد، ويوصي الله الأبناء على الوالدين قبل ذلك، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 تتسع الدائرة للقرابة القريبة. وهات واحدا واصنع له هذه الدائرة، وهات آخر واصنع له الدائرة نفسها، وثالثاً واصنع له دائرته، واصنع إحصاء للقادرين وحدد دوائرهم العائلية، ستجد كل إنسان في الكون يدخل في دائرة من هذه الدوائر، فإن رأيت عوجا فاعلم أن مركز الدائرة قد تخلى عن محيط الدائرة. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى} ، تأمل إذن الحث على البر تجد أن أول ما جاء فيه هو إيتاء ذوي القربى؛ لأن لهم مكانة خاصة؛ وعندما يؤتي كل منا قرباه ويحملهم على فائض ماله وفائض حركته فلن يوجد محتاج وإذا وُجِدَ المحتاج فسيكون نزراً يسيراً، وتتسع له الزكاة الواجبة. أو كما قال بعض العلماء: المقصود بذوي القربى هم قربى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يقولون ذلك؛ لأن في القرآن آية تقول: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] ولماذا قربى رسول الله؟ لأنهم ليس لهم حق في الزكاة؛ حتى يبرأ المبلغ عن الله من أي نفع يعود عليه، أو يعود على آله، لذلك منع الله عنهم أي حق في الزكاة. وكأن الله يريد أن يقول لنا: لا يصح أن تجعلوا الناس الذين رفعهم الله وكرمهم عن أخذ الزكاة التي يأخذها أي فقير منكم ممنوعين من أخذ كل شيء، فلابد أن تتخذوهم أقارب لكم بحيث لا تجعلونهم محتاجين. وعلى فرض أن الآية تريد قُرباناً نقول: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، فقرباه وآله أولى من قربانا وأهلنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 وبعد ذلك جاء الله بقوله: {واليتامى} ، ونعرف أن اليتيم هو من فقد أباه ولم يبلغ مبلغ الرجال. واليتيم في الإنسان غير اليتيم في الحيوان؛ فاليتيم في الحيوان هو من فقد أمه، ولكن اليتيم في الإنسان هو من فقد أباه. واليتيم لا يكون له وصي إلا إذا كان عنده شيء من مال، عندئذ يكون هناك وصي لإدارة أمور اليتيم. ولذلك جاء الحق بالأمر بإعطاء المال على حبه لليتامى، ولم يقل: «لذوي اليتامى» . فربما كان هناك يتيم ضاع لا يتقدم أحد للوصاية عليه، وليس عنده ما يستحق الوصاية؛ لذلك فعلينا أن نؤتي اليتيم من مال الله حتى ندخل في صفات البر، أو نعطي للوصي على اليتيم لينفق عليه إن كان له وصي. وكذلك نؤتي المال للمساكين، والمسكين مأخوذة من السكون، وهو الإنسان الذي لا قدرة له على الحركة، كأن استخذاءه وذله في الحياة منعاه من الحركة. واختلف الفقهاء حول من هو الفقير، ومن هو المسكين، قال بعضهم: إن الفقير هو من لا يملك شيئا، والمسكين يملك ما لا يكفيه، أي يملك شيئا دون ما يحتاجه، وقال البعض الآخر: إن الفقير هو الذي يملك ما هو دون حاجته، والمسكين من لا يملك. وعلى كل حال فقد شاءت حكمة الله عَزَّ وَجَلَّ أن يجعل للفقير نصيبا من البر وللمسكين أيضا نصيبا كالآخر، والخلاف بين العلماء لا يؤدي إلى منع أحدهما من المال، لأن كلا منهما المسكين والفقير يستحق من مال الله. وعلى ذلك فالخلاف لا طائل من ورائه. وكذلك نؤتي المال لابن السبيل، والسبيل هو الطريق، وابن السبيل هو ابن الطريق، وعادة ما يُنسب الإنسان إلى مكانه أو إلى بلده، فإذا قيل ابن السبيل، فذلك يعني أنه ليس له مكان يأوي إليه إلا الطريق، فهو رجل منقطع، وقد يكون ابن سبيل ذا مال في مكانه، إلا أن الطريق قطعه عن ماله وباعد بينه وبين ما يملك أو يكون ذا مال وسرق منه ماله، فهو منقطع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 ولماذا جعل الله نصيبا من البر لابن السبيل؟ . لقد جعل الله نصيبا من المال لابن السبيل حتى يفهم المؤمن أن تكافله الإيماني متعد إلى بيئة وجوده، فحين يوجد في مكان وينتقل إلى مكان آخر يكون في بيئة إيمانية متكافلة. ونؤتي المال أيضا للسائلين أي الذين يضعون أنفسهم موضع السؤال، أعط من يسألك ولو كان على فرس؛ لأنك لا تعرف لماذا يسأل، إن بعضاً من الناس يبررون الشُّح فيقولون: إن كثيرا من السائلين هم قوم محترفون للسؤال، ونقول لهم: مادام قد سأل انتهت المسألة، وعمدتنا في ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعطوا السائل وإن جاء على ظهر فرس» . وما دام قد عرض نفسه للسؤال فأعطه ولا تتردد. قد تظن أنه يحمل حقيبة ممتلئة بالخبز، أو يخفي المال بعيداً. وأقول: قد يكون عنده خبز لكنّه لا يكفي أولاده، وقد يخفي المال الذي لا يكفيه، ولن تخسر شيئاً من إعطائه، فلأن تخطئ في العطاء، خير من أن تصيب في المنع. ونؤتي المال أيضاً لمن هم {وَفِي الرقاب} وكلمة «رقبة» تُطلق في الأصل اللغوي على أصل العنق، وليس على العنق نفسه. وتطلق كلمة الرقبة على الذات كلها، أي الإنسان في حد ذاته، لماذا؟ لأن حياة الإنسان يمكن أن تملكها من الرقبة، فتستطيع أن تمسك إنساناً من رقبته وتتحكم فيه وتضغط عليه ضغطاً تمنع تنفسه إلى أن يموت، لذلك تطلق الرقبة ويراد بها الشخص ذاته: وفي ذلك يقول القرآن: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 12 - 13] أي فك الأسير، إذن {وَفِي الرقاب} تعني فك أسر العبد، ويمكن لصاحب البر أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 يشتري العبيد ويعتقهم، أو يسهم في فك رقابهم فذلك لون من ألوان تصفية الرق، وفي تصفية الرق هناك شيء اسمه التدبير، وشيء اسمه المكاتبة. هب أن عبداً يخدمك وبعد ذلك ترى أنه أخلص في خدمتك، فثمناً لإخلاصه في خدمتك مدة طويلة قررت أن تُدَبّره بعد موتك، أي تعطيه حريته فيصبح حراً بعد موتك، فكأنك علقت عبوديته على مدى حياتك، وبعد انتهاء حياتك يصبح مدبراً أي حراً، ولا يدخل في تركتك، ولا يُوَرث. وقد تكاتبه على مال فتقول له: يا عبد أنا أكاتبك على مائة جنيه، وأطلق حركتك لتتصرف أنت وتضرب في الحياة وتكسب وتأتي لي بالمائة جنيه، ثم أطلق سراحك، وفي هذه الحالة فإن على أهل البر أن يعاونوا هذا المكاتب ليؤدي مال الكتابة حتى يفك رقبته من الأسر. ومن البر أيضا إقامة الصلاة، كأن المعنى: «ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة» ونعرف أن معنى إقامة الصلاة هي أداء الصلاة في أوقاتها على الوجه المطلوب شرعاً. ومن البر أن نؤتي الزكاة، فكأن كل ما سبق {وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب} لا علاقة لها بالزكاة، إن كل ذلك هو بّر آخر غير المطلوب للزكاة، لأن الزكاة لو كانت تدخل فيما سبق لما كان الله كرَّرها في الآية. هذه أوجه البر التي ذكرتها الآية من إيتاء ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكل ذلك لمن أراد أن يدخل في مقام الإحسان، فمقام الإحسان كما نعرف هو أن تلزم نفسك بشيء لم يفرضه الله عليك، إنما تحس أنت بفرح الله بك ورضاه عنك فيقبله الله منك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 ولذلك عندما سُئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل في المال حق غير الزكاة؟ ذكر هذه الآية: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة: 177] إذن فتلك أوجه البر المطلوبة، والزكاة أيضا مطلوبة. ففي مصرف الزكاة لا يوجد ذوو القربى ولا اليتامى. صحيح أن في مصارف الزكاة إعطاء المسكين وابن السبيل، لكن في البر هناك أشياء غير موجودة في الزكاة، فكأنك إن أردت أن تفتح لنفسك باب البر مع الله، فوسع دائرة الإنفاق، وستجد أن البر قد أخذ حيزاً كبيراً من الإنفاق؛ لأن المنفق مستخلف عن الله. فالله هو الذي استدعى الإنسان إلى الوجود، ومادام هو المستدعي إلى الوجود فهو سبحانه مكلف بإطعامه، وأنت إذا أنفقت على المحتاج الذي استدعاه الله للوجود فإنك تتودد إلى الله بمساعدة المحتاجين من خلقه دون أن يلزمك به الله، ولذلك يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] إذا كان هو سبحانه الذي أعطى المال، فكيف يقول: أقرضني؟ . نعم، لأنه سبحانه لا يرجع فيما وهبه لك من نعمة المال، إن المال الذي لك هو هبة من الله، ولكن إن احتاجه أخ مسلم فهو لا يقول لك «أعطه من عندك أو اقرضه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 عندك» ، إنما يقول لك: «أقرضني أنا، لأني أنا الذي أوجدته في الكون ورزقه مطلوب مني» ، فكأنك حين تعطيه تقرض الله، وهذا معنى قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} . إنه سبحانه وتعالى متفضل بالنعمة ثم يسألك أن تقرضه هو. ولنضرب على ذلك مثلاً من أمر الدنيا وسبحانه وتعالى منزه عن كل مثل وله المثل الأعلى هب أنك محتاج وفي ضائقة مالية، وعندك أولاد ولهم مبالغ مدخرة مما كنت تعطيهم من مال فتقول لهم أقرضوني ما معكم من مال؛ وسأرده لكم عندما تمر الضائقة. كأنك لم ترجع في هبتك وما أعطيته لهم من مال، إنما اقترضته منهم، كذلك يفعل الله سبحانه وتعالى. وكذلك لنا عبرة وعظة من السيدة فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عندما دخل عليها سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرآها ممسكة بدرهم، والدرهم يعلوه الصدأ وأخذت تجلوه، فسألها أبوها: ما تصنعين يا فاطمة؟ قالت: أجلو درهما. قال: لماذا؟ قالت: لأني نويت أن أتصدق به، قال: ومادمت تتصدقين به فلماذا تجلينه؟ قالت: لأني أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد المحتاج. ومن البر أيضا أن يفي الإنسان بالعهد، فالحق يقول: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} . وما معنى العهد؟ . إن هناك عهداً، وهناك عقد. والعهد يوجد من طرفين تعاهدا على كذا، لكن قد يستطيع أحدهما العطاء ولا يستطيع الآخر الرد. والعقد يوجد بين طرفين أيضاً، أحدهما يعطي ويأخذ، والآخر يعطي ويأخذ. ومن البر أن تكون من {والصابرين فِي البأسآء والضراء} . ولنا أن نلحظ أن الحق جاء ب {والموفون بِعَهْدِهِمْ} مرفوعة لأنها معطوفة على خبر لكن البر، فلماذا جاء {والصابرين} منصوبة؟ فماذا يعني كسر الإعراب؟ إن الأذن العربية اعتادت على النطق السليم الفصيح فإذا كان الكلام من بليغ نقول: لم يكسر الإعراب هنا إلا لينبهني إلى أن شيئاً يجب أن يفهم، لأن الذي يتكلم بليغ ومادام بليغاً وقال قبلها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 {والموفون} ثم قال: {والصابرين} فلابد أن يكون هناك سبب، ما هو السبب؟ . إن كل ما سبق مطيةُ الوصول إليه هو الصبر، إيتاء المال على حبه ذوي القربى و. . و. . ولذلك أراد الله أن ينبه إلى مزية الصبر فكسر عنده الإعراب، وكسر الإعراب يقتضي أن نأتي له بفعل يناسبه فجاء قوله تعالى: {والصابرين} وكأن معناها: وأخص الصابرين، ومدح الصابرين. إذن كسر الإعراب هنا غرضه تنبيه الآذان إلى أن شيئاً جديداً استحق أن يُخالف عنده الإعراب. لأن الصبر هو مطية كل هذه الأفعال، فالذي يقدر في الصبر على نفسه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. وإيتاء المال على حبه هو الذي فاز وظفر، إذن كل ذلك امتحان للصبر. ومن هنا خص الله {والصابرين} بإعراب مخالف حتى نفهم أنه منصوب على المدح، أو على الاختصاص. ولماذا خص الله الصابرين بالمدح؟ . لأن التكليفات كلها تعطي مشقات على النفس، ولا يستطيع تحمل هذه المشقات إلا من يقدر على الصبر. ومادام قد قدر على الصبر فكل ذلك يهون. ومن هنا خص الله الصبر بهذه الميزة. والمهم أن الآية جاءت بالصابرين بعد {والموفون} حتى تكون النقلة ملحوظة ومتيقنة، بأن الإعراب فيما سبق {والصابرين} تقديري معطوف أي هو معطوف على خبر {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله} . . فجاءت {والموفون} مرفوعة لنفهم أنها معطوفة على خبر {ولكن} ، ثم جاء ما بعدها {والصابرين} منصوبة، حتى نلحظ الفرق بين المعنيين، ولو جاءت مرفوعة مثل ما قبلها فربما مرت علينا ولم نلحظها. {والصابرين فِي البأسآء والضراء} البأساء هو البؤس والفقر، وهذا في الأحوال، نقول: فلان حاله بائس. {والضراء} هي الألم والوجع والمرض، وهي تصيب البدن والجسد. {وَحِينَ البأس} أي حين الحرب عندما يلتقي المقاتل بالعدو ويصبر ويصمد ليقاتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 إذن صفة الصبر تناولت ثلاثة أمور: في البأساء، أي في الفقر، وفي المرض، وفي الحرب مع العدو، صابر في كل هذه الأمور. ولذلك جاء في الحديث الشريف: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كَفّرَ الله بها عنه حتى الشوكة يُشاكها» ويقول الحق عن الذين دخلوا إلى رحاب البر: {أولئك الذين صَدَقُواْ} ف {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس أولئك الذين صَدَقُواْ} . ماذا تعني صدقوا؟ الصدق هو مطابقة النسبة الكلامية للواقع الفعلي. وأولئك صدقوا في إعلان إيمانهم، وواقع حركتهم في الحياة، وصدق قولهم: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» . إذن فصدق إيمانك متوقف على أن تكون حركة حياتك مناسبة لمقتضيات إيمانك. فإن آمنت وأسلمت وجاءت حركة حياتك مناقضة لإعلان إسلامك، نقول: أنت غير صادق، ولكن إذا وجدت صفات الإيمان في إنسان نقول له: لقد صدقت في إيمانك، لأن حركة حياتك انسجمت مع واقعك الإيماني. وما أكثر الناس الذين يقولون ولا يفعلون، وهم منسوبون إلى الإسلام بالكلام. وما نتيجة صدق المؤمنين؟ يجيبنا الحق بوصفهم: {وأولئك هُمُ المتقون} . وساعة تسمع كلمة {المتقون} أو «اتقوا» . فذلك يعني أنهم جعلوا وقاية بينهم وبين شيء، ولا يُطلب منك أن تجعل وقاية بينك وبين شيء إلا إن كنت لا تتحمل هذا الشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 ومثل ذلك قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] أي اجعلوا بينكم وبين النار حاجزاً. وقلنا: إن من العجب أن كلمة «اتقوا» تأتي إلى الشيء الذي هو «اتقوا النار» وتأتي إلى «اتقوا الله» ، كيف يكون التقوى في متناقضين؟ نعم: لأن معنى اتقوا النار، أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية، وهل النار فاعلة بذاتها أم بتسليط الله لها على العاصي؟ إنها فاعلة بتسليط الله لها على العاصي. إذن اتقوا الله معناها اتقوا متعلق صفات الجلال من الله، لأن الله صفات جمال وصفات جلال فاجعلوا بينكم وبين صفات الجلال من الله وقاية، لأنكم لا تتحملون غضب الله، ولا قهر الله، ولا بطش الله، فاجعلوا بينكم وبين صفات جلاله وقاية، ومن آثار صفات جلاله النار. فالمسألة متساوية ولا تناقض فيها. وبعد ذلك يقول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 وساعة ينادي الله {ياأيها الذين آمَنُواْ} فهذا النداء هو حيثية الحكم الذي سيأتي، ومعنى هذا القول: أنا لم أكلفكم اقتحاما على إرادتكم؛ أو على اختياركم، وإنما كلفتكم لأنكم دخلتم إلى من باب الإيمان بي، ومادمتم قد آمنتم بي فاسمعوا مني التكليف. فالله لم يكلف من لم يؤمن به، ومادام الله لا يكلف إلا من آمن به فإيمانك به جعلك شريكا في العقد، فإن كتب عليك شيئا فأنت شريك في الكتابة، لأنك لو لم تؤمن لما كتب، فكأن الصفقة انعقدت، ومادامت الصفقة قد انعقدت فأنت شريك في التكليف، ولذلك يقول الله: {كُتب} بضم الكاف. ولم يقل «كَتب» بفتح الكاف. وتلحظ الفرق جليا في الأشياء التي للإنسان دخل فيها، فهو سبحانه يقول: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] إنه سبحانه هنا الذي كتب، لأنه لا شريك له. عندما تقرأ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} فافهم أن فيها إلزاما ومشقة، وهي على عكس «كتب لكم» مثل قوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51] إن «كتب لنا» تشعرنا أن الشيء لمصلحتنا. وفي ظاهر الأمر يبدو أن القصاص مكتوب عليك، وساعة يكتب عليك القصاص وأنت قاتل فيكون ولي المقتول مكتوباً له القصاص، إذن كل «عليك» مقابلها «لك» ، وأنت عرضة أن تكون قاتلا أو مقتولا. فإن كنت مقتولا فالله كتب لك. وإن كنت قاتلا فقد كتب الله عليك. لأن الذي «لي» لابد أن يكون «على» غيري، والذي «عليّ» لابد أن يكون «لغيري» . فالتشريع لا يشرع لفرد واحد وإنما يشرع للناس أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 عندما يقول: {كتب عليكم القصاص} ، ثم يقول في الآية التي بعدها: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} ، فهو سبحانه قد جاء ب «لكم» ، و «عليكم» . «عليكم» للقاتل، و «لكم» لولي المقتول. فالتشريع عادلا لأنه لم يأت لأحد على حساب أحد، والعقود دائما تراعي مصلحة الطرفين. {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ} . ومن هو الحر؟ الحر ضد العبد وهو غير مملوك الرقبة، والحر من كل شيء هو أكرم ما فيه، ويقال: حر المال يعني أكرم ما في المال. و «الحر» في الإنسان هو من لا يحكم رقبته أحد. و «الحر» من البقول هو ما يؤكل غير ناضج، أي غير مطبوخ على النار، كالفستق واللوز. والحق سبحانه يقول: {الحر بِالْحُرِّ} ، وظاهر النص أن الحر لا يقتل بالعبد، لأنه سبحانه يقول: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} ، لكن ماذا يحدث لو أن عبداً قتل حراً، أو قتلت امرأة رجلاً؛ هل نقتلهما أم لا؟ إن الحق يضع لمسألة الثأر الضوابط، وهو سبحانه لم يُشَرِّعْ أن الحر لا يُقتل إلا بالحر، وإنما مقصد الآية أن الحر يقتل إن قتل حراً، والعبد يقتل إن قتل عبداً، والأنثى مقابل الأنثى، هذا هو إتمام المعادلة، فجزاء القاتل من جنس ما قتل، لا أن يتعداه القتل إلى من هو أفضل منه. إن الحق سبحانه وتعالى يواجه بذلك التشريع في القصاص قضية كانت قائمة بين القبائل، حيث كان هناك قتل للانتقام والثأر. ففي الزمن الجاهلي كانت إذا نشأت معركة بين قبيلتين، فمن الطبيعي أن يوجد قتلى وضحايا لهذا الاقتتال، فإذا قتل عبد من قبيلة أصرت القبيلة التي تملك هذا العبد أن تُصَعِّد الثأر فتأخذ به حراً، وكذلك إذا قتلت في تلك الحرب أنثى، فإن قبيلتها تُصعد الثأر فتأخذ بها ذكراً. والحق سبحانه وتعالى أراد أن يحسم قضية الثأر حسماً تدريجيا، لذلك جاء بهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 الأمر {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} . إذن، فالحق هنا يواجه قضية تصعيدية في الأخذ بالثأر، ويضع منهجاً يحسم هذه المغالاة في الثأر. وفي صعيد مصر، مازلنا نعاني من الغفلة في تطبيق شريعة الله، فحين يقتل رجل من قوم فهم لا يثأرون من القاتل، وإنما يذهبون إلى أكبر رأس في عائلة القاتل ليقتلوه. فالذين يأخذون الثأر يريدون النكاية الأشد، وقد يجعلون فداء المقتول عشرة من العائلة الأخرى، وقد يمثلون بجثثهم ليتشفوا، وكل ذلك غير ملائم للقصاص. وفي أيام الجاهلية كانوا يغالون في الثأر، والحق سبحانه وتعالى يبلغ البشرية جمعاء بأن هذه المغالاة في الثأر تجعل نيران العداوة لا تخمد أبداً. لذلك فالحق يريد أمر الثأر إلى حده الأدنى، فإذا قتلت قبيلة عبداً فلا يصح أن تصعد القبيلة الأخرى الأمر فتأخذ بالعبد حراً. إذن، فالحق يشرع أمراً يخص تلك الحروب الجماعية القديمة، وما كان يحدث فيها من قتل جماعي، وما ينتج عنها بعد ذلك من مغالاة في الثأر، وهذا هو التشريع التدريجي، وقضى سبحانه أن يرد أمر الثأر إلى الحد الأدنى منه، فإذا قتلت قبيلة عبداً فلا يصح أن تصعد القبيلة الأخرى الثأر بأن تقتل حراً. والحق يشرع بعد ذلك أن القاتل في الأحوال العادية يتم القصاص منه بالقتل له أو بالدية. فقد جاءت آية أخرى يقول فيها الحق: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} [المائدة: 45] وهكذا يصبح القصاص في قتل النفس يتم بنفس أخرى، فلا تفرقة بين العبد أو الحر أو الأنثى، بل مطلق نفس بمطلق نفس. وهاهو ذا الحق سبحانه وتعالى يواجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 بتقنين تشريع القصاص قضية يريد أن يميت فيها لدد الثأر وحنق الحقد. فساعة تسمع كلمة قصاص وقتل، فمعنى ذلك أن النفس مشحونة بالبغضاء والكراهية، ويريد أن يصفي الضغن والحقد الثأري من نفوس المؤَمنين. إن الحق جل وعلا يعط لولي الدم الحق في أن يقتل أو أن يعفو، وحين يعطي الله لولي الدم الحق في أن يقتل، فإن أمر حياة القاتل يصبح بيد ولي الدم، فإن عفا ولي الدم لا يكون العفو بتقنين، وإنما بسماحة نفس، وهكذا يمتص الحق الغضب والغيظ. وبعد ذلك يرقق الله قلب ولي الدم فيقول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . وإذا تأملنا قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} فلنلاحظ النقلة من غليان الدم إلى العفو. ثم المبالغة في التحنن، كأنه يقول: لا تنس الأخوة الإيمانية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف} . وساعة يقول الحق كلمة «أخ» فانظر هل هذا الأخ اشترك في الأب؟ مثل قوله تعالى: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} . ثم يرتقى بالنسب الإيماني إلى مرتبة الأخوة الإيمانية، فيقول: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} يعني إياكم أن تجعلوا التقاء النسب المادي دون التقائكم في القيم العقائدية. والأصل في الأخ أن يشترك في الأب مثل: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} ، فإن كانوا إخوة من غير الأب يسمهم إخواناً، فإن ارتقوا في الإيمان يسمهم إخوة. وعندما وصفهم بأنهم إخوان قال: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} . لقد كانت بينهم حروب وبغضاء وشقاق، لم يصفهم بأنهم إخوة؛ لأنهم لازالوا في الشحناء، فوصفهم بأنهم إخوان، وبعد أن يختمر الإيمان في نفوسهم يصبحون إخوة. ولننظر في غزوة بدر، هاهو ذا مصعب بن عمير، كان فتى قريش المدلل والمنعَّم الذي كانت تفوح منه رائحة العطر وملابسه من حرير؛ كان ذلك قبل إسلامه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 وتغير كل ذلك عندما دخل في الإسلام، فقد أخرجه الإيمان من هذا النَّعيم إلى بؤس المؤمنين الأولين لدرجة أنه كان يلبس جلد حيوان ويراه رسول الله في هذا الضنك فيقول: «انظروا كيف فعل الإيمان بصاحبكم» . وعندما جاءت معركة بدر التقى مع أخيه «أبي عزيز» الذي ظل على دين قريش، والتقى الاثنان في المعركة، مصعب في معسكر المؤمنين، وأبو عزيز في جيش المشركين. وأثناء المعركة رأى أخاه أبا عزيز أسيراً مع أبي اليسر وهو من الأنصار؛ فالتفت مصعب إلى أبي اليسر، وقال: يا أبا اليسر أشدد على أسيرك فإن أمه غنية وستفديه بمال كثير. فالتفت إليه أبو عزيز وقال: يا أخي أهذه وصاتك بأخيك؟ قال مصعب: لا لست أخي وإنما أخي هذا. وأشار إلى أبي اليسر. لقد انتهى نسب الدم وأصبح نسب الإيمان هو الأصل، وأصبح مصعب أخاً لأبي اليسر في الإيمان، وانقطعت صلته بشقيقه في النسب لأنه ظل مشركاً. وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} كأنه يحث ولي الدم على أن يعفو ولا ينسى أخوة الإيمان. صحيح أنه ولى للمقتول؛ لأنه من لحمته ونسبه، ولكن الله أراد أن يجعل أخوة الإيمان فوق أخوة الدم. {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف} . وقد أورد الحق الأخوة هنا لترقيق المشاعر، لينبه أهل القاتل والقتيل معاً أن القتل لا يعني أن الأخوة الإيمانية انتهت، لا. إن على المؤمنين أن يضعوا في اعتبارهم أن أخوة الإيمان قد تفتر رابطتها. وحين يتذكر أولياء الدم أخوة الإيمان، فإن العفو يصبح قريباً من نفوسهم. ولنا أن نلاحظ أن الحق يرفعنا إلى مراتب التسامي، فيذكرنا أن عفو واحد من أولياء الدم يقتضي أن تسود قضية العفو، فلا يقتل القاتل. وبعد ذلك لننظر إلى دقة الحق في تصفية غضب القلوب حين يضع الدية مكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 القصاص بالقتل. إن الدية التي سيأخذها أولياء الدم من القاتل قد تكون مؤجلة الأداء، فقد يقدر القاتل أو أهله على الأداء العاجل، لذلك فعلى الذي يتحمل الدية أن يؤديها، وعلى أهل القتيل أن يتقبلوا ذلك بالمعروف، وأن تؤدي الدية من أهل القاتل أو من القاتل نفسه بإحسان. وقوله الحق: {عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، تدل على أن أولياء المقتول إن عفا واحد منهم فهو عفو بشيء واحد، وليس له أن يقتص بعد ذلك، وتنتهي المسألة ويحقن الدم، ولم يرد الله أن يضع نصا بتحريم القصاص، ولكن أراد أن يعطي ولي الدم الحق في أن يَقْتُل، وحين يصبح له الحق في أن يقتل؛ فقد أصبحت المسألة في يده، فإن عفا، تصبح حياة القاتل ثمرة من ثمرات إحسانه، وإن عاش القاتل، لا يترك هذا في نفس صاحب الدم بغضاء، بل إن القاتل سيتحبب إليه لأنه احسن إليه ووهبه حياته. لكن لو ظل النص على قصاص أهل القتيل من القاتل فقط ولم يتعده إلى العفو لظلت العقدة في القلب. والثارات الموجودة في المجتمعات المعاصرة سببها أننا لم نُمكن ولي الدم من القاتل، بدليل أنه إذا ما قدر قاتل على نفسه وذهب إلى أهل القتيل ودخل عليهم بيتهم، وبالغ في طلب العفو منهم، وأخذ كفنه معه وقال لهم: جئتكم لتقتصوا مني، وهذا كفني معي فاصنعوا بي ما شئتم، لم يحدث قط أن أهل قتيل غدروا بقاتل، بل المألوف والمعتاد أن يعفوا عنه، لماذا؟ لأنهم تمكنوا منه وأصبحت حياته بين أيديهم، وفي العادة تنقلب العداوة إلى مودة. فيظل القاتل مدينا بحياته للذين عفوا عنه. والذين يعرفون ذلك من أبناء القاتل يرون أن حياة أبيهم هبة وهبها لهم أولياء القتيل وأقرباؤه، يرون أن عفو أهل القتيل هو الذي نَجّا حياة قريبهم، وهكذا تتسع الدائرة، وتنقلب المسألة من عداوة إلى ود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] ولو لم يشرع الله القصاص لأصبحت المسألة فوضى. لكنه يشرعه، ثم يتلطف ليجعل أمر إنهاء القصاص فضلا من ولي الدم ويحببه لنا ويقول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . وهل من المعقول أن تكون الدية إحساناً؟ لتتذكر أن القائل هنا هو الله، وكلامه قرآن، والدقة في القرآن بلا حدود. إن الحق ينبه إلى أن أولياء الدم إذا ما قبلوا الدية؛ فمعنى ذلك أن أهل القتيل قد أسقطوا القصاص عن القاتل؛ وأنهم وهبوه حق الحياة، لذلك فإن هذا الأمر يجب أن يُرد بتحية أو مكرمة أحسن منه. كان الحق لا يريد من أولياء الدم أن يرهقوا القاتل أو أهله في الاقتضاء، كما يريد أن يؤدي القاتل أو أهله الدية بأسلوب يرتفع إلى مرتبة العفو الذي ناله القاتل. وفي ذلك الأمر تخفيف عما جاء بالتوراة؛ ففي التوراة لم تكن هناك دية يفتدى القاتل بها نفسه، بل كان القصاص في التوراة بأسلوب واحد هو قتل إنسان مقابل إنسان آخر. وفي الإنجيل لا دية ولا قتل: لأن هناك مبدأ أراد أن يتسامى به أتباع عيسى عليه السلام على اليهود الذين انغمسوا في المادية. لقد جاء عيسى عليه السلام رسولاً إلى بني إسرائيل لعله يستل من قلوبهم المادية، فجاء بمبدأ: «من صفعك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر» . ولكن الإسلام قد جاء ديناً عاماً جامعاً شاملاً، فيثير في النفس التسامي، ويضع الحقوق في نصابها، فأبقى القصاص، وترك للفضل مجالاً. لذلك يقول الحق عن الدية: {ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وما وجه الاعتداء بعد تقرير الدية والعفو؟ كان بعض من أهل القبائل إذا قُتل منهم واحد يشيعون أنهم عفوا وصفحوا وقبلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 الدية حتى إذا خرج القاتل من مخبئه مطمئناً، عندئذ يقتلونه. والحق يقرر أن هذا الأمر هو اعتداء، ومن يعتدي بعد أن يُسقط حق القتل ويأخذ الدية فله عذاب أليم. وحكم الله هنا في العذاب الأليم، ونفهمه على أن المعتدي بقتل من أعلن العفو عنه لا يقبل منه دية ويستحق القتل عقاباً، ولا يرفع الله عنه عذاب الدنيا أو الآخرة. إن الحق يرفع العقاب والعذاب عن القاتل إذا قبل القصاص ونفذ فيه، أو إذا عفي عنه إلى الدية وأداها. ولكن الحق لا يقبل سوى استخدام الفرص التي أعطاها الحق للخلق ليرتفعوا في علاقاتهم. إن الحق لا يقبل أن يتستر أهل قتيل وراء العفو، ليقتلوا القاتل بعد أن أعلنوا العفو عنه فذلك عبث بما أراده الحق منهجاً بين العباد. ولذلك يقول الحق: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 وهنا نلاحظ أن النسق القرآني يأتي مرة فيقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ} . ويأتي هنا ليقول النسق القرآني: {وَلَكُمْ فِي القصاص} . التشريع الدقيق المحكم يأتي بواجبات وبحقوق؛ فلا واجب بغير حق، ولا حق بغير واجب، وحتى نعرف سمو التشريع مطلوب من كل مؤمن أن ينظر إلى ما يجب عليه من تكاليف، ويقرنه بما له من حقوق، ولسوف يكتشف المؤمن أنه في ضوء منهج الله قد نال مطلق العدالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 إن المشرع هو الله، وهو رب الناس جميعاً، ولذلك فلا يوجد واحد من المؤمنين أولى بالله من المؤمنين الآخرين. إن التكليف الإيماني يمنع الظلم، ويعيد الحق، ويحمي ويصون للإنسان المال والعرض. ومن عادة الإنسان أن يجادل في حقوقه ويريدها كاملة، ويحاول أن يقلل من واجباته، ولكن الإنسان المؤمن هو الذي يعطي الواجب تماما فينال حقوقه تامة، ولذلك يقول الحق: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] إن القصاص مكتوب على القاتل والمقتول وولي الدم. فإذا علم القاتل أن الله قد قرر القصاص فإن هذا يفرض عليه أن يسلم نفسه، وعلى أهله ألا يخفوه بعيداً عن أعين الناس؛ لأن القاتل عليه أن يتحمل مسئولية ما فعل، وحين يجد القاتل نفسه محوطاً بمجتمع مؤمن يرفض القتل فإنه يرتدع ولا يقتل، إذن ففي القصاص حياة؛ لأن الذي يرغب في أن يقتل يمكنه أن يرتدع عندما يعرف أن هناك من سيقتص منه، وأن هناك من لا يقبل المداراة عليه. ونأتي بعد ذلك للذين يتشدقون ويقولون: إن القصاص وحشية وإهدار لآدمية الإنسان، ونسألهم: لماذا أخذتكم الغيرة لأن إنساناً يقتص منه بحق وقد قتل غيره بالباطل؟ ما الذي يحزنك عليه. إن العقوبة حين شرعها الله لم يشرعها لتقع، وإنما شرعها لتمنع. ونحن حين نقتص من القاتل نحمي سائر أفراد المجتمع من أن يوجد بينهم قاتل لا يحترم حياة الآخرين، وفي الوقت نفسه نحمي هذا الفوضوي من نفسه؛ لأنه سيفكر ألف مرة قبل أن يرتكب جريمة. إذن فالقصاص من القاتل عبرة لغيره، وحماية لسائر أفراد المجتمع ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} . إن الحق يريد أن يحذرنا أن تأخذنا الأريحية الكاذبة، والإنسانية الرعناء، والعطف الأحمق، فنقول: نمنع القصاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 كيف نغضب لمعاقبة قاتل بحق، ولا نتحرك لمقتل برئ؟ إن الحق حين يشرع القصاص كأنه يقول: إياك أن تقتل أحداً لأنك ستُقتل إن قتلته، وفي ذلك عصمة لنفوس الناس من القتل. إن في تشريع القصاص استبقاء لحياتكم؛ لأنكم حين تعرفون أنكم عندما تقتلون بريئا وستقتلون بفعلكم فسوف تمتنعون عن القتل، فكأنكم حقنتم دماءكم. وذلك هو التشريع العالي العادل. وفي القصاص حياة؛ لأن كل واحد عليه القصاص، وكل واحد له القصاص، إنه التشريع الذي يخاطب أصحاب العقول وأولي الألباب الذين يعرفون الجوهر المراد من الأشياء والأحكام، أو غير أولي الألباب فهم الذين يجادلون في الأمور دون أن يعرفوا الجوهر منها، فلولا القصاص لما ارتدع أحد، ولولا القصاص لغرقت البشرية في الوحشية. إن الحكمة من تقنين العقوبة ألا تقع الجريمة وبذلك يمكن أن تتوارى الجريمة مع العقوبة ويتوازن الحق مع الواجب. إن المتدبر لأمر الكون يجد أن التوازن في هذه الدنيا على سبيل المثال في السنوات الماضية يأتي من وجود قوتين عظميين كلتاهما تخشى الأخرى وكلتاهما تختلف مع الأخرى، وفي هذا الاختلاف حياة لغيرهما من الشعوب، لأنهما لو اتفقتا على الباطل لتهدمت أركان دولتهما، وكان في ذلك دمار العالم، واستعباد لبقية الشعوب. وإذا كان كل نظام من نظم العالم يحمل للآخر الحقد والكراهية والبغضاء ويريد أن يسيطر بنظامه لكنه يخشى قوة النظام الآخر، لهذا نجد في ذلك الخوف المتبادل حماية لحياة الآخرين، وفرصة للمؤمنين أن يأخذوا بأسباب الرقي العلمي ليقدموا للدنيا أسلوباً لائقاً بحياة الإنسان على الأرض في ضوء منهج الله. وعندما حدث اندثار لقوة من القوتين هي الاتحاد السوفيتي، فإن الولايات المتحدة تبحث الآن عن نقيض لها؛ لأنها تعلم أن الحياة دون نقيض في مستوى قوتها، قد يجرىء الصغار عليها. إن الخوف من العقوبة هو الذي يصنع التوازن بين معسكرات العالم، والخوف من العقوبة هو الذي يصنع التوازن في الأفراد أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 إن عدل الرحمن هو الذي فرض علينا أن نتعامل مع الجريمة بالعقاب عليها وأن يشاهد هذا العقاب آخرون ليرتدعوا. فها هو ذا الحق في جريمة الزنى على سبيل المثال يؤكد ضرورة أن يشاهد العقاب طائفة من الناس ليرتدعوا. إن التشديد مطلوب في التحري الدقيق في أمر حدوث الزنى؛ لأن عدم دقة التحري يصيب الناس بالقلق ويسبب ارتباكاً وشكاً في الأنساب، والتشديد جاء أيضا في العقوبة في قول الحق: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] إن الذي يجترئ على حقوق الناس يجترئ أيضا على حقوق الله، ولذلك فمقتضى إيثار الإيمان هو إرضاء الله لا إرضاء الناس. وفي إنزال العقاب بالمعتدي خضوع لمنهج الله، وفي رؤية هذا العقاب من قبل الآخرين هو نشر لفكرة أن المعتدي ينال عقاباً، ولذلك شرع الحق العقاب والعلانية فيه ليستقر التوازن في النفس البشرية. وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعالج قضية اجتماعية أخرى. إن الحق بعد أن عالج قضية إرهاق الحياة ينتقل بنا إلى قضية أخرى من أقضية الحياة، إنها قضية الموت الطبيعي. كأن الحق بعد أن أوضح لنا علاج قضية الموت بالجريمة يريد أن يوضح لنا بعضاً من متعلقات الموت حتفا من غير سبب مزهق للروح. إن الحق يعالج في الآية القادمة بعضاً من الأمور المتعلقة بالموت ليحقق التوازن الاقتصادي في المجتمع كما حقق بالآية السابقة التوازن العقابي والجنائي في المجتمع. يقول الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 والحق كما أوضحت من قبل لا يقتحم على العباد أمورهم ولكنه يعرض عليهم أمر الإيمان به، فإن آمنوا فهذا الإيمان يقتضي الموافقة على منهجه، ولذلك فالمؤمن يشترك بعقيدته في الإيمان بما كتب الله عليه. إن المؤمن هو من ارتضى الله إلهاً ومشرعاً، فحين يكتب الله على المؤمن أمراً، فالمؤمن قد اشترك في كتابة هذا الأمر بمجرد إعلانه للإيمان. أما الكافر بالحق فلم يقتحم الله عليه اختياره للكفر، ولذلك لم يكتب عليه الحق إلا أمراً واحداً هو العذاب في الآخرة. فالله لا يكلف إلا من آمن به وأحبه وآمن بكل صفات الجلال والكمال فيه. ولذلك فالتكليف الإيماني شرف خص به الله المحبين المؤمنين به، ولو فطن الكفار إلى أن الله أهملهم لأنهم لم يؤمنوا به لسارعوا إلى الإيمان، ولرأوا اعتزاز كل مؤمن بتكليف الله له. إن المؤمن يرى التكليف خضوعا لمشيئة الله. والخضوع لمشيئة الله يعني الحب. ومادام الحب قد قام بين العبد والرب فإن الحق يريد أن يديم هذا الحب، لذلك كانت التكاليف هي مواصلة للحب بين العبد والرب. إن العبد يحب الرب بالإيمان، والرب يحب العبد بالتكليف، والتكليف مرتبة أعلى من إيمان العبد، فإيمان العبد بالله لا ينفع الله، ولكن تكاليف الله للعبد ينتفع بها العبد. إن المؤمن عليه أن يفطن إلى عزة التكليف من الله، فليس التكليف ذلا ينزله الحق بعباده المؤمنين، إنما هو عزة يريدها الله لعباده المؤمنين، هكذا قول الحق: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} إنها أمر مشترك بين العبد والرب. إن الكتابة هنا أمر مشترك بين الحق الذي أنزل التكليف وبين العبد الذي آمن بالتكليف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 والحق يورد هنا أمراً يخص الوصية فيقول سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 180] وهنا نجد شرطين: الشرط الأول: يبدأ ب {إِذَا} وهي للأمر المتحقق وهو حدوث الفعل. والموت أمر حتمي بالنسبة لكل عبد، لذلك جاء الحق بهذا الأمر بشرط هو {إِذَا} ، فهي أداة لشرط وظرف لحدث. والموت هو أمر محقق إلا أن أحداً لا يعرف ميعاده. والشرط الثاني يبدأ ب {إِن} وهي أداة شرط نقولها في الأمر الذي يحتمل الشك؛ فقد يترك الإنسان بعد الموت ثروة وقد لا يترك شيئا، ولذلك فإن الحق يأمر العبد بالوصية خيراً له لماذا؟ لأن الحق يريد أن يشرع للاستطراق الجماعي، فبعد أن يوصي الحق عباده بأن يضربوا في الحياة ضرباً يوسع رزقهم ليتسع لهم، ويفيض عن حاجتهم، فهذا الفائض هو الخير، والخير في هذا المجال يختلف من إنسان لآخر ومن زمن لآخر. فعندما كان يترك العبد عشرة جنيهات في الزمن القديم كان لهذا المبلغ قيمة، أما عندما يترك عبد آخر ألف جنيه في هذه الأيام فقد تكون محسوبة عند البعض بأنها قليل من الخير، إذن فالخير يقدر في كل أمر بزمانه، ولذلك لم يربطه الله برقم. إننا في مصر مثلاً كنا نصرف الجنيه الورقي بجنيه من الذهب ويفيض منه قرشان ونصف قرش؛ أما الآن فالجنيه الذهبي يساوي أكثر من مائتين وخمسين جنيها؛ لأن رصيد الجنيه المصري في الزمن القديم كان عاليا. أما الآن فالنقد المتداول قد فاق الرصيد الذهبي، لذلك صار الجنيه الذهبي أغلى بكثير جداً من الجنيه الورقي. ولآن الإله الحق يريد بالناس الخير لم يحدد قدر الخير أو قيمته، وعندما يحضر الموت الإنسان الذي عنده فائض من الخير لابد أن يوصي من هذا الخير. ولنا أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 نلحظ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد نهى عن انتظار لحظة الموت ليقول الإنسان وصيته، أو ليبلغ أسرته بالديون التي عليه، لأن الإنسان لحظة الموت قد لا يفكر في مثل هذه الأمور. ولذلك فعلينا أن نفهم أن الحق ينبهنا إلى أن يكتب الإنسان ما له وما عليه في أثناء حياته. فيقول ويكتب وصيته التي تنفذ من بعد حياته. يقول المؤمن: إذا حضرني الموت فلوالدي كذا وللأقربين كذا. أي أن المؤمن مأمور بأن يكتب وصيته وهو صحيح، ولا ينتظر وقت حدوث الموت ليقول هذه الوصية. والحق يوصي بالخير لمن؟ {لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} . والحق يعلم عن عباده أنهم يلتفتون إلى أبنائهم وقد يهملون الوالدين، لأن الناس تنظر إلى الآباء والأمهات كمودعين للحياة، على الرغم من أن الوالدين هما سبب إيجاد الأبناء في الحياة، لذلك يوصي الحق عباده المؤمنين بأن يخصصوا نصيبا من الخير للآباء والأمهات وأيضا للأقارب. وهو سبحانه يريد أن يحمي ضعيفين هما: الوالدان والأقرباء. وقد جاء هذا الحكم قبل تشريع الميراث كانوا يعطون كل ما يملكون لأولادهم، فأراد الله أن يخرجهم من إعطاء أولادهم كل شيء وحرمان الوالدين والأقربين. وقد حدد الله من بعد ذلك نصيب الوالدين في الميراث، أما الأقربون فقد ترك الحق لعباده تقرير أمرهم في الوصية. وقد يكون الوالدان من الكفار، لذلك لا يرثان من الابن، ولكن الحق يقول: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 14 - 15] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 إن الحق يذكر عباده بفضله عليهم، وأيضاً بفضل الوالدين، ولكن إن كان الوالدان مشركين بالله فلا طاعة لهما في هذا الشرك، ولكن هناك الأمر بمصاحبتهما في الحياة بالمعروف واتباع طريق المؤمنين الحاملين للمنهج الحق. لذلك فالإنسان المؤمن يستطيع أن يوصي بشيء من الخير في وصيته للأبوين حتى ولو كانا من الكافرين، ونحن نعرف أن حدود الوصية هي ثلث ما يملكه الإنسان والباقي للميراث الشرعي. أما إذا كانا من المؤمنين فنحن نتبع الحديث النبوي الكريم: «لا وصية لوارث» . وفي الوصية يدخل إذن الأقرباء الضعفاء غير الوارثين، هذا هو المقصود من الاستطراق الاجتماعي. والحق حين ينبه عباده إلى الوصية في أثناء الحياة بالأقربين الضعفاء، يريد أن يدرك العباد أن عليهم مسئولية تجاه هؤلاء. ومن الخير أن يعمل الإنسان في الحياة ويضرب في الأرض ويسعى للرزق الحلال ويترك ورثته أغنياء بدلاً من أن يكونوا عالة على أحد. «عن سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال:» جاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعودني، وأنا بمكة، قال: يرحم الله بن عفراء، قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله؟ قال: لا قلت: فالشطر؟ قال: لا. قلت الثلث؟ قال: فالثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس «. وإذا رزق الله الإنسان بالعمل خيراً كثيراً فإياك أيها الإنسان أن تقصر هذا الخير على من يرثك. لماذا؟ لأنك إن قصرت شيئاً على من يرثك فقد تصادف في حياتك من لا يرث وله شبهة القربى منك، وهو في حاجة إلى من يساعده على أمر معاشه فإذا لم تساعده يحقد عليك وعلى كل نعمة وهبها الله لك، ولكن حين يعلم هذا القريب أن النعمة التي وهبها الله لك قد يناله منها شيء ولو بالوصية وليس بالتقنين الإرثي هذا القريب يملأه الفرح بالنعمة التي وهبها الله لك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 ولذلك قال الحق: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 180] إن الحق يريد أن يلفت العباد إلى الأقرباء غير الوارثين بعد أن أدخل الآباء والأمهات في الميراث. إن الإنسان حين يكون قريباً لميت ترك خيراً، وخص الميت هذا القريب ببعض من الخير في الوصية، هذا القريب تمتلئ بالخير نفسه فيتعلم ألا يحبس الخير عن الضعفاء، وهكذا يستطرق الحب وتقوم وشائج المودة. والحق يفترض وهو الأعلم بنفوس عباده أن الموصي قد لا يكون على حق والوارث قد يكون على حق، لذلك احتاط التشريع لهذه الحالة؛ لأن الموصىَ له حين يأخذ حظه من الوصية سينقص من نصيب الوارث، ولذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعصم الأطراف كلها، إنه يحمي الذي وصى، والموصي له، والوارث ومن هنا يقول الحق: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 ونحن نعرف أنه في زمن نزول القرآن كانت الوصية شفاهة، ولم تكن الكتابة منتشرة، ولذلك أتى الحق بالجانب المشترك في الموصي والموصي له والوارث وهو جانب القول؛ فقد كان القول هو الأداة الواضحة في ذلك الزمن القديم، ولم تكن هناك وسائل معاصرة كالشهر العقاري لتوثيق الوصية، لذلك كان تبديل وصية الميت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 إثما على الذي يُبدل فيها. إن الموصي قد برئت ذمته، أما ذمة الموصي له والوارث فهي التي تستحق أن تنتبه إلى أن الله يعلم خفايا الصدور وهو السميع العليم. ويريد الحق أن يصلح العلاقة بين الوارث والموصي له، لذلك يقول الحق: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 إن الحق يريد العدل للجميع فإذا كانت الوصية زائغة عن العدل وعن الصراط المستقيم وكان فيها حرمان للفقير وزيادة في ثراء الغني أو ترك للأقربين، فهذا ضياع للاستطراق الذي أراده الله، فإذا جاء من يسعى في سبيل الخير ليرد الوصية للصواب فلا إثم عليه في التغيير الذي يحدثه في الوصية ليبدلها على الوجه الصحيح لها الذي يرتضيه الله؛ لأن الله غفور رحيم. وقد يخاف الإنسان من صاحب الوصية أن يكون جنفاً، والجنف يفسر بأنه الحيف والجور، وقد يخلق الله الإنسان بجنف أي على هيئة يكون جانب منه أوطى من الجانب الآخر، ونحن نعرف من علماء التشريح أن كل نصف في الإنسان مختلف عن النصف الآخر وقد يكون ذلك واضحا في بعض الخلق، وقد لا يكون واضحاً إلا للمدقق الفاحص. والإنسان قد لا يكون له خيار في أن يكون أجنف، ولكن الإثم يأتي باختيار الإنسان أي أن يعلم الإنسان الذنب ومع ذلك يرتكبه إذن فمن خاف من موص جنفاً أي حيفاً وظلماً من غير تعمد فهذا أمر لا خيار للموصي فيه، فإصلاح ذلك الحيف والظلم فيه خير للموصي. أما إذا كان صاحب الوصية قد تعمد أن يكون آثما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 فإصلاح ذلك الإثم أمر واجب. وهذه هي دقة التشريع القرآني الذي يشحذ كل ملكات الإنسان لتتلقى العدل الكامل. والحق عالج قضية التشريع للبشر في أمر القصاص باستثمار كل ملكات الخير في الإنسان حين قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف} . إنه ليس تشريعا جافاً كتشريع البشر. إنه تشريع من الخالق الرحيم العليم بخبايا البشر. ويستثير الحق في البشر كل نوازع الخير، ويعالج كذلك قضية تبديل الوصية التي وصى بها الميت بنفسه، فمن خالف الوصية التي أقيمت على عدالة فله عقاب. أما الذي يتدخل لإصلاح أمر الوصية بما يحقق النجاة للميت من الجنف أي الحيف غير المقصود ولكنه يسبب ألماً، أو يصلح من أمر وصية فيها إثم فهذا أمر يريده الله ولا إثم فيه ويحقق الله به المغفرة والرحمة. وهكذا يعلمنا الحق أن الذي يسمع أو يقرأ وصية فلا بد أن يقيسها على منطق الحق والعدل وتشريع الله، فإن كان فيه مخالفة فلا بد أن يراجع صاحبها. ولنا أن نلحظ أن الحق قد عبر عن إحساس الإنسان بالخوف من وقوع الظلم بغير قصد أو بقصد حين قال: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيم} . إن كلمة {خَافَ} عندما تأتي في هذا الموضع تدل على الوحدة الإيمانية في نفوس المسلمين. إن المؤمن الذي يتصدى لإصلاح من هذا النوع قد يكون غير وارث، ولا هو من الموصي لهم، ولا هو الموصي، إنما هو مجرد شاهد، وهذه الشهادة تجعله يسعى إلى التكافل الإيماني؛ فكل قضية تمس المؤمن إنما تمس كل المؤمنين، فإن حدث جنف فهذا يثير الخوف في المؤمن لأن نتيجته قد تصيب غيره من المؤمنين ولو بغير قصد، وهكذا نرى الوحدة الإيمانية. إن الإيمان يمزج المؤمنين بعضهم ببعض حتى يصيروا كالجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. ولهذا فعندما يتدخل المؤمن الذي لا مصلحة مباشرة له في أمر الإرث أو الوصية ليصلح من هذا الأمر فإن الحق يثيبه بخير الجزاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 والحق سبحانه قال: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيم} ، وهذا القول يلفتنا إلى أن الإنسان إذا ما عزم على اتخاذ أمر في مسألة الوصية فعليه أن يستشير من حوله، وأن يستقبل كل مشورة من أهل العلم والحكمة، وذلك حتى لا تنشأ الضغائن بعد أن يبرم أمر الوصية إبراماً نهائياً. أي بعد وفاته، والحق قد وضع الاحتياطات اللازمة لإصلاح أمر الوصية إن جاء بها ما يورث المشاكل؛ لأن الحق يريد أن يتكاتف المؤمنون في وحدة إيمانية، لذلك فلابد من معالجة الانحراف بالوقاية منه وقبل أن يقع. ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوْا ونجوْا جميعاً» . والحديث الشريف يضرب المثل على ضرورة التآزر والتواصي بين المؤمنين حماية لهم. فهؤلاء قوم اقتسموا سفينة بالقرعة، والاستهام هو قرعة لا هوى لها، وسكن بعضهم أسفل السفينة حسب ما جاء من نتيجة الاستهام، وسكن بعضهم أعلى السفينة. لكن الذين سكنوا أسفل السفينة أرادوا بعضاً من الماء، واقترح بعضهم أن يخرقوا السفينة للحصول على الماء، وبرروا ذلك بأن مثل هذا الأمر لن يؤذي من يسكنون في النصف الأعلى من السفينة، ولو أنهم فعلوا ذلك، ولم يمنعهم الذين يسكنون في النصف الأعلى من السفينة لغرقوا جميعاً، لكن لو تدخل الذين يسكنون في النصف الأعلى من السفينة لمنعوا الغرق، وكذلك حدود الله، فعلى المؤمنين أن يتكاتفوا بالتواصي في تطبيقها، فلا يقولن أحد: «إن ما يحدث من الآخرين لا شأن لي به» لأن أمر المسلمين يهم كل مسلم، ولذلك جاءت آية قال فيها سيدنا أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «هناك آية تقرأونها على غير وجهها» أي تفهمونها على غير معناها. والآية هي قول الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 25] ويقول شيخنا «حسنين مخلوف» مفتي الديار المصرية الأسبق في شرح هذه الآية: أي احذروا ابتلاء الله في محن قد تنزل بكم، تعم المسيء وغيرهم، كالبلاء والقحط والغلاء، وتسلط الجبابرة وغير ذلك، والمراد تحذير من الذنوب التي هي أسباب الابتلاء، كإقرار المنكرات والبدع والرضا بها، والمداهنة في الأمر بالمعروف، وافتراق الكلمة في الحق، وتعطيل الحدود، وفشو المعاصي، ونحو ذلك. وفيما رواه البخاري: عندما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» ويل للعرب من شر قد اقترب. . «فقيل له: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:» نعم إذا كثر الخبث «» . إذن فلا يعتقد مسلم أنه غير مسئول عن الفساد الذي يستشري في المجتمع، بل عليه أن يُحذر وأن يُنبه. ولذلك نجد أن حكمة الحق قد فرضت الدية على العاقلة، أي على أهل القاتل، لأنهم قد يرون هذا القاتل وهو يمارس الفساد ابتداء، فلم يردعه أحد منهم، لكنهم لو ضربوا على يده من البداية لما جاءهم الغرم بدفع الدية، لذلك فعندما تسمع قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} إياك أن تقول: لا شأن لي بهذا الأمر لا، إن الأمر يخصك وعليك أن تحاول الإصلاح بين الموصي له، وبين الورثة. وقوله الحق: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} يعني إدخاله في دائرة الذين يبدلون القول والتي تناولناها بالخواطر قبل هذه الآية، بل لك ثواب على تدخلك؛ فأنت لم تبدل حقا بباطل، بل تزحزح باطلاً لتؤسس حقاً، وبذلك تُرَطبُ قلب الوارث على ما نقص منه، وتقيم ميزان العدل بالنصيحة، وتُسخي نفسه ليقبل الوصية بعد تعديلها بما يرضي شريعة الله. إن الله يريد إقامة ميزان العدل وأن يتأكد الاستطراق الصفائي بين المؤمنين فلا تورث الوصية شروراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 ويقول الحق بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 والحق سبحانه يبدأ هذه الآية الكريمة بترقيق الحكم الصادر بالتكليف القادم وهو الصيام فكأنه يقول: «يا من آمنتم بي وأحببتموني لقد كتبت عليكم الصيام» . وعندما يأتي الحكم ممن آمنت به فأنت تثق أنه يخصك بتكليف تأتي منه فائدة لك. واضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى هب أنك تُخاطب ابنك في أمر فيه مشقة، لكن نتائجه مفيدة، فأنت لا تقول له: «يا ابني افعل كذا» لكنك تقول له: «يا بُنَيَّ افعل كذا» وكأنك تقول له: «يا صغيري لا تأخذ العمل الذي أكلفك به بما فيه من مشقة بمقاييس عقلك غير الناضج، ولكن خذ هذا التكليف بمقاييس عقل وتجربة والدك» . والمؤمنون يأخذون خطاب الحق لهم {ياأيها الذين آمَنُواْ} بمقياس المحبة لكل ما يأتي منه سبحانه من تكليف حتى وإن كان فيه مشقة، والمؤمنون بقبولهم للإيمان إنما يكونون مع الحق في التعاقد الإيماني، وهو سبحانه لم يكتب الصيام على من لا يؤمن به؛ لأنه لا يدخل في دائرة التعاقد الإيماني وسيلقي سعيرا. والصيام هو لون من الإمساك؛ لأن معنى «صام» هو «أمسك» والحق يقول: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} [مريم: 26] وهذا إمساك عن الكلام. إذن فالصوم معناه الإمساك، لكن الصوم التشريعي يعني الصوم عن شهوتي البطن والفرج من الفجر وحتى الغروب. ومبدأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 الصوم لا يختلف من زمن إلى آخر، فقد كان الصيام الركن التعبدي موجوداً في الديانات السابقة على الإسلام، لكنه كان إما إمساكاً مطلقاً عن الطعام. وإما إمساكا عن ألوان معينة من الطعام كصيام النصارى، فالصيام إذن هو منهج لتربية الإنسان في الأديان، وإن اختلفت الأيام عدداً، وإن اختلفت كيفية الصوم ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . ونعرف أن معنى التقوى هو أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية، وأن نتقي بطش الله، ونتقي النار وهي من آثار صفات الجلال. وقوله الحق: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي أن نهذب ونشذب سلوكنا فنبتعد عن المعاصي، والمعاصي في النفس إنما تنشأ من شره ماديتها إلى أمر ما. والصيام كما نعلم يضعف شره المادية وحدتها وتسلطها في الجسد، ولذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للشباب المراهق وغيره: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» . وكأن الصوم يشذب شِرَّة المادية في الجسم الشاب. وإن تقليل الطعام يعني تقليل وقود المادة، فيقل السعار الذي يدفع الإنسان لارتكاب المعاصي. والصيام في رمضان يعطي الإنسان الاستقامة لمدة شهر، ويلحظ الإنسان حلاوة الاستقامة فيستمر بها بعد رمضان. والحق لا يطلب منك الاستقامة في رمضان فقط، إنما هو سبحانه قد اصطفى رمضان كزمن تتدرب فيه على الاستقامة لتشيع من بعد ذلك في كل حياتك؛ لأن اصطفاء الله لزمان أو اصطفاء الله لمكان أو لإنسان ليس لتدليل الزمان، ولا لتدليل المكان، ولا لتدليل الإنسان، وإنما يريد الله من اصطفائه لرسول أن يشيع أثر اصطفاء الرسول في كل الناس. ولذلك نجد تاريخ الرسل مليئا بالمشقة والتعب، وهذا دليل على أن مشقة الرسالة يتحملها الرسول وتعبها يقع عليه هو. فالله لم يصطفه ليدلله، وإنما اصطفاه ليجعله أسوة. وكذلك يصطفي الله من الزمان أياما لا ليدللها على بقية الأزمنة، ولكن لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يشيع اصطفاء هذا الزمان في كل الأزمنة، كاصطفائه لأيام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 رمضان، والحق سبحانه وتعالى يصطفي الأمكنة ليشيع اصطفاؤها في كل الأمكنة. وعندما نسمع من يقول: «زرت مكة والمدينة وذقت حلاوة الشفافية والإشراق والتنوير، ونسيت كل شيء» . إن من يقول ذلك يظن أنه يمدح المكان، وينسى أن المكان يفرح عندما يشيع اصطفاؤه في بقية الأمكنة؛ فأنت إذا ذهبت إلى مكة لتزور البيت الحرام، وإذا ذهبت إلى المدينة لتزور رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلماذا لا تتذكر في كل الأمكنة أن الله موجود في كل الوجود، وأن قيامك بأركان الإسلام وسلوك الإسلام هو تقرب من الله ومن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. صحيح إن تعبدك وأنت في جوار بيت الله، يتميز بالدقة وحسن النية. كأنك وأنت في جوار بيت الله وفي حضرة رسول الله تستحي أن تفعل معصية. وساعة تسمع «الله أكبر» تنهض للصلاة وتخشع، ولا تؤذي أحداً، إذن لماذا لا يشيع هذا السلوك منك في كل وقت وفي كل مكان؟ إنك تستطيع أن تستحضر النية التعبدية في أي مكان، وستجد الصفاء النفسي العالي. إذن فحين يصطفي الله زماناً أو مكاناً أو يصطفي إنساناً إنما يشاء الحق سبحانه وتعالى أن يشيع اصطفاء الإنسان في كل الناس، واصطفاء المكان في كل الأمكنة واصطفاء الزمان في كل الأزمنة، ولذلك أتعجب عندما أجد الناس تستقبل رمضان بالتسبيح وبآيات القرآن وبعد أن ينتهي رمضان ينسون ذلك. وأقول هل جاء رمضان ليحرس لنا الدين، أم أن رمضان يجيء ليدربنا على أن نعيش بخلق الصفاء في كل الأزمنة؟ وقوله الحق: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} يدلنا على أن المسلمين ليسوا بدعاً في مسألة الصوم، بل سبقهم أناس من قبل إلى الصيام وإن اختلفت شكلية الصوم. وساعة يقول الحق: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} فهذا تقرير للمبدأ، مبدأ الصوم، ويُفَصّلُ الحق سبحانه المبدأ من بعد ذلك فيقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 وكلمة {أَيَّاماً} تدل على الزمن وتأتي مجملة، وقوله الحق عن تلك الأيام: إنها {مَّعْدُودَاتٍ} يعني أنها أيام قليلة ومعروفة. ومن بعد ذلك يوضح الحق لنا مدة الصيام فيقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 إذن، فمدة الصيام هي شهر رمضان، ولأنه سبحانه العليم بالضرورات التي تطرأ على هذا التكليف فهو يشرع لهذه الضرورات، وتشريع الله لرخص الضرورة إعلام لنا بأنه لا يصح مطلقاً لأي إنسان أن يخرج عن إطار الضرورة التي شرعها الله، فبعض من الذين يتفلسفون من السطحيين يحبون أن يزينوا لأنفسهم الضرورات التي تبيح لهم الخروج عن شرع الله، ويقول الواحد منهم: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] ونقول: إنك تفهم وتحدد الوُسعَ على قدر عقلك ثم تقيس التكليف عليه، برغم أن الذي خلقك هو الذي يُكلف ويعلم أنك تَسَعُ التكليف، وهو سبحانه لا يكلف إلا بما في وسعك؛ بدليل أن المشرع سبحانه يعطي الرخصة عندما يكون التكليف ليس في الوسع. ولنر رحمة الحق وهو يقول: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وكلمة {مَرِيضاً} كلمة عامة، وأنت فيها حجة على نفسك وبأمر طبيب مسلم حاذق يقول لك: «إن صمت فأنت تتعب» والمرض مشقته مزمنة في بعض الأحيان، ولذلك تلزم الفدية بإطعام مسكين. وكذلك يرخص الله لك عندما تكون {على سَفَرٍ} . وكلمة {سَفَرٍ} هذه مأخوذة من المادة التي تفيد الظهور والانكشاف، ومثل ذلك قولنا: «أسفر الصبح» . وكلمة «سفر» تفيد الانتقال من مكان تقيم فيه إلى مكان جديد، وكأنك كلما مشيت خطوة تنكشف لك أشياء جديدة، والمكان الذي تنتقل إليه هو جديد بالنسبة لك، حتى ولو كنت قد اعتدت أن تسافر إليه؛ لأنه يصير في كل مرة جديداً لما ينشأ عنه من ظروف عدم استقرار في الزمن، صحيح أن شيئاً من المباني والشوارع لم يتغير، ولكن الذي يتغير هو الظروف التي تقابلها، صحيح أن ظروف السفر في زماننا قد اختلفت عن السفر من قديم الزمان. إن المشقة في الانتقال قديماً كانت عالية، ولكن لنقارن سفر الأمس مع سفر اليوم من ناحية الإقامة. وستجد أن سفر الآن بإقامة الآن فيه مشقة، ومن العجب أن الذين يناقشون هذه الرخصة يناقشونها ليمنعوا الرخصة، ونقول لهم: اعلموا أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 تشريع الله للرخص ينقلها إلى حكم شرعي مطلوب؛ وفي ذلك يروي لنا جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلّل عليه فقال:» ما هذا «فقالوا» : صائم فقال: «ليس من البر الصوم في السفر» «. وعندما تقرأ النص القرآني تجده يقول: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي أن مجرد وجود في السفر يقتضي الفطر والقضاء في أيام أخر، ومعنى ذلك أن الله لا يقبل منك الصيام، صحيح أنه سبحانه لم يقل لك:» افطر «ولكن مجرد أن تكون مريضاً مرضاً مؤقتا أو مسافراً فعليك الصوم في عدة أيام أخر وأنت لن تشرع لنفسك. ولنا في رسول الله أسوة حسنة فقد نهى عن صوم يوم عيد الفطر، لأن عيد الفطر سُمي كذلك، لأنه يحقق بهجة المشاركة بنهاية الصوم واجتياز الاختبار، فلا يصح فيه الصوم، والصوم في أول أيام العيد إثم، لكن الصوم في ثاني أيام العيد جائز، لحديث عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى» . وقد يقول قائل: ولكن الصيام في رمضان يختلف عن الصوم في أيام أخر؛ لأن رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن. وأقول: إن الصوم هو الذي يتشرف بمجيئه في شهر القرآن، ثم إن الذي أنزل القرآن وفرض الصوم في رمضان هو سبحانه الذي وهب الترخيص بالفطر للمريض أو المسافر ونقله إلى أيام أخر في غير رمضان، وسبحانه لا يعجز عن أن يهب الأيام الأخر نفسها التجليات الصفائية التي يهبها للعبد الصائم في رمضان. إن الحق سبحانه حين شرع الصوم في رمضان إنما أراد أن يشيع الزمن الضيق زمن رمضان في الزمن المتسع وهو مدار العام. ونحن نصوم رمضان في الصيف ونصومه في الشتاء وفي الخريف والربيع، إذن فرمضان يمر على كل العام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 ويقول الحق: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} والطوق هو القدرة فيطيقونه أي يدخل في قدرتهم وفي قولهم، والفدية هي إطعام مسكين. ويتساءل الإنسان: كيف يطيق الإنسان الصوم ثم يؤذن له بالفطر مقابل فدية هي إطعام مسكين؟ وأقول: إن هذه الآية دلت على أن فريضة الصوم قد جاءت بتدرج، كما تدرج الحق في قضية الميراث، فجعل الأمر بالوصية، وبعد ذلك نقلها إلى الثابت بالتوريث؛ كذلك أراد الله أن يُخرج أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من دائرة أنهم لا يصومون إلى أن يصوموا صياماً يُخيّرهُم فيه لأنهم كانوا لا يصومون ثم جاء الأمر بعد ذلك بصيام لا خيار فيه، فكأن الصوم قد فرض أولا باختيار، وبعد أن اعتاد المسلمون وألفوا الصوم جاء القول الحق: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وفي هذه الآية لم يذكر الحق الفدية أو غيرها. إذن كانت فريضة الصوم القرار الارتقائي، فصار الصوم فريضة محددة المدة وهي شهر رمضان {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وبذلك انتهت مسألة الفدية بالنسبة لِمَنْ يطيق الصوم، أما الذي لا يطيق أصلاً بأن يكون مريضاً أو شيخاً، فإن قال الأطباء المسلمون: إن هذا مرض «لا يُرجى شفاؤه» نقول له: أنت لن تصوم أياما أخر وعليك أن تفدي. لقد جاء تشريع الصوم تدريجياً ككثير من التشريعات التي تتعلق بنقل المكلفين من إلف العادات، كالخمر مثلاً والميسر والميراث، وهذه أمور أراد الله أن يتدرج فيها. ويقول قائل: مادام فرض الصيام كان اختيارياً فلماذا قال الحق بعد الحديث عن الفدية {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} ؟ وأقول: عندما كان الصوم اختيارياً كان لابد أيضا من فتح باب الخير والاجتهاد فيه، فمَنْ صام وأطعم مسكيناً فهذا أمر مقبول منه، ومن صام وأطعم مسكينين، فذاك أمر أكثر قبولا. ومَنْ يدخل مع الله من غير حساب يؤتيه الله من غير حساب، ومن يدخل على الله بحساب، يعطيه الحق بحساب، وقول الحق: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} هو خطوة في الطريق لتأكيد فرضية الصيام، وقد تأكد ذلك الفرض بقوله الحق: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ولم يأت في هذه الآية بقوله: {وَأَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن المسألة قد انتقلت من الاختيار إلى الفرض. إذن فالصيام هو منهج لتربية الإنسان، وكان موجوداً قبل أن يبعث الحق سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعندما جاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل الصوم على المسلمين اختيارياً في البداية، ثم فريضة من بعد ذلك. وقد شرع الله الصوم في الإسلام بداية بأيام معدودة ثم شرح لنا الأيام المعدودة بشهر رمضان. والذي يطمئن إليه خاطري أن الله بدأ مشروعية الصوم بالأيام المعدودة، ثلاثة أيام من كل شهر وهو اليوم العاشر والعشرون، والثلاثون من أيام الشهر، وكانت تلك هي الأيام المعدودة التي شرع الله فيها أن نصوم؛ وكان الإنسان مخيراً في تلك الأيام المعدودة: إن كان مطيقا للصوم أن يصوم أو أن يفتدي، أما حين شرع الله الصوم في رمضان فقد أصبح الصوم فريضة تعبدية وركناً من أركان الإسلام، وبعد ذلك جاءنا الاستثناء للمريض والمسافر. إذن لنا أن نلحظ أن الصوم في الإسلام كان على مرحلتين: المرحلة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى شرع صيام أيام معدودة، وقد شرحنا أحكامها، والمرحلة الثانية هي تشريع الصوم في زمن محدود. . شهر رمضان، والعلماء الذين ذهبوا إلى جواز رفض إفطار المريض وإفطار المسافر لأنهم لم يرغبوا أن يردوا حكمة الله في التشريع، أقول لهم: إن الحق سبحانه وتعالى حين يرخص لابد أن تكون له حكمة أعلى من مستوى تفكيرنا، وأن الذي يؤكد هذا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . الحكم هنا هو الصوم عدة أيام أخر، ولم يقل فمن أفطر فعليه عدة من أيام أخر، أي أن صوم المريض والمسافر قد انتقل إلى وقت الإقامة بعد السفر، والشفاء من المرض، فالذين قالوا من العلماء: هي رخصة، إن شاء الإنسان فعلها وإن شاء تركها، لابد أن يقدر في النص القرآني {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ} ، فأفطر، {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . ونقول: ما لا يحتاج إلى تأويل في النص أولى في الفهم مما يحتاج إلى تأويل، وليكن أدبنا في التعبير ليس أدب ذوق، بل أدب طاعة؛ لأن الطاعة فوق الأدب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 إذن فالذين يقولون هذا لا يلحظون أن الله يريد أن يخفف عنا، ثم ما الذي يمنعنا أن نفهم أن الحق سبحانه وتعالى أراد للمريض وللمسافر رخصة واضحة، فجعل صيام أي منهما في عدة من الأيام الأخر. فإن صام في رمضان وهو مريض أو على سفر فليس له صيام، أي أن صيامه لا يعتد به ولا يقبل منه، وهذا ما أرتاح إليه، ولكن علينا أن ندخل في اعتبارنا أن المراد من المرض والسفر هنا، هو ما يخرج مجموع ملكات الإنسان عن سويّتها. وما معنى كلمة «شهر» التي جاءت في قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ؟ . إن كلمة «شهر» مأخوذة من الإعلام والإظهار، وما زلنا نستخدمها في الصفقات فنقول مثلا: لقد سجلنا البيع في «الشهر العقاري» أي نحن نعلم الشهر العقاري بوجود صفقة، حتى لا يأتي بعد ذلك وجود صفقة على صفقة، فكلمة «شهر» معناها الإعلام والإظهار، وسُميت الفترة الزمنية «شهراً» لماذا؟ لأن لها علامة تُظهرها، ونحن نعرف أننا لا نستطيع أن نعرف الشهر عن طريق الشمس؛ فالشمس هي سمة لمعرفة تحديد اليوم، فاليوم من مشرق الشمس إلى مشرق آخر وله ليل ونهار. ولكن الشمس ليست فيها علامة مميزة سطحية ظاهرة واضحة تحدد لنا بدء الشهر، إنما القمر هو الذي يحدد تلك السمة والعلامة بالهلال الذي يأتي في أول الشهر، ويظهر هكذا كالعرجون القديم، إذن فالهلال جاء لتمييز الشهر، والشمس لتمييز النهار، ونحن نحتاج لهما معا في تحديد الزمن. إن الحق سبحانه وتعالى يربط الأعمال العبادية بآيات كونية ظاهرة التي هي الهلال، وبعد ذلك نأخذ من الشمس اليوم فقط؛ لأن الهلال لا يعطيك اليوم، فكأن ظهور الهلال على شكل خاص بعدما يأتي المحاق وينتهي، فميلاد الهلال بداية إعلام وإعلان وإظهار أن الشهر قد بدأ، ولذلك تبدأ العبادات منذ الليلة الأولى في رمضان؛ لأن العلامة الهلال مرتبطة بالليل، فنحن نستطلع الهلال في المغرب، فإن رأيناه نقل شهر رمضان بدأ. ولم تختلف هذه المسألة لأن النهار لا يسبق الليل، إلا في عبادة واحدة وهي الوقوف بعرفة، فالليل الذي يجئ بعدها هو الملحق بيوم عرفة. وكلمة {رَمَضَانَ} مأخوذة من مادة (الراء والميم والضاد) ، وكلها تدل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 الحرارة وتدل على القيظ «ورمض الإنسان» أي حر جوفه من شدة العطش، و «الرمضاء» أي الرمل الحار، وعندما يقال: «رمضت الماشية» أي أن الحر أصاب خفها فلم تعد تقوى أن تضع رجلها على الأرض، إذن فرمضان مأخوذ من الحر ومن القيظ، وكأن الناس حينما أرادوا أن يضعوا أسماء للشهور جاءت التسمية لرمضان في وقت كان حاراً، فسموه رمضان كما أنهم ساعة سموا مثلا «ربيعاً الأول وربيعاً الآخر» أن الزمن متفقاً مع وجود الربيع، وعندما سموا جمادى الأولى وجمادى الآخرة «كان الماء يجمد في هذه الأيام. فكأنهم لاحظوا الأوصاف في الشهور ساعة التسمية، ثم دار الزمن العربي الخاص المحدد بالشهور القمرية في الزمن العام للشمس. فجاء رمضان في صيف، وجاء في خريف، لكن ساعة التسمية كان الوقت حاراً. وهب أن إنسانا جاءه ولد جميل الشكل، فسماه «جميلاً» . وبعد ذلك مرض والعياذ بالله بمرض الجدري فشوه وجهه، فيكون الاسم قد لوحظ ساعة التسمية، وإن طرأ عليه فيما بعد ذلك ما يناقض هذه التسمية، وكأن الحق سبحانه وتعالى حينما هيأ للعقول البشرية الواضعة للألفاظ أن يضعوا لهذا الشهر ذلك الاسم، دل على المشقة التي تعتري الصائم في شهر رمضان، وبعد ذلك يعطي له سبحانه منزلة تؤكد لماذا سُمي، إنه الشهر الذي أُنزل فيه القرآن، والقرآن إنما جاء منهج هداية للقيم، والصوم امتناع عن الاقتيات، فمنزلة الشهر الكريم أنه يربي البدن ويربي النفس، فناسب أن يوجد التشريع في تربية البدن وتربية القيم مع الزمن الذي جاء فيه القرآن بالقيم، {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} . وإذا سمعت {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} فافهم أن هناك كلمات «أنزل» و «نَزّل» و «نزل» ، فإذا سمعت كلمة «أنزل» تجدها منسوبة إلى الله دائما: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] أما في كلمة «نَزَلَ» فهو سبحانه يقول: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 وقال الحق: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] إذن فكلمة «أنزل» مقصورة على الله، إنما كلمة «نَزّلَ» تأتي من الملائكة، و «نَزَلَ» تأتي من الروح الأمين الذي هو «جبريل» ، فكأن كلمة «أنزل» بهمزة التعدية، عدت القرآن من وجوده مسطوراً في اللوح المحفوظ إلى أن يبرز إلى الوجود الإنساني ليباشر مهمته. وكلمة «نَزَلَ» و «نَزَّلَ» نفهمهما أن الحق أنزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا مناسباً للأحداث ومناسباً للظروف، فكان الإنزال في رمضان جاء مرة واحدة، والناس الذين يهاجموننا يقولون كيف تقولون: إن رمضان أنزل فيه القرآن مع أنكم تشيعون القرآن في كل زمن، فينزل هنا وينزل هناك وقد نزل في مدة الرسالة المحمدية؟ نقول لهم: نحن لم نقل إنه «نزل» ولكننا قلنا «أنزل» ، فأنزل: تعدي من العِلم الأعلى إلى أن يباشر مهمته في الوجود. وحين يباشر مهمته في الوجود ينزل منه «النَّجْم» يعني القسط القرآني موافقا للحدث الأرضي ليجيء الحكم وقت حاجتك، فيستقر في الأرض، إنما لو جاءنا القرآن مكتملاً مرة واحدة فقد يجوز أن يكون عندنا الحكم ولا نعرفه، لكن حينما لا يجيء الحكم إلا ساعة نحتاجه، فهو يستقر في نفوسنا. وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى أنت مثلاً تريد أن تُجهز صيدلية للطوارئ في المنزل، وأنت تضع فيها كل ما يخص الطوارئ التي تتخيلها، ومن الجائز أن يكون عندك الدواء لكنك لست في حاجة له، أما ساعة تحتاج الدواء وتذهب لتصرف تذكرة الطبيب من الصيدلية، عندئذ لا يحدث لبس ولا اختلاط، فكذلك حين يريد الله حكماً من الأحكام ليعالج قضية من قضايا الوجود فهو لا ينتظر حتى ينزل فيه حكم من الملأ الأعلى من اللوح المحفوظ، إنما الحكم موجود في السماء الدنيا، فيقول للملائكة: تنزلوا به، وجبريل ينزل في أي وقت شاء له الحق أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 ينزل من أوقات البعثة المحمدية، أو الوقت الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يوجد فيه الحكم الذي يغطي قضية من القضايا. إذن فحينما يوجد من يريد أن يشككنا نقول له: لا. نحن نملك لغة عربية دقيقة، وعندنا فرق بين «أنزل» و «نَزَّل» و «نزل» ولذلك فكلمة «نزل» تأتي للكتاب، وتأتي للنازل بالكتاب يقول تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] ويقول سبحانه: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105] وكان بعض من المشركين قد تساءلوا؛ لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة؟ . وانظر إلى الدقة في الهيئة التي أراد الله بها نزول القرآن فقد قال الحق: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32] وعندما نتأمل قول الحق: {كَذَلِكَ} فهي تعني أنه سبحانه أنزل القرآن على الهيئة التي نزل بها لزوماً لتثبيت فؤاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين، ولو نزل مرة واحدة لكان تكليفاً واحداً، وأحداث الدعوة شتى وكل لحظة تحتاج إلى تثبيت فحين يأتي الحدث ينزل نَجْم قرآني فيعطي به الحق تثبيتا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأضرب مثلا بسيطا ولله المثل الأعلى والمنزه عن كل تشبيه أن ابناً لك يريد حُلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 جديدة أتحضرها له مرة واحدة، فتصادفه فرحة واحدة، أم تحضر له في يوم رابطة العنق واليوم الذي يليه تحضر له القميص الجديد، ثم تحضر له «البدلة» ؟ ، إذن فكل شيء يأتي له وقع وفرحة. والحق ينزل القرآن منجماً لماذا؟ {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} ومعنى {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي أنك ستتعرض لمنغصات شتى، وهذه المنغصات الشتى كل منها يحتاج إلى تَرْبِيتٍ عليك وتهدئة لك، فيأتي القسط القرآني ليفعل ذلك وينير أمامك الطريق. {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} أي لم نأت به مرة واحدة بل جعلناه مرتباً على حسب ما يقتضيه من أحداث. حتى يتم العمل بكل قسط، ويهضمه المؤمن ثم نأتي بقسط آخر. ولنلحظ دقة الحق في قوله عن القرآن: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33] إن الكفار لهم اعتراضات، ويحتاجون إلى أمثلة، فلو أنه نزل جملة واحدة لأهدرَتْ هذه القضية، وكذلك حين يسأل المؤمنون يقول القرآن: يسئلونك عن كذا وعن كذا، ولو شاء الله أن يُنزل القرآن دفعة واحدة، فكيف كان يغطي هذه المسألة؟ فما داموا سوف يسألون فلينتظر حتى يسألوا ثم تأتي الإجابة بعد ذلك. إذن فهذا هو معنى «أنزل» أي أنه أنزل من اللوح المحفوظ، ليباشر مهمته في الوجود، وبعد ذلك نزل به جبريل، أو تتنزل به الملائكة على حسب الأحداث التي جاء القرآن ليغطيها. ويقول الحق: {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ} . ونعرف أن كلمة {هُدًى} معناها: الشيء الموصل للغاية بأقصر طريق، فحين تضع إشارات في الطريق الملتبسة، فمعنى ذلك أننا نريد للسالك أن يصل إلى الطريق بأيسر جهد، و «هدى» تدل على علامات لنهتدي بها يضعها الخالق سبحانه، لأنه لو تركها للخلق ليضعوها لاختلفت الأهواء، وعلى فرض أننا سنسلم بأنهم لا هوى لهم ويلتمسون الحق، وعقولهم ناضجة، سنسلم بكل ذلك، ونتركهم كي يضعوا المعالم، ونتساءل: وماذا عن الذي يضع تلك العلامات، وبماذا يهتدي؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 إذن فلابد أن يوجد له هدى من قبل أن يكون له عقل يفكر به، كما أن الذي يضع هذا الهدى لابد ألا ينتفع به، وعلى ذلك فالله سبحانه أغنى الأغنياء عن الخلق ولن ينتفع بأي شيء من العباد، أما البشر فلو وضعوا «هدى» فالواضع سينتفع به، ورأينا ذلك رأى العين؛ فالذي يريد أن يأخذ مال الأغنياء ويغتني يخترع المذهب الشيوعي، والذي يريد أن يمتص عرق الغير يضع مذهب الرأسمالية، ومذاهب نابعة من الهوى، ولا يمكن أن يُبرأ أحد من فلاسفة المذاهب نفسه من الهوى: الرأسمالي يقنن فيميل لهوى نفسه، والشيوعي يميل لنفسه، ونحن نريد مَن يُشرع لنا دون أن ينتفع بما شرع، ولا يوجد من تتطابق معه هذه المواصفات إلا الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يشرع فقط، وهو الذي يشرع لفائدة الخلق فقط. والذي يدلك على ذلك أنك تجد تشريعات البشر تأتي لتنقض تشريعات أخرى، لأن البشر على فرض أنهم عالمون فقد يغيب عنهم أشياء كثيرة، برغم أن الذي يضع التشريع يحاول أن يضع أمامه كل التصورات المستقبلية، ولذلك نجد التعديلات تجرى دائما على التشريعات البشرية؛ لأن المشرع غاب عنه وقت التشريع حكم لم يكن في باله، وأحداث الحياة جاءت فلفتته إليه، فيقول: التشريع فيه نقص ولم يعد ملائماً، ونعدله. إذن فنحن نريد في من يضع الهدى والمنهج الذي يسير عليه الناس بجانب عدم الانتفاع بالمنهج لابد أيضا أن يكون عالما بكل الجزئيات التي قد يأتي بها المستقبل، وهذا لا يتأتى إلا في إله عليم حكيم، ولذلك قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] ستتبعون السبل، هذا له هوى، وهذا له هوى، فتوجد القوانين الوضعية التي تبددنا كلنا في الأرض، لأننا نتبع أهواءنا التي تتغير ولا نتبع منهج من ليس له نفع في هذه المسألة، ولذلك أقول: افطنوا جيداً إلى أن الهدى الحق الذي لا أعترض عليه هو هدى الله، {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان} . والقرآن في جملته «هدى» والفرقان هو أن يضع فارقاً في أمور يلتبس فيها الحق بالباطل، فيأتي التنزيل الحكيم ليفرق بين الحق والباطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 ويقول الحق: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وحين تجد تعقيباً على قضية فافهم أن من شهد منكم الشهر فليصمه ولابد أن تقدر من شهد الشهر فليصمه إن كان غير مريض، وإن كان غير مسافر، لابد من هذا مادام الحق قد جاء بالحكم. و «شهد» هذه تنقسم قسمين: {فَمَن شَهِدَ} أي من حضر الشهر وأدركه وهو غير مريض وغير مسافر أي مقيم، {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} . ونريد أن نفهم النص بعقلية من يستقبل الكلام من إله حكيم، إن قول الله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} . تعقيب على ماذا؟ تعقيب على أنه أعفى المريض وأعفى المسافر من الصيام، فكأن الله يريد بكم اليسر، فكأنك لو خالفت ذلك لأردت الله معسراً لا ميسراً والله لا يمكن أن يكون كذلك، بل أنت الذي تكون معسراً على نفسك، فإن كان الصوم له قداسة عندك، ولا تريد أن تكون أسوة فلا تفطر أمام الناس، والتزم بقول الله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لأنك لو جنحت إلى ذلك لجعلت الحكم في نطاق التعسير، فنقول لك: لا، إن الله يريد بك اليسر، فهل أنت مع العبادة أم أنت مع المعبود؟ أنت مع المعبود بطبيعة الإيمان. ومثال آخر نجده في حياتنا: هناك من يأتي ليؤذن ثم بعد الأذان يجهر بقول: «الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله» يقول: إن هذا حب لرسول الله، لكن هل أنت تحب الرسول إلا بما شرع؟ إنه قد قال: «إذا سمعت النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن ثم صلوا علي» فقد سمح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمن يؤذن ولمن يسمع أن يصلي عليه في السر، لا أن يأتي بصوت الأذان الأصيل وبلهجة الأذان الأصيلة ونصلي على النبي، لأن الناس قد يختلط عليها، وقد يفهم بعضهم أن ذلك من أصول الأذان. إنني أقول لمن يفعل ذلك: يا أخي، ألا توجد صلاة مقبولة على النبي إلا المجهور بها؟ لا إن لك أن تصلي على النبي، لكن في سرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 وكذلك إن جاء من يفطر في رمضان لأنه مريض أو على سفر، نقول له: استتر، حتى لا تكون أسوة سيئة؛ لأن الناس لا تعرف أنك مريض أو على سفر، استتر كي لا يقول الناس: إن مسلماً أفطر. ويقول الحق: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} فمعناها كي لا تفوتكم أيام من الصيام. انظروا إلى دقة الأداء القرآني في قوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . إن العبادة التي نفهم أن فيها مشقة هي الصيام وبعد ذلك تكبرون الله؛ لأن الحق سبحانه عالم أن عبده حين ينصاع لحكم أراده الله وفيه مشقه عليه مثل الصوم ويتحمله، وعندما يشعر بأنه قد انتهى منه إنه سبحانه عالم بأن العبد سيجد في نفسه إشراقاً يستحق أن يشكر الله الذي كلفه بالصوم ووفقه إلى أدائه؛ لأن معنى {وَلِتُكَبِّرُواْ الله} يعني أن تقول: «الله أكبر» وأن تشكره على العبادة التي كنت تعتقد أنها تضنيك، لكنك وجدت فيها تجليات وإشراقات، فتقول: الله أكبر من كل ذلك، الله أكبر؛ لأنه حين يمنعني يعطيني، وسبحانه يعطي حتى في المنع؛ فأنت تأخذ مقومات حياة ويعطيك في رمضان ما هو أكثر من مقومات الحياة والإشراقات التي تتجلى لك، وتذوق حلاوة التكليف وإن كان قد فوت عليك الاستمتاع بنعمة فإنه أعطاك نعمة أكثر منها. وبعد ذلك فالنسق القرآني ليس نسقاً من صنع البشر، فنحن نجد أن نسق البشر يقسم الكتاب أبواباً وفصولاً ومواد كلها مع بعضها، ويُفصل كل باب بفصوله ومواده، وبعد ذلك ينتقل لباب آخر، لكن الله لا يريد الدين أبواباً، وإنما يريد الدين وحدة متكاتفة في بناء ذلك الإنسان، فيأتي بعد قوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله} ب {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومعنى ذلك أنكم سترون ما يجعلكم تنطقون ب «الله أكبر» ؛ لأن الله أسدى إليكم جميلاً، وساعة يوجد الصفاء بين «العابد» وهو الإنسان و «المعبود» وهو الرب، ويثق العابد بأن المعبود لم يكلفه إلا بما يعود عليه بالخير، هنا يحسن العبد ظنه بربه، فيلجأ إليه في كل شيء، ويسأله عن كل شيء، ولذلك جاء هنا قول الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 ومادمت قد ذقت حلاوة ما أعطاك الحق من إشراقات صفائية في الصيام فأنت ستتجه إلى شكره سبحانه، وهذا يناسب أن يرد عليك الحق فيقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} ونلحظ أن «إذا» جاءت، ولم تأت «إن» فالحق يؤكد لك أنك بعدما ترى هذه الحلاوة ستشكر الله؛ لأنه سبحانه يقول في الحديث القدسي: «ثلاثة لا ترد دعوتهم، الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» . فما دام سبحانه سيجب الدعوة، وأنت قد تكون من العامة لا إمامة لك، وكذلك لست مظلوماً، إذن تبقى دعوة الصائم. وعندما تقرأ في كتاب الله كلمة «سأل» ستجد أن مادة السؤال بالنسبة للقرآن وردت وفي جوابها «قل» . {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 219] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} [البقرة: 215] وكل {يَسْأَلُونَكَ} يأتي في جوابها {قُلْ} إلا آية واحدة جاءت فيها «فقل» بالفاء، وهي قول الحق: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] انظر إلى الدقة الأدائية: الأولى «قل» ، وهذه «فقل» ، فكأن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} يؤكد أن السؤال قد وقع بالفعل، ولكن قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} ، فالسؤال هذا ستتعرض له، فكأن الله أجاب عن أسئلة وقعت بالفعل فقال: «قل» ، والسؤال الذي سيأتي من بعد ذلك جاء وجاءت إجابته ب «فقل» أي أعطاه جواباً مسبقاً، إذن ففيه فرق بين جواب عن سؤال حدث، وبين جواب عن سؤال سوف يحدث، ليدلك على أن أحداً لن يفاجئ الله بسؤال، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} . لكن نحن الآن أمام آية جاء فيها سؤال وكانت الإجابة مباشرة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} . فلم يقل: فقل: إني قريب؛ لأن قوله: «قل» هو عملية تطيل القرب، ويريد الله أن يجعل القرب في الجواب عن السؤال بدون وساطة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} . لقد جعل الله الجواب منه لعباده مباشرة، وإن كان الذي سيبلغ الجواب هو رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذه لها قصة: لقد سألوا رسول الله: أقريب ربك فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ لأن عادة البعيد أن يُنادى، أما القريب فيناجى، ولكي يبين لهم القرب، حذف كلمة «قل» ، فجاء قول الحق: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وما فائدة ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 القرب؟ إن الحق يقول: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} ولكن ما الشروط اللازمة لذلك؟ لقد قال الحق: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي} ونعرف أن فيه فرقا بين «عبيد» و «عباد» ، صحيح أن مفرد كل منهما «عبد» ، لكن هناك «عبيد» و «عباد» ، وكل من في الأرض عبيد الله، ولكن ليس كل من في الأرض عباداً لله، لماذا؟ لأن العبيد هم الذين يُقهرون في الوجود كغيرهم بأشياء، وهناك من يختارون التمرد على الحق، لقد أخذوا اختيارهم تمرداً، لكن العباد هم الذين اختاروا الانقياد لله في كل الأمور. إنهم منقادون مع الجميع في أن واحدا لا يتحكم متى يولد، ولا متى يموت، ولا كيف يوجد، لكن العباد يمتازون بأن الأمر الذي جعل الله لهم فيه اختياراً قالوا: صحيح يا رب أنت جعلت لنا الاختيار، وقد اخترنا منهجك، ولم نترك هوانا ليحكم فينا، أنت قلت سبحانك: «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» ونحن قبلنا التكليف منك يا رب. ولا يقول لك ربك: «افعل» إلا إذا كنت صالحاً للفعل ولعدم الفعل. ولا يقول لك: «لا تفعل» إلا إذا كنت صالحاً لهذه ولهذه. إذن فكلمة «افعل» و «لا تفعل» تدخل في الأمور الاختيارية، والحق قد قال: «افعل» و «لا تفعل» ثم ترك أشياء لا يقول لك فيها «افعل» و «لا تفعل» ، فتكون حراً في أن تفعلها أو لا تفعلها، اسمها «منطقة الاختيار المباح» ، فهناك اختيار قُيِّدَ بالتكليف بافعل ولا تفعل، واختيار بقى لك أن تفعله أو لا تفعله ولا يترتب عليه ضرر؛ فالذي أخذ الاختيار وقال: يا رب أنت وهبتني الاختيار، ولكنني تركت لك يا واهب الاختيار أن توجه هذا الاختيار كما تحب، أنا سأتنازل عن اختياري، وما تقول لي: «افعل» سأفعله، والذي تقول لي: «لا تفعله» لن أفعله. إذن فالعباد هم الذين أخذوا منطقة الاختيار، وسلموها لمن خلق فيهم الاختيار، وقالوا لله: وإن كنت مختاراً إلا أنني أمنتك على نفسي. إن العباد هم الذين ردوا أمر الاختيار إلى من وهب الاختيار ويصفهم الحق بقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان: 63 - 64] هؤلاء هم عباد الرحمن، ولذلك يقول الحق للشيطان في شأنهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] إذن فللشيطان سلطان على مطلق عبيد؛ لأنه يدخل عليهم من باب الاختيار ولم تأت كلمة {عِبَادِي} لغير هؤلاء إلا حين تقوم الساعة، ويحاسب الحق الذين أضلوا العباد فيقول: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} [الفرقان: 17] ساعة تقوم الساعة لا يوجد الاختيار ويصير الكل عباداً؛ حتى الكفرة لم يعد لهم اختيار. وحين يقول الحق: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} فالعباد الذين التزموا لله بالمنهج الإيماني لن يسألوا الله إلا بشيء لا يتنافى مع الإيمان وتكاليفه. والحق يقول: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} ؛ لأن الدعاء يطلب جواباً، ومادمت تطلب إجابة الدعاء فتأدب مع ربك؛ فهو سبحانه قد دعاك إلى منهجه فاستجب له إن كنت تحب أن يستجيب الله لك {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} ، وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه وتعالى في كلمة {الداع} ولا يتركها مطلقة، فيقول: {إِذَا دَعَانِ} فكأن كلمة «دعا» تأتي ويدعو بها الإنسان، وربما اتجه بالدعوة إلى غير القادر على الإجابة، ومثال ذلك قول الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] وقوله الحق: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ. .} [فاطر: 14] فكأن الداعي قد يأخذ صفة يدعو بها غير مؤهل للإجابة، والحق هنا قال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} أما إذا ذهب فدعا غير قادر على الوفاء فالله ليس مسئولا عن إجابة دعوته. إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا أن الإنسان يدعو بالخير لنفسه، وأنت لا تستطيع أن تحدد هذا الخير؛ لأنك قد تنظر إلى شيء على أنه الخير وهو شر، ومادمت تدعو فأنت تظن أن ذلك هو الخير، إذن فملحظية الأصل في الدعاء هي أنك تحب الخير، ولكنك قد تخطيء الطريق إلى فهم الخير أو الوسيلة إلى الخير، أنت تحب الخير لا جدال، لذلك تكون إجابة ربك إلى دعائك هي أن يمنع إجابة دعوتك إن كانت لا تصادف الخير بالنسبة لك، ولذلك يجب ألا تفهم أنك حين لا تجاب دعوتك كما رجوت وطلبت أن الله لم يستجب لك فتقول: لماذا لم يستجب الله لي؟ . لا لقد استجاب لك، ولكنه نحَّى عنك حمق الدعوة أو ما تجهل بأنه شر لك. فالذي تدعوه هو حكيم؛ فيقول: «أنا سأعطيك الخير، والخير الذي أعلمه أنا فوق الخير الذي تعلمه أنت، ولذلك فمن الخير لك ألا تجاب إلى هذه الدعوة» . وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى: قد يطلب منك ابنك الصغير أن تشتري له مسدساً، وهو يظن أن مسألة المسدس خير، لكنك تؤخر طلبه وتقول له: فيما بعد سأشتري لك المسدس إن شاء الله، وتماطل ولا تأتيه بالمسدس، فهل عدم مجيئك بالمسدس له على وفق ما رأى هو منع الخير عنه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 إن منعك للمسدس عنه فائدة وصيانة وخير للابن. إذن، فالخير يكون دائماً على مقدار الحكمة في تناول الأمور، وأنت تمنع المسدس عن ابنك، لأنك قدرت أنه طفل ويلهو مع رفاقه وقد يتعرض لأشياء تخرجه عن طوره وقد يتسبب في أن يؤذيه أحد، وقد يؤذي هو أحداً بمثل هذا المسدس. وكذلك يكون حظك من الدعاء لا يُستجاب لأن ذلك قد يرهقك أنت. . والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] ولذلك يقول سبحانه: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37] والعلماء يقولون: إن الدعاء إن قصدت به الذلة والعبودية يكون جميلاً، أما الإجابة فهي إرادة الله، وأنت إن قدرت حظك من الدعاء في الإجابة عليه فأنت لا تُقدر الأمر. إن حظك من الدعاء هو العبادة والذلة لله؛ لأنك لا تدعو إلا إذا اعتقدت أن أسبابك كبشر لا تقدر على هذه، ولذلك سألت من يقدر عليها، وسألت من يملك، ولذلك يقول الله في الحديث القدسي: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» . ولنتعلم ما علمه رسول الله لعائشة أم المؤمنين. لقد سألت رسول الله إذا صادفت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 ليلة القدر فقالت: إن أدركتني هذه الليلة بماذا أدعو؟ انظروا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقد علم أم المؤمنين عائشة أن تدعو بمقاييس الخير الواسع فقال لها: «قولي: اللهم إنك تحب العفو فاعف عني» . ولا يوجد جمال أحسن من العفو، ولا يوجد خير أحسن من العفو، فلا أقول أعطني، أعطني؛ لأن هذا قد ينطبق عليه قول الحق: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] فمَنْ يقول: لقد دعوت ربي فلم يستجب لي، نقول له: لا تكن قليل الفطنة فمن الخير لك أنك لا تُجاب إلى ما طلبت فالله يعطيك الخير في الوقت الذي يريده. وبعد ذلك يترك الحق لبعض قضايا الوجود في المجتمع أن تجيبك إلى شيء ثم يتبين لك منه الشر، لتعلم أن قبض إجابته عنك كان هو عين الخير، ولذلك فإن الدعاء له شروط، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعونا إلى الطيب من الرزق. فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة قوله: «ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغُذِي بالحرام فأني يستجاب له» . إن الرسول يكشف أمامنا كيف يفسد جهاز الإنسان الذي يدعو، لذلك فعدم إجابة الدعوة إما لأن جهاز الدعوة جهاز فاسد، وإما لأنك دعوت بشيء تظن أن فيه الخير لك لكن الله يعلم أنه ليس كذلك، ولهذا يأخذ بيدك إلى مجال حكمته، ويمنع عنك الأمر الذي يحمل لك الشر. وشيء آخر، قد يحجب عنك الإجابة، لأنه إن أعطاك ما تحب فقد أعطاك في خير الدنيا الفانية، وهو يحبك فيُبقي لك الإجابة إلى خير الباقية، وهذه ارتقاءات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 لا ينالها إلا الخاصة، وهناك ارتقاءات أخرى تتمثل في أنه ما دام الدعاء فيه ذلة وخضوع فقد يطبق الله عليك ما جاء في الحديث القدسي: «ينزل الله تعالى في السماء الدنيا فيقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له أو يسألني فأعطيه؟ ثم يقول: مَنْ يقرض غير عديم ولا ظلوم» . ولأن الإنسان مرتبط بمسائل يحبها، فما دامت لم تأت فهو يقول دائماً يا رب. وهذا الدعاء يحب الله أن يسمعه من مثل هذا العبد فيقول: «إن من عبادي من أحب دعاءهم فأنا أبتليهم ليقولوا: يا رب» . إن الإنسان المؤمن لا يجعل حظه من الدعاء أن يجاب، إنما حظه من الدعاء ما قاله الحق: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} [الفرقان: 77] إن معنى الربوبية والمربوبية أن تقول دائما: «يا رب» . واضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى الأب قد يعطي ابنه مصروف اليد كل شهر، والابن يأخذ مصروف اليد الشهري ويغيب طوال الشهر ولا يحرص على رؤية والده. لكن الأب حين يعطي مصروف اليد كل يوم، فالابن ينتظر والده، وعندما يتأخر الوالد قليلاً فإن الابن يقف لينتظر والده على الباب؛ لقد ربط الأب ابنه بالحاجة ليأنس برؤياه. والحق سبحانه يضع شرطا للاستجابة للدعاء، وهو أن يستجيب العبد لله سبحانه وتعالى فيما دعاه إليه. عندئذ سيكون العباد أهلاً للدعاء، ولذلك قال الحق في الحديث القدسي: «مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» . ومثال ذلك سيدنا إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار، قال له جبريل: ألك حاجة؟ . لم ينف أن له حاجة، فلا يوجد استكبار على البلوى، ولكنه قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 لجبريل: أما إليك فلا، صحيح أن له حاجة إنما ليست لجبريل، لأنه يعلم جيداً أن نجاته من النار المطبوعة على أن تحرق وقد ألقي فيها، هي عملية ليست لخلق أن يتحكم فيها ولكنها قدرة لا يملكها إلا من خلق النار. فقال لجبريل: أما إليك فلا، وعلمه بحالي يغني عن سؤالي. لذلك جاء الأمر من الحق: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] ولنتعلم من الإمام علي كرم الله وجهه حين دخل عليه إنسان يعوده وهو مريض فوجده يتأوه، فقال له: أتتأوه وأنت أبو الحسن. قال: أنا لا أشجع على الله. إذن فقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} تعني ضرورة الاستجابة للمنهج، {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} أي أن يؤمنوا به سبحانه إلها حكيما. وليس كل من يسأل يستجاب له بسؤاله نفسه؛ لأن الألوهية تقتضي الحكمة التي تعطي كل صاحب دعوة خيراً يناسب الداعي لا بمقاييسه هو ولكن بمقاييس من يجيب الدعوة. ويذيل الحق الآية بقول: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} فما معنى {يَرْشُدُونَ} ؟ إنه يعني الوصول إلى طريق الخير وإلي طريق الصواب. وهذه الآية جاءت بعد آية {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ} كي تبين لنا أن الصفائية في الصيام تجعل الصائم أهلاً للدعاء، وقد لا يكون حظك من هذا الدعاء الإجابة، وإنما يكون حظك فيه العبادة، ولكي يبين لنا الحق بعض التكليفات الإلهية للبشر فهو يأتي بهذه الآية التي يبين بها ما يحل لنا في رمضان. يقول الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 بعد أن أورد لنا الحق آداب الدعاء ومزجها وأدخلها في الصوم، يشرح لنا سبحانه آداب التعامل بين الزوجين في أثناء الصيام، ويأتي هذا التداخل والامتزاج بين الموضوعات المختلفة في القرآن لنفهم منه أن الدين وحدة متكاتفة تُخاطب كل الملكات الإنسانية، ولا يريد سبحانه أن تظهر أو تطغى ملكة على ملكة أبدا. يقول الحق: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} وساعة تسمع {أُحِلَّ لَكُمْ} فكأن ما يأتي بالتحليل كان محرماً من قبل. والذي أحله الله في هذا القول كان المحرم عينه في الصيام، لأن الصيام إمساك بالنهار عن شهوة البطن وشهوة الفرج، فكأنه قبل أن تنزل هذه الآية كان الرفث إلى النساء في ليل الصيام حراماً، فقد كان الصيام في بدايته إمساكاً عن الطعام من قبل الفجر إلى لحظة الغروب، ولا اقتراب بين الزوجين في الليل أو النهار. فكان الرفث في ليلة الصيام محرماً. وكان يحرم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 عليهم الطعام والشراب بعد صلاة العشاء وبعد النوم حتى يفطروا. وجاء رجل وقال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ذهبت فلم أجد أهلي قد أعدوا لي طعاما، فنمت، فاستيقظت يا رسول الله فعلمت أني لا أقدر أن آكل ولذلك فأنا أعاني من التعب، فأحل الله مسألتين: المسألة الأولى هي: الرفث إلى النساء في الليل، والمسألة الثانية قوله الحق: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} أي كلوا واشربوا إلى الفجر حتى ولو حصل منكم نوم، وهذه رخصة جديدة لكل المسلمين مثلها مثل الرخصة الأولى التي جاءت للمسافر أو المريض، كانت الرخصة الأولى بخصوص مشقة الصوم على المسافر أو المريض، أما الرخصة الجديدة فهي عامة لكل مسلم وهي تعميق لمفهوم الحكم. وقد ترك الحق هذا الترخيص مؤجلا بعض الشيء لكي يدرك كل مسلم مدى التخفيف، لأنه قد سبق له أن تعرض إلى زلة المخالفة، ورفعها الله عنه، وانظر للآية القرآنية وهي تقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} . كلمة {تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} هذه تعلمنا أن الإنسان لم يقو على الصوم كل الوقت عن شهوة الفرج، فعندما تركك تختان نفسك، ثم أنزل لك الترخيص، هنا تشعر بفضل الله عليك. إذن فبعض الرخص التي يرخص الله لعباده في التكاليف: رخصة تأتي مع التشريع، ورخصة تخفيفية تأتي بعد أن يجيء التشريع، لينبه الحق أنه لو لم يفعل ذلك لتعرضتم للخيانة والحرج {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} وانظر الشجاعة في أن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، يذهب إلى النبي ويقول له: أنا يا رسول الله ذهبت كما يذهب الشاب، والذي جاع أيضا يقول للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: إنه جاع، وجاء التشريع ليناسب كل المواقف، فنمسك نهاراً عن شهوتي البطن والفرج، وليلاً أحل الله لنا شهوتي البطن والفرج، وهذا التخفيف إنما جاء بعد وقوع الاختيان ليدلنا على رحمة الله في أنه قدر ظرف الإنسان، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} ، و {الرفث} هو الاستمتاع بالمرأة، سواء كان مقدمات أو جماعاً. . {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} . والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا عملية التحام الرجل والمرأة بكلمة الله، و «اللباس» هو الذي يوضع على الجسم للستر، فكأن المرأة لباس للرجل والرجل لباس للمرأة واللباس أول مدلولاته ستر العورة. فكأن الرجل لباس للمرأة أي ستر عورتها، والمرأة تستر عورته، فكأنها عملية تبادلية، فهذا يحدث في الواقع فهما يلتفان في ثوب واحد، ولذلك يقول: {بَاشِرُوهُنَّ} أي هات البشرة على البشرة. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا أن المرأة لباس ساتر للرجل، والرجل لباس ساتر للمرأة، ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يظل هذا اللباس ستراً بحيث لا يفضح شيئاً من الزوجين عند الآخرين. ولذلك فالنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يحذرنا أن يحدث بين الرجل وأهله شيء بالليل وبعد ذلك تقول به المرأة نهاراً، أو يقول به الرجل، فهذا الشيء محكوم بقضية الستر المتبادل. {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} . ومادام هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، فيكون من رحمة التشريع بالإنسان وقد ضَمَّ الرجل والمرأة لباس واحد وبعد ذلك نطلب منهما أن يمتنعا عن التواصل. إذن فقول: {تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} كان مسألة حتمية طبيعية، ولذلك قال الحق بعدها: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ومعنى «تاب عليكم» هو إخبار من الله بأنه تاب، وحين يخبر الله بأنه تاب، أي شرع لهم التوبة، والتوبة كما نعرف تأتي على ثلاث مراحل: يشرع الله التوبة أولا، ثم تتوب أنت ثانيا، ثم يقبل الله التوبة ثالثاً، {وَعَفَا عَنْكُمْ} لأنه مادام قد جعل هذه العملية لحكمة إبراز سمو التشريع في التخفيف، فيكون القصد أن تقع هنا وأن يكون العفو منه سبحانه. ويقول الحق: {فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} فلم يشأ أن يترك المباشرة على عنانها فقال: أنت في المباشرة لابد أن تتذكر ما كتبه الله، وما كتبه الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 هو الإعفاف بهذا اللقاء والإنجاب، فالمرأة تقصد إعفاف الرجل حتى لا تمتد عينه إلى امرأة أخرى، وهو يقصد أيضا بهذه العملية أن يعفها حتى لا تنظر إلى غيره، والله يريد الإعفاف في تلك المسألة لينشأ الطفل في هذا اللقاء على أرض صلبة من الطهر والنقاء. وحتى لا يتشكك الرجل في بضع منه هم أبناؤه، والحق سبحانه يريد طهارة الإنسان، فكل نسل يجب أن يكون محسوباً على من استمتع، وبعد الاستمتاع، عليه أن يتحمل التبعة، فلا يصح لمسلم أن يستمتع ويتحمل سواه تبعة ذلك، فالمسلم يأخذ كل أمر بحقه. {فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} أي ما كتب الله من أن الزواج للإعفاف والإنجاب. وفي ذلك طهارة لكل أفراد المجتمع. ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» . ويتابع الحق: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} أي إلى أن يتضح لكم الفجر الصادق. وكان هناك على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أذانان للفجر، كان بلال يؤذن بليل، أي ومازال الليل موجوداً، وكان ابن أم مكتوم يؤذن في اللحظة الأولى من الفجر، ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فإن سمعتم أذان ابن أم مكتوم فأمسكوا» . لكن أحد الصحابة وهو عدي بن حاتم قال: أنا جعلت بجواري خيطا أبيض وخيطاً أسود، وأظل آكل حتى أتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. فقال له: إنك لعريض القفا (أي قليل الفطنة) فالمراد هنا بياض النهار وسواد الليل. ويتابع الحق: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد} . لقد كانوا يفهمون أن المباشرة في الليل حسب ما شرع الله لا تفسد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 الصوم. ولكن كان لابد من وضع آداب للسلوك داخل المسجد أو لآداب سنة الاعتكاف التي سنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في العشر الأواخر من رمضان لهذا أوضح الحق أن حلال المباشرة بين الرجل وزوجته هو لغير المعتكف وفي غير ليل رمضان. أما المعتكف في المسجد فذلك الأمر لا يحل له، ومعنى الاعتكاف هو أن تحصر حركتك في زمن ما على وجودك في مكان ما، ولذلك يقولون: «فلان معتكف هذه الأيام» أي حبس حركته في زمن ما في مكان ما، وليس معنى ذلك أن الاعتكاف مقصور على العشر الأواخر من رمضان فقط، ولكن للمسلم أن يعتكف في بيت الله في أي وقت. واختلف العلماء في الاعتكاف، بعضهم اشترط أن يكون المرء صائماً حين يعتكف، واشترطوا أيضا أن يكون الاعتكاف لمدة معينة، وأن يكون بالمسجد، وقالوا: إن أردت الاعتكاف، فاحصر حركتك في مكان هو بيت الله. وكثير من العلماء يقولون: إنك إذا دخلت المسجد تأخذ ثواب الاعتكاف مادمت قد نويت سنة الاعتكاف؛ بشرط ألا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا؛ لأنك جئت من حركتك المطلقة في الأرض إلى بيت الله في تلك اللحظة، فاجعل لحظاتك لله. ولذلك «حينما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً ينشد ضالته في المسجد أي شيئا قد ضاع منه فقال له:» لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا «. لماذا؟ لأن المسجد مكان للعبادة، ولذلك أقول لمن يحدثني في المسجد بأي شيء يتعلق بحركة الحياة: «أبشر بأنها لن تنفع» ؛ لأنك دخلت المسجد للعبادة فقط، إن لحظة دخولك المسجد هي لحظة جئت فيها لتقترب من ربك وتناجيه، وتعيش في حضن عنايته، فلماذا تأتي بالدنيا معك؟ وليكن لنا في أحد الصحابة قدوة حسنة؛ كان يقول: كنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا. وزاد صحابي آخر فقال له: وزد يا أخي أننا نترك أقدارنا مع نعالنا. انظر إلى الدقة، إن الصحابي المتبع لا يخلع الدنيا مع نعله فقط على باب المسجد، ولكن يخلع أيضا قدره في الدنيا. فيمكن أن تأخذك الدنيا ساعات اليوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 الكثيرة، والمسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل، فضع قدرك مع نعلك خارج المسجد، وادخل بلا قدر إلا قدر إيمانك بالله. وأجلس في المكان الذي تجده خالياً. فلا تتخط الرقاب لتصل إلى مكان معين في المسجد. فأنت تدخل بعبودية لله وقد يأتي مجلسك بجانب من يخدمك، والصغير يقعد بجانب الكبير، ولا تلحظ لك قدراً إلا قدرك عند الله. إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يجلس حيث ينتهي به المجلس. أي عندما يجد مكاناً له، وهذا خلاف زماننا حيث يحجز إنساناً مكاناً لإنسان آخر بالسجادة، وقد يدخل إنسان ليتخطى الرقاب، ويجلس في الصف الأول وهو لا يعلم أن الله قد صف الصفوف قبل أن يأتي هو إلى المسجد. ومادمنا سنترك أقدارنا فلا تقل أين سأجلس وبجوار مَنْ؟ بل اجلس حيث ينتهي بك المجلس ولا تتخط الرقاب. وانو الاعتكاف ولا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا حتى لا تدخل في دعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بألا يبارك الله لك في الضالة التي تنشدها وتطلبها. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فهل معنى ذلك أن الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد؟ لا؛ إن الاعتكاف يصح في أي مكان، ولكن الاعتكاف بالمسجد هو الاعتكاف الكامل؛ لأنك تأخذ فيه بالزمان والمكان معاً. {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} ومعنى «الحد» هو الفاصل المانع من اختلاط شيء بشيء، وحدود الله هي محارمه. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «. . ومَنْ وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا إن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه» . إذن فالمحارم هي التي يضع الله لها حداً فلا نتعداه. ولنا أن نلحظ أنه ساعة ينهى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 الله عن شيء فهو يقول: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} وساعة يأمر بأمر يقول سبحانه: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} . وفي ذلك رحمة من الله بك أيّها المكلف. فلا تجعل امرأتك تأتيك وأنت في معتكفك، فقد تكون جميلة، صحيح أنك لا تنوى أن تفعل أي شيء، لكن عليك ألا تقرب أسباب النواهي، ومثال ذلك تحريم الخمر لقد أمر الحق باجتنابها أي ألا تقرب حتى مكان الخمر؛ لأن الاقتراب قد يُزين لك أمر احتسائها، إذن فلكي تمنع نفسك من تلك المحرمات فعليك ألا تقرب النواهي. وفي الأوامر عليك ألا تتعداها. ويذيل الحق الآية بقوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . والآيات هي العجائب، وكل آية هي شيء عجيب لافت، لذلك نقول: هذه آية في الحسن، وتلك آية في الجمال، وقد تُطلق الآية أيضاً على السمة؛ لأن السمة أو العلامة هي التي تلفتنا إلى الشيء، فيكون ما جاء بالآية داخلا في معنى قوله الحق: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . ولقد أوضحت هذه الآية والآيات السابقة عليها، تشريعات الصيام والاستثناء من التشريع. رفعا للحظر ودفعا للمشقة بعد أن تقع، وكل ذلك ليستوفي التشريع كل مطلوبات الله من المُشَرَّع له. حين يأخذ كل إنسان ذلك البيان الوافي من ربه ويسيطر به على حركة حياته في ضوء منهج الله يكون قد اتقى. والتقوى كما نعلم ليست للنار فقط، لكنها اتقاء لكل مشاكل الحياة؛ فالذي يجعل الحياة مليئة بالمشاكل هو أننا نأخذ بالقوانين التي نسنها لأنفسنا ونعمل بها، ولكن إذا أخذنا تقنين الله لنا فمعنى ذلك أننا نتقي المشاكل. ولذلك يقول الحق: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 124] أي أن حياته تمتلئ بالهموم والمشاكل، لأنه يخالف منهج الله. وإذا لم تنشأ المشاكل مع المخالفات لقال الناس: خالفنا منهج الله وفلحنا، لذلك كان لابد أن توجد المشاكل لتنبهنا أن منهج الله يجب أن يسيطر. وحين يتمسك الناس بمنهج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 الله، لن تأتي لهم المشاكل بإذن الله. وانظر إلى دقة الأداء القرآني في ترتيب الأحكام بعضها على بعض، فالإنسان المخلوق لله في الأرض المسخرة له بكل ما فيها، له حياة يجب أن يحافظ عليها. وتبقى الحياة ببقاء الرزق في الاقتيات من مأكل ومشرب، وكذلك يبقى النوع الإنساني بالتزاوج. . وتكلم الله في رزق الاقتيات، فجعله للناس جميعا عندما قال: {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} [البقرة: 168] وتكلم سبحانه مخاطباً المؤمنين في شأن هذا الرزق، فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] وبعد ذلك شاء الله أن يديم على المؤمنين به قضية التكليف فحرَّم عليهم الطعام والشراب والنكاح في أيام رمضان، وهي حلال في غير رمضان، وأحلها الله في ليل رمضان. وإذا كان قد أرشد أن كل حركة في الحياة هدفها بقاء الحياة، وإذا كان بناء الحياة يتوقف على الطعام؛ وهو أمر ضروري لكل إنسان، وإذا كانت الحياة تمتد وتتوالى باستبقاء النوع، فيبلغ الرجل وينضج ويصير أهلاً للإخصاب، وتبلغ المرأة وتنضج وتصير أهلاً للحمل، فإذا كانت كل المسائل السابقة لازمة للجميع، فلابد من تشريع ينظم كل ذلك. إن التشريع يسمح لك أن تأكل مما تملك، أو تأكل مما لا مالك له، كنبات الأرض غير المملوكة لأحد، إلا أنك قبل أن تأكل لابد أن تنظر في الطعام لتعرف هل هو مما أحل الله أم لا؟ والتشريع لا يسمح لك أن تأكل من نبات الأرض المملوك لغيرك، ويحرم عليك أن تصطاد حيوانات مملوكة لغيرك، فالتشريع يحترم الجهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 الذي تحرك به مالك الأرض ليزرع النبات أو ليُربىَ الحيوان، فلا تقل: إن ذلك النبات في الأرض وأنا آكل منه، أو أن ذلك حيوان موجود أمامي وأنا اصطدته. إن الحق يضع التشريع لينظم الحركة في المال المملوك للغير بعد أن نظم الحركة في المال غير المملوك والطعام غير المملوك، فإذا سبقك إلى المال غير المملوك أو الطعام غير المملوك إنسان، أو تحرك إنسان بحركة في الوجود فاستنبط مالاً صارت هناك قضية أخرى لا تتعلق بذات المأكول، ولكن بملكية المأكول، فقد بين الله سبحانه: أن كل عمليات اقتياتك في الحياة عملية لا يمكن أن تستقل بها أنت، فلابد من اختلاط حركة الآخرين معك، فأنت لا تأكل إلا مما يكون في أيديهم، وهم لا يأكلون إلا مما يكون في يدك. فالفلاح مثلاً يبذر البذر، ولكنّه يحتاج إلى الصانع الذي يصنع له الفأس، ويصنع له المحراث، ويصنع له الساقية، والذي يصنع ذلك يحتاج إلى من يعلمه، ويحضر له المواد الخام، إذن فهو سلسلت الأشياء التي توصلك إلى الطعام لوجدت حركات الكون كلها تخدم هذه المسألة. وهكذا نجد أن الآكل من المال المتداول أمر شائع بين البشر، ويريد الله أن يضبطه بنظام فقال سبحانه: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 ومادامت أموالي فلماذا لا آكلها؟ إن الأمر هنا للجميع، والأموال مضافة للجميع، فالمال ساعة يكون ملكا لي، فهو في الوقت نفسه يكون مالاً ينتفع به الغير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 إذن فهو أمر شائع عند الجميع، لكن ما الذي يحكم حركة تداوله؟ إن الذي يحكم حركة تداوله هو الحق الثابت الذي لا يتغير، ولا يحكمه الباطل. وما معنى الباطل، والحق؟ إن الباطل هو الزائل، وهو الذي لا يدوم، وهو الذاهب. والحق هو الثابت الذي لا يتغير فلا تأكل بالباطل، أي لا تأكل مما يملكه غيرك إلا بحق أثبته الله بحكم: فلا تسرق، ولا تغتصب، ولا تخطف، ولا ترتش، ولا تكن خائناً في الأمانة التي أنت موكل بها، فكل ذلك إن حدث تكن قد أكلت المال بالباطل. وحين تأكل بالباطل فلن تستطيع أنت شخصياً أن تعفي غيرك مما أبحته لنفسك، وسيأكل غيرك بالباطل أيضاً. ومادمت تأكل بالباطل وغيرك يأكل بالباطل، هنا يصير الناس جميعاً نهباً للناس جميعا. لكن حين يُحكَم الإنسان بقضية الحق فأنت لا تأخذ إلا بالحق، ويجب على الغير ألا يعطيك إلا بالحق، وبذلك تخضع حركة الحياة كلها لقانون ينظم الحق الثابت الذي لا يتغير، لماذا؟ لأن الباطل قد يكون له علو، لكن ليس له استقرار، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17] وساعة ترى مطراً ينزل في مسيلٍ ووادٍ، فأنت تجد هذا المطر قد كنس كل القش والقاذورات وجرفها فطفت فوق الماء ولها رغوة، وكذلك فأنت عندما تدخل الحديد في النار تجده يسيل ويخرج منه الخبث، ويطفو الخبث فوق السطح، وهكذا نجد أن طفو الشيء وعلوه على السطح لا يعني أنه حق، إنه سبحانه يعطينا من الأمور المُحسة ما نستطيع أن نميز من خلاله الأمور المعنوية، وهكذا ترى أن الباطل قد يطفو ويعلو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 إلا أنه لا يدوم، بل ينتهي، والمثل العامي يقول: «يفور ويغور» . إن الله يريد أن تكون حركة حياتنا نظيفة شريفة، حركة كريمة فلا يدخل في بطنك إلا ما عرقت من أجله، ويأخذ كل إنسان حقه. وقبل أن يفكر الإنسان في أن يأكل عليه أن يتحرك ليأكل، لا أن ينتظر ثمرة حركة الآخرين، لماذا؟ لأن هذا الكسل يشيع الفوضى في الحياة. وحين نرى إنساناً لا يعمل ويعيش في راحة ويأكل من عمل غيره فإن هذا الإنسان يصبح مثلاً يحتذي به الآخرون فيقنع الناس جميعاً بالسكون عن الحركة ويعيشون عالة على الآخرين. ويترتب على ذلك توقف حركة الحياة، وهذا باطل زائل، وبه تنتهي ثمار حركة المتحرك، وهنا يجوع الكل. إن الحق يريد للإنسان أن يتحرك ليشبع حاجته من طعام وشراب ومأوى، وبذلك تستمر دورة الحياة. إنه سبحانه يريد أن يضمن لنا شرف الحركة في الحياة بمعنى أن تكون لك حركة في كل شيء تنتفع به؛ لأن حركتك لن يقتصر نفعها عليك، ولكنها سلسلة متدافعة من الحركات المختلفة، وحين تشيع أنت شرف الحركة فالكل سيتحرك نحو هذا الشرف، لكن الباطل يتحقق بعكس ذلك، فأنت حين تأكل من حركة الآخرين تشيع الفوضى في الكون. وعلى هذا فالحركة الحلال لا يكفي فيها أن تتحرك فقط، ولكن يجب أن تنظر إلى شرف الحركة بألا تكون في الباطل، لأن الذي يسرق إنما يتحرك في سرقته، ولكن حركته في غير شرف وهي حركة حرام. إذن كل مسروق في الوجود نتيجة حركة باطلة، وكذلك الغصب، والتدليس، والغش، وعدم الأمانة في العمل، والخيانة في الوديعة، وإنكار الأمانة، كل ذلك باطل، وكل حركة في غير ما شرع الله باطل، حتى المعونة على حركة في غير ما شرع الله، كل ذلك باطل. ويقول لنا الحق سبحانه: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} أي إياكم أن تأكلوها بالباطل ثم تدلوا بها إلى الحكام ليبرروا لكم أن هذا الباطل هو حق لكم. فهناك أناس كثيرون يرون في فعل الحاكم مبرراً لأن يفعلوا مثله، وهذا أمر خاطئ؛ لأن كل إنسان مسئول عن حركته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 لا تقل إن الحاكم قد شرع أعمالاً وتُلقى عليه تبعة أفعالك؛ ومثال ذلك تلك الأشياء التي نقول عليها إنّها فنون جميلة من رقص وغناء وخلاعة، هل إباحة الحكومات لها وعدم منعها لها هل ذلك يجعلها حلالاً؟ لا؛ لأن هناك فرقاً بين الديانة المدنية والديانة الربانية. ولذلك تجد أن الفساد إنما ينشأ في الحياة من مثل هذا السلوك. إن الذين يشتغلون بعمل لا يقره الله فهم يأكلون أموالهم بالباطل، ويُدخلون في بطون أولادهم الأبرياء مالاً باطلاً، وعلى الذين يأكلون من مثل هذه الأشياء أن ينتبهوا جيداً إلى أن الذي يعولهم، إنما أدخل عليهم أشياء من هذا الحرام والباطل، وعليهم أن يذكروا ربهم وأن يقولوا: لا لن نأكل من هذا المصدر؛ لأنه مصدر حرام وباطل، ونحن قد خلقنا الله وهو سبحانه متكفل برزقنا. وأنا اسمع كثيراً ممن يقولون: إن هذه الأعمال الباطلة أصبحت مسائل حياة، ترتبت الحياة عليها ولم نعد نستطيع الاستغناء عنها. وأقول لهم: لا، إن عليكم أن ترتبوا حياتكم من جديد على عمل حلال، وإذا أصر واحد على أن يعمل عملاً غير حلال ليعول من هو تحته، فعلى المُعال أن يقف منه موقفا يرده، ويصر على ألا يأكل من باطل. وتصوروا ماذا يحدث عندما يرفض ابن أن يأكل من عمل أمه التي ترقص مثلا أو تغني، أو عمل والده إذا علم أنه يعمل بالباطل؟ المسألة ستكون قاسية على الأب أو الأم نفسيهما. إن الذين يقولون: إن هذا رزقنا ولا رزق لنا سواه، أقول لهم: إن الله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب، ولا يظن إنسان أن عمله هو الذي سيرزقه، إنما يرزقه الله بسبب هذا العمل: فإن انتقل من عمل باطل إلى عمل آخر حلال فلن يضن الله عليه بعمل حق ورزق حلال ليقتات منه. وقد عالج الحق سبحانه وتعالى هذه القضية حينما أراد أن يحرم بيت الله في مكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 على المشركين، لقد كان هناك أناس يعيشون على ما يأتي به المشركون في موسم الحج، وكان أهل مكة يبيعون في هذا الموسم الاقتصادي كل شيء للمشركين الذين يأتون للبيت، وحين يُحَرِّم الله على المشرك أن يذهب إلى البيت الحرام فماذا يكون موقف هؤلاء؟ إن أول ما يخطر على البال هو الظن القائل: «من أين يعيشون» ؟ ولنتأمل القضية التي يريد الله أن ترسخ في نفس كل مؤمن. قال الحق: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] ثم يأتي للقضية التي تشغل بال الناس فيقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} [التوبة: 28] وهكذا نرى أن هذه القضية لم تخف على الله فلا يقولن أحدٌ إن العمل الباطل الحرام هو مصدر رزقي، ولن أستطيع العيش لو تركته سواء كان تلحيناً أو عزفاً أو تأليفاً للأغاني الخليعة، أو الرقص، أو نحت التماثيل. نقول له: لا، لا تجعل هذا مصدراً لرزقك والله يقول لك: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} . وأنت عندما تتقي الله، فهو سبحانه يجعل لك مخرجاً. {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} ، وعليك أن تترك كل عمل فيه معصية لله وانظر إلى يد الله الممدودة لك بخيره. إذن فقول الله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} تنبيه للناس ألا يُدخلوا في بطونهم وبطون من يعولون إلا مالاً من حق، ومالاً بحركة شريفة؛ نظيفة، وليكن سند المؤمن دائماً قول الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] ولنا أن نعرف أن مَنْ أكل بباطل جاع بحق، أي أن الله يبتليه بمرض يجعله لا يأكل من الحلال الطيب، فتجد إنساناً يمتلك أموالاً ويستطيع أن يأكل من كل ما في الكون من مطعم ومشرب، ولكن الأطباء يحرمون عليه الأكل من أطعمة متعددة لأن أكلها وبال وخطر على صحته، وتكون النعمة أمامه وملك يديه، ولكنه لا يستطيع أن يأكل منها بحق. وفي الوقت نفسه يتمتع بالنعمة أولاده وخدمه وحاشيته وكل مَنْ يعولهم، مثل هذا الإنسان نقول له: لابد أنك أخذت شيئاً بالباطل فحرمك الله من الحق. ومن هنا نقول: «مَنْ أكل بباطل جاع بحق» . وكذلك نقول: «مَنْ استغل وسيلة في باطل أراه الله قبحها بحق» ، فالذي ظلم الناس بقوته وبعضلاته المفتولة لابد أن يأتي عليه يوم يصبح ضعيفاً. والمرأة التي تهز وسطها برشاقة لابد أن يأتي عليها يوم يتيبس وسطها فلا تصبح قادرة على الحركة، والتي تخايل الناس بجمال عيونها في اليمين والشمال لابد أن يأتيها يوم وتعمى فلا ترى أحدا، وينفر الناس من دمامتها. إن كل مَنْ أكل بباطل سيجوع بحق، وكل مَنْ استغل وسيلة بباطل أراه الله قبحها بحق، واكتب قائمة أمامك لمَنْ تعرفهم، واستعرض حياة كل مَنْ استغل شيئاً مما خلقه الله في إشاعة انحراف ما أو جعله وسيلة لباطل لابد أن يُريه الله باطلاً فيه. وأنا أريد الناس أن يعملوا قائمة لكل المنحرفين عن منهج الله، ويتأملوا مسيرة حياتهم، وكل منا يعرف جيرانه وزملاءه من أين يأكلون؟ ومن أين يكتسبون؟ ليتأمل حياتهم ويعرف أعمال الحلال والحرام ويجعل حياتهم عبرة له ولأولاده، كيف كانوا؟ وإلي أي شيء أصبحوا؟ ثم ينظر خواتيم هؤلاء كيف وصلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 ومن حبنا لهؤلاء الناس نقول لهم: تداركوا أمر أنفسكم فلن تخدعوا الله في أنكم تجمعون المال الحرام، وبعد ذلك تخرجون منه الصدقات، إن الله لن يقبل منكم عملكم هذا؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب. ونحن نسمع عن كثير من المنحرفين في الحياة يذهبون للحج، ويقيمون مساجد ويتصدقون، وكل ذلك بأموال مصدرها حرام، ولهؤلاء نقول: إن الله غني عن عبادتكم، وعن صدقاتكم الحرام، وننصحهم بأن الله لا ينتظر منكم بناء بيوت له من حرام أو التصدق على عباده من مال مكتسب بغير حلال، لكنه سبحانه يريد منكم استقامة على المنهج. وحين نتأمل الآية نجد فيها عجباً، يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} لقد ذكر الحق الحكام في الآية؛ لأن الحاكم هو الذي يقنن ويعطي مشروعية للمال ولو كان باطلاً، وقوله سبحانه: {تُدْلُواْ} مأخوذة من «أدلى» ، ونحن ندلي الدلو لرفع الماء من البئر و «دلاه» : أي أخرج الدلو، أما «أدلى» : فمعناها «أنزل الدلو» . ولذلك في قصة الشيطان الذي يغوي الإنسان قال الحق: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} [الأعراف: 22] {وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} أي ترشوا الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالباطل، ومن العجيب أن هذا النص بعينه هو نص الرشوة. والرشوة مأخوذة من الرِّشاء، والرِّشاء هو الحبل الذي يعلق فيه الدَّلو، فأدلى ودَلاَ في الرشوة. ولماذا يدلون بها إلى الحكام؟ إنهم يفعلون ذلك حتى يعطيهم الحكام التشريع التقنيني لأكل أموال الناس بالباطل، وذلك عندما نكون محكومين بقوانين البشر، لكن حينما نكون محكومين بقوانين الله فالحاكم لا يبيح مثل هذا الفعل. ولذلك وضع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا المبدأ فقال: «إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحب أنه صادق فأقضي له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها» . إن الذين يقول ذلك هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو المعصوم، إنه يحذر من أن يحاول أحد أن يبالغ في قوة الحجة ليأخذ بها حقاً ليس له. إذن فحين يُقنن الفساد فذلك نتيجة أن الحاكم يقر ذلك، ويأخذ الإنسان الحاكم كأمر نهائي، مثال ذلك: بعض من الحكام لم يحرموا الربا، ويتعامل به الناس بدعوى الحكومات تحلله، فلا حرج عليهم. ومثل هذا الفهم غير صحيح؛ لأن الحكومات لا يصح أن تحلل ما حرمه الله، وإن حللت ذلك فعلى المؤمن أن يحتاط وأن يعرف أنه والحكام محكومون بقانون إلهي، وإن لم تقنن الحكومات الحلال من أجل سلطتها الزمنية فعلى المؤمن ألا يخرج عن تعاليم دينه. وإذا نظرنا إلى أي فساد في الكون، في أي مظهر من مظاهر الفساد فسنجد أن سببه هو أكل المال بالباطل، ولذلك لم يترك الحق سبحانه وتعالى تلك المسائل غائبة، وإنما جعلها من الأشياء المشاهدة. وأنت إن أردت أن تعرف خلق أي عصر، واستقامته الدينية وأمانته في تصريف الحركة فانظر إلى المعمار في أي عصر من العصور، انظر إلى المباني ومن خلالها تستطيع أن تُقَيم أخلاق العصر. إنك إن نظرت إلى عملية البناء الآن تجد فيها استغلال المال، وعدم أمانة المنفذ، وخيانة العامل، وكل هذه الجوانب تراها في المعمار. لننظر مثلا إلى مجمع التحرير ولنسترجع تاريخ بنائه، ولنقرنه بمبنى هيئة البريد أو دار القضاء العالي وما بني في عهدهما. ولننظر إلى المباني والإنشاءات التي نسمع عنها وتنهار فوق سكانها ولنقارنها بمبنى هيئة البريد أو دار القضاء العالي، سنجد أن المباني القديمة قامت على الذمة والأمانة، أما المباني التي تنهار على سكانها في زماننا أو تعاني من تلف وصلات الصرف الصحي فيها، تلك المباني قامت على غش الممول الشره الطامع، والمهندس المدلس الذي صمم أو أشرف على البناء أو الذي تسلم المبنى وأقر صلاحيته، ومروراً بالعامل الخائن، وتكون النتيجة ضحايا أبرياء لا ذنب لهم، ينهار عليهم المبنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 ويخرجون جثثا من تحت الأنقاض، إن كل ذلك سببه أكل المال بالباطل. ولقد نظر الشاعر أحمد شوقي في هذه المسألة، وجعل الأخلاق والدين من المبادئ فقال: وليس بعامر بنيان قوم ... إذا أخلاقهم كانت خرابا وأنا أقترح على الدولة أن تعد سجلا محفوظا لكل عمارة يتم بناؤها، ويُحفظ في هذا السجل اسم ممولها، والمهندس الذي أشرف على بنائها، وكذلك أسماء عمال البناء، وعمال التشطيب، والأعمال الصحية والكهربائية وكافة العمال الذين شاركوا في بنائها. ويُحفظ كل ذلك في ملف خاص بالعمارة، وعندما يحدث أي شيء يأتون بهؤلاء، كل في تخصصه ويحاسبونهم على ما قصروا فيه من عمل، وإلا فإن أرواح الناس ستذهب سدي؛ فكل إنسان منا له فرصة في هذه الحياة وعليه ألا يطغى على نصيب غيره. وهب أننا نأخذ سلعة «بطابور» حتى لا يتقدم أحد على دور الآخر، وقد جاء الأول في «الطابور» من الساعة السابعة صباحاً وأخذ دوره، وجاء آخر متأخرا بعد أن نام واستراح ثم قضى جميع مصالحه وذهب للجمعية ووجد الصف طويلا، فنظر حوله إلى شخص يتخطى هذا «الطابور» ؛ وأعطاه مبلغا من المال سهل له قضاء حاجته، مثل هذا الإنسان تعدى على حقوق كل الواقفين في «الطابور» . وقد يقول: أنا أخذت مثلما يأخذون، نقول له: لا؛ لقد أخذت زمن غيرك ولا يصح أن تأتي آخر الناس وتأخذ حق الشخص الذي وقف في «الطابور» من السابعة صباحا. إن حقك مرتبط بزمنك، فلا تعتد على وقت الآخرين الذين هم أضعف منك قدرة أو مالاً. إن الحق يقول: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . والفريق هو الجماعة المعزولة من جماعة أكثر عددا، فإذا ما انفصلت جماعة صغيرة عن أناس بهذه الجماعة تُسمى فريقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 والإثم الأصيل فيه ولو لم يكن هناك دين أن تفعل ما تُعاب عليه وتُذم، وكذلك تُعاب عليه وتُذم من ناحية الدين، وفوق ذلك تعاقب في الآخرة. وما هو مقياس الحق والباطل؟ إن المقياس الذي ينجيك من الباطل هو أن تقبل لنفسك ما تقبله للطرف الآخر في أية صفقة أو معاملة؛ لأنك لا ترضى لنفسك إلا ما تعلم أن فيه نفعاً لك. ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى إلى قضية يعالج فيها أمراً واجه الدعوة الإسلامية، والدعوة الإسلامية إنما جاءت لتخلع المؤمنين بالله من واقع في الحياة كان كله أو أغلبه باطلاً، ولكنهم اعتادوه وألفوه أو استفاد أناس من ذلك الباطل، ذلك أن الباطل لا يستمر إلا إذا كان هناك مَنْ يستفيدون منه. وجاء الإسلام ليخلص الناس من هذه الأشياء الباطلة. فالحق لم يشأ أن يعلمنا أن كل أحوال الناس غارقة في الشرور، بل كانت هناك أمور أقرها الإسلام كما هي، فالإسلام لم يغير لمجرد التغيير، ولكنه واجه الأمور الضارة بالحياة التي لا يستفيد منها إلا أهل الباطل. مثال ذلك كان العرف السائد في الدية أنها مائة من الإبل يدفعها أهل القاتل، وقد أبقاها الإسلام كما هي. وحينما استقبل المسلمون الإيمان بالله، فهم قد استقبلوا أحكامه وأرادوا أن يبنوا حياتهم على نظام إسلامي جديد طاهر، حتى الشيء الذي كانوا يعملونه في الجاهلية كانوا يسألون عن حكمه؛ لأنهم لا يريدون أن يصنعوه على عادة ما كان يصنع، بل على نية القربى إلى الله بالامتثال، إذن فهم عشقوا التكليف، وعلموا أن الله لم يكلفهم إلا بالنافع، وعندما نقرأ {يَسْأَلُونَكَ} في القرآن فاعلم أنها من هذا النوع، مثل ذلك قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 219] وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} [البقرة: 220] وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} [البقرة: 215] وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين. .} [الكهف: 83] وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} [الأنفال: 1] إذن فكل سؤال معناه أنهم أرادوا أن يبنوا حياتهم على نظام إسلامي، حتى الشيء الذي لم يغيره الإسلام أرادوا أن يعرفوه ويصنعوه على أنه حكم الإسلام لا على حكم العادة. والسؤال الذي نحن بصدده يعالج قضية كونية. وعندما يسأل المسلمون عن قضية كونية فذلك دليل على أنهم التفتوا إلى كون الله التفاتاً دينياً آخر، لقد وجدوا الشمس تشرق كل يوم ولا تتغير، أما القمر الذي يطلع في الليل فهو الذي يتغير، إنه يبدأ في أول الشهر صغيراً ثم يكبر حتى يصبح بدراً، وبعد ذلك يبدأ في التناقص حتى يعود إلى ما كان عليه، لقد لفت نظرهم ما يحدث للقمر ولا يحدث من الشمس، فسألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو أن بعضاً من اليهود أرادوا إحراج المسلمين فقالوا لهم: «اسألوا رسولكم عن الهلال كيف يبدأ صغيراً ثم يكبر حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 يصير بدراً ثم يعود لدورته مرة أخرى حتى يغرب ليلتين لا نراه فيهما» ، وهذا السؤال سجله القرآن في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 الأهلة جمع هلال، وسمى هلالاً لأن الإنسان ساعة يراه يهل، أي يرفع صوته بالتهليل، ويجيب الحق سبحانه وتعالى الجواب الذي يحمل كل التفاصيل عن القمر، وهو الكوكب الذي خضع لنشاطات العقل حتى يكتشفه، والعرب القدامى لم يكونوا يعلمون شيئاً عن ذلك القمر، ولكنهم كانوا يؤرخون به، وعلمهم به لم يزد على حدود انتفاعهم به. ولم يصلوا إلى الترف العقلي الذي يتأملون به آيات الله في الكون، فكل آيات الكون يُنتفع بها ثم ينشط العقل بعد ذلك، فنعرف السبب، وقد لا ينشط العقل فتظل الفائدة هي الفائدة. وأراد الحق سبحانه أن يلفتنا لمبدأ هام، وهو أن يعلمنا كيف نستفيد من الآيات الكونية مثل القمر، لا يكفي ظهوره واختفاؤه، وتغير حجمه، لأن هذه لن يتسع لها العقل، بل نستفيد منه كميقات، ونستخدمه لقياس الزمن. فإذا كنا ونحن نعيش في القرن العشرين، لم يعرف العلماء سبباً لظواهر القمر، فكيف كان حال الذين سألوا عنها منذ أربعة عشر قرناً؟ قال العلماء المعاصرون في تفسيراتهم مثلاً: إن الشمس مثل حجم الأرض مليونا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 وربع مليون مرة، والقمر أصغر من الأرض، وعندما تأتي الأرض بين الشمس والقمر برغم حجم الشمس الهائل فإن الأرض تحجب جزءاً من القمر، هذا الجزء المحجوب بقدر تدوير القوس المحجوب من الأرض ويصبح هذا الجزء من القمر مظلماً. إن القمر وجوده ثابت لكن الأرض عندما توجد بينه وبين الشمس فهي التي تحجب عنه ضوء الشمس، ويكبر حجم نوره كلما تزحزحت الأرض بعيداً عنه. وعندما تنزاح الأرض بعيداً عنه كلية يظهر في السماء بدراً كاملاً، ثم تعود الأرض بعد ذلك لتحجب عنه جزءاً من الشمس، ويزداد ذلك يوماً بعد يوم، فينقص ضوء الشمس المنعكس عليه تبعاً لذلك، فيقل تدريجياً حتى تأتي الأرض بينه وبين الشمس فلا يظهر منه شيء. ونقول نحن: إننا عندما لا نرى القمر لا في الليل ولا في النهار برغم أنه موجود في مكانه، نقول: إنه مستور في ظل الأرض، لذلك لا نراه. وهذه الظاهرة لا تحدث للشمس لأن جرم الشمس كبير جداً. وعندما يحدث فإن الأثر يكون قليلا، ويسمى بالكسوف. وعندما التفت العرب للكون قالوا: ما بال الهلال يصبح هكذا ثم يكبر حتى يصير بدراً، فقال الحق عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} إنهم هم يسألون عن الأهلة ودورتها، فقطع الله عليهم خيط تفكيرهم وأعطاهم الخلاصة والنتيجة، فقال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} . إن هذا الأمر هو الذي يستطيع العقل في ذلك الزمان أن يعرفه، أما ما وراء ذلك فانتظروا حتى يكشف الزمن عنه، وجهلكم به لا يقلل من نفعكم. لقد كانت كل إجابة لأي سؤال في ذلك الزمان تحتوي على ما يتسع العقل لإدراكه ساعة التشريع، أما بقية الإجابة فالحق يتركها للزمن. ولا يعطينا إلا ما يفيد التشريع، مثال ذلك: كانوا قديما يقولون: الأرض كرة وأثبت لنا العلم أنها كذلك، ورأيناها بالأقمار الصناعية وانتهت القضية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 وعندما سأل العرب عن الأهلة أخبرنا الحق بأنها مواقيت، والمواقيت جمع ميقات، والميقات من الوقت، والوقت هو الزمن، ونعرف أن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى زمن وإلى مكان. إذن فالزمان والمكان مرتبطان بالحدث فلا يوجد زمان ولا مكان إلا إذا وجد حدث. والذي يقول: كيف كان الزمن قبل أن يخلق الله الخلق؟ . نقول له: الزمن وُجد للحادث وهو المخلوقات والله قديم، وما دام الله قديما وليس حادثا فلا زمان ولا مكان، لا تقل متى ولا أين؛ لأن متى وأين مخلوقة. وكيف نعرف الوقت؟ نحن نعرف الوقت بأنه مقدار من الزمن، لمقدار من الحركة ولمقدار من الفعل. وأين المكان في هذا التعريف؟ إن الزمان يتحكم أحياناً في المكان، فيقول الزمان هو الأصل، والمكان طارئ عليه، ومرة أخرى يكون المكان هو الأصل، والزمان هو الطارئ عليه، ومرة ثالثة يتلازم الاثنان الزمان والمكان. ونحن في مصر إذا أردنا الحج فإننا نبدأ الإحرام عند رابغ، ونُسمي رابغ ميقات أهل مصر أي هي المكان الذي لا يتجاوزه من مر عليه إلا وهو محرم. إذن فالميقات قد أطلق على مكان هو رابغ، ومن فور وصول الإنسان المصري إلى رابغ بغية الحج يحرم، سواء كان الوقت صباحاً أو ظهراً أو عصراً أو مغرباً. ولكن عندما نبدأ في الصوم فإن الزمن يصبح هو الأصل في صومك في أي مكان تذهب إليه، إن الزمان هو الذي يحدد مواعيد الصوم: في طنطا أو لندن أو في طوكيو، وهكذا نعرف كيف يكون الزمن ميقاتاً. إذن فمرة يكون الزمن هو المتحكم في الميقات والمكان طارئ عليه، ومرة يكون المكان هو الذي يتحكم في الميقات، والزمن طارئ عليه، ومرة يتحكم الزمان والمكان معاً في الفعل مثل يوم عرفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 وهكذا نعرف معنى {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} ، فنحن بالهلال نعرف بدء شهر رمضان، ونعرف به عيد الفطر، وكذلك موسم الحج وعدة المرأة، والأشهر الحرم، إن كل هذه الأمور إنما نعرفها بالمواقيت. وشاء الحق أن يجعل الهلال هو أسلوب تعريفنا تلك الأمور وجعل الشمس لتدلنا على اليوم فقط، وإن كان لها عمل آخر في البروج التي يتعلق بها حالة الطقس والجو، والزراعة، ولذلك قال: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} [يونس: 5] وانظر إلى الدقة في الأداء وكيف يشرح الحق للإنسان ماهية النور، وماهية الضوء. إن الشمس مضيئة بذاتها، أما القمر فهو منير؛ لأن ضوءه من غيره؛ فهو مثل قطعة الحجر اللامعة التي تنعكس عليها أشعة الشمس فتعطينا نوراً. إن القمر منير بضوء غيره، ولذلك يقول الحق في آية أخرى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61] والسراج في هذه الآية هو الشمس التي فيها حرارة، وجعلها الحق ذات بروج، أما القمر فله منازل وهو منير بضوء غيره؛ وفي ذلك يقول الحق: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] إذن، فعدد السنين وحسابها يأتي من القمر، وفي زماننا إذا أرادوا أن يضبطوا المعايير الزمنية فهم يقيمونها بحساب القمر؛ فقد وجدوا أن الحساب بالقمر أضبط من الحساب بالشمس؛ فالحساب بالشمس يختل يوماً كل عدد من السنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 ولنفهم الفرق بين منازل القمر وبروج الشمس. إن البروج هي أسماء من اللغة السريانية، وهو: برج الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والعذراء، والأسد، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وعددها اثنا عشر برجا هذه هي أبراج الشمس، ويتعلق بها مواعيد الزرع والطقس والجو، ويحب أن نفهم أن لله في البروج أسراراً، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعلها قسماً حين يقول: {والسمآء ذَاتِ البروج} . ولذلك تجد أن التوقيت في الشمس لا يختلف؛ فالشهور التي تأتي في البرد، والتي تأتي في الحر هي هي، وكذلك التي تأتي في الخريف، والربيع، وبين السنة الشمسية والسنة القمرية أحد عشر يوما، والسنة القمرية هي التي تستخدم في التحديد التاريخي للشهور العربية ونعرف بداية كل شهر بالهلال: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} [التوبة: 36] ولذلك كانت تكاليف العبادة محسوبة بالقمر حتى تسيح المنازل القمرية في البروج الشمسية، فيأتي التكليف في كل جو وطقس من أجواء السنة، فلا تصوم رمضان في صيف دائم، ولا في شتاء دائم، ولكن يُقَلِّبُ الله مواعيد العبادات على سائر أيام السنة، والذين يعيشون في المناطق الباردة مثلاً لو كان الحج ثابتا في موسم الصيف لما استطاعوا أن يؤدوا الفريضة، ولكن يدور موسم الحج في سائر الشهور فعندما يأتي الحج في الشتاء ييسر لهم مهمة أداء الفريضة في مناخ قريب من مناخ بلادهم. وهكذا نجد أن حكمة الله اقتضت أن تدور مواقيت العبادات على سائر أيام السنة حتى يستطيع كل الناس حسب ظروفهم المناخية أن يؤدوا العبادات بلا مشقة. إذن فالمنازل شائعة في البروج، وهذا سبب قول بعض العلماء: إن ليلة القدر تمر دائرة في كل ليالي السنة، وذلك حسب سياحة المنازل في البروج. إذن فهناك بروج للشمس، ومنازل للقمر، ومواقع للنجوم، ومواقع النجوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 التي يقسم بها الله سبحانه في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76] ولعل وقتا يأتي يكشف الله فيها للبشرية أثر مواقع النجوم على حياة الخلق وذلك عندما تتهيأ النفوس لذلك وتقدر العقول على استيعابه. إذن كل شيء في الكون له نظام: للشمس بروج، وللقمر منازل، وللنجوم مواقع. وكل أسرار الكون ونواميسه ونظامه في هذه المخلوقات، وقد أعطانا الله من أسرار الأهلة أنها مواقيت للناس والحج. وعندما تكلم سبحانه عن الحج أراد أن يعطينا حكماً متعلقاً به؛ فقد كانت هناك قبائل من العرب تعرف بالحمس، هؤلاء الحمس كانوا متشددين في دينهم ومتحمسين له، ومنهم كانت قريش، وكنانة، وخثعم، وجشم، وبنو صعصاع بن عامر. وكان إذا حج الفرد من هؤلاء لا يدخل بيته من الباب لأنه أشعث أغبر من أداء مناسك الحج. ويحاول أن يدخل بيته على غير عادته، لذلك كان يدخل من ظهر البيت، وكان ذلك تشدداً منهم، لم يرد الله أن يُشرَعه. حتى لا يطلع على شيء يكرهه في زوجه أو أهله. وأراد سبحانه عندما ذكر مناسك الحج في القرآن أن ينقي المناسك من هذه العادة المألوفة عند العرب فقال: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لا تجعلوا المسائل شكلية، فنحن نريد أصل البر وهو الشيء الحسن النافع. والملاحظ أن كلمة «البر» في هذه الآية جاءت مرفوعة، لأن موقعها من الإعراب هو «اسم ليس» وهي تختلف عن كلمة «البر» التي جاءت من قبل في قوله تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب} التي جاءت منصوبة؛ لأن موقعها من الإعراب هو «خبر مقدم لليس» . حاول المستشرقون أن يأخذوا هذا الاختلاف في الرفع والنصب على القرآن الكريم. ونقول لهم: أنتم قليلو الفطنة والمعرفة باللغة العربية، فماذا نفعل لكم؟ . يصح أن نجعل الخبر مبتدأ فنقول: « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 زيد مجتهد» ، هذا إذا كنا نعلم زيداً ونجهل صفته، فجعلنا زيداً مبتدأ، ومجتهداً خبراً. لكن إذا كنا نعرف إنسانا مجتهداً ولا نعرف من هو؛ فإننا نقول: «المجتهد زيد» . إذن فمرة يكون الاسم معروفاً لك فتلحق به الوصف، ومرة تجهل الاسم وتعرف الوصف فتلحق الاسم بالوصف. وهذا سر اختلاف الرفع والنصب في كلمة «البر» في كل من الآيتين. ونقول للمستشرقين: إن لكل كلمة في القرآن ترتيباً ومعنى، فلا تتناولوا القرآن بالجهل، ثم تثيروا الإشكالات التي لا تقلل من قيمة الكتاب ولكنها تكشف جهلكم. ثم ما هو «البر» ؟ قلنا: إن البر هو الشيء الحسن النافع. ولو ترك الله لنا تحديد «البر» لاختلفت قدرة كل منا على فهم الحسن والنافع باختلاف عقولنا؛ فأنت ترى هذا «حسناً» ؛ وذاك يرى شيئا آخر، وثالث يرى عكس ما تراه، لذلك يخلع الله يدنا من بيان معنى البر، ويحدد لنا سبحانه مواصفات الحسن النافع، فما من واحد ينحرف ويميل إلى شيء إلا وهو يعتقد أنه هو الحسن النافع، ولذلك يقول الحق: {ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا} . إن هذا يدلنا على أن كل غاية لها طريق يوصل إليها، فاذهب إلى الغاية من الطريق الذي يوصل إليها. ويتبع الحق قوله عن البر: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . لا تزال كلمة التقوى هي الشائعة في هذه السورة، وكل حكم يعقبه السبب من تشريعه وهو التقوى. ونعرف أن معنى التقوى هو أن تتقي معضلات الحياة، ومشكلاتها بأن تلتزم منهج الله. وساعة ترى منهج الله وتطبقه فأنت اتقيت المشكلات، أما من يعرض عن تقوى الله فإن الحق يقول عن مصيره: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 124] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 ولا يظن أحد أن التقوى هي اتقاء النار، لا، إنها أعم من ذلك، إنها اتقاء المشكلات والمخاطر التي تنشأ من مخالفة منهج الله. وليعلم الإنسان أن كل مخالفة منهج الله. وليعلم الإنسان أن كل مخالفة ارتكبها لابد أن يمر عليها يوم تُرتكب فيه هذه المخالفة كما ارتكبها في غيره، فمن لا يحب أن تُجرى فيه المخالفات فعليه ألا يرتكب المخالفات في غيره. وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضية أخرى، وهذه القضية الأخرى هي التي تميز الأمة الإسلامية بخصوصية فريدة؛ لأنه سبحانه قد أوجد وفطر هذه الأمة على منهاج قويم لم تظفر به أمة من قبل، وهذه الخصوصية هي أن الله قد أمن أمة محمد على أن تؤدب الخارجين على منهج الله؛ فقديماً كانت السماء هي التي تُؤدب هؤلاء الخارجين عن المنهج. كان الرسول يشرح ويبلغ المنهج، فإن خالفه الناس تتدخل السماء وتعاقبهم، إما بصاعقة، وإما بعذاب، وإما بفيضان، وإما بأي وسيلة. ولم يكن الرسل مكلفين بحمل وقسر الناس على المنهج. وحين سأل بنو إسرائيل ربهم أن يقاتلوا، لم يكن قتالهم من أجل الدين مصداقاً للآية الكريمة: {قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} [البقرة: 246] علة القتال إذن أنهم أُخرجوا من بيوتهم وأُجبروا على ترك أولادهم، فهم عندما سألوا القتال لم يسألوه للدفاع عن العقيدة، وإنما لأنهم أخرجوا من ديارهم وأولادهم. أما أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهي التي أمنها الله على أن يكون في يدها الميزان، وليس هذا الميزان ميزان تسلط، وإنما هو ميزان يحمي كرامة الإنسان بأن يصون له حرية اختياره بالعقل الذي خلقه الله، فلا إكراه في الإيمان بالله. وقد شرع الله القتال لأمة محمد لا ليفرض به دينا، ولكن ليحمي اختيارك في أن تختار الدين الذي ترتضيه. وهو يمنع سدود الطغيان التي تحول دونك ودون أن تكون حراً مختاراً في أن تقبل التكليف. ولذلك فالذين يحاولون أن يلصقوا بالإسلام تهمة أنه انتشر بالسيف نقول لهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 إن حججهم ساقطة واهية، وكذلك قولهم: إن الإسلام عندما يفرض الجزية فكأنه جاء لجباية الأموال، نقول لهؤلاء: جزية على مَنْ؟ جزية على غير المؤمن، ومادام قد فُرضت عليه جزية فمعنى ذلك أنه أباح له أن يكون غير مؤمن، لو كان الإسلام يُكره الناس على اعتناقه لما كان هناك مَنْ نأخذ عليه جزية. إذن فالإسلام لم يُكرهه، وإنما حماه من القوة التي تسيطر عليه حتى لا يُكرهه أحد على ترك دينه، وهو حر بعد ذلك في أن يسلم أو لا يسلم. وكأن الذين ينتقدون الإسلام يدافعون عنه؛ فسهامهم قد ارتدت إليهم. وهنا تساؤل قد يثور: إذا كان الأمر كذلك فلماذا كانت حروب المسلمين؟ نقول: إن حروب الإسلام كانت لمواجهة الذين يفرضون العقائد الباطلة على غيرهم، وجاء الإسلام ليقول لهؤلاء: ارفعوا أيديكم عن الناس واجعلوهم أحراراً في أن يختاروا الدين المناسب. ولماذا تركهم الإسلام أحراراً؟ لأنه واثق أن الإنسان مادام على حريته في أن يختار فلا يمكن أن يجد إلا الحق واضحاً في الإسلام. ولذلك فكثير من الناس الذين يقرأون قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين. .} [البقرة: 256] لا يفطنون إلى أن العلة واضحة في قوله سبحانه من الآية نفسها {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} . إذن فالمسألة واضحة لماذا نُكره الناس وقد وضح أمامهم الحق والباطل؟ نحن فقط نمنع الذين يفرضون عقائدهم الباطلة على الناس؛ فأنت تستطيع أن تُكره القالب، لكن لا تستطيع أن تُكره القلب. ونحن نريد أن ينبع الإيمان من القلب، ولهذا يقول الحق لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] إن الله لا يريد أعناقاً، لو كان يريد أعناقاً لما استطاع أحد أن يخرج عن قدره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 سبحانه من يُريد الله أن يبتليه بمرض أو موت فلن ينجو من قدره. إن الحق يريد إيمان قلوب لا رضوخ قوالب. فالذي يجبر الآخرين على الإيمان بالكرباج لن يتبعه أحد، وهو نفسه غير مؤمن بما يفرضه على الناس. ولو كان مؤمنا به لما فرضه على الناس بالقسر؛ إنهم سيقبلونه عن طواعية واختيار عندما يتبيّن لهم أنه الحق المناسب لصلاح حياتهم. ونحن نلتفت حولنا فنجد أن النظم والحكومات التي تفرض مبادئها بالسوط والقهر تتساقط تباعاً، فعندما تتخلى هذه الحكومات عن السوط والبطش فإن الشعوب تتخلى عن تلك الأفكار. والقرآن هنا يعالج هذه المسألة عندما يتحدث عن القتال وتشريع القتال، الأمر الذي اختص به الحق أمة الإسلام. وهو سبحانه لم يأذن بالقتال خلال فترة الدعوة المكية التي استمرت ثلاثة عشر عاماً، ثم أذن به بعد الهجرة إلى المدينة. وقد كان من الضروري أن يتأخر أمر القتال؛ لأن الحق أراد أولاً أن يلتفت المسلمون إلى اتباع المنهج حتى يكونوا لغيرهم قدوة، ويروا فيهم أسوة حسنة، لذلك قال الحق: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] وقال سبحانه أيضاً: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48] لماذا كل هذا التدرج؟ لأن الحق سبحانه وتعالى علم أن الدعوة للإسلام ستدخل البيوت العربية، فسيضم البيت الواحد كافراً بالله ومؤمناً بالله، ولو أنه سبحانه وتعالى شرع القتال من البداية لصار في كل بيت معركة. ثم إن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن تلك القبائل العربية بها كثير من خفة وطيش وسفه؛ وكانوا يقتتلون لأتفه الأسباب؛ فمن أجل ناقة ضربها كليب بسهم في ضرعها فماتت اشتعلت الحرب أربعين سنة. وفي ذلك يقول الشاعر عند الحفيظة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 والغضب: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا والثاني يقول: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا أي أنهم لا يسألون أخاهم: «لماذا نحارب؟» ، وإنما يحاربون بلا سبب ولأي سبب، فالحمية الرعناء تدفعهم للقتال بلا سبب. وفي مقابل ذلك كانت عندهم نخوة للحق، فعندما يرون شخصا قد ظلمه غيره؛ تأخذهم النخوة، ويأخذون على يد الظالم، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يهيج فيهم النخوة حين يرون الضعاف من المسلمين مستضعفين، وقد عزلهم بعض من القوم في شعب أبي طالب وجوعوهم وقاطعوهم حتى اجتمع الخمسة العظام في مكة وقالوا: «كيف نقبل أن نأكل ونشرب ونأتي نساءنا وبنو هاشم وبنو المطلب محصورون في الشعب لا يأكلون ولا يشربون ولا يتبايعون» . لقد كانوا كفاراً، وبرغم ذلك وقفوا موقفاً عظيماً وقالوا: هاتوا الصحيفة التي تعاهدنا فيها على أن نقاطع بني هاشم وبني المطلب ونقطعها؛ واتفقوا على ذلك. وكانوا خمسة من سادات مكة هم: هشام بن عمرو، وزهير بن أبي أمية، وأبو البحتري بن هاشم، وزمعة ابن الأسود، والمطعم بن عدي. وكانوا قادة النخوة التي أنهت مقاطعة المسلمين. هكذا نرى أن العرب كانوا يتسمون بالحمية الرعناء وتقابلها النخوة في الحق. ويعلم الحق سبحانه وتعالى أن نقل أمة العرب مما اعتادته ليس أمراً سهلاً، لذلك أخذهم برفق الهَوَادة. والذين يقولون: لماذا لم يحارب المسلمون أعداءهم من أول وهلة ولماذا لم يقتلوا صناديد الكفر في مكة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 نقول لهم: إن كثيراً من الذين كنتم ترون قتالهم في بداية الدعوة الإسلامية هم الذين نشروا راية الإسلام من بعد ذلك، ومثال ذلك خالد بن الوليد، الذي كان قائداً مغواراً في صفوف المشركين، وقاتل المسلمين في أول حياته، ثم هداه الله للإسلام وأصبح سيف الله المسلول، ماذا لو قتل هذا القائد الفذ على أيدي المسلمين؟ كان مثل هذا الفعل سيتسبب في حرمان المسلمين من موهبته، تلك الموهبة التي أسهمت في معظم الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق. إذن شاءت حكمة الله أن يستبقي أمثال خالد وهم خصوم للإسلام في بدء الدعوة لأن الله قد أعد لهم دوراً يخدمون به الإسلام. والذين نالوا من الإسلام أولا هم الذين ستبقى عندهم الحرارة حتى يعملوا عملاً يغفر الله لهم به ما قد سبق. انظر إلى عكرمة بن أبي جهل كان شوكة في ظهر المسلمين في بداية الدعوة، ثم أسلم وأبلى بلاء حسناً، ولما أصيب في موقعة اليرموك وأوشكت روحه أن تصعد إلى خالقها نظر إلى قائده خالد بن الوليد وقال: أهذه ميتة تُرضى عني رسول الله؟ . كأنه كان يعلم أن رسول الله كان قد غضب عليه قبل أن يسلم. وعمرو بن العاص داهية المسلمين الذي لولاه ما فُتحت مصر. فقد كسب بدهائه أهل مصر فامتنعوا عن قتاله، وناظرهم بعد ذلك حتى استل حقدهم على المسلمين، وأبان لهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال موصياتهم «استوصوا بالقبطيين خير لأن لهم رحما وذمة» وفوق هذا فقد أرسله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى بعض العرب يستقرهم إلى الإسلام. إذن فمن رحمة الله أنه لم يشأ تشريع القتال من البداية، وإلا لكنا فقدنا كثيراً من قادة الإسلام العظام الذين حملوا لواء الدعوة الإسلامية فيما بعد، وكل إنسان استقاه الإسلام وهو خصم وعدو للإسلام، قدر الله له بعد الإسلام دورا يخدم به الدين الخاتم. ومن هنا نفهم الحكمة من تأخير القتال في الإسلام، لأن الله أراد أن يمحص ويختبر، وألا يدخل هذا الدين إلا من يتحمل متاعب هذا الدين، ومشاقه لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 سيكون مأموناً على مجد أمة، وعلى منهج سماء، وتلك أمور لا يصلح لها أي واحد من الناس. وقد كان من الممكن أن ينصر الله دينه من أول وهلة دون تدخل من المسلمين، وكان معنى ذلك أن الناس سيتساوون في الإيمان أولهم وآخرهم، ولكن شاءت إرادته سبحانه وتعالى أن يجعل لهذا الدين رجالاً يفدونه بأرواحهم وأموالهم لينالوا الشهادة ويرتفعوا إلى مصاف النبيين. لذلك جاء الأمر بالقتال متأخراً وبالتدريج؛ لقد جاء الأمر بالقتال في أول مرحلة بقول الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اشتاق هو وصحابته إلى البيت الحرام، وأرادوا أن يعتمروا، فجاءوا في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة. وأرادوا أن يؤدوا العمرة. فلما ذهبوا وكانوا في مكان اسمه الحديبية، ووقفت أمامهم قريش وقالت: لا يمكن أن يدخل محمدٌ وأصحابه مكة. وقامت مفاوضات بين الطرفين، ورضي رسول الله بعدها أن يرجع هذا العام على أن يأتي في العام القادم، وتُخلى لهم مكة ثلاثة أيام في شهر ذي القعدة. وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد بشر أصحابه بأنهم سيدخلون المسجد الحرام محلقين ومقصرين، وشاع ذلك الخبر، وفرح به المسلمون وسعدوا، ثم فوجئوا بمفاوضات رسول الله ورجوعه على بعد نحو عشرين كيلو متراً من مكة وحزن الصحابة. حتى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه غضب وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 ألست رسول الله؟ ألست على الحق؟ فرد عليه سيدنا أبو بكر قائلا: الزم غرزك يا عمر إنه لرسول الله. وقد أظهرت هذه الواقعة موقفا لأم المؤمنين أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وهو موقف يعبر عن الحنان والرحمة والمشورة اللينة الهينة. فحينما دخل عليها رسول الله وقال لها: هلك المسلمون يا أم سلمة، أمرتهم فلم يمتثلوا. فانظر إلى مهمة الزوجة عندما يعود إليها زوجها مهموماً، هنا تتجلى وظيفتها في السكن، قالت أم سلمة: اعذرهم يا رسول الله؛ إنهم مكروبون. كانت نفوسهم مشتاقة لأن يدخلوا بيت الله الحرام محلقين ومقصرين، ثم حرموا منها وهم على بعد أميال منها، اعمد إلى ما أمرك الله فافعله ولا تُكلم أحداً، فإن رأوك فعلت، علموا أن ذلك عزيمة. وأخذ رسول الله بنصيحة أم سلمة، وصنع ما أمره به الله، وتبعه كل المسلمين، وانتهت المسألة. وقبل أن يرجعوا للمدينة لم يشأ الله أن يطيل على الذين انتقدوا الموقف حتى لا يظل الشرخ في نفوس المؤمنين، وتلك عملية نفسية شاقة، لذلك لم يُطل الله عليهم السبب، وجاء بالعلة قائلا لهم: ما يحزنكم في أن ترجعوا إلى المدينة؛ أنتم لكم إخوان مؤمنون في مكة وقد أخفوا إيمانهم وهم مندسون بين الكفار، فلو أنكم دخلتم، وقاتلوكم، ستقاتلون الجميع مؤمنين وكافرين، فتقتلون إخوانا لكم، فلو كان هؤلاء الإخوان المؤمنون متميزين في جانب من مكة لأذنت لكم بقتال المشركين؛ كما تريدون. واقرأ قول الله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 بعد نزول الآية عرف المسلمون أن الامتناع كان لعلة ولحكمة، فلما جاءوا في العام التالي قال الله لهم: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ} [البقرة: 194] وكان الحق يطمئنهم، فالذين صدوكم في ذي القعدة من ذلك العام ستقاتلونهم وستدخلون في ذي القعدة من العام القادم. وخاف المسلمون إن جاءوا في العام المقبل أن تنقض قريش العهد وتقاتلهم، ونزل قول الحق: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} [البقرة: 190] وعندما نتأمل قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} فإننا نجد أن الحق سبحانه يؤكد على كلمة {فِي سَبِيلِ الله} لأنه يريد أن يضع حداً لجبروت البشر، ولابد أن تكون نية القتال في سبيل الله لا أن يكون القتال بنية الاستعلاء والجبروت والطغيان فلا قتال من أجل الحياة، أو المال أو لضمان سوق اقتصادي، وإنما القتال لإعلاء كلمة الله، ونصرة دين الله، هذا هو غرض القتال في الإسلام. {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} والحق ينهى عن الاعتداء، أي لا يقاتل مسلم من لم يقاتله ولا يعتدي. وهب أن قريشا هي التي قاتلت، ولكن أناساً كالنساء والصبيان والعجزة لم يقاتلوا المسلمين مع أنهم في جانب من قاتل، لذلك لا يجوز قتالهم، نعم على قدر الفعل يكون رد الفعل. ماذا؟ لأن في قتال النساء والعجزة اعتداء، وهو سبحانه لا يحب المعتدين. لكن قتال المؤمنين إنما يكون لرد العدوان، ولا بداية عدوان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 ويقول الحق من بعد ذلك: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 ونحن نسمع كلمة «ثقافة» ، وكلمة «ثقاف» ، والثقافة هي يسر التعلم، أو أن تلم بطرف من الأشياء المتعددة، وبذلك يصبح فلان مثقفاً أي لديه كمٌّ من المعلومات، ويعرف بعض الشيء عن كل شيء، ثم يتخصص في فرع من فروع المعرفة فيعرف كل شيء عن شيء واحد. كل هذه المعاني مأخوذة من الأمور المحسة، والتثقيف عند العرب هو تقويم الغصن، فقد كان العرب يأخذون أغصان الشجر ليجعلوها رماحاً وعصياً، والغصن قد يكون معوجاً أو به نتوء، فكان العربي يثقفه، أي يزيل زوائده واعوجاجه، ثم يأتي بالثقاف وهو قطعة من الحديد المعقوف ليقوِّم بها المعوج من الأغصان كما يفعل عامل التسليح بحديد البناء. كأن المُثَقِّف هو الذي يعدل من شيء معوج في الكون؛ فهو يعرف هذه وتلك، وأصبح ذا تقويم سليم. وهكذا نجد أن معاني اللغة وألفاظها مشتقة من المحسات التي أمامنا. وقوله: {ثَقِفْتُمُوهُم} أي «وجدتموهم» ، فثقف الشيء أي وجده. والحق يقول: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم} [الأنفال: 57] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 أي شردهم حيث تجدهم. ويقول الحق: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} أي لا تقولوا إنهم أخرجوكم من هنا، وإنما أخرجوهم من حيث أخرجوكم، أي من أي مكان أنتم فيه، وعن ذلك لن تكونوا معتدين. وقوله تعالى: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يذكرنا بمنطق مشابه في آية أخرى منها قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] وقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ... } [الشورى: 40] وعندما نبحث في ثنايا هذه النصوص {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} «قد يرد هذا الخاطر» أخذت حقي ممن أساء إلي، وانتقمت منه بعمل يماثل العمل الذي فعله معي، هل يقال: إنني فعلت سيئة؟ وحتى نفهم المسألة نقول: الحق سبحانه وتعالى يأتي في بعض الأحايين بلفظ «المشاكلة» وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحته، ومثل ذلك قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} ، إن الله لا يمكر، وإنما اللفظ جاء للمشاكلة، أو أن اللفظ الكريم قد جاء في استيفاء حقك بكلمة {سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} لينبهك إلى أن استيفاء حقك بمثل ما صنع بك يعتبر سيئة إذا ما وازناه بالصفح والعفو عن المسيء، يشير إلى ذلك سبحانه في نهاية هذه الآية بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} وبمثل ذلك كان ختام الآية السابقة {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} . ويقول الحق: {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} ، والفتنة مأخوذة من الأمر الحسي، فصائغ الذهب يأخذ قطعة الذهب فيضعها في النار فتنصهر، فإذا ما كان يشوبها معدن غريب عن الذهب فهو يخرج ويبقى الذهب خالصا، فكأن الفتنة ابتلاء واختبار، وقد فعل المشركون ما هو أسوأ من القتل، فقد حاولوا من قبل أن يفتنوا المؤمنين في دينهم بالتعذيب، فخرج المؤمنون فراراً بدينهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 والحق يأمر المسلمين في قتالهم مع أهل الشرك أن يراعوا حرمة البيت الحرام، فلا ينتهكوها بالقتال إلا إذا قاتلهم أهل الشرك. وهكذا نجد أن أول أمر بالقتال إنما جاء لصد العدوان، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسقط من أيدي خصوم الإسلام ورقة قد يلعبون بها مع المسلمين، فهم يعلمون أن المؤمنين بالإسلام سيحترمون الأشهر الحرم ويحترمون المكان الحرام ويحترمون الإحرام فلا يقاتلون؛ وربما أغرى ذلك خصوم الإسلام ألا يقاتلوا المسلمين إلا في الأشهر الحرم، ويظنون أن المسلمين قد يتهيبون أن يقاتلوهم، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يشرع لهم ما يناسب مثل هذا الأمر فأذن لهم في القتال، فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام، وإن قاتلوكم في المكان الحرام فقاتلوهم في المكان الحرام، وإن قاتلوكم وأنتم حُرم فقاتلوهم؛ لأن الحرمات قصاص. إذن أسقط الحق الورقة من أيدي الكافرين. إن الحق سبحانه وتعالى يعلل ذلك بأنه وإن كان القتال في الشهر الحرام وفي المكان الحرام وفي حال الإحرام صعباً وشديداً فالفتنة في دين الله أشد من القتل، لأن الفتنة إنما جاءت لِتُفسِد على الناس دينهم، صحيح أنها لا تعوق الناس عن أن يتدينوا، ولكنها تفتن الذين تدينوا، وقد حاولوا إجبار المسلمين الأوائل بالتعذيب حتى يرتدوا عن الدين، وكان ذلك أشد من القتل لأنها فتنة في الدين. إن الله هو الذي شرع الشهر الحرام فكيف يُفتن المؤمنون عن دين الله ويُحملون على الشرك به ثم تقولون بعد ذلك إننا في الشهر الحرام؟ إن الشهر الحرام لم يكن حراماً إلا لأن الله هو الذي حرمه، فالفتنة في الله شرك وهو أشد من أن نقاتل في الشهر الحرام، ولذلك فلا داعي أن يتحرج أحد من القتال في الشهر الحرام عندما يفتن في دينه. وحينئذ نعلم أن القتال إنما جاء دفاعاً. وبعد ذلك هل يظل القتال دفاعاً كما يريد خصوم الإسلام أن يجعلوه دفاعاً عَمّن آمن فقط؟ أو كما يريد الذين يحاولون أن يدفعوا عن الإسلام أنه دين قتال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 ويقولون: لا، الإسلام إنما جاء بقتال الدفاع فقط. نقول لهؤلاء: قتال الدفاع عَمَّن؟ هل دفاع عَمَّن آمن فقط؟ أم عن مطلق إنسان نريد أن ندفع عنه ما يؤثر في اختيار دينه؟ هو دفاع أيضاً، وسنسميه دفاعاً، ولكنه دفاع عَمَّن آمن، ندفع عنه مَنْ يعتدي عليه، وأيضاً عَمَّن لم يؤمن ندفع عنه من يؤثر عليه في اختيار دينه لنحمي له اختياره، لا لنحمله على الدين، ولكن لنجعله حراً في الاختيار؛ فالقوى التي تفرض على الناس ديناً نزيحها من الطريق، ونعلن دعوة الإسلام، فمَنْ وقف أمام هذه الدعوة نحاربه؛ لأنه يفسد على الناس اختيار دينهم، وفي هذا أيضاً دفاع. {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} لأنكم أحرى وأجدر أن تحترموا تحريم الله للمسجد الحرام، لكن إذا هم اجترأوا على القتال في المسجد الحرام فقد أباح سبحانه لكم أيها المسلمون أن تقاتلوهم عند المسجد الحرام ما داموا قد قاتلوكم فيه. {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وما أسمى هذا الدين. إننا لا نؤاخذهم بعد أن انتهوا إلى الإيمان بما قدمت أيديهم من الاجتراء على أهل الإيمان ما داموا قد آمنوا، ولذلك نرى عمر بن الخطاب وقد مر على قاتل أخيه زيد بن الخطاب: وأشار رجل وقال: هذا قاتل زيد. فقال عمر: وماذا أصنع به وقد أسلم؟ لقد عصم الإسلام دمه. لقد انتهت المسألة بإسلامه، فالإيمان بالله أعز على المؤمن من دمه ومن نفسه وحين يؤمن فقد انتهت الخصومة. وهذا وحشي قاتل حمزة، يقابله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكل ما يصنعه رسول الله هو أن يزوي وجهه عنه، لكنه لا يقتله ولا يثأر منه. وهند زوجة أبي سفيان التي أكلت كبد حمزة، أسلمت وانتهت فعلتها بإسلامها. إذن، فالإسلام ليس دين حقد ولا ثأر ولا تصفية حسابات، فإذا كان الدم يغلي في مواجهة الكفر، فإن إيمان الكافر بالإسلام يعطيه السلامة، هذا هو الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 أي ما داموا قد كفوا عما يصنعون من الفتنة بالدعوة والشرك بالله وَزُجِروا بالدين الآمر فانزجروا عن الكفر، بعدها لا شيء لنا عندهم؛ لأن الله غفور رحيم، فلا يصح أن يشيع في نفوسنا الحقد على ما فعلوه بنا قديما، بل نحتسب ذلك عند الله، وما داموا قد آمنوا فذلك يكفينا. والحق سبحانه وتعالى بعد أن أعطانا مراحل القتال ودوافعه قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 وعرفنا أن الفتنة ابتلاء واختبار والحق يقول: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] إن الحق يختبر الإيمان بالفتنة، ويرى الذين يُعلنون الإيمان هل يصبرون على ما فيه من ابتلاءآت أم لا؟ فلو كان دخول الإسلام لا يترتب عليه دخول في حرب أو قتال ولا يترتب عليه استشهاد بعض المؤمنين لكان الأمر مغريا لكثير من الناس بالدخول في الإسلام، لكن الله جعل لهم الفتنة في أن يُهزَموا ويُقتل منهم عدد من الشهداء، وذلك حتى لا يدخل الدين إلا الصفوة التي تحمل كرامة الدعوة، وتتولى حماية الأرض من الفساد، فلا بد أن يكون المؤمنون هم خلاصة الناس. لذلك قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} . معنى أن يكون الدين لله، أي تخرجوهم من ديانة أنفسهم أو من الديانات التي فرضها الطغيان عليهم، وعندما نأخذهم من ديانات الطغيان، ومن الديانات التي زينها الناس إلى ديانات الخالق فهذه مسألة حسن بالنسبة لهم، وتلك مهمة سامية. كأنك بهذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 المهمة السامية تريد أن ترشد العقل الإنساني وتصرفه وتمنعه من أن يَديِنَ لمساو له؛ إلى أن يدين لمن خلقه. وعلى صاحب مثل هذا العقل أن يشكر من يوجهه إلى هذا الصواب. ولذلك يُجلى الحق سبحانه وتعالى هذه الحقيقة فيقول على لسان الرسول: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان: 57] فكأننا لو نظرنا إلى عمل الرسول بالنسبة إلينا بمنظار الاقتصاد لوجب أن يكون له أجر، لأنه يقدم المنفعة لنا، وبرغم ما قدمه من منفعة فهو لا يأخذ أجراً؛ لأنه زاهد في الأجر؛ فإنه يعلم أن الأجر من المساوي له قليل مهما عظم وهو يريد الأجر ممن خلقه، وهذا طمع في الأعلى؛ لأنه لا يعطي الأجر على الإيمان إلا الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يعطي بلا حدود. ويختتم الحق هذه الآية الكريمة بقوله: {فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين} أي أنهم إذا انتهوا إلى عدم قتالكم، فأنتم لن تعتدوا عليهم، بل ستردون عدوان الظالم منهم. والظالم حين يعتدي يظن أنه لن يقدر عليه أحد، والحق يطلب منا أن نقول له: بل نقدر عليك، ونعتدي عليك بمثل ما اعتديت علينا. ويعطينا الحق حيثية ذلك فيقول: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 والمقصود هو أنه إذا ما قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام، فإذا ما اعتدوا على حرمة زمان فالقصاص يكون في زمان مثله، وإن اعتدوا في حرمة مكان يكن القصاص بحرمة مكان مثله، وإذا كان الاعتداء بحرمة إحرام، يكون الرد بحرمة إحرام مثله؛ لأن القصاص هو أن تأخذ للمظلوم مثل ما فعل الظالم. إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يخفف وقع الأمر على المؤمنين الذين رُدوا عام الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة وأعادهم المشركون إلى المدينة، فاقتص الله منهم بأن أعادهم في ذي القعدة في العام القابل في السنة السابعة من الهجرة، فإن كانوا قد مُنعوا في الشهر الحرام فقد أراد الله أن يعودوا لزيارة البيت في الشهر الحرام في الزمان نفسه. وقوله الحق: {والحرمات قِصَاصٌ} يقتضي منا أن نسأل: كيف يكون ذلك؟ وما هو الشيء الحرام؟ إن الشيء الحرام هو ما يُحظر هتكه، والشيء الحلال هو المُطلق والمأذون فيه. فهل يعني ذلك أن الذي يقوم بعمل حرام نقتص منه بعمل مماثل؟ هل إذا زنى رجل بامرأة نقول له نقتص منك بالزنى فيك؟ لا. إن القصاص في الحرمات لا يكون إلا في المأذون به وكذلك إذا سرق مني إنسان مالاً وليس لدي بينة، لكني مقتنع بأنه هو الذي سرق هل أقتص منه بأن أسرق منه؟ لا، إن القصاص إنما يكون في الأمر المعروف الواضح، أما الأمر المختفي فلا يمكن أن نقتص منه بمثل ما فعل. لكن هب أن أحد الأقارب ممَّنْ تجب نفقتهم عليك وامتنعت أنت عن النفقة على هذا الإنسان، وهذا أمر محرم عليك، وما دام الأمر علنياً فله أن يأخذ من مالك فيأكل وتكون المسألة قصاصاً. وهب أن زوجتك تشتكي من بخلك وتقصيرك، كما « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 اشتكت هند زوجة أبي سفيان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من بخل زوجها فقال لها: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك» . ومثال آخر، هب أن ضيفا بمنزلك ورفضت أن تكرمه، وانتهز فرصة بعدك عن المكان الذي يجلس فيه ثم تناول شيئا وأكله. لا يكون تعديا عليك ما لم يكن داخلا في محرم آخر، وبعد ذلك يترك الحق لولي الأمر تنظيم هذه الأمور حتى لا تصير المسائل إلى الفوضى. وقوله الحق: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} يدعونا إلى اليقظة حتى لا يخدعنا أحد ويدعي الإيمان وهو يريد الانتقام. ويجب أن نتمثل قول الشاعر: إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضرة ويختم الحق الآية الكريمة بقوله: {واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي لا تظنوا أن الله ملّكَكُم فيهم شيئاً، بل أنتم وهم مملوكون جميعاً لله. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة وأحسنوا ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 وهذه الآية جاءت بعد آيات القتال، ومعناها: أعدوا أنفسكم للقتال في سبيل الله. وقوله الحق: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} تقتضي منا أن نعرف أن كلمة « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 تهلكة» على وزن تَفْعُله ولا نظير لها في اللغة العربية إلا هذا اللفظ، لا يوجد على وزن تَفْعُله في اللغة العربية سوى كلمة «تهْلُكة» ، والتهلكة هي الهلاك، والهلاك هو خروج الشيء عن حال إصلاحه بحيث لا يُدرى أين يذهب، ومثال ذلك هلاك الإنسان يكون بخروج روحه. والحق يقول: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] فالهلاك ضد الحياة، وعلى الإنسان أن يعرف أن الحياة ليست هي الحس والحركة التي نراها، إنما حياة كل شيء بحساب معين فحياة الحيوان لها قانونها، وحياة النبات لها قانونها، وحياة الجماد لها قانونها، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعل «يهلك» أمام «يحيى» وهو سبحانه القائل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] فلسنا نحن فقط الذين يهلكون، ولا الحيوانات، ولا النباتات وإنما كل شيء بما فيه الجماد، كأن الجماد يهلك مثلنا، وما دام يهلك فله حياة ولكن ليست مثل حياتنا، وإنما حياة بقانونه هو، فكل شيء مخلوق لمهمة يؤديها، فهذه هي حياته. وقوله الحق: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} يكشف لنا بعضاً من روائع الأداء البياني في القرآن؛ ففي الجملة الواحدة تعطيك الشيء ومقابل الشيء، وهذا أمر لا نجده في أساليب البشر؛ فالحق في هذه الآية يقول لنا: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} أي أنفقوا في الجهاد، كما يقول بعدها: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} لماذا؟ لأن الإنفاق هو إخراج المال إلى الغير الذي يؤدي لك مهمة تفيد في الإعداد لسبيل الله، كصناعة الأسلحة أو الإمدادات التموينية، أو تجهيز مبانٍ وحصون، هذه أوجه أنفاق المال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 والحق يقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} . وكلمة «ألقى» تفيد أن هناك شيئا عالياً وشيئاً أسفل منه، فكأن الله يقول: لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وهل سيلقي الواحد منا نفسه إلى التهلكة، أو أن يلقي نفسه في التهلكة بين عدوه؟ لا، إن اليد المغلولة عن الإنفاق في سبيل الله هي التي تُلقي بصاحبها إلى التهلكة؛ لأنه إن امتنع عن ذلك اجترأ العدو عليه، وما دام العدو قد اجترأ على المؤمنين فسوف يفتنهم في دينهم، وإذا فتنهم في دينهم فقد هلكوا. إذن فالاستعداد للحرب أنفى للحرب، وعندما يراك العدو قوياً فهو يهابك ويتراجع عن قتالك. والحق سبحانه كما يريد منا في تشريع القتال أن نقاتل يأمرنا أن نزن أمر القتال وزناً دقيقاً بحسم، فلا تأخذنا الأريحية الاكذبة ولا الحمية الرعناء، فيكون المعنى: ولا تقبلوا على القتال إلا إن كان غالب الظن أنكم ستنتصرون، فحزم الإقدام قد يطلب منك أن تقيس الأمور بدقة، فالشجاعة قد تقتضي منك أن تحجم وتمتنع عن القتال في بعض الأحيان، لتنتصر من بعد ذلك ساعة يكمل الإعداد له. والمعنى الأول يجعلك تنفق في سبيل الله ولا تلقي بيدك إلى التهلكة بترك القتال. والمعنى الثاني أي لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بأن تقبلوا على القتال بلا داع أو بلا إعداد كافٍ. إن الحق يريد من المؤمنين أن يزنوا المسائل وزناً يجعلهم لا يتركون الجهاد فيهلكوا؛ لأن خصمهم سيجترئ عليهم، ولا يحببهم في أن يلقوا بأيديهم إلى القتال لمجرد الرغبة في القتال دون الاستعداد له. وهذا هو الحزم الإيماني، إنها جملة واحدة أعطتنا عدة معان. ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} الحق يقول: {وأحسنوا} . والإحسان كما علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أن تعبد الله أي تطيع أوامره كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . مشكلة الناس هذه الأيام أنهم يتشبهون ب «فإنه يراك» ، فعملوا الدوائر التليفزيونية المغلقة في المحلات الكبرى حتى تتم مراقبة سير العمل في أرجاء المحل، هذه فعل البشر. لكن انظر إلى تسامي الإيمان، إنه يأمرك أنت أن ترى الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 فلا تؤد العمل أداء شكلياً يرفع عنك العتب، بل عليك أن تؤدي العمل بقصد الإحسان في العمل. والإحسان في كل شيء هو إتقانه إتقاناً بحيث يصنع الإنسان لغيره ما يحب أن يصنعه غيره له، ولو تعامل الناس على هذا الأساس لامتازت كل الصناعات، لكن إذا ساد الغش فأنت تغش غيرك، وغيرك يغشك، وبعد ذلك كلنا نجأر بالشكوى، وعلينا إذن أن نحسن في كل شيء: مثلا نحسن في الإنفاق، ولن نحسن في الإنفاق إلا إذا أحسنا في الكدح الذي يأتي بثمرة ما ننفق؛ لأن الكدح ثمرته مال، ولا إنفاق إلا بمال، فتخرج من عائد كدحك لتصرفه في المناسب من الأمور. ودائرة الإحسان لا تقتصر على القتال فقط، فالأمر هنا عام، ولا تعتقد أنه أمر في زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم جزئية من جزئيات الحياة، إنما كل زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم كل جزئيات الحياة، فالإحسان إذا كان بالمال فهذا يقتضي أن يحسن الإنسان الحركة في الأرض، ويعمل عملاً يكفيه ويكفي من يعول، ثم يفيض لديه ما يحسن به. إذا لم يتوافر المال، فعليك أن تُحسن بجاهك وتشفع لغيرك، والجاه قد قومه الإسلام أي جعل له قيمة، فعلى صاحب الجاه أن يشفع بجاهه ليساعد أصحاب الحقوق في الحصول على حقوقهم، وعلى الوجيه أيضا أن يأخذ الضعيف في جواره ويحميه من عسف وظلم القوي، وعليه بجاهه أن يقيم العدل في البيئة التي يعيش فيها. والوجاهة تعني أن يكون للإنسان احترام أو وزن أو تقدير، وهذه الأشياء لها مسبقات في إحسان الشخص، لا يأخذها بلا سبب، إنما سبقها عمل جعل له وجاهة عند الناس. فالناس في العادة لا يحترمون إلا من يكون له لون من الفضل عليهم، فكأنه احترام مدفوع الثمن، وليس احتراماً مجانيّاً. وقد يكون الإحسان بالعلم. أو بفضل القوة، بإعانة الضعيف. أو بإكساب الخبرة للآخرين. أو بتفريج كربة عن مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 إذن وجوه الإحسان في الأشياء كثيرة، وكلها تخدم قضية الإيمان. وعندما يرى الكافر المؤمنين وكل واحد منهم يحسن عمله فإن ذلك يغريه بالإيمان. وإذا سألنا: ما الذي زهد دنيانا المعاصرة في ديننا؟ فسوف نجد أن العالم ينظر إلى دين الله من خلال حركة المسلمين، وهي حركة غير إسلامية في غالبيتها. صحيح أن بعضاً من عقلاء الغرب وفلاسفته لا يأخذون الدين من حركة المسلمين، وهذا منتهى العدالة منهم لأنه ربما كان بعض المسلمين غير ملتزمين بدينه، فلا يأخذ أحد الإسلام منه لمجرد أنه مسلم. وأتباع الديانات الأخرى يعرفون أن هناك أفعالاً جرمها دينهم. وما دام هناك أفعال جرمها الدين وسن لها عقوبة فذلك دليل على أنها قد تقع، فأنت عندما ترى شخصاً ينتسب إلى الإسلام ويسرق، هل تقول: إن المسلمين لصوص. لا، إن عليك أن تنظر إلى تشريعات الإسلام هل جرمت السارق أو لم تجرمه؟ فلا يقولن أحد: انظر إلى حال المسلمين، ولكن لننظر إلى قوانين الإسلام، لأن الله قدر على البشر أن يقوموا بالأفعال حسنها وسيئها، ولذلك أثاب على العمل الصالح وعاقب على العمل السييء. والعقلاء والمفكرون يأخذون الدين من مبادئ الدين نفسه، ولا يأخذونه من سلوك الناس، فقد يجوز أن تقع عين المراقب على مُخالف في مسألة يحرمها الدين. فلا تأخذ الفعل الخاطئ على أنه الإسلام، وإنما خذه على أنه خارج على الإسلام. وساعة يرانا العالم محسنين في كل شيء فنحن نعطيهم الأسوة التي كان عليها أجدادنا، وجعلت الإسلام يمتد ذلك المد الخرافي الأسطوري حتى وصل في نصف قرن إلى آخر الدنيا في الشرق، وإلى آخرها في الغرب، وبعد ذلك ينحسر سياسياً عن الأرض، ولكن يظل كدين، وبقى من الإسلام هذا النظام الذي يجذب له الناس. إن الإسلام له مناعة في خميرته الذاتية إنه يحمل مقومات بقائه وصلاحيته، وهو الذي يجذب غير المسلمين له فيؤمنون به، وليس المسلمون هم الذين يجذبون الناس للإسلام. ولذلك أقول: لو أن التمثيل السياسي للأمم الإسلامية في البلاد غير الإسلامية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 المتحضرة قد أخذ بمبادئ الإسلام لكان أسوة حسنة. وانظر إلى عاصمة واحدة من عواصم الدول الغربية تجد فيها أكثر من ثلاث وستين سفارة إسلامية، وكل سفارة يعمل فيها جهاز يزيد على العشرين، هب أن هؤلاء كانوا أسوة إسلامية في السلوك والمعاملات في عاصمة غير إسلامية، حينئذ يجد أهل ذلك البلد جالية إسلامية ملتزمة ولم تفتنها زخارف المدنية: لا يشربون الخمر، ولا يرقصون، ولا يترددون على الأماكن السيئة السمعة، ولا تتبرج نساؤهم، بالله ألا يلفت النظر سلوكُ هؤلاء؟ لكن ما يحدث للأسف هو أن أهل الغرب على باطلهم غلبوا بني الإسلام على حقهم وأخذوهم إلى تحللهم، وهذا الاتباع الأعمى يجعل الغربيين يقولون: لو كان في الإسلام مناعة لحفظ أبناءه من الوقوع فيما وقعنا فيه. إذن الإحسان من المسلمين أكبر دعاية ودعوة إلى دين الإسلام. إن الحق يقول: {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} والحب كما نعرفه هو ميل قلب المحب إلى المحبوب، وذلك الأمر يكون بالنسبة للبشر، لكن بالنسبة للحق هو تودد الخالق بالرحمة والكرامة على المخلوق، والحق سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يكونوا على خُلقه، فكما أن الله أحسن كل شيء خلقه {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} يريد من عباده وقد تفضل عليهم بالعقل المفكر فيخطط، وبالطاقات فتبرز التفكير إلى عمل يريد الحق منا أن يكون رائدنا في كل عمل أن نحسنه، حتى نكون متخلقين بأخلاق الله، فتشيع كلمة «الله» هذا اللفظ الكريم الذي يستقبل به الإنسان كل جميل في أي صنعة فيقول: «الله» . إذن تشيع كلمة «الله» نغمة في الوجود تعليقاً على كل شيء حسن، حتى الذي لا يؤمن بذلك الإله يقول أيضاً: «الله» ، كأن الفطرة التي فطر الله الناس عليها تنطق بأن كل حسن يجب أن يُنسب إلى الله سواء كان الله هو الذي فعل مباشرة كالأسباب والكونيات والنواميس، أو خلق الذي فعل الحسن، فكل الأمور تؤول إلى الله. ولو علم الذين لا يحسنون أعمالهم بماذا يحرمون الوجود لتحسروا على أنفسهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 وليتهم يحرمون الوجود من كلمة «الله» ، ولكنهم يجعلون مكان «الله» كلمة خبيثة فيشيعون القبح في الوجود، وحين يشيع القبح في الوجود يكون الإنسان في عمومه هو الخاسر. فقول الله: {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} تشجيع لكل من يلي عملاً أن يحسنه ليكون على أخلاق الله. وبعد ذلك يقول الحق: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 والنسق القرآني نسق عجيب، فأنتم تذكرون أنه تكلم عن الصيام. ورمضان يأتي قبل أشهر الحج، فكان طبيعياً أن يتكلم عن الحج بعد أن تكلم عن رمضان وعن الأهلة وعن جعل الأهلة مواقيت للناس والحج كما أن هناك شيئاً آخر يستدعي أن يتكلم في الحج وهو الكلام عن القتال في الأشهر الحرم، وعن البيت الحرام فقد قال سبحانه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] إذن فالكلام عن الحج يأتي في سياقه الطبيعي. وحين يقول الله: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} نفهم منه أن الأمر بإتمام الشيء لا يكون إلا إذا جاء الأمر بفرض هذا الفعل، فكأنك بدأت في العمل بعد التشريع به، ويريد منك سبحانه ألاّ تحج فقط، ولكن يريد منك أن تتمه وتجعله تامّاً مستوفياً لكل مطلوبات المشرع له. وساعة يقول الحق: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة} لقائل أن يقول: إن الحج شيء والعمرة شيء آخر، بدليل عطفها عليه، والعطف يقتضي المغايرة كما يقتضي المشاركة، فإن وجدت مشاركة ولم توجد مغايرة فلا يصح العطف، بل لابد أن يوجد مشاركة ومغايرة. والمشاركة بين الحج والعمرة أن كليهما نسك وعباده، وأما المغايرة فهي أن للحج زمناً مخصوصاً ويشترط فيه الوقوف بعرفة، وأما العمرة فلا زمن لها ولا وقفة فيها بعرفة. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في مشروعية الحج: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ولم يأت في تلك الآية بذكر العمرة، ومنها نعرف أن الحج شيء والعمرة شيء آخر، والمفروض علينا هو الحج. ولذلك أقول دائما لابد لنا أن نأخذ القرآن جملة واحدة، ونأتي بكل الآيات التي تتعلق بالموضوع لنفهم المقصود تماماً، فحين يقول الحق في قرآنه أيضا: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} نعرف من ذلك أن العمرة غير الحج، وحين تقرأ قول الله في سورة براءة: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر} [التوبة: 3] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 نعرف أن هناك حجِّا أكبر، وحجِّا ثانيا كبيراً. ولذلك فآية {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} جاءت بالبيت المحرم، وهو القدر المشترك في الحج والعمرة. ونعرف أن الحج الأكبر هو الحج الذي يقف فيه المسلم بعرفة؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الحج عرفة» . وهو الحج الأكبر؛ لأن الحشد على عرفة يكون كبيراً، وهو يأتي في زمن مخصوص ويُشترط فيه الوقوف بعرفة. إذن قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} الحج هو القصد إلى مُعظّم وهو {حِجُّ البيت} ، أما العمرة فهي الحج الكبير وزمانها شائع في كل السنة، والقاصدون للبيت يتوزعون على العام كله. وذلك قد ثبت بالتشريع بقوله سبحانه: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} . وما دام جاء بالأمر المشترك في قوله: حج البيت فهو يريد الحج الأكبر والحج الكبير. والحق سبحانه وتعالى يخاطب عباده ويعلم أن بعض الناس سيقبلون على العبادات إقبالاً شكلياً، وقد يقبلون على العبادة لأغراض أخرى غير العبادة، فكان لابد أن يبين القصد من الحج والعمرة، وأن المطلوب هو إتمامهما، ولابد أن يكون القصد لله لا لشيء آخر، لا ليقال «الحاج فلان» ، أو ليشتري سلعاً رخيصة ويبيعها بأغلى من ثمنها بعد عودته. ونحن نعلم أن الحج هو العبادة الوحيدة التي يستمر اقترانها بفاعلها، فمثلاً لا يقال: «المصلى فلان» ولا «المزكي فلان» ، فإن كان الحاج حريصاً على هذا اللقب، وهو دافعه من وراء عبادته فلا بد ألا يخرج بعبادته عن غرضها المشروعة من أجله، إن الحق يقول: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} . وكلمة «لله» تخدمنا في قضايا متعددة، فما هي هذه القضايا؟ إن المسلم عندما يريد أن يحج لله فلا يصح أن يحج إلا بمال شرع الله وسائله. كثير من الناس حين يسمعون الحديث الشريف: « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» . يعتقدون أن الإنسان له أن يرتكب ما يشاء من معاص ومظالم، ثم يظن أن حجة واحدة تُسقط عنه كل ذنوبه، نقول لهؤلاء: أولاً: لابد أن تكون الحجة لله وثانيا: أن تكون من مال حلال، وما دامت لله ومن مال حلال فلا بد أن تعرف ما هي الذنوب التي تسقط عنه بعد الحج، فليست كل الذنوب تسقط، وإنما الذنوب المتعلقة بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الذنب المتعلق بالله أنت لم تظلم الله به لكن ظلمت نفسك، ولكن الذنب المتعلق بالبشر فيه إساءة لهم أو انتقاص من حقوقهم، وبالتالي فإن ظلم العباد لا يسقط إلا برد حقوق العباد. ونعرف أن العمرة هي قصد البيت الحرام في مطلق زمان من العام، والحج قصد البيت في خصوص زمان من العام، ويقول بعض العلماء: إن هذا تكليف وذاك تكليف، فهل يجوز أداؤهما معاً، أم كل تكليف يؤدى بمعزل عن الآخر؟ وبعضهم تناول ملحظيات الفضل والحسن، فالذي يقول: إن الإفراد بالحج أحسن، فذلك لأنه خص كل نُسك بسفرة، والذي يقول: يؤديهما معاً ويحرم بالحج والعمرة معاً بإحرام واحد، فيذهب أولاً ويأتي بنسك العمرة، ثم يظل على إحرامه إلى أن يخرج إلى الحج، وفي هذه الحالة يكون قد قرن الأمرين معا؛ أي أداهما بإحرام واحد وهذا ما يفضله بعض من العلماء؛ لأن الله علم أن العبد قد أدى نسكين بإحرام واحد، وهناك إنسان متمتع أي يؤدي العمرة، ثم يتحلل منها، وبعد ذلك يأتي قبل الحج ليحرم بالحج، وهذا اسمه التمتع، وهو متمتع لأنه تحلل من الإحرام، ومن العلماء من يقول: إن التمتع أحسن لأنه فصل بين أمرين بما أخرجه عن العادة، أحرم ثم تحلل ثم أحرم. إذن كل عالم له ملحظ، فكأن الله لا يريد أن يضيق على خلقه في أداء نُسك على أي لون من الألوان. وقد احتاط المشرع سبحانه وتعالى عند التكليف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 واحترم كل الظروف سواء كانت الظروف التي قد تقع من غير غريم وهو القدريات، أو تقع من غريم، وهي التي لها أسباب أخرى فقال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي} . وأحصرتم تعني مُنعْتُم. وهناك «حصر» وهي للقدريات، وهناك «أحصر» وتكون بفعل فاعل مثل تدخل العدو كما حوصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عام الحديبية، وقيل له لا تدخل مكة هذا العام، لذلك فالحق سبحانه وتعالى يخفف عنا وكأنه يقول لنا: أنا لا أهدر تهيؤ العباد، ولا نيتهم ولا استعدادهم ولا إحرامهم؛ فإن أُحصِروا {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} والهدى هو ما يتم ذبحه تقربا إلى الله، وكفارة عما حَدث. ثم يقول بعد ذلك: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} أي إلى أن يبلغ المكان المخصص لذلك، هذا إن كنت سائق الهدى، أما إن لم تكن سائق الهدى فليس ضروريا أن تذبحه، ويكفي أن تكلف أحداً يذبحه لك، وقوله الحق: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي} تعني أنه يصح أن يذبح الإنسان الهدي قبل عرفة، ويصح أن نؤخره ليوم النحر، ويصح أن يذبحه بعد ذلك كله. {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} تعني أيضا إن كان الحصول على الهدى سهلاً، سواء لسهولة دفع ثمنه، أو لسهولة شرائه، فقد توجد الأثمان ولا يوجد المُثمَّن. «والهدي» هو ما يُهدى للحرم، أو ما يهدي الإنسان إلى طريق الرشاد، والمعنى مأخوذ من الهُدى، وهو الغاية الموصلة للمطلوب. وقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فالمريض الذي لا يستطيع أن يذبح الهدي وعنده أذى من رأسه «كالصحابي الذي كان في رأسه قمل، وكان يسبب له ألماً، فقال له رسول الله:» احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو أنسك بشاة «. إنها تشريعات متعاقبة وكل تشريع له مناسبة، فكما شرع لمن أحصر ما استيسر من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 840 الهدى، كذلك شرع لمن حلق رأسه لمرض أن كان به أذى من رأسه، شرع له ثلاثة أشياء: صيام أو صدقة أو نسك. والمتأمل لهذه الأشياء الثلاثة يجد أنها مرتبة ترتيبا تصاعدياً. فالصيام هو أمر لا يتعدى النفع المباشر فيه إلى الغير، والصدقة عبادة يتعدى النفع فيها للغير، ولكن بقدر محدود لأنها إطعام ستة أفراد مثلاً، والنسك هو ذبيحة، ولحمها ينتفع به جمع كبير من الناس. فانظر إلى الترقي في النفع، إما صوم ثلاثة أيام، وإما إطعام ستة مساكين، وإما ذبح ذبيحة أي شاة. إن هذا تصعيد من الأضعف للأقوى كل بحسب طاقته ومقدرته. والحق سبحانه وتعالى ساعة يشرع كفارات معينة فذلك من أجل مراعاة العمليات المطلوبة في الحج، والمناسبة لظروف وحالة المسلم، فأباح له في حالة التمتع مثلا أن يقسم الصوم إلى مرحلتين: ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم. إنه الترقي في التشريعات، واختيار للأيسر الذي يجعل المؤمن يخرج من المأزق الذي هو فيه. {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . وكلمة {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} معناها أنه لا يملك، وهذا الذي لا يملك نقول له: لا تفعل كما يفعل كثير من الناس قبل أن يطوفوا، إن بعضهم يذهب للسوق ويشتري الهدايا، وبعد ذلك ساعة وجوب الهدي عليه يقول: ليس معي ولذلك سأصوم. هنا نقول له: ألم يكن ثمن تلك الهدايا يصلح لشراء الهدي؟ إنه لأمر غريب أن تجد الحاج يشتري هدايا لا حصر لها؛ ساعات وأجهزة كهربائية ويملأ حقائبه، ثم يقول لا أجد ما أشتري به الهدي. أليس ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 غشاً وخداعاً؟ إن من يفعل ذلك يغش نفسه. إذن قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} يعني لا يجد حقاً، لا من تنفذ أمواله في الهدايا، ثم يصبح صفر اليدين، ولذلك فالذين يحسنون أداء النسك لا يشترون هداياهم إلا بعد تمام أداء المطلوب في النسك، وإن بقي معهم مال اشتروا على قدر ما معهم. والذين ينفقون أموالهم في شراء الهدايا ثم يأتون عند {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} ويقولون ليس معنا ثمن الهدى وسنصوم، الغريب أنهم لا يتذكرون الصوم إلا عند عودتهم، ألم يكن الأفضل للواحد منهم أن يصوم من البداية، ومن لحظة أن يعرف أنه لا يملك ثمن الهدى ويدخل في الإحرام للعمرة؟ إن المفروض أن يبدأ في صوم الثلاثة أيام حتى يكون عذره مسبقاً وليس لاحقاً وبعض العلماء أباح صوم أيام التشريق، وأيام التشريق الثلاثة هي التي تلي يوم العيد لأنهم كانوا «يشرقون اللحم» أي يبسطونه في الشمس ليحف ويقدد. وبعد ذلك عندما ينتهي من أداء المناسك إما أن يصوم السبعة الأيام في الطريق وهو عائد، أو عندما يصل لمنزله، إن له أن يختار ما يناسبه {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ومعروف أن {ثَلاثَةِ} و {وَسَبْعَةٍ} تساوي {عَشَرَةٌ} ، وذلك حتى لا يظن الناس أن المقصود إما صوم ثلاثة أيام وإما سبعة أيام، ولذلك قال: {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} حتى لا يلتبس الفهم. وربما أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهنا إلى أن الصائم سيصوم عشرة أيام فهي كاملة بالنسبة لأداء النسك. وليس الذابح بأفضل من الصائم، فما دام لم يجد ثمن الهدى وصام العشرة الأيام، فله الأجر والثواب كمن وجد وذبح. فإياك أن تظن أن الصيام قد يُنقص الأجر أو هو أقل من الذبح. ويقول الحق: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} . وهذا التشريع مقصود به من لم يكن أهله مقيمين بمكة. ونعرف أن حدود المسجد الحرام هي اثنا عشر ميلا، والمقيم داخل هذه المسافة لا يلزمه ذبح ولا صوم، لماذا؟ بعض العلماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 842 قال: لأن المقيمين حول المسجد الحرام طوافهم دائم فيغنيهم عن العمرة، فإن حج لا يدخل في هذا التشريع. ويختم الحق هذه الآية بقوله: {واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} . كيف يقول الحق: إنه شديد العقاب في التيسيرات التي شرعها؟ أي: إياكم أن تغشوا في هذه التيسيرات، فليس من المعقول أو من المقبول أن ندلس شيئاً فيها، لذلك حذرنا سبحانه من الغش في هذه المناسك بقوله: {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} . ويقول الحق بعد ذلك: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 ولنا أن نلحظ أن الحق قال في الصوم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} ولم يذكر شهور الحج: شوالاً وذا القعدة وعشرة من ذي الحجة كما ذكر رمضان، لأن التشريع في رمضان خاص به فلا بد أن يعين زمنه، لكن الحج كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، ويعلمون شهوره وكل شيء عنه؛ فالأمر غير محتاج لذكر أسماء الشهور الخاصة به، والشهور المعلومة هي: شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة وتنتهي بوقفة عرفات وبأيام منى، وشهر الحج لا يستغرق منه سوى عشرة أيام، ومع ذلك ضمه لشوال وذي القعدة، لأن بعض الشهر يدخل في الشهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 وكلمة {مَّعْلُومَاتٌ} تعطينا الحكمة من عدم ذكر أسماء شهور الحج، لأنها كانت معلومة عندهم. {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} والفرق ليس من الإنسان إنما الفرض من الله الذي فرض الحج ركناً، وأنت إن ألزمت به نفسك نية وفعلاً، وشرعت ونويت الحج في الزمن المخصوص للحج تكون قد فرضت على نفسك الحج لهذا الموسم الذي تختاره وهو ملزم لك. وقوله سبحانه: «فرض» يدل على أنك تلتزم بالحج وإن كان مندوباً. أي غير مفروض. {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} . والرفث للسان، وللعين. وللجوارح الأخرى رفث، كلها تلتقي في عملية الجماع ومقدماته، ورفث اللسان في الحج أن يذكر مسألة الجماع، ورفث العين أن ينظر إلى المرأة بشهوة. فالرفث هو كل ما يأتي مقدمة للجماع، أو هو الجماع أو ما يتصل به بالكلمة أو بالنظرة، أو بالفعل. والرفث وإن أُبيح في غير الحج فهو محرم في الحج، أما الفسوق فهو محرم في الحج وفي غير الحج، فكأن الله ينبه إلى أنه وإن جاز أن يحدث من المسلم فسوق في غير الحج، فليس من الأدب أن يكون المسلم في بيت الله ويحدث ذلك الفسوق منه، إنّ الفسوق محرم في كل وقت، والحق ينبه هنا المسرف على نفسه، وعليه أن يتذكر إن كان قد فسق بعيداً عن بيت الله فليستح أن يعصي الله في بيت الله؛ فالذاهب إلى بيت الله يبغي تكفير الذنوب عن نفسه، فهل يُعقل أن يرتكب فيه ذنوباً؟ لابد أن تستحي أيها المسلم وأنت في بيت الله، واعلم أن هذا المكان هو المكان الوحيد الذي يُحاسب فيه على مجرد الإرادة. ويقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 844 إذن الرفث حلال في مواضع، لكنه يَحْرُمُ في البيت الحرام، ولكن الفسوق ممتنع في كل وقت، وامتناعه أشد في البيت الحرام. والجدال وإن كان مباحا في غير الحج فلا يصح أن يوجد في الحج. ولنا أن نعرف أن مرتبة الجدال دون مرتبة الفسوق، ودون مرتبة العصيان، والرسول قال: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» لم يقل: «ولم يجادل» إن بشرية الرسول تراعي ظروف المسلمين، فمن المحتمل أن يصدر جدال من الحاج نتيجة فعل استثاره، فكأن عدم ذكر الجدال في الحديث فسحة للمؤمن ولكن لا يصح أن نتمادى فيها. والجدال ممكن في غير الحج بدليل: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] إنما الحج لا جدال فيه. والجدال هو أن يلف كل واحد من الطرفين على الآخر ليطوقه بالحجة. ثم انظر إلى تقدير الحق لظروف البشر وعواطف البشر والاعتراف بها والتقنين لأمر واقع معترف به، فالحج يُخرج الإنسانَ من وطنه ومن مكان أهله، ومن ماله، ومما أَلِفَ واعتاد من حياة. وحين يخرج الإنسان هذا الخروج فقد تضيق أخلاق الناس؛ لأنهم جميعاً يعيشون عيشة غير طبيعية؛ فهناك من ينام في غرفة مشتركة مع ناس لا يعرفهم، وهناك أسرة تنام في شقة مشتركة ليس فيها إلا دورة مياه واحدة، ومن الجائز أن يرغب أحد في قضاء حاجته في وقت قضاء حاجة شخص آخر، وحين تكون هذه المسألة موجودة لا رأي لإنسان، ولذلك يقال: «لا رأي لحاقن» أي لا رأي لمحصور. . أي لمن يريد قضاء حاجته من بول، وكذلك الشأن في الحاقب وهو الذي يحتبس غائطه لأنها مسألة تُخِل توازن الإنسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 إذن فالحياة في الحج غير طبيعية، وظروف الناس غير طبيعية، لذلك يحذرنا الحق من الدخول في جدل؛ لأنه ربما كان الضيق من تغيير نظام الحياة سبباً في إساءة معاملة الآخرين، والحق يريد أن يمنع هذا الضيق من أن يؤثر في علاقتنا بالآخرين. وقد أثبتت التجربة أن من يذهبون للحج في جماعة إما أن يعودوا متحابين جداً، وإما أعداء ألداء. ولذلك يطلب إلينا الحق أن يصبر كل إنسان على ما يراه من عادات غيره في أثناء الحج، وليحتسب خروجه عن عاداته وعن رتابة أموره وعن أنسه بأهله يحتسب ذلك عند الله، وليشتغل بأنس الله، وليتحمل في جانبه كل شيء، ويكفي أنه في بيت الله وفي ضيافته. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} . فبعد أن نهانا الحق بقوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} وتلك أمور سلبية وهي أفعال على الإنسان أن يمتنع عنها، وهنا يتبع الحق الأفعال السلبية بالأمر بالأفعال الإيجابية، أفعال الخير التي يعلمها الله. إن الله يريد أن نجمع في العبادة بين أمرين، سلب وإيجاب، سلب ما قال عن الرفث والفسوق والجدال، ويريد أن نوجب ونوجد فعلا. {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} . وما هو ذلك الخير؟ إنها الأمور المقابلة للمسائل المنهي عنها، فإذا كان الإنسان لا يرفث في الحج فمطلوب منه أن يعف في كلامه وفي نظرته وفي أسلوبه وفي علاقته بامرأته الحلال له، فيمتنع عنها ما دام محرماً ويطلب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق، من بر وخير. وفي الجدال نجد أن مقابله هو الكلام بالرفق والأدب واللين وبحلاوة الأسلوب وبالعطف على الناس، هذا هو المقصود بقوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 يَعْلَمْهُ الله} . وكلمة من قوله {مِنْ خَيْرٍ} للابتداء، كأن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تصنع خيراً وهو سبحانه يرى أقل شيء من الخير؛ ولذلك قال: {يَعْلَمْهُ الله} . فكأنه خير لا يراه أحد؛ فالخير الظاهر يراه كل الناس؛ والتعبير {يَعْلَمْهُ الله} أي الخير مهما صغر، ومهما قل فإن الله يعلمه، وكثير من الخيرات تكون هواجس بالنية، ويجازي الله على الخير بالجزاء الذي يناسبه. وقول الحق: {وَتَزَوَّدُواْ} والزاد: هو ما يأخذه المسافر ليتقوى به على سفره، وكان هذا أمراً مألوفا عند العرب قديماً؛ لأن المكان الذي يذهبون إليه ليس فيه طعام. وكل هذه الظروف تغيرت الآن، وكذلك تغيرت عادات الناس التي كانت تذهب إلى هناك. كانت الناس قديماً تذهب إلى الحج ومعها أكفانها، ومعها ملح طعامها، ومعها الخيط والإبرة، فلم يكن في مكة والمدينة ما يكفي الناس، وأصبح الناس يذهبون الآن إلى هناك ليأتوا بكماليات الحياة، وأصبحت لا تجد غرابة في أن فلانا جاء من الحج ومعه كذا وكذا. كأن الحق سبحانه وتعالى جعل من كل ذلك إيذانا بأنه أخبر قديما يوم كان الوادي غير ذي زرع فقال: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ. .} [القصص: 57] وانظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله: {يجبى} ومعناها يؤخذ بالقوة وليس باختيار من يذهب به، فكأن من يذهب بالثمرات بكل ألوانها إلى هناك مرغم أن يذهب بها، وهو رزق من عند الله، وليس من يد الناس. وهذا تصديق لقوله تعالى: {وارزقهم مِّنَ الثمرات ... } [إبراهيم: 37] وقوله الحق: {وَتَزَوَّدُواْ} مأخوذة كما عرفنا من الزيادة، والزاد هو طعام المسافر، ومن يدخر شيئا لسفر فهو فائض وزائد عن استهلاك إقامته، ويأخذه حتى يكفيه مئونة السؤال أو الاستشراف إلى السؤال؛ لأن الحج ذلة عبودية، وذلة العبودية يريدها الله له وحده. فمن لا يكون عنده مؤونة سفره فربما يذل لشخص آخر، ويطلب منه أن يعطيه طعاماً، والله لا يريد من الحاج أن يذل لأحد، ولذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 يطلب منه أن يتزود بقدر حاجته حتى يكفي نفسه، وتظل ذلته سليمة لربه، فلا يسأل غير ربه، ولا يستشرف للسؤال من الخلق، ومَنْ يسأل أو يستشرف فقد أخذ شيئاً من ذلته المفروض أن تكون خالصة في هذه المرحلة لله وهو يوجهها للناس، والله يريدها له خالصة. وإن لم يعط الناس السائل والمستشرق للسؤال فربما سرق أو نهب قدر حاجته، وتتحول رحلته من قصد البر إلى الشر. وكان بعض أهل اليمن يخرجون إلى الحج بلا زاد ويقولون: «نحن متوكلون، أنذهب إلى بيت الله ولا يطعمنا؟» . ثم تضطرهم الظروف لأن يسرقوا، وهذا سبب وجود النهب والسرقة في الحج. إن إلحاح الجوع قد يدفع الإنسان لأن ينهب ويسرق ليسد حاجته. ومن هنا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على النفس البشرية هذا الشر فقال: {وَتَزَوَّدُواْ} إنه أمر من الله بالتزود في هذه الرحلة التي ينقطع فيها الإنسان عن ماله وعن أهله وعن أحبابه وعن معارفه، ويقول سبحانه: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} ونعرف أن الزاد هو ما تَقي به نفسك من الجوع والعطش، وإذا كان التزود فيه خير لاستبقاء حياتك الفانية، فما بالك بالحياة الأبدية التي لا فناء فيها، ألا تحتاج إلى زاد أكبر؟ فكأن الزاد في الرحلة الفانية يعلمك أن تتزود للرحلة الباقية. إذن فقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} يشمل زاد الدنيا والآخرة. والله سبحانه وتعالى يذكرنا بالأمور المُحَسّة وينقلنا منها إلى الأمور المعنوية، ولكن إذا نظرت بعمق وصدق وحق وجدت الأمور المعنوية أقوى من الأمور الحسية. ولذلك نلاحظ في قوله سبحانه وتعالى: {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} [الأعراف: 26] هذا أمر حسي. ويفيدنا ويزيدنا سبحانه «ريشاً» إنه سبحانه لا يواري السوءة فقط، وإنما زاد الأمر إلى الكماليات التي يتزين بها، وهذه الكماليات هي الريش، أي ما يتزين به الإنسان، ثم قال الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26] أي أنعمت عليكم باللباس والريش، ولكن هناك ما هو خير منهما وهو {لِبَاسُ التقوى} . فإن كنت تعتقد في اللباس الحسي أنه سَترَ عورتك ووقاك حراً وبرداً وتزينت بالريش منه فافهم أن هذا أمر حسي، ولكن الأمر الأفضل هو لباس التقوى، لماذا؟ لأن مفضوح الآخرة شر من مفضوح الدنيا. إذن فقوله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى واتقون ياأولي الألباب} . يعني أن الحق يريد منك أن تتزود للرحلة زاداً يمنعك عن السؤال والاستشراف أو النهب أو الغصب، وأحذر أن يدخل فيه شيء مما حرم الله، ولكن تزودك في دائرة: {واتقون ياأولي الألباب} أي يا أصحاب العقول، ولا ينبه الله الناس إلى ما فيهم من عقل إلا وهو يريد منهم أن يُحَكِّمُوا عقولهم في القضية، لأنه جل شأنه يريد منك أن تُحَكِّمَ عقلك، فإن حَكَّمْتَ عقلك في القضية فسيكون حُكْمُ العقل في صف أمر الله. ولما كان الله سبحانه بسعة لطفه ورحمته يريد في هذه الشعيرة المقدسة والرحلة المباركة أن يتعاون الناس، أذِنَ لجماعة من الحجاج أن تقوم على خدمة الآخرين تيسيراً لهم. ومن العجيب أن الذين يقومون بخدمة الحجاج يُرخصُ الله لهم في الحج أن ينفروا قبل غيرهم؟ لأن تلك مصلحة ضرورية. فهب أن الناس جميعاً امتنعوا عن خدمة بعضهم بعضاً فمن الذي يقوم بمصالح الناس؟ إذن لابد أن يذهب أناس وحظهم العمل لخدمة الحجاج، والله سبحانه وتعالى بين ذلك ووضحه بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي لا إثم عليكم ولا حرج {أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} أي أن تتكسبوا في الحج وهو نسك عبادي، والمكسب الذي يأتي فيه هو فضل من الله. وقديماً كانوا يقولون: فيه «حاج» ، وفيه «داجّ» ، واحدة بالحاء وواحدة بالدال، «فالداجّ» هو الذي يذهب إلى الأراضي المقدسة للتجارة فقط، ونقول له: لا مانع أن تذهب لتحج وتتاجر؛ لأنك ستيسر أمراً؛ لأننا إن منعناه فمن الذي يقوم بأمر الحجيج؟ ولماذا قال الحق: {تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} ولم يقل رزقاً؟ . لقد أوضح الحق في الآية التي قبلها: ألاّ تذهبوا إلاّ ومعكم زادكم. إذن أنت لا تريد زاداً بعملك هذا، أي لا تذهب إلى الحج لتأكل من التجارة، إنما تذهب ومعك زادك وما تأتي به هو زائد عن حاجتك ويكون فضلاً من الله سبحانه وتعالى، وهو جل شأنه يريد منك ألاّ يكون في عملك المباح حرجٌ؛ فنفى الجناح عنه؛ فأنت قد جئت ومعك الأكل والشرب ويكفيك أن تأخذ الربح المعقول، فلا يكون فيه شائبة ظلم كالاستغلال لحاجة الحجيج، لذلك أسماه «فضلاً» يعني أمراً زائداً عن الحاجة. وكل ابتغاء الرزق وابتغاء الفضل لا يصح أن يغيب عن ذهن مبتغي الرزق والفضل، فكله من عند الله. إياك أن تقول: قوة أسباب، وإياك أن تقول: ذكاء أو احتياط، فلا شيء من ذلك كله؛ لأن الرزق كله من الله هو فضل من الله. ولا ضرر عليك أن تبتغي الفضل من الرب؛ لأنه هو الخالق وهو المربي. ونحن مربوبون له، فلا غضاضة أن تطلب الفضل من الله. ثم يقول الحق بعد ذلك: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 الحرام} . وأنت حين تملأ كأسا عن آخرها فهي تفيض بالزائد على جوانبها، إذن فالفائض معناه شيء افترق عن الموجود للزيادة. قوله: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} تدل على أن الله قد حكم بأن عرفات ستمتلئ امتلاء، وكل من يخرج منها كأنه فائض عن العدد المحدد لها. وهذا حكم من الله في الحج. وأنت إذا ما شهدت المشهد كتبه الله للمسلمين جميعاً. إن شاء الله سترى هذه المسألة، فكأن إناءً قد امتلأ، وذلك يفيض منه. ولا تدري من أين يأتي الحجيج ولا إلى أين يذهبون. ومن ينظر من يطوفون بالبيت يظن أنهم كتل بشرية، وكذلك إذا فاض الحجيج في مساء يوم عرفة يخيل إليك عندما تنظر إليهم أنه لا فارق بينهم؛ ولذلك يقال: سالت عليه شعاب الحي كأنها سيل. وقال الشاعر: فسالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أصحابه بوجوه كالدنانير وقال آخر: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح أي كأنه سيل متدفق، هكذا تماما تكون الإفاضة من عرفات. وعندما تتأمل الناس المتوجهين إلى «مزدلفة» تتعجب أين كان كل هذا الجمع؟ ترى الوديان يسير فيها الناس والمركبات كأنهم السيل ولا تستطيع أن تفرق شخصاً من مجموعة، وفي موقف الحجيج إفاضتان: إفاضة من عرفات، ثم إفاضة ثانية بينتها الآية التي بعدها يقول سبحانه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 وعرفات ننطقها بمنطوقين: مرة نقول «عرفات» كما وردت في هذه الآية، ومرة ننطقها «عرفة» كما في قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الحج عرفة» . وعرفات جمع، وعرفة مفرد. هذه الكلمة أصبحت علماً على المكان الفسيح الذي يجتمع فيه الحجيج في التاسع من ذي الحجة، ولا تظن أنها جبل، فإذا سمعت: «جبل عرفات» كما يقول الناس فافهم أن المقصود هو الجبل المنسوب إلى عرفات. وليس عرفات في ذاتها، ولذلك تجد أناساً كثيرين يظنون أنهم إن لم يصعدوا الجبل المسمى بجبل الرحمة الذي عند الصخرات التي وقف عليها رسول الله في حجة الوداع فكأن الإنسان منهم لم يحج. نقول لهم: لا. الوقوف يكون في الوادي، والجبل المجاور للوادي أسميناه جبل عرفات، فالجبل هو المنسوب لعرفات وليس الوادي هو المنسوب للجبل. وأصل كلمة عرفة وردت فيها أقوال كثيرة. وهناك فرق بين الاسم يكون وصفا ثم يصير اسماً. وبين أن يكون عَلَماً من أول الأمر. وقلنا: إنه إذا سميت العَلَم من أول الأمر فلا ضرورة أن يكون فيه معنى اللفظ؛ فقد تسمى واحداً شقياً ب «سعيد» ، وتُسمى زنجية ب «قمر» ، وهذا لا يُسمى «وصفا» وإنما يُسمى عَلََماً إلا أن الناس حين يسمون يتفاءلون بالأصل، فيقال: أُسَمِّي ابني «سعيداً» تفاؤلا بأن يكون «سعيداً» ، وعندما تكون بنتاً فقد تعطيها اسماً مخالفاً لحالها، فقد تكون دميمة وتسميها «جميلة» تفاؤلاً بالاسم. هنا يكون أخذ العلم للتفاؤل. والعرب عندما كانوا يسمون الأسماء كانوا يتفاءلون بها. مثلاً كانوا يسمون «صخراً» ليتفاءلوا به أمام الأعداء. ويسمون «كلباً» حتى لا يجرؤ عليه أحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 وقيل لعربي: إنكم تحسنون أسماء عبيدكم فتقولون «سعيداً» و «سعداً» و «فضلاً» وتسيئون أسماء أبنائكم؛ تسمونهم: «مُرة» ، «كلباً» ، «صخراً» قال العربي: نعم؛ لأننا نسمي أبناءنا لأعدائنا ليكونوا في نحورهم، ونسمي عبيدنا لنا. وكلمة «عرفة» هي الآن علم على مكان، لكن سبب تسميتها فيه خلاف: قيل: لأن آدم هبط في مكان وحواء هبطت في مكان، وظل كلاهما يبحث عن الآخر حتى تلاقيا في هذا المكان، فسُمي «عرفة» . والحديث عن آدم وحواء يقتضينا أن نبحث عن سبب تفرقهما الذي جعل كلا منهما يبحث عن الآخر، إذا كان الله عَزَّ وَجَلَّ خلقهما ليكونا زوجين فلماذا فرقهما؟ . لك أن تتصور حال آدم وهو مخلوق في عالم غريب واسع بمفرده، وينظر حوله فلا يجد بشراً مثله، بالله ألا يشتاق لإنسان يؤنس وحدته؟ . وماذا يكون حاله عندما يرى إنساناً؟ . لاشك أنه سيقابله باشتياق شديد. من أجل هذا فرق الله بينهما وجعل كلاًّ منهما يبحث عن إنسان يؤنس وحشته، ولو ظل كل منهما بجوار الآخر فربما كان الأمر عادياً. وهكذا أراد الله لكل من آدم وحواء أن يشتاق كل منهما للآخر، فأبعدهما عن بعضهما ثم تلاقيا بعد طول بعاد، فكان الشوق للقاء. وبعد اللقاء تأتي المودة والرحمة والألفة والسكن، وهو مطلوب الحياة لزوجين. وهناك قول آخر بخصوص تسمية عرفات: إن سيدنا آدم قالت له الملائكة وهو في ذلك المكان: اعرف ذنبك وتب إلى ربك فقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] فيكون بذلك قد عرف زلته وعرف كيف يتوب. أو حينما أراد الله أن يُعَلِّم إبراهيم عليه السلام، وهو الذي دعا ربَّه أن يجعل أفئدة الناس وقلوبهم تميل وتهوى هذا المكان. إن إبراهيم رأى في المنام أن يذبح ابنه. وتلك مسألة شاقة من ثلاثة وجوه: المشقة الأولى أنها رؤيا وليست وحياً. والمشقة الثانية أنه ابنه الوحيد، والمشقة الثالثة أنه هو الذي سيذبحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 إنها ثلاث مشقات صعاب، وليس من المعقول أن تمر هذه المسألة على أبي الأنبياء بيسر وسهولة، بل لابد أنه تحدّث فيها كثيراً بينه وبين نفسه، وهل هي رؤيا أم ماذا؟ . ومن هنا سُمي اليوم الذي قبل يوم عرفة بيوم التروية. وعندما تأكد سيدنا إبراهيم بأن رؤيا الأنبياء حق عرف أنه لابد أن ينفذ ما رأى. والمكان الذي عرف فيه حقيقة الرؤيا سُمي عرفة. أو أنه حين جاءت له الرؤيا بذبح ابنه فالشيطان لم يدع مثل هذه الفرصة تمر، وكان لابد أن يدخل ليوسوس لإبراهيم. أليس هو القائل: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] فعندما تمثل الشيطان لإبراهيم رجمه بالحصى سبعا في المرة الأولى، ثم عاوده مرة أخرى فرجمه سبعاً، وجاءه في الثالثة فرجمه سبعاً، بعدها لم يأت له ثانية، فجرى إبراهيم مخافة أن يلاحقه، ولذلك سُمى المكان بالمزدلفة، والمزدلف هو المسرع، ويسمى «ذا المجاز» أي أنه اجتاز المزدلفة، ويكون قد عرف المسألة عند عرفة. أو أن جبريل كان يعرفه المناسك في هذا المكان، فيقول له: عرفتَ؟ فيرد إبراهيم: «عرفتُ» . أو أن الإنسان يعرف فيها ربه في آخر ما شرع له من أركان فكل منا عرف الأركان: هذا عرف، وذاك عرف، وثالث، ورابع، وهكذا فيكون كلنا: عرفات، ويصبح المكان عبودية لله. اشترك فيها جميع الحجاج. {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} . والمشعر الحرام في مزدلفة: {فاذكروا الله} معناها أن الله يَسّر لكم هذه الرحلة الشاقة، وجاء بكم آمّين وقاصدين بيت الله الحرام، ثم تعودون مغفورا لكم، وهي مسألة تستحق أن تذكروا الله بالشكر والعرفان. {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} ؛ لأن هدايته لكم وتعليمكم أقصر طريقة يوصل إلى الخير هو تحية من الله لخلقه، والتحية يجب أن يُرَدّ عليها، فكما هداكم اذكروه. {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين} ؛ لأنهم طالما حجوا كثيراً، في الجاهلية، فأنتم كنتم تحجون بضلال، والآن تحجون بهدى. {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 قوله: {ثُمَّ} تدل على أنه لابد من الوقوف بعرفة أو المبيت في مزدلفة؛ لأن {ثُمَّ} تدل على البعدية ببطء والتعقيب بتمهل. إذن قوله: « {ثُمَّ أَفِيضُواْ} حجة لمن قال: إنه لابد من المبيت في مزدلفة. وهذه الآية نزلت لأن قريشاً كانت ترى نفسها أهل الحرم فلا يُطالبون أبداً بما يُطالب به سائر الناس، ولذلك لا يذهبون مع الناس إلى عرفات، والله يريد بالحج المساواة بين الناس، ولذلك قال النبي في حجة الوداع:» كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان «فلابد أن ينسخ الله مسلك قريش فقال: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} يعني لا تميز لكم ولا تفرقة بين المسلمين. وبعض المفسرين يقول: إن معنى {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} المقصود به من حيث أفاض إبراهيم، بمعنى أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد رسم مناسك الحج كلها بعد أن علمها الله له، فالناس وإن كانوا جمعاً إلا أن المراد بكلمة» الناس «هو» إبراهيم «. ولا نستغرب أن يكون معنى:» الناس «هو» إبراهيم «لأن الله وصفه بأنه» أمة «. وكلمة الناس تُطلق على الإنسان الذي يجمع خصائص متعددة؛ ولذلك قال الله عَزَّ وَجَلَّ عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54] لقد وصف الحق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالناس. والرجل الذي ذهب للمؤمنين يخبرهم باستعداد المشركين لقتالهم نزل فيه قوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} إنه إنسان واحد ومع ذلك وصفه الله بالناس، كأنه بتنبيهه للمسلمين يكون جمع كل صفات الخير في الناس. {واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إنّ الحق سبحانه وتعالى يعلم أن بني آدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 لا يمكن لهم أن يراعوا حقوقه كما يجب أن تُراعى، فلا بد أن تفلت منهم أشياء، وهو سبحانه وتعالى يعلم ذلك؛ لأنه خالقهم، فأمرهم جلت حكمته أن يستغفروه؛ ليكفروا عن سيئاتهم. {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 ونعرف أن «قضى» تأتي بمعان متعددة، والعمدة في هذه المعاني فصل الأمر بالحكمة، قد يُفصل الأمر بحكمة لأنه فرغ منه أداء {فَإِذَا قَضَيْتُمْ} أي إذا فرغتم من مناسككم، هذه واحدة. وقد يكون لأنك فصلت الأمر بخبر يقين مثل قوله الحق: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وقد يكون «قضى» بمعنى حكم حكما لازماً كما تقول: قضى القاضي. إذن فكلها تدور حول معنى: فصل بحكمة. {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله} . أي إذا فرغتم من مناسككم، والمناسك هي الأماكن لعبادة ما، فعرفات مكان للموقف، و «مزدلفة» مكان للمشعر الحرام يبيت فيه الحجاج. و «منى» منسك للمبيت أيضا، إذن كل مكان فيه عبادة يُسمى «منسكا» . وقوله سبحانه: {فاذكروا الله} أي فلا يزال ذكر الله دائما وارداً في الآيات، كأنك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 حين توفق إلى أداء شيء إياك أن تغتر، بل اذكر ربك الذي شرع لك ثم وفقك وأعانك. وكأن الحق يريد أن يضع نهاية لما تعودت عليه العرب في ذلك الزمان فقديماً كانوا يحجون، فإذا ما اجتمعت القبائل في منى، كانت كل قبيلة تقف بشاعرها أو بخطيبها ليعدد مآثره ومآثر آبائه، وما كان لهم من مفاخر في الجاهلية ويحملون الديات، ويحملون الحمالات، ويطعمون الطعام، ويفعلون غير ذلك من العادات، فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينهي فيهم هذه العادة التي هي التفاخر بالآباء وبأعمالهم فقال: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} والذكر معناه توجيه الفكر إلى شيء غير موجود ساعة تأتي به، ولا يمكن أن يذكر الإنسان من أحداث الماضي إلا الحدث الذي له الأثر النافع فيه، وعلى مقدار الأثر النافع يكون الذكر. وكانوا قديماً يطعمون الطعام، والذي يطعم الطعام يؤدي مهمة في مثل هذه البلاد البُدائية أي البدوية وكان من المبالغة في الجفنات أن بعضهم كالمطعم بن عدي مثلاً كانت له جفنة يحكي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان يستظل بها ساعة الهجير. والجفنة هي الوعاء الذي يوضع فيه الطعام، فتأمل الجفنة كيف تكون؟! ويحملون الحمالات، بمعنى أنه إذا قامت قبيلة على قبيلة وقتلت منها خلقاً كثيراً يتطوع منهم ذو الحسب وذو المروءة وذو الشهامة وذو النجدة فيحمل كل هذه الآثار في ماله. والديات هي التي يتطوع بدفعها أهل الشهامة منهم إذا ما قتل قاتل قتيلاً، ولا يقدر على أن يعطي ديته، وكانت كل تلك الأعمال هي المفاخر. أراد الحق سبحانه وتعالى أن يردهم في كل شيء إلى ذاته، فقال لهم: أنتم تذكرون آباءكم؛ لأنهم كانوا يفعلون كذا وكذا، وآباؤكم يفتخرون بآبائهم، انقلوها وسلسلوها إلى خالق كل الآباء وكل البشر، فكل ما يجري من خير على يد الآباء مرده إلى الله، فإن ذكرتم آباءكم لما قدموه من خير، فاذكروا من أمدهم بذلك الخير. وهو يريد منهم أن يذكروا الله كذكرهم آباءهم؛ أو أشد ذكرا؛ لأن كل كائن إنما يستحق من الذكر على مقدار ما قدم من الخير، ولن تجد كل الخير إلا لله، إذن لابد أن نذكر الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 وأيضاً فإن الإسلام أراد أن ينهي التفاخر بالآباء ليجعل الفخر ذاتيا في نفس المؤمن، أي فخراً من عمل جليل نابع وحاصل من الشخص نفسه؛ ولذلك يقولون في أمثال هؤلاء الذين يفخرون بأسلافهم إنهم: «عظاميون» أي منسوبون إلى مجد صنعه من صاروا عظاما تضمها القبور، والله يريدنا أن نكون ذاتيين في مفاخرنا، أي أن نفخر بما نفعل نحن، لا بما فعل آباؤنا، فالآباء أفضوا إلى ما قدموا، ويريد الله أن يأخذ الإنسان ذاتية إيمانية تكليفية. ومن يريد أن يفتخر فليفتخر بنفسه ولذلك يقول الشاعر: ولا تكونوا عظاميين مفخرة ... ماضيهم عامر في حاضر خرب لا ينفع الحسب الموروث من قدم ... إلا ذوي همة غاروا على الحسب والعود من مثمر إن لم يلد ثمراً ... عَدّوه مهما سَمَا أصلاً من الحطب فالنبات الذي ليس له ثمرة، يعتبره الناس مجرد حطب، ويريد الحق أن ينبه في المؤمن ذاتية تفعل، وليس ذاتية تفتخر بأنه كان وكان، بل على كل إنسان أن يقدم ما يفتخر به: ليس الفتى من يقول كان أبي ... إن الفتى من يقول هأنذا وعندما كان العرب يتفاخر بعضهم على بعض يقول أحدهم للآخر: يا أخي أنت تفتخر عليّ بماذا؟ فيرد عليه الثاني: أفتخر عليك بآبائي وأجدادي. فيرد الأول: اذكر جيدا أن مجد آبائك انتهى بك، ومجد آبائي بدأ بي، ولماذا لا أجعل لآبائي الفخر بأنهم أنجبوني؟ وفي ذلك يقول أحدهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لعمري ولكن منه شيبانُ وكم أبٍ قد علا بابن ذُرَا شَرَفٍ ... كما عَلتْ برسول الله عدنانُ وما دام القوم يفتخرون بحي منهم، فهم يلتحمون بمن يعطيهم المدد ليكونوا شيئا باقياً ومؤثراً في الوجود، وليس بذلك الشيء المحدود المتمثل في أنه يطعم الطعام، ويحمل الحمالات ويؤدي الديات، وإنما يكون بحمل رسالة الإنسانية العالمية. {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} . لأن ذكركم الله سيصلكم بالمدد منه، ويعطيكم المعونة لتكونوا أهلا لقيادة حركة الحياة في الأرض، فتوطدوا فيها الأمن والسلام والرحمة والعدل، وهذا هو ما يجب أن يكون مجالا للفخر. وبعد ذلك يلفتنا الحق فيما يأتي إلى أن الإنسان إذا ما قضى المناسك كان أهلا لأن يضرع إلى الله، ويسأل الله بما يحب أن يسأله، والسؤال لله يختلف باختلاف همة السائلين، وكانوا لا يسألون الله إلا قائلين: يا رب أعطني إبلاً، يا رب أعطني غنماً، يا رب أعطني بقراً، ويا رب أعطني حائطاً أي بستاناً، يا رب كما أعطيت أبي أعطني. ولم يكن في بالهم إلا الأمور المادية، وأراد الله أن يجعلهم يرتفعون بالمسألة لله، وأن يُصَعِّدُوها إلى شيء أخلد وأبقى وأنفع، ومن هنا تأتي المزية الإيمانية، فإذا كنتم ستسألون الله متاعا من متاع الدنيا فما الفارق بينكم وبين أهل الجاهلية؟ ذلك ما نفهمه من قول الله عَزَّ وَجَلَّ في ختام هذه الآية: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} . فالعبد حين يؤدي مناسكه لله يجد نفسه أهلا لأن يسأل الله، وما دمت قد وجدت نفسك أهلا لأن تسأل الله فاسأل الله بخير باق؛ لأن الإنسان إنما يُصَعدُ حاجته إلى المسئول على مقدار مكانة المسئول ومنزلته؛ فقد تذهب لشخص تطلب منه عشرة قروش، وقد تذهب لآخر أغنى من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 الأول فتقول له: أعطني جنيها، ولثالث: تطلب منه عشر جنيهات، إنك تطلب على قدر همة كل منهم في الإجابة على سؤالك. إذن ما دام العباد بعد أداء المناسك في موقف سؤال لله فليُصَعِّدُوا مسألتهم لله وليطلبوا منه النافع أبداً، ولا ينحطوا بالسؤال إلى الأمور الدنيوية الفانية البحتة. {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} إن العبد قد لا يريد من دعائه لله إلا الدنيا، ولا حظ ولا نصيب له في الآخرة، ومثل هذا الإنسان يكون ساقط الهمة؛ لأنه طلب شيئاً في الدنيا الفانية، ويريد الله أن نُصَعِّد همتنا الإيمانية. ولذلك يتبعها بقوله الحق: {وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 ولماذا لم ننس الدنيا هنا؟ لأنها هي المزرعة للآخرة. وقوله سبحانه: {آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً} اختلف فيها العلماء؛ بعضهم ضيقها وقال: إن حسنة الدنيا هي المرأة الصالحة. وقال عن حسنة الآخرة إنها الجنة. ومنهم من قال: إن حسنة الدنيا هي العلم؛ لأن عليه يُبْنَي العمل، وفي حسنة الآخرة قال: إنها المغفرة؛ لأنها أم المطالب. ومن استعراض أقوال العلماء نجدهم يتفقون على أن حسنة الآخرة هي ما يؤدي إلى الجنة مغفرة ورحمة، لكنهم اختلفوا في حسنة الدنيا. أقول: لماذا لا نجعل حسنة الدنيا أعم وأشمل فنقول: يا رب أعطنا كل ما يُحَسِّنُ الدنيا عندك لعبدك. ويذيل الحق هذه الآية بقول: {وَقِنَا عَذَابَ النار} وسبحانه وتعالى حين يَمْتَنُّ على عباده يمتن عليهم بأن زحزحهم عن النار وأدخلهم الجنة، كأن مجرد الزحزحة عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 النار نعيم، فإذا ما أدخل الجنة بعد الزحزحة عن النار فكأنه أنعم على الإنسان بنعمتين؛ لأنه سبحانه قال: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] ومعناها أن كل إنسان سيرى النار إما وهو في طريقه للجنة، فيقول: الحمد لله، الإيمان أنجاني من هذه النار وعذابها. فهو عندما يرى النار وبشاعة منظرها يحمد الله على نعمة الإسلام. التي أنجته من النار. فإذا ما دخل الجنة ورأى نعيمها يحمد الله مرة ثانية. وكذلك يرى النار من هو من أهل الأعراف أي لا في النار ولا في الجنة، يقول الحق: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] ويقول الحق من بعد ذلك: {أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ والله سَرِيعُ الحساب} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 والنصيب هو الحظ، وأما {مِّمَّا كَسَبُواْ} فنعرف من قبل أن فيه «كسب» وفيه «اكتساب» . والاكتساب فيه افتعال، إنما الكسب هو أمر عادي، ولذلك تجد أن الاكتساب لا يكون إلا في الشر؛ كأن الذي يفعل الشر يتكلف فيه، لكن من يفعل الخير فذلك أمر طبيعي من الإنسان. والمقصود ب {مِّمَّا كَسَبُواْ} هنا هو الكسب من استيفاء أعمالهم التي فعلوها في الحج إحراماً، وتلبية. وطوافاً، وسعياً، وذهاباً إلى «منى» ، وذهاباً إلى «عرفات» ووقوفاً بها، وإفاضة إلى «مزدلفة» ، ورمياً للجمار. في «منى» ، وطواف إفاضة، وكل هذا كسب للإنسان الذي نال شرف الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 وعندما نقرأ: {والله سَرِيعُ الحساب} فلنفهم أن السرعة هي أن يقل الزمن عن الحدث، فبدلا من أن يأخذ الحدث منك ساعة، وقد تنهيه في نصف ساعة، وكل حدث له زمن، والحدث حين يكون له زمن وتريد أن تقلل زمن الحدث فلابد أن تسرع فيه حتى تنجزه في أقل وقت. وتقليل الزمن يقتضي سرعة الحركة في الفعل، وذلك في الأفعال العلاجية التي تحتاج مُعَالجة، وعملاً من الإنسان، لكن سبحانه يفعل ب «كُن» ولا يحتاج عمله إلى علاج، وبالتالي لا يحتاج إلى زمن، إذن فهو سريع الحساب؛ لأنه لا يحتاج إلى زمن، ولأنه لا يشغله شأن عن شأن، وهذا هو الفرق بين قدرة الواحد سبحانه وقدرة الحادث؛ لأن الحادث عندما يؤدي عملاً، فهذا العمل يشغله عن غيره من الأعمال، فلا يستطيع أن يؤدي عمليتين في وقت واحد، لكن الواحد الأحد لا يشغله فعل عن فعل، وبالتالي يفعل ما يريد وقتما يريد ولكل من يريد. ولذلك سُئل الإمام علي بن أبي طالب: كيف يحاسب الله الخلائق جميعاً في لحظة واحدة؟ . فقال: «كما يرزقهم في ساعة واحدة» . فهو سبحانه الذي يرزقهم، وكما يرزقهم يحاسبهم. ويقول الحق من بعد ذلك: {واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 ونلاحظ أن ذكر الله أمر شائع في جميع المناسك، و {في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} أي في أيام التشريق. في اليوم التاسع نكون في عرفة وليلة العاشر نبيت فيها ب «مزدلفة» ، ثم بعد ذلك نفيض من حيث أفاض الناس، نذهب لرمي جمرة العقبة، وبعضنا يذهب ليطوف طواف الإفاضة وينهي مناسكه، أو قد يذهب ليذبح ويتحلل التحلل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 الأصغر، إن لم يكن معه امرأة، وإن طاف فهو يتحلل التحلل الأكبر. أما الأيام المعدودات أي أيام التشريق فهي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر. وقد سميت بذلك نسبة إلى الشروق، والشروق خاص بالشمس، كانوا قديماً إذا ما ذبحوا ذبائحهم سميت هذه الأيام بأيام التشريق. وعندما نسمع قوله: {في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} نفهم منها أنها فوق يومين. وبعد ذلك يقول الحق: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى} . قول الحق سبحانه وتعالى: {في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} ثم قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} يدل على أن كلمة «أيام» تطلق على الجمع وهو الأكثر من يومين، أي ثلاثة أيام، لكن الحق سبحانه وتعالى جعل للقيام بيومين حكم القيام بالثلاثة، فإن تعجلت في يومين فلا إثم عليك ومن قضى ثلاثة أيام فلا إثم عليه كيف يكون ذلك؟ . لأن المسألة ليست زمناً، ولكنها استحضار نية تعبدية، فقد تجلس ثلاثة أيام وأنت غير مستحضر النية التعبدية؛ لذلك قال سبحانه: {لِمَنِ اتقى} ، فإياك أن تقارن الأفعال بزمنها، وإنما هي بإخلاص النية والتقوى فيها. ويذيل الحق الآية بالقول الكريم: {واتقوا الله واعلموآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . وقد جاء سبحانه وتعالى بكلمة {تُحْشَرُونَ} لتتناسب زحمة الحج؛ لأنه كما حشركم هذا الحشر وأنتم لكم اختيار، هو سبحانه القادر أن يحشركم وليس لكم اختيار. فإذا كنت قد ذهبت باختيارك إلى هذا الحشر البشري الكبير في الحج فاعرف أن الذي كلفك بأن تذهب باختيارك لتشارك في هذا الاجتماع الحشد هو القادر على أن يأتي بك وقد سلب منك الاختيار. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 863 وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 864 يريد الحق سبحانه وتعالى أن يضع أمامنا قضية وجودية، وهذه القضية الوجودية هي أن كل عمل له ظاهر وله باطن. ومن الجائز أن تتقن الظاهر وتدلس على الناس في الباطن، فإذا كان الناس لهم مع بعضهم ظاهر وباطن. فمن مصلحة الإنسان أن ينتمي هو والناس جميعاً إلى عالم يعرف فيه كل إنسان أن هناك إلهاً حكيماً يعرف كل شيء عنا جميعاً. فإذا كان عندك شيء لا أعلمه، وأنا عندي شيء أنت لا تعلمه كيف تسير مصالحنا؟ ولذلك فمن ضروريات حياتنا أن نؤمن معا بإله يطلع على سرائرنا جميعاً، وهذا ما يجعلنا نلزم الأدب. ولذلك قيل: «إن عَمّيْتَ على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء السماء» . إذن فقضاء السماء وعلم الله بالغيب مسألة يجب أن نحمده عليها، لأنه هو الذي سيحمي كل واحد منا من غيره. وعندما ستر الله غيبنا فذلك نعمة يجب أن نشكره عليها؛ لأن النفوس متقلبة. فلو علمت ما في نفسي عليك في لحظة قد لا يسرك. . وقد لا تنساه أبداً ويظل رأيك فيَّ سيئاً، لكن الظنون والآراء تمر عندي وعندك وتنتهي. ولو اطلع كل منا على غيب الآخر لكانت الحياة مرهقة، والقول المأثور يذكر ذلك: «لو تكاشفتم ما تدافنتم» . إذن فمن رحمة الله ومن أكبر نعمه على خلقه أن ستر غيب خلقه عن خلقه. والحق يحذرنا ممن قال فيهم: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا} أي الذين يظهرون من خير خلاف ما يبطنون من شر، ولذلك صور الشاعر هذه المسألة فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 864 على الذم بتنا مجمعين وحالنا ... من الخوف حال المجمعين على الحمد أي لو تكاشفنا لقلنا كلنا ذماً، إنما كلنا مداحون حين يلقى بعضنا بعضا كل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. و «يعجبك قوله» فهل الممنوع أن يعجبك القول؟ لا، يعجبني القول ولكن في غير الحياة الدنيا، فالقول الذي يعجب هو ما يتعلق بأمر الحياة الآخرة الباقية ليضمن لنا الخير عند من يملك كل الخير. وكفى بالذي يسمع من مادح له مدحاً، والمادح نفسه يضمر في قلبه كرهاً له، وكفى بذلك شهادة تغفيل للممدوح، بأنه يقول بينه وبين نفسه: «إن الممدوح غبي؛ لأني أمدحه وهو مصدق مدحي له» . إن الله سبحانه وتعالى ينبهنا إلى ضرورة أن يكون المسلم يقظا وفطناً، ومن يقول لنا كلاماً يعجبنا في الحياة نتهمه بأن كلامه ليس حسنا؛ لأن خير الكلام هو ما يكون في الأمر الباقي. ولذلك عندما أرسل خليفةُ المسلمين للإمام جعفر الصادق يقول له: لماذا لا تغشانا أي لا تزورنا كما يغشانا الناس؟ فكتب الإمام جعفر الصادق للخليفة يقول: أما بعد فليس عندي من الدنيا ما أخاف عليه، وليس عندك من الآخرة ما أرجوك له. وكأنه يريد أن يقول له اتركنا وحالنا؛ أنت محتاج لمن يجلس معك ويمدحك، وأنت لا تعلم أن أول أناس لهم رأي سيء فيك هم من يمدحونك. {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا} وهذه الآية نزلت في الأخنس ابن شريق الثقفي واسمه أبيّ ولقب بالأخنس لأنه خنس ورجع يوم بدر فلم يقاتل المسلمين مع قريش واعتذر لهم بأن العير قد نجت من المسلمين وعادت إليهم، وكان ساعة يقابل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يظهر إسلامه ويلين القول للرسول ويدعي أنه يحبه، ولكنه بعد أن خرج من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مر بزرع وحُمُر لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر. والآية وإن نزلت في الأخنس فهي تشمل كل مُنافق. {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} لا تقولوا: «الله يشهد» ، وإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 865 هاتوا شهداءكم ليشهدوا على صدق قولكم؛ لأن معنى «الله يشهد» هو إخبار منك بأن الله يشهد لك. وأنت كاذب في هذه، وتريد أن تضفي المصداقية على كذبك بإقحام الله في المسألة. وساعة تسمع واحداً يقول لك: أُشْهِدُ الله على أني كذَا، فقل له: هذا إخبار منك بأن الله يشهد، وأنت قد تكذب في هذا الخبر، أنا أفضل أن يشهد اثنان من البشر ولا نقحم الله في هذه الشهادة. {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} وألد الخصام هو الفاسق في معصيته، ويقال: فلان عنده لدد أي فسق في خصومته، ويجادل بالباطل. ولذلك يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن أبغض الرجال إلى الله هو الألد الخصم» . يعني المجادل بالباطل الذي عنده قسوة في المعصية، فهو عاصٍ وفي الوقت نفسه قاس في معصيته. ولماذا هو ألد الخصام؟ لأن الذي يجابهك بالأمر يجعلك تحتاط له، أما الذي يقابلك بنفاق فهو الذي يريد أن يخدعك، وهذا عنف في الخصومة فالخصم الواضح أفضل لأنه يواجهك بما في باطنه، لكن إذا جابهت الذي يبطن خصومته ويظهر محبته يكون قاسياً عليك في خصومته؛ لأنه يريد أن يخدعك ويُبَيّتُ لك. {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا} و {تولى} : انصرف أي يقول لك ما يعجبك، فإذا تولى عنك نقل المسألة إلى الحقيقة بإظهار ما كان يخفيه، ويحتمل المعنى أنه إذا تولى شيئاً آخر، من الولاية، ففيه {تولى} من التولي وهو الانصراف والإعراض، وفيه {تولى} من الولاية. {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} كانت الأرض بدون تدخل البشر مخلوقة على هيئة الصلاح، والفساد أمر طارئ من البشر. ونعرف أن الفساد لم يطرأ على أي أمر إلا وللإنسان فيه دخل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 866 لماذا اشتكينا أزمة قوت ولم نشتك أزمة هواء؟ لأن الهواء لا تدخل للإنسان فيه، وبمقدار تدخل الإنسان يكون الفساد. لقد تدخلنا قليلاً في المياه فجاء في ذلك فساد، فلم نحسن نقلها في مواسير جيدة فوصلت لنا ملوثة، أو زاد عليها الكلور أو نقص. وبقدر ما يكون التدخل يكون الإفساد، أما في الزمن القديم فقد كان الإنسان يذهب إلى مصدر الماء المباشر في الآبار ويأخذ الماء الطبيعي الذي خلقه الله بلا تدخل من الإنسان ولم يكن تلوث أو غيره. إذن على مقدار وجود الإنسان في حركة الحياة غير المُرشّدة بالإيمان بالله ينشأ الفساد، ولذلك كان لابد له من منهج سماوي للإنسان. والكائنات غير الإنسان ليس لها منهج وهي مخلوقة بالغريزة وتؤدي مهمتها فقط؛ فالدابة لم تمتنع يوماً عن ركوبك عليها، ولم تمتنع أن تحمل عليها أثقالك، أو تستعين بها في الحرث، أو الري، حتى عندما تذبحها لا تمتنع عليك، لماذا؟ لأنها مخلوقة بالغريزة التي تؤدي بها الحركة النافعة بدون اختيار منها. وإذا امتنعت في وقت فإنما يكون ذلك لأمر طارئ كمرض مثلا. لكن الذي له اختيار لابد أن يكون له منهج يقول له: افعل هذا ولا تفعل تلك. فإن استقام مع المنهج في «افعل» و «لا تفعل» سارت حياته بشكل متوازن، لكن إذا لم يستقم تفسد الحياة. وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا} ، كأن الإفساد هو الذي يحتاج إلى عمل، اترك الطبيعة والمخلوقات كما هي تجدها تعمل في انضباط وكمال على ما يرام. إذن فالفساد طارئ من الإنسان الذي يحيا بلا منهج لأنه {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا} فكأن الأصل في الأرض وما فيها جاء على هيئة الصلاح، فإن لم تزد الصالح صلاحاً فلا تحاول أن تفسده. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 - 12] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 867 ومن هنا نفهم أنهم ظنوا أن الأرض تحتاج إلى حركتهم لإصلاحها، برغم أن الأرض بدون حركتهم صالحة؛ لأنهم لا يتحركون بمنهج الله. إذن هذه الآية نفهم منها أن الإنسان إذا {تولى} بمعنى رجع أو تولى ولاية سعى في الأرض ليفسد فيها؛ فكأن الفساد في الأرض أمر طارئ وينتج من سعي الإنسان على غير منهج من الله. وما دام للإنسان اختيار فيجب أن يكون له منهج أعلى منه يصون ذلك الاختيار، فإن لم يكن له منهج وسار على هواه فهو مفسد لا محالة. وانظر إلى غباء الذي يفسد في الأرض، هل يظن أنه هو وحده الذي سيستفيد في الأرض، فأباح لنفسه أن يفسد في الأرض لغيره؟ إنه ينسى الحقيقة، فكما يفسد لغيره، فغيره يُفسد له، فمن الخاسر؟ كلنا سنخسر إذن. {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل ... } [البقرة: 205] والحرث له معنيان: فمرة يُطلق على الزرع، ومرة يُطلق على النساء، المعنى الأول ورد في قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} [الأنبياء: 78] فالحرث في الآية معناه: الزرع، والزرع ناتج عن إثارة الأرض وإهاجتها. وعملك يا أيها الإنسان أن تهيج الأرض وتثيرها، وتأتي بالبذر الذي خلقه الله في الأرض التي خلقها الله، وتسقيها بالماء الذي خلقه الله، وتكبر في الهواء الذي خلقه الله، ولذلك يلفتنا وينبهنا الحق سبحانه فيقول: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 63 - 64] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 868 والمعنى الثاني: يُطلق الحرث على المرأة في قوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة: 223] وإذا كان حرث الزرع هدفه إيجاد النبات فكذلك المرأة حتى تلد الأولاد. ويقول سبحانه وتعالى: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] وأراد المتحللون الإباحيون أن يُطلقوا إتيان المرأة في جميع جسدها، نقول لهم: لاحظوا قوله: «حرثكم» والحرث محل الإنبات، فالإتيان يكون في محل الإنبات فقط، لا تفهمها تعميماً وإنما هي تخصيص. ويتابع الحق وصف الذي يقول القول الحسن، ولكنه يسعى في الأرض بالفساد فيقول: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} . والنسل هو الأنجال والذرية. ويذيل الحق الآية: {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} أي أن الحق يريد منكم إن لم تدخلوا بطاقة الله التي خلقها لكم فكراً وعطاء، فعلى الأقل اتركوا المسألة كما خلقها الله؛ لأن الله لا يحب أن تفسدوا فيما خلقه صالحاً في ذاته. وما سبق في هذه الآية هو مجرد صورة من صور استقبال الدعوة الإسلامية في أول عهدها، من الذين كانوا ينافقون واقعها القوي، فيأتون بأقوال تُعجب، وبأفعال تُعجب من ينافق. ونعرف أن النفاق كان دليلا على قوة المسلمين، ولذلك لم ينشأ النفاق في مكة، وإنما نشأ في المدينة. فقد قال الحق: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق} [التوبة: 101] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 869 وربما يتساءل إنسان: وكيف تظهر هذه الظاهرة في البيئة الإيمانية القوية في المدينة؟ ونقول: لأن الإسلام في مكة كان ضعيفاً، والضعيف لا ينافقه أحد، والإسلام في المدينة أصبح قوياً، والقوي هو الذي ينافقه الناس. إذن فوجود النفاق في المدينة كان ظاهرة صحية تدل على أن الإيمان أصبح قويا بحيث يدعيه مَنْ ليس عنده إسلام. وهؤلاء كانوا يقولون قولاً حسناً جميلاً، وقد يفعلون أمام من ينافقونه فعلاً يُعجب مَنْ يراهم أو يسمعهم، ولكنهم لا يثبتون على الحق، فإذا ما تولوا، أي اختفوا عن أنظار مَنْ ينافقونه رجعوا إلى أصلهم الكفري، أو إذا ائتمنوا على شيء فهم يسعون في الأرض فساداً. والآية هنا تتعرض لشيء يدل على فطنة المؤمنين، إن الآية فضحت مَنْ نافق وكان الأخنس عمدة في النفاق، وفضيحة المنافق بهذه الصورة، تدل على أن وراء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووراء المؤمنين بمحمد، ربَّاً يخبرهم بمَنْ يدلس عليهم، وأيضاً ينبههم لضرورة أن تكون لهم فطنة بدليل قول الحق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 ولا يقال له اتق الله إلا إذا كان قد عرف أنه منافق، وماداموا قد قالوا له ذلك فهذا دليل على أن فطنتهم لم يجز عليها هذا النفاق. ونفهم من هذه الآية أن المؤمن كَيِّس فطن، ولابد أن ينظر إلى الأشياء بمعيار اليقظة العقلية، ولا يدع نفسه لمجرد الصفاء الرباني ليعطيه القضية، بل يريد الله أن يكون لكل مؤمن ذاتية وكياسة. {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} فكأن المظهر الذي يقول أو يفعل به، وينافي التقوى؛ لأنه قول معجب لا ينسجم مع باطن غير معجب، صحيح أنه يصلي في الصف الأول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 ويتحمس لقضايا الدين، ويقول القول الجميل الذي يعجب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويعجب المؤمنين، لكنه سلوك وقول صادر عن نية فاسدة. ومعنى «اتق الله» أي ليكن ظاهرك موافقاً لباطنك، فلا يكفي أن تقول قولاً يُعجب، ولا يكفي أن تفعل فعلاً يروق الغير؛ لأن الله يحب أن يكون القول منسجماً مع الفعل، وأن يكون فعل الجوارح منسجماً مع نيات القلب. إذن، فالمؤمن لابد وأن تكون عنده فطنة، وذكاء، وألْمعِيَّة، ويرى تصرفات المقابل، فلا يأخذ بظاهر الأمر. ولا بمعسول القول ولا بالفعل، إن لم يصادف فيه انسجام فعل مع انسجام نية. ولا يكتفي بأن يعرف ذلك وإنما لابد أن يقول للمنافق حقيقة ما يراه حتى يقصر على المنافق أمد النفاق، لأنه عندما يقول له: «اتق الله» يفهم المنافق أن نفاقه قد انكشف، ولعله بعد ذلك يرتدع عن النفاق، وفي ذلك رحمة من المؤمن بالمنافق. وكل مَنْ يرى ويلمح بذكائه نفاقاً من أحد هنا يقول له: «اتق الله» فالمراد أن يفضح نفاقه ويقول له: «اتق الله» . فإذا قال له واحد: «اتق الله» وقال له آخر: «اتق الله» ، وثالث، ورابع، فسيعرف تماما أن نفاقه قد انكشف، ولم يعد كلامه يعجب الناس. {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} ، وتقييد العزة بالإثم هنا يفيد أن العزة قد تكون بغير إثم، ومادام الله قد قال: {أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} ، فهناك إذن عزة بغير إثم. نعم، لأن العزة مطلوبة للمؤمن والله عَزَّ وَجَلَّ حكم بالعزة لنفسه وللرسول وللمؤمنين: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] وهذه عزة بالحق وليست بالإثم. وما الفرق بين العزة بالحق وبين العزة بالإثم؟ ولنستعرض القرآن الكريم لنعرف الفرق. ألم يقل سحرة فرعون: فيما حكاه الله عنهم: {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 871 هذه عزة بالإثم والكذب. وكذلك قوله تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 2] وهي عزة كاذبة أيضا أما قوله عَزَّ وَجَلَّ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] فتلك هي العزة الحقيقة، إذن فالعزة هي القوة التي تَغْلِبُ، ولا يَغْلِبها أحد. أما العزة بالإثم فهي أنفة الكبرياء المقرونة بالذنب والمعصية. والحق سبحانه وتعالى يقول لكل من يريد هذا اللون من العزة بالإثم: إن كانت عندك عزة فلن يقوى عليك أحد، ولكن يا سحرة فرعون يا من قلتم بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، أنتم الذي خررتم سجداً لموسى وقلتم: {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47 - 48] ولم تنفعكم عزة فرعون؛ لأنها عزة بالإثم، لقد جاءت العزة بالحق فغلبت العزة بالإثم. لذلك يبين لنا الحق سبحانه وتعالى أن العزة حتى لا تكون بالإثم، يجب أن تكون على الكافر بالله، وتكون ذلة على المؤمن بالله. {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] وكذلك قوله الحق: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 872 وهذا دليل العزة بالحق، وعلامتها أنها ساعة تغلب تكون في منتهى الانكسار، ولنا القدوة في سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو الذي خرج من مكة لأنه لم يستطع أن يحمي الضعفاء من المؤمنين، وبعد ذلك يعود إلى مكة فاتحاً بنصر الله، ويدخل مكة ورأسه ينحني من التواضع لله حتى يكاد أن يمس قربوس سرج دابته، تلك هي القوة، وهي على عكس العزة بالإثم التي إن غلبت تطغى، إنما العزة بالإثم التي إن غلبت تطغى، إنما العزة بالحق إن غلبت تتواضع. {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} أي أن الأنفة والكبرياء مقرونة بالإثم، والإثم هو المخالف للمأمور به من الحق سبحانه وتعالى، {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد} . أي عزة هذه التي تقود في النهاية إلى النار؟ إنها ليست عزة، ولكنها ذلة، فلا خير في عمل بعده النار، ولا شر في عمل بعده الجنة. فإن أردت أن تكون عزيزاً فتأمل عاقبتك وإلى أين ستذهب؟ {فَحَسْبُهُ} أي يكفيه هذا فضيحة لعزته بالإثم، وأما كلمة «مهاد» فمعناها شيء ممهد ومُوطأ، أي مريح في الجلوس والسير والإقامة. ولذلك يسمون فراش الطفل المهد. وهل المهاد بهذه الصورة يناسب العذاب؟ نعم يناسبه تماماً؛ لأن الذي يجلس في المهاد لا إرادة له في أن يخرج منه، كالطفل فلا قوة له في أن يغادر فراشه. إذن فهو قد فقد إرادته وسيطرته على أبعاضه. فإن كان المهاد بهذه الصورة في النار فهو بئس المهاد. هذا لون من الناس وفي المقابل يعطينا سبحانه لوناً آخر من الناس فيقول سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 873 والله سبحانه وتعالى ساعة يستعمل كلمة «يشري» يجب أن نلاحظ أنها من الأفعال التي تستخدم في الشيء ومقابله، ف «شرى» يعني أيضا «باع» . إذن، كلمة «شرى» لها معنيان، واقرأ إن شئت في سورة يوسف قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أي باعوه بثمن رخيص. وتأتي أيضا بمعنى اشترى، فالشاعر العربي القديم عنترة ابن شداد يقول: فخاض غمارها وشرى وباعا ... . إذن «شرى» لغة، تُستعمل في معنيين: إما أن تكون بمعنى «باع» ، وإما أن تكون بمعنى «اشترى» ، والسياق والقرينة هما اللذان يحددان المعنى المقصود منهم فقول عنترة: «شرى وباع» نفهم أن المقصود من «شري» هنا هو «اشترى» ، لأنها مقابل «باع» ، وقوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] يوضحه سياق الآية بأنهم باعوه. وهذا من عظمة اللغة العربية، إنها لغة تريد أناساً يستقبلون اللفظ بعقل، ويجعلون السياق يتحكم في فهمهم للمعاني. {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ} ونفهم «يشري» هنا بمعنى يبيع نفسه، والذي يبيع نفسه هو الذي يفقدها بمقابل. والإنسان عندما يفقد نفسه فهو يضحي بها، وعندما تكون التضحية ابتغاء مرضاة الله فهي الشهادة في سبيله عَزَّ وَجَلَّ، كأنه باع نفسه وأخذ مقابلها مرضاة الله. ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 874 إن الحق يعطيهم الجنة مقابل أنفسهم وأموالهم. إذن فقوله: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} يعني باع نفسه وأخذ الجنة مقابلاً لها، هذا إذا كان معنى «يشري» هو باع. وماذا يكون المعنى إذا كانت بمعنى اشترى؟ هنا نفهم أنه اشترى نفسه بمعنى أنه ضحى بكل شيء في سبيل أن تسلم نفسه الإيمانية. ومن العجب أن هذه الآية قيل في سبب نزولها ما يؤكد أنها تحتمل المعنيين، معنى «باع» ومعنى «اشترى» فها هو ذا أبو يحيى الذي هو صهيب بن سنان الرومي كان في مكة، وقد كبر سنه، وأسلم وأراد أن يهاجر، فقال له الكفار: لقد جئت مكة فقيراً وآويناك إلى جوارنا وأنت الآن ذو مال كثير، وتريد أن تهاجر بمالك. فقال لهم: أإذا خليت بينكم وبين مالي أأنتم تاركوني؟ فقالوا: نعم. قال: تضمنون لي راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة؟ قالوا: لك هذا. إنه قد شرى نفسه بهذا السلوك واستبقاها إيمانياً بثروته، فلما ذهب إلى المدينة لقيه أبو بكر وعمر فقالا له: ربح البيع يا أبا يحيى. قال: وأربح الله كل تجارتكم. وقال له سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبرنا أن جبريل أخبره بقصتك، ويروي أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له: ربح البيع أبا يحيى. إذن معنى الآية وفق هذه القصة: أنه اشترى نفسه بماله، وسياق الآية يتفق مع المعنى نفسه. وهذه من فوائد الأداء القرآني حيث اللفظ الواحد يخدم معنيين متقابلين. ولكن إذا كان المعنى أنه باعها فلذلك قصة أخرى، ففي غزوة بدر، وهي أول غزوة في الإسلام، وكان صناديد قريش قد جمعوا أنفسهم لمحاربة المسلمين في هذه الغزوة، وتمكن المسلمون من قتل بعض هؤلاء الصناديد، وأسروا منهم كثيرين أيضا، وكان مِمَّنْ قتلوا في هذه الغزوة واحد من صناديد قريش هو أبو عقبة الحارث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 875 بن عامر والذي قتله هو صحابي اسمه خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي، وهو من قبيل الأوس بالمدينة، وبعد ذلك مكر بعض الكفار فأرسلوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: يا رسول الله، إننا قد أسلمنا، ونريد أن ترسل إلينا قوما ليعلمونا الإسلام. فأرسل لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشرة من أصحابه ليعلموهم القرآن، فغدر الكافرون بهؤلاء العشرة فقتلوهم إلا خبيب بن عدي، استطاع أن يفر بحياته ومعه صحابي آخر اسمه زيد بن الدَّثِنّة، لكن خبيباً وقع في الأسر وعرف الذين أسروه أنه هو الذي قتل أبا عقبة الحارث في غزوة بدر، فباعوه لابن أبي عقبة ليقتله مقابل أبيه، فلم يشأ أن يقتله وإنما صلبه حياً، فلما تركه مصلوباً على الخشبة، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في المدينة: من ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟ قال الزبير: أنا يا رسول الله. وقال المقداد: وأنا معه يا رسول الله. فذهبا إلى مكة فوجدا خبيباً على الخشبة وقد مات وحوله أربعون من قريش يحرسونه، فانتهزا منهم غفلتهم وذهبا إلى الخشبة وانتزعا خبيباً وأخذاه، فلما أفاق القوم لم يجدوا خبيباً فقاموا يتتبعون الأثر ليلحقوا بمن خطفوه، فرآهم الزبير، فألقى خبيباً على الأرض، ثم نظر إليه فإذا بالأرض تبتلعه فسمى بليع الأرض. وبعد ذلك التفت إليهم ونزع عمامته التي كان يتخفى وراءها وقال: أنا الزبير بن العوام، أمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد، فإن شئتم فاضلتكم يعني يفاخر كل منا بنفسه وإن شئتم نازلتكم يعني قاتلتكم وإن شئتم فانصرفوا، فقالوا: ننصرف، وانصرفوا، فلما ذهب الزبير والمقداد إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشرهم بالجنة التي صار إليها خبيب. إذن فقد باع خبيب نفسه بالجنة. وعلى ذلك فإن ذهبت بسبب نزول الآية إلى أبي يحيى صهيب بن سنان الرومي تكون «شرى» بمعنى اشترى، وإن ذهبت بسبب النزول إلى خبيب فتكون بمعنى: باع. وهكذا نجد أن اللفظ الواحد في القرآن الكريم يحتمل أكثر من واقع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 876 وخبيب بن عدي هذا قالت فيه ماويّة ابنة الرجل الذي اشتراه ليعطيه لعقبة ليقتله مقابل أبيه، قالت: والله لقد رأيت خبيباً يأكل قطفا من العنب كرأس الإنسان! ووالله ما في مكة حائط بستان ولا عنب وإنما هو رزق ساقه الله له. ولما جاءوا ليقتلوه قال: أنظروني أصلِّ ركعتين. فصلى ركعتين ونظر إلى القوم وقال: والله لولا أني أخاف أن تقولوا إنه زاد في الصلاة لكي نبطئ بقتله لزدت. وقال قبل أن يقتلوه: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً. ثم هتف وقال: ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي وكان ذلك آخر ما قاله. ويقول الحق: {والله رَؤُوفٌ بالعباد} وما العلاقة بين ما سبق وبين رءوف بالعباد؟ مادام الله رءوفاً بالعباد فلم يشأ الله أن يجعل ذلك أمراً كلياً في كل مسلم، وإنما جعلها فلتات لتثبت صدق القضية الإيمانية، لأنه لا يريد أن يضحي كل المسلمين بأنفسهم، وإنما يريد أن يستبقي منا أناساً يحملون الدعوة. وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى أصناف الناس الذين يستقبلون الدعوة كفراً ونفاقاً، ومَنْ يقابلهم ممن يستقبلونها إيماناً خالصاً، نادى جميع المؤمنين فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 تبدأ الآية بنداء الذين آمنوا بالله وكأنه يقول لهم: يا مَنْ آمنتم بي استمعوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 لحديثي. فلم يكلف الله من لم يؤمن به وإنما خاطب الذين أحبوه وآمنوا به، وماداموا قد أحبوا الله فلابد أن يتجه كل مؤمن إلى من يحبه؛ لأن الله لن يعطيه إلا ما يسعده. إذن فالتكليف من الله إسعادٌ لمن أحب، {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} ، وكلمة «في» تُفيد الظرفية، ومعنى الظرفية أن شيئا يحتوي شيئا، مثال ذلك الكوب الذي يحتوي الماء فنقول: «الماء في الكوب» ، وكذلك المسجد يحتوي المصلين فنقول: «المصلون في المسجد» . والظرفية تدل على إحاطة الظرف بالمظروف، ومادام الظرف قد أحاط بالمظروف إذن فلا جهة يفلت منها المظروف من الظرف. ولذلك يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة التمكن من مسألة الظرفية عندما يقول: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] إن الصلب دائماً يكون على شيء، وتشاء الآية الكريمة أن تشرح لنا كيف يمكن أن يكون الصلب متمكناً من المصلوب. فأنت إذا أردت أن تصلب شيئاً على شيء فأنت تربطه على المصلوب عليه، فإذا ما بالغت في ربطه كأنك أدخلت المصلوب داخل المصلوب عليه. ومثال ذلك، هات عود كبريت وضعه على إصبعك ثم اربطه بخيط ربطا جيداً، ستلاحظ أن العود قد غاص في جلدك. والحق يقول: {ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} والسِّلْم والسَّلْمُ والسَّلَم هو الإسلام، فالمادة كلها واحدة؛ لأن السلم ضد الحرب، والإسلام جاء لينهي الحرب بينك وبين الكون الذي تعيش فيه لصالحك ولصالح الكون ولتكون في سلام مع الله وفي سلام مع الكون، وفي سلام مع الناس. وفي سلام مع نفسك. قوله: {ادخلوا فِي السلم} معناه حتى يكتنفكم السلم. إن الله هو الإله الخالق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 878 للكون ولابد أن تعيشوا في سلام معه؛ لأنكم لا تؤمنون إلا به إلهاً واحداً. فيجب علينا أن نعيش مع الأرض والسماء والكون في سلام؛ لأن الكون الخاضع المقهور المسخر الذي لا يملك أن يخرج عما رُسم له يعمل لخدمتك ولا يعاندك. والإنسان حين يكون طائعاً يُسَرّ به كل شيء في الوجود؛ لأن الوجود طائع ومُسبِّح، فساعة يجد الإنسان مُسبِّحاً مثله يُسَرّ به لأنه في سلام مع الكون. وأنت في سلام مع نفسك؛ لأن لك إرادة، وهذه الإرادة قَهَرَ اللهُ لها كل جوارحك، والذي تريده من أي عضو يفعله لك، لكن هل يرضى أي عضو عمّا تأمره به؟ تلك مسألة أخرى، مثلاً، لسانك ينفعل بإرادتك، فتقول به: «لا إله إلا الله» وقال به غيرنا من المشركين غير ذلك، وأشركوا مع الله بشراً وغير بشر يعبدونهم وقال الملحدون بألسنتهم والعياذ بالله: «لا إله في الكون» ولم يعص اللسان أحداً من هؤلاء لأنه مقهور لإرادتهم. وتنتهي إرادة الإنسان على لسانه وعلى جميع جوارحه يوم القيامة فيشهد عليه كما تشهد عليه سائر أعضائه: الأرجل، والأيدي، والعيون، والآذان، وكل عضو يقر بما كان يفعل به، لأنه لا سيطرة للإنسان على تلك الأبعاض في هذا اليوم. إنما السيطرة كلها للخالق الأعلى. {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} . والحق حين ينادي المؤمنين بأن يدخلوا في السلم كافة فالمعنى يحتمل أيضا أن الحق سبحانه وتعالى يخاطب المسلمين ألا يأخذوا بعضاً من الدين، ويتركوا البعض الآخر، فيقول لهم: خذوا الإسلام كُله وطبقوه كاملاً؛ لأن الإسلام يمثل بناء له أسس معلومة، وقواعد واضحة، فلا يحاول أحد أن يأخذ شيئاً من حكم بعيداً عن حكم آخر، وإلا لحدث الخلل. وعلى سبيل المثال قد تجد خلافاً بين الزوج والزوجة، وقد يؤدي الخلاف إلى معارك وطلاق، وبعد ذلك نجد من يتهم الإسلام بأنه أعطى الرجل سيفاً مسلطاً على المرأة. ونقول لهم: ولماذا تتهمون الإسلام؟ هل دَخَلْتَ على الزواج بمنطق الإسلام؟ . إن كنت قد دخلت على الزواج بمنطق الإسلام فستجد القواعد المنظمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 879 والتي تحفظ للمرأة كرامتها، ولكن هناك مَنْ يدخل على الزواج بغير منطق الإسلام، فلما وقع في الأزمة راح ينادي الإسلام. هل اختار الرجل مَنْ تشاركه حياته بمقياس الدين؟ وهل وضع نُصب عينيه شروط اختيار الزوجة الصالحة التي جاءت في الحديث الشريف: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» . هل فضّل الرجل ذات الدين على سواها؟ أم فضل مقياساً آخر؟ . وعندما جاء رجل ليخطب ابنة من أبيها هل وضع الأب مقاييس الإسلام في الاعتبار عند موافقته على هذا الزواج؟ هل فضلتم مَنْ ترضون دينه وخلُقُه؟ أم تركتم تلك القواعد. أنت تركت قواعد الإسلام فلماذا تلوم الإسلام عند سوء النتائج والعواقب؟ . إنك إن أردت أن تحاسب فلا بد أن تأخذ كل أمورك بمقاييس الإسلام، ثم تصرف بما يناسب الإسلام. فإن كنت كذلك فالإسلام يحميك من كل شيء. فالإسلام يساند القوي في الكون ويساند القُوَى في النفس بحيث تعيش في سلام ولا تتعاند؛ لأن كل ذلك يقابله الحرب. والحرب إنما تنشأ من تعاند القوي، فتتعاند قوى نفسك في حرب مع نفسك، وتتعاند قوى البشر في حرب مع البشر، وتتعاند قواك مع قوى الكون الأخرى، فأنت تعاند الطبيعة وتعاند مع الحق سبحانه وتعالى. إذن فالتعاند ينشأ منه الحرب، والحرب لا تنشأ إلا إذا اختلفت الأهواء. وأهواء البشر لا يمكن أن تلتقي إلا عندما تكون محروسة بقيم مَنْ لا هوى له، ولذلك يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 880 لماذا؟ . دعك من الكون الأصم حولك، أو دعك من الكون الذي لا اختيار له في أن يفعل أو ينفعل لك؛ فهو فاعل أو منفعل لك بدون اختيار منه، ولكن انظر إلى البشر من جنسك، فما الذي يجعل هوى إنسان يسيطر على أهواء غيره؟ . ما الذي زاده ذلك الإنسان حتى تكون أنت تابعاً له؟ أو يكون تابعاً لك؟ . وفي قانون التبعية لا يمكن إلا أن يكون التابع مؤمناً بأن المتبوع أعلى منه، ولا يمكن لبشر أن توجد عنده هذه الفوقية أبداً. لذلك لابد للبشر جميعاً أن يكونوا تبعاً لقوة آمنوا بأنها فوقهم جميعاً. فحين نؤمن ندخل في السلم، ولا يوجد تعاند بين أي قوى وقوة أخرى؛ لأني لست خاضعاً لك، وأنت لست خاضعاً لي، وأنا وأنت مسلمون لقوة أعلى مني ومنك، ويشترط في القوة التي نتبعها طائعين ألا يكون لها مصلحة فيما تشرع. إن المشرعين من البشر يراعون مصالحهم حين يشرعون، فمشرع الشيوعية يضع تشريعه ضد الرأسمالية، ومشرع الرأسمالية يضع تشريعه ضد الشيوعية، لكن عندما يكون المشرع غير منتفع بما يشرع، فهذا هو تشريع الحق سبحانه وتعالى. وحين ندخل في الإسلام ندخل جميعاً لا يشذ منا أحد، ذلك معنى {ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} ، هذا معنى وارد، وهناك معنى آخر وارد أيضا وهو ادخلوا في السلم أي الإسلام بجميع تكاليفه بحيث لا تتركوا تكليفاً يشذ منكم. وحين يأتي المعنى الأول فلأننا لو لم ندخل في السلم جميعاً لشقي الذين يُسلمون بالذين لا يُسلمون؛ لأن الذي يُسلم سيهذب سلوكه بالنسبة للآخرين، ويكون نفع المسلم لسواه، ويشقى المسلم بعد إسلام من لم يسلم، فمن مصلحتنا جميعاً أن نكون جميعاً مسلمين. والذين لا يدركون هذه الحقيقة يفسرون قول الله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} [المائدة: 105] على غير ظاهرها، فمن ضِمْن هدايتكم أن تُبَصّروُا من لم يؤمن بأن يؤمن؛ لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 881 مصلحتكم أن تسلموا جميعاً، فإذا أسلمت أنت فسيعود إسلامك على الغير؛ لأن سلوكك سيصبح مستقيماً مهذباً، والذي لم يسلم سيصبح سلوكه غير مستقيم وغير مهذب، وستشقى أنت به. إذن فمن مصلحتك أن تقضي وقتاً طويلاً وتتحمل عناء كبيراً في أن تدعو غيرك ليدخل في الإسلام. وإياك أن تقول: إن ذلك يضيع عليك فرص الحياة. لا إنه يضمن لك فرص الحياة، ولن يضيع وقتك لأنك ستحمي نفسك من شرور غير المسلم. وأذكر جيداً أننا حين تكلمنا في فاتحة الكتاب قلنا: إن الله يُعلمنا أن نقول: {إياك نعبد} فكلنا يا رب نعبدك وسنسعد جميعا بذلك، واهدنا كلنا يا رب؛ لأنك إن هديتني وحدي فسيستمتع غيري بهدايتك لي، وأنا سوف أشقى بضلاله. فمن مصلحتنا جميعاً أن نكون مهديين جميعاً. هذا على معنى {ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} أي جميعاً. أما معنى قوله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} أي لا تتحملون أوزار ضلالهم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر. أما المعنى الثاني فادخلوا في الإسلام بحيث لا يشذ منكم أحد. ويأخذ شيئا وبعضا من الإسلام ويترك بعضا منه، فأنت تريد أن تبني حياتك. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شرح أن للإسلام أسساً هي الأركان الخمسة، وإياك أن تأخذ ثلاثة أركان وتترك ركنين؛ لأن هندسة الإسلام مبنية على خمسة أركان. وقد قال لي أحد المهندسين: إننا نستطيع أن ننشئ بنياناً على ثلاثة أركان أو على أربعة أو على خمسة. فقلت له: ولكن حين تجعل البنيان على أربعة أركان، وتوزيع الأحمال والأثقال على أربعة أسس، هل يمكنك حين تُنشئ أن تجعلها ثلاثة أركان فقط؟ . قال: لا. قلت: إذن فالبناء إنما ينشأ من البداية على الأسس التي تريدها، ولذلك فأنت توزع القوى على ثلاثة أو أربعة أو خمسة من البداية. والله سبحانه وتعالى شاء أن يجعل أسس الإسلام خمسة، وبعد ذلك يُبْنَى الإسلام، وحين يبنى الإسلام فإياك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 882 أن تأخذ لبنة من الإسلام دون لبنة، بل يُؤخذ الإسلام كله، فالضرر الواقع في العالم الإسلامي إنما هو ناتج من التلفيقات التي تحدث في العالم المسلم. تلك التلفيقات التي تحاول أن تأخذ بعضاً من الإسلام وتترك بعضا، وهذا هو السبب في التعب والضرر؛ لأن الإسلام لابد أن يؤخذ كله مرة واحدة. إذن {ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} يعني إياكم أن تتركوا حكماً من الأحكام. إن الذي يتعب المنتسبين إلى الدين الآن أننا نريد أن نلفق حياة إسلامية في بلاد تأخذ قوانينها من بلاد غير إسلامية. إذن حتى ننجح في حياتنا، فلابد أن نأخذ الإسلام كله. وللأسف فإن كثيراً من حكام البلاد المسلمة لا يأخذون من الإسلام إلا آخر قوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} إنهم يأخذون {وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} ويتركون {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} . وأقوال: لماذا تأخذون الأخيرة وتتركون ما قبلها؟ إن الله لم يجعل لولي الأمر طاعة مستقلة بل قال: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} ليدل على أن طاعة ولي الأمر من باطن طاعة الله وطاعة الرسول. فنحن لا نريد تلفيقاً في الإسلام، خذوه كاملاً، تستريحوا أنتم ونستريح نحن معكم. إن الحق سبحانه وتعالى يريد بدعوتنا إلى دخول الإسلام أن يعصم الناس من فتنة اختلاف أهوائهم فخفف ورفع عن خلقه ما يمكن أن يختلفوا فيه، وتركهم أحراراً في أن يزاولوا مهمة استنباط أسرار الله في وجوده بالعلم التجريبي كما يحبون، فإن أرادوا رقياً فليُعْمِلُوا عقولهم المخلوقة لله؛ في الكون المخلوق لله، بالطاقة المخلوقة لله؛ ليسعدوا أنفسهم ويدفعوها إلى الرقي، وإن انتهى أحد منهم إلى قضية كونية، واكتشف سراً من الأسرار في الكون فهو لن يقدم للناس جديداً في المنهج، وسيأخذ الناس هذا الجديد ولا يعارضونه. إذن فمن الممكن أن يستنبط العلماء بعضاً من أسرار قضايا الكون المادية بوساطة العلم التجريبي، وهي أمور سيتفق عليها الناس، ولكن البشر يمكن أن يختلفوا في الأمور النابعة من أهوائهم؛ لأن لكل واحد هوى، وكل واحد يريد أن يتبع هواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 883 ولا يتبع هوى الآخرين، والحق سبحانه يريد أن يعصمنا من الأهواء لذلك قال لنا: {ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} أي ادخلوا في كل صور الإسلام، حتى لا يأتي تناقض الأهواء في المجتمع. وكن أيها المؤمن في سلم مع نفسك فلا يتناقض لسانك مع ما في قلبك، فلا تكن مؤمن اللسان كافر القلب. كن منسجماً مع نفسك حتى لا تعاني من صراع الملكات. وأيضاً كن داخلاً في السلام مع الكون الذي تعيش فيه، مع السماء، مع الأرض، مع الحيوان، مع النبات. كن في سلم مع كل تلك المخلوقات لأنها مخلوقة مسخرة طائعة لله، فلا تشذ أنت لتغضبها وتُحْفِظها عليك. كن منسجماً مع الزمن أيضاً، لأن الزمن الذي يحدث فيه منك ما يخالف منهج الله سيلعنك هو والمكان، وإذا أردت أن تشيع سلامك في الكون فعليك كما علمك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تسالم كل الكون، وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشيع السلام في الزمان والمكان، وعلى سبيل المثال كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أكثر الناس صياماً في شعبان، ولما سأله الصحابة عن هذا أخبرهم أن شعبان شهر يهمله الناس لأنه بين رجب، وهو من الأشهر الحرم الأربعة وبين رمضان، فأحب أن يحيى ذلك الشهر الذي يغفل عنه الناس، فكأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أن يسعد الزمان بأن يشيع فيه لونا من العبادة فلا يجعله أقل من الأزمنة الأخرى. كذلك الأمكنة تريد أن تسعد بك، فكل الأماكن تسعد بذكر الله فيها. والحق سبحانه بعد أن أمرنا جميعاً بالدخول في السلم بافعل ولا تفعل، حذرنا من اتباع الشيطان لأنه هو الذي يعمل على إبعادنا عن منهج الله فقال جل شأنه: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208] ولماذا لا نتبع خطوات الشيطان؟ لأن عداوته للإنسان عداوة مسبقة، وقف من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 884 آدم هذا الموقف، وبعد ذلك أقسم بعزة الله أن يغويكم جميعاً، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد حكى لنا القصة فكأنه أعطانا المناعة، أي أن الشيطان لم يفاجئنا. وإنما وضع الحق أمامنا قصة الشيطان مع آدم واضحة جلية ليعطينا المناعة، بدليل أننا حين نريد أن نصون أجسامنا نجعل لأنفسنا مناعة قبل أن يأتي المرض، نُطعم أنفسنا ضد شلل الأطفال، وضد الكوليرا، وضد كذا، وكذا، فكأن الله سبحانه وتعالى يذكر قصة الشيطان مع أبينا آدم ليقول لنا: لاحظوا أن عداوته مسبقة. وما دام له معكم عداوة مسبقة فلن يأخذكم على غرة؛ لأن الله نبهكم لتلك المسألة مع الخلق الأول. والشيطان عندما يُذكر في القرآن يراد به مرة عاصي الجن، لأن طائع الجن مثل طائع البشر تماماً، ومرة يريد به شياطين الإنس. إذن من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين. وحتى تستطيع أن تفرق بين ما يزينه الشيطان وبين ما تزينه لك نفسك، فإن رأيت نفسك مصراً على معصية من لون واحد فاعلم أن السبب هو نفسك، لأن النفس تريدك عاصياً من لون يشبع نقصاً فيها فهي تصر عليه: إنسان يحب المال فتتسلط عليه نفسه من جهة المال، وإنسان آخر يحب الجنس فتتسلط عليه نفسه من جهة النساء، وثالث يحب الفخر والمديح فتتسلط عليه نفسه من جهة مَنْ ينافقه. لكن الشيطان لا يصر على معصية بعينها، فإن رآك قد امتنعت عن معصية فهو يزين لك معصية أخرى؛ لأنه يريدك عاصياً على أية جهة. والحق يحذرنا {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} . وليس هناك عداوة أوضح من عداوة الشيطان بعد أن وقف من آدم وقال ما أورده الحق على لسانه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82 - 83] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 885 ويقول الحق من بعد ذلك: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 886 والزّلة هي المعصية، وهي مأخوذة من «زال» ، وزال الشيء أي خرج عن استقامته، فكأن كل شيء له استقامة، والخروج عنه يعتبر زللا، والزلل: هو الذنوب والمعاصي التي تُخالف بها المنهج المستقيم. {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات} إنه سبحانه يوضح لنا أنه لا عذر لكم مطلقا في أن تزلوا؛ لأنني بينت لكم كل شيء، ولم أترككم إلى عقولكم، ومن المنطقي أن تستعملوا عقولكم استعمالا صحيحا لتديروا حركة الكون الذي استخلفتكم فيه، ومع ذلك، إن أصابتكم الغفلة فأنا أرسل الرسل. ولذلك قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] لقد رحم الله الخلق بإرسال الرسل ليبينوا للإنسان الطريق الصحيح من الطريق المعوج. والحق سبحانه وتعالى يترك بعض الأشياء للبشر ليأتوا بفكر من عندهم ثم يرتضي الإسلام ما جاءوا به ليعلمنا أن العقل إذا ما كان طبيعيا ومنطقيا فهو قادر على أن يهتدي إلى الحكم بذاته. وفي تاريخ الإسلام نجد أن سيدنا عمر قد رأى أشياء واقترح بعضا من الاقتراحات، ووافق عليها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم ينزل القرآن على وفق ما قاله عمر، وقد يتساءل أحد قائلا: ألم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولى؟ نقول: لو كانت تلك الآراء قد جاءت من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما كان فيها غرابة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معصوم ويوحي إليه، لكن الله يريد أن يقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 886 لنا: أن العقل الفطري عندما يصفو فهو يستطيع أن يهتدي للحكم الصحيح، وإن لم يكن هناك حكم قد نزل من السماء. ولذلك تستفز أحكام سيدنا عمر عدداً كبيراً من المستشرقين ويقولون: أليس عندكم سوى عمر؟ لماذا لا تقولون محمدا؟ نقول لهم: لقد تربى عمر في مدرسة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فما يقوله هو، إنما قد أخذه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد أقر عمر بذلك وقال: «ما عمر لولا الإسلام» ، ونحن نستشهد بعمر لأنه بشر وليس رسولاً، ويسري عليه ما يسري على البشر، فلا يوحى إليه ولم يكن معصوما. إذن كأن الحق أراد أن يُقَرِّب لنا القدرة على الاستنباط والفهم فنكون جميعا عمر؛ لأن عمر بالفطرة كان يهتدي إلى الصواب، ويقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «نفعل كذا» ، فينزل الوحي موافقا لرأيه، فكأن الله لم يكلفنا شططا، إنما جاء تكليفه ليحمي العقول من أهواء النفس التي تطمس العقول، فآفة الرأي الهوى، ولولا وجود الأهواء لكانت الآراء كلها متفقة. وقديما أعطوا لنا مثلا بالمرأة التي جمعت الصيف والشتاء في ليلة واحدة، فقد زوجت ابنها وابنتها، وعاش الأربعة معها في حجرة واحدة، ابنها معه زوجته، وابنتها معها زوجها، والمرأة معهم، تنام نوما قليلا وتذهب لابنتها توصيها: «دفئي زوجك وأرضيه» فالجو بارد، وتذهب لابنها وتقول: «ابعد عن زوجتك فالدنيا حر» . إن المكان واحد، والليل واحد، لكن المرأة جعلته صيفاً وشتاء في وقت واحد والسبب هو هوى النفس. والله سبحانه يبين لنا ذلك في قوله: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] إذن فالحق سبحانه وتعالى يعصمنا حين يُشَرع لنا، فالبشر يضيقون ذرعا بتقنينات أنفسهم لأنفسهم، فيحاولون أن يخففوا من خطأ التقنين البشري، فيقننوا أشياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 887 يعدلون بها ما عندهم، ولو نظرت إلى ما عدلوه من قوانين لوجدته تعديلا يلتقي مع الإسلام أو يقترب من الإسلام. لقد سألوني في أمريكا: لماذا لم يظهر الإسلام فوق كل العقائد برغم أنكم تقولون: إن الله يقول في كتابه: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} . ومع ذلك لم يظهر دينكم على كل الأديان، ولم يزل كثير من الناس غير مسلمين سواء كانوا يهودا أو نصارى أو بلا دين؟ قلت: لو فطنتم إلى قول الله: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} و {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} لدلكم ذلك على أن ظهور الإسلام قد تم مع وجود كفار، وظهوره مع وجود مشركين، وإلا لو ظهر ولا شيء معه فممن يُكرَه؟ إن العقيدة التي يكرهها أهل الكفر هي التي تعزز وجود الإسلام. إذن {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} يدل على أن ظهور الإسلام يعني وجود كافر ووجود مشرك كلاهما سيكون موجودا وسيكرهان انتشار الدين. وعندما نرى أحداث الحياة تضطر البلاد الغربية عندما يجدون خطأ تقنينهم فيحاولون أن يعدلوا في التقنيات فلا يجدون تعديلا إلا أن يذهبوا إلى أحكام الإسلام، لكنهم لم يذهبوا إليه كدين إنما ذهبوا إليه كنظام، إن رجوعهم إلى الإسلام لدليل وتأكيد على صحة وسلامة أحكام الإسلام، لأنهم لو أخذوا تلك الأحكام كأحكام دين لقال غيرهم: قوم تعصبوا لدين آمنوا به فنفذوا أحكامه. ولكنهم برغم كرههم للدين، اضطروا لأن يأخذوا بتعاليمه، فكأنه لا حل عندهم إلا الأخذ بما ذهب إليه الإسلام. إذن قول الله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} قوة لنظام الإسلام، لا لتؤمن به وإنما تضطر أن تلجأ إليه، وكانوا في إيطاليا على سبيل المثال يعيبون على الإسلام الطلاق ويعتبرونه انتقاما لحقوق المرأة، ولكن ظروف الحياة والمشكلات الأسرية اضطرتهم لإباحة الطلاق، فهل قننوه لأن الإسلام قال به؟ لا، ولكن لأنهم وجدوا أن حل مشكلاتهم لا يأتي إلا منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 888 وفي أمريكا عندما شنوا حملة شعواء على تناول الخمور، هل حاربوها لأن الإسلام حرمها؟ لا، ولكن لأن واقع الحياة الصحية طلب منهم ذلك. إذن {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} ، {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} : معناهما أنهم سيلجأون إلى نظام الإسلام ليحل قضاياهم. فإن لم يأخذوه كدين فسوف يأخذونه نظاما. {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي إياكم أن تظنوا أنكم بزللكم أخذتم حظوظ أنفسكم من الله، فإن مرجعكم إلى الله وهو عزيز وعزته سبحانه هي أنه يَغلب ولا يُغلب، فهو يدبر أمورنا برحمة وحكمة. ويقول الحق بعد ذلك: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 889 أي ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون أن تداهمهم الأمور ويجدوا أنفسهم في كون وإن أخذ زخرفة فهو يتحول إلى هشيم تذروه الرياح، ويصير الإنسان أمام لحظة الحساب. وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ} مأخوذة من النظر. والنظر هو طلب الإدراك لشيء مطلق. وطلب الإدراك لأي شيء بأي شيء يُسمى نظرا. ومثال ذلك أننا نقول لأي إنسان يتكلم في أي مسألة معنوية: أليس عندك نظر؟ أي هل تملك قوة الإدراك أم لا؟ إذن فالنظر هو طلب الإدراك للشيء، فإن طلبت أن ترى فهو النظر بالعين، وإن طلبت أن تعرف وتعلم؛ فهو النظر بالفكر وبالقلب. وأحيانا يُطلق النظر على الانتظار، وهو طلب إدراك ما يتوقع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 889 و {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} ، يعني هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة وتفاجئهم في الزمن الخاص؟ لأنها لن تفاجئ أحدا في الزمن العام، فسوف يكون لها آيات صغرى وآيات كبرى، ومعنى أن لها آيات صغرى وكبرى، أن ذلك دليل على أن الله يمهلنا لنتدارك أنفسنا، فلا يزال فاتحا لباب التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها. وساعة نسمع قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} نقول: ما الذي يؤجل دخولهم في الإسلام كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ تماما كأن تقول لشخص أمامك: ماذا تنتظر؟ كذلك الحق يحثنا على الدخول في السلم كافة وإلا فماذا تنظرون؟ و {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة} ساعة تقول: {يَأْتِيَهُمُ الله} أو «جاء ربك» أو يأتي سبحانه بمثل في القرآن مما نعرفه في المخلوقين من الإتيان والمجيء وكالوجه واليد، فلتأخذه في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فالله موجود وأنت موجود، فهل وجودك كوجوده؟ لا. إن الله حي وأنت حي، أحياتك كحياته؟ لا. والله سميع وأنت سميع، أسمعك كسمعه؟ لا. والله بصير وأنت بصير، أبصرك كبصره؟ لا. وما دمت تعتقد أن له صفات مثلها فيك، فتأخذها بالنسبة لله في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ولذلك يقول المحققون: إنك تؤمن بالله كما أعطاك صورة الإيمان به لكن في إطار لا يختلف عنه عمَّا في أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وإن أمكن أن تتصور أي شيء فربك على خلاف ما تتصور، لأن ما خطر ببالك فإن الله سبحانه على خلاف ذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 890 فبال الإنسان لا يخطر عليه إلا الصور المعلومة له، وما دامت صورا معلومة فهي في خلق الله وهو سبحانه لا يشبه خلقه. إن ساعة يتجلى الحق، سيفاجئ الذين تصوروا الله على أية صورة، أنه سبحانه على غير ما تصوروا وسيأتيهم الله بحقيقة لم تكن في رءوسهم أبداً؛ لأنه لو كانت صورة الحق في بال البشر لكان معنى ذلك أنهم أصبحوا قادرين على تصوره، وهو القادر لا ينقلب مقدوراً عليه أبداً، ومن عظمته أن العقل لا يستطيع أن يتصوره مادياً. ولذلك ضرب الله لنا مثلاً يقرِّب لنا المسألة، فقال: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] إن الروح الموجودة في مملكة جسمنا والتي إذا خرجت من إنسان صار جيفة، وعاد بعد ذلك إلى عناصر تتحلل وأبخرة تتصاعد، هذه الروح التي في داخل كل منا لم يستطع أحد تصورها، أو تحديد مكانها أو شكلها، هذه الروح المخلوقة لله لم نستطع أن نتصورها، فكيف نستطيع أن نتصور الخالق الأعظم؟ {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} يعني بما لم يكن في حسبانهم. هل ينتظرون حتى يروا ذلك الكون المنسق البديع قد اندثر، والكون كله تبعثر، والشمس كورت والنجوم انكدرت، وكل شيء في الوجود تغير، وبعد ذلك يفاجأون بأنهم أمام ربهم. فماذا ينتظرون؟ . إذن يجب أن ينتهزوا الفرصة قبل أن يأتي ذلك الأمر، وقبل أن تفلت الفرصة من أيديهم ويُنهي أمد رجوعهم إلى الله. لماذا يسوفون في أن يدخلوا في السلم كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ أينتظرون أن يتغير الله؟ أو أن يتغير منهج الله؟ إن ذلك لن يحدث. ونؤكد مرة أخرى أننا عندما نسمع شيئاً يتعلق بالحق فيما يكون مثله في البشر فلنأخذه في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فكما أنك آمنت بأن لله ذاتاً لا كالذوات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 891 فيجب أن تعلم أن لله صفات ليست كالصفات، وأن لله أفعالاً ليست كالأفعال، فلا تجعل ذات الله مخالفة لذوات الناس؛ ثم تأتي في الصفات التي قال الله فيها عن نفسه وتجعلها مثل صفات الناس، فإذا كان الله يجيء؛ فلا تتصور مجيئه أنه سيترك مكاناً إلى مكان، فهو سبحانه يكون في مكان بما لا يخلو عنه مكان، تلك هي العظمة. فإذا قيل: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} فلا تظن أن إتيانه كإتيانك، لأن ذاته ليست كذاتك، ولأن الناس في اختلاف درجاتهم تختلف أفعالهم، فإذا كان الناس يختلفون في الأفعال باختلاف منازلهم، وفي الصفات باختلاف منازلهم، فالحق منزه عن كل شيء وكل تصور، ولنأخذ كل شيء يتعلق به في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ؛ ففعْل ربك يختلف عن فعلك. وإياك أن تُخضع فعله لقانون فعلك؛ لأن فعلك يحتاج إلى علاج وإلى زمن يختلف باختلاف طاقتك وباختلاف قدرتك، والله لا يفعل الأشياء بعلاج بحيث تأخذ منه زمناً ولكنه يقول: {كُنْ فَيَكُونُ} . كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عن الإنجاز الذي لا دخل لاختيار البشر في أن يخالفوا فيه فيقول: ساعة يجيء الأمر انخلعت كل قدرة لمخلوق عن ذلك الأمر وأصبح الأمر لله وحده. و {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} . فيه شيء يظللك وفيه شيء تستظل به، والشيء الذي يظللك لا يكون لك ولاية عليه في أن يظللك إلاّ أن ترى أين ظله وتذهب إليه، وشيء آخر تستطيع أنت التصرف فيه كالمظلة تفتحها في أي مكان تريد. وكلمة «ظلل» معناها أنها تستر عنك مصدر الضوء؛ ولذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يصور لنا ذلك قال: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله} [لقمان: 32] أي جاءهم الفزع الأكبر كالظلة محيطاً بهم، فكأن الله يريد أن يخبرنا أن الكون سيندثر كله وسيأتيك الأمر المفزع، الأمر المفجع، والمؤمن كان يتوقعه، وسيدخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 892 عليه برداً وسلاماً؛ لأنه ما آمن من أجله، لكن الكافر سيصاب بالفزع الأكبر؛ لأنه فوجيء بشيء لم يكن في حسابه. وقارن بين مجيء الأمر لمن يؤمله، وبين مجيء الأمر لمن لا يؤمله. إن الحق سبحانه وتعالى قال: ساعة تجيء هذه الظلل والملائكة فقد قضى الأمر. وعندما تسمع {قُضِيَ الأمر} فاعلم أن المراد أن الفرصة أفلتت من أيدي الناس، فمن لم يرجع إلى ربه قبل الآن فليست له فرصة أن يرجع. ومثال ذلك ما قاله الحق في قصة نوح: {وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي} [هود: 44] أي انتهى كل شيء، ولم يعد للناس قدرة على أن يرجعوا عما كانوا فيه. فالله يقول: ماذا تنتظرون؟ هل تنتظرون حتى يأتيكم هذا اليوم؟ لابد أن تنتهزوا الفرصة لترجعوا إلى ربكم قبل أن تفلت منكم فرصة العودة. {وَإِلَى الله تَرْجَعُ الأمور} ، ومرة تأتي {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} . وفيه فرق بين «تَرجع الأمور» بفتح التاء وبين «تُرجع الأمور» بضم التاء. فكأن الأمور مندفعة بذاتها، ومرة تساق إلى الله. إن الراغب سيرجع إلى ربه بنفسه؛ لأنه ذاهب إلى الخير الذي ينتظره، أما غير الراغب والذي كان لا يرجو لقاء ربه فَسَيُرجَع بالرغم عنه، تأتي قوة أخرى تُرجعه، فمن لم يجيء رغَباً يأتي رهَباً. ويقول الحق بعد ذلك: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 893 فكأن الله لم يحمل على بني إسرائيل ويريد منهم أن يقروا على أنفسهم بما أكرمهم به الله من خير سابق؛ فساعة تقول: «اسأل فلاناً عما فعلته معه» ، كأنك لا تأمر بالسؤال إلا عن ثقة، وأنه لن يجد جواباً إلا ما يؤيد قولك. والحق يبلغ رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يسأل بني إسرائيل عن الخير السابق الذي غمرهم به وهو سبحانه عليهم أنهم لن يستطيعوا مع لددهم أن يتكلموا إلا بما يوافق القضية التي يقولها الحق وتصبح حجة عليهم. والحق سبحانه وتعالى يقول: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم} ساعة تسمع {كَمْ} في مقام كهذا فافهم أنها كناية عن الإخبار عن الأمر الكثير بخلاف {كَمْ} التي تريد بها الاستفهام. وأنت تقول: «كم فعلت كذا مع فلان» و «كم صنعت معه معروفاً» و «كم تهاونت معه» و «كم أكرمته» . لذلك فعندما تسمع {كَمْ} هذه فاعرف أن معناها الكمية الكثيرة التي يُكنى بها على أن عدد لا يحصى. {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} إن الحق يريد أن يضرب لنا مثلاً كمثل إنسان يأكل خيرك وينكر معروفك، ويشكوك إلى إنسان، فترد أنت لم ينقل لك الشكوى: سله ماذا قدمت له من جميل، أنا لن أتكلم بل سأجعله هو يتكلم. وأنت لا تقول ذلك إلا وأنت على ثقة من أنه لا يستطيع أن يغير شيئاً. ألم يفلق لهم البحر؟ . ألم يجعل عصا موسى حية؟ ألم يظللهم الله بالغمام؟ ألم يعطهم الله المن والسلوى؟ كل ذلك أعطاه الله لهم؛ فلم يشكروا نعمة الله، فحل عليهم غضبه؛ أخذهم بالسنين والجوع وأخذهم بالقمل والضفادع والدم، كل ذلك فعله الله معهم. . وحين يقول الحق لرسوله: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} فالقول منسحب على أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإذا جاءك واحد منهم فاسأله: كم آيةٍ أعطاها الله لكم فأنكرتموها، وتلكأتم. وتعنّتُّم. {كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} إن {كَمْ} تدل على الكمية الكبيرة، و {مِّنْ آيَةٍ} : معناها الأمر العجيب. و {بَيِّنَةٍ} تعني الأمر الواضح الذي لا يمكن أن يغفل عنه أحد. {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 894 فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} . وكيف يبدل الإنسان نعمة الله؟ . إن نعمة الله حين تصيب خلقاً فالواجب عليهم أن يستقبلوها بالشكران، ومعنى الشكران هو نسبتها إلى واهبها والاستحياء أن يعصوا من أنعم عليهم بها. فإذا استقبل الناس النعمة بغير ذلك فقد بُدِلَت. ولذلك يقول الحق في آية أخرى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} وما داموا قد بدلوها كفراً، فيكون الكفر هو الذي جاء مكان الإيمان. إذن كان المطلوب أن يقابلوا النعمة بالإيمان، بالازدياد في التقرب إلى الله، لكنهم بدلوا النعمة بالكفر. {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} قد نفهم أن معنى {شَدِيدُ العقاب} هو أمر يتعلق بالآخرة، ولعل أناساً يستبطئون الآخرة، أو أناساً غير مؤمنين بالآخرة، فلو كان الأمر بالعقاب يقتصر على عقاب الآخرة لشقي الناس بمن لا يؤمنون بالآخرة. . أو يستبطئونها لأن هؤلاء يعيثون في الأرض فساداً؛ لأنهم لا يخافون الآخرة ولا يؤمنون بها، أو أنها لا تخطر ببالهم. فالذي يؤمن بأن هناك آخرة تأتي وسيكون فيها حساب، هو الذي سيكون سلوكه على مقتضى ذلك الإيمان. أما الذي لا يؤمن أن هناك يوماً آخر فالدنيا تشقى به. فإذا لم يعجل الله بلون من العقوبة للذين لا يؤمنون بالآخرة أو الذين يستبطئون الآخرة لشقي الناس بهؤلاء الذين لا يؤمنون أو يستبطئون. وكل جماعة لا تقبل على منهج الله، ويبدلون نعمة الله كفراً لابد أن يكون لله فيهم عقاب عاجل، وذلك ليعلم الناس أن من لم يرتدع إيماناً وخوفاً من اليوم الآخر فعليه أن يرتدع مخافة أن يأتيه العقاب في الدنيا. فالظالم إذا علم أن ظالماً مثله لقي عقابه وحسابه في الدنيا فسيخاف أن يظل؛ وإن لم يكن مؤمناً بالآخرة، لأنه سيتأكد أن الحساب واقع لا محالة. ولذلك لا يؤجل الله العقاب كله إلى الآخرة ولكن ينزل بعضا منه في الدنيا. ويقول الحق في الذين يبدلون نعمة الله كفراً: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} [إبراهيم: 28 - 29] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 895 هذه عقوبة الآخرة ولن يتركهم الله في الدنيا دون أن ينالهم العقاب. وحتى الذين يظلمون ويتعسفون مع أنهم مسلمون لا يتركهم الله بلا عقاب في الدنيا حتى يأتيهم يوم القيامة بل لابد أن يجيء لهم من واقع دنياهم ما يخيف الناس من هذه الخواتيم حتى تستقيم حركة الحياة بين الناس جميعا، وإلا فسيكون الشقاء واقعا على الناس من هؤلاء ومن الذين لا يؤمنون بعقاب الآخرة. وكان بعض الصالحين يقول: «اللهم إن القوم قد استبطأوا آخرتك وغرهم حلمك فخذهم أخذ عزيز مقتدر» ؛ لأنه سبحانه لو ترك عقابهم للآخرة لفسدوا وكانوا فتنة لغيرهم من المؤمنين. ولذلك شاء الله أن يجعل في منهج الإيمان تجريماً وعقوبة تقع في الدنيا، لماذا؟ حتى لا يستشري فساد من يشك في أمر الآخرة. وشدة عقاب الله لا يجعلها في الآخرة فقط، بل جعلها في الدنيا أيضاً؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124] ثم يقول سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 896 يريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين واقع الإنسان في الكون، هذا الواقع الذي يدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 896 على أنه سيد ذلك الكون، ومعنى ذلك أن كل الأجناس تخدمه. وقد عرفنا أن الجماد يخدم النبات، والجماد والنبات يخدمان الحيوان، والجماد والنبات والحيوان تخدم الإنسان، فالإنسان سيد هذه الأجناس. وكان مقتضى العقل أن يبحث هذا السيد عن جنس أعلى منه، فكما كانت الأجناس التي دونه في خدمته، فلابد أن يكون هذا الجنس الأعلى يناسب سيادته، ولن يجد شيئا في الوجود أبدا أعلى من الجنس الذي ينتسب إليه، لذلك كان المفروض أن يقول الإنسان: أنا أريد جنسا ينبهني عن نفسي؛ فأنا في أشد الاحتياج إليه. فإذا جاء الرسل وقالوا: إن الذي أعلى منك أيها الإنسان هو الله وليس كمثله شيء وتعالى عن كل الأجناس. كان يجب على الإنسان أن يقول: مرحبا؛ لأن معرفة الله تحل له اللغز. والرسل إنما جاءوا ليحلوا للإنسان لغزاً يبحث عنه، وكان على الإنسان أن يفرح بمجيء الرسل، وخصوصاً أن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يريد خدمة منه، إن الإنسان هو الذي يحتاج لعبادة الله ليسخر له الكائنات، ويعبده ليعزه. إذن فالمؤمن بين أمرين: بين خادم له مسخر وهو من دونه من الجهاد والنبات والحيوان، ومعطٍ متفضلٍ عليه مُختارٍ وهو أعلى منه. إنه هو الله. فمن يأخذ واحدة ويترك واحدة فقد أخذ الأدنى وترك الأعلى، فيقول له الحق: خذ الأعلى. فإذا كنت سعيداً بعطاء المخلوقات الأدنى منك، وتحب أن تستزيد منها فكيف لا تستزيد ممن هو أعلى منك؟ . إنه الله. والحق عندما يقول: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا} فهو يريد أن يلفتنا إلى أن مقاييس الكافرين مقاييس هابطة نازلة؛ لأن الذي زُين لهم هو الأمر الأدنى. ومن خيبة التقدير أن يأخذ الإنسان الأمر الأدنى ويفضله على الأعلى. وكلمة {زُيِّنَ} عندما تأتي في القرآن تكون مبنية لما لم يسم فاعله مثل قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} [آل عمران: 14] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 897 هناك {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} وفي آية البقرة التي نحن بصددها {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} لماذا قال الحق هناك: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} ولماذا قال هنا: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} ؟ لقد قال الحق ذلك لأن الذين كفروا ليس عندهم إلا الحياة الدنيا، فالأعلى لا يؤمنون به، ولكن في مسألة الناس عامة عندما يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} فهو سبحانه يقول للناس: خذوا الحياة على قدرها. وزُينت يعني حسُنت. فمن الذي حسنها؟ لقد حسنها الله عَزَّ وَجَلَّ. فكيف تنسى الذي حسنها لك، وجعلها جميلة وجعلها تحت تصرفك. كان يجب أن تأخذها وسيلة للإيمان بمن رزقك إياها، وكلما ترى شيئا جميلا في الوجود تقول: «سبحان الله» ، وتزداد إيمانا بالله، أما أن تأخذ المسألة وتعزلها عمن خلقها فذلك هو المقياس النازل. أو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي زينها بأن جعل في الناس غرائز تميل إلى ما تعطيه هذه الحياة الدنيا، ونقول: هل أعطى سبحانه الغرائز ولم يعط منهجا لتعلية هذه الغرائز؟ لا، لقد أعلى الغرائز وأعطى المنهج لتعلية الغرائز، فلا تأخذ هذه وتترك تلك. ولذلك يقول الحق: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ} [الكهف: 46] والحق عندما يقول: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا} فهو يفضح من يعتقدون أنه لا حياة بعد هذه الحياة، ونقول لهم: هذا مقياس نازل، وميزان غير دقيق، ودليل على الحمق؛ لأنكم ذهبتم إلى الأدنى وتركتم الأعلى. ومن العجيب أنكم فعلتم ذلك ثم يكون بينكم وبين من اختار الأعلى هذه المفارقات. أنتم في الأدنى وتسخرون من الذين التفتوا إلى الأعلى، إن الحق يقول: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ} . لماذا يسخرون منهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 898 لأن الذين آمنوا ملتزمون، ومادام الإنسان ملتزما فسيعوق نفسه عن حركات الوجود التي تأتيه من غير حل، لكن هؤلاء قد انطلقوا بكل قواهم وملكاتهم إلى ما يزين لهم من الحياة. لذلك تجد إنساناً يعيش في مستوى دخله الحلال، ولا يملك إلا حُلَّةً واحدة «بدلة» ، وإنساناً آخر يسرق غيره، فتجد الثاني الذي يعيش على أموال غيره حسن المظهر والهندام وعندما يلتقي الاثنان تجد الذي ينهب يسخر من الذي يعيش على الحلال، لماذا؟ لأنه يعتبر نفسه في مقياس أعلى منه، يرى نفسه حسن الهندام و «الشياكة» فيحسم الحق هذه المسألة ويقول: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} . لماذا يوم القيامة، أليسوا فوقهم الآن؟ إن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المنظور المرئي للناس؛ لأنهم لا ينظرون إلى الراحة النفسية وهي انسجام ملكات الإنسان حينما يذهب لينام، ولم يجرب على نفسه سقطة دينية ولا سقطة خلقية، ولا يؤذي أحداً، ولا يرتشي، ولا ينم ولا يغتاب، كيف يكون حاله عندما يستعرض أفعاله يومه قبل نومه؟ لابد أن يكون في سعادة لا تقدر بمال الدنيا. ولذلك لم يدخل الله هذا الإحساس في المقارنة، وإنما أدخل المسألة التي لا يقدر عليها أحد. {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29 - 33] ثم يقول الحق بعد ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 899 {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34 - 36] أي هل عرفنا أن نجازيهم؟ نقول: نعم يا رب. خصوصا أن ضحك الآخرة ليس بعده بكاء. {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} ولنلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى خالف الأسلوب في هذه الآية، لقد كان المفروض أن يقول: والذين آمنوا فوقهم. لكنه قال: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ} لأنه قد يؤخذ الإيمان على أنه اسم، فقد شاع عنك أنك مؤمن، فأنت بهذا الوصف لا يكفي لتنال به المرتبة السامية إلا إذا كانت أفعالك تؤدي بك إلى التقوى. فلا تقل: «أنا مؤمن» ويقول غيرك: «أنا مؤمن» ، ويصبح المؤمنون مليارا من البشر في العالم، نقول لهؤلاء: أنتم لن تأخذوا الإيمان بالاسم وإنما تأخذون الإيمان بالالتزام بمنهج السماء. ولذلك لم يقل الله: «والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة» وإنما قال: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} ليعزل الاسم عن الوصف. ويذيل الحق الآية بالقول الكريم: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . ما هو الرزق؟ الرزق عند القوم: هو كل ما ينتفع به؛ فكل شيء تنتفع به هو رزق. وطبقا لهذا التعريف فاللصوص يعتبرون الحرام رزقا، ولكنه رزق حرام. والناس يقصرون كلمة الرزق على شيء واحد يشغل بالهم دائما وهو «المال» نقول لهم: لا، إن الرزق هو كل ما يُنتفع به، فكل شيء يكون مجاله الانتفاع يدخل في الرزق: علمك رزق، وخُلُقُك رزق، وجاهك رزق، وكل شيء تنتفع به هو رزق. ساعة تقول: إن كل ذلك رزق تأخذ قول الله: {فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} [النحل: 71] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 900 كأن الله يريد من خلقه استطراق أرزاقهم على غيرهم، وكل إنسان متميز وتزيد عنده حاجة عليه أن يردها على الناس، لكن الناس لا تفهم الرزق إلا على أنه مال، ولا يفهمون أنه يطلق على كل شيء ينتفعون به. إذا كان الأمر كذلك فما معنى {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} كلمة {بِغَيْرِ حِسَابٍ} لابد أن نفهمها على أن الحساب يقتضي مُحاسِب، ومُحَاسَب، ومُحَاسَب عليه. وعلى هذا يكون {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ممن ولمن وفي ماذا؟ إنه رزق بغير حساب من الله؛ فقد يرزقك الله على قدر سعيك. وربما أكثر، وهو يرزق بغير حساب، لأنه لا توجد سلطة أعلى منه تقول له: لماذا أعطيت فلانا أكثر مما يستحق. وهو يرزق بغير حساب؛ لأن خزائنه لا تنفد. ويرزق بغير حساب؛ لأنه لا يحكمه قانون، وإنما يعطي بطلاقة القدرة. إنه جل وعلا يعطي للكافر حتى تتعجب أنت وتقول: يعطي الكافر ولا يعطي المؤمن لماذا؟ إذا استطاع أحد أن يحاسبه فليسأله لماذا يفعل ذلك؟ إنه يعطي مقابلا للحسنة سبعمائة ضعف بغير حساب. إن الحساب إنما يأتي عندما تأخذ معدوداً، فإذا أخذت مثلا مائة من ألف فأنت طرحت معدوداً من معدود فلا بد أن ينقص، وعندما تراه ينقص فأنت تخاف من العطاء. لكن الله بخلاف ذلك، إنه يعطي معدوداً من غير معدود. إذن ساعة تقرأ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} فقل إن الحساب إن كان واقعا من الله على الغير، فهو لا يعطي على قدر العمل بل يزيد، ولن يحاسب نفسه ولن يُحاسبه أحد. {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96] إذن {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} تجعل كل إنسان يلزم أدبه إن رأى غيره قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 901 رُزق أكثر منه؛ لأنه لا يعلم حكمة الله فيها. وهناك أناس كثيرون عندما يعطيهم الله نعمة يقولون: «ربنا أكرمنا، وعندما يسلبهم النعمة يقولون:» ربنا أهاننا «، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] كلا. مخطئ أنت يا مَن اعتبرت النعمة إكراما من الله، وأنت مخطئ أيضاً يا مَن اعتبرت سلب النعمة إهانة من الله؛ إن النعمة لا تكون إكراما من الله إلا إذا وفقك الله في حسن التصرف في هذه النعمة، وحق النعمة في كل حال يكون بشكر المنعم، وعدم الانشغال بها عمن رزقك إياها. ونحب أن نفهم أيضا أن قول الله سبحانه وتعالى: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ينسحب على معنى آخر، وهو أنه سبحانه لا يحب أن تُقَدِّر أنت رزقك بحساب حركة عملك فقط؛ فحساب حركة عملك قد يخطئ. مثال ذلك الفلاح الذي يزرع ويقدر رزقه فيما يُنْتَجُ من الأرض، وربما جاءت آفة تذهب بكل شيء كما نلاحظ ونشاهد، ويصبح رزق الفلاح في ذلك الوقت من مكان آخر لم يدخل في حسابه أبداً. ولهذا فإن على الإنسان أن يعمل في الأسباب، ولكنه لا يأخذ حسابا من الأسباب، ويظن أن ذلك هو رزقه؛ لأن الرزق قد يأتي من طريق لم يدخل في حسابك ولا في حساباتك، وقال الحق في ذلك: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 902 وبعد ذلك يقول لنا الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى ما يوضح لنا ويبين قضية العقيدة وموكب الرسالات في الأرض، بداية وتسلسلاً وتتابعاً في رسل متعاقبين، فقال الحق سبحانه وتعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 903 ولقائل أن يقول: إذا كان الناس أمة واحدة، وقد رتب الله بعث وإرسال النبيين على كونهم أمة واحدة؛ فمن أين إذن جاء الخلاف إلى حياة الناس؟ ونقول: لابد أن تُحمل هذه الآية المجملة على آية أخرى مفصلة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19] لابد لنا إذن أن نأخذ هذه الآية في ظل آية سورة يونس؛ فالحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب العقل البشري يريد أن بخاطبه خطابا يوقظ فيه عقله وفكره حتى يستقبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 903 كلام الله بجماع تفكيره، وأن يكون القرآن كله حاضراً في ذهنك، ويخدم بعضه بعضا. {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين} . فقبل بعث الله النبيين كان الناس أمة واحدة يتبعون آدم، وقد بلغ الحق آدم المنهج بعد أن اجتباه وهداه، وعلم آدم أبناءه منهج الله، فظل الناس من أبنائه على إيمان بعقيدة واحدة، ولم ينشأ عندهم ما يوجب اختلاف أهوائهم، فالعالم كان واسعاً، وكانت القلة السكانية فيه هي آدم وأولاده فقط، وكان خير العالم يتسع للموجودين جميعا. إذن لا تطاحن على شيء، ومن يريد شيئاً يأخذه، وكانت الملكية مشاعة للجميع؛ لأنه لم تكن هناك ملكية لأحد؛ فمن يريد أن يبني بيتا فله أن يبنيه ولو على عشرين فدانا، ومن يريد أن يأكل فاكهة أو يأخذ ثمراً من أي بستان فله أن يأخذ ما يريد. والمثال على ذلك في حياتنا اليومية، هناك رب الأسرة الذي يأتي بعشرين كيلو برتقالاً ويتركها أمام أولاده، وكل طفل يريد برتقالة أو أكثر فهو يأخذ ما يريد بلا حرج، لكن لو اشترى رب البيت كيلو برتقالاً واحداً فكل طفل يأخذ برتقالة واحدة فقط. إذن كان الناس أمة واحدة، أي لم توجد الأطماع، ولم يوجد حب الاستئثار بالمنافع مما يجعلهم يختلفون. إذن فأساس الاختلاف هو الطمع في متاع الدنيا، ومن هنا ينشأ الهوى. وكان من المفروض في آدم عليه السلام بعد أن بلغه الله المنهج أن يبلغه لأولاده، وأن يتقبل أبناؤه المنهج، ولكن بعض أولاده تمرد على المنهج، ونشأ حب الاستئثار من ضيق المُسْتَأثر والمُنْتَفع به، ومن هنا نشأت الخلافات. ولنا في قصة هابيل وقابيل ما يوضح ذلك: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 904 ونعرف أن آدم وحواء هما أصل الوجود، حواء تلد توأمين في كل مرة، وأراد آدم أن يزاوجهم فكيف تكون المزاوجة وهم جميعاً أبناؤه وأبناء عصر واحد؟ وكل منهم يعرف أن الذي أمامه هو أخوه. لقد واجه الشرع تلك المشكلة في ذلك الوقت، واعتبر أن البعد هو بعد البطن، أي أن الذي يولد مع أخيه في بطن واحد فهو أخوه، أما الذي وُلد بعده أو قبله فكأنه ليس أخاه، لذلك كان آدم وحواء يبادلان زواج الأبناء حسب ابتعاد البطون، وكان الغرض من هذا التباعد أن تكون المرأة وكأنها أجنبية عن أخيها. روي عن ابن عباس وابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى الآخر، وأن هابيل أراد أن يتزوج أخت قابيل وكان أكبر من هابيل وأخت قابيل أحسن فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه. وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قرباناً فقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب غنم، وقرب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه فنزلت نارُ فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} . إذن، كان ميلاد أول خلاف بين البشر حينما تنافس اثنان للاستئثار بمنفعة ما، وكان هذا مثالاً واضحاً لما يمكن أن يحدث عندما تضيق المنافق عن الأطماع. {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} لكنهم اختلفوا لحظة الاستئثار بالمنافع، وأصبح لكل إنسان هوى. ولو شاء الله أن يجعل منهجه لآدم منهجاً دائماً إلى أن تقوم الساعة لفعل. لكنه سبحانه برحمته يعلم أنه خلقنا، ويعلم أننا نعقل مرة ونسهو مرة، ونلتزم مرة، ونهمل مرة أخرى، فشاء الله أن يواصل لخلقه مواكب الرسل. ولذلك يأتي قول الحق: {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} . ومهمة» التبشير والإنذار «هي أن يتذكر الناس أن هناك جنة وناراً، ولذلك يبشر كل رسول مَنْ آمن من قومه بالجنة، وينذر مَنْ كفر من هؤلاء القوم بالنار. ويذكرنا الحق سبحانه بأنه أشهدنا على أنفسنا على وحدانيته فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 905 {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172 - 173] يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو كما أنه فطرهم على ذلك: ثم بعد أن أخرجهم إلى الوجود من آدم جاء للخلق الأول وهو آدم وأعطاه المنهج وكانت الأهواء غير موجودة، فظل المنهج مطبقا بين بني آدم. وبعد ذلك تعددت الأهواء، وتعدد الأهواء إنما ينشأ عن الاستئثار بالمنافع، وذلك بسبب الخوف من استئثار الغير، فنشأ حب الذات، ولما كانت المنافع لا تتسع لأطماع الناس فقد استشرى حب الاستئثار والتملك. ونجد هذه المسألة واضحة حينما تتوافر السلع وتغمر الأسواق. وتستطيع أن تشتري أي سلعة في أي وقت تحب، وتجدها متوافرة، عند ذلك لا توجد أزمة، لكن الأزمة تنشأ عندما تقل الكميات المعروضة من السلع عن حاجة الناس، فيتكالب الناس على الاستئثار بها. وهكذا نعرف أن المنافع عندما توجد، وتكون دون الأطماع هنا تتولد المشكلات. ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى بالخلق، ومن تمام علمه سبحانه بضعف البشر أمام أهوائهم وأمام استئثارهم بالمنافع، أرسل الرسل إلى البشر ليبشروا ولينذروا. {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} فكأن الحق لم يشأ أن يترك البشر ليختلفوا، وإنما الغفلة من الناس هي التي أوجدت هذا الاختلاف. {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات بَغْياً بَيْنَهُمْ} ومن هذا القول الحكيم نعرف أن الاختلاف لا ينشأ إلا من إرادة البغي، والبغي هو أن يريد الإنسان أن يأخذ غير حقه. وما دام كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 906 منا يريد أن يأخذ غير حقه فلا بد أن ينشأ البغض. {فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ} أي أن الله يهدي الذين آمنوا من كل قوم بالرسول الذي جاء مبشرا ومنذرا وحاملا منهج الحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وبذلك يظل المنهج سائداً إلى أن تمضي فترة طويلة تغفل فيها النفوس، وتبدأ من خلالها المطامع ويحدث النسيان لمنهج الله، وتنشأ الأهواء، فيرسل الله الرسل ليعيدوا الناس إلى المنهج القويم، واستمر هذا الأمر حتى جاءت رسالة الإسلام خاتمة وبعث الله سيدنا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للدنيا كافة، وبذلك ضمن لنا الحق سبحانه وتعالى ألا ينشأ خلاف في الأصل؛ لأننا لو كنا سنختلف في أصل العقيدة لجرى علينا ما جرى على الأمم السابقة. هم اختلفوا فأرسل الله لهم رسلا مبشرين ومنذرين، لكن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد الحق لها منهجا واضحا يحميها من الاختلاف في أصل العقيدة. وإن اختلف الناس من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعليهم أن يسترشدوا بالمنهج الحق المتمثل في القرآن والسنة. ونعرف أن من مميزاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه خاتم الأنبياء بحق، ولن تجد في الموكب الرسالي رسولا أوكل له الله أن ينشئ حكما جديدا لم ينزل في كتاب الله إلا سيدنا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد أعطى الله سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التفويض في أن يشرع عن الله؛ في ظل عصمة الله له فقد قال سبحانه: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] إنه أمر واضح للمؤمنين بأن يأتمروا بأمر الرسول الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأن ما يأمرهم به فيه الصلاح والخير، وأن ينتهوا عما ينهاهم عنه؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما ينهي عن الأمور التي ليس فيها خير لأمة المسلمين. ويأمر الحق جل وعلا جماعة المسلمين بطاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنها من طاعة الله، فيقول جل وعلا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 907 {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 80] وهكذا نرى أن طاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من طاعة الله، ومن يعرض عن طاعته فله العقاب في الآخرة. ويؤكد الحق سبحانه على طاعته وطاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} [آل عمران: 32] هكذا نعرف أن طاعة الرحمن تستوجب طاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن فقد فوض الله رسوله أن يُشَرِّع للبشر. وهو عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما ينطق عن الهوى. وميزة أخرى لأمة المسلمين هي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ترك لنا حق الاجتهاد في المسائل التي لم يأتي فيها نص في القرآن ولا من السنة، أو ورد فيها نص ولكنه يحتمل أكثر من معنىً، ومعنى ذلك أن الحق سبحانه قد أمِنَ أمة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأن تصل بالاجتهاد لما يحسم أي خلاف، وأن أي اختلاف لن يصل إلى الجوهر. فلو علم الله أزلا أننا سوف نختلف اختلافا في صحيح العقيدة لكان قد أرسل لنا رسلاً. ونحن نجد كل الاختلافات بين طوائف المسلمين لا تخرج عن إطار فهم نصوص القرآن أو أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكل مسلم يريد أن يستقي دليله من الكتاب والسنة. ومعنى ذلك أننا لن نترك الأصل، ولكن كل منا يريد أن يأخذ الحكم الصحيح بل إننا نجد أن بعضا من المسلمين الذين لم يجدوا دليلهم من القرآن والسنة قد حاولوا أن يضعوا حديثا ينسبونه إلى رسول الله ليبنوا عليه الحكم الذي يريدونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 908 وهؤلاء مأواهم النار؛ لأنهم نطقوا بلسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما لم يقله الرسول الكريم لقد كذبوا عليه، ومن كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. إذن فكلنا نلتقي حول القرآن والسنة والنبوية، أين المشكلة إذن؟ المشكلة هي أن يكون الناس أذكياء وعلى علم حتى يعرفوا هل المأخوذ من القرآن مقبول أو غير مقبول؟ وهل الأحاديث المستند إليها بمقاييس الجرح والتعديل موجودة أو لا؟ إذن فحصافة الاجتهاد والرأي عند أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جعلتهم مأمونين على كل شيء في المنهج. وأن الخلاف فيما بينهم لم يصل إلى ما وصلت إليه الأمم السابقة، ولكن عليهم أن ينتهوا ويرتقوا حتى يميزوا الأمور التي تكون من غير معطيات القرآن، ثم يريد قوم أن يحملوها على القرآن. إن عليهم ألا يفسروا القرآن حسب أهوائهم بل حسب ما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يكون هواهم تبعا لما جاء به وعلينا أن ننتبه إلى أن الله قد أمِنَ أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على القرآن وعلى رسالة الإسلام، والقرآن ورسالة الإسلام لن يصيبها التغيير أو التحريف، وكل ما هو مطلوب أن يكون المؤمنون أهل دقة وفطنة، فإذا أراد إنسان أن يستغل أية سلطة زمنية أو أن يجيء بحديث موضوع ليروج لباطله فعلى المسلمين أن يكشفوا سوء مقصد هذا الإنسان. فنحن نفهم أن الله شاء بالإسلام حياة القيم، كما شاء بالماء حياة المادة، والماء حتى يظل ماء فلا بد أن يظل بلا طعم ولا لون ولا رائحة، فإذا أردت أن تجعل له طعماً خرج عن خاصيته؛ ربما أصبح مشروبا أو عصيراً أو غير ذلك، وقد يحب بعض الناس نوعا من العصير، لكن كل الناس يحبون الماء؛ لأن به تُصان الحياة، فإذا رأيت ديناً قد تلون بجماعة أو بهيئة أو بشكل فاعلم أن ذلك خارج عن نطاق الإسلام. وكل جماعة تريد أن تصبغ دين الله بلون إنما يخرجونه عن طبيعته الأصلية، ولذلك نجد أمتنا في مصر قد صانت علوم الإسلام بالأزهر الشريف وكل عالم من علماء الإسلام في أي بقعة من بقاع الأرض مدين للأزهر الشريف. ونجد أننا نحب آل بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن لا نجد عندنا متشيعا واحدا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 909 وفي الوقت نفسه لا نجد واحداً يكره أبا بكر وعمر، وهذا هو الإسلام الذي لا يتلون؛ لأنه إسلام الفطرة. {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} [البقرة: 138] فالذين يحاولون في زمان من الأزمنة أن يصبغوا الدين بشكل أو بطقوس أو بلون أو برسوم أو هيئة خاصة نقول لهم: أنتم تريدون أن تُخرجوا الإسلام عن عموميته الفطرية التي أرادها الله له، ولابد أن تقفوا عند حد الفطرة الإسلامية، ولا تلونوا الإسلام هذا التلوين. وبذلك نحقق قول الله: {فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ونعرف أن الهداية معناها الأمر الموصل للغاية، وحين ترد الهداية من الله سبحانه وتعالى فعلينا أن نفهم أن الهداية من الله ترد على معنيين: المعنى الأول هو الدلالة على الطريق الموصل، والمعنى الثاني هو المعونة. وضربت من قبل المثل بشرطي المرور الذي يدلك على الطريق الموصل إلى الغاية التي تريدها، فإن احترمت كلامه ونفذته فهو يعطي لك شيئاً من المعونة، بأن يسير معك أو يوصلك إلى المكان الذي تريد. فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى؟ إنه يهدي الجميع بمعنى يدلهم، فالذين آمنوا به وأحبوه يهديهم هداية أخرى، وهي أن يعينهم على ما أقاموا نفوسهم فيه. وبعضنا يدخله العجب عندما يسمع قول الحق: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ} [فصلت: 17 - 18] بعضنا يتعجب متسائلا: كيف يقول سبحانه: إنه هداهم، ثم استحبوا العمى على الهدى؟ ونقول: إن «هداهم» جاءت هنا بمعنى «دلّهم» لكنهم استحبوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 910 العمى على الهدى، أما الذين استجابوا لهداية الدلالة وآمنوا فقد أعانهم الله وأنجاهم؛ لأنهم عرفوا تقواه سبحانه. ونحن نسمع بعض الناس يقولون: ما دام الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فما ذنب الذي لم يهتد؟ نقول: إن الحق يهدي من شاء إلى صراط مستقيم؛ أي يبين الطريق إلى الهداية، فمن يأخذ بهداية الدلالة يزده الله بهداية المعونة وييسر له ذلك الأمر. ونحن نعلم أن الله نفى الهداية عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في آية، وأثبتها له في آية أخرى برغم أنه فعل واحد لفاعل واحد. قال الحق نافيا الهداية عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] والحق يذكر للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الهداية في موضع آخر فيقول له: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ومن هنا نفهم أن الهداية نوعان: هداية الدلالة، فهو «يهدي» أي يدل الناس على طريق الخير. وهناك هداية أخرى معنوية، وهي من الله ولا دخل للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيها، وهي هداية المعونة. إذن قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} معناها: أنك تدل على الصراط المستقيم، ولكن الله هو الذي يعين على هذه الهداية. {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فعلينا أن نستحضر الآيات التي شاء الله أن يهدي فيها مؤمنا وألا يهدي آخر. ويقول الحق سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 911 معنى ذلك أن الله لا يهدي إلا الذين آمنوا به. وهدايته للمؤمنين تكون بمعونتهم على الاستمرار في الهداية؛ فالكل قد جاءته هداية الدلالة ولكن الحق يختص المؤمنين بهداية المعونة. والحق يقول في ذلك: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [التوبة: 109] إن الحق يوضح لنا المقارنة بين الذي يؤسس بنيان حياته على تقوى من الله ابتغاء الخير والجنة، وهو الذي جاءته هداية الدلالة فاتبعها، فجاءته هداية المعونة من الله. وبين ذلك الذي يؤسس بنيان حياته على حرف واد متصدع آيل للسقوط فسقط به البنيان في نار جهنم، إنه الذي جاءته هداية الدلالة فتجاهلها، فلم تصله هداية المعونة، ذلك هو الظالم المنافق الذي يريد السوء بالمؤمنين. والحق تبارك وتعالى يقول: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 80] إن الحق يبلغ رسوله أنه مهما استغفر للمنافقين الذين يُظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر فلن يغفر الله لهم، لماذا؟ لأن هداية الدلالة قد جاءت لهم فادعوا أنهم مؤمنون بها، ولم تصلهم هداية المعونة؛ لأنهم يكفرون بالله ورسوله، والله لا يهدي مثل هؤلاء القوم الفاسقين الخارجين بقولهم عن منهج الله. وبعد ذلك يقول الحق: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 912 الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 913 أي أظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون ابتلاءات تحدث لكم؟ إن الحق سبحانه ينفي هذا الظن ويقول: ليس الأمر كذلك، بل لابد من تحمل تبعات الإيمان، فلو كان الإيمان بالقول لكان الأمر سهلا، لكن الذي يُصَعِبُ الإيمان هو العمل، أي حمل النفس على منهج الإيمان. لقد استكبر بعض من الذين عاصروا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقولوا: «لا إله إلا الله» لأنهم فهموا مطلوبها؛ لأن الأمر لو اقتصر على مجرد كلمة تقال بلا رصيد من عمل يؤديها، لكان أسهل عليهم أن يقولوها، لكنهم كانوا لا يقولون إلا الكلمة بحقها، ولذلك أيقنوا تماما أنهم لو قالوا: «لا إله إلا الله» لانتهت كل معتقداتهم السابقة، لكنهم لم يقولوها؛ لأنهم أبوا وامتنعوا عن القيام بحقها وأداء مطلوبها. إن الحق يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء} فما العلاقة بين هذه الآية وما سبق من الآيات؟ لقد كان الحديث عن بني إسرائيل الذين حسبوا أنهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا، وصارت لهم أهواء يحرفون بها المنهج. أما أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعليهم أن يستعدوا للابتلاء، وأن يعرفوا كيف يتحملون الصعاب. ونحن نعرف في النحو أن هناك أدوات نفي وجزم. ومن أدوات النفي «لم» و «لما» فعندما نقول: «لم يحضر زيد» فهذا حديث في الماضي، ومن الجائز أن يحضر الآن. ولكن إذا قلت: «لما يحضر زيد» فالنفي مستمر حتى الآن، أي أنه لم يأتي حتى ساعة الكلام لكن حضوره ومجيئه متوقع. ولذلك يقول الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 913 {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] وعندما سمع الأعراب ذلك قالوا: نحمد الله، فمازال هناك أمل أن نؤمن. لقد أراد الله أن يكون الأعراب صادقين مع أنفسهم، وقد نزلت هذه الآية كما يقول بعض المفسرين في قوم من بني أسد، جاءوا إلى المدينة في سنة جدب، وأعلنوا الشهادة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، وكانوا يطلبون الصدقة، ويحاولون أن يمنوا على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنهم لم يقاتلوه كما فعل غيرهم، فجاءت هذه الآية لتوضح أن الإيمان درجة أرقى من إظهار الإسلام. لكن ذلك لا يعني أنهم منافقون، ولذلك يوضح القرآن الكريم أن إظهار الإسلام لا يعني الإيمان؛ لأن الإيمان عملية قلبية. لقد أعلنوا الخضوع لله، وأرادوا أن يقوموا بأعمال المسلمين نفسها لكن ليس هذا هو كل الإيمان. وهم قالوا: {آمَنَّا} فقال الحق لهم: لا لم تؤمنوا وكونوا صادقين مع أنفسكم فالإيمان عملية قلبية، ولا يقال إنك آمنت؛ لأنها مسألة في قلبك، ولكن قل أسلمت، أي خضعت وفعلت مثلما يفعل المؤمنون، فهل فعلت ذلك عن إيمان أو غير إيمان. إن ذلك هو موضوع آخر. هنا تقول الآية: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} أي لا يمكن أن تدخلوا الجنة إلا إذا جاءكم من الابتلاء مثل من سبقكم من الأمم ولابد أن تُفتنوا وأن تمحصوا ببأساء وضراء، ومن يثبت بعد ذلك فهو يستحق أن يدخل الجنة، فلا تظنوا أنكم أمة متميزة عن غيركم في أمر الاختبار، فأنتم لن تدخلوا الجنة بلا ابتلاء، بل على العكس سيكون لكم الابتلاء على قدر النعماء. أنتم ستأخذون مكانة عالية في الأمم ولذلك لابد أن يكون ابتلاؤكم على قدر مكانتكم، فإن كنتم ذوي مكانة عالية وستحملون الرسالة الخاتمة وتنساحون في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 914 الدنيا فلا بد أن يكون ابتلاؤكم على قدر عظمة مسئوليتكم ومهمتكم. {وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ} إن قول الله: {وَلَمَّا} يفيد بأن ما حدث للذين من قبلهم من ابتلاء عليهم سيقع على المؤمنين مثله. وعندما نتأمل قوله الحق: {وَزُلْزِلُواْ} فأنت تكتشف خاصية فريدة في اللغة العربية، هذه الخاصية هي تعبير الصوت عن واقعية الحركة، فكلمة «زلزلوا» أصلها زلزلة، وهذه الكلمة لها مقطعان هما «زل، زل» . و «زل» : أي سقط عن مكانه، أو وقع من مكانه، والثانية لها المعنى نفسه أيضاً، أي وقع من مكانه، فالكلمة تعطينا معنى الوقوع المتكرر: وقوع أول، ووقوع ثانٍ، والوقوع الثاني ليس امتداداً للوقوع الأول؛ ولكنه في اتجاه معاكس، فلو كانت في اتجاه واحد لجاءت رتيبة، إن الزلة الثانية تأتي عكس الزلة الأولى في الاتجاه، فكأنها سقوط جهة اليمين مرة، وجهة الشمال مرة أخرى. ومثل ذلك «الخلخلة» أي حركة في اتجاهين معاكسين «خَلّ» الأولى جهة اليمين، و «خَلّ» الثانية جهة اليسار، وبهذا تستمر الخلخلة. وهكذا «الزلزلة» تحمل داخلها تغير الاتجاه الذي يُسمى في الحركة بالقصور الذاتي. والمثال على ذلك هو ما يحدث للإنسان عندما يكون راكباً سيارة، وبعد ذلك يأتي قائد السيارة فيعوقها بالكابح «الفرامل» بقوة، عندئذ يندفع الراكب للأمام مرة، ثم للخلف مرة أخرى، وربما تكسر زجاج السيارة الأمامي حسب قوة الاندفاع؛ ما الذي تسبب في هذا الاندفاع؟ إن السبب هو أن جسم الراكب كان مهيأ لأن يسير للأمام؛ والسائق أوقف السيارة والراكب لا زال مهيأ للسير للأمام، فهو يرتج، وقد يصطدم بأجزاء السيارة الداخلية عند وقوفها فجأة. وعملية «الزلزلة» مثل ذلك تماماً، ففيها يصاب الشيء بالارتجاج للأمام والخلف، أو لليمين واليسار، وفي أي جهتين متعاكستين. و {وَزُلْزِلُواْ} يعني أصابتهم الفاجعة الكبرى، الملهية، المتكررة، وهي لا تتكرر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 915 على نمط واحد، إنما يتعدد تكرارها، فمرة يأخذها الإيمان، ثم تأخذها المصائب والأحداث، وتتكرر المسألة حتى يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والذين آمنوا معه: {متى نَصْرُ الله} ؟ ويأتي بعده القول: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} فهل يتساءلون أولاً، ثم يثوبون إلى رشدهم ويردون على أنفسهم {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} أم أن ذلك إيضاح بأن المسألة تتأرجح بين {متى نَصْرُ الله} وبين {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} ؟ . لقد بلغ الموقف في عصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الاختيار والابتلاء إلى القمة، ومع ذلك واصل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والذين معه الاستمساك بالإيمان. لقد مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، أي أصابتهم رجفة عنيفة هزتهم، حتى وصل الأمر من أثر هذه الهزة أن {يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} . إن مجيء الأسلوب بهذا الشكل {متى نَصْرُ الله} يعني استبطاء مجيء النصر أولاً، ثم التبشير من بعد ذلك في قوله الحق: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} . ولم يكن ذلك للشك والارتياب فيه. وهذا الاستبطاء، ثم التبشير كان من ضمن الزلزلة الكبيرة، فقد اختلطت الأفكار: أناس يقولون: {متى نَصْرُ الله} فإذا بصوت آخر من المعركة يرد عليهم قائلا: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} . وسياق الآية يقتضي أن الذين قالوا: {متى نَصْرُ الله} هم الصحابة، وأن الذي قال: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى قضية أخرى، هذه القضية شاعت في هذه الصورة وهي ظاهرة سؤال المؤمنين عن الأشياء، وهي ظاهرة إيمانية صحية، وكان في استطاعة المؤمنين ألا يسألوا عن أشياء لم يأتي فيها تكليف إيماني خوفاً من أن يكون في الإجابة عنها تقييد للحركة، ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 916 أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» . ورغم ذلك كانوا يسألون عن أدق تفاصيل الحياة، وكانت هذه الظاهرة تؤكد أنهم عشقوا التكليف من الله؛ فهم يريدون أن يبنوا كل تصرفاتهم بناءً إسلامياً، ويريدون أن يسألوا عن حكم الإسلام في كل عمل ليعملوا على أساسه. يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 917 والسؤال ورد من عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً فقال: يا رسول الله، إن مالي كثير فبماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ ولم يكن يسأل لنفسه فقط، بل كان يترجم عن مشاعر غيره أيضا، ولذلك جاءت الإجابة عامة لا تخص السائل وحده ولكنها تشمل كل المؤمنين. والسؤال عن {مَاذَا يُنْفِقُونَ} ؛ فكأن الشيء المُنْفق هو الذي يسألون عنه، والإنفاق كما نعرف يتطلب فاعلاً هو المُنْفق؛ والشيء المُنفَق هو المال؛ ومنفَقَاً عليه. وهم قد سألوا عن ماذا ينفقون، فكأن أمر الإنفاق أمر مُسَلَّمُ به، لكنهم يريدون أن يعرفوا ماذا ينفقون؟ فيأتي السؤال على هذه الوجه ويجيء الجواب حاملا الإجابة عن ذلك الوجه وعن أمر زائد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 917 يقول الحق: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} هذا هو السؤال، والجواب {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} . إن الظاهر السطحي يظن أن السؤال هو فقط عن ماذا ينفقون؟ وأن الجواب جاء عن المنفق عليه. نقول: لا، لماذا نسيت قوله الحق: إن الإنفاق يجب أن كون من «خير» فالمال المُنفق منه لا بد أن يتصف بأنه جاء من مصدر خير. وبعد ذلك زاد وبيّن أنه: مادمتم تعتقدون أن الإنفاق واجب فعليكم أن تعلموا ما هو الشيء الذي تنفقونه، ومَنْ الذي يستحق أن يُنْفَقَ عليه. {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} . والخير هو الشيء الحسن النافع. والمُنْفَق عليه هو دوائر الذي يُنْفِق؛ لأن الله يريد أن يُحَمّل المؤمن دوائره الخاصة، حتى تلتحم الدوائر مع بعضها فيكون قد حمّل المجتمع على كل المجتمع، لأنه سبحانه حين يُحَمّلني أسرتي ووالدي والأقربين، فهذه صيانة للأهل، وكل واحد منا له والدان وأقربون، ودائرتي أنا تشمل والديّ وأقاربي، ثم تشيع في أمر آخر؛ في اليتامى والمساكين. وهات كل واحد واحسب دوائره من الوالدين والأقربين وما يكون حوله من اليتامى والمساكين فستجد الدوائر المتماسكة قد شملت كل المحتاجين، ويكون المجتمع قد حمل بعضه بعضاً، ولا يوجد بعد ذلك إلا العاجز عن العمل. وعرفنا أن السائل هو «عمرو بن الجموح» ، وكانت له قصة عجيبة؛ كان أعرج والأعرج معذور من الله في الجهاد، فليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج. «وأراد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يخرج من غزوة فجاءه عمرو بن الجموح وقال: يا رسول الله لا تحرمني من الجهاد فإن أبنائي يحرمونني من الخروج لعرجتي. قال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن الله قد عذرك فيمن عذر. قال: ولكني يا رسول الله أحب أن أطأ بعرجتي الجنة» . هذا هو مَنْ سأل عن ماذا ينفقون، فجاءت الإجابة من الحق: {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} أي ما أخرجتم من مال؛ لأن الإنفاق يعني الإخراج، والخير هنا هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 918 المال، والإنفاق يقتضي إخراج المال عن ملكية الإنسان ببيع أو هبة أو صلة، وأصل كلمة «الإنفاق» مأخوذ من «نفقت السوق» أي راجت؛ لأن السوق تقوم على البضاعة، وحين تأتي إلى السوق ولا تجد سلعاً فذلك يعني أن السوق رائجة، ولكن عندما تجد البضائع مكدسة بالسوق فذلك يعني أن السوق لازالت قائمة. إذن فمعنى «نفقت السوق» أي ذهبت كل البضائع كما تذهب الحياة من الدابة، فعندما نقول: نفقت الدابة، أي ماتت. وأوجه الإنفاق بينها سبحانه في قوله: {فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} . فهل كل يتيم محتاج؟ ربما يكون اليتيم قد ورث المال لكن علينا أن نفهم أن المسألة ليست هي سد حاجة محتاج فقط، ولكنها الوقوف بجانب ضعيف في أي زاوية من زوايا الضعف؛ لأن الطفل عندما يكون يتيماً ولديه ماله، ثم يراك تعطف عليه فهو يشعر أن أباه لم يمت؛ لأن أبوته باقية في إخوانه المؤمنين، وبعد ذلك لا يشب على الحسد لأولاد آباؤهم موجودين، لكن حين يرى اليتيم كل أب مشغولا بأبنائه عن أيتام مات أبوهم، هنا يظهر فيه الحقد، وتتربى فيه غريزة الاعتراض على القدر، فيقول «لماذا أكون أنا الذي مات والدي؟» ، ولكن حين يرى الناس جميعا آباءه، ويصلونه بالبسمة والود والترحاب والمعونة فلسوف يشعر أن من له أب واحد يتركه الناس اعتماداً على وجود أبيه، لكن حينما يموت أبوه فإن الناس تلتفت إليه بالمودة والمحبة، ويترتب على ذلك أن تشيع المحبة في المجتمع الإسلامي والألفة والرضا بقدر الله، ولا يعترض أحد على وفاة أبيه، فإن كان القدر قد أخذ أباه فقد ترك له آباء متعددين. ولو علم الذين يرفضون المودة والعطف على اليتيم لأن والده ترك له ما يكفيه، لو علموا ما يترتب على هذا التعاطف من نفع معنوي لتنافسوا على التعاطف معه؛ فليست المسألة مسألة حاجة مادية، وإنما هي حاجة معنوية. وأنا أقول دائما: يجب أن نربي في الناشئة أن الله لا يأخذ أحداً من خلقه وفي الأرض حاجة إليه؛ وارقبوا هذا الأمر فيمن حولكم تجدوا واحداً وقد تُوفى وترك أولاداً صغاراً فيحزن أهله ومعارفه؛ لأنه ترك أولاده صغاراً، وينسون الأمر من بعد ذلك، وتمر فترة من الزمن ويفاجأ الناس بأن أولاد ذلك الرجل قد صاروا سادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 919 الحي، وكأن والدهم كان محبسا على رزقهم، فحينما انتهى الأب فتح الله على الأبناء صنابير الرزق، وذلك حتى لا يُفتَن إنسان في سبب. وبعد الإنفاق على اليتامى نجد الإنفاق على المساكين وابن السبيل، وقد عرفنا أن المسكين هو المحتاج وابن السبيل هو المنقطع عن أهله وماله. ويختم الحق هذه الآية بقوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} . إن الله يريد أن يرد الطبع البشري إلى قضية هي: إياك أن تطلب جزاء الخير الذي تفعله مع هؤلاء من أحد من الخلق، ولكن اطلبه من الله، وإياك أن تحاول أن يعلم الناس عنك أنك مُنْفِق على الأقارب واليتامى وابن السبيل؛ لأن الذين تريدهم أن يعلموا لا يقدرون لك على جزاء، وعلمهم لن يزيدك شيئا، وحسبك أَنْ يعلم الله الذي أعطاك، والذي أعطيت مما استخلفك فيه ابتغاء مرضاته. فحين ينفق الناس لمرضاة الناس، يلقون من بعد ذلك النكران والجحود فيكون من أعطى قد خسر ما أنفق، واستبقى الشر ممن أنفقه عليهم. ولو أن الإنسان المسلم قصد بالإنفاق وعمل الخير مرضاة الخالق الأعلى عَزَّ وَجَلَّ لاستبقى ما أنفق من حسنات وثواب ليوم القيامة، ولسخر الله له قلوب من تصدق عليهم بالمحبة والوفاء بالمعروف، وهذه عدالة من الله تتجلى في أنه يفعل مع المرائين ذلك؛ لأنهم يعطون وفي بالهم أنهم أعطوا له، ولو أعطوا الله لما أنكر الآخذ جميل العطاء. أنت أعطيته لمرضاته هو، فكأن الله يقول لك: سأتركك له ليجازيك ولهذا كان المتصدق في السر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فمنهم: «. . ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وهذا هو الأفضل في صدقة التطوع، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها أفضل، وكذلك الحال بالنسبة للصلاة فالفريضة تكون إعلانها أفضل، والنافلة يكون إسرارها أفضل. لكن لو عملت وفي بالك الله فستجد أثر العطاء وفي وفاء من أخذ. فإياك أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 920 تحاول ولو من طرف خفيّ أن يعلم الناس أنكم تفعلون الخير. وبعد ذلك يرجع الحق إلى قضية سبق أن عالجها في قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} يرجع الحق إلى القتال فيتكلم عن المبدأ العام في القتال فيقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 921 إن كراهية القتال هي قضية فطرية يقولها الذي خلق الإنسان فهو سبحانه لا يعالج الأمر علاجا سوفسطائيا، بمعنى أن يقول: وماذا في القتال؟ لا، إن الخالق يقول: أعلم أن القتال مكروه. وحتى إذا ما أصابك فيه ما تكره فأنت قد علمت أن الذي شرعه يُقدر ذلك. ولو لم يقل الحق إن القتال كره: لفهم الناس أن الله يصور لهم الأمر العسير يسيرا. إن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول للذين آمنوا: اعلموا أنكم مقبلون على مشقات، وعلى متاعب، وعلى أن تتركوا أموالكم، وعلى أن تتركوا لذتكم وتمتعكم. ولذلك نجد كبار الساسة الذين برعوا في السياسة ونجحوا في قيادة مجتمعاتهم كانوا لا يحبون لشعوبهم أن تخوض المعارك إلا مضطرين، فإذا ما اضطروا فهم يوضحون لجندهم أنهم يدرأون بالقتال ما هو أكثر شراً من القتال، ومعنى ذلك أنهم يعبئون النفس الإنسانية حتى تواجه الموقف بجماع قواها، وبجميع ملكاتها، وكل إرادتها. والحق سبحانه وتعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} إنه سبحانه يقول لنا: أعلم أن القتال كره لكم ولكن أردت أن أشيع فيكم قضية، هذه القضية هي ألا تحكموا في القضايا الكبيرة في حدود علمكم؛ لأن علمكم دائما ناقص، بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 921 خذوا القضايا من خلال علمي أنا؛ لأنني قد أشرع مكروها، ولكن يأتي منه الخير. وقد تَرَون حبا في شيء ويأتي منه الشر. ولذلك ينبهنا الحق إلى أن كثيراً من الأمور المحبوبة عندنا يأتي منها الشر، فيقول الواحد منا: «كنت أتوقع الخير من هذا الأمر، لكن الشر هو ما جاءني منه» . وهناك أمور أخرى نظن أن الشر يأتي منها، لكنها تأتي بالخير. ولذلك يترك الحق فلتات في المجتمع حتى يتأكد الناس أن الله سبحانه وتعالى لا يُجري أمور الخير على مقتضيات ومقاييس علم العباد، إنما يُجري الحكم على مقتضى ومقاييس وعلم رب العباد. ولننظر إلى ما رواه الحق مثلا للناس على ذلك: {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 60 - 64] إن موسى عليه السلام يسير مع فتاه إلى مجمع البحرين، ويقال: إنه ملتقى بحرين في جهة المشرق، وكان معهما طعام هو حوت مملوح يأكلان منه، لكن السفر والمشقة أنساهما الحوت وانطلق الحوت بآية من الله إلى البحر، وعندما وصل موسى إلى مجمع البحرين طلب من فتاه أن يأتي بالطعام بعد طول التعب، لكن الفتى يقول لموسى: إنه نسي الحوت، ولم ينسه إياه إلا الشيطان. وإن الحوت اتخذ طريقه إلى البحر، فقال موسى: إن هذا ما كنا نطلبه علامة على وصولنا إلى غايتنا وهي مجمع البحرين، أي أمر الحوت وفقده هو الذي نطلب، فإن الرجل الذي جئنا من أجله هناك في هذا المكان، وارتد موسى والغلام على آثارهما مرة أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 922 فما الذي يحدث؟ يلتقي موسى عليه السلام بالعبد الصالح الخضر، وهو ولي من أولياء الله، علمه الله العلم الرباني الذي يهبه الله لعباده المتقين كثمرة للإخلاص والتقوى. ويطلب موسى عليه السلام من العبد الرباني سيدنا الخضر عليه السلام أن يتعلم منه بعض الرشد. لكن العبد الرباني الذي وهبه الله من العلم ما يفوق استيعاب القدرة البشرية يقول لموسى عليه السلام: {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 67 - 68] لقد كان موسى على علم سابق بأن ضياع الحوت هو مسألة في ظاهرها شر لكن في باطنها خير؛ لأن ذلك هو السبيل والعلامة التي يعرف بها موسى كيف يلتقي بالعبد الصالح. ويستمر السياق نفسه في قصة موسى والعبد الصالح، قصة ظاهرها الشر وباطنها الخير، سواء في قصة السفينة التي خرقها أو الغلام الذي قتله، أو الجدار الذي أقامه. لقد كان علم العبد الصالح علماً ربانياً، لذلك أراد موسى أن يتعلم بعضاً من هذا العلم لكن العبد الصالح ينبه موسى عليه السلام أن ما قد يراه هو فوق طاقة الصبر؛ لأن الذي قد يراه موسى من أفعال إنما قد يرى فيها شراً ظاهراً، لكن في باطنها كل الخير. وقَبِل موسى عليه السلام أن يقف موقف المتعلم بأدب مع العالم الذي وهبه الله العلم الرباني. ويشترط العبد الرباني على موسى ألا يسأل إلا بعد أن يحدثه العبد الرباني عن الأسباب. ويلتقي موسى والعبد الرباني بسفينة فيصعدان عليها، ويخرق العبد الرباني السفينة، فيقول موسى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71] فيرد العبد الصالح: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 923 {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 72] ويتذكر موسى أنه وعد العبد الصالح بالصبر، لكن ما الذي يفعله موسى وقد وجد العبد الصالح يخرق سفينة تحملهم في البحر؟ إنه أمر شاق على النفس. ولذلك يقول موسى: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف: 73] إن موسى يعود إلى وعده للعبد الصالح، ويطلب منه فقط ألا يكلفه بأمور تفوق قدرته. وينطلق العبد الصالح ومعه موسى عليه السلام، فيجد العبد الصالح غلاما فيقتله، فيقول موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} [الكهف: 74] ويُذكر العبد الصالح موسى أنه لن يستطيع الصبر معه، ويعتذر موسى عما لا يعلم. ويمر العبد الصالح ومعه موسى بقرية فطلبا من أهل القرية الضيافة، لكن أهل القرية يرفضون الضيافة، ويجد العبد الصالح جدارا مائلا يكاد يسقط فيبدأ في بنائه، فيقول موسى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77] ويكون الفراق بين العبد الصالح وموسى. ويخبر العبد الصالح موسى بما لم يعلمه ولم يصبر عليه. إن خرق السفينة كان لإنقاذ أصحابها من اغتصابها منهم؛ لأن هناك ملكا كان يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، فأراد أن يعيبها ليتركها الملك لهؤلاء المساكين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 924 وقتل الغلام كان رحمة بأبويع المؤمنين، كان هذا الابن سيجلب لهما الطغيان والكفر، وأراد الله أن يبدله خيراً منه. وأن الجدار الذي أقامه كان فوق كنز، وكان ليتيمين من هذه القرية وكان والد الغلامين صالحاً، لذلك كان لابد من إعادة بناء الجدار حتى يبلغ الغلامان أشدهم ويستخرجا الكنز ويقول العبد الصالح عن كل هذه الأعمال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82] إن العبد الصالح لا ينسب هذا العمل الرباني لنفسه، ولكن ينسبه إلى الخالق الذي علمه. إذن فالحق يطلق بعضاً من قضايا الكون حتى لا يظن الإنسان أن الخير دائماً فيما يحب، وأن الشر فيما يكره، ولذلك يقول سبحانه: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} فإن كان القتال كرهاً لكم، فلعل فيه خيراً لكم. وبمناسبة ذكر الكُره نوضح أن هناك «كَره» و «كُره» . إن «الكَره» بفتح الكاف: هو الشيء المكروه الذي تُحمل وتُكْرَهُ على فعله، أما «الكُره» بضم الكاف فهو الشيء الشاق. وقد يكون الشيء مكروها وهو غير شاق، وقد يكون شاقاً ولكن غير مكروه. والحق يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} . ولنلاحظ أن الحق دائماً حينما يشرع فهو يقول: {كُتِبَ} ولا يقول: «كَتبت» ذلك حتى نفهم أن الله لن يشرع إلا لمَنْ آمن به؛ فهو سبحانه لم يكتب على الكافرين أي تكاليف، وهل يكون من المنطقي أن يكلف الله مَنْ آمَن به ويترك الكافر بلا تكليف؟ نعم، إنه أمر منطقي؛ لأن التكليف خير، وقد ينظر بعض الناس إلى التكليف من زاوية أنه مُقيِّد، نقول لهم: لو كان التكليف الإيماني يقيد لكلف الله به الكافر، ولكن الله لا يكلف إلا مَنْ يحبه، إنه سبحانه لا يأمر إلا بالخير، ثم إن الله لا يكلف إلا مَنْ آمن به؛ لأن العبد المؤمن مع ربه في عقد الإيمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 925 إذن فالله حين يقول: «كُتب» فمعنى ذلك أنه سبحانه يقصد أنه لم يقتحم على أحد حركة اختياره الموهوبة له، والله سبحانه وتعالى قد ترك للناس حرية الاختيار في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا. ومن آمن عن اختيار وطواعية فقد دخل مع الله في عقد إيمان، وبمقتضى هذا العقد كتب الله عليه التكاليف. ومن هذه التكاليف القتال، فقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال} . وقوله: {عَلَيْكُمُ} يعني أن القتال ساعة يكتب لا يبدو من ظاهر أمره إلا المشقة فجاءت {عَلَيْكُمُ} لتناسب الأمر. وبعد انتهاء القتال إذا انتصرنا فنحن نأخذ الغنائم، وإذا انهزمنا واستشهدنا فلنا الجنة. ويعبر الحق عن ظاهر الأمر في القتال فيقول عنه: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} . إنها قضية عامة كما قلنا. لذلك فعلينا أن نرد الأمر إلى من يعلمه، {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فكل أمر علينا أن نرده إلى حكمة الله الذي أجراه؛ لأنه هو الذي يعلم. وهناك قصة من التراث الإنساني تحكي قضية رجل من الصين، وكان الرجل يملك مكانا متسعا وفيه خيل كثيرة، وكان من ضمن الخيل حصان يحبه. وحدث أن هام ذلك الحصان في المراعي ولم يعد، فحزن عليه، فجاء الناس ليعزوه في فقده الحصان، فابتسم وقال لهم: ومن أدراكم أن ذلك شر لتعزوني فيه؟ وبعد مدة فوجئ الرجل بالجواد ومعه قطيع من الجياد يجره خلفه، فلما رأى الناس ذلك جاءوا ليهنئوه، فقال لهم: وما أدراكم أن ذلك خير، فسكت الناس عن التهنئة. وبعد ذلك جاء ابنه ليركب الجواد فانطلق به، وسقط الولد من فوق الحصان فانكسرت ساقه، فجاء الناس مرة أخرى ليواسوا الرجل فقال لهم: ومن أدراكم أن ذلك شر؟ وبعد ذلك قامت حرب فجمعت الحكومة كل شباب البلدة ليقاتلوا العدو، وتركوا هذا الابن؛ لأن ساقه مكسورة، فجاءوا يهنئونه، فقال لهم: ومن أدراكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 926 أن ذلك خير؟ فعلينا ألا نأخذ كل قضية بظاهرها، إن كانت خيراً أو شراً، لكن علينا أن نأخذ كل قضية من قضايا الحياة في ضوء قول الحق: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} [الحديد: 23] والحق هو القائل: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . ولله المثل الأعلى، سبق لنا أن ضربنا المثل من قبل بالرجل الحنون الذي يحب ولده الوحيد ويرجو بقاءه في الدنيا، لذلك عندما يمرض الابن فالأب يعطيه الدواء المر، وساعة يعطيه الجرعة فالابن يكره الدواء ولكنه خير له. وبعد ذلك يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن سؤال آخر يقول فيه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 927 والسؤال هنا ليس عن الشهر الحرام؛ لأنه كان معروفا عندهم من أيام الجاهلية ولكن السؤال عن القتال في الشهر الحرام، فما جدوى السؤال إذن؟ إنه سؤال استفزازي، والمسألة لها قصة. ونعرف أن للسنة أثنى عشر شهراً، وقد جعل الله فيها أربعة أشهر حرم: شهر واحد فرد وهو رجب، وثلاثة سرد، هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. ومعنى أشهر حرم أي أن القتال محرم فيها. لقد علم الله كبرياء الخلق على الخلق، لذلك جعل الله لخلقه ساترا يحمي كبرياءهم، ومن هذه السنن التي سنها الله هي حرمة القتال في الأشهر الحرم، والأماكن الحرم، فيجوز أن الحرب تضر المحارب، لكن كبرياءه أمام عدوه يمنعه من وقف القتال، فيستمر في الحرب مهما كان الثمن، فيأتي الحق سبحانه وتعالى ويقول للمتحاربين: ارفعوا أيديكم في هذه الشهور لأني حرمت فيها القتال. وربما كان المحاربون أنفسهم يتمنون من أعماقهم أن يتدخل أحد ليوقف الحرب، ولكن كبرياءهم يمنعهم من التراجع، وعندما يتدخل حكم السماء سيجد كل من الطرفين حجة ليتراجع مع حفاظه على ماء الوجه. وكذلك جعل الله أماكن محرمة، يحرم فيها القتال حتى يقول الناس إن الله هو الذي حرمها، وتكون لهم ستاراً يحمي كبرياءهم. إذن فالحق سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان أراد أن يصون الإنسان حتى يحقن الدماء، فإذا ظل الناس ثلاثة أشهر بلا حرب، ثم شهراً آخر، فنعموا في هذه الفترة بالسلام والراحة والهدوء، فربما يألفون السلام، ولا يفكرون في الحرب مرة أخرى، لكن لو استمرت الحرب بلا توقف لظل سعار الحرب في نفوسهم، وهذه هي ميزة الأشهر الحرم. والأشهر الحرم حُرُمٌ في الزمان والمكان؛ لأن الزمان والمكان هما ظرف الأحداث، فكل حدث يحتاج زمانا ومكانا. وعندما يحرم الزمان ويحرم المكان فكل من طرفي القتال يأخذ فرصة للهدوء. إن الحق سبحانه وتعالى يعرض هنا قضية أراد بها خصوم الإسلام من كفار قريش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 928 واليهود أن يثيروها؛ فقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرسل بعض السرايا للاستطلاع، والسرية هي عدد محدود من المقاتلين، فجاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأرسل سرية على رأسها عبد الله بن جحش الأسدي ابن عمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأرسل معه ثمانية أفراد، وجعله أميرا عليهم، وأعطاه كتابا وأمره ألا يفتحه إلا بعد مسيرة يومين، وذلك حتى لا يعلم أحد أين تذهب السرية، وفي ذلك احتياط في إخفاء الخبر. فلما سارت السرية ليلتين فتح عبد الله الكتاب وقرأه فإذا به: اذهب إلى «بطن نخلة» وهو مكان بين مكة والطائف واستطلع عير قريش، ولا تُكره أحدا ممن معك على أن يسير مرغما، بمعنى أن يكون لكل فرد في السرية حرية الحركة، فمن يفضل عدم السير فله هذا الحق. وبينما هم في الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعقبة بن غَزْوان، وذهبا يبحثان عن البعير، وبقى ستة مقاتلين مع عبد الله، وذهب الستة إلى «بطن نخلة» فوجدوا «عمرو بن الحضرمي» ومعه ثلاثة على عير لقريش، فدخلوا معهم في معركة، وكان هذا اليوم في ظنهم هو آخر جمادى الآخرة، لكن تبين لهم فيما بعد أنه أول رجب أي أنه أحد أيام شهر حرام. وقتل المسلمون ابن الحضرمي، قتله واقد بن عبد الله من أصحاب عبد الله ابن جحش، وأسروا اثنين ممن معه، وفر واحد، فلما حدث هذا، وتبين لهم أنهم فعلوا ذلك في أول رجب، عند ذلك اعتبروا أن قتالهم وغنائمهم مخالفة لحرمة شهر رجب. وثارت المسألة أخذا وردّاً بين المسلمين قبل أن تتحدث فيها قريش حيث قالوا: إن محمداً يدعي أنه يحترم المقدسات ويحترم الأشهر الحرم، ومع ذلك قاتل في الأشهر الحرم، وسفك دمنا، وأخذ أموالنا، وأسر الرجال. فامتنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الغنائم والأسرى حتى يفصل الله في القضية فنزل حكم السماء في القضية بهذا القول الحكيم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 929 {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] نحن مُسلّمون أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير، ولكن انظروا يا كفار قريش إلى ما صنعتم مع عبادنا وقارنوا بين كِبْر هذا وكِبْر ذاك. أنتم تقولون: إن القتال في الشهر الحرام مسألة كبيرة، ولكن صدكم عن سبيل الله وكفركم به، ومنعكم المسلمين من المسجد الحرام، وإخراج أهل مكة منها أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، فلا تفعلوا ما هو أكبر من القتال في الشهر الحرام، ثم تأخذكم الغيرة على الحرمات. فكأن الحق أراد أن يضع قضية واضحة هي: لا تؤخذوا من جزئيات التدين أشياء وتتحصنوا فيها خلف كلمة حق وأنتم تريدون الباطل فالواقع يعرض الأشياء، ونحن نقول: نعم إن القتال في الشهر الحرام كبير. ولكن يا كفار قريش اعلموا أن فتنة المؤمنين في دينهم وصدهم عن طريق الله، وكفركم به سبحانه وإهداركم حرمة البيت الحرام بما تصنعون فيه من عبادة غير الله، وإخراجكم أهله منه، إن هذه الأمور الآثمة هي عند الله اكبر جرماً وأشد إثماً من القتال في الأشهر الحرم لاسترداد المسلمين بعض حقهم لديكم. ولهذا يرد الحق سهام المشركين في نحورهم {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ} أي إياكم أن تعتقدوا أنهم سيحترمون الشهر الحرام ولا المكان الحرام، بل {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أي وسيصرون، ويداومون على قتالكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 930 {حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ} . وتأمل قوله: {إِن اسْتَطَاعُواْ} إن معناها تحد لهم بأنهم لن يستطيعوا أبدا ف «إنْ» تأتي دائما في الأمر المشكوك فيه. ويتبع الحق {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سيظلون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا. ثم يختم الحق الآية بقضية يقول فيها: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ} هذه الآية يقابلها آية أخرى يقول الحق فيها: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [المائدة: 5] وإذا قارنّا بين الآيتين نجد أن الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد ورد فيها قوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} وفي سورة المائدة لم يرد هذا وإنما ورد قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وقد اختلف العلماء في المسألة اختلافات جميلة. ولكنهم اتفقوا أَوَّلا على أن أي إنسان يرتد عن الإسلام ثم يموت مرتداً فقد حبطت أعماله. ولكن اختلافهم تركز فيما لو رجع وآمن مرة ثانية، أي لم يمت وهو كافر، بل رجع فآمن بعد ردته، فهل حبط عمله أم لم يحبط؟ . وللإمام الشافعي رأي يقول: إن الذي يرتد عن الدين تحبط أعماله إن مات على الكفر، أما إن عاد وأسلم مرة أخرى فإن أعماله التي كانت قبل الارتداد تكون محسوبة له. والإمام أبو حنيفة له رأي مختلف فهو يقول: لا، إن آية سورة المائدة ليس فيها {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} وعليه فإننا نحملها على آية سورة البقرة التي ذكر فيها ذلك من باب حمل المطلق على المقيد، وعلى ذلك فالذي يكفر بعد إيمانه عمله محبط سواء رجع إلى الإيمان بعد ذلك أو لم يرجع، فلا يحتسب له عمل. أين موضوع الخلاف إذن؟ . هي أن إنساناً آمن وأدى فريضة الحج ثم لا قدر الله كفر وارتد، ثم رجع فآمن أتظل له الحجة التي قام بها قبل الكفر أم تحبط ويطلب منه حج جديد؟ هذه هي نقطة الخلاف. فالشافعي يرى أنه لا يحبط عمله مادام قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 931 رَجع إلى الإيمان لأن الله قال: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} فمعنى ذلك أنه إن لم يمت على الكفر فإن عمله لا يحبط. ولكن لا يأخذ ثوابا على ذلك الحج الذي سبق له أن أداه، لقد التفت الإمام الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى شيء قد يغفل عنه كثر من الناس، وهو أن الحج ركن من أركان الإسلام، فالذي لا يحج وهو قادر على الحج فالله يعاقبه على تقصيره، والذي حج لا يعاقب ويأخذ ثواب فعله. فكأن الأعمال التي طلبها الحق سبحانه وتعالى إن لم تفعلها وكانت في استطاعتك عوقبت، وإن فعلتها يمر عملك بمرحلتين، المرحلة الأولى هي ألا تُعاقب، والمرحلة الثانية هي أن تُثاب على الفعل. فالشافعي قال: إن الشخص إذا فعل فعلاً يُثاب عليه الإنسان، ثم كفر، ثم عاد إلى الإسلام فهو لا يُعاقب، ولكنه يُثاب. أما الإمام أبو حنيفة فقد قال: إنه لا عبرة بعمله الذي سبق الردة مصداقا لقوله تعالى: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي أبطلت وزالت، وكأنها لم تكن. إن القرآن استخدم هنا كلمة «حبط» ، وهي تستخدم تعبيرا عن الأمر المحسوس فيقال: «حبطت الماشية» أي أصابها مرض اسمه الحباط، لأنها تأكل لونا من الطعام تنتفخ به، وعندما تنتفخ فقد تموت. والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يقول: «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم» . إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحذرنا من أن الخير قد يندس فيه شر، مثلما يحدث في الربيع الذي ينبت فيه من النبات الذي يعجب الماشية فتأكله فيأتيها مرض «الحُباط» ، فتنتفخ ثم تموت، أو «يلم» أي توشك أن تموت، وكذلك الأعمال التي فعلها الكفار تصبح ظاهرة مثل انتفاخ البطن، وكل هذه العمليات الباطلة ستحبط كما تحبط الماشية التي أكلت هذا اللون من الخضر، ثم انتفخت فيظن المشاهد لها أنها سمنة؛ وبعد ذلك يفاجأ بأنه مرض. لقد أعطانا الله من هذا القول المعنى المحسوس لتشابه الصورتين؛ فالماشية عندما تحبط تبدو وكأنها نمت وسمنت، لكنه نمو غير طبيعي إنه ليس شحماً أو لحما، لكنه ورم، كذلك عمل الذين كفروا؛ عمل حابط، وإن بدا أنهم قد قاموا بأعمال ضخمة في ظاهرها أنها طيبة وحسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 932 ويقول بعض الناس: وهل يُعقل أن الكفار الذين صنعوا إنجازات قد استفادت منها البشرية، هل من المعقول أن تصير أعمالهم إلى هذا المصير؟ . لقد اكتشفوا علاجا لأمراض مستعصية وخففوا آلام الناس، وصنعوا الآلات المريحة والنافعة. ونقول لأصحاب مثل هذا الرأي: مهلاً، فهناك قضية يجب أن نتفق عليها وهي أن الذي يعمل عملاً؛ فهو يطلب الأجر ممن عمل له، فهل كان هؤلاء يعملون وفي بالهم الله أم في بالهم الإنسانية والمجد والشهرة، وما داموا قد نالوا هذا الأجر في الدنيا فليس لهم أن ينتظروا أجراً في الآخرة. لذلك يقول الحق: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] إن الكافر يظن أن أعماله صالحة نافعة لكنها في الآخرة كالسراب الذي يراه الإنسان في الصحراء فيظنه ماء، ويجد نفسه في الآخرة أمام لحظة الحساب فيوفيه الله حسابه بالعقاب، وليس لهم من جزاء إلا النار، وينطبق عليهم ما ينطبق على كل الكافرين بالله، وهو {وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . هذا وإن الحق سبحانه وتعالى يوضح حقيقة الأمر للمؤمنين به وبرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يعطيهم مناعة إيمانية ضد آمال الكافرين في الإضرار بالمؤمنين، فيعلمنا أنهم لن يدخروا وسعا حتى يردوكم عن دينكم؛ لأن منهج الله دائماً لا يخيف إلا المبطلين؛ فالإنسان السوي الذي يريد أن يعايش العالم في سلام ويأخذ من الخير على قدر حركته في الوجود لا ترهقه سيادة مبادئ الإسلام، إنما تُرهق مبادئ الإسلام هؤلاء الذين يريدون أن يسرقوا عرق وكدّ غيرهم وهم يبذلون كل الجهد ويستخدمون كافة الأساليب التي تصرف المسلمين عن دينهم، ولكن هل يُمكّنهم الله من ذلك؟ لا؛ فلا يزال هناك أمل في الخير إن تمسكت أمة الإسلام بالمنهج الحق. إنه سبحانه يعطي المناعة للمؤمنين، والمناعة كما نعرف هي أن تنقل للسليم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 933 ميكروب المرض بعد إضعافه، وبذلك تأخذ أجهزة جسمه فرصة لأن تنتصر على هذا الميكروب؛ لذلك قال الحق: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} . إن الخلاف الجوهري بين المؤمن والكافر، هو أن المؤمن إنما يعمل العمل الصالح وفي نيته أن المكافئ هو الله، وهو يتجه بنية خالصة في كل عمل. ويأخذ بأسباب الله في العلم لينتفع به غيره من الناس؛ فتكون الفائدة عميمة وعظيمة، وعلى المؤمن أن يكون سباقاً إلى الاكتشاف والاختراع ونهضة العالم المسلم، وأن يكون المؤمن العالم منارة تشع بضوء الإيمان أمام الناس، لا أن يترك غيره من الكافرين يصلون إلى المكتشفات العلمية وهو متواكل كسلان. إن على المؤمن أن يأخذ بأسباب الله في الحياة؛ لأن الإسلام هو دين ودنيا، وهو دين العلم والتقدم، ويضمن لمن يعمل بمنهجه سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. وإذا كان المؤمن يستمتع بإنتاج يصنعه الكافر فليعلم أن الكافر إنما أخذ أجره مُسخراً ممن عمل له، أما المؤمن فحين يتفوق في الصناعة والزراعة والعلم والاكتشاف فهو يأخذ الأجر في الدنيا وفي الآخرة؛ لأن الذي يعطي هنا هو الله. أما عمل الكافر فهو عمل من مسخر كالمطايا وكالجماد والنبات والحيوان المسخر لخدمة الإنسان. وإذا كان الله قد ميز المؤمن على الكافر بالأجر في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة، ألا يليق بالمؤمن أن يسبق الكافر في تنمية المجتمع الإسلامي، وأن يكون بعمله منارة هداية لمن حوله؟! ويقول الحق من بعد ذلك: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 934 إن الآية قد عددت ثلاثة أصناف: الصنف الأول هم الذين آمنوا، والصنف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 934 الثاني هم الذين هاجروا، والصنف الثالث هم الذين جاهدوا. إن الذين آمنوا إيماناً خالصاً لوجه الله، وهاجروا لنصرة الدين، وجاهدوا من أجل أن تعلو كلمة الإسلام هؤلاء قد فعلوا كل ذلك وهم يرجون رحمة الله. ولقائل أن يقول: أليست الرحمة مسألة متيقنة عندهم؟ ونقول: ليس للعبد عند الله أمر متيقن؛ لأنك قد لا نفطن إلى بعض ذنوبك التي لم تُحسن التوبة منها، ولا التوبة عنها. وعليك أن نضع ذلك في بالك دائماً، وأن تتيقن من استحضار نية الإخلاص لله في كل عمل تقوم به؛ فقد تحدثك نفسك بشيء قد يفسد عليك عملك، وكذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو سيد الخلق وسيد الموصولين بربهم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وعمل لا يُرفع ودعاء لا يُسمع» . إن الرسول الكريم وهو سيد المحتسبين في كل أعماله يعلمنا أن النفس قد تخالط صاحبها بشيء يفسد الطاعة. وعلى المسلم أن يظل في محل الرجاء. والمؤمن الذي يثق في ربه لا يقول: إن على الله واجباً أن يعمل لي كذا؛ لأن أصل عبادتك لله سبق أن دفع ثمنها، وما تناله من بعد ذلك هو فضل من الله عليك، مدفوع ثمنها لك إيجاداً من عدم وإمداداً من عُدْم، ومدفوع ثمنها بأن متعك الله بكل هذه الأشياء، فلو قارنت بين ما طلبه الله منك على فرض أنك لا تستفيد منه فقد أفدت مما قدم لك أولا، وكل خير يأتيك من بعد ذلك هو من فضل الله عليك، والفضل يرجى ولا يُتيقن. وعظمة الحق سبحانه وتعالى في أنك تدعوه خوفاً وطمعاً. ويقول هذا المثل ولله المثل الأعلى إن من عظمتك أمام والدك أنك تجد لك أباً تخاف منه، وترغب أن يحقق لك بعضاً من أحلامك، ولو اختلت واحدة من الاثنتين لاختلت الأبوة والبنوة. كذلك عظمة الرب يُرغب ويُرهب: إن رغبت فيه ولم ترهبه فأنت ناقص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 935 الإيمان، وإن رهبت ولم ترغب فإيمانك ناقص أيضاً، لذلك لابد من تلازم الاثنتين: الرهبة والرغبة. ولو تبصّر الإنسان ما فرضه الله عليه من تكاليف إيمانية لوجد أنه يفيد من هذه التكاليف أضعافاً مضاعفة. فكل ما يجازي به الله عباده إنما هو الفضل، وهو الزيادة. وكل رزق للإنسان إنما هو محض الفضل. ومحض الفضل يُرجى ولا يُتيقن. وها هو ذا الحق يقول: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 55 - 56] إن الدنيا كلها مسخرة تحت قهر الرحمن ومشيئته وتسخيره، وله تمام التصرف في كل الكائنات وهو الخالق البديع، لذلك فليدع الإنسان الله بخشوع وخضوع في السر والعلانية، والحق لا يحب من يعتدي بالقول أو الرياء أو الإيذاء. إن الإيمان يجب أن يكون خالصا لله، فلا يفسد الإنسان الأرض بالشرك أو المعصية؛ لأن الحق قد وضع المنهج الحق لصلاح الدنيا وهو القرآن، ورسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ورحمة الله قريبة من المطيعين للحق جل وعلا. إن عظمة الرب في أنه يُرغب ويُرهب؛ إن رغبت فيه ولم ترهبه فعملك غير مقبول، وإن رهبته ولم ترغبه فعملك غير مقبول. إن الرغب والرهب مطلوبان معاً، لذلك فالمؤمن المجاهد في سبيل الله يرجو رحمة الله. والحق يقول: {أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله} ما هي الرحمة؟ الرحمة ألا تبتلى بالألم من أول الأمر، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 936 الشفاء هو أن تكون مصابا بداء ويبرئك الله منه، لكن الرحمة، هي ألا يأتي الداء أصلا {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . والله سبحانه وتعالى يعلم عن عباده أن أحداً منهم قد لا يبرأ من أن يكون له ذنب. فلو حاسبنا بالمعايير المضبوطة تماما فلسوف يتعب الإنسان منا، ولذلك أحب أن أقول دائما مع إخواني هذا الدعاء: «اللهم بالفضل لا بالعدل وبالإحسان لا بالميزان وبالجبر لا بالحساب» . أي عاملنا بالفضل لا بالعدل، وبإحسانك لا بالميزان، لأن الميزان يتعبنا. ولقد علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن دخول الجنة لا يكون بالأعمال وحدها، ولكن بفضل الله ورحمته ومغفرته. إن الرسول الكريم يقول: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. فقالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا حتى يتغمدني الله برحمته» . إذن فالمؤمن يرجو الله ولا يشترط على الله، إن المؤمن يتجه بعمله خالصا لله يرجو التقبل والمغفرة والرحمة، وكل ذلك من فضل الله. ويأتي الحق لسؤال آخر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 937 والخمر كما نعرف مأخوذة من الستر، ويقال: «دخل فلان خمرة» أي في أيكة من الأشجار ملتفة فاختبأ فيها. و «الخِمار» هو القناع الذي ترتديه المسلمة لستر رأسها، وهو مأخوذ أيضا من نفس المادة. و «خامرة الأمر» أي خالطه. وكل هذه المعاني مأخوذة من عملية الستر. و «الميسر» مأخوذ من اليسر؛ لأنه يظهر للناس بمكاسب يسيرة بلا تعب. والخمر والميسر من الأمور التي كانت معروفة في الجاهلية. والإسلام حين جاء ليواجه نُظُما جاهلية واجه العقيدة بلا هوادة، ولم يجابهها ويواجهها على مراحل بل أزالها من أول الأمر، ورفع راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، ثم جاء الإسلام في الأمور التي تُعتبر من العادات فبدأ يهونها؛ لأن الناس كانت تألفها، لذلك أخذها بشيء من الرفق والهوادة. وكان هذا من حكمة الشرع، فلم يجعل الأحكام في أول الأمر عملية قسرية فقد يترتب عليها الخلل في المجتمع وفي الوجود كله، وإنما أخذ الأمور بالهوادة. وإذا كانت الخمرة مأخوذة من الستر، فماذا تستر؟ إنها تستر العقل بدليل أن من يتعاطاها يغيب عن وعيه. ولا يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان الذي كرمه الله بالعقل أن يأتي للشيء الذي كرمه به ويُسَيِّر به أمور الخلافة في الأرض ويستره ويغيِّبه، لأن من يفعل ذلك فكأنه رد على الله النعمة التي أكرمه بها، وهذا هو الحمق. ثم إن كل الذي يتعاطون الخمر يبررون فعلهم بأنهم يريدون أن ينسوا هموم الدنيا، ونسأل هؤلاء: وهل نسيان الهموم يمنع مصادرها؟ لا، ولذلك فالإسلام يطلب منك أن تعيش همومك لتواجهها بجماع عقلك، فإذا كانت هناك هموم ومشكلات فالإسلام لا يريد منك أن تنساها، لا، بل لابد أن توظف عقلك في مواجهتها، وما دام المطلوب منك أن تواجه المشكلات بعقلك فلا تأتي لمركز إدارة الأمور الحياتية وهو العقل، والذي يعينك على مواجهة المشكلات وتقهره بتغييبه عن العمل. وهل النسيان يمنع المصائب؟ إن الذي يمنع المصائب هو أن تحاول بجماع فكرك أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 938 تجد السبيل للخروج منها، فإذا كان الأمر ليس في استطاعتك فمن الحمق أن تفكر فيه؛ لأن الله يريد منك أن تريح عقلك في مثل هذه الأمور، وإن كان الأمر له حل وفي استطاعتك حله، فأنت تحتاج للعقل بكامل قوته. والحق سبحانه وتعالى يرشدنا في هذه القضية بحكمة الحكيم، ويعطينا عطاء لنحكم نحن في الأمر قبل أن يطلب منا. إنه سبحانه يمتن علينا ويقول: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] فعندما ذكر الله {سَكَراً} مر عليها بلا تعليق. وعندما قال: {رِزْقاً} وصفه بأنه {حَسَناً} فكان يجب أن نتنبه إلى أن الله يمهد لموقف الإسلام من الخمر؛ فهو لم يصف «السكر» بأي وصف، وجعل للرزق وصفا هو الحسن؛ فالناس عندما يستخرجون من هذه الثمرات سكراً، فهم قد أخرجوها عن الرزق الحسن، لأن هناك فرقا بين أن تأخذ من العنب غذاءً وبين أن تخمره فتفسده وتجعله ساتراً للعقل. وبعد ذلك فهناك فرق بين تشريع ونصح. فعندما تنصح شخصا فأنت تقول له: سأدلك على طريق الخير وأنت حر في أن تسير فيه أو لا تسير. وعندما تشرع وتضع الحكم، فأنت تأمر هذا الشخص أو ذاك بأن يفعل الأمر ولا شيء سواه. والحق سبحانه وتعالى عندما قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} ، ذكر لنا المفاسد وترك لنا الحكم عليها، قال سبحانه مُبَلغّاً رسوله: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ولو لم يقل {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} لاستغرب الناس وقالوا: نحن نأخذ من الخمر منافع، ونكتسب منها، وننسى بها همومنا، كانت هذه هي المنافع بالنسبة لهم، لكن الحق يوضح أن إثمهما أكبر من نفعهما، أي أن العائد من وراء تعاطيهما أقل من الضرر الحادث منهما، وهذا تقييم عادل، فلم تكن المسألة قد دخلت في نطاق التحريم، لأنها مازالت في منطقة النصح والإرشاد. وقوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} يجعل فيهما نوعا من الذنب، لقد كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 939 التدرج في الحكم أمراً مطلوباً لأنه سبحانه يعالج أمراً بإلف العادة، فيمهد سبحانه ليخرجه عن العادة. والعادة شيء يقود إلى الاعتياد؛ بحيث إذا مر وقت ولم يأت ما تعوّدَتْ عليه نفسيتْك ودمك يحدث لك اضطراب. وما دامت المسألة تقود إلى الاعتياد، فالأفضل أن تسد الباب من أوله وتمنع الاعتياد. لقد كانت بداية الحكم في أمر الخمر أن أحداً من المسلمين شرب الخمر قبل أن تُحرم نهائياً، وجاء ليصلي، فقال: «قُلْ ياأيها الكافرون أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ» وبعدها نزل تأديب الحق بقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ. .} [النساء: 43] وفي ذلك تدريب لمَنْ اعتاد على الخمر ألا يقربها؛ فالإنسان الذي يصلي صدر عليه الحكم ألا يقرب الصلاة وهو سكران، فمتى يمتنع إذن؟ إنه يصحو من نومه فلا يقرب الخمر حتى يصلي الصبح، ويقترب الظهر فيستعد للصلاة، ثم العصر بعد ذلك، ويليه المغرب فالعشاء، أي لن يصبح عنده وقت ليشرب في الأوقات التي ينتظر فيها الصلاة، إذن فلا تصبح عنده فرصة إلا في آخر الليل، فإذا ما جاء الليل يشرب له كأساً ثم يغط في نومه. ويكون الوقت الذي امتنع فيه عن الخمر أطول من الوقت الذي يتعاطى فيه الخمر. ولما بدأ تعودهم على الخمر يتزعزع، حدثت بعض الخلافات والمشكلات التي دفعتهم لأن يطلبوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يوضح لهم حكماً فاصلاً في الخمر فنزل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 940 الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91] فقالوا: انتهينا يا رب. إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد بتحريم الخمر أن يحفظ على الإنسان عقله؛ لأن العقل هو مناط التكليف للإنسان، وهو مناط الاختيار بين البدائل، فأراد الحق أن يصون للإنسان تلك النعمة. إن هدف الدين في المقام الأول سلامة الضرورات الخمس التي لا يستغني عنها الإنسان: سلامة النفس، وسلامة العرض، وسلامة المال، وسلامة العقل، وسلامة الدين. وكل التشريعات تدور حول سلامة هذه الضرورات الخمس، ولو نظرت إلى هذه الضرورات تجد أن الحفاظ عليها يبدأ من سلامة العقل، فسلامة العقل تجعله يفكر في دينه. وسلامة العقل تجعله يفكر في حركة الحياة. وسلامة العقل تجعله يحتاط لصيانة العرض. إذن فالعقل هو أساس العملية التكليفية التي تدور حولها هذه المسألة، والحق سبحانه وتعالى يريد ألا يخمر الإنسان عقله بأي شيء مُسكر. حتى لا يحدث عدوان على هذه الضرورات الخمس. وقد جمع الله في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بين الخمر والميسر، وهو جل وعلا يريد أن يحمي غفلة الناس. فلعب الميسر يتمثل في صورته البسيطة في اثنين يجلسان أمام بعضهما البعض، وكل واحد منهما حريص على أن يأخذ ما في جيب الآخر، فأي أخوة تبقى بين هؤلاء؟ إن كلاًّ منهما حريص على أن يعيد الآخر إلى منزله خاوي الجيوب فأي أخوة تكون بين الاثنين؟ ومن العجيب أنك ترى الذين يلعبون الميسر في صورة الأصحاب، ويحرص كل منهما على لقاء الآخر، فأي خيبة في هذه الصداقة؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 941 ومن العجيب أن يقر كل من الطرفين صاحبه على فعله، يأخذ ماله ويبقى على صداقته، والعجيب الأكبر هو التدليس والسرقة بين الذين يتعودون على لعب الميسر. ولو لاحظت حياة هؤلاء الذين يلعبون الميسر تجدهم ينفقون ويبذرون بلا احتياط ولا ينتفعون أبداً بما يصل أيديهم من مال مهما كان كثيراً، لماذا؟ لأن المال حين يُكتسب بيسر، يُصرف منه بلا احتياط، هذا هو حال من يكسب، أما بالنسبة للخاسر فتجده يعيش في الحسرة والألم على ما فقد، وتجده في فقر دائم، وربما اضطر إلى التضحية بعرضه وشرفه، إن لم يبع ملابسه، وأعز ما يملك، ويحدث كل ذلك بأمان زائفة، وآمال كاذبة يزينها الشيطان للطرفين، الذي كسب والذي خسر، فالذي كسب يتمنى زيادة ما معه من مال أكثر وأكثر، والذي خسر يأمل أن يسترد ما خسره ويكسب. وعندما يتعود الإنسان أن يكسب بدون حركة فكل شيء يهون عليه، ويعتاد أن يعيش على الكسب السهل الرخيص، وحين لا يجد من يستغفله ليلعب معه ربما سرق أو اختلس. وهذا هو حال الذين يلعبون الميسر؛ إنهم أصحاب الرذائل في المجتمع، فهم الذين يرتشون ويسرقون ويعربدون، ولا أخلاق عندهم وليس لهم صاحب ولا صديق، وبيوتهم منهارة، وأسرهم مفككة، وعليهم اللعنة حتى في هيئتهم وهندامهم. ولذلك قال الحق: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} وما دام الإثم أكبر من النفع، فقد رجح جانب الإثم. هذا في العملية الذاتية، أما في العملية الزمنية فقد قال سبحانه: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] وبعد ذلك أنهى سبحانه المسألة تماما بقوله الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 942 الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] ثم تمضي الآية إلى سؤال آخر هو {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} إنه السؤال نفسه من عمرو بن الجموح وكان الجواب عليه من قبلُ هو {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} وهنا جواب بشكل وصورة أخرى {قُلِ العفو} والعفو معناه الزيادة وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 94 - 95] إن الله جلت قدرته يحذر وينذر لعل الناس تتذكر وتعتبر، إنه سبحانه لم يرسل نبيًّا إلى قومٍ فقابلوه بالتكذيب والنكران إلاّ أخذهم وابتلاهم بالفقر والبؤس والمرض والضر لعلهم يتوبون إلى ربهم ويتذلّلون له سبحانه ليرفع عنهم ما ابتلاهم به، ثم لما لم يرجعوا ويقلعوا عما هم فيه من الكفر والعناد اختبرهم وامتحنهم بالنعم؛ بالخصب والثراء والعافية والرخاء حتى كثروا وزادت أموالهم وخيراتهم، وقالوا وهم في ظل تلك النعم: إن ما يصيبنا من سراء وضراء وخير وشر إنما هو سنة الكون، وعادة الدهر، فأسلافنا وآباؤنا كان يعتريهم مثل ما يصيبنا، ولما أصروا على كفرهم باغتهم الله بالعذاب، وأنزل بهم العقاب المفاجئ. قلبهم الله بين الشدة والرخاء، وعالجهم بالضر واليسر، حتى لا تكون لهم حجة على الله، ولما ظهرت خسة طبعهم وأقاموا على باطلهم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. ولنتأمل قوله تعالى في ذلك: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 943 مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 42 - 44] أي لم نعجل بعقابهم بل تركناهم فتمادوا في المعصية حتى إذا فرحوا بما أتوا من النعمة والثروة وكثرة العدد، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} أي يائسون من رحمة الله أو نادمون متحسرون، ولا ينفعهم الندم حينئذ. فقد فاتت الفرصة وضيّعوها على أنفسهم. إن الحق ينزل هذا الأمر كعقاب وبه تكون النقلة صعبة، إنهم يتمادون فيعاقبهم الحق عقاباً صاعقاً، كالذي يرفع كائناً في الفضاء ثم يتركه ليهوى على الأرض، والعفو هنا يمكن أن يكون بمعنى أنهم ازدادوا في الطغيان. وهناك معنى آخر للعفو فقد يأتي بمعنى الترك: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178] أي فمن ترك له أخوه شيئا فليأخذه. إذن فالعفو تارة يكون بمعنى الزيادة، وتارة أخرى يكون بمعنى الترك، والحق هنا يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} أي أن الإنفاق إنما يكون من الزائد عن الحاجة، فيكون معنى العفو هنا هو الزائد أو المتروك، وهكذا نرى أن العفو واحد في كلا الأمرين، فلا تظن أن المعاني تتضارب؛ لأن بها يتحقق المعنى المقصود في النهاية. فالعفو هو الزيادة، والعفو أيضا يؤخذ بمعنى الصفح. إذن فالإنفاق من الزائد عن الحاجة يحقق الصفح ويحقق الرفاهية في المجتمع. فالذي يزرع أرضا وينتج ما يكفيه هو وعياله ويزيد، فهل يترك ما يزيد عن حاجته ليفسد أم ينفق منه على قريبه أو جاره المحتاج؟ أيهما أقرب إلى العقل والمنطق؟ وكان ذلك قبل أن يشرع الحق الزكاة بنظامها المعروف. وما سر تبديلها من عفو إلى زكاة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 944 لأن الحق أراد أن يقدر حركة المتحرك، فجعل حركته تخفف عنه ولا تثقل عليه. لأن حركة المتحرك تنفع المتحرك، أراد المتحرك أو لم يرد؛ ولذلك نجد «زكاة الركاز» وهي الزكاة المفروضة على ما يوجد في باطن الأرض من ثروات كالمعادن النفيسة والبترول وغيرها، لقد جعل الحق نصاب تلك الزكاة عشرين في المائة، أي الخمس بينما الذي يحرث الأرض ويبذر فيها الحب ويتركها حتى ينزل المطر فتنمو فنصاب الزكاة هو العشر على ما أنتجته زراعته. وأما الذي يزرع على ماء الري فعليه نصف العشر. والذي يتاجر كل يوم ويتعب فيذهب للمنتج ويشتري منه، ثم يوفر السلعة على البائع فيشتريها، هذا نقول له: عليك اثنان ونصف في المائة (2. 5 ... ) فقط. إذن فالزكاة متناسبة مع الحركة والجهد، كأن الحق يحمي الحركة الإنسانية من حمق التقنين البشري. إن المتحرك القوي يدفعه الله ليزيد من حركته لينتفع المجتمع، وأوكل الله للحاكم الذي يتبع منهج الإسلام أن يأخذ من الأثرياء ما يقيم به كرامة الفقراء. إِنْ بَخِلَ الأغنياء بفضل الله عليهم، ولم ينفقوا على الفقراء من رزق الله؛ فالمنهج الحق يحمي المال من فساد الطمع، ومن فساد الكسل، ويريد الحياة مستقيمة وآمنة للناس. فالذي ينفق من ماله على أهله يحيا وهو آمن. وكذلك من ينفق على أهله وتوابعه فتزداد دائرة الأمان، وهكذا لقد حمى الله بالزكاة طموح البشر من حمق التقنين من البشر، فالمقنن من البشر يأتي للمتحرك أكثر ويزيد عليه الأعباء، نقول له: إن هذا المتحرك إن لم يقصد أن ينفع المجتمع فالمجتمع سينتفع بجهده بالرغم عنه؛ فالإنسان الذي يملك مالا يُلقي الله خاطرا في باله، فيقول: «ماذا لو بنيت عمارة من عشرة أدوار، وفي كل دور أربع شقق» ويحسب كم تعطيه تلك العمارة من عائد كل شهر. إن هذا الرجل لم يكن في باله إلا أن يربح، فنتركه يفكر في الربح، وعندما نراقب الفائدة التي ستعود على المجتمع منه فسنجد الفائدة تعود على المجتمع من هذا العمل، ولنا أن نحسب كم فردا سوف يعمل في بناء تلك العمارة الجديدة؟ ابتداء من البنائين ومرورا بالنجارين والحدادين والمبيضين والسباكين وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 945 إن كل طبقات المجتمع الفقيرة تكون قد أفادت واستفادت من مال هذا الرجل قبل أن يدخل جيبه مليم واحد؛ لقد ألقى الله في نفسه خاطراً، فأخرج كل ما في جيبه، وألقاه في جيوب الآخرين قبل أن توجد له عمارة. وهكذا يحمي الله حركة المتحرك لأن حركته ستفيد سواه قصد إلى ذلك أو لم يقصد. أما إذا قلنا له: سنأخذ ما يزيد عن حاجتك قسراً فلا بد أن يقول لنفسه: «سأجعل حركتي على قدر حاجتي ولا أزيد إلا قليلا» . والحق عَزَّ وَجَلَّ لا يريد أن يشيع هذا المنطق بين الناس، ولكن يريد لهم أن يتحركوا في الحياة بالجدية والحلال، وكلما تكثر حركتهم تقل الزكاة المفروضة عليهم، لأن الحركة لا يستفيد منها صاحبها فقط ولكن يستفيد منها الجميع، فبعضه يسكن، وآخر يزرع، وثالث يعمل، وخير للإنسان أن يأكل من عمل يديه من أن يأكل من صدقات الناس وزكاتهم. عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» . ويقول الحق من بعد ذلك: {فِي الدنيا والآخرة وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 946 إن الحق يبدأ هذه الآية بقوله: {فِي الدنيا والآخرة} وكأنه يقول لنا: إياك أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 946 تعتقدوا أن كل تكليف من الله جزاؤه في الآخرة فقط، أبدا إن الجزاء سيصيبكم في الدنيا أيضا. وتأمل سيرة المستقيمين الملتزمين بمنهج دينهم ومنهج الأخلاق في حياتهم تجدهم قد أخذوا جزاءهم في الدنيا رضا وسعادة وأمنا حتى أنك تجد الناس تتساءل: كيف ربى فلان أولاده، وكيف علمهم برغم أن مرتبه بسيط؟ هم لا يعلمون أن يد الله معه بالبركة في كل حركات حياته. فلا تظن أن الجزاء مقصور على الآخرة فقط، بل يعجل الله بالجزاء في الدنيا، أما الآخرة فهي زيادة ونحن نأخذ متاع الآخرة بفضل الله. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» . وأحب أن يتأمل كل منا أحوال الناس المستقيمين في منهج الحياة، ويرى كيف يعيشون وكيف ينفقون على أولادهم، ويتأمل البشر والرضا الذي يتمتعون به وكيف تخلو حياتهم من المشاكل والعقد النفسية. وكأنه سبحانه وتعالى يلفتنا إلى أن كل ما جاء في المنهج القويم، إنما جاء لينظم لنا حركة الحياة ويخرجنا من أهواء النفوس. ونقول بعد أن استكمل الحق الكلام عن الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، بين لنا صنفين من المجتمع: أما الصنف الأول فهو الصنف المنافق الذي لا ينسجم منطقه مع واقع قلبه ونفسه: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 947 والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 204 - 205] وليت هذا الصنف حين يتنبه إلى ذلك يرتدع ويرجع، لا، إنه إذا قيل له من ناصح محب مشفق: «اتق الله» أخذته العزة بالإثم!! . والصنف الآخر في المجتمع هو من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، ويتمثل ذلك في أنه إما أن يبيع نفسه في القتال فيكون شهيداً، وإما أن يستبقيها استبقاءً يكون فيه الخير لمنهج الله. فقال سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بالعباد} [البقرة: 207] ثم تكلم الحق عن الدخول في السلم كافة، والدخول في السلم أي الإسلام يطلب منا أن ندخل جميعاً في كل أنواع السلم في الحياة، سلم مع نفسك فلا تتعارض ملكاتك، فلا تقول قولاً يناقض قلبك، وسِلمٌ مع المجتمع الذي تعيش فيه، وسلم مع الكون الذي يخدمك جماداً ونباتاً وحيواناً، وسلم مع أمتك التي تعيش فيها، فقال سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208] كل ذلك يدلنا على أن الحق حين خلق الخلق، وضع لهم المنهج الذي يضمن لهم السلامة والأمن في كل أطوار هذه الحياة، فإن رأيت خللاً أو اضطراباً في الكون، أو رأيت خوفاً أو قلقاً فاعلم أن منهجاً من مناهج الإسلام قد عُطل. والحق سبحانه وتعالى حينما يأمرنا أن ندخل في السلم كافة فهو سبحانه يحذرنا أننا إن زللنا عن المنهج فإن الله عزيز حكيم فلا يغلبه أحد، ولا يقدر عليه أحد، فهو القادر القوي الذي يُجري كل شيء بحكمة، فلا تظنوا أنكم بذلك تسيئون إلى الله بالزلل عن منهجه، وإنما تسيئون إلى أنفسكم وإلى أبناء جنسكم؛ لأن الله لا يُغلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 948 وينبهنا الحق سبحانه تنبيها آخر، إنه يلفتنا إلى أننا لا نملك أمر الساعة، فالساعة تأتي بغتة ومفاجئة، وصاخة طامة، مرجفة مزلزلة. فاحذروا أن تصيبكم هذه الرجفة وأنتم في غفلة عنها. وكل ذلك لندخل أيضا في السلام في اليوم الآخر، وكأن الحق سبحانه يلفتنا إلى أن كلمات القرآن ليست مجرد كلمات نظرية، ولكنها كلمات الحكيم الخبير التي حكمت تاريخ الأمم التي سبقت دعوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فكم من آيات أرسلها الحق إلى بني إسرائيل فتلكأوا وكان منهم ما كان، وشقوا هم، وشقي بهم المجتمع، إذن فالكلام ليس كلاماً نظرياً. ويريد الله لنا أن ننظر بعمق إلى أمور الحياة، وألا ننظر إلى سطحيات الأمور، فيجب ألا تخدعنا زينة الحياة الدنيا عن الحياة الآخرة؛ لأن الحياة الدنيا أَمَدُها قصير، وعلينا أن نقيس عمر الدنيا بأعمارنا منها، وأعمارنا فيها قصيرة؛ لأن منا من يموت كبيراً ومنا من يموت صغيراً. ويبين لنا الحق سبحانه أنه لم يترك خلقه هملاً، وإنما أرسل لهم رسُلاً يبينون لهم منهج الله، فكان الناس أمة واحدة مجتمعة على الحق إلى أن تحركت الأهواء في نفوسهم، ومع ذلك رحمهم الله فلم يسلمهم إلى الأهواء، بل استمر موكب الرسالات في البشر، وكلما غلبتهم الأهواء وطم الفساد، أرسل الحق برحمته رسولا لينبه إلى أن جاء الرسول الخاتم الذي ميزه الله بخلود منهجه، وجعل القيم في أمته. وصارت الأمة المحمدية هي حاملة أمانة حراسة المنهج الذي يصون حركة الحياة في الأرض؛ لأن الحق سبحانه لم يأمن أمة سواها، ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاتم الأنبياء. ثم نبهنا الله من بعد ذلك إلى أن نهاية الإنسان إلى نعيم الله في الجنة لن يأتي سهلاً ميسوراً، بل هو طريق محفوف بالمكارة، فيجب أن تنبهوا أنفسكم وتروضوها وتدربوها على تحمل هذه المكاره، وتوطنوها على تحملها لتلك المشاق. كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 949 ويمتن الحق من بعد ذلك على خلقه أنه أهدى للإنسان الخليفة في الأرض عقلاً يفكر به، وطاقة تنفذ تخطيط العقل، وكوناً مادياً أمامه يتفاعل معه في الحركة: فالعقل يخطط، والطاقة تنفذ في المادة المخلوقة المسخرة لله. إذن فكل أدوات الحركة موجودة لله، وليس لك أيها الإنسان أن تخلق شيئاً فيها إلا أن تُُُوجه طاقات مخلوقة للعمل في مادة مخلوقة، فأنت لا توجد شيئا. وبعد ذلك يطلب الحق منك أيها المسلم أن تحافظ على حركة الحياة، بأن تقدر للعاجز عن هذه الحركة نصيباً من حركتك؛ لذلك فعليك أن تتحرك في الحياة حركة تسعك، وتسع من تعول، وتسع العاجز عن الحركة. وبذلك تؤمّن السماء كل عاجز عن الحركة بحركة المتحركين من إخوانه المؤمنين، وهو سبحانه يطمئنك بأنك إذا فعلت ذلك وأَمَّنْتَ العاجز، فهو جل وعلا يؤمنك حين يطرأ عليك العجز. لقد جعل الله سبحانه حالة الحياة دولاً بين الناس، فلا يوجد قوم قادرون دائماً ولا قوم عاجزين دائماً، بل يجعل الحق من القادرين بالأمس عاجزين اليوم؛ ومن العاجزين بالأمس قادرين اليوم؛ حتى تتوزع الحركة في الوجود. وحتى يعلم كل منا أن الله يطلب منك حين تقدر؛ ليعطيك حين تعجز. لذلك طلب منا أن ننفق، والنفقة على الغير لا تتأتى إلا بعد استيفاء الإنسان ضروريات حياته، فكأن الحق يقول لك: إن عليك أن تتحرك في الحياة حركة تسعك وتسع أن تنفق على من تعول، وإلا لو تحركت حركة على قدرك فقد لا تجد ما تنفقه. وبعد ذلك يكلفنا سبحانه بأن كل مؤمن عليه أن يأخذ مسئولية الإنفاق على الدائرة القريبة منه؛ ليتحمل كل موجود في الحياة مسئولية قطاع من المجتمع مربوط به رباطا نَسَبِيّاً؛ كالوالدين والأقربين. وأن نجعل الضعفاء من الأيتام مشاعاً على المجتمع مطلوبين من الجميع. سواءٌ كانت تربطهم بنا قرابة أو لا تربطنا بهم قرابة فهم جميعاً أقاربنا؛ لأن الله كلفنا بأن نرعاهم. ولكن هل يمكن أن يستقر منهج الله دون أن يعاديه أحد؟ طبعاً لا؛ لذلك ينبهنا الحق إلى أننا سنجد أقواماً لا يسعدهم أن يطبق منهج الله في الوجود؛ لأنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 950 لا يعيشون إلا على مظالم الناس، هؤلاء قوم سيسوؤهم أن يُطبق منهج الله، فلتنتبهوا لهؤلاء؛ ولذلك فرض الحق سبحانه القتال حتى نمنع الفتنة بالكفر من الأرض؛ لأن الكفر يعدد الآلهة في الكون وسيتبع كل إنسان الهوى، ويصبح إلهه هواه وستتعدد الآلهة بتعدد الأهواء، ولذلك كتب الله على المؤمنين القتال وقال: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} ، كل ذلك ليضمن لنا الغاية التي يريدها، وهي الدخول في السلم والسلام والإسلام كافة. وبعد ذلك يطلب منا أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا وأن نهجر أوطاننا وأهلنا إن احتاجت إلى ذلك الحركة الإيمانية فقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 218] ويلفتنا الحق بعد ذلك إلى قمة الجهاز التخطيطي في الإنسان ليحميه ويجعله جهازاً سليماً قادراً على التخطيط بصفاء وحكمة وقوة، وهو العقل، ويلفتنا بضرورة أن نمنع عن العقل كل ما يخمره أي يستره عن الحركة نمنع عنه الخمر لماذا؟ ليظل العقل كما يريده الله أداة الاختيار بين البدائل. وما دام العقل هو الذي يخطط للطاقة الموجودة في الإنسان لتعمل في المادة الموجودة في الكون فيجب أن يظل هذا العقل المخطط سليماً، فلا يحاول الإنسان أن يستره، ولا يقل أحد: «إني أستره من فرط زيادة المشكلات» ، لا: لأن المشكلات لا تريد عقلاً واحداً منك فقط، ولكنها تريد عقلين، فلا تأتي للعقل الواحد لتطمسه بالخمر، فمواجهة المشكلات تقتضي أن نخطط تخطيطاً قوياً. وبعد ذلك يحذرنا الحق أن نأخذ من حركة الآخرين بغير عرق وبغير جهد، فيحذرنا من الميسر وهو الرزق السهل، والتحذير من الميسر إنما جاء ليضمن لكل إنسان أن يتحرك في الحياة حركة سليمة لا خداع فيها. وكأن كل ما تقدم هو من إشراقات قوله الحق: {فِي الدنيا والآخرة} ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 951 {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] ونعرف أن اليتامى قد لا يدخلون في دائرة المحتاجين لكن الله ينبهنا إلى أن المسألة في اليتيم ليست مسألة احتياج إلى الاقتيات، ولكنه في حاجة إلى أن نعوضه بالتكافل الإيماني عما فقده من الأب، وذلك يمنع عنه الحقد على الأطفال الذين لم يمت آباؤهم. وحين يجد اليتيم أن كل المؤمنين آباء له فيشعر بالتكافل الذي يعوضه حنان الأب ولا يعاني من نظرة الأسى التي ينظر بها إلى أقرانه المتميزين عليه بوجود آبائهم، وبذلك تخلع منه الحقد. وكان المسلمون القدامى يخلطون أموالهم بأموال اليتامى ليسهلوا على أنفسهم، وعلى أمر حركة اليتيم مئونة العمل، فلو أن يتيماً دخل تحت وصاية إنسان، وأراد هذا الإنسان أن يجعل لليتيم القاصر حياة مستقلة وإدارة مستقلة ومسلكاً مستقلاً في الحياة لشق ذلك على نفس الرجل، ولذلك أذن الله أن يخلط الوصي ماله بمال اليتيم، وأن يجعل حركة هذا المال من حركة ماله، بما لا يوجد عند الوصي مشقة. ولما نزل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] وتحرج الناس، وتساءلوا كيف يعاملون اليتيم خصوصا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] وكف الناس أيديهم عن أمر اليتامى، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 952 الأمر، فأنزل القول الحق: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} والمخالطة تكون على أساس أن اليتامى إخوانكم واحذروا جيداً أن يكون في هذا الخلط شيء لا يكون فيه إصلاح لليتيم. وإياكم أن تفهموا أن الشكلية الاجتماعية تكفي الوصي في أن يكون مشرفاً على مال اليتيم دون حساب؛ لأن الله يعلم المفسد من المصلح. فلا يحاول أحد أن يقول أمام الناس: إنه قد فتح بيته لليتيم وإنه يرعى اليتيم بينما الأمر على غير ذلك؛ لأن الله يعلم المفسد من المصلح. ويقول الحق: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} والإعنات هو أن توقع غيرك وتدخله في أمر فيه مشقة، فلو لم يبح الله لكم مخالطتهم لأصابتكم مشقة فيسر الله للمؤمنين من الأوصياء أن يخالطوا اليتامى، ومعنى المخالطة: هو أن يُوحد الوصي حركة اليتيم مع حركته، وأن يوحد معاش اليتيم مع معاشه، بدلاً من أن يكون لليتيم على سبيل المثال أدوات طعام مستقلة، وقد كان هذا هو الحاصل. وكان يفسد ما يتبقى من الطعام؛ فلم تكن هناك وسائل صيانة وحفظ الأطعمة مثل الثلاجات، وكان ذلك ضرراً باليتيم، وضرراً أيضا بمن يشرف عليه. لكن حين قال: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} ، فكان ذلك توفيرا للمشقة على الأوصياء. فالمخالطة هي المعاشرة التي لا يتعثر فيه التمييز. وقد درسنا في طفولتنا درسا بعنوان «الخلط والمزج» فالخلط هو أن تخلط على سبيل المثال حبوب الفول مع حبوب العدس، أو حبوب الأرز مع حبوب البندق. وعندما تأتي لتمييز صنف من آخر، فأنت تستطيع ذلك، وتستطيع أن تفصل الصنفين بعضا عن بعض بالغربال؛ ولذلك فالمخالطة تكون بين الحبوب ونحوها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 953 أما المزج فهو في السوائل. والحق سبحانه يرشدنا أن نخالط اليتامى لا أن نمزج مالهم بمالنا؛ لأن اليتيم سيصل يوما إلى سن الرشد، وسيكون على الوصي أن يفصل ماله عن مال اليتيم. ويتابع الحق: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} لأن الوصي قد يدعي أمام الناس أنه يرعى حق اليتيم، وأنه يقوم بمصالحه ويحترم ماله، لكن الأمر قد يختلف في النية وهو سبحانه لم يكل الأمر إلى ظواهر فهم المجتمع لسلوك الوصي مع اليتيم وعن المخالطة، بل نسب ذلك كله إلى رقابته سبحانه، وذلك حتى يحتاط الإنسان ويعرف أن رقابة الله فوق كل رقابة، ولو شاء الحق لأعنت الأوصياء وجعلهم يعملون لليتيم وحده، ويفصلون بين حياة اليتيم وحياتهم ومعاشهم. وفي ذلك مشقة شديدة على النفس. وحتى نفهم معنى العنت بدقة فلنقرأ قول الحق سبحانه: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] لقد جاءكم أيها المؤمنون رسول منكم، عربي ومن قريش يبلغكم رسالة الله سبحانه وتعالى. يحرص عليكم كيلا تقعوا في مشقة أو تعيشوا في ضنك الكفر، حريص على أن تكونوا من المهتدين. فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يأتي من جنس الملائكة، ولكن جاء من جنس البشر، فلا يقولن أحد: إنه لا يصلح أسوة لي. إنه نشأ في مكة التي تعيش بها قريش، وتاريخه معروف لقومه: بدليل أنهم خلعوا عليه أول الأوصاف المطلوبة والواجبة للرسالة وهي الأمانة، فالحق جاء به من البشر وليس بغريب عليهم، وبمجرد أن أخبر بالوحي وجد أناسا آمنوا به قبل أن يقرأ قرآنا، وقبل أن يأتيهم بتحدٍ. «فعندما جاءه المَلَكُ جبريلُ عليه السلام في غار حراء، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، [أي ضمني وعصرني، والحكمة فيه شغله عن الالتفات ليكون قلبه حاضراً] ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 954 بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني وقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني الثالثة فغطني ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فقال لها:» زملوني. زملوني «. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر:» لقد خشيت على نفسي «لكن خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بحسن استنباطها تقول:» كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق «» . إن خديجة رضوان الله عليها تستنبط أن من فيه هذه الخصال إنما هو مهيأ للرسالة. {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] أي محب لكم يشق عليه ويتعبه ما يشق عليكم ويتعبكم؛ ولذلك كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مشغولا بأمته. ويروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «أمتي. أمتي. أمتي» . والحق سبحانه وتعالى يعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مشغول بأمته. «عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قول الله عَزَّ وَجَلَّ في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي. .} الآية. وقال عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى. فقال الله عَزَّ وَجَلَّ:» يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك. فأتاه جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فسأله فأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما قال وهو أعلم فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك «» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 955 إننا عندما نتأمل دقة الجواب النبوي نعرف أن الرسول الكريم مشغول بأمته، ولكنه ينظر إلى نفسه على أنه أخ لكل مؤمن. والأخ قد يتغير على أخيه؛ لذلك لم يشأ الرسول الكريم أن يُخرج أمر المسلمين من يد الله ورحمته وهو الخالق الكريم إلى أمره هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إن الرسول يعرف أن الله أرحم بخلقه من أي إنسان، حتى الرسول نفسه. نقول ذلك في معرض حديثنا عن العنت الذي يمكن أن يصاحب الإنسان أن لم يرع حق الله في مال اليتيم؛ لأن الله عزيز حكيم، وهو الحق الذي يغلب ولا يغلبه أحد. ونرى في قول الحق: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أن صفة العزة متآزرة بصفة الحكمة. وبعد ذلك يدخل معنا الحق سبحانه وتعالى في مسألة جديدة لو نظرنا إليها لوجدناها أساس أي حركة في الحياة وفي المجتمع، إنها مسألة الزواج. ويريد سبحانه أن يضمن الاستقرار والسعادة للكائن الذين كرمه وجعله خليفة في الأرض، وجعل كل الأجناس مسخرة لخدمته. إن الحق يريد أن يصدر ذلك الكائن عن ينبوع منهجي واحد؛ لأن الأهواء المتضاربة هي التي تفسد حركة الحياة، فأراد أن يصدر المجموع الإنساني كله عن ينبوع عقدي واحد، وأراد أن يحمي ذلك الينبوع من أن يتعثر بتعدد النزعات والأهواء، لذلك ينبهنا الحق إلى هذا الموقف. إنه سبحانه يريد سلامة الوعاء الذي سيوجد ذلك الإنسان، من بعد الزواج، فبالزواج ينجب الإنسان وتستمر الحياة بالتكاثر. ولذلك لابد من الدقة في اختيار الينبوع الذي يأتي منه النسل. فهو سبحانه يقول: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 956 إن الحق يقول: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} ، وهذه أول لبنة في بناء الأسرة وبناء المجتمع، لأنها لو لم تكن مؤمنة، فماذا سوف يحدث؟ إنها ستشرف على تربية الطفل الوليد إشرافاً يتناسب مع إشراكها، وأنت مهمتك كأب ومرب لن تتأتى إلا بعد مدة طويلة تكون فيها المسائل قد غُرست في الوليد، فإياك أن يكون الرجل مؤمنا والمرأة مشركة؛ لأن هذا يخل بنظام الأسرة فعمل الأم مع الوليد يؤثر في أوليات تكوينه إنه يؤثر في قيمه، وتكوين أخلاقه. وهذا أمر يبدأ من لحظة أن يرى ويعي، والطفل يقضي سنواته الأولى في حضن أمه، وبعد ذلك يكبر؛ فيكون في حضن أبيه، فإذا كانت الأم مشركة والأب مؤمنا فإن الإيمان لن يلحقه إلا بعد أن يكون الشرك قد أخذ منه وتمكن وتسلط عليه. ونعرف أن الطفولة في الإنسان هي أطول أعمار الطفولة في الكائنات كلها، فهناك طفولة تمكث ساعتين اثنتين مثل طفولة الذباب، وهناك طفولة أخرى تستغرق شهراً، وأطول طفولة إنما تكون في الإنسان؛ لأن هذه الطفولة مناسبة للمهمة التي سيقوم بها الإنسان، كل الطفولات التي قبلها طفولات لها مهمة سهلة جدا، إنما الإنسان هو الذي ستأتي منه القيم، لهذا كانت طفولته طويلة؛ إنها تستمر حتى فترة بلوغ الحلم. والحق هو القائل: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 59] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 957 فكأن الطفل يظل طفلاً إلى أن يبلغ الحلم، فكم سنة إذن ستمر على الطفل؟ . وكم سنة سوف يتغذى هذا الطفل من ينابيع الشرك إن كانت أمه مشركة؟ إنها فترة طويلة لا يمكن له من بعد ذلك أن يكون مؤمنا غير مضطرب الملكات. وإن صلح مثل هذا الإنسان أن يكون مؤمنا فسيقوم إيمانه على القهر والقسر والولاية للأب وسيكون مثل هذا الإيمان عملية شكلية وليست مرتكزة ولا معتمدة على أساس صادق. ونحن نعرف أن الثمرات التي ننعم نحن بأكلها لا يكون نضجها إلا حين تنضج البذرة التي تتكوّن منها شجرة جديدة، وقبل ذلك تكون مجرد فاكهة فِجة وليس لها طعم. وقد أراد الحق أن ينبهنا إلى هذا الأمر ليحرص الإنسان على أن يستبقى الثمرة إلى أن تنضج ويصير لها بذور. إن المرأة لا تكون ثمرة طيبة إلا إذا أنجبت مثلها ولداً صالحا نافعا، يريد الحق للنشء أن يكون غير مضطرب الإيمان؛ لذلك يقول: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} أي إياكم أن تنخدعوا بالمعايير الهابطة النازلة، وعلى كل منكم أن يأخذ حكم الله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} لأن إعجاب الإنسان بالمرأة بصرف النظر عن الإيمان سيكون إعجابا قصير العمر. إن عمر الاستمتاع بالجمال الحسي للمرأة إن جمعنا لحظاته فلن يزيد مجموعه عن شهر من مجموع سنوات الزواج. فكل أسبوع يتم لقاء قد يستغرق دقائق وبعدها يذبل الجمال، وتبقى القيم هي المتحكمة، ونحن نجد المرأة حين تتزوج، ثم يبطئ الحمل فإنها تعاني من القلق وكذلك أهلها. إن الرجل إن كان قد تزوجها للوسامة والقسامة والقوام والعينين، فهذا كله سيبرد ويهدأ بعد فترة، ثم توجد مقاييس أخرى لاستبقاء الحياة، وعندما يلتفت إليها الإنسان ولا يجدها فهو يغرق في الندم؛ لأنها لم تكن في باله وقت أن اختار. لذلك تريد المرأة أن تُمكن لنفسها بأن يكون عندها ولد لتربط الرجل بها، وحتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 958 يقول المجتمع: «عليك أن تتحملها من أجل الأولاد» ! فالرجل بعد الزواج يريد قيماً أخرى غير القيم الحسية التي كانت ناشئة أولاً، لذلك يحذرنا الله قائلاً: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} . وجاء قوله {حتى يُؤْمِنَّ} لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله ما دامت قد آمنت فقد انتهت المسألة. وانظروا إلى دقة قوله سبحانه: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} أي إنّ الأمة المسلمة خير من حرة مشركة، {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} لقد جاء قول الحق هنا بمقاييس الإعجاب الحسي. ليلفتنا إلى أننا لا يصح أن نهمل مقاييس خالدة ونأخذ مقاييس بائدة وزائلة. ثم يقول الحق: «ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا» وهذا هو النظير في الخطاب وهو ليس متقابلا فهو لم يخاطب المؤمنات ألا ينكحن المشركين، إنما قال {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} وتلك دقة في الأداء هنا؛ لأن الرجل له الولاية في أن يُنْكح، فيأمره بقوله: لا تُنكح، لكن المرأة ليس لها ولاية أن تُنكح نفسها. فنحن نعرف القاعدة الشرعية التي تقول: «لا نكاح إلا بولي» ، وهو لم يوجه حديثه للنساء؛ لأن المرأة تتحكم فيها عاطفتها لكن وليها ينظر للأمر من مجموعة زوايا أخرى تحكم الموقف. صحيح أننا نستأذن الفتاة البكر كي نضمن أن عاطفتها ليست مصدودة عن هذا الزواج، لكن الأب أو ولي الأمر الرجل يقيس المسائل بمقاييس أخرى، فلو تركنا للفتاة مقياسها لتهدم الزواج بمجرد هدوء العاطفة، وساعة تأتي المقاييس العقلية الأخرى فلن تجد ذلك الزواج مناسباً لها فتفشل الحياة الزوجية. لذلك يطالبنا الإسلام أن نستشير المرأة، كي لا نأتيها بواحد تكرهه، ولكن الذي يزوجها إلى ذلك الرجل هو وليها؛ لأن له المقاييس العقلية والاجتماعية والخلقية التي قد لا تنظر إليها الفتاة؛ فقد يبهرها في الشاب قوامه وحسن شكله وجاذبية حديثه، لكن عندما تدخل المسألة في حركة الحياة ودوامتها قد تجده إنساناً غير جدير بها. ولكي تكون المسألة مزيجاً من عاطفة بنت، وعقل أب، وخبرة أم، كان لابد من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 959 استشارة الفتاة، وأن يستنير الأب برأي الأم، ثم يقول الأب رأيه أخيراً، وكل زواج يأتي بهذا الأسلوب فهو زواج يحالفه التوفيق، لأن المعايير كلها مشتركة، لا يوجد معيار قد اختل؛ فالأب بنى حكما على أساس موافقة الابنة، أما إذا رفضت الفتاة وكانت معايير الأب صحيحة، لكن الابنة ليس لها تقبل لهذا الرجل؛ لذلك فلا يصح أن يتم هذا الزواج. وكثير من الزيجات قد فشلت لأننا لم نجد من يطبق منهج الله في الدخول إلى الزواج. وحين لا يطبقون منهج الله في الدخول إلى الزواج ثم يُقَابَلون بالفشل فهم يصرخون منادين قواعد الإسلام لتنقذهم. ونقول لهم: وهل دخلتم الزواج على دين الله؟ إنكم مادمتم قد دخلتم الزواج بآرائكم المعزولة عن منهج الله فلتحلوا المسألة بآرائكم. فالدين ليس مسئولاً إلا عمن يدخل بمقاييسه، لكن أن تدخل على الزواج بغير مقاييس الله ثم تريد من الله أو من القائمين على أمر الله أن يحلوا لك المشاكل فذلك ظلم منك لنفسك وللقائمين على أمر الله. وإن لم تحدث مثل هذه المشكلات لكنا قد اتهمنا منهج الله. ولقلنا: قد تركنا منهج الله وسعدنا في حياتنا. ولذلك كان لابد أن تقع المشكلات. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} هذه قضية لها سبب، لكن العبرة فيها بعموم موضوعها لا بخصوص سببها، لقد كان السبب فيها هو ما روى أنه كان هناك صحابي اسمه مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين. وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها «عناق» وكانت تحبه، وساعة رأته أرادت أن تخلو به فقال لها: ويحك إن الإسلام قد حال بيننا، فقالت له: تزوجني، فقال لها: أتزوجك لكن بعد أن أستأمر وأستأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلما استأمره نزل قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} . وقيل إن قوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} نزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، فقال لها حذيفة: يا خنساء قد ذكرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 960 في الملأ الأعلى مع سوادك ودمامتك وأنزل الله ذكرك في كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوجها. ويتابع الحق فيقول: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْْ} . إن المقاييس واحدة في اختيار شريك الحياة، إنها الرغبة في بناء الحياة الأسرية على أساس من الخير، وغاية كل شيء هي التي تحدد قيمته، وليست الوسيلة هي التي تحدد قيمة الشيء، فقد تسير في سبيل وطريق خطر وغايته فيها خير، وقد تسير في سبيل مفروش بالورود والرياحين وغايته شر، ولذلك يقول الحق: {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . والذين يدعون إلى النار هم أهل الشرك. أما الله فهو يدعو إلى الجنة، والمغفرة تأتي بإذن الله أي بتيسير الله وتوفيقه. ونعرف جميعاً الحكمة التي قالها الإمام «علي» كرم الله وجهه: لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة. وقوله الحق؛ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ترد كثيراً، هذا التذكر ماذا يفعل؟ إن التذكر يُشعرك بأن القضية كانت معلومة والغفلة هي التي طرأت، لكن الغفلة إذا تنبهت إليها، فهي تذكرك ما كنت قد نسيته من قبل، لكن إن طالت الغفلة، نُسى الأصل فهذه هي الطامة، التي تنطمس بها المسألة. إذن فالتذكر يشمل مراحل: المرحلة الأولى: أن تعرف إن لم تكن تعرف، أو تعلم إن كنت تجهل، والمرحلة الثانية: هي أن تتذكر إن كنت ناسياً، أو توائم بين ما تعلم وبين ما تعمل؛ فالتذكر يوحي لك بأن توائم ما بين معرفتك وسلوكك حتى لا تقع في الجهل، والجهل معناه أن تعلم ما يناقض الحقيقة. لقد أراد الله أن يصون الإنسان الذي اختار الإيمان عندما حرم عليه الزواج بواحدة من أهل الشرك. إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن لمن جعله خليفة في الأرض عقيدة واحدة يصدر عنها السلوك الإنساني؛ لأن العقائد إن توزعت حسب الأهواء فسيتوزع السلوك حسب الأهواء. وحين يتوزع السلوك تتعاند حركة الحياة ولا تتساند. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 961 فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن وحدة العقيدة بدون مؤثر يؤثر فيها؛ فشرط في بناء اللبنة الأولى للأسرة ألاّ ينكح مؤمن مشركة؛ لأن المشركة في مثل هذه الحالة ستتولى حضانة الطفل لمدة طويلة هي كما قلنا أطول أعمار الطفولة في الكائن الحي. ولو كان الأب مؤمناً والأم مشركة فالأب سيكون مشغولاً بحركة الحياة فتتأصل عن طريق الأم معظم القيم التي تتناقض مع الإيمان. وأراد الحق سبحانه وتعالى أيضا ألا تتزوج المؤمنة مشركاً؛ لأنها بحكم زواجها من مشرك ستنتقل إليه وإلى بيئته المشركة وإلى أسرته. وسينشأ طفلها الوليد في بيئة شركية فتتأصل فيه الأشياء القيمية التي تناقض الإيمان. ويريد الحق سبحانه وتعالى بهذه الصيانة، أي بعدم زواج المؤمن من مشركة، وبعدم زواج المؤمنة من مشرك، أن يحمي الحاضن الأول للطفولة. وحين يحمي الحاضن الأول للطفولة يكون الينبوع الأول الذي يصدر عنه تربية عقيدة الطفل ينبوعا واحداً، فلا يتذبذب بين عقائد متعددة. لذلك جاء قول الحق: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221] كل ذلك حتى يصون الحق البيئة التي ينشأ فيها الوليد الجديد. وعلينا أن نفهم أن الحق سبحانه وتعالى رخص للمؤمنين في أن ينكحوا أهل الكتاب بقوله الحق: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 962 قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [المائدة: 5] وقد وقف العلماء من مسألة ترخيص الحق للمؤمنين في أن يتزوجوا من أهل الكتاب موقفين: الموقف الأول: هو موقف مانع؛ لأن بعض العلماء رأى أن أهل الكتاب قد ينحرفون في معتقداتهم إلى ما يجعلهم في الشرك، وقالوا: وهل هناك شرك أكثر من أن تُدعى الربوبية لبشر؟ والموقف الثاني: أجاز بعض العلماء أن يتزوج الإنسان من كتابية ويجب عليه أن يسألها أهي تدين بألوهية أحد من البشر أم تدين بالله الواحد القهار؟ فإن كانت المسألة مجرد الخلاف في الرسول فالأمر يهون، أما إن كانت تؤمن بألوهية أحد من البشر بجانب الله فقد دخلت في الشرك وعلى المؤمن أن يحتاط. وإذا كان للرجل الولاية وله أن يتزوج بكتابية فهو غالباً ما ينقلها إلى بيئته هو وستكون البيئة المؤثرة واحدة، ووجود الولاية للأب مع الوجود في البيئة الإيمانية سيؤثر ويخفف من تأثير الأم الكتابية على أولادها، وإن كان على الإنسان أن يتيقظ إلى أن هناك مسالك تتطلف وتتسلل ناحية الشرك، فمن الخير أن يبتعد المسلم عن ذلك، وأن يتزوج ويعصم ويعفّ فتاة مسلمة. وحين يحمي الحق سبحانه وتعالى الحضانة الأولى للطفل فهو يريد أن يربي في الطفل عدم التوزع، وعدم التمزق، وعدم التنافر بين ملكاته. وحين نضمن للطفل التواجد والنشأة في بيئة متآلفة فهو ينشأ طفلاً سوياً. والإسلام يريد أن يحافظ على سويَّة هذا الطفل. ويقول بعض الناس: ولماذا لا نوجد محاضن جماعية؟ وكأنهم بذلك يريدون أن يحلوا الإشكال. نقول لهم: إن الإشكال لم يحل عند الذين فعلوا ذلك من قبلنا، ولذلك فعندما نقرأ مؤلفاتهم مثل كتاب «أطفال بلا أسر» فسنجد أن الطفولة عندهم معذبة. ولماذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 963 نذهب بعيداً؟ إننا عندما نتتبع كيفية النشأة الجماعية للأطفال في إسرائيل فالبحوث العلمية تؤكد على أن الأطفال يعيشون في بؤس رهيب لدرجة أن التبول اللاإرادي ينتشر بينهم حتى سن الشباب. وكيف يغيب عن بالنا أن الطفل يظل حتى تصل سنه إلى عامين أو أكثر وهو يطلب ألا يشاركه في أمه أحد، حتى وإن كان أخاً له فهو يغار منه فما بالك بأطفال متعددين تقوم امرأة ليست أمهم برعايتهم؟ ولا يغني عن حنان الأم حنان مائة مربية؛ فليس للمربيات جميعاً قلب الأم التي ولدت الطفل، فالحنانُ الذي تعطيه الأم ليس حناناً شكلياً ولا وظيفياً، ولكنه طبيعة حياة خلقها الله لتعطي العطاء الصحيح، لذلك لابد من إعطاء الطفل فترة يشعر فيها بأن أمه التي ولدته له وحده، ولا يشاركه فيها أحد حتى لو كان أخا له، وتمر عليه فترة بعد أن يخرج من مهد الطفولة الأولى إلى الشارع ليجد حركة الحياة، ويجد القائمين على حركة الحياة هم الرجال وآباء أمثاله من الأطفال فيجب بعد ذلك أن ينسب إلى أب له كيان معروف في المجتمع الخارجي. فمن مقومات تكوين الطفل أن يشعر أن له أمّاً لا يشاركه فيها أحد، وأن له أباً لا يشاركه فيه أحد. وإن شاركه فيهما أحد فهم إخوته ويضمهم ويشملهم جميعا حنان الأم ورعاية الأب. لقد اعترف أهل العلم بتربية الأطفال أن احتياج الطفل لأمه هو احتياج هام وأساسي للتربية لمدة عامين وبضعة من الشهور، والحق تبارك وتعالى حين أنزل على رسوله قبل أربعة عشر قرناً من الآن؛ القول الحكيم الصادق بين هذه الحقيقة واضحة في أجلى صورها: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين} [الأحقاف: 15] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 964 إن الأم هي الحاضنة الطبيعية للطفل كما أرادها الحق. إذن، فالحق يريد أن يحمي اللبنة الأولى في تكوين المجتمع وهي الأسرة في البناء العَقَدي من أن تتأثر بالشرك، ويريد أن يحفظ للأسرة كياناً سليماً. ويعالج الحق بعد ذلك قضية التواصل مع المرأة أثناء فترة الحيض فيأتي التشريع ليقنن هذه المسألة لأن الإسلام جاء وفي الجو الاجتماعي تياران: تيار يرى أن الحائض هي امرأة تعاني من قذارة، لذلك لا يمكن للزوج أن يأكل معها أو يسكن معها أو يعاشرها أو يعيش معها في بيت واحد وكذلك أبناؤه. وتيار آخر يرى المرأة في فترة الحيض امرأة عادية لا فرق بينها وبين كونها غير حائض أي تباشر حياتها الزوجية مع زوجها دون تحوط أو تحفظ. كان الحال إذن متأرجحا بين الإفراط والتفريط، فجاء الإسلام ليضع حداً لهذه المسألة فيقول الحق سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 965 حين تقرأ {هُوَ أَذًى} فقد أخذت الحكم ممن يُؤمنُ على الأحكام، ولا تناقش المسألة، مهما قال الطب من تفسيرات وتعليلات وأسباب نقل له: لا، الذي خلق قال: {هُوَ أَذًى} . والمحيض يطلق على الدم، ويراد به أيضاً مكان الحيض، ويراد به زمان الحيض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 965 وقوله تعالى عن المحيض إنه أذى يهيئ الذهن لأن يتلقى حكما في هذا الأذى، وبذلك يستعد الذهن للخطر الذي سيأتي به الحكم. وقد جاء الحكم بالحظر والمنع بعد أن سبقت حيثيته. إن الحق سبحانه وتعالى وهو الخالق أراد أن تكون عملية الحيض في المرأة عملية كيماوية ضرورية لحياتها وحياة الإنجاب. وأمر الرجال أن يعتزلوا النساء وهن حوائض؛ لأن المحيض أذى لهم. لكن هل دم الحيض أذى للرجال أو للنساء؟ إنه أذى للرجال والنساء معا؛ لأن الآية أطلقت الأذى، ولم تحدد من المقصود به. والذي يدل على ذلك أن الحيض يعطي قذارة للرجل في مكان حساس هو موضوع الإنزال عنده، فإذا وصلت إليه الميكروبات تصيبه بأمراض خطيرة. والذي يحدث أن الحق قد خلق رحم المرأة وفي مبيضيها عدد محدد معروف له وحده سبحانه وتعالى من البويضات، وعندما يفرز أحد المبيضين البويضة فقد لا يتم تلقيح البويضة، فإن بطانة الرحم المكون من أنسجة دموية تقل فيها نسبة الهرمونات التي كانت تثبت بطانة الرحم، وعندما تقل نسبة الهرمونات يحدث الحيض. والحيض هو دم يحتوي على أنسجة غير حية، وتصبح منطقة المهبل والرحم في حالة تهيج، لأن منطقة المهبل والرحم حساسة جدا لنمو الميكروبات المسببة للالتهابات سواء للمرأة، أو للرجل إن جامع زوجته في فترة الحيض. والحيض يصيب المرأة بأذى في قوتها وجسدها؛ بدليل أن الله رخص لها ألاّ تصوم وألاّ تصلي إذن فالمسألة منهكة ومتعبة لها، فلا يجوز أن يرهقها الرجل بأكثر مما هي عليه. إذن فقوله تعالى: {هُوَ أَذًى} تعميم بأن الأذى يصيب الرجل والمرأة. وبعد ذلك بين الحق أن كلمة «أذى» حيثية تتطلب حكما يرد، إما بالإباحة وإما بالحظر، وما دام هو أذى فلابد أن يكون حظراً. يقول عَزَّ وَجَلَّ: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} والذي يقول: إن المحيض هو مكان الحيض يبني قوله بأن المحرم هو المباشرة الجنسية، لكن ما فوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 966 السرة وما فوق الملابس فهو مباح، فقوله الحق: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} أي لا تأتوهن في المكان الذي يأتي منه الأذى وهو دم الحيض. {حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} . و «يطهرن» من الطهور مصدر طهر يطهر، وعندما نتأمل قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} نجد أنه لم يقل: «فإذا طهرن» ، فما الفرق بين «طهر» و «تطهر» ؟ إنّ «يطهرن» معناها امتنع عنهن الحيض، و «تطهرن» يعني اغتسلن من الحيض؛ ولذلك نشأ خلاف بين العلماء، هل بمجرد انتهاء مدة الحيض وانقطاع الدم يمكن أن يباشر الرجل زوجته، أم لابد من الانتظار حتى تتطهر المرأة بالاغتسال؟ . وخروجا من الخلاف نقول: إن قوله الحق: «تطهرن» يعني اغتسلن فلا مباشرة قبل الاغتسال. ومن عجائب ألفاظ القرآن أن الكلمات تؤثر في استنباط الحكم، ومثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 77 - 79] ما المقصود إذن؟ هل المقصود أن القرآن لا يمسكه إلا الملائكة الذين طهرهم الله من الخبث، أو أن للبشر أيضا حق الإمساك بالمصحف لأنهم يتطهرون؟ بعض العلماء قال: إن المسألة لابد أن ندخلها في عموم الطهارة، فيكون معنى {إِلاَّ المطهرون} أي الذين طهرهم من شرع لهم التطهر؛ ولذلك فالمسلم حين يغتسل أو يتوضأ يكون قد حدث له أمران: التطهر والطهر. فالتطهر بالفعل هو الوضوء أو الاغتسال، والطهر بتشريع الله، فكما أن الله طهر الملائكة أصلا فقد طهرنا معشر الإنس تشريعا، وبذلك نفهم الآية على إطلاقها ونرفع الخلاف. وقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {حتى يَطْهُرْنَ} أي حتى يأذن الله لهن بالطهر، ثم يغتسلن استجابة لتشريع الله لهن بالتطهر. {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} يعني في الأماكن الحلال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 967 {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} وأراد الحق تبارك وتعالى أن يدخل عليك أنسا، فكما أنه طلب منك أن تتطهر ماديا فهو سبحانه قبل أيضاً منك أن تتطهر معنويا بالتوبة، لذلك جاء بالأمر حسيا ومعنويا. وبعد ذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بحكم جديد، هذا الحكم ينهي إشكالا أثاره اليهود. وقد كان اليهود يثيرون أن الرجل إذا أتى امرأته من خلف ولو في قُبلها بضم القاف جاء الولد أحول. «القُبل» هو مكان الإتيان، وليس معناه الإتيان في الدبر والعياذ بالله كما كان يفعل قوم لوط. ولّما كان هذا الإشكال الذي أثاره اليهود لا أساس له من الصحة فقد أراد الحق أن يرد على هذه المسألة فقال: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ واتقوا الله ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 968 إن الحق سبحانه وتعالى يفسح المجال للتمتع للرجل والمرأة على أي وجه من الأوجه شريطة أن يتم الإتيان في محل الإنبات. وقد جاء الحق بكلمة {حَرْثٌ} هنا ليوضح أن الحرث يكون في مكان الإنبات. {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} وما هو الحرث؟ الحرث مكان استنبات النبات، وقد قال تعالى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} [البقرة: 205] فأتوا المرأة في مكان الزرع، زرع الولد، أما المكان الذي لا ينبت منه الولد فلا تقربوه. وبعض الناس فهموا خطأ أن قوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} معناه إتيان المرأة في أي مكان، وذلك خطأ؛ لأن قوله: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} يعني محل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 968 استنبات الزرع، والزرع بالنسبة للمرأة والرجل هو الولد، فأتها في المكان الذي ينجب الولد على أي جهة شئت. ويتابع الحق: {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي إياك أن تأخذ المسألة على أنها استمتاع جنسي فحسب، إنما يريد الحق سبحانه وتعالى بهذه اللذة الجنسية أن يحمي متاعب ما ينشأ من هذه اللذة؛ لأن الذرية التي ستأتي من أثر اللقاء الجنسي سيكون لها متاعب وتكاليف، فلو لم يربطها الله سبحانه وتعالى بهذه اللذة لزهد الناس في الجماع. ومن هنا يربط الحق سبحانه وتعالى بين كدح الآباء وشقائهم في تربية أولادهم بلذة الشهوة الجنسية حتى يضمن بقاء النوع الإنساني. ومع هذا يحذرنا الحق أن نعتبر هذه اللذة الجنسية هي الأصل في إتيان النساء فقال: {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} ، يعني انظروا جيداً إلى هذه المسألة على ألا تكون هي الغاية، بل هي وسيلة، فلا تقلبوا الوسيلة إلى الغاية، {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي ادخروا لأنفسكم شيئاً ينفعكم في الأيام المقبلة. إذن فالأصل في العملية الجنسية الإنجاب. {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي لا تأخذوا المتاع اللحظي العاجل على أنه هو الغاية بل خذوه لما هو آت. وكيف نقدم لأنفسنا أو ماذا نفعل؟ حتى لا نشقى بمَنْ يأتي، وعليك أن تتبين هذه العملية فقدم لنفسك شيئاً يريحك، وافعل ما علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ساعة تأتي هذه النعمة وتقترب من زوجتك لابد أن تسمي الله ويقول: «اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني» ، وعندما يأتي المسلم أهله وينشأ وليده فلن يكون للشيطان عليه دخل. وقال بعض العلماء: لا يمكن أن يؤثر فيه سحر، لماذا كل ذلك؟ . لأنك ساعة استنبته أي زرعته، ذكرت المُنْبِتَ وهو الله عَزَّ وَجَلَّ. وما دمت ذكرت المنبت الخالق فقد جعلت لابنك حصانة أبدية. وعلى عكس ذلك ينشأ الطفل الذي ينسى والده الله عندما يباشر أهله فيقع أولاده فريسة للشياطين. {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي قدموا لها ما يريحكم وما يطيل أمد حياتكم وأعمالكم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 969 الحياة؛ لأنك عندما تقبل على المسألة بنية إنجاب الولد، وتذكر الله وتستعيذ من الشيطان فينعم عليك الخالق بالولد الصالح، هذا الولد يدعو لك، ويعلم أولاده أن يدعوا لك، وأولاده يدعون لك، وتظل المسألة مسلسلة فلا ينقطع عملك إلى أن تقوم الساعة، وهنا تكون قدمت لنفسك أفضل ما يكون التقديم. وهب أنك رُزقت المولود ثم مات ففجعت به واسترجعت واحتسبته عند ربك، إنك تكون قد قدمته، ليغلق عليك بابا من أبواب النيران. إذن فكل أمر لابد أن تذكر فيه {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} . ويقول الحق: {واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ المؤمنين} معنى {اتقوا الله} أي إياكم أن تغضبوا ربكم في أي عمل من هذه الأعمال، وكن أيها المسلم في هذه التقوى على يقين من أنك ملاقي الله، ولا تشك في هذا اللقاء أبداً. وما دمت ستتقي الله وتكون على يقين أنك تلاقيه لم يبقى لك إلا أن تُبَشَّر بالجنة. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 970 وفي الآية ثلاثة أشياء: أولا: أن تبروا، أي أن تفعلوا البر. والبر قد يكرهه الإنسان لأنه شاق على النفس. ثانيا: أن تتقوا، أي أن تتجنبوا المعاصي، والتقوى تكون أيضا شاقة في بعض الأحيان. ثالثا: أن تصلحوا بين الناس، أي أن تصلحوا ذات البيْن، وقد يكون في الإصلاح بين الناس مئونة وذلك بعد أن تمتنعوا أن تجعلوا الله عرضة للقسم. وحين يقول الحق: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} فالعرضة هي الحجاب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 970 وهي ما يعترض بين شيئين، {عُرْضَةً} هي أيضا الأمر الصالح لكل شيء، فيقال: «فلان عرضة لكل المهمات» . أي صالح. والعرضة كما عرفنا هي ما اعترض بين شيئين، كأن يضع الإنسان يده على عينيه فلا يرى الضوء، هنا تكون اليد «عُرْضة» بين عيني الإنسان والشمس إن الإنسان يحجب بذلك عن نفسه الضوء. كأن الحق يقول: «أنا لا أريد أن تجعلوا اليمين عرضة بين الإنسان وفعل الخير والبر والتقوى» . فعندما يطلب منك واحد أن تبر من أساء إليك فقد تقول: «أنا أقسمت ألا أبر هذا الإنسان» إنك بذلك جعلت اليمين بالله مانعاً بينك وبين البر. ويريد الحق بذلك القول أن ينبهنا إلى أن القسم به لا يجوز في منع البر أو صلة الرحم أو إصلاح بين الناس. . ومن حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليفعل الخير وليكفر عن يمينه لماذا؟ لأن المؤمن عندما يحلف على ألا يفعل خيراً فهو يضع الله مانعاً بينه وبين الخير، وبذلك يكون قد ناقض المؤمن نفسه بأن جعل المانع هو الحلف بالله. إن الله هو صاحب الأمر بالبر والتقوى والإصلاح بين الناس. لذلك فالحق يقول: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} . أي أن الحق يريد أن يحمي عمليات البر والتقوى والإصلاح بين الناس. إنك إن حلفت أيها المؤمن ألا تفعل هذه العمليات، فالحق يريد لك أن تحنث في هذا القسم وأن تفعل البر والتقوى والإصلاح بين الناس حتى لا تتناقض مع تشريع الله. ونحن عندما نجد المجتمع وقد صنع فيه كل فرد البر، واتقى فيه كل إنسان المعاصي، ورأى فيه كل إنسان نزاعاً بين جماعتين فأصلح هذا النزاع، أليس هذا دخولا في السلم كافة. إذن فالحق يريد أن يستبقى للناس ينابيع الخير وألا يسدوها أمام أنفسهم. إن الحق هو الآمر بألا يجعل المؤمن اليمين مانعاً بين الإنسان والبر، أو بين الإنسان والتقوى، أو بين الإنسان والإصلاح بين الناس. ويتساهل الإسلام في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 971 مسألة التراجع والحنث في البر فيقول السلف الصالح: «لا حنث خير من البر» . إذن فالمجتمع الذي فيه صنع البر، وتقوى المعاصي، والصلح بين المتخاصمين يدخل في إطار: {ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} [البقرة: 208] والإنسان قد يتعلل بأي سبب حتى يبتعد عن البر أو التقوى أو الإصلاح بين الناس، بل يعمل شيئاً يريحه ويخلع عليه أنه ممتثل لأمر الله، ولنضرب لذلك مثلا. سيدنا أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بعد أن جاء مسطح بن أثاثة واشترك مع من خاضوا في الإفك الذي اتهموا فيه أم المؤمنين السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. وخلاصة الأمر أن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها زوجة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. كانت قد خرجت مع الرسول الكريم في غزوة «بني المصطلق» وكان الأمر بالحجاب قد نزل لذلك خرجت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها في هودج. وقام الرسول بغزوته وحان وقت العودة. وفقدت عائشة عقداً لها. وكانت رَضِيَ اللَّهُ عَنْها خفيفة الوزن؛ لأن الطعام في تلك الأيام كان قليلا. راحت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تبحث عن عقدها المفقود، وعندما حملوا هودج عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها لم يفطنوا أن عائشة ليست به. ووجدت عائشة عقدها المفقود، وكان جيش رسول الله قد ابتعد عنها. وظنت أنهم سيفتقدونها فيرجعون إليها. وكان خلف الجيش صفوان بن المعطل السلمي وعرفته عائشة وأناخ راحلته وعادت عائشة إلى المدينة. ودار حديث الإفك بوساطة عبد الله بن أبَيّ بن سلول رأس النفاق. وكان الغم والحزن يصيبان السيدة عائشة طوال مدة كبيرة وأوضح الحق كذب هذا الحديث. وذاع ما ذاع عن أم المؤمنين عائشة وهي زوجة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن تكون بنت أبي بكر. وأبو بكر صديِّق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 972 ولو أن غير عائشة حدث لها ما حدث لعائشة لكان موقف أبي بكر هو موقفه عندما جاء قريبه مسطح بن أثاثة واشترك في حديث الإفك مع من اشتركوا ثم يبرئ الله عائشة وينزل القول الذي يثبت براءة أم المؤمنين في حديث الإفك، وحين يبرئها الله يأتي أبو بكر وكان ينفق على مسطح فيقطع عنه النفقة ويقول: «والله لا أنفق عليه أبداً» لماذا؟ لأنه اشترك في حديث الإفك. والمسألة في ظاهرها ورع. لذلك سيمتنع عن النفقة على مسطح بن أثاثة لأن مسطحاً خاض في الإفك. لكن انظر إلى مقاييس الكمال والجمال والفضائل عند الله فقد أوضح الحق أن هذا طريق وذاك طريق آخر، فيقول سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22] فإذا كنت تحب أن يغفر الله لك، أفلا تغفر لمن فعل معك سيئة؟ . وما دمت تريد أن يغفر الله لك فاغفر للناس خطأهم. قالها الحق عَزَّ وَجَلَّ لأبي بكر؛ لأنه وقف موقفاً من رجل خاض في الإفك مع من خاض ومع ذلك يبلغه أن ذلك لا يصح. قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ} لا تقل: إني حلفت بالله على ألا افعل ذلك الخير، لا افعله فالله يرضى لك أن تحنث وتكفر عن يمينك. {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . إن الله عَزَّ وَجَلَّ يبلغنا: أنا لا أريد أن تجعلوا الحلف بي عرضة، يعني حاجزاً أو مانعاً عن فعل الخير. مثلاً لو طُلب منك أن تبر شخصاً أساء إليك فلا تقل: حلفت ألا أبر به لأنه لا يستحق، عندها تكون قد جعلت اليمين بالله مانعاً للبر. وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول لك: لا، أنا متجاوز عن اليمين بي؛ إن حلفت ألا تبر أو لا تتقي أو لا تصل رحماً أو لا تصلح بين اثنيْن، أنا تسامحت في اليمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 973 والحديث يقول: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» وهكذا يحمي الله سبحانه وتعالى فعل البر ويحمي التقوى ويحمي عمليات الإصلاح بين الناس، ولو كنت قد حلفت بالله ألا تفعلها، لماذا؟ لأنك عندما تحلف بالله ألا تفعل، وتجعل الله سبحانه وتعالى هو المانع، فقد ناقضت التشريع نفسه؛ لأن الله هو الآمر بالبر والإصلاح والتقوى، فلا تجعل يمين البشر مانعاً من تنفيذ منهج رب البشر. {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس} إن حلفت على ترك واجب وجب أن ترجع في اليمين. احنث فيه وكفر عنه، والحكم نفسه يسري على الذي يمنع ممتلكاته كالدابة أو الماكينة أو السيارة من انتفاع الناس بها بحجة أنه حلف ألا يعيرها لأحد، وذلك أمر يحدث كثيراً في الأرياف. ويختم الحق سبحانه وتعالى الآية بالقول الكريم: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . إنه سبحانه سميع باليمين الذي حلفته، وعليم بنيتك إن كانت خيراً أو شراً فلا تتخذ اليمين حجة لأن تمنع البر والتقوى والإصلاح. والحق سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن اليمين يعطينا أصلاً من أصول اعتبار اليمين هل هو يمين حقا أو لغو، ومن رحمة الله أنه سبحانه وتعالى لم يأخذ إلا اليمين الذي عقد القلب عليه، أي الذي يقصد صاحبه ألا يحنث فيه، أما لغو اليمين فقد تجاوز الله عنه. مثلاً، الأيمان الدارجة على ألسنة الناس كقولهم: «والله لو لم تفعل كذا لفعلت معك كذا» ، «والله سأزورك» ، «والله ما كان قصدي» أو الحلف بناءً على الظن؛ كأن تحلف بقولك: «والله حدث هذا» وأنت غير متأكد من تمام حدوثه، لكن ليس في مقصدك الكذب. أما اليمين الغموس فهي الحلف والقسم الذي تعرف كذبه وتحلف بعكس ما تعرف، كأن تكون قد شاهدت واحداً يسرق أو يقتل وتحلف بالله أنه لم يسرق أو لم يقتل. من أجل ذلك كله يحسم الله سبحانه وتعالى هذه القضية بقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 974 {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 975 وكان من المناسب أن تأتي هذه الآية كل ما سبق لأنه سبحانه أوضح لنا اليمين التي لا تقع وكأنه قال لنا: ارجعوا فيها واحنثوا وسأقبل رجوعكم في مقابل أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، فإذا كان قد قبل تراجعنا عن هذا اليمين فلأن له مقابلا في فعل الخير. وقوله الحق: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} هو المعنى نفسه لقوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} [المائدة: 89] أي الشيء المعقود في النفس والذي رسخ داخل نفسك، لكن الشيء الذي يمر على اللسان فلا يؤاخذنا الله به. {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} والأيمان جمع يمين، واليمين: هو الحلف أو القسم، وسمى يميناً؛ لأنهم كانوا قديماً إذا تحالفوا صرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه، وذلك لأن اليمين هو الجارحة الفاعلة. وبالمناسبة، فالجارحة الفاعلة إياك أن تظن أنها تفعل بالرياضة والتدريب، وإنما تفعل بالخلق أي كما خلقها الله، فهي مجبرة على الفعل حسب خلقتها. ولذلك عندما تجد إنسانا ويده اليمنى لا تعمل ويزاول أعماله باليسرى فلا تحاول أن تجعله يستخدم اليمنى بدلا من اليسرى؛ لأن محاولتك عبث لن يجدي؛ لأن السبب في أنه يستخدم اليسرى بدلا من اليمنى سبب خلقي، فالجهاز الخاص بالتحكم في الحركة في المخ هو الذي يقر هذا الأمر: إن كان مخلوقا في النصف الأيمن من المخ كانت اليد اليمنى هي الفاعلة، وإن كان مخلوقا في النصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 975 الأيسر من المخ فاليد اليسرى هي التي تعمل. لذلك تجد الذي يكتب بيده اليسرى يتقن الكتابة بها أفضل من الذي يكتب باليمنى في بعض الأحيان، ومن هنا نقول: إنه من الخطأ أن تحاول تغيير سلوك الذي يعمل بيده اليسرى بدلاً من اليمنى؛ لأن ذلك عبث لن يصل لنتيجة. وأحيانا تجد الجهاز المتحكم في حركة اليدين موجوداً في منتصف ووسط المخ فيرسل حركات متوازنة لليد اليمنى واليد اليسرى معاً، ولذلك تجد شخصاً يكتب بيده اليمنى واليسرى معاً بالسرعة نفسها وبالإتقان نفسه، ويؤدي بها الأعمال بتلقائية عادية، ولله في خلقه شئون، فهو يعطينا الدليل على أنه لا تحكمه قواعد، فهو قادر على أن يجعل اليد اليمنى تعمل، وقادر على أن يجعل اليد اليسرى تعمل، أو يجعلهما يعملان معاً بالقوة نفسها، أو يجعل كلتا اليدين غير قابلتين للعمل. إنها ليست عملية آلية خارجة عن إرادة لله، بل كل شيء خاضع لإرادته سبحانه. {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} المقصود به الحلف، والحلف من معانيه التقوية، وهي مأخوذة من الحِلْف، وهو أن يتحالف الناس على عمل ما. ونحن عندما نتحالف على عمل فنحن نقسِّم العمل بيننا، وعندما نفعل ذلك يسهل علينا جميعاً أن نفعله. {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} والكسب عملية إرادية. لأنك ساعة تقسم بالله دون أن تقصد فهو لا يؤاخذك، وهذا دليل على أن الله واسع حليم. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 976 يؤلون: أي يحلفون ألا يقربوا أزواجهن في العملية المخصوصة، ويريد الرجل أحيانا أن يؤدب زوجته فيهجرها في الفراش بلا يمين، وبدون أن يحلف. وبعض الناس لا يستطيعون أن يمتنعوا عن نسائهم من تلقاء أنفسهم، فيحلفون ألا يقربوهن حتى يكون اليمين مانعا ومشجعا له على ذلك. وكان هذا الأمر مألوفا عند العرب قبل الإسلام. كان الرجل يمتنع عن معاشرة زوجته في الفراش أي فترة من الزمن يريدها، وبعضهم كان يحلف ألا يقرب زوجته زمنا محدداً، وقبل أن ينتهي هذا الزمن يحلف يمينا آخر ليزيد المدة فترة أخرى، وهكذا حتى أصبحت المسألة عملية إذلال للمرأة، وإعضالا لها، وامتناعا عن أداء حقها في المعاشرة الزوجية. وكان ذلك إهداراً لحق الزوجة في الاستمتاع بزوجها. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن ينهي هذه المسألة، وهو سبحانه لا ينهيها لحساب طرف على طرف، وإنما بعدل الخالق الحكيم الرحيم بعباده. وكان من الممكن أن يجرمها ويحرمها نهائيا ويمنع الناس منها. لكنه سبحانه عليم بخفايا وطبيعة النفوس البشرية، فقد ترى امرأة أن تستغل إقبال الرجل عليها، إما لجمال فيها أو لتوقد شهوة الرجل، فتحاول أن تستذله؛ لذلك أعطى الله للرجل الحق في أن يمتنع عن زوجته أربعة أشهر، أما أكثر من ذلك فالمرأة لا تطيق أن يمتنع زوجها عنها. {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والإسلام يريد أن يبني الحياة الزوجية على أساس واقعي لا على أفكار مجنحة ومجحفة لا تثبت أمام الواقع، فهو يعترف بالميول فيعليها ولكن لا يهدمها، ويعترف بالغرائز فلا يكتمها ولكن يضبطها. وهناك فرق بين الضبط والكبت؛ فإن الكبت يترك الفرصة للداء ليستشري خفيا حتى يتفجر في نوازع النفس الإنسانية تفجرا على غير ميعاد وبدون احتياط، لكن الانضباط يعترف بالغريزة ويعترف بالميول، ويحاول فقط أن يهديها ولا يهدمها. ويخضع البشر في كل أعمالهم لهذه النظرية حتى في صناعتهم، فالذين يصنعون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 977 المراجل البخارية مثلا يجعلون في تلك المراجل التي يمكن أن يضغط فيها الغاز ضغطا فيفجرها يجعلون لها متنفسا حتى يمكن أن يخفف الضغط الزائد إن وجُد، وقد يصممون داخلها نظاما آليا لا يتدخل فيه العقل بل تحكم الآلة نفسها. والحق سبحانه وتعالى وضع نظاما واضحا في خلقه الذين خلقهم، وشرع لهم تكوين الأسرة على أساس سليم. وبنى الإسلام هذا النظام أولا على سلامة العقيدة ونصاعتها ووحدتها حتى لا تتوزع المؤثرات في مكونات الأسرة، لذلك منع المسلم من أن يتزوج من مشركة، وحرم على المسلمة أن تتزوج مشركا. وبعد ذلك علمنا معنى الالتقاء الغريزي بين الزوجين. ولقد أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يطلق العنان للغريزة في كل زمان التواجد الزوجي، فجعل المحيض فترة يحرم فيها الجماع وقال: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} [البقرة: 222] وهكذا يضبط الحق العلاقة الجنسية بين الزوجين ضبطا سليما نظيفا. الحق سبحانه وتعالى يعلم أن النفس البشرية ذات أغيار؛ لأن الإنسان حادث له بداية ونهاية، وكل ما يكون حادثا لابد أن يطرأ عليه تغيير. فإذا ما التقى الرجل بالمرأة. كان لابد من أن يتحدد هذا اللقاء على ضوء من منهج الله؛ لأن اللقاء إن تم على منهج البشر وعواطفهم كان المصير إلى الفشل؛ لأن مناهج البشر متغيرة وموقوتة، ولذلك يجب أن يكون لقاء الرجل بالمرأة على ضوء معايير الله. فالله يعلم أن للنفس نوازع ومتغيرات، ومن الجائز جدا أن يحدث خلاف بين الزوجين، فيجعل الله سبحانه وتعالى متنفسا يتنفس فيه الزوج للتأديب الذي ينشد التهذيب والإبقاء، فشرع للرجل إن رأى في امرأته إذلالا له بجمالها وبحسنها، وقد يكون رجل له مزاج خاص ورغبة جامحة في هذه العملية؛ لذلك شرع الله له فترة من الفترات أن يحلف ألا يقرب امرأته، ولم يجعل الله تلك الفترة مطلقة، إنما قيدها بالحلف حتى يكون الأمر مضبوطا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 978 فالحق يريد العلاج لا القسوة. فلو لم يكن الرجل مضبوطا بيمين فقد يُغير رأيه بأن يأتي زوجته، ولذلك قال الحق: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أي إنّ لك أيها الزوج أن تحلف ألا تقرب زوجتك أربعة أشهر لكن إن زادت المدة على أربعة أشهر فهي لن تكون تأديبا بل إضرارا. والخالق عَزَّ وَجَلَّ يريد أن يؤدب لا أن يضر. فإذا ما تجاوزت المدة يكون الزوج متعديا ولا حق له. إن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الميول والعواطف والغرائز ويقنن لها التقنين السليم. إنه عَزَّ وَجَلَّ يترك لنا ما يدلنا على ذلك، ففي خلافة عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، يمر عمر في جوف الليل فيسمع امرأة تقول الأبيات المشهورة: تطاول هذه الليل وأسود جانبه ... وأرقني إلا خليل ألاعبه فوالله لولا الله تخشى عواقبه ... لزلزل من هذا السرير جوانبه معنى ذلك أن المرأة تعاني من الوحشة إلى الرجل، وتوشك المعاناة أن تدفعها إلى سلوك غير قويم، لكن تقوى الله هي التي تمنعها من الانحراف. ومن الجائز أن نتساءل كيف سمع عمر هذه المرأة وهو يسير في الشارع، وأقول: إن المرأة تأتي عندها هذه الأحاسيس تترنم في سكون الليل، وعندما يسكن الليل لا تكون فيه ضجة فيسهل سماع ما يقال داخل البيوت، ألم يسمع عمر كلام المرأة التي تجادل ابنتها في غش اللبن؟ ولما سمع الفاروق كلام هذه المرأة التي تعاني من وحشة إلى الرجل، ذهب بفطرته السليمة وأَلمعيَّته المشرقة إلى ابنته حفصة أم المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وقال لها: كم تصبر المرأة على بعد الرجل، فقالت: من ستة شهور إلى أربعة أشهر. فسن عمر سنةً أصبحت دستورا فيما بعد، وهي ألا يبعد جندي من جنود المسلمين عن أهله أربعة أشهر. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} سبق حادثة عمر، ثم ترك الحق لواقع الحياة أن يبين لنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 979 صدق ما قننه لنا، ويأتي عمر ليستنبط الحكم من واقع الحياة. {فَإِنْ فَآءُو} أي فإن رجع الرجل، وأراد أن يقترب من زوجته قبل مضي الأربعة أشهر؛ فللرجل أن يكفر عن يمينه وتنتهي المسألة. ولكن إذا مرت الشهور الأربعة وتجاوزت المقاطعة مدتها يؤمر الزوج بالرجوع عن اليمين أو بالطلاق، فإن امتنع الزوج طلقها الحاكم، وقال بعض الفقهاء: إنّ مضي مدة الأربعة أشهر دون أن يرجع ويفئ يجعلها مطلقة طلقة واحدة بائنة. ولذلك يقول الحق: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 980 واختلف العلماء؛ هل تطلق الزوجة طلقة بائنة أو طلقة رجعية؟ ومعنى «طلاق رجعي» مأخوذ من اللفظ نفسه، أي أن الزوج له الحق أن يراجع امرأته دون إذن منها أو رضاً. أما الطلاق البائن فإنه لا عودة إلا إذا عَقَد عليها عقدا جديداً بمهر جديد. والطلقة في الإيلاء بينونة صغرى وهي التي تحتاج إلى عقد ومهر جديدين، هذا إذا لم يسبق طلاقان. والبينونة الكبرى وهي التي توصف بأنها ذات الثلاث، فالزوجة فيها تطلق ثلاث مرات، فلا يصح أن يعيدها الزوج إلا إذا تزوجت زوجا غيره، وعاشت معه حياة زوجية كاملة، ثم طلقها لأي سبب من الأسباب، وبعد ذلك يحق لزوجها القديم أن يراجعها ويعيدها إليه بعقد ومهر جديدين، لكن بعد أن يكتوي بغيرة زواجها من رجل آخر. والحق سبحانه وتعالى يعرض هذه المسألة فيقول: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 980 فالإسلام دين واقعي يعطي الزوج المسلم أشياء تنفس عن غضبه، وأشياء تمكنه من أن يؤدب زوجته، ولكن الإسلام لا يحب أن يتمادى الرجل في التأديب. وإذا تمادى وتجاوز الأربعة الأشهر نقول له: لابد أن يوجد حد فاصل. وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه وتعالى في التكليف إلى أن يتكلم عن الطلاق وقد تكلم من قبل عن الزواج والإيلاء حتى وصل الطلاق. وعندما نتأمل موقف الإسلام من الطلاق نجده يتكلم كلاماً واقعياً يناسب الميول الإنسانية؛ لأننا ما دمنا أغياراً فمن الممكن أن يطرأ على حياة الزوجين أحداث أو مشاعر لم تكن في الحسبان ساعة الزواج. ويجوز أن يكون الإنسان في ساعة الزواج مدفوعا بحرارة ملكة واحدة، وبعد ذلك عندما يجئ واقع الحياة تتملكه ملكات متعددة، وقد تسيطر عليه المسألة الجنسية، وتدفعه للزواج، وفي سبيل إرضاء شهوته الجنسية قد يهمل بقية ملكات نفسه، فإذا ما دخل واقع الزواج وهدأت شِرّة وحرارة غرائز الإنسان تتنبه نفس الإنسان إلى مقاييس أخرى يريد أن يراها في زوجته فلا يجدها ويتساءل ما الذي أخفاها عنه؟ أخفاها سعار وعرامة النظرة الجنسية، فقد نظر للمرأة قبل الزواج من زاوية واحدة، ولم ينظر لباقي الجوانب. مثلا قد يجد الزوج أن أخلاق الزوجة تتنافر مع أخلاقه، وقد يجد تفكيرها وثقافتها تتنافر مع تفكيره وثقافته، وربما وجد عدم التوافق العاطفي بينه وبينها ولم يحدث تآلف نفسي بينهما، والعواطف كما نعلم ليس لها قوانين. فمن الجائز أن يكون الرجل غير قادر على الاكتفاء بوليمة جنسية واحدة، فهو لذلك لا يبني حياته على طهر، وإنما يريد من امرأته أن تكون طاهرة عفيفة في حياتها معه، بينما يعطي لنفسه الحرية في أن يعدد ولائمه الجنسية مع أكثر من امرأة، وربما يحدث العكس، وذلك أن يجد الرجل أنّ امرأة واحدة تكفيه، لكن المرأة تريد أكثر من رجل. وقد يكون الرجل طاهر الأسلوب في الحياة، وتكون زوجته راغبة في أن يأتيها بالمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 981 من أي طريق، فيختلفان. وقد تكون المرأة طاهرة الأسلوب في الحياة فلا ترضى أن يتكسب زوجها من مال حرام. من هنا يأتي الشقاق، إن الشقاق يأتي عندما يريد أحد الزوجين أن تكون حياتهما نظيفة طاهرة، مستقيمة، ولا يرى الآخر ذلك. مثل هذه الصورة موجودة في الواقع حولنا، فكم من بيوت تشقى عندما تختفي الوحدة الأسرية، وتختلف نظرة أحد الزوجين للأمور عن الآخر. وهذا هو سبب الشقاق الذي يحدث بين الزوجين عندما لا يكتفي أحد الزوجين بصاحبه. ولو اتفق رجل وامرأته على العفاف، والطهر، والخيرية لاستقامت أمور حياتهما. ولذلك يأتي الإسلام بتشريعاته السامية لتناسب كل ظروف الحياة فيقول الحق سبحانه: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 982 الآية كلها تتضمن أحكاماً تكليفية، والحكم التكليفي الأول هو: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} ولنا أن نلحظ أن الحكم لم يرد بصيغة الأمر ولكن جاء في صيغة الخبر، فقال: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} ، وحين يريد الحق سبحانه وتعالى حكماً لازماً لا يأتي له بصيغة الأمر الإنشائي، ولكن يأتي له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 982 بصيغة الخبر، هذا آكد وأوثق للأمر كيف؟ معنى ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يأمر فالأمر يصادف من المؤمنين به امتثالاً، ويُطبق الامتثال في كل الجزئيات حتى لا تشذ عنه حالة من الحالات فصار واقعا يُحكى وليس تكليفا يُطلب، وما دام قد أصبح الأمر واقعا يُحكي فكأن المسألة أصبحت تاريخا يُروى هو: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} . ويجوز أن نأخذ الآية على معنى آخر هو أن الله قد قال: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} فيكون كلاماً خبرياً. وقلنا إن الكلام الخبري يحتمل الصدق والكذب، إن الله قد قال ذلك فمن أراد أن يصدق كلام الله فلينفذ الحكم، ومن أراد أن يبارز الله بالتكذيب ولا يصدقه فلا ينفذ الحكم، ويرى في نفسه آية عدم التصديق وهي الخسران المبين، أليس ذلك أكثر إلزاما من غيره؟ ومثل ذلك قوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26] إن هذا وإن كان كلاما خبريا لكنه تشريع إنشائي يحتمل أن تطيع وأن تعصي ولكن الله يطلب منا أن تكون القضية هكذا {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ} يعني أن ربكم يريد أن تكون {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ} وأن تكون {الطيبات لِلطَّيِّبِينََ} وليس معنى ذلك أن الواقع لابد أن يكون كما جاء في الآية، إنما الواقع يكون كذلك لو نفذنا كلام الله وسيختلف إذا عصينا الله وتمردنا على شرعه. والمعنى نفسه في قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] أي اجعلوا من يدخل البيت الحرام آمناً. ويحتمل أن يعصي أحد الله فلا يجعل البيت الحرام آمناً. إذن فقوله الحق: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 983 حكم تكليفي يستحق النفاذ لمن يؤمن بالله، وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ} أي ينتظرن، واللفظ هنا يناسب المقام تماما، فالمتربصة هي المطلقة، ومعنى مطلقة أنها مزهود فيها، وتتربص انتهاء عدتها حتى ترد اعتبارها بصلاحيتها للزواج من زوج آخر. ولم ينته القول الكريم بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ} وإنما قال: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} مع أن المتربصة هي نفسها المطلقة؛ ذلك لأن النفس الواعية المكلفة والنفس الأمارة بالسوء تكونان في صراع على الوقت وهو {ثَلاَثَةَ قرواء} ، «وقروء» جمع «قرء» وهو إما الحيضة وإما الطهر الذي بين الحيضتين. وقوله الحق سبحانه وتعالى: {ثَلاَثَةَ قرواء} وما المقصود به؟ هل هو الحيضة أو الطهر؟ إن المقصود به الطهر، لأنه قال: «ثلاثة» بالتاء، ونحن نعرف أن التاء تأتي مع المذكر، ولا تأتي مع المؤنث، و «الحيضة» مؤنثة و «الطهر» مذكر، إذن، {ثَلاَثَةَ قرواء} هي ثلاثة أطهار متواليات. والعلة هي استبراء الرحم وإعطاء مهلة للزوجين في أن يراجعا نفسيهما، فربما بعد الطهر الأول أو الثاني يشتاق أحدهما للآخر، فتعود المسائل لما كانت عليه، لكن إذا مرت ثلاثة أطهار فلا أمل ولا رجاء في الرجوع. ثم يقول الحق بعد ذلك: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} وما معنى الخلق؟ الخلق هو إيجاد شيء كان معدوماً، وهذا الشيء الذي كان معدوما إما أن يكون حملاً وإما أن يكون حيضا، وللحامل عدة جاءت في قوله الحق. {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] أما المرأة الحائل وهي التي بدون حمل، فعدتها أن تحيض وتطهر ثلاث مرات وهناك حالة ثالثة هي: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 984 أي أن المرأة التي انقطعت عنها الدورة الشهرية فعدتها «ثلاثة أشهر» الحكم نفسه للصغيرة التي لم تحض بعد، أي عدتها ثلاثة أشهر. إذن فنظام العدة له حالات: إن كانت غير حامل فعدتها ثلاثة قروء أي ثلاثة أطهار إن كانت ممن يحضن إن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها. وإن لم تكن حاملا وقد بلغت سن اليأس ولم تعد تحيض، أو كانت صغيرة لم تصل لسن الحيض، هذه وتلك عدتها ثلاثة أشهر. وقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} يدل على أن المرأة لها شهادتها لنفسها في الأمر الذي يخصها ولا يطلع عليه سواها. وهي التي تقرر المسألة بنفسها، فتقول: أنا حامل أو لا، وعليها ألا تكتم ذلك، فقد يجوز أن تكون حاملا وبعد ذلك تكتم ما في بطنها حتى لا تنتظر طول مدة الحمل وتتزوج رجلاً آخر فينسب الولد لغير أبيه، فغالباً ما يستمر الحمل تسعة أشهر ولكن فيه استثناء، فهناك حمل مدته سبعة شهور، وأحيانا ستة شهور. وقد تتزوج المرأة المطلقة بعد ثلاثة شهور وتدعي أنها حامل من الزوج الجديد وأن حملها لم يستمر سوى سبعة أشهر أو ستة أشهر. وبعضنا يعرف قصة الحامل في ستة شهور، فقد جاءوا بامرأة لسيدنا عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لأنها ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقيم عليها حد الزنى، فتدخل الإمام علي ابن أبي طالب وقال: كيف تقيم عليها الحد لأنها ولدت لستة أشهر، ألم تقرأ قول الحق سبحانه وتعالى؟ قال عثمان: وماذا قال الحق في ذلك؟ فقرأ الإمام علي قول الله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أي أنها ترضع الوليد لمدة أربعة وعشرين شهراً، وفي آية أخرى قال الحق: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 985 فإذا أخذنا من الآية الأولى أربعة وعشرين شهراً وهي مدة الرضاع وطرحناها من الثلاثين شهراً التي تجمع بين الحمل والرضاع في الآية الثانية فهمنا أن الحمل قد يكون ستة أشهر. هنا قال سيدنا عثمان متعجبا: والله ما فطنت لهذا. إذن فحمل الستة الشهور أمر ممكن، ومن هنا نفهم الحكمة في قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} ، حتى لا تدعي المرأة أنها ليست حاملا وتتزوج رجلا آخر وتنسب إليه ولداً ليس من صلبه ويترتب على ذلك أكثر من إشكال، منها ألا يرث الولد من الأب الأول، وأن محارمه لم تعد محرمة عليه، فأخته من أبيه لم تعد أخته، وكذلك عماته وخالاته وتنقلب الموازين، هذا من جانب الأب الأصلي. أما من جانب الزوج الثاني فالطفل يكتسب حقوقا غير مشروعة له، سيرث منه، وتصبح محارم الرجل الثاني محارمه فيدخل عليهن بلا حق ويرى عوراتهن، وتحدث تداخلات غير مشروعة. إذن فقوله الحق: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} هو قول يريد به الحق أن تقوم الحياة على طهر وعلى شرف وعلى عفاف، ولا يعتدي أحد على حقوق الآخر. هذا بالنسبة للحمل. فكيف يكون الحال بالنسبة للحيض؟ أيضا لا يحل لها أن تكتم حيضها لتطيل زمن العدة مع زوجها. ويقول الحق: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} . فما علاقة الإيمان هنا بالحكم الشرعي؟ إنها علاقة وثيقة؛ لأن الحمل أو الحيض مسائل خفيفة لا يحكمها قانون ظاهر، إنما الذي يحكمها هو عملية الإيمان، ولذلك قيل: «الغيب لا يحرسه إلا غيب» وما دام الشيء غائباً فلن يحرسه إلا الغيب الأعلى وهو الله تعالى. ويتابع الحق: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} والبعل هو الزوج، وهو الرب والسيد والمالك، وفي أثناء فترة التربص يكون الزوج أحق برد زوجته إلى عصمته، وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} هل يعني ذلك أن هناك أناساً يمكن أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 986 يشاركوا الزوج في الرد؟ لأن الحق جاء بكلمة {أَحَقُّ} وفي ظاهرها تعطي الحق لغير الأزواج أن يراجعوا؟ لا، إنما المقصود هو أنه لا حق لأحد هنا إلا للزوج، فالرد خلال العدة من حق الزوج، فليس للزوجة أن تقول: لا، وليس لولي الزوجة أن يقول: لا. فالزوج إذا أراد مراجعة زوجته وأبت وامتنعت هي وجب إيثار وتقديم رغبته على رغبتها، وكان هو أحق منها، ولا ينظر إلى قولها، فإنه ليس لها في هذا الأمر حق فقد رضيت به أولاً. أما إذا انتهت العدة فالصورة تختلف، لابد من الولي، ولابد من عقد ومهر جديدين واشتراط موافقة الزوجة. {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً} هذا إن أرادوا إصلاحاً. والإرادة عمل غيبي، فكأنها تهديد للزوجين، إن التشريع يجيز لهما العودة، لكن إذا كان الزوج يريد أن يردها ليوقع بها الضرر لسبب في نفسه فالدين يقول له: لا، ليس لك ذلك. وإن كان القضاء يجيز له ردها، إلا أن الله يحرم عليه ذلك الظلم. إن من حق الزوج أن يرد زوجته رداً شرعياً للعفة من الإحصان ولغرض الزوجية لا لشيء آخر، أما غير ذلك كالإضرار بها والانتقام منها فلا يجيز له الدين ذلك. أما قضائياً فالقضاء يعطيه الحق في ردها ولا يستطيع أحد أن يقف أمامه مهما كانت الأسباب الكامنة في نفسه، لكن عليه أن يتحمل وزر ذلك العمل. ويتابع الحق: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف} أي أن للزوجة مثل ما للزوج، لكن ما الذي لهن وما الذي عليهن؟ المثلية هنا في الجنس، فكل منهما له حق على الآخر حسب طبيعته، الزوج يقدم للزوجة بعضاً من خدمات، والزوجة تقدم له خدمات مقابلة؛ لأن الحياة الزوجية مبنية على توزيع المسئوليات، إن الرجل عليه مسئوليات تقتضيها طبيعته كرجل، والمرأة عليها مسئوليات تحتمها طبيعتها كأنثى. والرجل مطالب بالكدح والسعي من أجل الإنفاق. والمرأة مطالبة بأن توفر للرجل البيت المناسب ليسكن إليها عندما يعود من مهمته في الحياة. ولذلك يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 987 وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] والسكن إلى شيء هو نقيض التحرك، ومعنى {لتسكنوا إِلَيْهَا} أي إنكم تتحركون من أجل الرزق طوال النهار ثم تعودون للراحة عند زوجاتكم، فالرجل عليه الحركة، والمرأة عليها أن تهيئ له حسن الإقامة، وجمال العشرة وحنان وعطف المعاملة. فالمسئوليات موزعة توزيعاً عادلاً، فهناك حق لك هو واجب على غيرك، وهناك حق لغيرك وهو واجب عليك. ويقول الحق: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} وهي درجة الولاية والقوامة. ودرجة الولاية تعطينا مفهوما أعم وأشمل، فكل اجتماع لابد له من قَيِّم، والقوامة مسئولية وليست تسلطاً، والذي يأخذ القوامة فرصة للتسلط والتحكم فهو يخرج بها عن غرضها؛ فالأصل في القوامة أنها مسئولية لتنظيم الحركة في الحياة. ولا غضاضة على الرجل أن يأتمر بأمر المرأة فيما يتعلق برسالتها كامرأة وفي مجالات خدمتها، أي في الشئون النسائية، فكما أن للرجل مجاله، فللمرأة مجالها أيضاً. والدرجة التي من أجلها رُفع الرجل هي أنه قوام أعلى في الحركة الدنيوية، وهذه القوامة تقتضي أن ينفق الرجل على المرأة تطبيقاً لقوله الحق: {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] إذن فالإنفاق واجب الرجل ومسئوليته، وليعلم أن الله عزيز لا يحب أن يستذل رجل امرأة هي مخلوق لله، والله حكيم قادر على أن يقتص للمرأة لو فهم الرجل أن درجته فوق المرأة هي للاستبداد، أو فهمت المرأة أن وجودها مع الرجل هي منة منها عليه، فلا استذلال في الزواج؛ لأن الزواج أساسه المودة والمعرفة. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 988 {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 989 هنا يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن الطلاق بعد أن تحدث عن المطلقة في عدتها وكيفية ردها ومراجعتها، وإنه سبحانه يتحدث عن الطلاق في حد ذاته. والطلاق مأخوذ من الانطلاق والتحرر، فكأنه حل عقدة كانت موجودة وهي عقدة النكاح. وعقدة النكاح هي العقدة التي جعلها الله عقداً مغلظاً وهي الميثاق الغليظ، فقال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] إنه ميثاق غليظ لأنه أباح للزوجين عورات الآخر، في حين أنه لم يقل عن الإيمان إنه ميثاق غليظ، قال عنه: «ميثاق» فقط، فكأن ميثاق الزواج أغلظ من ميثاق الإيمان. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يربي في الناس حل المشكلات بأيسر الطرق. لذلك شرع لنا أن نحل عقدة النكاح، ونهاية العقدة ليست كبدايتها، ليست جذرية، فبداية النكاح كانت أمراً جذريا، أخذناه بإيجاب وقبول وشهود وأنت حين تدخل في الأمر تدخله وأنت دارس لتبعاته وظروفه، لكن الأمر في عملية الطلاق يختلف؛ فالرجل لا يملك أغمار نفسه، فربما يكون السبب فيها هيناً أو لشيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 989 كان يمكن أن يمر بغير الطلاق؛ فيشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل للناس أناة وروية في حل العقدة فقال: {الطلاق مَرَّتَانِ} يعني مرة ومرة، ولقائل أن يقول: كيف يكون مرتين، ونحن نقول ثلاثة؟ وقد سأل رجلٌ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فقال يا رسول الله قال الله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} فلم صار ثلاثاً؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبتسماً: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . فكأن معنى {الطلاق مَرَّتَانِ} ، أي أن لك في مجال اختيارك طلقتين للمرأة، إنما الثالثة ليست لك، لماذا؟ لأنها من بعد ذلك ستكون هناك بينونة كبرى ولن تصبح مسألة عودتها إليك من حقك، وإنما هذه المرأة قد أصبحت من حق رجل آخر. . {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] أما قول الرجل لزوجته أنت «طالق ثلاثاً» يُعتبر ثلاث طلقات أم لا؟ نقول: إن الزمن شرط أساسي في وقوع الطلاق، يطلق الرجل زوجته مرة، ثم تمضي فترة من الزمن، ويطلقها مرة أخرى فتصبح طلقة ثانية، وتمضي أيضا فترة من الزمن وبعد ذلك نصل لقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ولذلك فالآية نصها واضح وصريح في أن الطلاق بالثلاث في لفظ واحد لا يوقع ثلاث طلقات، وإنما هي طلقة واحدة، صحيح أن سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه جعلها ثلاث طلقات؛ لأن الناس استسهلوا المسألة، فرأى أن يشدد عليهم ليكفوا، لكنهم لم يكفوا، وبذلك نعود لأصل التشريع كما جاء في القرآن وهو {الطلاق مَرَّتَانِ} . وحكمة توزيع الطلاق على المرات الثلاث لا في العبارة الواحدة، أن الحق سبحانه يعطي فرصة للتراجع. وإعطاء الفرصة لا يأتي في نفس واحد وفي جلسة واحدة. إن الرجل الذي يقول لزوجته: أنت طالق ثلاثاً لم يأخذ الفرصة ليراجع نفسه ولو اعتبرنا قولته هذه ثلاث طلقات لتهدمت الحياة الزوجية بكلمة. ولكن عظمة التشريع في أن الحق سبحانه وزع الطلاق على مرات حتى يراجع الإنسان نفسه، فربما أخطأ في المرة الأولى، فيمسك في المرة الثانية ويندم. وساعة تجد التشريع يوزع أمراً يجوز أن يحدث ويجوز ألا يحدث، فلا بد من وجود فاصل زمني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 990 بين كل مرة. وبعض المتشدقين يريدون أن يبرروا للناس تهجمهم على منهج الله فيقولون: إن الله حكم بأن تعدد الزوجات لا يمكن أن يتم فقال: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] ويقولون: إنّ الله اشترط في التعدد العدل، ثم حكم بأننا لن نستطيع أن نعدل بين الزوجات مهما حرصنا، فكأنه رجع في التشريع، هذا منطقهم. ونقول لهم: أكملوا قراءة الآية تفهموا المعنى، إن الحق يقول: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} ثم فرع على النفي فقال: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} [النساء: 129] وما دام النفي قد فُرِّع عليه فقد انتفى، فالأمر كما يقولون: نفي النفي إثبات. أن الاستطاعة ثابتة وباقية وكان قوله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} إشارة إليها. وكذلك الأمر هنا {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . فما دام قد قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقال: {الطلاق مَرَّتَانِ} أي أن لكل فعل زمناً، فذلك يتناسب مع حلقات التأديب والتهذيب، وإلا فالطلاق الثلاث بكلمة واحدة في زمن واحد، يكون عملية قسرية واحدة، وليس فيها تأديب أو إصلاح أو تهذيب، وفي هذه المسألة يقول الحق: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} لأن المفروض في الزوج أن يدفع المهر نظير استمتاعه بالبضع، فإذا ما حدث الطلاق لا يحل للمطلق أن يأخذ من مهره شيئاً، لكن الحق استثنى في المسألة فقال: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} . فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يجعل للمرأة مخرجاً إن أريد بها الضرر وهي لا تقبل هذا الضرر. فيأتي الحق ويشرع: وما دام قد خافا ألا يقيما حدود الله، فقد أذن لها أن افتدي نفسك أيتها المرأة بشيء من مال، ويكره أن يزيد على المهر إلا إذا كان ذلك ناشئا عن نشوز منها ومخالفة للزوج فلا كراهة إذن في الزيادة على المهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 991 وقد جاء الواقع مطابقاً لما شرع الله عندما وقعت حادثة «جميلة» أخت «عبد الله ابن أبي» حينما كانت زوجة لعبد الله بن قيس، فقد ذهبت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالت: «أنا لا أتهمه في دينه ولا خلقه ولكن لا أحب الكفر في الإسلام» وهي تقصد أنها عاشت معه وهي تبغضه، لذلك لن تؤدي حقه وذلك هو كفر العشير أي إنكار حق الزوج وترك طاعته. وهي قد قالت: إنها لا تتهمه لا في دينه ولا في خلقه لتعبر بذلك عن معانٍ عاطفية أخرى، فأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يعلم منها ذلك، فقالت: لقد رفعت الخباء فوجدته في عدة رجال فرأيته أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً، فقال لها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» أتردين حديقته «؟ فقالت: وإن شاء زدته، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا حاجة لنا بالزيادة، ولكن ردي عليه حديقته» . ويُسمى هذا الأمر بالخلع، أي أن تخلع المرأة نفسها من زوجها الذي تخاف ألا تؤدي له حقاً من حقوق الزوجية، إنها تخلع نفسها منه بمال حتى لا يصيبه ضرر، فقد يريد أن يتزوج بأخرى وهو محتاج إلى ما قدم من مهر لمن تريد أن تخلع نفسها منه. ويتابع الحق سبحانه: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} وهذا الشيء هو الذي قال عنه الله في مكان آخر: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء: 20] ويتابع الحق الآية بقوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} والمقصود هنا هما الزوجان، ومن بعد ذلك تأتي مسئولية أولياء أمر الزوجين والمجتمع الذي يهمه أمرهما في قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} . وحدود الله هي ما شرعه الله لعباده حداً مانعاً بين الحل والحرمة. وحدود الله إما أن ترد بعد المناهي، وإما أن ترد بعد الأوامر، فإن وردت بعد الأوامر فإنه يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 992 {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} أي آخر غايتكم هنا، ولا تتعدوا الحد، ولكن إن جاءت بعد النواهي يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} ، لأن الحق يريد أن يمنع النفس من تأثير المحرمات على النفس، فتلح عليها أن تفعل، فإن كنت بعيداً عنها فالأفضل أن تظل بعيداً. وانظر جيداً فيما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه» . وما دامت الحدود تشمل مناهي الله وتشمل أوامر الله فكل شيء مأمور به وكل شيء منهي عنه يجب أن يظل في مجاله من الفعل في «افعل» ومن النهي في «لا تفعل» . وإذا انتقل نظام (افعل) إلى دائرة (لا تفعل) وانتقل ما يدخل في دائرة «لا تفعل» إلى دائرة «افعل» ، هنا يختل نظام الكون، وما دام نظام الكون أصابه الخلل فقد حدث الظلم؛ فالظلم هو أن تنقل حق إنسان وتعطيه لإنسان آخر، وتشريع الطلاق حد من حدود الله، فإن حاولت أن تأتي بأمر لا يناسب ما أمر الله به في تنظيم اجتماعي فقد نقلت المأمور به إلى حيز المنهي عنه، وبذلك تُحْدِثُ ظلماً. والحق سبحانه وتعالى حينما يعالج قضايا المجتمع يعالجها علاجاً يمنع وقوع المجتمع في الأمراض والآفات، والبشر إن أحسنا الظن بهم في أنهم يشرعون للخير وللمصلحة، فهم يشرعون على قدر علمهم بالأشياء، لكننا لا نأمن أن يجهلوا شيئاً يحدث ولا يعرفوه، فهم شرّعوا لِمَا عرفوا، وإذا شرعوا لما عرفوا وفوجئوا بأشياء لم يعرفوها ماذا يكون الموقف؟ إن كانوا مخلصين بحق داسوا على كبرياء غرورهم التشريعي وقالوا: نُعَدِّل ما شرعنا، وإن ظلوا في غلوائهم فمن الذي يشقى؟ إن المجتمع هو الذي يشقى بعنادهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 993 والحق سبحانه وتعالى لا يتهم الناس جميعاً في أن منهم من لا يريد الخير، ولكن هناك فرق بين أن تريد خيراً وألا تقدر على الخير. أنت شرعت على قدر قدرتك وعلمك. ونعرف جميعاً أن شقاء التجارب في القوانين الاجتماعية النظرية تقع على المجتمع. ونعرف جيداً أن هناك فرقاً بين العلم التجريبي المعملي والكلام النظري الأهوائي؛ فالعلم التجريبي يشقى به صاحب التجربة، إن العَالِم يكد ويتعب في معمله وهو الذي يشقى ويضحي بوقته وبماله وبصحته ويعيش في ذهول عن كل شيء إلا تجربته التي هو بصددها، فإذا ما انتهى إلى قضية اكتشافية فالذي يسعد باكتشافه هو المجتمع. لكن الأمر يختلف في الأشياء النظرية؛ لأن الذي يشقى بأخطاء المقننين من البشر هو المجتمع، إلى أن يجيء مقنن يعطف على المجتمع ويعدل خطأ من سبقه. أما الحق سبحانه وتعالى فقد جاءنا بتشريع يحمي البشر من الشقاء، فالله سبحانه يتركنا في العالم المادي التجريبي أحراراً. ادخلوا المعمل وستنتهون إلى أشياء قد تتفقون عليها، لكن إياكم واختلافات الأهواء؛ لذلك تولى الله عَزَّ وَجَلَّ تشريع ما تختلف فيه الأهواء، حتى يضمن أن المجتمع لا يشقى بالخطأ من المشرعين، لفترة من الزمن إلى أن يجيء مشرع آخر ويعدل للناس ما أخطأ فيه غيره. لذلك نجد في عالمنا المعاصر الكثير من القضايا النابعة من الهوى، ويتمسك الناس فيها بأهوائهم، ثم تضغط عليهم الأحداث ضغطا لا يستطيعون بعدها أن يضعوا رءوسهم في الرمال، بل لابد أن يواجهوها، فإذا ما واجهوها فإنهم لا يجدون حلاً لها إلا بما شرعه الإسلام، ونجد أنهم التقوا مع تشريعات الإسلام. إن بعضاً من الكارهين للإسلام يقولون: أنتم تقولون عن دينكم: إنه جاء ليظهر على كل الأديان، مرة يقول القرآن: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 994 {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً} [الفتح: 28] ومرة يقول القرآن: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [الصف: 8 - 9] ويستمر هؤلاء الكارهون للإسلام في قولهم ويضيفون: إن إسلامكم ليظهر على الدين كله حتى الآن بدليل أن هناك الملايين لم يدخلوا الإسلام؟ ونقول لهم: أو يظهر على الدين كله بأن يؤمن الناس بالإسلام جميعاً، لا، لو فطنوا على قول الله: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} لعلموا أن إظهار الإسلام على الدين لابد أن يلازمه وجود كافرين كارهين، وما دام الإسلام موجوداً مع كافرين كارهين، فهو لن يظهر كدين، ولكنه يظهر عليهم أي يغلبهم كنظام يضطرون إليه ليحلوا مشكلات مجتمعاتهم الكافرة، فسيأخذون من أنظمة وقوانين الإسلام وهم كارهون، ولذلك نجدهم يستقون قوانينهم وإصلاحاتهم الاجتماعية من تعاليم الإسلام. ولو كانوا سيأخذونه كدين لما قال الحق: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} أو {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} لأنهم عندما يعتنقونه كدين فلن يبقى كاره أو مشرك. لكن حين يقول سبحانه: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} و {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} فذلك يعني: أن اطمئنوا يا من آمنتم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخذتم الإسلام ديناً، إن تجارب الحياة ستأتي لتثبت لدى الجاحدين صدق دينكم، وصدق الله في تقنينه لكم، وسيضطر الكافرون والمشركون إلى كثير من قضايا إسلامكم ليأخذوها كنظام يحلون بها مشاكلهم رغم عنادهم وإصرارهم على أن يكونوا ضد الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 995 وضربنا على ذلك مثلاً بما حدث في إيطاليا التي بها الفاتيكان قبلة الكاثوليك الروحية؛ فقد اضطروا لأن يشرعوا قوانين تبيح الطلاق، وحدث مثل ذلك في أسبانيا وغيرها من الدول. انظر كيف تراجعوا في مبادئ كانوا يعيبونها على الإسلام! لقد اضطرتهم ظروف الحياة لأن يقننوا إباحة الطلاق تقنيناً بشرياً لا بتقنين إلهي. ومثل هذه الأحداث تبين لنا مدى ثقتنا في ديننا، وأن مشكلات البشرية في بلاد الكفر والشرك لن يحلها إلا الإسلام، فإن لم يأخذوه كدين فسيضطرون إلى أخذه كنظام. ومن شرف الإسلام ألا يأخذوه كدين؛ لأنهم لو آمنوا به لكانت أفعالهم وقوانينهم تطبيقا للإسلام من قوم مسلمين، ولكن أن يظلوا كارهين للإسلام ثم يأخذوا من مبادئ الدين الذي يكرهونه ما يصلح مجتمعاتهم الفاسدة فذلك الفخر الأكبر للإسلام. إن هذا هو مفهوم قول الحق: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} و {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} وإذا ما جاء لك أحد في هذه المسألة فقل: من شرف الإسلام أن يظل في الدنيا مشرك، وأن يظل في الدنيا هؤلاء الكفار ثم يرغموا ليحلوا مسائل مجتمعاتهم بقضايا الإسلام، والإسلام يفخر بأنه سبقهم منذ أربعة عشر قرناً إلى ما يلهثون وراءه الآن بعد مضي كل هذا الزمن. ويقول الحق بعد ذلك: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 996 وسبق أن قال الحق: {الطلاق مَرَّتَانِ} وبعدها قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . وهنا يتحدث الحق عن التسريح بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} . وذلك حتى يبين لنا أنه إن وصلت الأمور بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 996 الزوجين إلى مرحلة اللا عودة فلابد من درس قاس؛ فلا يمكن أن يرجع كل منهما للآخر بسهولة. لقد أمهلهما الله بتشريع البينونة الصغرى التي يعقبها مهر وعقد جديدان فلم يرتدعا، فكان لابد من البينونة الكبرى، وهي أن تتزوج المرأة بزوج آخر وتجرب حياة زوجية أخرى. وبذلك يكون الدرس قاسياً. وقد يأخذ بعض الرجال المسألة بصورة شكلية، فيتزوج المرأة المطلقة ثلاثاً زواجاً كامل الشروط من عقد وشهود ومهر، لكن لا يترتب على الزواج معاشرة جنسية بينهما، وذلك هو «المحلل» الذي نسمع عنه وهو ما لم يقره الإسلام. فمن تزوج على أنه محلل ومن وافقت على ذلك المحلل فليعلما أن ذلك حرام على الاثنين، فليس في الإسلام محلل، ومن يدخل بنية المحلل لا تجوز له الزوجة، وليس له حقوق عليها، وفي الوقت نفسه لو طلقها ذلك الرجل لا يجوز لها الرجوع لزوجها السابق، لأن المحلل لم يكن زوجاً وإنما تمثيل زوج، والتمثيل لا يُثبت في الواقع شيئاً. ولذلك قال الحق: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} . والمقصود هنا النكاح الطبيعي الذي ساقت إليه الظروف دون افتعال ولا قصد للتحليل. وعندما يطلقها ذلك الرجل لظروف خارجة عن الإرادة وهي استحالة العشرة، وليس لأسباب متفق عليها، عندئذ يمكن للزوج السابق أن يتزوج المرأة التي كانت في عصمته وطلقها من قبل ثلاث مرات. {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي أن يغلب على الظن أن المسائل التي كانت مثار خلاف فيما مضى قد انتهت ووصل الاثنان إلى درجة من التعقل والاحترام المتبادل، وأخذا درساً من التجربة تجعل كلا منهما يرضى بصاحبه. وبعد ذلك يقول الحق: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 997 ولنلاحظ قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ونسأل: هل إذا بلغت الأجل وانتهت العدة، هل يوجد بعدها إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان؟ ، هل يوجد إلا التسريح؟ . إن هناك آية بعد ذلك تقول: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف} [البقرة: 232] إذن نحن أمام آيتين كل منهما تبدأ بقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} . لكن تكملة الآية الأولى هو: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وتكملة الآية الثانية هو: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} . ما سر هذا الاختلاف إذن؟ نقول: إن البلوغ يأتي بمعنيين، المعنى الأول: أن يأتي البلوغ بمعنى المقاربة مثل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} . أي عندما تقارب القيام إلى الصلاة فافعل ذلك. والمعنى الثاني: يطلق البلوغ على الوصول الحقيقي والفعلي. إن الإنسان عندما يكون مسافرا بالطائرة ويهبط في بلد الوصول فهو يلاحظ أن الطيار يعلن أنه قد وصل إلى البلد الفلاني. إذن مرة يطلق البلوغ على القرب ومرة أخرى يطلق على البلوغ الحقيقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 998 وفي الآية الأولى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} هنا طلق الرجل زوجته لكن عدتها لم تنته بل قاربت على الانتهاء فربما يمكنه أن يسرحها أو يمسكها بإحسان، وأصبح للزوج قدر من زمن العدة يبيح له أن يمسك أو يسرح، لكنه زمن قليل. إن الحق يريد أن يتمسك الزوج بالإبقاء إلى آخر لحظة ويستبقي أسباب الالتقاء وعدم الانفصال حتى آخر لحظة، وهذه علة التعبير بقوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن بلوغ الأجل. إن الحق يريدنا أن نتمسك باستبقاء الحياة الزوجية إلى آخر فرصة تتسع للإمساك، فهي لحظة قد ينطق فيها الرجل بكلمة يترتب عليها إما طلاق، وإما عودة الحياة الزوجية. أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} فالله سبحانه وتعالى يريد أن يحصر مناقشة الأسباب في الانفصال أو الاستمرار بين الزوج والزوجة فقط فلا تتعدى إلى غير الزوج والزوجة؛ لأن بين الاثنين من الأسباب ما قد تجعل الواحد منهما يُلين جانبه للآخر. لكن إذا ما دخل طرف ثالث ليست عنده هذه فسوف تكبر في نفسه الخصومة ولا توجد عنده الحاجة فلا يبقى على عشرة الزوجين. فإذا ما دخل الأب أو الأخ أو الأم في النزاع فسوف تشتعل الخصومة، وكل منهم لا يشعر بإحساس كل من الزوجين للآخر، ولا بليونة الزوج لزوجته، ولا بمهادنة الزوجة لزوجها، فهذه مسائل عاطفية ونفسية لا توجد إلا بين الزوج والزوجة، أما الأطراف الخارجية فلا يربطها بالزوج ولا بالزوجة إلا صلة القرابة. ومن هنا فإن حرص تلك الأطراف الخارجية على بقاء عشرة الزوجين لا يكون مثل حرص كل من الزوجين على التمسك بالآخر. ولذلك يجب أن نفهم أن كل مشكلة تحدث بين زوج وزوجته ولا يتدخل فيها أحد تنتهي بسرعة بدون أم أو أب أو أخ، ذلك لأنه تدخل طرفٍ خارجي لا يكون مالكا للدوافع العاطفية والنفسية التي بين الزوجين، أما الزوجان فقد تكفي نظرة واحدة من أحدهما للآخر لأن تعيد الأمور إلى مجاريها. فقد يُعجب الرجل بجمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 999 المرأة ويشتاق إليها، فينسى كل شيء. وقد ترى المرأة في الرجل أمراً لا تحب أن تفقده منه فتنسى ما حدث بينهما، وهكذا. لكن أين ذلك من أمها وأمه، أو أبيها وأبيه؟ ليس بين هؤلاء وبين الزوجين أسرار وعواطف ومعاشرة وغير ذلك. ولهذا فأنا أنصح دائما بأن يظل الخلاف محصوراً بين الزوج والزوجة؛ لأن الله قد جعل بينهما سيالا عاطفيا. والسيال العاطفي قد يسيل إلى نزوع ورغبة في شيء ما، وربما تكون هذه الرغبة هي التي تصلح وتجعل كلا من الطرفين يتنازل عن الخصومة والطلاق. ولذلك شاءت إرادة الله عَزَّ وَجَلَّ ألا يطلق الرجل زوجته وهي حائض، لماذا؟ لأن المرأة في فترة الحيض لا يكون لزوجها رغبة فيها، وربما ينفر منها، لكن يريد الحق عَزَّ وَجَلَّ ألا يطلق الرجل زوجته إلا في طهر لم يسبق له أن عاشرها فيه معاشرة الزوج زوجته وبعد أن تغتسل من الحيض، وذلك حتى لا يطلقها إلا وهو في أشد الأوقات رغبة لها. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن تكون الخلافات بين الزوج والزوجة في إطار الحياة الزوجية، حتى يحفظهما سياج المحبة والمودة والرحمة. لكن تدخل الأطراف الأخرى يحطم هذا السياج، أياً كان الطرف أما أو أبا أو أخا. ويقول الحق: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ} أي لا تبق أيها الرجل على الحياة الزوجية من أجل الإضرار بالمرأة وإذلالها، ومعنى الضرار أنك تصنع شيئا في ظاهره أنك تريد الخير وفي الباطن تريد الشر. ولذلك أطلق اللفظ على «مسجد الضرار» فظاهر بنائه أنه مسجد بني للصلاة فيه، وفي الباطن كان الهدف منه هو الكفر والتفريق بين المؤمنين. وكذلك الضرار في الزواج؛ يقول الرجل أنا لا أريد طلاقها وسأعيدها لبيتها، يقول ذلك ويُبيت في نفسه أن يعيدها ليذلها وينتقم منها، وذلك لا يقره الإسلام؛ بل وينهى عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1000 إن الحق عَزَّ وَجَلَّ يحذر من مثل هذا السلوك فيقول: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فإياك أن تظن أنك حين تعتدي على زوجتك بعد أن تراجعها أنك ظلمتها هي، لا، إنما أنت تظلم نفسك؛ لأنك حين تعتدي على إنسان فقد جعلت ربه في جانبه، فإن دعا عليك قِبل الله دعوته، وبذلك تحرم نفسك من رضا الله عنك، فهل هناك ظلم أكثر من الظلم الذي يأتيك بسخط الله عليك. ويتابع الحق سبحانه وتعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً} أي خذوا نظام الله على أنه نظام جاء ليحكم حركة الحياة حكما بلا مراوغة وبلا تحليق في خيال كاذب، إنما هو أمر واقعي، فلا يصح أن يهزأ أحد بما أنزله الله من أنظمة تصون حياة وكرامة الإنسان رجلاً كان أو امرأة. {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ} ونعمة الله عليهم التي يذكرهم الله بها في معرض الحديث عن الطلاق هي أنه سبحانه يلفتهم إلى ما كانوا عليه قبل أن يشرع لهم أين كان حظ المرأة في الجاهلية في أمور الزواج والطلاق، وما أصبحت عليه بعد نزول القرآن؟ لقد صارت حقوقها مصونة بالقرآن. إن الحق عَزَّ وَجَلَّ يمتن على المؤمنين ليلفت نظرهم إلى حالتهم قبل الإسلام؛ فقد كان الرجل يطلق امرأته ويعيدها، ثم يطلقها ويعيدها ولو ألف مرة دون ضابط أو رابط. وكان يحرم عليها المعاشرة الزوجية شهوراً ويتركها تتعذب بلوعة البعد عنه، ولا تستطيع أن تتكلم. وكانت المرأة إذا مات زوجها تنفى من المجتمع فلا تظهر أبداً ولا تخرج من بيتها وكأنها جرثومة، وقبل ذلك كله كانت مصدر عار لأبيها، فكان يقتلها قبل أن تصل إلى سن البلوغ بدعوى الحرص على عرضه وشرفه. باختصار كان الزواج أقرب إلى المهازل منه إلى الجد، فجاء الإسلام، فحسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1001 الأمور حتى لا تكون فوضى بلا ضوابط وبلا قوانين. فاذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم بالإسلام، وانظروا إلى ما أنعم به عليكم من نظام أسري يلهث العالم شرقه وغربه ليصل إلى مثله. كنتم أمة بلا حضارة وبلا ثقافة، تعبدون الأصنام وتقيمون الحرب وتشعلونها بينكم على أتفه الأسباب وأدونها، وتجهلون القراءة والكتابة، ثم نزل الله عليكم هذا التشريع الراقي الناضج الذي لم تصل إليه أية حضارة حتى الآن. أَلاَ تذكرون هذه النعمة التي أنتم فيها بفضل من الله؟ لذلك قال سبحانه: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ} والكتاب هو القرآن، والحكمة هي سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويختتم الحق تلك الآية الكريمة بقول: {واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فإياكم أن تتهموا دينكم بأنه قد فاته شيء من التشريع لكم، فكل تشريع جاهز في الإسلام، لأن الله عليم بما تكون عليه أحوال الناس، فلا يستدرك كون الله في الواقع على ما شرع الله في كتابه، لأنه سبحانه خالق الكون ومنزل التشريع. وبعد ذلك يقول الحق: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1002 {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} هنا أي فانتهت العدة، ولم يستنفد الزوج مرات الطلاق، ولم يعد للزوج حق في أن يراجعها إلا بعد عقد ومهر جديدين. هب أن الزوج أراد أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1002 يعيد زوجته إلى عصمته مرة أخرى، وهنا يتدخل أهل اللدد والخصومة من الأقارب، ويقفون في وجه إتمام الزواج، والزوجان ربما كان كل منهما يميل إلى الآخر، وبينهما سيال عاطفي ونفسي لا يعلمه أحد، لكن الذين دخلوا في الخصومة من الأهل يقفون في وجه عودة الأمور إلى مجاريها، خوفا من تكرار ما حدث أو لأسباب أخرى، وتقول لهؤلاء: ما دام الزوجان قد تراضيا على العودة فلا يصح أن يقف أحد في طريق عودة الأمور إلى ما كانت عليه. وقوله الحق: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} نعرف منه أن العضل هو المنع، والكلام للأهل والأقارب وكل من يهمه مصلحة الطرفين من أهل المشورة الحسنة. و {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} أي الذين طلقوهن أولا. والمعنى: لا تمنعوا الأزواج أن يعيدوا إلى عصمتهم زوجاتهم اللائي طلقوهن من قبل. وليعلم الأهل الذين يصرون على منع بناتهم من العودة لأزواجهن أنهم بالتمادي في الخصومة يمنعون فائدة التدرج في الطلاق التي أراد حكمة لله. إن حكمة التشريع في جعل الطلاق مرة، ومرتين هي أن من لم يصلح في المرأة الأولى قد يصلح في المرة الثانية، وإذا كان الله العليم بنفوس البشر قد شرع لهم أن يطلقوا مرة ومرتين، وأعطى فسحة من الوقت لمن أخطأ في المرة الأولى ألا يخطئ في الثانية، لذلك فلا يصح أن يقف أحد حجر عثرة أمام إعادة الحياة الزوجية من جديد. وقوله الحق: {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ونلحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى ينسب النكاح للنسوة، فقال: {يَنكِحْنَ} وهذا يقتضي رضاء المرأة عن العودة للزوج فلا يمكن أن يطلقها أولا ثم لا يكون لها رأي في العودة إليه. {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف} وما داموا تراضوا ورأوا أن عودة كل منهم للآخر أفضل، فليبتعد أهل السوء الذين يقفون في وجه رضا الطرفين، وليتركوا الحلال يعود إلى مجاريه. {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1003 لَكُمْ وَأَطْهَرُ} إن هذا تشريع ربكم وهو موعظة لكم يا من تؤمنون بالله ربا حكيماً مشرعاً وعالماً بنوازع الخير في نفوس البشر. وكلمة {وَأَطْهَرُ} تلفتنا إلى حرمة الوقوف في وجه المرأة التي تريد أن ترجع لزوجها الذي طلقها ثم انتهت العدة، وأراد هو أن يتزوجها من جديد، إن الحق يبلغنا: ولا تقفوا في وجه رغبتهما في العودة لأي سبب كان، لماذا يا رب؟ وتأتي الإجابة في قوله الحق: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} تأمل جمال السياق القرآني وكيف خدم قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} المعنى الذي تريده الآيات. إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون أن في عودة الأمور لمجاريها بين الزوجين أزكى وأطهر. ويقول الحق بعد ذلك: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1004 انظر إلى عظمة الإسلام ها هو ذا الحق سبحانه يتكلم عن إرضاع الوالدات لأولادهن بعد عملية الطلاق، فالطلاق يورث الشقاق بين الرجل والمرأة، والحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1004 سبحانه وتعالى ينظر للمسألة نظرة الرحيم العليم بعباده، فيريد أن يحمي الثمرة التي نتجت من الزواج قبل أن يحدث الشقاق بين الأبوين، فيبلغنا: لا تجعلوا شقاقكم وخلافكم وطلاقكم مصدر تعاسة للطفل البريء الرضيع. وهذا كلام عن المطلقات اللاتي تركن بيوت أزواجهن، لأن الله يقول بعد ذلك: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} وما دامت الآية تحدثت عن {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} فذلك يعني أن المرأة ووليدها بعيدة عن الرجل، لأنها لو كانت معه لكان رزق الوليد وكسوته أمرا مفروغا منه. والحق سبحانه يفرض هنا حقا للرضيع، وأمه لم تكن تستحقه لولا الرضاع. وبعض الناس فهموا خطأ أن الرزق والكسوة للزوجات عموما ونقول لهم: لا. إن الرزق والكسوة هنا للمطلقات اللاتي يرضعن فقط. ويريد الحق سبحانه أن يجعل هذا الحق أمرا مفروغا منه، فشرع حق الطفل في أن يتكفله والده بالرزق والكسوة حتى يكون الأمر معلوما لديه حال الطلاق. وقوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} نلحظ فيه أنه لم يأت بصيغة الأمر فلم يقل: يا والدات أرضعن، لأن الأمر عرضة لأن يطاع وأن يعصى، لكن الله أظهر المسألة في أسلوب خبري على أنها أمر واقع طبيعي ولا يخالف. ويقول الحق: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ولنتأمل عظمة الأداء القرآني في قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} إنه لم يقل: «وعلى الوالد» ، وجاء ب {المولود لَهُ} ليكلفه بالتبعات في الرزق والكسوة، لأن مسئولية الإنفاق على المولود هي مسئولية الوالد وليست مسئولية الأم، وهي قد حملت وولدت وأرضعت والولد يُنسب للأب في النهاية يقول الشاعر: فإنما أمهات الناس أوعية ... مستوعادت وللآباء أبناء وما دام المولود منسوباً للرجل الأب، فعلى الأب رزقه وكسوته هو وعليه أيضا رزق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1005 وكسوة أمه التي ترضعه بالمعروف المتعارف عليه بما لا يسبب إجحافاً وظلما للأب في كثرة الإنفاق، ويقول الحق: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} هنا الحديث عن الأم والأب. فلا يصح أن ترهق المطلقة والد الرضيع بما هو فوق طاقته، وعليها أن تكتفي بالمعقول من النفقة. ويتابع الحق: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} ولازال الحق يُذكرُ الأب بأن المولود له هو، وعليه ألا يضر والدة الطفل بمنع الإنفاق على ابنه، وألا يتركها تتكفف الناس من أجل رزقه وكسوته، وفي الوقت نفسه يُذَكرُ الأم: لا تجعلي رضيعك مصدر إضرار لأبيه بكثرة الإلحاح في طلب الرزق والكسوة. إنه عَزَّ وَجَلَّ يضع لنا الإطار الدقيق الذي يكفل للطفل حقوقه، فهناك فرق بين رضيع ينعم بدفء الحياة بين أبوين متعاشرين، ووجوده بين أبوين غير متعاشرين. والحق سبحانه وتعالى يعطينا لفتة أخرى هي أن والد المولود قد يموت فإذا ما مات الوالد فمن الذي ينفق على الوليد الذي في رعاية أمه المطلقة؟ هنا يأتينا قول الحق بالجواب السريع: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} . إن الحق يقرر مسئولية الإنفاق على من يرث والد الرضيع، صحيح أن الرضيع سيرث في والده، لكن رعاية الوليد اليتيم هي مسئولية من يرث الوصاية وتكون له الولاية على أموال الأب إن مات. وهكذا يضمن الله عَزَّ وَجَلَّ حق الرضيع عند المولود له وهو أبوه إذا كان حياً، وعند من يرث الأب إذا تُوفى. وبذلك يكون الله عَزَّ وَجَلَّ قد شَرَّع لصيانة أسلوب حياة الطفل في حال وجود أبويه، وشرع له في حال طلاق أبويه وأبوه حيٌّ وشرع له في حال طلاق أبويه ووفاة أبيه. ويتابع الحق: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} . انظر إلى الرحمة في الإسلام؛ فطلاق الرجل لزوجته لا يعني أن ما كان بينهما قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1006 انتهى، ويضيع الأولاد ويشقون بسبب الطلاق، فقوله تعالى: {عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} دليل على أن هناك قضية مشتركة مازالت بين الطرفين وهي ما يتصل برعاية الأولاد، وهذه القضية المشتركة لابد أن يلاحظ فيها حق الأولاد في عاطفة الأمومة، وحقهم في عاطفة الأبوة، حتى ينشأ الولد وهو غير محروم من حنان الأم أو الأب، وإن اختلفا حتى الطلاق. إن عليهما أن يلتقيا بالتشاور والتراضي في مسألة تربية الأولاد حتى يشعروا بحنان الأبوين، ويكبر الأولاد دون آلام نفسية، ويفهمون أن أمهم تقدر ظروفهم وكذلك والدهم وبرغم وجود الشقاق والخلاف بينهما فقد اتفقا على مصلحة الأولاد بتراضٍ وتشاور. إن ما يحدث في كثير من حالات الطلاق من تجاهل للأولاد بعد الطلاق هي مسألة خطيرة؛ لأنها تترك رواسب وآثارا سلبية عميقة في نفوس الأولاد، ويترتب عليها شقاؤهم وربما تشريدهم في الحياة. وما ذنب أولاد كان الكبار هم السبب المباشر في مجيئهم للحياة؟ أليس من الأفضل أن يوفر الآباء لهم الظروف النفسية والحياتية التي تكفل لهم النشأة الكريمة؟ إن منهج الله أمامنا فلماذا لا نطبقه لنسعد به وتسعد به الأجيال القادمة؟ والحق سبحانه وتعالى قال في أول الآية: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} لكن ماذا يكون الحال إن نشأت ظروف تقلل من فترة الرضاعة عن العامين، أو نشأت ظروف خاصة جعلت فترة الرضاعة أطول من العامين؟ هنا يقول الحق: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} . إنه جل وعلا يبين لنا أن الفصال أي الفطام يجب أن يكون عن تراض وتشاور بين الوالدين ولا جناح عليهما في ذلك. ويقول الحق: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف} ، و {أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} أي أن تأتوا للطفل بمرضعة، فإن أردتم ذلك فلا لوم عليكم في ذلك. إن المطلق حين يوكل إلى الأم أن ترضع وليدها فالطفل يأخذ من حنان الأم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1007 الموجود لديها بالفطرة، لكن هب أن الأم ليست لديها القدرة على الإرضاع أو أن ظروفها لا تسعفها على أن ترضعه لضعف في صحتها أو قوتها، عند ذلك فالوالد مُطالب أن يأتي لابنه بمرضعة، وهذه المرضعة التي ترضع الوليد تحتاج إلى أن يعطيها الأب ما يُسخِّيها ويجعلها تقبل على إرضاع الولد بأمانة، والإشراف عليه بصدق. ويختم الحق هذه الآية الكريمة بقوله: {واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، إن الحق يحذر أن يأخذ أحد أحكامه ويدعي بظاهر الأمر تطبيقها، لكنه غير حريص على روح هذه الأحكام، مثال ذلك الأب الذي يريد أن يدلس على المجتمع، فعندما يرى الأب مرضعة ابنه أمام الناس فهو يدعي أنه ينفق عليها، ويعطيها أجرها كاملا، ويقابلها بالحفاوة والتكريم بينما الواقع يخالف ذلك. إن الله يحذر من يفعل ذلك: أنت لا تعامل المجتمع وإنما تعامل الله و {الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . ويقول الحق بعد ذلك: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1008 والعدة كما عرفنا هي الفترة الزمنية التي شرعها الله بعد زواج انتهى بطلاق أو بوفاة الزوج. والعدة إما أن تكون بعد طلاق، وإما بعد وفاة زوج، فإن كانت العدة بعد طلاق فمدتها ثلاثة قروء، والقرء كما عرفنا هو الحيضة أو الطهر، فإن كانت المطلقة صغيرة لم تخض بعد أو كانت كبيرة تعدت سن الحيض فالعدة تنقلب من القروء إلى الأشهر وتصبح «ثلاثة أشهر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1008 وعرفنا أن من حق الزوج أن يراجع زوجته بينه وبين نفسه دون تدخل الزوجة أو ولي أمرها، له ذلك في أثناء فترة العدة في الطلاق الرجعي، فإن انتهت عدتها فقد سقط حقه في مراجعة الزوجة بنفسه، وله أن يراجعها، ولكن بمهر وعقد جديدين ما دام قد بقى له حق أي لم يستنفد مرات الطلاق. وقد قلنا: إن تعدت الطلقات اثنتين وأصبحت هناك طلقة ثانية فلابد من زوج آخر يتزوجها بالطريقة الطبيعية لا بقصد أن يحللها للزوج الأول. وأما عدة المتوفى عنها زوجها فقد عرفنا أن القرآن ينص على أنها تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا، هذا إن لم تكن حاملا، فإن كانت حاملا فعدتها أبعد الأجلين، فإن كان الأجل الأبعد هو أربعة أشهر وعشرا فتلك عدتها، وإن كان الأجل الأبعد هو الحمل فعدتها أن ينتهي الحمل. لكن أليس من الجائز أن يموت زوجها وهي في الشهر التاسع من الحمل فتلد قبل أن يدفن؟ وهل يعني ذلك أن عدتها انتهت؟ لا، إنها تنتهي بأبعد الأجلين وهو في هذه الحالة مرور أربعة أشهر وعشرا، وإن قال بعض الفقهاء: إن عدة الحامل بوضع الحمل. لكن إذا لم يكن زوجها متوفَّى عنها فعدتها أن تضع حملها، وإن شاءت أن تتزوج بعد ذلك فلها ذلك ولو بعد لحظة. وبعض الناس يفسرون الحكمة من جعل عدة المتوفى عنها زوجة أربعة أشهر وعشرا، فيقولون: لأنها إن كانت حاملا بذكر فسيظهر حملها عندما يتحرك بعد ثلاثة أشهر، وإن كانت حاملا بأنثى فستتحرك بعد أربعة أشهر ونعطيها مهلة عشر ليالٍ. ونقول لهم: جزاكم الله خيرا على تفسيركم، لكن العدة ليست لاستبراء الرحم؛ لأنها لو كانت لاستبراء الرحم لانتهت عدة المرأة بمجرد ولادتها. ولو كان الأمر للتأكد من وجود حمل أو عدمه، لكانت عدتها ثلاث حيضات إن كانت من ذوات الحيض، وإن كانت من غير ذوات الحيض لصغر أو لكبر سن لكانت عدتها ثلاثة أشهر. لكن الله اختصها بأربعة أشهر وعشر وفاءً لحق زوجها عليها وإكراما لحياتهما الزوجية. إذن فالله عَزَّ وَجَلَّ جعل المتوفى عنها زوجها تتربص أقصى مدة يمكن أن تصبر عليها المرأة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1009 فالمرأة ساعة تكون متوفى عنها زوجها لا تخرج من بيتها ولا تتزين ولا تلقى أحداً وفاءً للزوج، فإذا انتهت عدتها أي مضت عليها الأربعة الأشهر والعشرة، {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} وهو يعني أن تتزين في بيتها وتخرج دون إبداء زينة وأن يتقدم لها من يريد خطبتها. وقوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} والمقصود بهذه المدة أربعة أشهر وعشر ليال. وهنا لفتة تشريعية إيمانية تدل على استطراق كل حكم شرعي في جميع المكلفين وإن لم يكن الحكم ماسا لهم؛ فالمتوفى عنها زوجها تربصت أربعة أشهر وعشرا وبلغتها في مدة العدة، وكان من حكم الله عليها ألا تتزين وألا تكتحل وألا تخرج من بيتها وفاءً لحق زوجها فإذا بلغت الأجل وانتهى قال: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} ، ولم يقل: فلا جناح عليهن. لقد وجه الخطاب هنا للرجال؛ لأن كل مؤمن له ولاية على كل مؤمنة، فإذا رأى في سلوكها أو أسلوب عنايتها بنفسها ما ينافي العدة فله أن يتدخل. مثلا إذا رآها تتزين قال لها أو أرسل إليها من يقول لها: لماذا تتزينين؟ إن قول الله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يجعل للرجال قوامة على المتوفى عنها زوجها، فلا يقولون: لا دخل لنا؛ لأن الحكم الإيماني حكم مستطرق في كل مؤمن وعلى كل مؤمن. فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3] إن قوله الحق: {وَتَوَاصَوْاْ} لا يعني أن قوما خُصوا بأنهم يُوصون غيرهم وقوما آخرين يُوصيهم غيرهُم، بل كل واحد منا موصٍ في وقت؛ وموصىً من غيره في وقت آخر، هذا هو معنى {وَتَوَاصَوْاْ} . فإذا رأيت في غيرك ضعفاً في أي ناحية من نواحي أحكام الله، فلك أن توصيه. وكذلك إن رأى غيرُك فيك ضعفا في أي ناحية من النواحي فله أن يوصيك، وعندما نتواصى جميعاً لا يبقى لمؤمن بيننا خطأ ظاهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1010 إذن فالآية لا تَخُصُ بالوصاية جماعة دون أخرى إنما الكل يتواصون، لأن الأغيار البشرية تتناوب الناس أجمعين. فأنت في فترة ضعفي رقيب علي، فتوصيني، وأنا في فترة ضعفك رقيب عليك، فأوصيك. ولذلك جاء قول الحق: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} إنه سبحانه لم يوجه الخطاب للنساء، ولكن خاطب به المؤمنين ولم يخص بالخطاب أولياء أمور النساء فحسب وإنما ترك الحكم للجميع حتى لا يقول أحد: لا علاقة لي بالمرأة التي توفى عنها زوجها ولتفعل ما تشاء. إن لها أن تتزين بالمتعارف عليه إسلاميا في الزينة، ولها أن تتجمل في حدود ما أذن الله لها فيه. ويختتم الحق هذه الآية بقوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي والله أعلم بما في نفسها وبما في نيتها. وهب أنها فعلت أي فعل على غير مرأى من أحد فلا تعتقد أن المجتمع وإن لم يشهد منها ذلك أن المسألة انتهت، لا، إن الله عليم بما تفعل وإن لم يطلع عليها أحد من الناس. إن الحق سبحانه وتعالى قد حمى بكل التشريعات السابقة حق الزوج حتى تنتهي العدة، وحق المتوفى عنها زوجها في أثناء العدة، وحمى أيضا بكل التشريعات كرامة المرأة. وجعل المرأة حرما لا يقترب منه أحد يخدش حجابها، إنّ عليها عدة محسوبة في هذا الوقت لرجل آخر، فلا يحق لأحد أن يقترب منها. لماذا؟ لأن المرأة خاصة إذا كانت مطلقة قد تتملكها رغبة في أن تثأر لنفسها ولكرامتها، وربما تعجلت التزوج، وربما كانت مسائل الافتراق أو الخلاف ناشئة عن اندساس رغبة راغب فيها، وبمجرد أن يتم طلاقها وتعيش فترة العدة فقد يحوم حولها الراغبون فيها، أو تستشرق هي من ناحيتها من تراه صالحاً كزوج لها. ولذلك يفرض الحق سياجا من الزمن ويجعل العدة كمنطقة حرام ليحمي المرأة حماية موضوعية لا شكلية. التشريع لأنه من إله رحيم لا يهدر عواطف النفس البشرية: لا من ناحية الذي يرغب في أن يتزوج، ولا من ناحية المرأة التي تستشرق أن تتزوج، فيعالج هذه المسألة بدقة وبحزم وبحسم معا جل شأنه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1011 {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1012 و {عَرَّضْتُمْ} مأخوذة من التعريض. والتعريض: هو أن تدل على شيء لا بما يؤديه نصا، ولكن تعرض به تلميحا. إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل للعواطف تنفيسا من هذه الناحية، والتنفيس ليس مجرد تعبير عن العاطفة، ولكنه رعاية للمصلحة، فمن الجائز أنه لو حزم التعريض لكان في ذلك ضياع فرصة الزواج للمرأة، أو قد يفوت هذا المنع الفرصة على من يطلبها من الرجال؛ لذلك يضع الحق القواعد التي تفرض على الرجل والمرأة معا أدب الاحتياط، وكأنه يقول لنا: أنا أمنعكم أن تخطبوا في العدة أو تقولوا كلاماً صريحاً وواضحاً فيها، لكن لا مانع من التلميح من بعيد. مثلا يثنى الرجل على المرأة؛ ويعدد محاسنها بكلام لا يعد خروجا على آداب الإسلام مثل هذا الكلام هو تلميح وتعريض، وفائدته أنه يعبر عما في نفسه قائله تجاه المطلقة فتعرف رأيه فيها، ولو لم يقل ذلك فربما سبقه أحد إليها وقطع عليه السبيل لإنفاذ ما في نفسه، ومنعه من أن يتقدم لخطبتها بعد انتهاء العدة، وقد يدفعه ذلك لأن يفكر تفكيرا آخر: للتعبير بأسلوب وشكل خاطئ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1012 إذن فالتعريض له فائدة في أنه يُعرف المطلقة رأي فلان فيها حتى إن جاءها غيره لا توافق عليه مباشرة. وهكذا نرى قبساً من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا، بأن جعل العدة كمنطقة حرام تحمي المرأة، وجعل التعريض فرصة للتعبير عن العاطفة التي تؤسس مصلحة من بعد ذلك. إن الحق يقول: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء} والخطبة مأخوذة من مادة «الخاء» و «الطاء» و «الباء» وتدل على أمور تشترك في عدة معالم: منها خُطبة بضم الخاء، ومنها خَطْب وهو الأمر العظيم، ومنها المعنى الذي نحن بصدده وهو الخِطبة بكسر الخاء. وكل هذه المعالم تدل على أن هناك الأمر العظيم الذي يُعالج، فالخطب أمر عظيم يهز الكيان، وكذلك الخُطبة لا يلقيها الخطيب إلا في أمر ذي بال، فيعظ المجتمع بأمر ضروري. والخِطبة كذلك أمر عظيم؛ لأنه أمر فاصل بين حياتين: حياة الانطلاق، وحياة التقيد بأسرة وبنظام. وكلها معان مشتركة في أمر ذي بال، وأمر خطير. وهو سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} أي لا جناح عليكم أن وضعتم في أنفسكم أمرا يخفى على المرأة، وللمسلم أن يكنن ويخفي في نفسه ما يشاء، ولكن ما الذي يُدري ويعلم المطلقة أنها في بالك يا من أسررت أمرها في نفسك؟ إنك لابد أن تلمح وأن تعرض بأسلوب يليق باحترام المرأة. ويقول الحق: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} ، إن الذي خلقك يعلم أنها ما دامت في بالك، ومات زوجها عنها أو طلقها فقد أصبحت أملا بالنسبة لك، فلو أنه ضيق عليك لعوق عواطفك، ولضاعت منك الفرصة لأن تتخذها زوجة من بعد ذلك، ولهذا أباح الحق التعريض حتى لا يقع أحدكم في المحظور وهو {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} بأن تأخذوا عليهن العهد ألا يتزوجن غيركم، أو يقول لها: تزوجيني. بل عليه أن يعرض ولا يفصح ولا يصرح. إن المواعدة في السر أمر منهي عنه، لكن المسموح به هو التعريض بأدب، {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} كأن يقول: «يا سعادة من ستكون له زوجة مثلك» . ومثل ذلك من الثناء الذي يُطرب المرأة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1013 ونعلم جميعا أن المرأة في مثل حال المطلقة أو المتوفى عنها زوجها تملك شفافية وألمعية تلتقط بها معنى الكلام ومراده. ويتابع الحق: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} وهكذا نرى أن مجرد العزم الأكيد أمر نهى عنه. والعزم مقدم على الفعل فإذا نهى عنه كان النهي عن الفعل أقوى وأشد وأنهى، فلك أن تنوى الزواج منها وتتوكل على الله، لكن لا تجعله أمرا مفروغا منه، إلا بعد أن تتم عدتها، فإن بلغ الكتاب أجله وانتهت عدتها فاعزموا عقدة النكاح. فكأن عقدة النكاح تمر بثلاث مراحل: المرحلة الأولى: وهي التعريض أي التلميح. والمرحلة الثانية: هي العزم الذي لا يصح ولا يستقيم أن يتم إلا بعد انتهاء فترة العدة. والمرحلة الثالثة: هي العقد. والمقصود بهذه المراحل أن يأخذ كل طرف فرصته للتفكير العميق في هذا الأمر الجاد، فإن كان التفكير قد هدى إلى العزم فإن للإنسان أن يعقد بعد انتهاء العدة، وإن كان التفكير قد اهتدى إلى الابتعاد وصرف النظر عن مثل هذا الأمر فللإنسان ما يريد. ويريد الحق من هذه المراحل أن يعطي الفرصة في التراجع إن اكتشف أحد الطرفين في الآخر أمرا لا يعجبه. وكل هذه الخطوات تدل على أن العقد لا يكون إلا بعزم، فلا يوجد عقد دون عزم، إن الحق يريد من المسلم ألا يقدم على عقدة النكاح إلا بعد عزم. والعزم معناه التصميم على أنك تريد الزواج بحق الزواج وبكل مسئولياته، وبكل مهر الزواج، ومشروعيته، وإعفافه؛ فالزواج بدون أرضية العزم مصيره الفشل. ومعنى العزم: أن تفكر في المسألة بعمق وروية في نفسك حتى تستقر على رأي أكيد، ثم لك أن تقبل على الزواج على أنه أمر له ديمومة وبقاء لا مجرد شهوة طارئة ليس لها أرضية من عزيمة النفس عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1014 ولذلك فإن الزواج القائم على غير رويّة، والمعلق على أسباب مؤقتة كقضاء الشهوة لا يستمر ولا ينجح. ومثل ذلك زواج المتعة؛ فالعلة في تحريم زواج المتعة أن المقدم عليه لا يريد به الاستمرار في الحياة الزوجية، وما دام لا يقصد منه الديمومة فمعناه أنه هدف للمتعة الطارئة. والذين يبيحون زواج المتعة مصابون في تفكيرهم؛ لأنهم يتناسون عنصر الإقبال بديمومة على الزواج، فما الداعي لأن تقيد زواجك بمدة؟ إن النكاح الأصيل لا يُقيد بمثل هذه المدة. وتأمل حمق هؤلاء لتعلم أن المسألة ليست مسألة زواج، إنما المسألة هي تبرير زنى، وإلا لماذا يشترط في زواج المتعة أن يتزوجها لمدة شهر أو أكثر؟ إن الإنسان حين يشترط تقييد الزواج بمدة فذلك دليل على غباء تفكيره وسوء نيته؛ لأن الزواج الأصيل هو الذي يدخل فيه بديمومة، وقد ينهيه بعد ساعة إن وجد أن الأمر يستحق ذلك، ولن يعترض أحد على مثل هذا السلوك، فلماذا تقيد نفسك بمدة؟ إن المتزوج للمتعة يستخدم الذكاء في غير محله، قد يكون ذكيا في ناحية ولكنه قليل الفطنة في ناحية أخرى. إن على الإنسان أن يدخل على الزواج بعزيمة بعد تفكير عميق وروية ثم ينفذ العزم على عقد. حذار أن تضع في نفسك مثل هذا الزواج المربوط على مطامع وأهداف في نفسك كعدم الديمومة أو لهدف المتعة فقط، فكل ما يفكر فيه بعض الناس من أطماع شهوانية ودنيوية هي أطماع زائلة. اصرف كل هذه الأفكار عنك؛ لأنك إن أردت شيئاً غير الديمومة في الزواج، وإرادة الإعفاف؛ فالله سبحانه يعلمه وسيرد تفكيرك نقمة عليك فاحذره. إن الله سبحانه لا يحذر الإنسان من شيء إلا إذا كان مما يغضبه سبحانه. لذلك يذيل الحق هذه الآية الكريمة بقوله: {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} . وهو سبحانه يعلم ضعف النفس البشرية وأنها قد تضعف في بعض الأحيان، فإن كان قد حدث منها شيء فالله يعطيها الفرصة في أن يتوب صاحبها لأنه سبحانه هو الغفور الحليم. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1015 {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1016 نحن نلاحظ أن الكلام فيما تقدم كان عن الطلاق للمدخول بها، أو عن المرأة التي دخل بها زوجها ومات عنها. ولكن قد تحدث بعض من المسائل تستوجب الطلاق لامرأة غير مدخول بها. وتأتي هذه الآية لتتحدث عن المرأة غير المدخول بها، وهي إما أن يكون الزوج لم يفرض لها صداقاً، وإما أن يكون قد فرض لها صداقاً. والطلاق قبل الدخول له حكمان: فُرضت في العقد فريضة، أو لم تفرض فيه فريضة، فكأن عدم فرض المهر ليس شرطاً في النكاح، بل إذا تزوجته ولم يفرض في هذا الزواج مهر فقد ثبت لها مهر المثل والعقد صحيح. ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} ومعنى ذلك أنها كانت زوجة ولم يحدث دخول للزوج بها. ولنا أن نسأل ما هو المس؟ ونقول: فيه مس، وفيه لمس، وفيه ملامسة. فالإنسان قد يمس شيئا، ولكن الماس لا يتأثر بالممسوس، أي لم يدرك طبيعته أو حاله هل هو خشن أو ناعم؟ دافئ أو بارد، وإلى غير ذلك. أما اللمس فلا بد من الإحساس بالشيء الملموس، أما الملامسة فهي حدوث التداخل بين الشيئين. إذن فعندنا ثلاث مراحل: الأولى هي: مس. والثانية: لمس. والثالثة: ملامسة. كلمة «المس» هنا دلت على الدخول والوطء، وهي أخف من اللمس، وأيسر من أن يقول: لامستم أو باشرتم، ونحن نأخذ هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1016 المعنى؛ لأن هناك سياقا قرآنيا في مكان آخر قد جاء ليكون نصاً في معنى، ولذلك نستطيع من سياقه أن نفهم المعنى المقصود بكلمة «المس» هنا، فقد قالت السيدة مريم: {قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم: 20] إن القرآن الكريم يوضح على لسان سيدتنا مريم أن أحداً من البشر لم يتصل بها ذلك الاتصال الذي ينشأ عنه غلام، والتعبير في منتهى الدقة، ولأن الأمر فيه تعرض لعورة وأسرار؛ لذلك جاء القرآن بأخف لفظ في وصف تلك المسألة وهو المس، وكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لها إعفافاً حتى في اللفظ، فنفى مجرد مس البشر لها، وليس الملامسة أو المباشرة برغم أن المقصود باللفظ هو المباشرة؛ لأن الآية بصدد إثبات عفة مريم. ولنتأمل أدب القرآن في تناول المسألة في الآية التي نحن بصددها؛ فكأن الحق سبحانه وتعالى يعبر عن اللفظ بنهاية مدلوله وبأخف التعبير. والحق يقول: {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} وتعرف أن «أَوْ» عندما ترد في الكلام بين شيئين فهي تعني «إما هذا وإما ذاك» ، فهل تفرض لهن فريضة مقابل المس؟ . إن الأصل المقابل في {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} هو أن تمسوهن. ومقابل {تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} هو: أن لا تفرضوا لهن فريضة. كأن الحق عَزَّ وَجَلَّ يقول: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن سواء فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لهن فريضة. وهكذا يحرص الأسلوب القرآني على تنبيه الذهن في ملاحظة المعاني. ولنا أن نلاحظ أن الحق قد جاء بكلمة «إن» في احتمال وقوع الطلاق، و «إن» كما نعرف تستخدم للشك، فكأن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يريد أن يكون الطلاق مجترءاً عليه ومحققاً، فلم يأت ب «إذا» ، بل جعلها في مقام الشك حتى تعزز الآية قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1017 ثم يقول الحق عَزَّ وَجَلَّ بعد ذلك: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} أي إنّك إذا طلقت المرأة قبل الدخول، ولم تفرض لها فريضة فأعطها متعة. وقال العلماء في قيمة المتعة: إنها ما يوازي نصف مهر مثيلاتها من النساء؛ لأنه كان من المفروض أن تأخذ نصف المهر، وما دام لم يُحَّدد لها مهرٌ فلها مثل نصف مهر مثيلاتها من النساء. ويقول الحق: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} أي ينبغي أن تكون المتعة في حدود تناسب حالة الزوج؛ فالموسع الغني: عليه أن يعطي ما يليق بعطاء الله له، والمقتر الفقير: عليه أن يعطي في حدود طاقته. وقول القرآن: {الموسع} مشتق من «أوسع» واسم الفاعل «موسع» واسم المفعول «موسع عليه» ، فأي اسم من هؤلاء يطلق على الزوج؟ إن نظرت إلى أن الزرق من الحق فهو «موسع عليه» ، وإن نظرت إلى أن الحق يطلب منه أن توسع حركة حياتك ليأتيك رزقك، وعلى قدر توسيعها يكون اتساع الله لك، فهو «موسع» . إذن فالموسع: هو الذي أوسع على نفسه بتوسيع حركة أسبابه في الحياة. والإقتار هو الإقلال، وعلى قدر السعة وعلى قدر الإقتار تكون المتعة. والحق سبحانه وتعالى حينما يطلب حكماً تكليفياً لا يقصد إنفاذ الحكم على المطلوب منه فحسب، ولكنه يوزع المسئولية في الحق الإيماني العام؛ فقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} يعني إذا وُجد من لا يفعل حكم الله فلا بد أن تتكاتفوا على إنفاذ أمر الله في أن يمتع كل واحد طلق زوجته قبل أن يدخل بها. والجمع في الأمر وهو قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} دليل على تكاتف الأمة في إنفاذ حكم الله. وبعد ذلك قال: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1018 أي ما دام لم يدخل بها ولم يتمتع بها فلا تأخذ المهر كله، إنما يكون لها النصف من المهر. ولنعلم أن هناك فرقاً بين أن يوجد الحكم بقانون العدل، وبين أن يُنظر في الحكم ناحية الفضل، وأحكي هذه الواقعة لنتعلم منها: ذهب اثنان إلى رجل ليحكم بينهما فقالا: احكم بيننا بالعدل. قال: أتحبون أن أحكم بينكما بالعدل؟ أم بما هو خير من العدل؟ فقالا: وهل يوجد خير من العدل؟ قال: نعم. الفضل. إن العدل يعطي كل ذي حق حقه، ولكن الفضل يجعل صاحب الحق يتنازل عن حقه أو عن بعض حقه. إذن فالتشريع حين يضع موازين العدل لا يريد أن يحرم النبع الإيماني من أريحية الفضل؛ فهو يعطيك العدل، ولكنه سبحانه يقول بعد ذلك: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} ؛ فالعدل وحده قد يكون شاقاً وتبقى البغضاء في النفوس، ولكن عملية الفضل تنهي المشاحة والمخاصمة والبغضاء. والمشاحة إنما تأتي عندما أظن أني صاحب الحق، وأنت تظن أنك صاحب الحق، ومن الجائز أن تأتي ظروف تزين لي فهمي، وتأتي لك ظروف تزين لك فهمك، فحين نتمسك بقضية العدل لن نصل إلى مبلغ التراضي في النفوس البشرية. ولكن إذا جئنا للفضل تراضينا وانتهينا. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} أي من قبل أن تدخلوا بهن {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} يعني سميتم المهر {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ} والمقصود ب {يَعْفُونَ} هو الزوجة المطلقة. إن بعض الجهلة يقولون والعياذ بالله: إن القرآن فيه لحن. وظنوا أن الصحيح في اللغة أن يأتي القول: إلا أن يعفوا بدلا من {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ} . وهذا اللون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1019 من الجهل لا يفرق بين «واو الفعل» و «واو الجمع» إنها هنا «واو الفعل» فقول الحق: {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ} مأخوذ من الفعل «عفا» و «يعفو» . وهكذا نفهم أن للزوجة أن تعفو عن نصف مهرها وتتنازل عنه لزوجها. ويتابع الحق: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} والمقصود به الزوج وليس الولي، لأن سياق الآية يفهم منه أن المقصود به هو الزوج، مع أن بعض المفسرين قالوا: إنه ولي الزوجة. ولنا أن نعرف أن الولي ليس له أن يعفو في مسألة مهر المرأة؛ لأن المهر من حق الزوجة، فهو أصل مال، وأصل رزق في حياة الناس؛ لأنه نظير التمتع بالبضع. ولذلك تجد بعض الناس لا يصنعون شيئاً بصداق المرأة، ويدخرونه لها بحيث إذا مرض واحد اشترت له من هذا الصداق ولو قرص اسبرين مثلا؛ لأنه علاج من رزق حلال، فقد يجعل الله فيه الشفاء. فالمرأة تحتفظ بصداقها الحلال لمثل هذه المناسبات لتصنع به شيئا يجعل الله فيه خيراً، لأنه من رزق حلال لا غش فيه ولا تدليس. وأراد المفسرين الذين نادوا بأن ولي الزوجة هو الذي يعفو وأقول: لماذا يأتي الله بحكم تتنازل فيه المرأة عن حقها وأن تعفو عن النصف، والرجل لا يكون أريحياً ليعفو عن النصف؟ لماذا تجعل السماء الغرم كله على المرأة؟ هل من المنطقي أن تعفو النساء أو يعفو الذي بيده عقد النكاح يعني أولياء الزوجة، فنجعل العفو يأتي من الزوجة ومن أوليائها؛ أي من جهة واحدة؟ إن علينا أن نحسن الفهم لسياق الفضل الذي قال الله فيه: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} ، إن التقابل في العفو يكون بين الاثنين، بين الرجل والمرأة، ونفهم منه المقصود بقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} أنه هو الزوج، فكما أن للمرأة أن تعفو عن النصف المستحق لها فللزوج أن يعفو أيضا عن النصف المستحق له. ويقول الحق: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} ؛ لأن من الجائز جدا أن يظن أحد الطرفين أنه مظلوم، وإن أخذ النصف الذي يستحقه. لكن إذا لم يأخذ شيئا فذلك أقرب للتقوى وأسلم للنفوس. ولنا أن نتذكر دائما في مثل هذه المواقف قول الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1020 {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} فحتى في مقام الخلاف الذي يؤدي إلى أن يفترق رجل عن امرأة لم يدخل بها يقول الله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} أي لا تجعلوها خصومة وثأراً وأحقاداً، واعلموا أن الحق سبحانه يجعل من بعض الأشياء أسباباً مقدورة لمقدور لم نعلمه. وهذه المسألة تجعل الإنسان لا يعتقد أن أسبابه هي الفاعلة وحدها. ومثال ذلك: قد نجد رجلا قد أعجب بواحدة رآها فتزوجها، أو واحدة أخرى رآها شاب ولم تعجبه، ثم جاء لها واحد آخر فأعجب بها، معنى ذلك أن الله عَزَّ وَجَلَّ كتب لها القبول ساعة رأت الشاب أهلاً لها ورآها هي أهلاً له. ولذلك كان الفلاحون قديماً يقولون: لا تحزن عندما يأتي واحد ليخطب ابنتك ولا تعجبه؛ لأنه مكتوب على جبهة كل فتاة: أيها الرجال عِفّوا بكسر العين وتشديد الفاء عن نساء الرجال؛ فهي ليست له، ولذلك فليس هذا الرجل من نصيبها. وعلينا ألا نهمل أسباب القدر في هذه الأمور؛ لأن هذا أدعى أن نحفظ النفس البشرية من الأحقاد والضغائن. ويختم الحق الآية بقوله: {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} إنه سبحانه يعلم ما في الصدور وما وراء كل سلوك. وبعد ذلك تأتي آية لتثبت قضية إيمانية، هذه القضية الإيمانية هي أن تكاليف الإسلام كلها تكاليف مجتمعة، فلا تستطيع أن تفصل تكليفاً عن تكليف، فلا تقل: «هذا فرض تعبدي» و «هذا مبدأ مصلحي» و «هذا أمر جنائي» ، لا. إن كل قضية مأمور بها من الحق هي قضية إيمانية تُكَوِّنُ مع غيرها منهجا متكاملاً. فبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطلاق يقول: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1021 ثم يعود إلى الأسرة وإلى المتوفى عنها زوجها فيقول: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 240] إذن فالحق سبحانه وتعالى فَصَلَ بآية: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات. .} بين قضية واحدة هي قضية الفراق بين الزوجين وقسمها قسمين، وأدخل بينهما الحديث عن الصلاة، وذلك لينبهنا إلى وحدة التكاليف الإيمانية، ونظرا لأن الحق يتكلم هنا عن أشياء كل مظاهرها إما شقاق اختياري بالطلاق، وإما افتراق قدري بالوفاة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يدخل الإنسان في العملية التعبدية التي تصله بالله الذي شرع الطلاق والصلاة وقدر الوفاة. ولماذا اختار الله الصلاة دون سائر العبادات لتقطع سياق الكلام عن تشريع الطلاق والفراق؟ لأن الصلاة هي التي تهب المؤمنين الاطمئنان، إن كانت أمور الزواج والطلاق حزبتهم وأهمتهم في شقاق الاختيار في الطلاقات التي وقعت أو عناء الافتراق بالوفاة. ولن يربط على قلوبهم إلا أن يقوموا لربهم ليؤدوا الصلاة، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أول من يفعل ذلك، كان إذا ما حزبه أمر قام إلى الصلاة. إن المؤمن يذهب إلى الخالق الذي أجرى له أسباب الزواج والطلاق والفراق؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1022 ليسأله أن يخفف عنه الهم والحزن. ومادام المؤمن قد اختار الذهاب إلى من يُجري الأقدار فله أن يعرف أن الله الذي أجرى تلك الأقدار عليه لم يتركها بلا أحكام، بل وضع لكل أمر حكما مناسبا، وما على المؤمن إلا أن يأخذ الأمور القدرية برضا ثم يذهب إلى الله قانتا وخاشعا ومصليا. لأن المسألة مسألة الطلاق أو الوفاة فيها فزع وفراق اختيار أو فراق الموت القدري. ويأتي قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} فنفهم أن المقصود في الآية هي الصلوات الخمس، فما المقصود بالصلاة الوسطى؟ ساعة يأتي خاص وعام مثل قوله تعالى: {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} [نوح: 28] فكم مرة دخل الأب والأمر هنا؟ لقد دخلوا في قوله تعالى: {اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} ، وفي قوله: {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ} ، وفي قوله: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} ، أي دخلوا ثلاث مرات. إذن فإيجاد عام بعد خاص، يعني أن يدخل الخاص في العام فيتكرر الأمر بالنسبة للخاص تكراراً يناسب خصوصيته. وقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} تفهم ذلك المعنى فإذا سألنا: ما معنى حافظوا؟ الجواب إذن يقتضي أن نفهم أن عندنا «حفظاً» يقابل «النسيان» ، و «حفظا» يقابله «التضييع» ، والاثنان يلتقيان، فالذي حفظ شيئا ونسيه فإنه قد ضيعه. والذي حفظ مالا ثم بدده، لقد ضيعه أيضاً، إذن كلها معانٍ تلتقي في فقد الشيء، فالحفظ معناه أن تضمن بقاء شيء كان عندك؛ فإذا ما حفظت آية في القرآن فلابد أن تحفظها في نفسك، ولو أنعم الله عليك بمال فلا بد أن تحافظ عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1023 وقوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} معناه لا تضيعوها. ويُحتمل أيضاً معنى آخر هو أنكم قد ذقتم حلاوة الصلاة في القرب من معية ربكم، وذلك أجدر وأولى أن تتمسكوا بها أكثر، وذلك القول يسري على الصلوات الخمس التي نعرفها. قوله تعالى: {والصلاة الوسطى} ذكر للخاص بعد العام، فكأن الله أمر بالمحافظة على ذلك الخاص مرتين، مرة في دائرة العموم ومرة أخرى أفردها الله بالخصوص. وما العلة هنا في تفرد الصلاة الوسطى بالخصوص؟ إن «وسطى» هي تأنيث «أوسط» ، والأوسط والوسطى هي الأمر بين شيئين على الاعتدال، أي أن الطرفين متساويان، ولا يكون الطرفان متساويين في العدد وهي الصلوات الخمس إلا إذا كانت الصلوات وتراً؛ أي مفردة؛ لأنها لو كان زوجية لما عرفنا الوسطى فيها، ومادام المقصود هو وسط الخمس، فهي الصلاة الثالثة التي يسبقها صلاتان ويعقبها صلاتان، هذا إن لاحظت العدد، باعتبار ترتيب الأول والثاني والثالث والرابع والخامس. وإذا كان الاعتبار بفريضة الصلاة فإن أول صلاة فرضها الله عَزَّ وَجَلَّ هي صلاة الظهر، هذا أول فرض، وبعده العصر، فالمغرب، فالعشاء، فالفجر. فإن أخذت الوسطى بالتشريع فهي صلاة المغرب وهذا رأي يقول به كثير من العلماء. وإن أخذت الوسطى بحسب عدد ركعات الصلاة فستجد أن هناك صلاة قوامها ركعتان هي صلاة الفجر وصلاة من أربع ركعات وهي صلاة الظهر والعصر والعشاء، وصلاة من ثلاثة ركعات هي صلاة المغرب. والوسط فيها هي الصلاة الثلاثية، وهي وسط بين الزوجية والرباعية فتكون هي صلاة المغرب أيضا. وإن أخذتها بالنسبة للنهار فالصبح أول النهار والظهر بعده ثم العصر والمغرب والعشاء، فالوسطى هي العصر. وإن أخذتها على أنها الوسط بين الجهرية والسرية فيحتمل أن تكون هي صلاة الصبح أو صلاة المغرب؛ لأن الصلوات السرية هي الظهر والعصر، والجهرية هي المغرب والعشاء والفجر. وبين العشاء والظهر تأتي صلاة الصبح، أو صلاة المغرب باعتبار أنها تأتي بين الظهر والعصر من ناحية، والعشاء والصبح من ناحية أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1024 وإن أخذتها لأن الملائكة تجتمع فيها فهي في طرفي النهار والليل فذلك يعني صلاة العصر أو صلاة الصبح. إذن، فالوسط يأتي من الاعتبار الذي تُحسب به إن كان عدداً أو تشريعا، أو عدد ركعات، أو سرية أو جهرية أو بحسب نزول ملائكة النهار والليل، وكل اعتبار من هؤلاء له حكم. ولماذا أخفى الله ذكرها عنا؟ نقول: أخفاها لينتبه كل منا ويعرف أن هناك فرقا بين الشيء لذاته، والشيء الذي يُبهم في سواه؛ ليكون كل شيء هو الشيء فيؤدي ذلك إلى المحافظة على جميع الصلوات. فما دامت الصلاة الوسطى تصلح لأن تكون الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء فذلك أدعى للمحافظة على الصلوات جميعا. فإبهام الشيء إنما جاء لإشاعة بيانه. ولذلك أبهم الله ليلة القدر للعلة نفسها وللسبب نفسه، فبدل أن تكون ليلة قدر واحدة أصبحت ليال أقدار. كذلك قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} أي على الصلوات الخمس بصفة عامة وكل صلاة تنفرد بصفة خاصة. ويريد الحق سبحانه أن نقوم لكل صلاة ونحن قانتون، والأمر الواضح هو {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} وأصل القنوات في اللغة هو المداومة على الشيء، وقد حضر وحث القرآن الكريم على ديمومة طاعة الله ولزوم الخشوع والخضوع، ونرى ذلك في قول الحق الكريم: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} [الزمر: 9] إن الحق سبحانه يبلغ رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليبلغنا نحن المسلمين المؤمنين برسالته أن نقارن بين الذي يخشع لله في أثناء الليل فيقضيه قائماً وساجداً يرجو رحمة ربه، وبين الذي يدعو ربه في الضراء وينساه في السراء، هل يستوي الذين يعلمون حقوق الله فيطيعوه ويوحدوه والذين لا يعلمون فيتركوا النظر والتبصر في أدلة قدرات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1025 الله؟ إن السبيل إلى ذكر الله هو تجديد الصلة به والوقوف بين يديه مقيمين للصلاة. ونحن نتلقى الأمر بإقامة الصلاة حتى في أثناء القتال، لذلك شرع لنا صلاة الخوف، فالقتال هو المسألة التي تخرج الإنسان عن طريق أمنه، فيقول سبحانه: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} ، إننا حتى في أثناء القتال والخوف لا ننسى ذكر الله؛ لأننا أحوج ما نكون إلى الله أثناء مواجهتنا للعدو، ولذلك لا يصح أن نجعل السبب الذي يوجب أن نكون مع الله مبررا لأن ننسى الله. وكذلك المريض، مادام مريضاً فهو مع معية الله، فلا يصح أن ينقطع عن الصلاة؛ لأنه لا عذر لتاركها، حتى المريض إن لم يستطع أن يصلي واقفا صلى قاعداً، فإن لم يستطع قاعدا؛ فليصل مضطجعا، ويستمر معه الأمر حتى لو اضطر للصلاة برموش عينيه. كذلك إن خفتم من عدوكم صلوا رجالا، يعني سائرين على أرجلكم أو ركبانا و «رجالا» جمع «راجل» أي يمشي على قدميه، ومثال ذلك قوله الحق: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} [الحج: 27] لقد كان الناس يؤدون فريضة الحج سيراً على الأقدام أو ركباناً على إبل يضمرها السفر من كل مكان بعيد. إذن فالراجل هو من يمشي على قدميه. والأرجل مخلوقة لتحمل بني الإنسان: الواقف منهم، وتقوم بتحريك المتحرك منهم، فإن كان الإنسان واقفا حملته رجلاه، وإن كان ماشيا فإن رجليه تتحركان. والمقصود هنا أن الصلاة واجبة على المؤمنين سائرين على أقدامهم أو ركبانا. هذه المسألة قد فصلها الحق سبحانه وتعالى في صلاة الخوف بأن قسم المسلمين قسمين: قسما يصلي مع النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الركعة الأولى، ثم يتمون الصلاة وحدهم ويأتي القسم الآخر ليأتم بالرسول في الركعة التي بعدها حتى تنتهي الصلاة بالنسبة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وينتظرهم حتى يفرغوا من صلاتهم ويسلم بهم، فيكون الفريق الأول أخذ فضل البدء مع الرسول، والفريق الآخر أخذ فضل الانتهاء من الصلاة مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكان ذلك في غزوة ذات الرقاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1026 فكلٌ من الفرقتين كانت تقف في وجه العدو للحراسة في أثناء صلاة الفرقة الأخرى. ولي رأي في هذه المسألة هو أن صلاة الخوف بالصور التي ذكرها الفقهاء إنما كانت للمعارك التي يكون فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه لا يصح أن يكون هناك جيش يصلي خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويحرم الباقي من أن يصلي خلفه، لذلك جعل الله بركة الصلاة مع رسول الله للقسمين. لكن حينما انتقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الرفيق الأعلى فمن الممكن أن يكون للواقفين أمام العدو إمام وللآخرين إمام، إذن كان تقسيم الصلاة وراء الإمام في صلاة الخوف إنما كان لأن الإمام هو الإمام الأعلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم يشأ الله أن يحجب قوما عن الصلاة مع رسول الله عن قوم آخرين، فقسم الصلاة الواحدة بينهم. لكن في وقتنا الحالي الذي انتظمت فيه المسائل، وصار كل الناس على سواء، ولم يعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فينا، لذلك يصح أن تُصلي كل جماعة بإمام خاص بهم. وقوله الحق: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} نفهم منه الصلاة لا تسقط حتى عند لقاء العدو، فإذا حان وقت الصلاة فعلى المؤمن أن يصليها إذا استطاع فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين ويتابع الحق فيقول: {فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} أي اذكروا الله على أنه علمكم الأشياء التي لم تكونوا تعلمونها، فلو لم يعلمكم فماذا كنتم تصنعون؟ وبعد ذلك يعود الحق لسياق الحديث عن المتوفى عنها زوجها فيقول: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1027 في آية سابقة قال الحق: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234] إذن نحن أمام حكمين للذين يتوفون ويذرون أزواجا، حكم أن تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا، وحكم آخر بأن للزوج حين تحضره الوفاة أو أسبابها أو مقدماتها أن ينصح ويوصي بأن تظل الزوجة في بيته حولا كاملا لا تُهاج، وتكون الأربعة الأشهر والعشر فريضة وبقية الحول والعام وصية، إن شاءت أخذتها وإن شاءت عدلت عنها. {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً} هذه وصية من الزوج عندما تحضره الوفاة. إذن فالمتوفى عنها زوجها بين حكمين: حكم لازم وهو فرض عليها بأن تظل أربعة أشهر وعشراً، وحكم بأن يوصي الزوج بأن تظل حولا كاملا لا تُهاج إلا أن تخرج من نفسها. و {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي لا يخرجها أحد. {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . إن لها الخيار أن تظل عاما حسب وصية زوجها، ولها الخيار في أن تخرج بعد الأربعة الأشهر والعشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1028 ويقول الحق بعد ذلك: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1029 إن لكل المطلقات في أي صورة من الصور متاعاً، ولكنه سبحانه قد بين المتاع في كل واحدة بدليل أنه أوضح لنا: إن لم تفرضوا لهن فريضة فقال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} . وإن كنتم فرضتم لها مهراً فنصف ما فرضتم، فكأن الله قد جعل لكل حالة حكما يناسبها، ولكل مطلقة متعة بالقدر الذي قاله سبحانه. وعندما نتأمل قول الحق من بعد ذلك: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1029 فنحن نعرف مما سبق أن الآيات هي الأمور العجيبة، والحق سبحانه وتعالى حين ينبه العقل إلى استقبال حكم بالتعقل يكون العقل المحض لو وجه فكره إلى دراسة أسباب هذا الموضوع فلن ينتهي إلا إلى هذا الحكم. ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يترك لبعض المشادات في التعامل والثارات في الخصومة أن تخرج عن حكم ما شرع الله في أي شيء من الأشياء التي تقدمت، ثم يصيب المجتمع شر من المخالفة، وكأنه بذلك يؤكد حكمته في تشريع ما شرع. وإلا لو لم تحدث من المخالفات شرور لقال الناس: إنه لا داعي للتشريع. ولتركوا التشريع دون أن يصيبهم شر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1029 إذن فحين لا نلتزم بالتشريع فالمنطق والكمال الكوني أن تحدث الشرور؛ لأنه لو لم تحدث الشرور لاتهم الناس منهج الله وقالوا: إننا لم نلتزم يا رب بمنهجك، ومع ذلك لا شرور عندنا. فكأن الشرور التي نجدها في المجتمع تلفتنا إلى صدق الله وكمال حكمته في تحديد منهجه. وهكذا يكون المخالفون لمنهج الله مؤيدين لمنهج الله. وبعد ذلك ينتقل الحديث إلى علاج قضية إيمانية وهو أن الله حين يقدر قدرا لا يمكن لمخلوق أن يفلت من هذا القدر، يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1030 بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى على ما يتعلق بالأسرة المسلمة في حالة علاج الفراق في الزواج إما بالطلاق وإما بالوفاة، أراد الحق سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية أن تعرف أن أحداً لن يفر من قدر الله إلا إلى قدر الله، فالأمة الإسلامية هي الأمة التي أمنها على حمل رسالة ومنهج السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، فلم يعد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأتى ولا نبي يُبعث. ولابد لمثل هذه الأمة أن تُربى تربية تناسب مهمتها التي حملها الله إليها. ولابد أن يضع الحق سبحانه وتعالى بين يدي هذه الأمة كل ما لاقته وصادفته مواكب الرسل في الأمة السابقة ليأخذوا العبرة من المواقف ويتمثلوا المنهج لا من نظريات تُتلى ولكن من واقع قد دُرس ووقع في المجتمع. أراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أساس المسألة وهو أنه سبحانه واهب الحياة ولا أحد غيره، وواهب الحياة هو الذي يأخذها. ولم يضع لهبة الحياة سبباً عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1030 الناس. وإنما هو سبحانه الذي يحيى ويميت. وفي الحياة والموت استبقاء للنوع الإنساني، ولكن استبقاء حياة الأفراد إنما ينشأ من التمول. ويعالج الحق هذه المسألة بواقع سبق أن عاشه موسى عليه السلام مع قومه وهم بنو إسرائيل، ونعرف أن قصة موسى مع قومه قد أخذت أوسع قصص القرآن؛ لأنها الأمة التي أتعبت الرسل، وأتعبت الأنبياء، وكان لابد أن يعرض الحق هذا الأمر برمته على أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من واقع ما حدث، فقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت} . ونعرف من هذا القول أن علة الخروج إنما كانت مخافة أن يموتوا. أما عن سبب هذا الموت فلم تتعرض له الآيات، وإن تعرض المفسرون له وقالوا كلاما طويلاً، فمنهم من قال: إنهم خرجوا هربا من وباء يحل بالبلد خشية أن يموتوا، وبعضهم قال: إنهم خرجوا فِراراً من عدو قد سُلط عليهم ليستأصلهم، المهم أنهم أرادوا أن يفروا خوفا من الموت. إذن فالقرآن يعالج تلك المسألة من الزاوية التي تهم، ولكن ما هو السبب ولماذا الخروج؟ فذلك أمر لا يهم؛ لأن القرآن لا يعطي تاريخا، فلم يقل متى كانت الوقائع ولا زمنها، ولا على يد من كان هذا، ولا يحدد أشخاص القضية، كل ذلك لا يهتم به القرآن. والذين يتعبون أنفسهم في البحث عن تفاصيل تلك الأمور في القصص القرآني إنما يحاولون أن يربطوا الأشياء بزمن مخصوص، ومكان مخصوص وأشخاص مخصوصة. ونقول لهم: إن القرآن لو أراد ذلك لفعل، ولو كان ذلك له أصل في العبرة والعظة لبيّنه الحق لنا، وأنتم تريدون إضعاف مدلول القصة بتلك التفاصيل؛ لأن مدلول القصة إن تحدد زمنها، فربما قيل: إن الزمان الذي حدثت فيه كان يحتمل أن تحدث تلك المسألة والزمن الآن لم يعد يحتملها، وربما قيل: إن هذا المكان الذي وقعت فيه يحتمل حدوثها، إنما الأمكنة الأخرى لا تحتمل. وكذلك لو حددها بشخصيات معينة لقيل: إنّ القصص لا يمكن أن تحدث إلا على يد هذه الشخصيات؛ لأنها فلتات في الكون لا تتكرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1031 إن الله حين يبهم في قصة ما عناصر الزمان والمكان والأشخاص وعمومية الأمكنة إنه - سبحانه - يعطي لها حياة في كل زمان وفي كل مكان وحياة مع كل شخص، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنها مشخصة. وأضرب دائما هذا المثل بالذين يحاولون أن يعرفوا زمن أهل الكهف ومكان أهل الكهف وأسماء أهل الكهف وكلب أهل الكهف. نقول لهؤلاء: أنتم لا تثرون القصة، لأنكم عندما تحددون لها زمانا ومكانا وأشخاصا فسيقال: إنها لا تنفع إلا للزمان الذي وقعت فيه. ولذلك إذا أراد الحق أن يبهم فقد أبهم ليعمم، وإن أراد أن يحدد فهو يشخِّص ومثال ذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} [التحريم: 10] لم يحدد الحق هنا اسم أي امرأة من هاتين المرأتين، بل ذكر فقط الأمر المهم وهو أن كلا منهما كانت زوجة لرسول كريم، ومع ذلك لم يستطع نوح عليه السلام أن يستلب العقيدة الكافرة من زوجته، ولم يستطع لوط عليه السلام أن يستلب العقيدة الكافرة من زوجته، بل كانت كل من المرأتين تتآمر ضد زوجها - وهو الرسول - مع قومها، لذلك كان مصير كل منهما النار، والعبرة من القصة أن اختيار العقيدة هو أمر متروك للإنسان، فحرية العقيدة أساس واضح من أسس المنهج. وأيضا قال سبحانه في امرأة فرعون: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11] لم يذكر اسمها؛ لأنه لم يهمنا في المسألة المهم أنها امرأة من ادعى الألوهية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1032 ومع ذلك لم يستطع أن يقنع امرأته بأنه إله. لكن حينما أراد أن يشخص قال في مريم عليها السلام: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12] لقد ذكرها الحق وذكر اسم والدها، ذلك لأن الحدث الذي حدث لها لن يتكرر في امرأة أخرى. فالذين يحاولون أن يُقَوّوا القصة بذكر تفاصيلها نقول لهم: أنتم تُفقرون القصة؛ فالمهم هو أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول: إنهم خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. ونريد أن نقف موقفا لغويا عند قول الحق: {أَلَمْ تَرَ} . أنت تقول لإنسان: {أَلَمْ تَرَ} يعني ألم ير بعينيه، وبالله هل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهل المؤمنون معه والمؤمنون بعده إلى أن تقوم الساعة رأوا هذه المسألة؟ لا. لقد وصلتهم بوسيلة السماع وليس بالرؤية. ونحن نعلم أن الرؤية تكون بالعين، والسماع يكون بالأذن، والتذوق يكون باللسان، والشم يكون بالأنف، واللمس يكون باليد، إن هذه هي الوسائل التي تعطي للعقل إدراكا وإحساسا لكي يعطي معنويات، وفي ذلك اقرأ قوله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] إذن فوسيلة العلم تأتي من الحواس، وسيدة الحواس هي العين؛ لأنه من الممكن أن تسمع شيئا من واحدٍ بتجربته هو، لكن عندما ترى أنت بنفسك فتكون التجربة خاصة بك، ولذلك يقال: «ليس مَن رأى كمن سمع» ، فإذا أراد الحق أن يقول: ألم تعلم يا من أخاطبك بالقرآن خبر هؤلاء القوم؟ فهو سبحانه يأتي بها على هذه الصورة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} ويعني ألم تعلم والعلم هنا بأي وسيلة؟ بالسمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1033 ولماذا لم يختصر سبحانه المسافة ويقول: «ألم تسمع» بدلا من {أَلَمْ تَرَ} ؟ . إنه في قوله: {أَلَمْ تَرَ} يخبرك بشيء سابق عن وجودك أو بشيء متأخر عن وجودك، فعليك أن تستقبله استقبالك لما رأيته؛ لأن الله الذي خلق الحواس هو سبحانه أصدق من الحواس، ولذلك جاء قوله تعالى في سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] إننا نعرف أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولد في عام الفيل ولم ير هذه الحادثة فكيف يقول الله له ألم تر؟ إن المعنى من ذلك هو «ألم تعلم» ؟ «ألم تسمع مني» ولم يقل «ألم تسمع» ؟ لكي يؤكد له أنه سيقول له حدثاً هو لم يره ولكن الحق سيخبره به، وإخبار الحق له كأنه يراه. فكأن الله يقول: إن هذه مسألة مفروغ منها وساعة أخبرك بها فكأنك رأيتها. ونحن نسمع في حياتنا قول الناس: إن فلانا ألمعي. ومعنى ذلك أنه يحدثك حديثاً كأنه رأى أو سمع. الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا ويحدثنا الحق عن هؤلاء القوم فيقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} . إنه سبحانه يخبرنا بأن الأمر الذي يفرون منه لاحق بهم، لأنه لا يَحتاط من قدر الله أحد، لذلك أماتهم الله ثم أحياهم ليتعظوا. ولو أخر الله الإحياء إلى يوم البعث فلن تؤثر العبرة؛ لأنه بعد يوم القيامة لا اعتبار ولا تكليف، وكل ذلك لا قيمة له. وقوله تعالى: {حَذَرَ الموت} بيان لعلة الخروج، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لهم أن هذه قضية لا ينفع فيها الحذر، أنتم خرجتم خوفا من الموت سأميتكم والذي كنتم تطلبونه بعد الموت سأحدث لكم غيره، لذلك أحياهم إحياءً آخر حتى يتحسروا، ويأخذوا أجلهم المكتوب {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} حتى يبين لكم أن أمر الموت بيده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1034 سبحانه سواءً كان خوفهم من الموت نابعاً من أعدائهم أو من وباء وطاعون، فالأمر في جوهره لا يختلف، ولو أن الآية ذكرت أنهم خرجوا خوفا من وباء ما كنا فهمنا منها احتمال خروجهم خوفاً من أعدائهم. إذن إبهام السبب المباشر في القضية أعطاها ثراءً. وقوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ} يبين لنا مدى الخيبة والغباء الذي كانوا فيه، لأنهم كيف يخرجون خائفين من الأعداء وهم ألوف مؤلفة. ولم يظهر واحد من هؤلاء الألوف ليقول لهم: إن الموت والحياة بيد الله. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} . وساعة تأمر مأمور منك بأمر فلا بد أن يكون عندك طلاقة قدرة أن تفعل، وهل إذا قلت لأحد: مت، سيموت؟ إذا أمات نفسه فقد قتلها، وفرق كبير بين الموت والقتل. إنما الموت يأتي بلا سبب من الميت، ولكن القتل ربما يكون بسبب الانتحار أو بأي وسيلة أخرى، المهم أنه قتل للنفس وليس موتا. ويوضح لنا الحق الفرق بين القتل والموت حين يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} [آل عمران: 144] ولقد جاءت هذه الآية في مجال استخلاص العبر من هزيمة أحد حين شاع بين المسلمين أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قتل، ففكر بعض منهم في الارتداد، وجاء قول الحق موضحاً أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو نبي سبقه رسل جاءوا بالمنهج، والأمة المسلمة التي أمنها الله على تمام المنهج لا يصح أن يهتز الإيمان فيها بموت الرسول الكريم؛ لأن من ينقلب ويرتد فلن يضر الله شيئاً، إنما الجزاء سيكون للشاكرين العارفين فضل منهج الله. ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه جاء بالموت كمقابل للقتل، وأوضح في الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1035 التالية أمر الموت حين قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين} [آل عمران: 145] إذن فأمر الموت مرهون بمشيئة الله وطلاقة قدرته وتحديده لكل أجل بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، وسيلقى كل إنسان نتيجة عمله، فمن عمل للدنيا فقط نال جزاءه فيها، ومن عمل للآخرة فسيجزيه الله في دنياه وآخرته. لذلك يصدر الأمر من الحق بقوله: {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} فلم يكن بإرادتهم أن يصنعوا موتهم، أو أمر عودتهم إلى الحياة، لكنه أمر تسخيري. إنهم يموتون بطلاقة قدرته المتمثلة في «كن فيكون» . ويعودون إلى الحياة بتمام طلاقة القدرة المتمثلة في «كن فيكون» . فليس لهم رأي في مسألة الموت أو العودة للحياة، إنه أمر تسخيري، كما قال الحق من قبل للأرض والسماء: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] لقد شاءت قدرته أن يخلق السماء على هيئة دخان فوُجدت، وخلقه للسماوات والأرض على وفق إرادته وهو هين عليه بمنزلة ما يقال للشيء احضر راضيا أو كارها، فيسمع الأمر ويطيعه. وهذه أمور تسخيرية من الخالق الأكرم، وليس للمخلوق من سماوات وأرض وما بينهما إلا الامتثال للأمر التسخيري من الخالق عَزَّ وَجَلَّ. فعندما يقول الحق سبحانه: {مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} فهذا أمر تسخيري بالموت، وأمر تسخيري بعودتهم إلى الحياة. وأليس الموت هو ما خافوه وفروا منه واحتاطوا بالهرب منه؟ نعم، لكن لا أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1036 بقادر على أن يحتاط على قدر الله؛ لأن الحق أراد لهم أن يعرفوا أن أحداً لا يفر من قدر الله إلا لقدر الله. ولذلك فسيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عندما أراد للناس ألا تذهب إلى أرض فيها الطاعون. قالوا له: أتفر من قدر الله؟ قال عمر: نعم: نِفرُّ من قدر الله إلى قدر الله. إن ذلك يجعل الإنسان في تسليم مطلق بكل جوارحه لله. صحيح على الإنسان أن يحتاط، ولكن القدر الذي يريده الله سوف ينفذ. والمؤمن يأخذ بالأسباب، ويسلم أمره إلى الله. وقد يقول قائل: لماذا لم يترك الله هؤلاء القوم من بني إسرائيل ليموتوا وإلى أن يأتي البعث يوم القيامة ليحاسبهم. وأقول: لقد أراد الحق سبحانه بالأمر التسخيري بالإحياء ثانية أن توجد العبرة والعظة، ولتظل ماثلة أمام أعين الخلق ومحفوظة في أكرم كتاب حفظه الله منهجا للناس وهو القرآن الكريم. إن الحق أراد بالأمر عظة واعتبارا وتجربة يموتون بأمر تسخيري، ويعودون إلى الحياة بأمر تسخيري آخر، ثم يعيشون الحياة المقدرة لهم ويموتون بعدها حتف أنوفهم، ولتظل عبرة ماثلة أمام كل مؤمن حق، فلا يخاف الموت في سبيل الله. لقد أراد الله بهذه التجربة أن نستخدم قضية الجهاد في سبيل الله، فلا يظن ظان أن القتال هو الذي يسبب الموت، إنما أمر الموت والحياة بيد واهب الحياة. وهاهو ذا قول خالد بن الوليد على فراش الموت باقياً ليعرفه كل مؤمن بالله: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي شبرا إلا وفيه ضربة سيف أو طعنه برمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر، فلا نامت أعين الجبناء. إذن فأمر الحياة والموت ليس مرهونا بقتال أو غيره، إنما هو محدد بمشيئة الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1037 ولننظر إلى تذييل الآية حين يقول الحق: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} . وما الفضل؟ إنه أن تتلقى عطاءً يزيد على حاجتك. والحق سبحانه وتعالى لا يعطي الناس فقط على قدر حاجتهم إنما يعطيهم ما هو أكثر من حاجتهم. إذن فلو مات هؤلاء القوم الذين خرجوا من ديارهم خوفاً من وباء أو عدو لكان هذا الموت فضلا من عند الله؛ لأنهم لو ماتوا بالوباء لماتوا شهداء، وهذا فضل من الله. ولو ماتوا في لقاء عدو وحاربوا في سبيل الله لنالوا الشهادة أيضا، وذلك فضل من الله. لماذا يكون مثل هذا الموت فضلا من الله؟ لأننا جميعا سوف نموت، فإن مات الإنسان استشهادا في سبيله فهذا عطاء زائد. لكن أكثر الناس لا يشكرون؛ لأنهم لا يعلمون مدى النعمة فيما يجريه الحق سبحانه وتعالى عليهم من أمور؛ لأن الناس لو علمت مدى النعمة فيما يجريه الحق عليهم من أحداث بما فيها الإحياء والإماتة، لشكروا الله على كل ما يجريه عليهم، فالحق سبحانه وتعالى لا يجري على البشر، وهم من صنعته إلا ما يصلح هذه الصنعة، وإلا ما هو خير لهذه الصنعة. لقد استبقى الحق سبحانه هذه العبرة بما أجراه على بعض من بني إسرائيل لنرى أن القتال في سبيل الله هو من نعم الله على العباد، فلا مهرب من قضاء الله. وهاهو ذا الشاعر العربي يقول: ألا أيها الزاجري أحضر الوغي ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي إن الشاعر يسأل من يوجه له الدعوة لا إلى القتال، ولكن إلى الاستمتاع بملذات الحياة قائلاً: ما دمت لا تملك لي خلوداً في هذه الحياة ولا أنت بقادر على رد الموت عني فدعني أقاتل في سبيل الله بما تملكه يداي. وبعد الحديث عن محاولة هرب بعض من بني إسرائيل من قدر الله فأجرى عليهم الموت تسخيراً وأعادهم إلى الحياة تسخيرا، وهذا درس واضح للمؤمنين الذين سيأتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1038 إليهم الأمر بالقتال في سبيل الله. فلا تبالوا أيها المؤمنون إن كان القتال يجلب لكم الموت؛ لأن الموت يأتي في أي وقت. بعد ذلك يقول الحق: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1039 إنه الأمر الواضح بالقتال في سبيل الله دون مخافة للموت. لماذا؟ لأن واهب الحياة وكاتب الأجل سميع عليم، سميع بأقوال من يقاتل وعليم بنواياه. وكان الجهاد قديما عبئاً ثقيلاً على المجاهد؛ لأنه كان يتحمل نفقة نفسه ويتحمل المركبة حصاناً أو جملاً ويتحمل سلاحه، كان كل مجاهد يُعِدّ عدته للحرب، فكان ولابد إذا سمح لنفسه أن تموت فمن باب أولى أن يسمح بماله، وأن يجهز عدته للحرب، وعلى ذلك كان القتال بالنفس والمال أمراً ضروريا. وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي قاتلوا بأنفسكم ثم عرج إلى الأموال فقال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1039 ساعة تسمع {يُقْرِضُ الله} فذلك أمر عظيم؛ لأنك عندما تقرض إنسانا فكأنك تقرض الله، ولكن المسألة لا تكون واضحة، لماذا؟ لأن ذلك الإنسان سيستفيد استفادة مباشرة، لكن عندما تنفق في سبيل الله فليس هناك إنسان بعينه تعطيه، وإنما أنت تعطي المعنى العام في قضية التدين، وتعاملك فيها يكون مع الله. كأنك تقرض الله حين تنفق من مالك لتعد نفسك للحرب. والحق سبحانه وتعالى يريد أن ينبهنا بكلمة القرض على أنه يطلب منا عملية ليست سهلة على النفس البشرية، وهو سبحانه يعلم بما طبع عليه النفوس. والقرض في اللغة معناه قضم الشيء بالناب، وهو سبحانه وتعالى يعلم أن عملية الإقراض هي مسألة صعبة، وحتى يبين للناس أنه يعلم صعوبتها جاء بقوله: {يُقْرِضُ} ، إنه المقدر لصعوبتها، ويقدر الجزاء على قدر الصعوبة. {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} . وما هو القرض الحسن؟ وهل إذا أقرضت عبداً من عباد الله لا يكون القرض حسنا؟ أولا إذا أقرضت عبداً من عباد الله فكأنك أقرضت الله، صحيح أنت تعطي الإنسان ما ييسر له الفرج في موقف متأزم، وصحيح أيضا أنك في عملية الجهاد لا تعطي إنساناً بعينه وإنما تعطي الله مباشرة، وهو سبحانه يبلغنا: أن من يقرض عبادي فكأنه أقرضني. كيف؟ لأن الله هو الذي استدعى كل عبد له للوجود، فإذا احتاج العبد فإن حاجته مطلوبة لرزقه في الدنيا، فإذا أعطى العبد لأخيه المحتاج فكأنه يقرض الله المتكفل برزق ذلك المحتاج. وقوله تعالى: {يُقْرِضُ الله} تدلنا على أن القرض لا يضيع؛ لأن القرض شيء تخرجه من مالك على أمل أن تستعيده، وهو سبحانه وتعالى يطمئنك على أنه هو الذي سيقترض منك، وأنه سيرد ما اقترضه، لكن ليس في صورة ما قدمت وإنما في صورة مستثمرة أضعافا مضاعفة، إن الأصل محفوظ ومستثمر، ولذلك يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} إنها أضعاف كثيرة بمقاييس الله عَزَّ وَجَلَّ لا بمقاييسنا كبشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1040 والتعبير بالقرض الحسن هنا يدلنا على أن مصدر المال الذي تقرض منه لابد أن يكون من حلال، ولذلك قيل للمرأة التي تتصدق من مال الزنا: «ليتها لم تزن ولم تتصدق» . وقيل: إن القرض ثوابه أعظم من الصدقة، مع أن الصدقة يجود فيها الإنسان بالشيء كله، في حين أن القرض هو دين يسترجعه صاحبه، لأن الألم في إخراج الصدقة يكون لمرة واحدة فأنت تخرجها وتفقد الأمل فيها، لكن القرض تتعلق نفسك به، فكلما صبرت مرة أتتك حسنة، كما أن المتصدق عليه قد يكون غير محتاج، ولكن المقترض لا يكون إلا محتاجاً. والقرض من المال الذي لديك يجعل المال يتناقص، لذلك فالله يعطيك أضعافا مضاعفة نتيجة هذا القرض، وذلك مناسب تماماً لقوله تعالى: {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} التي جاء بها في قوله تعالى: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي ساعة تذهب إليه ويأخذ كل منا حقه بالحساب أي أن المال الذي تقرض منه ينقص في ظاهر الأمر ولكن الله سبحانه يزيده ويبسطه أضعافا مضاعفة وفي الآخرة يكون الجزاء جزيلا. ثم ينتقل الله عَزَّ وَجَلَّ إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} تأكيدا للخبر الذي سيأتي بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي، يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1041 إن الحق سبحانه يبلغنا بوسيلة السماع عنه، وعلينا أن نتلقى ذلك الأمر كأننا نراه بالعين، فماذا نرى؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ} ، ما معنى الملأ؟ هي من ملأ يعني ازدحم الإناء، ولم يعد فيه مكان يتحمل زائداً. وأن الظرف قد شُغل بالمظروف شغلا لم يعد يتسع لسواه. وكلمة «ملأ» تُطلق على أشراف القوم كأنهم هم الذين يملأون حياة الوجود حولهم ولا يستطيع غيرهم أن يزاحمهم. و {الملإ} من أشراف الوجوه والقوم يجلسون للتشاور. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى} أي ألم يأتك خبر وجوه القوم وأشرافهم من بعد موسى عليه السلام مثلا في عصر «يوشع» أو «حزقيل أو شمويل» أو أي واحد منهم، ولا يعنينا ذلك لأن القرآن لا يذكر في أي عهد كانوا، المهم أنهم كانوا بعد موسى عليه السلام. {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} . لقد اجتمع أشراف بني إسرائيل للتشاور ثم ذهبوا إلى النبي الذي كان معاصراً لهم وقالوا له: ابعث لنا ملكا. ونفهم من ذلك أنه لم يكن لهم ملك. وماذا نستفيد من ذكر وجود نبي لهم وعدم وجود ملك لهم؟ نفهم من ذلك أن النبوة كانت تشرف على نفاذ الأعمال ولا تباشر الأعمال، وأما الملك فهو الذي يباشر الأعمال. ولو كانت النبوة تباشر أعمالاً لما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا. وسبب ذلك أن الذي يباشر عرضه للكراهية من كثير من الناس وعرضه أن يفشل في تصريف بعض الأمور، فبدلا من أن يوجهوا الفشل للقمة العليا، ينقلون ذلك لمن هو أقل وهو الملك. ولذلك طلبوا من النبي أن يأتي بملك يعيد تصريف الأمور فتكون النبوة مرجعاً للحق، ولا تكون موطناً للوم في أي شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1042 الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قال لنبي بني إسرائيل: أنتم الذين طلبتم القتال وأنتم الملأ أي أشراف القوم وأتيتم بالعلة الموجبة للقتال وهي أنكم أخرجتم من دياركم وأبنائكم أي بلغ بكم الهوان أنه لم تعد لكم ديار، وبلغ بكم الهوان أنه لم يعد لكم أبناء بعد أن أسرهم عدوكم. إذن علة طلب القتال موجودة، ومع ذلك قال لهم النبي: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ} لقد أوضح لهم نبيهم الشرط وقال: إنني أخاف أن آتي لكم بملك كي تقاتلوا في سبيل الله، وبعد ذلك يفرض الله عليكم القتال، وعندما نأتي للأمر الواقع لا نجد لكم عزما على القتال وتتخاذلون. لكنهم قالوا: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} . . انظر إلى الدقة في قولهم: {فِي سَبِيلِ الله} وتعليق ذلك السبيل على أنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم! لقد أرادوا أن يقلبوا المسألة وأن يقولوا: إن القتال في سبيل الله بعد أن عضتهم التجربة فيما يحبون من الديار والأبناء، إذن فالله هو الملجأ في كل أمر، وقبل سبحانه منهم قولهم، واعتبر قتالهم في سبيله. وكان إخراجهم من ديارهم أمراً معقولاً، لكن كيف يخرجون من أبنائهم؟ ربما كانوا قد تركوا أبناءهم للعدو، وربما أخذهم العدو أسرى. لكنهم هم الذين أخرجوا من ديارهم، وينطبق عليهم في علاقتهم بالأبناء قول الشاعر: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون همو وانظر إلى التمحيص، إنهم ملأ من بني إسرائيل وذهبوا إلى نبي وقالوا له: ابعث لنا ملكا حتى يجعلوها حربا مشروعة ليقاتلوا في سبيل الله، وقال لهم النبي ما قال وردوا عليه هم: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله} يعني وكيف لا نقاتل في سبيل الله؟ وجاء لهم الأمر بالقتال في قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ} إن قوله: {كُتِبَ} لأنهم هم الذي طلبوا تشريع القتال فجعلهم الله داخلين في العقد فجاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1043 التعبير ب {كُتِبَ} ولم يأت ب «كَتبَ» ، ومع ذلك تولوا أي أعرضوا عن القتال. لقد كان لنبيهم حق في أن يتشكك في قدرتهم على القتال، ويقول لهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ} . ولكن هل أعرضوا جميعا عن القتال؟ لا؛ فقد كان فيهم من ينطبق عليه قول الشاعر: إن الذي جعل الحقيقة علقماً ... لم يخل من أهل الحقيقة جيلاً لقد كان منهم من لم يعرض عن التكليف بالقتال لكنهم قلة، وهذا تمهيد مطلوب، حتى إذا انحسرت الجمهرة، وانفض الجميع من حولك إياك أن تقول: «إني قليل» ؛ لأن المقاييس ليست بكثرة الجمع، ولكن بنصرة الحق سبحانه وتعالى. وقد يكون عدوك كثيراً لكن ليس له رصيد من ألوهية عالية، وقد تكون في قلة من العدد، لكن لك رصيد من ألوهية عالية، وهذا ما يريد الحق أن يلفتنا إليه بقوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً} . كلمة {إِلاَّ قَلِيلاً} جاءت لتخدم قضية، لذلك جاء في آخر القصة قوله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] أي أن الغلبة تأتي بإذن الله، إذن فالشيء المرئي واحد، لكن وجهة نظر الرائين فيه تختلف على قدر رصيدهم الإيماني. أنت ترى زهرة جميلة، والرؤية قدر مشترك عند الجميع، ورآها غيرك، أعجبتك أنت وحافظت عليها وتركتها زينة لك ولغيرك، بينما رآها إنسان آخر فقطفها ولم يبال مِلْكُ من هي، وهكذا تعرف أن العمل النزوعي يختلف من شخص لآخر، فالعدو قد يكون كثيراً أمامنا ونحن قلة، وكلنا رأى العدو كثيراً ورأى نفسه قليلاً، لكن المواجيد تختلف. أنا سأحسب نفسي ومعي ربي، وغيري رآهم كثيرين وقال: لا نقدر عليهم؛ لأنه أخرج ربه من الحساب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1044 {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} إذن فالتولي ظلم للنفس؛ لأن الظلم في أبسط معانيه أن تنقل الحق لغير صاحبه، وأنت أخرجت من ديارك وظللت على هذا الحال، إذن فقد ظلمت نفسك، وظلمت أولادك الذين خرجوا منك، وفوق ذلك كله ظلمت قضيتك الدينية. إذن فالجماعة الذين تولوا كانوا ظالمين لأنفسهم ولأهليهم ولمجتمعهم وللقضية العقدية. وقوله الحق: {والله عَلِيمٌ بالظالمين} هو إشارة على أن الله مطلع على هؤلاء الذين تخاذلوا سراً، وأرادوا أن يقتلوا الروح المعنوية للناس وهم الذين يطلق عليهم في هذا العصر «الطابور الخامس» الذين يفتتون الروح المعنوية دون أن يراهم أحد ولكن الله يعرفهم. لقد طلب هؤلاء القوم من بني إسرائيل من نبيهم أن يبعث لهم ملكا، وكان يكفي النبي المرسل إليهم أن يختار لهم الملك ليقاتلوا تحت رايته، لكنهم يزيدون في التلكؤ واللجاجة ويريدون أن ينقلوا الأمر نقلة ليست من قضايا الدين. ويقول الحق بعد ذلك: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1045 هم الذين طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا. وكان يكفي إذن أن يختار نبيهم شخصا ويوليه الملك عليهم. لكن نبيهم أراد أن يغرس الاحترام منهم في المبعوث كملك لهم. لقد قال لهم: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} . والنبي القائل ذلك ينتمي إليهم، وهو منهم، وعندما طلبوا منه أن يبعث لهم ملكاً كانوا يعلمون أنه مأمون على ذلك. ويتجلى أدب النبوة في التلقي، فقال: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} . إنه يريد أن يطمئنهم على أن مسألة اختيار طالوت كملك ليست منه؛ لأنه بشر مثلهم، وهو يريد أن ينحي قضيته البشرية عن هذا الموضوع، فقال: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} . فماذا كان ردهم؟ {قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال} . وهذه بداية التلكؤ واللجاجة ونقل الأمر إلى مسألة ليست من قضايا الدين. إنهم يريدون الوجاهة والغنى. وكان يجب عليهم أن يأخذوا المسألة على أن الملك جاء لصالحهم، لأنهم هم الذين طلبوه ليقودهم في الحرب. إذن فأمر اختيار الملك كان لهم ولصالحهم، فلماذا يتصورون أن الاختيار كان ضدهم وليس لمصلحتهم؟ شيء آخر نفهمه من قولهم: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} ، إن طالوت هذا لم يكن من الشخصيات المشار إليها؛ فمن العادة حين يَحزُب الأمر في جماعة من الجماعات أن تفكر فيمن يقود، فعادة ما يكون هناك عدد من الشخصيات اللامعة التي يدور التفكير حولها، وتظن الجماعة أنه من الممكن أن يقع على واحد منهم الاختيار، وكان اختيار السماء لطالوت على عكس ما توقعت تلك الجماعة. لقد جاء طالوت من غمار القوم بدليل أنهم قالوا: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك} أي لم يؤت الملك من قبل. ولقد كانوا ينتمون إلى نسلين: نسل أخذ النبوة وهو نسل بنيامين، ونسل أخذ الملوكية وهو نسل لاوى بن يعقوب. فلما قال لهم: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} ، بدأوا يبحثون عن صحيفة النسب الخاصة به فلم يجدوه منتمياً لا لهذا ولا لذاك، ولذلك قالوا: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} . وهذا يدلنا على أن الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1046 حين يريدون وضعاً من الأوضاع لا يريدون الرجل المناسب للموقف، ولكن يريدون الرجل المناسب لنفوسهم، بدليل قولهم: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ} . وهل الملك يأتي غطرسة أو كبرياء؟ ومادام طالوت رجلا من غمار الناس فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يضع قضية كل مؤمن وهي أنك حين تريد الاختيار فإياك أن يغشك حسب أو نسب أو جاه، ولكن اختر الأصلح من أهل الخبرة لا من أهل الثقة. لقد تناسوا أن القضية التي طلبوها من نبيهم تحتاج إلى صفتين: رجل جسيم ورجل عليم، والله اختار لهم طالوت رجلا جسيماً وعليما معا. وعندما نتأمل سياق الآيات فإننا نجد أن الله قال لهم في البداية: {بَعَثَ لَكُمْ} حتى لا يحرج أحداً منهم في أن طالوت أفضل منه، ولكن عندما حدث لجاج قال لهم: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} وهو بهذا القول يؤكد إنه لا يوجد فيكم من أهل البسطة والجسامة من يتمتع بصفة العلم. وكذلك لا يوجد من أهل العلم فيكم من يتمتع بالبسطة والجسامة {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} . وكان يجب أن يستقبلوا اصطفاء الله طالوت للملك بالقبول والرضى فما بالك وقد زاده بسطة في العلم والجسم؟ والبسطة في العلم والجسم هي المؤهلات التي تناسب المهمة التي أرادوا من أجلها ملكا لهم. ولذلك يقول الحق: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} وكأن الحق يقول لهم: لا تظنوا أنكم أنتم الذين ترشحون لنا الملك المناسب، يكفيكم أنكم طلبتم أن أرسل لكم ملكا فاتركوني بمقاييسي اختر الملك المناسب. ويختم الحق الآية بقوله: {والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي عنده لكل مقام مقال، ولكل موقع رجل، وهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذه المهمة. ومن يصلح لتلك، لا عن ضيق أو قلة رجال، ولكن عن سعة وعلم. لقد استقبلوا هذا الاختيار الإلهي باللجاج، واللجاج نوع من العناد ولا ينهيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1047 إلا الأمر المشهدي المرئي الذي يلزم بالحجة، لذلك كان لابد من مجيء معجزة. لذلك يأتي قوله الحق: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1048 لقد أرسل الحق مع الملك طالوت آية تبرهن على أنه ملك من اختيار الله فقال لهم نبيهم: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} أي إن العلامة الدالة على ملكه هي {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} وهذا القول نستدل منه على أن التابوت كان غائباً ومفقوداً، وأنه أمر معروف لديهم وهناك تلهف منهم على مجيئه. وما هو التابوت؟ إن التابوت قد ورد في القرآن في موضعين: أحدهما في الآية التي نحن بصددها الآن، والموضوع الآخر في قوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 38 - 39] إذن فالتابوت نعرفه من أيام قصة موسى وهو رضيع، عندما خافت عليه أمه؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1048 فأوحى لها الله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} فهل هو التابوت نفسه الذي تتحدث عنه الآيات التي نحن بصددها؟ غالب الظن أنه هو؛ لأنه مادام جاء به على إطلاقه فهو التابوت المعروف، وكأن المسألة التي نجا بها موسى لها تاريخ مع موسى وفرعون ومع نبيهم ومع طالوت وهذه عملية نأخذ منها أن الآثار التي ترتبط بالأحداث الجسيمة في تاريخ العقيدة يجب أن نعنى بها، ولا نقول إنها كفريات ووثنيات؛ لأن لها ارتباطاً بأمر عقدي، وبمسائل تاريخية، وارتباطا بالمقدسات. انظر إلى التابوت الذي فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون وتحمله الملائكة. إن هذا دليل على أنه شيء كبير ومهم. إذن فالآثار التي لها مساس وارتباط بأحداث العقيدة وأحداث النبوة، هذه الآثار مهمة للإيمان، وكأنّ القرآن يقول: اتركوها كما هي، وخذوا منها عظة وعبرة؛ لأنها تذكركم بأشياء مقدسة. لقد كان التابوت مفقوداً، وذلك دليل على أن عدواً غلب على البلاد التي سكنوها، والعدو عندما يغير على بلاد يحاول أولاً طمس المقدسات التي تربط البلاد بالعقيدة. فإذا كان التابوت مقدساً عندهم بهذا الشكل، كان لابد أن يأخذه الأعداء. هؤلاء الأعداء هم الذين أخرجوهم من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وإذا كانوا قد أخرجوهم من ديارهم فمن باب أولى أنهم أجبروهم على ترك التابوت. والله سبحانه وتعالى يطمئنهم بأن آية الملك لطالوت هي مجيء التابوت الذي تتلهفون عليه، وترتبط به مقدساتكم. {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} فكأن الاستقرار النفسي سيأتيكم مع هذا التابوت؛ لأن الإنسان حين يجد التابوت الذي نجا به نبي، وفي الأشياء التي سنعرفها فيما بعد، إن الإنسان يستروح صلته بالسماء، وهي صلة مادية تجعل النفس تستريح. وعلى سبيل المثال تأمل مشاعرك عندما يقال لك: «هذا هو المصحف الذي كان يقرأ فيه سيدنا عثمان» . إنه مصحف مثل أي مصحف آخر، ولكن ميزته أنه كان يقرأ فيه سيدنا عثمان؛ إنك تستريح نفسياً عندما تراه. وأيضاً حين تذهب إلى دار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1049 الخلافة في تركيا، ويقال لك: «هذا هو السيف الذي كان يحارب به الإمام علي» . فتنظر إلى السيف، وتجد أن وزنه وثقله يساوي عشرة سيوف، وتتعجب كيف كان يحمله سيدنا علي كرم الله وجهه وكيف كان يحارب به. وكذلك عندما يقال لك: «هذه شعرة من شعر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو المكحلة التي كان يكتحل بها» ، لاشك أن مثل هذه المشاهد ستترك إشراقاً وطمأنينة في نفسك. وعندما يراها إنسان به بعض الشكوك والمخاوف فإن العقيدة تستقر في نفسه. ومن هذا كله أقول: إن ولاة الأمر يجب ألا يعتبروا مقدسات الأشياء ضرباً من الشركيات والوثنيات، بل يجب أن يولوها عناية ورعاية ويبرزوها للناس؛ لتكون مصدر سكينة وأمن نفس للناس، وعليهم أن ينصحوا الناس بألا يفتنوا بها، ولكن عليهم أن يتركوها لتذكرنا بأمر يتصل بعقيدتنا وبنبينا. وانظر إلى حديث القرآن عن التابوت. إن الحق سبحانه لم يقل: إن التابوت سيأتي كاملاً، ولم يقل كذلك إنه التابوت الذي وُضع فيه موسى، وإنما قال: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} كأن آل موسى وهارون قد حافظوا على آثار أنبيائهم، وأيضا قوله تعالى: {تَحْمِلُهُ الملائكة} يؤكد لنا أنه لا شك أن الأثر الذي تحمله الملائكة لابد أن يكون شيئاً عظيماً يوجب العناية الفائقة {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} . ونلحظ في قوله: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} إنه سبحانه قد نسب الإتيان إلى التابوت، فهل كان من ضمن العلامة أن يأتيهم التابوت وهم جالسون ينتظرون ولأن التابوت تحمله الملائكة فلن يراهم القوم لأنهم كائنات غير مرئية، فلن يراهم أحد وإنما سيرى القوم التابوت آتياً إليهم، ولذلك أسند الحق أمر المجيء للتابوت. وهذا المشهد يخلع القلوب ويجعل أصحاب أشد القلوب قساوة يخرون سجدا ويقولون «طالوت أنت الملك، ولن نختلف عليك» . ونريد الآن أن نعرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1050 الأشياء التي يمكن لآل موسى أن يحافظوا عليها من آثار موسى عليه السلام، والآثار التي يحافظ عليها آل هارون من هارون عليه السلام. قال بعض الناس إنها عصا موسى، وهي الأثر الذي تبقى من آل موسى، وذلك أمر معقول؛ لأنها أداة من أدوات معجزة موسى عليه السلام. ألم تكن هي المعجزة التي انقلبت حية تسعى وابتلعت بسرعة ما صنعه السحرة؟ إن مثل هذه الأداة المعجزة لا يمكن أن يهملها موسى، أو يهملها المؤمنون به بعد ما حدث منها. وليس من المعقول أن يفرط آل موسى في عصا تكلم الله فيها وقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 17 - 18] إن هناك قصة طويلة استغرقها الحديث عن هذه العصا، فكيف يفرط فيها موسى وقومه بسهولة؟ لاشك أنهم حافظوا عليها، وقدسوها، وجعلوها من أمجادهم. ويرينا الحق سبحانه وتعالى أن هؤلاء القوم أهل لجاج وأهل جدل وأهل تلكؤ، فهم لا يؤمنون بالأمور إلا إذا كانت حسية كالتابوت الذي يأتيهم وحدهم، صحيحا تحمله الملائكة، لكنهم لا يرون الملائكة؛ وإنما رأوا التابوت يسير إليهم، {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الملائكة إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} وليس هناك آيات أعجب من مجيء التابوت حتى يثبت صدق النبي في أن الله قد بعث طالوت ملكاً، فإن لم يؤمنوا بهذه المسألة فعليهم أن يراجعوا إيمانهم. والسياق القرآني يدل على أن الله بهتهم بالحجة، وبهتهم بالآية، وبهتهم بالقرآن، بدليل أنه حذف ما كان يجب أن يقال وهو: فقبلوا طالوت ملكاً. ونظم طالوت الحرب فقام وقسم الجنود ورتبهم، وكل هذه التفاصيل لم تذكرها الآيات. والحق يقول بعد ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1051 {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1052 الفصل هو أن تعزل شيئا عن شيء آخر، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] {فَصَلَتِ العير} أي غادرت مصر وخرجت منه. ونحن نستخدم كلمة «فصل» في تبويب الكتب، ونقصد به قدراً من المعلومات المترابطة التي تكون وحدة واحدة، وعندما تنضم الفصول مع بعضها في الكتب تصير أبواباً، وعندما تنظم الأبواب الموضوعة في مجال علم واحد مع بعضها نقول عنها: هذا «كتاب» . ونحن نستخدم كلمة «فصل» في وصف مجموعة من التلاميذ المتقاربين في العمر والمستوى الدراسي ونقسمهم إلى فصل أول وثانٍ وثالث، على حسب سعة الفصول وعدد التلاميذ. وهكذا نفهم معنى قول الحق: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1052 فصلهم عن بقية غير المقاتلين، وقسمهم إلى جماعات مرتبة، وكل جماعة لها مهمة. وكلمة «جنود» هي جمع «جند» وهي مفردة لكنها تدل على جماعة، وأصل الكلمة من «جَنَد» وهي الأرض الغليظة الصلبة القوية، ونظرا لأن الجنود مفروض فيهم الغلظة والقوة فقد أُطلق عليهم لفظ: جُنْد. وبرغم أن كلمة «جند» مفرد؛ إلا أنها تدل على القوم مثل «رهط» و «طائفة» ويسمونها اسم جمع. {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} أي عندما خرج إلى مكان إقامة الجيش بدأ في مباشرة أولى مهماته كملك، لقد أراد أن يختبرهم، فهم قوم وقفوا ضد تعيينه ملكاً، لذلك أراد أن يدخل الحكم على أرض صلبة. فقال لهم عن الحق: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} . لقد أوضح لهم: أنتم مقبلون على مهمة لله في سبيل الله، وهو سبحانه الذي سيجري عليكم الاختبار، ولست أنا لأن الاختبار يكون على قدر المهمة؛ أنا مشرف فقط على تنفيذ الأمر، والله مبتليكم بنهر من يشرب منه فليس منا إلا من اغترف غرفة بيده. وساعة تسمع كلمة {مُبْتَلِيكُمْ} فلا تفسرها على أنها مصيبة، ولكن فسرها على أنها اختبار، قد ينجح من يدخل وقد يفشل. والاختبار هنا بنهر. ومادام كان الاختبار بنهر فلا بد أن لهذه الكلمة موقعاً وأثراً نفسيا عندهم، لابد أنهم كانوا عِطاشاً، وإلا لو لم يكونوا عطاشاً لما كان النهر ابتلاء. {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} . إنهم عطاش، وساعة يُرى الماء فسيقبلون عليه بنهم شرباً ورياً، ومع ذلك يختبر الحق صلابتهم فيطالبهم بأن يمتنعوا عن الشرب منه، لقد جاء الاختبار في منعهم مما تصبو إليه نفوسهم. {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} لماذا؟ لأنهم ساعة يرون ما يحبونه ويشتهونه فسيندفعون إليه وينسون أمر الله. ومن ينس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1053 أمر الله ويفضل نفسه، فهو غير مأمون أن يكون في جند الله. لكن الذي يرى الماء ويمتنع عنه وهو في حاجة إليه، فهو صابر قادر على نفسه، وسيكون من جند الله، لأنه آثر مطلوب الله على مطلوب بطنه، وهو أهل لأن يُبتلى. ومع ذلك لم يَقْسُ الله في الابتلاء، فأباح ما يفك العطش ولم يحرمهم منه نهائياً. {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} لقد سمح لهم بغرفة يد تسد الرمق وتستبقي الحياة، أباح لهم ما تقتضيه الضرورة. لكن ما صلة هذا الابتلاء بالعملية التي سيقبلون عليها؟ إن العملية الحربية التي سيدخلونها سيقابلون فيها الويل وسيعرضون لنفاذ الزاد وهم أيضا عرضة لأن يحاصرهم عدوهم، وعلى الإنسان المقاتل في مثل هذه الأمور أن يقوى على شهوته ويأخذ من زاده ومائه على قدر ضرورة استبقاء الحياة، لذلك تكفي غرفة واحدة لاستبقاء الحياة. كأن التدريب هنا ضرورة للمهمة. فهل فعلوا ذلك؟ يأتينا الخبر من الحق {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} . وهكذا تتم التصفية، ففي البداية سبق لهم أن تولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا، وهنا امتنع عن الشرب قليل من القليل، وهذه غرابيل الاصطفاء أو مصافي الاختبار، فقد يقوى واحد على نصف المشقة، ويقوى آخر على ثلث المشقة، ويقوى ثالث على ربعها. لقد بقي منهم القليل، لكنه القليل الذي يصلح للمهمة؛ إنّه الذي ظل على الإيمان. وانظر كيف تكون مصافي الابتلاء في الجهاد في سبيل الله؟ حتى لا يحمل راية الجهاد إلا المأمون عليها الذي يعرف حقها. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} أي عندما عبروا النهر واجتازوا كل الاختبارات السابقة قال بعضهم: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} لقد خاف بعض منهم من الاختبار الأخير، ولكن الذين آمنوا بالله لم يخافوا، ويقول الحق: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1054 لقد اختلفت المواجيد وإن اتحدت المرائي. فالذين جاوزوا النهر انقسموا قسمين، قسم رأى جالوت وجنوده، والقسم الآخر رأوه أيضا، ولم ينقسموا عند الرؤية لكنهم انقسموا عند المواجيد التابعة للرؤية، فقسم خاف وقسم لم يخف، والذين خافوا قالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} لقد وجد الخوف من جالوت وجنوده في نفوسهم فقالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} ، لقد مروا بثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى: هي إدراك لجالوت وجنوده، والثانية: هي وجدان متوجس من قوة جالوت وجنوده، والأخيرة: هي نزوع إلى الخوف من جالوت وجنوده، لكن القسم الذي لم يخف رأوا المشهد أيضا وجاء فيهم قول الله: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} . كأنهم أدخلوا ربهم في حسابهم فاستهانوا بعدوهم، لكن الفئة السابقة عزلت نفسها عن ربها فرأوا أنفسهم قلة فخافوا. لقد كان مجرد ظن الفئة المؤمنة أنهم ملاقو الله قد جعل لهم هذه العقيدة، وإذا كان هذا حال مجرد الظن فما بالك باليقين؟ {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} . ونعرف أن هناك معارك يفوز فيها الأقدر على الصبر، ودليلنا على ذلك قول الحق: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} [آل عمران: 124] هذا هو الوعد لكن إذا صبرتم كم يكون المدد؟ يقول الحق: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] فكأن البدء بثلاثة آلاف لمساندة أهل الإيمان ويزيد العدد في المدد إلى خمسة آلاف إن صبروا واتقوا. إذن فالمدد يأتي على قدر الصبر؛ لأن حنان القدرة الإلهية عليك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1055 يزداد ساعة يجدك تتحمل المشقة فيحن عليك ويعطيك جزءا أكبر. فالله يريد من عبده أن يستنفد أسباب قوته الخاصة، وحين تستنفد الأسباب برجولة وثبات، تأتيك معونة الله، ويقول الله لملائكته: هذا يستحق أن يعان فأعينوه. ولذلك جاء قوله الحق على ألسنة المؤمنين: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} . ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1056 هذه هي الشحنة الإيمانية لمن يريد أن يواجه عدوه فهو ينادي قائلا: {رَبَّنَآ} إنه لم يقل: يا الله، بل يقول: {رَبَّنَآ} ؛ لأن الرب هو الذي يتولى التربية والعطاء، بينما مطلوب «الله» هو العبودية والتكاليف؛ لذلك ينادي المؤمن ربه في الموقف الصعب «يا ربنا» أي يا من خلقتنا وتتولانا وتمدنا بالأسباب، قال المؤمنون مع طالوت: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} . وعندما نتأمل كلمة {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} تفيدنا أنهم طلبوا أن يملأ الله قلوبهم بالصبر ويكون أثر الصبر تثبيت الأقدام {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} حتى يواجهوا العدو بإيمان، وعند نهاية الصبر وتثبيت الأقدام يأتي نصر الله للمؤمنين على القوم الكافرين، وتأتي النتيجة للعزم الإيماني والقتال في قوله الحق: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1056 إن الحق يبلغنا أنه قد نصر المؤمنين به. ويجيء الحق بكلمة {هَزَمُوهُمْ} وهي تدل على فرار من كان يجب أن يكون مهاجما. والمحارب يجب أن يكون مهاجما كاراً دائما، فحين يلجأ إلى أن يفر، هنا نتوقف لنتبين أمره، هل هذا الفِرار تحرفا لقتال وانعطافا وميلا إلى موقف آخر هو أصلح للقتال فيه؟ لو كان الأمر كذلك فلا تكون الهزيمة، لكن إذا كان الفِرار لغير كَرٍ ومخادعة للعدو بل كان للخوف هنا تكون الهزيمة. وقول الله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله} يدل على أن جنود جالوت لم يُقتلوا كلهم، ولكن الذين قُتلوا هم أئمة الكفر فيهم، بدليل قوله بعد ذلك: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} . وجالوت هو زعيم جيش الكفار الذي هرب، فطارده داود وقتله. ولأول مرة يظهر لنا اسم {دَاوُدَ} في هذه القصة الطويلة، وهو اسم لم يكن عندنا فكرة عنه من قبل، وستأتي الفكرة عنه بعد هذه القصة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10 - 11] إذن فبداية داود جاءت من هذه المعركة بعد قتل جالوت، وكان {دَاوُدَ} أخاً لعشرة وهو أصغرهم، وقال النبي للقوم: إن من يدخل المعركة ضد جالوت لابد أن يأتي درع موسى على مقاسه، وهنا استعرض والد {دَاوُودَ} الدرع على جميع أبنائه، فلم يأتي على مقاس أي واحد منهم إلا على أصغرهم، وهو {دَاوُودَ} . جاء الدرع على مقاسه، ودخل {دَاوُودَ} المعركة فقتل جالوت قائد المشركين، وشاءت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1057 حكمة الله أن يكون أصغر المؤمنين هو الذي يقتل كبير جيش المشركين. كانت هذه المعركة بداية تاريخ داود، وقد جاءت له هذه المعركة بالفتح العظيم، ثم أنعم الله عليه بالملك والحكمة وجعل الجبال والطير تردد وترجع معه تسبيح الله وتنزيهه، كل ذلك نتيجة قتل جالوت. وأحب داود الدرع وصار أمله أن يعلمه الله صناعة الدروع، ولذلك لم يتخذ صنعة في حياته إلا عمل الدروع. وجعل الله له الحديد ليناً ليصنع منه ما يشاء كما جاء في قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] وهذا دليل على أن الإنسان يحب الشيء الذي له صلة برفعة شأنه. ولقد كان قتل جالوت هو البداية لداود. {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} إن الحق يأتي هنا بقضية كونية في الوجود، وهي أن الحرب ضرورة اجتماعية، وأن الحق يدفع الناس بالناس. وأنه لولا وجود قوة أمام قوة لفسد العالم؛ فلو سيطرت قوة واحدة في الكون لفسد. فالذي يعمر الكون هو أن توجد فيه قوى متكافئة؛ قوة تقابلها قوة أخرى. ولذلك نجد العالم دائما محروسا بالقوتين العظميين، ولو كانت قوة واحدة لعم الضلال. ولو تأملنا التاريخ منذ القدم لوجدنا هذه الثنائية في القوى تحفظ الاستقرار في العالم. في بداية الإسلام كانت الدولتان العظميان هما الفرس في الشرق، والروم في الغرب. والآن سقطت قوة روسيا من كفة ميزان العالم، وتتسابق ألمانيا واليابان ليوازنا قوة أمريكا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1058 إن قول الله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} جاء تعقيبا على قصة الصراع بين بني إسرائيل وبين أعدائهم الذين أخرجوهم من ديارهم وعندما نتأمل هذه القصة من بدايتها نجد أنهم طلبوا أولا من الله الإذن بالقتال. وبعث الله لهم ملكا ليقاتلوا تحت رايته؛ وكانت علامة هذا الملك في الصدق أن يأتي الله بالتابوت. ثم جاءت قضية اجتماعية ينتهي إليها الناس عادة بحكيم الرأي ولو بدون الوحي، وهي أن الإنسان إذا ما أقبل على أمر يجب أن يعد له إعداداً بالأسباب البشرية، حتى إذا ما استوفى إعداده كل الأسباب لجأ إلى معونة الله، لأن الأسباب كما قلنا هي من يد الله، فلا ترد أنت يد الله بأسبابها، لتطلب معونة الله بذاته، بل خذ الأسباب أولا لأنها من يد ربك. ويعلمنا الحق أيضا أن من الأسباب تمحيص الذين يدافعون عن الحق تمحيصا يبين لنا قوة ثباتهم في الاختبار الإيماني؛ لأن الإنسان قد يقول قولاً بلسانه؛ ولكنه حين يتعرض للفعل تحدثه نفسه بألا يوفي، وقد نجح قلة من القوم في الابتلاءات المتعددة. وفعلا دارت المعركة؛ وهزم هؤلاء المؤمنون أعداءهم، وانتصر داود بقتل جالوت. إذن فتلك قضية دفع الله فيها أناسا بأناس، ويطلقها الحق سبحانه قضية عامة {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} ، فالدفع هو الرد عن المراد، فإذا كان المراد للناس أن يوجد شر، فإن الله يدفعه. إذن فالله يدفع ولكن بأيدي خلقه، كما قال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] إنه دفع الله المؤمنين ليقاتلوا الكافرين، ويعذب الحق الكافرين بأيدي المؤمنين. وعندما نتأمل القول الحكيم: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1059 فإننا نجد مقدمة سابقة تمهد لهذا القول، لقد أُخرجوا من ديارهم وأبنائهم، فكان هذا هو مبرر القتال. وتجد آية أخرى أيضا تقول: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] والسياق مختلف في الآيتين، السياق الذي يأتي في سورة البقرة عن أناس يحاربون بالفعل، والسياق الذي يأتي في سورة الحج عن أناس مؤمنين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرجوا وهم المستضعفون من مكة لينضموا إلى أخوتهم المؤمنين في دار الإيمان ليعيدوا الكرة، ويدخلوا مكة فاتحين. صحيح أننا نجد وحدة جامعة بين الآيتين. وهو الخروج من الديار. إذن فمرة يكون الدفاع بأن تَفِرَّ لَتِكِرّ. . أي أن تخرج من ديار الكفر مهاجراً لتجمع أمر نفسك أنت ومن معك وتعود إلى بلدك مقاتلاً فاتحاً، ومرة يكون الدفاع بأن تقاتل بالفعل، فالآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها هنا تفيد أنهم قاتلوا بالفعل، والآية الثانية تفيد أنهم خرجوا من مكة ليرجعوا إليها فاتحين، فالخروج نفسه نوع من الدفع، لماذا؟ لأن المسلمين الأوائل لو مكثوا في مكة فربما أفناهم خصومهم فلا يبقى للإسلام خميرة، فذهبوا إلى المدينة وكوّنوا الدولة الإسلامية ثم عادوا منتصرين فاتحين: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] إن السياق في الآيتين واحد ولكن النتيجة تختلف، هنا يقول الحق: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} لماذا تفسد الأرض؟ لأن معنى دفع الله الناس بعضهم ببعض أن هناك أناساً ألفوا الفساد، ويقابلهم أناس خرجوا على من ألف الفساد ليردوهم إلى الصلاح. ويعطينا الحق سبحانه وتعالى في الآية الثانية السبب فيقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1060 {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} [الحج: 40] والصوامع هي ما يقابل الآن الدير للنصارى وكانوا يتعبدون لله فيها، لأن فيه متعبداً عَمِلَ بالتكليف العام؛ ومتعبداً آخر قد ألزم نفسه بشيء فوق ما كلفه الله به. فالذين يعبدون الله بهذه الطريقة يجلسون في أماكن بعيدة عن الناس يسمونها الصوامع، وهي تشبه الدير الآن. والمعنى العام في التعبد للنصارى هو التعبد في الكنائس وهو المقصود بالبيع، والمعنى الخاص هو التعبد في الصوامع. إذن {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} هذه لخاصة المتدينين، وكنائس أو بيع لعامة المتدينين. وقول الحق: {وَصَلَوَاتٌ} ، من صالوت، وهي مكان العبادة لليهود، و {وَمَسَاجِدُ} وهي مساجد المسلمين. إن قوله تعالى: {لَفَسَدَتِ الأرض} في هذه الآية، وقوله تعالى هناك {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} أي أنه ستفسد الأرض إذا لم تقم الصوامع والبيع والصلوات والمساجد؛ لأنها هي التي تربط المخلوق بالخالق. وما دامت تلك الأماكن هي التي تربط المخلوق بالخالق فإن هدمت. . يكون الناس على غير ذكر لربهم وتفتنهم أسباب الدنيا. فالأديرة والكنائس والصوامع حين كانت والمساجد الآن هي حارسة القيم في الوجود، لأنها تذكرك دائما بالعبودية وتمنع عنك الغرور، وهي من السجود الذي هو منتهى الخضوع للرب، نخضع بها لله خمس مرات في اليوم والليلة؛ فإن كان عند العبد شيء من الغرور لابد أن يذوب، ويعرف العبد أن الكون كله فضل من الله على العباد؛ فلا يدخلك أيها المسلم شيء من الغرور. فإذا لم يدخلك شيء من الغرور استعملت أسباب الله في مطلوبات الله. أما أن تأخذ أنت أسباب الله في غير مطلوبات الله فهذه قحة منك. فإذا كان الله قد أقدر يدك على الحركة فلماذا تعصى الله بها وتضرب بها الناس؟ والله أقدر لسانك على الكلام، فلماذا تؤذي غيرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1061 بالكلمة؟ إن الله قد أعطاك النعمة فلا تستعملها في المعصية. قال الله تعالى في هذه الآية: {لَفَسَدَتِ الأرض} وشرح ذلك في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} فهذه الأماكن هي التي تبقى أصول القيم في التدين. «وأصول القيم في التدين» غير «كل القيم في التدين» ، ولذلك نحن قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى جعل للإسلام خمسة أركان، وهي التي بني عليها الإسلام. ولابد أن نقيم بنيان الإسلام على هذه الأركان الخمسة، فلا تقل: إن الإسلام هو هذه الأركان الخمسة، لا؛ لأن الإسلام مبني عليها فقط فهي الأعمدة أو الأسس التي بني عليها الإسلام. فأنت حين تضع أساسا لمنزل وتقيم الأعمدة فهذا المنزل لا يصلح بذلك للسكن، بل لابد أن تقيم بقية البنيان، إذن فالإسلام مبني على هذه الأسس. والحق سبحانه وتعالى يوضح ذلك فيأمر بالمحافظة على أماكن هذه القيم؛ لأن المساجد ونحن نتكلم بالعرف الإسلامي هي ملتقى فيوضات الحق النورانية على خلقه، فالذي يريد فيض الحق بنوره يذهب إلى المسجد. إذن لكيلا تفسد الأرض لابد أن توجد أماكن العبادة هذه، فمرة جاء الحق بالنتيجة ومرة جاء بالسبب. ولماذا يدفع الله الناس بعضهم ببعض؟ لأن هناك أناساً يريدون الشر وأناساً يريدون الخير، فمن يريد الشر يدفع من يريد الخير، وإذا وقعت المعركة بهذا الوصف فإن يد الله لا تتخلى عن الجانب المؤمن الباحث عن الخير، فهو سبحانه القائل: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] أي إن المعركة لا تطول. ولذلك قلنا سابقا: إن المعارك التي نراها في الكون لا نجد فيها معركة بين حقين؛ لأنه لا يوجد في الوجود حقان، فالحق واحد، فلا يقولن أحد: إنه على حق وخصمه على حق. لا، إن هناك حقاً واحداً فقط. والمعركة إن وجدت توجد بين حق وباطل، أو بين باطل وباطل. والمعركة بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1062 الحق والباطل لا تطول؛ لأن الباطل زهوق. والذي يطول من المعارك هي المعارك بين الباطل والباطل؛ فليس أحدهما أولى بأن ينصره الله. فهذا على فساد وذاك على فساد، وسبحانه يدك هذا الفساد بذاك الفساد. وحين يندك هذا الفساد بذاك الفساد، فجناحا الفساد في الكون ينتهيان. ويأتي من بعد ذلك أناس ليس عندهم فساد ويعمرون الكون. والمعارك التي تدور في أي مكان تجد أن هذا الطرف له هوى والآخر له هوىً مختلف. ولا يقف الله في أي جانب منهما؛ لأنه ليس هناك جانب أحمق بالله من الآخر؛ لذلك يتركهم يصطرع بعضهم مع بعض، ومادام الحق قد تركهم لبعضهم البعض فلا بد أن تطول المعركة. ولو كان الله في بال جانب منهم لوقف سبحانه في جانبه. وكذلك نرى في معارك العصر الحديث أن المعركة تطول وتطول؛ لأننا لا نجد القسم الثالث الذي جاء في قوله سبحانه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] إن الحق سبحانه وتعالى يأمر عند اقتتال طائفتين من المؤمنين أن يصلح بينهما قوم مؤمنون، فإن تعدت إحداهما على الأخرى، ورفضت الصلح فالحق يأمر المؤمنين بأن يقاتلوا الفئة التي تتعدى إلى أن ترجع إلى حكم الله، فإن رجعت إلى حكم الله فالإصلاح بين الفئتين يكون بالإنصاف؛ لأن الله يحب العادلين المنصفين. ونحن نجد الباطل يتقاتل مع الباطل؛ لذلك لا نجد من يصلح بين الباطلين، بل نجد أهواءً تتعارك، وكل جانب ينفخ في الطائفة التي تناسب هواه. وهذه هي الخيبة في الكون المعاصر؛ إن المعارك تطول لأنه ليس في بال المتقاتلين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1063 شيء جامع، ولو كان في بالهم شيء جامع، لما حدثت الحرب. وماداموا قد غفلوا عن هذا الشيء الجامع، فمن المفروض أن تتدخل الفئة القادرة على الإصلاح، ولكن حتى هؤلاء لم يدخلوا للإصلاح، وهذا معناه أن الخيبة في العالم كله. وسيظل العالم في خيبة إلى أن يرعووا ويرتدعوا. إنهم يطيلون على أنفسهم أمد التجربة وسيظلون في هذه الخيبة حتى يفطنوا إلى أنه لا سبيل إلى أن تنتهي هذه المشاكل إلا أن يرجعوا جميعاً عن أهوائهم إلى مراد خالقهم. {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} ، نعم تفسد الأرض فيما جعل الله للإنسان يداً فيه، أما الشيء الذي لم يجعل الله للإنسان يداً فيه فستظل النواميس كما هي لا يؤثر فيها أحد، فلا أحد يؤثر في الشمس أو القمر أو الهواء أو المطر، إنما الفساد جاء فيما للإنسان فيه يد. انظر إلى الكون، إنك تجد المسائل التي لا دخل للإنسان فيها مستقيمة على أحسن ما يكون، وإنما يأتي الفساد من النواحي التي تدخل فيها الإنسان بغير منهج الله. ولو أن الإنسان دخل فيها بمنهج الله لاستقامت الأمور كما استقامت النواميس العليا تماما. في سورة الرحمن قوله تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7] ومادام الحق قد رفع السماء ووضع الميزان، فالسماء لا تقع على الأرض والنظام محكم تماما، الشمس تطلع من الشرق وتغرب في الغرب، والقمر والنجوم تسير في منتهى الدقة والإبداع، لأنه لا دخل لأحد من البشر فيه. فإن أردتم أن تصلح حياتكم، وأن تستقيم أموركم كما استقامت هندسة السماء والأرض فخذوا الميزان من السماء في أعمالكم، واتبعوا القول الحق: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1064 بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 7 - 9] ومادمتم قد رأيتم أن الأمور الموجودة التي تسير بنظام لا تتحكمون فيه تعمل باستقامة وترون أن الفساد قد جاء من ناحية الأمور التي دخلتم فيها، فلماذا لا نتبع منهج الله في الأمور التي لنا دخل فيها؟ إنك إن عملت في الحياة بمنهج الله الذي خلق الحياة فإن أمورك تستقيم لك كما استقامت الأمور العليا في الكون. واحفظ جيداً قوله تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 7 - 8] ليحفظ كل منا هذا القول لنعرف أن الأمور العليا موزونة لأن يد الإنسان لا تدخل فيها. إن السماء لا تقع على الأرض لأنها محكومة بنظام محكم تماماً. والأرض لا تدور بعيداً عن فلكها؛ لأن خالقها قد قدر لها النظام المحكم تماماً. ولهذا يقول الحق سبحانه عن نظام الكواكب في الكون: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] إنه نظام دقيق محكم لأنه لا دخل للإنسان فيه. اصنعوا ميزاناً في كل الأمور التي لكم فيها اختيار حتى لا تطغوا في الميزان. ومادام الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان ومنحه الاختيار، وبعض الناس اختار مذهباً، والبعض الآخر اختار مذهبا مضادا، وكلٌّ من المذهبين خارج عن منهج الله، فالحق سبحانه وتعالى يترك الفئتين للتقاتل والتناحر. ولأنه سبحانه ذو رحمة على العالمين، يبقى عناصر الخير في الوجود، لعل أحداً يرى ويتنبه ويتلفت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1065 ويذهب ليأخذها. فعندما تطغى جماعة يأتي لهم الحق بجماعة يردونهم، حتى تبقى عناصر الخير في الوجود لعل إنساناً يأتي ليأخذ عنصراً منها يحرك به حياته، وصاحب الخير إنما يأتي من فضل الله على العالمين. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1066 ونعرف أن {تِلْكَ} إشارة يخاطب الله بها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويشير إلى الآيات التي سبقت والتي تدل على عظمة الحق وقيومته، فقد قال الحق من قبل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243] وساعة طلبوا أن يقاتلوا، وأن يبعث لهم ملكاً، وبعثه لهم، وبعث لهم التابوت فيه سكينة، أليست هذه آيات أخرى؟ ومن بعد ذلك أراد الحق أن يأتي مقتل جالوت العملاق الضخم على يد داود الصبي الصغير. أليست هذه آية؟ وآية أخرى هي أن جماعة قليلة بإقرارهم حيث قالوا: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} هذه الجماعة القليلة تدخل المعركة وتهزم الكثرة، أليست هذه آية؟ وهل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يعرف الآيات التي سبقت رسالته؟ لا، ولكنها من إخبار الله له مع إقرار الجميع، وخاصة الذين كفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ بأنه لا قرأ ولا كتب ولا جلس إلى معلم، ولا أحد قال له شيئا؛ حتى الرحلة التي ذهب فيها للتجارة كان يصحبه فيها أناس غيره، ولو كانوا قد رأوه جالسا إلى أحد يعلمه شيئا، لأذاعوا أن محمداً قد جلس مع فلان، وتعلم منه كذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1066 وكذا. ولكن هذا لم يقله أحد؛ لأنه لم يحدث أصلا، ولذلك كان إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما يعلمونه هم عندهم هو بعضاً من أسرار معجزته، إنه قد عرف الأخبار السابقة رغم أنه لم يقرأ ولم يكتب ولم يتلق علماً من أحد. وقد تماحك بعض المشركين وقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يجلس إلى فتى عند المروة يعلمه هذه الأخبار، فنزل القول الحق يدحض هذا الافتراء: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103] لقد أثبت الحق أنها حجة باطلة، وزعم كاذب من ناحيتهم. لأن الذي ادّعوا أنه علم الرسول كان أعجميا. ويقول الحق سبحانه لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} . إن كلمة {آيَاتُ الله} تعني الأشياء العجيبة، و {نَتْلُوهَا} أي نجعل كلمة بعد كلمة، وهي من «ولي» أي جاء بعده بلا فاصل. {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} والحق هو الشيء الذي وقع موقعه حيث لا يتغير عنه، فلا يتضارب أبداً. فهب أن حادثة وقعت أمامك، ثم سُئلت عنها ألف مرة في طيلة حياتك ستجد أن جوابك لن يختلف عليها أبداً؛ لأنك تحكي واقعاً رأيته، لكن لو كانت الحكاية كذباً؛ فستجد أن روايتك لها في المرة الثانية تتغير؛ لأنك لا تذكر ماذا قلت في المرة الأولى؛ لأنك لا تحكي عن واقع يأخذك وتلتزم به، وكذلك الحق لا يتغير، ولا يتضارب، ولا يتعارض. {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} ومادام الحق سبحانه هو الذي يقولها، فسيقولها لك حقيقة، وعندئذ يعرف الآخرون أنك عرفت ما عندهم مما يخفونه في كتبهم يقوله بعضهم لبعض، هنا يعرفون أنك من المرسلين، ولذلك نحن نجد في «ماكانات القرآن» التي يقول فيها تعالى: «ما كُنت» ، «ما كُنت» ، و «ما كنت» ومثل قوله الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1067 {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} [القصص: 44] أي ما كنت يا محمد حاضراً مع موسى في المكان الغربي من الجبل حين عهد الله إليه بأمر الرسالة، ولم تكن معاصراً لموسى ولا شاهداً تبليغه للرسالة فكيف يكذبك قومك وأنت تتلو عليهم أنباء السابقين؟ ومثال ذلك قوله الحق: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] إن الذي رواه القرآن لك يا محمد من الأخبار الجليلة عمن اصطفاهم الله هي من الغيب الذي أوحى الله به إليك. وما كنت حاضراً معهم وهم يقترعون بالسهام ليعلم بالقرعة من يقوم بشئون مريم، وما كنت معهم وهم يختصمون في نيل هذا الشرف النبيل. ومثال ذلك قوله الحق سبحانه: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46] أي ما كنت أيها الرسول حاضراً في جانب الطور حين نادينا موسى لما أتى الميقات وكلمه ربه وناجاه، ولكن الله أعلمك بهذا عن طريق الوحي رحمة بك وبأمتك، ولتبلغه لقوم لم يأتهم رسول من قبلك لعلهم يتذكرون ويؤمنون. ومثال ذلك قوله الحق: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1068 إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] إن القرآن هو وحي منزل من عند الله، يُعرِّف المؤمنين النور إلى الهداية وتكاليف الحق، ويهدي من اختار الهدى، وإنك يا محمد لتدعو بهذا القرآن إلى صراط مستقيم. إن كل {مَا كُنتَ} في القرآن الكريم هي دليل على أن ما أخبرك به جبريل رسولاً من عند الله إليك، وحاملا للوحي من الله هو الحق؛ فتعلمه أنت يا محمد بطريقة خاصة وعلى نهج مخصوص، رغم أنك لم تقرأ كتاباً ولم تجلس إلى معلم. وما تخبرهم به من آيات هي موافقة لما معهم، وكان من الواجب أن يقولوا إن الذي علمك هذا هو الله سبحانه وتعالى، وكان يجب أن يقروا ويشهدوا بأنك من المرسلين. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1069 إن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى الرسل بقوله: {تِلْكَ الرسل} و {الرسل} هي جمع لمفرد هو «رسول» . والرسول هو المكلف بالرسالة. والرسالة هي الجملة من الكلام التي تحمل معنى إلى هدف. ومادام الرسل جماعة فلماذا لم يقل الحق «هؤلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1069 الرسل» وقال {تِلْكَ الرسل} ؟ ذلك ليدلك القرآن الكريم على أن الرسل مهما اختلفوا فهم مرسلون من قبل إله واحد وبمنهج واحد. وكما عرفنا من قبل أن الإشارة ب «تلك» هي إشارة لأمر بعيد. فعندما نشير إلى شيء قريب فإننا نقول: «ذا» ، وعندما نستخدم صيغة الإشارة مع الخطاب نقول: «ذاك» . وعندما نشير إلى مؤنث فنقول: «ت» وعندما نشير إلى خطاب مؤنث: «تيك» . و «اللام» كما عرفنا هنا للبعد أو للمنزلة العالية. إذن فقوله الحق: {تِلْكَ الرسل} هو إشارة إلى الرسل الذين يعلمهم سيدنا محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أو الرسل الذين تقدموا في السياق القرآني. والسياق القرآني الذي تقدم تحدث عن موسى عليه السلام، وعن عيسى عليه السلام، وتكلم السياق عن أولي العزم من الرسل. إن أردت الترتيب القرآني هنا، فهو يشير إلى الذي تقدم في هذه السورة، وإن أردت ترتيب النزول تكون الإشارة إلى من عَلِمَهُ الرسول من الرسل السابقين، والمناسبة هنا أن الحق قد ختم الآية السابقة بقوله هناك: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} ، ولما كانت {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} تفيد بعضيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لكلية عامة، كأنه يقول: إياكم أن تظنوا أنهم ماداموا قد اتفقوا في أنهم مرسلون أو أنهم رسل الله، أنهم أيضا متساوون في المنزلة، لا، بل كل واحد منهم له منزلته العامة في الفضلية والخاصة في التفضيل. إنهم جميعاW رسل من عند الله، ولكن الحق يعطي كل واحد منهم منزل خاصة في التفضيل. فلماذا كان قول الله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} يؤكد لنا أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من بين الرسل فلا تأخذ هذا الأمر على أساس أن كل الرسل متساوون في المكانة، وتقول إنهم متماثلون في الفضل. لا. إن الله قد فضل بعضهم على بعض. وما هو التفضيل؟ إن التفضيل هو أن تأتي للغير وتعطيه ميزة، وعندما تعطي له مزية عمن سواه قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1070 يقول لك إنسان ما «هذه محاباة» ، لذلك نقول لمن يقول ذلك: الزم الدقة، ولتعرف أن التفضيل هو إيثار الغير بمزية بدافع الحكمة، أما المحاباة فهي إيثار الغير بمزية بدافع الهوى والشهوة، فمثلاً إذا أردنا أن نختار أحداً من الناس لمنصب كبير، فنحن نختار عدداً من الشخصيات التي يمكن أن تنطبق عليهم المواصفات ونقول: «هذا يصلح، وهذا يصلح، وهذا يصلح» و «هذا فيه ميزات عن ذاك» وهكذا، فإن نظرنا إليهم وقيمناهم بدافع الحكمة والكفاءة فهذا هو التفضيل، ولكن إن اخترنا واحداً لأنه قريب أو صهر أو غير ذلك فهذا هو الهوى والمحاباة. إن التفضيل هو أن تؤثر وتعطي مزية ولكن لحكمة، وأما المحاباة فهي أن تؤثر وتعطي مزية، ولكن لهوى في نفسك. فمثلا هب أنك اشتريت قاربا بخاريا وركبته أنت وابنك الصغير، ومعك سائق القارب البخاري، وأراد ابنك الصغير أن يسوق القارب البخاري، وجلس مكان السائق وأخذ يسوق. ولكن جاءت أمواج عالية واضطرب البحر فنهضت أنت مسرعا وأخذت الولد وأمرت السائق أن يتولى القيادة، وهنا قد يصرخ الولد، فهل هذه محاباة منك للسائق؟ لا، فلو كانت محاباة لكانت لابنك، لكنك أنت قد آثرت السائق لحكمة تعرفها وهي أنه أعلم بالقيادة من الولد الصغير. إذن إذا نظرت إلى حيثية الإيثار وحيثية التمييز لحكمة فهذا هو التفضيل، ولكن في المحاباة يكون الهوى هو الحاكم. وكل أعمال الحق سبحانه وتعالى تصدر عن حكمة؛ لأنه سبحانه ليس له هوى ولا شهوة، فكلنا جميعا بالنسبة إليه سواء. إذن هو سبحانه حين يعطي مزية أو يعطي خيرا أو يعطي فضلية، يكون القصد فيها إلى حكمة ما. وحينما قال الحق: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جاء بعدها بالقول الكريم: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} وأعطانا نماذج التفضيل فقال: {منهم من كلم الله} . وساعة تسمع {منهم من كلم الله} يأتي في الذهن مباشرة موسى عليه السلام، وإلا فالله جل وعلا قد كلم الملائكة. وبعد ذلك يقول الحق: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} . ثم قال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1071 مَرْيَمَ البينات} إنه سبحانه قد حدد أولا موسى عليه السلام بالوصف الغالب فقال: {كَلَّمَ الله} وكذلك حدد سيدنا عيسى عليه السلام بأنه قد وهبه الآيات البينات. وبين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام قال الحق {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} والخطاب في الآيات لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. إذن ففيه كلام عن الغير لمخاطب هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وساعة يأتي التشخيص بالاسم أو بالوصف الغالب، فقد حدد المراد بالقضية، ولكن ساعة أن يأتي بالوصف ويترك لفطنة السامع أن يرد الوصف إلى صاحبه فكأنه من المفهوم أنه لا ينطبق قوله: «ورفعنا بعضهم درجات» بحق إلا على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحده. وجاء بها سبحانه في الوسط بين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام، مع أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يأت في الوسط، وإنما جاء آخر الأنبياء، ولكنك تجد أن منهجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الوسط. فاليهودية قد أسرفت في المادية بلا روحانية، والنصرانية قد أسرفت في الروحانية بلا مادية، والعالم يحتاج إلى وسطية بين المادية والروحية، فجاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قطب الميزان في قضية الوجود. وإذا أردنا أن نعرف مناطات التفضيل، فإننا نجد رسولا يرسله الله إلى قريته مثل سيدنا لوط مثلا، وهناك رسول محدود الرسالة أو عمر رسالته محدود، ولَكِنْ هناك رسول واحد قيل له: أنت مرسل للإنس والجن، ولكل من يوجد من الإنس والجن إلى أن تقوم الساعة إنّه هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإذا كان التفضيل هو مجال العمل فهو لسيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإذا نظرنا إلى المعجزات التي أنزلها الله لرسله ليثبتوا للناس صدق بلاغهم عن ربهم، نجد أن كل المعجزات قد جاءت معجزاته كونية، أي معجزات مادية حسية الذي يراها يؤمن بها، فالذي رأى عصا موسى وهي تضرب البحر فانفلق، هذه معجزة مادية آمن بها قوم موسى، والذي رأى عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص فقد شهد المعجزة المادية وآمن بها، ولكن هل لهذه المعجزات الآن وجود غير الخبر عنها؟ لا ليس لها وجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1072 لكن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما يشاء الله أن يأتيه بالمعجزة لا يأتي له بمعجزة من جنس المحسات التي تحدث مرة وتنتهي، إنه سبحانه قد بعث محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن تقوم الساعة، فرسالته غير محدودة، ولابد أن تكون معجزته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غير محسة وإنما تكون معقولة؛ لأن العقل هو القدر المشترك عند الجميع، لذلك كانت معجزته القرآن. ويستطيع كل واحد الآن أن يقول: محمد رسول الله وتلك معجزته. إن معجزة رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي واقع محسوس. وفي مناط التطبيق للمنهج نجد أن الرسل ما جاءوا ليشرعوا، إنما كانوا ينقلون الأحكام عن الله، وليس لهم أن يشرعوا، أما الرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو الرسول الوحيد الذي قال الله له: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد اختصه الله بالتشريع أيضا، أليست هذه مزية؟ إن المراد من المنهج السماوي هو وضع القوانين التي تحكم حركة الحياة في الخلافة في الأرض، وتلك القوانين نوعان: نوع جاء من الله، وفي هذا نجد أن كل الرسل فيه سواء، ولكنْ هناك نوع ثانٍ من القوانين فوض الله فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يضع من التشريع ليلائم ما يرى، وهذا تفضيل للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن حين يقول الله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} فهذا لا ينطبق إلا على سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهذا أكثر من التصريح بالاسم. وأضرب هنا المثل ولله المثل الأعلى أنت أعطيت لولدك قلماً عادياً، ولولدك الثاني قلماً مرتفع القيمة، ولولدك الثالث ساعة، أما الولد الرابع فاشتريت له هدية غالية جداً، ثم تأتي للأولاد وتقول لهم: أنا اشتريت لفلان قلماً جافاً، ولفلان قلم حبر، واشتريت لفلان ساعة، وبعضهم اشتريت له هدية ثمينة. ف «بعضهم» هذا قد عُرف بأنه الابن الرابع الذي لم تذكر اسمه، فيكون قد تعين وتحدد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1073 {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} وحين تقول كلم الله إياك أن تغفل عن قضية كلية تحكم كل وصف لله يوجد في البشر، فأنا أتكلم والله يتكلم، لكن أكلامه سبحانه مثل كلامي؟ إن كنت تعتقد أن وجودي مثل وجوده فاجعل كلامي ككلامه، وإن كان وجودي ليس كوجوده فكيف يكون كلامي ككلامه؟ ربما يقول أحد: إن الكلام صوت وأحبال صوتية وغير ذلك، نقول له: لا، أنت لا تأخذ ما يخص الله سبحانه إلا في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونحن نأخذ كل وصف يرد عن الله بواسطة الله، ولا نضع وصفاً من عندنا، وبعد ذلك لا نقارنه بوصف للبشر. فلله حياة ولك حياة. لكن أحياة أي منا كحياته سبحانه؟ لا، إن حياته ذاتية، وحياة كل منا موهوبة مسلوبة، فليست مثل حياته. وعندما يقول الحق: {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4] فهل جلوس الحق كجلوس الخلق؟ أو هل يكون كرسي الخالق ككرسي المخلوق؟ طبعا لا. ونحن المؤمنين نأخذ كل صفة عن الله في نطاق التنزيه: سبحان الله وليس كمثله شيء، فليس استواء الله مثل استواء البشر، وليس جلوس الحق مثل جلوس الإنسان. ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد هب أن صاحباً لك دعاك لتأكل عنده، ثم دعاك أحد كبراء القوم لتأكل عنده، لابد أنك تجد الطعام متفاوتا في جودته وأصنافه بين كل مائة من موائد من دعوك، فإذا كان البشر أنفسهم تتفاوت بينهم الأمور الوصفية تبعاً لمقاماتهم وقدراتهم وإمكاناتهم، فإذا ما ترقيت بالصفة إلى خالق كل الأشياء أيقنت أنه سبحانه مُنزه عن كل من سواه، وليس كمثله شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1074 إذن {كَلَّمَ الله} تعني أنه أعلم رسوله بأي وسيلة من وسائل الإعلام. {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} والحق سبحانه وتعالى يؤكد دائما في الكلام عن سيدنا عيسى أنّ عيسى ابن مريم مؤيد بروح القدس؛ لأن المسائل التي تعرض لها سيدنا عيسى تتطلب أن تكون روح القدس دائما معه، ولذلك يقول الحق سبحانه عنه: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33] ففي الميلاد سيدنا عيسى تعرض لمشكلة؛ لأنه ولد على غير طريقة ميلاد الناس، واتهمت فيها أمه، وجاء القرآن فنزهها، وبرأها، ووضع الأمر في نصابه الحق، وأيضا في موته عندما أرادوا أن يقتلوه. وحين ننظر إلى الرسل نجد أن مقتضى أن يرسل الله رسلاً إلى العالم هو أنه سبحانه قد خلق الخلق غير مكرهين على فعل، ولا مسخرين كما تسخر بقية الأجناس في الكون، ودونه مباشرة الحيوان الذي ينقص عنه العقل، وبعد الحيوان يأتي جنس النبات الذي ينقص عنه الحس والحركة، وبعد ذلك الجماد الذي ينقص عن النبات، تلك هي أجناس الوجود. والإنسان هو سيد هذه الأجناس. والسيادة جاءت له من ناحية أن الأجناس كلها مسخرة لخدمته لا بالاختيار، ولكن بالقهر والقسر. فالشمس لم تجيء مرة لتقول: لم يعد الخلق يعجبونني لذلك لن أشرق لهم اليوم ولا الهواء امتنع عن أن يهب، ولا المطر امتنع عن أن ينزل، ولا الأرض امتنعت عن أن تعطي النبات عناصر غذائه، إن الإنسان يركب الدابة ويسيرها كما يحب وكما يريد، لا شيء يتأبى أبدا على الإنسان. وأنت أيها الإنسان الجنس الوحيد الذي وهبك الله الاختيار لتمارس مهمتك في الوجود، فإن شئت فعلت كذا، وإن شئت لم تفعل كذا. ولكن الله لم يدعك هكذا على إطلاقك، بل إنّ فيه أموراً تصير برغم أنفك وأنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1075 مسخر فيها، لا تستطيع مثلا أن تتحكم في يوم ميلادك، ولا في يوم وفاتك، ولا فيما ينزل عليك من الأحداث الخارجة عنك، ولا فيما يدور من الحركة في بدنك، كل ذلك أنت مسخر فيه فلا تنفلت من قبضة ربك. ولكنك مختار في أشياء. ونعرف أنه سبحانه وتعالى قهر أجناساً على أن تكون كما يريد، وكما يحب، وتلك صفة القدرة؛ لأن صفة القهر تفيد السيطرة. فإذا ما ترك جنساً يختار أن يؤمن، ويختار ألا يؤمن، وإن آمن يختار أن يطيع ويختار أن يعصي، فهذه تثبت المحبوبية لله سبحانه وتعالى لمن اختار وآثر طاعة الله على المعصية. ونحن نعرف أن القهر يخضع القوالب لكنه لا يخضع القلب. فأنت تستطيع أن تهدد إنساناً بمسدس وتقول له: «اسجد لي» فيسجد لك، لكنك لا تستطيع أن تقول له وهو تحت التهديد «أحبني» . فالحق سبحانه وتعالى يترك لنا الإيمان بالاختيار، ويترك لنا الطاعة والمعصية اختياراً، ليعلم من يأتيه حباً ومن يأتيه قهراً. والعالم كله يأتي لله قهراً. وأنت أيها الإنسان في ذاتك أشياء أنت مقهور فيها. ومن هنا ثبتت لله تعالى القدرة. وبقى أن تثبت له الحب. والعبد الصالح هو الذي يطيعه عن حب. ونحن قد سبق لنا أن ضربنا مثلاً ولله المثل الأعلى وقلنا إن إنسانا عنده خادمان واحد اسمه سعد والآخر اسمه سعيد، سعد قيده صاحبه بحبل ويجره قائلا: «يا سعد» فهل لسعد ألا يجيء؟ لا. لكن صاحب العبدين ترك لسعيد الحرية، وعندما يناديه فهو يأتيه. إذن، أيهما يحبه، الذي جاء بالحبل أم الذي جاء بالمحبة؟ إذن، فمن كرامة الإنسان أن يثبت لله صفة المحبة إن آمن بالله؛ لأنه سبحانه وتعالى لو شاء أن يهدي الناس جميعاً ما استطاع أي واحد منهم أن يكفر به، ولو شاء أن يكون مطاعاً دائماً ما استطاع واحد أن يعصيه أبداً. ولذلك قلنا: إن إبليس كان عالماً حينما قال أمام الله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1076 أقسم الشيطان لله بعزته سبحانه عن خلقه، وكأنه قال: أنت يا رب لو كنت تحتاج عباد فأنا لا أستطيع أن آخذهم، لكن لأنك عزيز عليهم، إن أرادوا أن يؤمنوا آمنوا، وإن أرادوا ألا يؤمنوا لم يؤمنوا؛ فهذا هو المدخل الذي سأدخل منه. ولذلك استثنى الشيطان بعضاً من العباد لأنه لن يستطيع أن يجد لوسوسته لديهم مدخلا: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83] أي إن الذي يريد الله أن يستخلصه لنفسه فلن يستطيع الشيطان أن يقترب منه. إذن فإبليس ليس داخلاً في معركة مع الله تعالى، ولكنه في معركة معنا نحن. ولقد أوضح الحق ذلك حين جاء على لسان إبليس في القرآن: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82 - 83] إذن لو أراد الله أن نكون طائعين جميعاً، أيستطيع واحد أن يعصي؟ لا يستطيع. ولو أرادنا مؤمنين جميعاً، أيستطيع واحد أن يكفر؟ لا يستطيع. إنما شاء الله تعالى لبعض الأمور والأفعال أن يتركها لاختيارك؛ لأنه يريد أن يعرف من الذي يأتيه طوعاً وليظل العبد بين الخوف والرجاء؛ ولذلك يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد» . ولهذا فإن مطلوب الارتفاع الإيماني، والارتفاع اليقيني أن تحب الله لذات الله. وهو سبحانه يجري عليك من الأحداث ما يشاء، وتظل تحبه فيباهي الله بك الملائكة فتقول الملائكة: يا رب يحبك لنعمتك عليه فيقول لهم: وأسلب نعمتي ولا يزال يحبني، ويسلب الحق النعمة لكن العبد لا يزال يحب الله، فهو يحب الله ولا يحب نعمته لأنه سبحانه ذات تحب لذاتها بصرف النظر عن أنه يعطينا النعم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1077 إذن الحق سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل يحملون منهج الله لمَنْ يريد أن يعلن حبه لله، وأن يكون خليفة في الأرض بحق، وأن يُصلح في الكون ولا يفسده. ونعرف أن الإصلاح له مرتبتان: أن تترك الصالح بطبيعته فلا تفسده، أو أن تزيد الصالح صلاحاً. فلا تأتي على عين الماء التي تتدفق للناس وتردمها، ولكنك تتركها على صلاحها إن لم تستطع أن تزيدها إصلاحاً. وقد تستطيع أن تزيد عين الماء صلاحاً؛ فبدلاً من أن يذهب الناس متعبين إلى العين ويحملون منها الماء، قد تصنع لهم مضخة عالية لها خزان ترفع إليه الماء وتمد «المواسير» وتوصل المياه إلى منازلهم. فأنت بذلك تزيد الأمر الصالح صلاحاً، وهذه خلافة وعمارة في الوجود. فإن لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فجنبنا شر إفسادك، ودع الحال كما هي عليه، واقعد كما أنت عالة في الكون. ولو أن الإنسان كان منصفاً في الكون لسأل نفسه: مَنْ الذي اهتدى إلى صناعة الرغيف الذي نأكله الآن؟ وسيعرف أنه قد أخذ تجارب الناس من أول آدم حتى وصل إلى صناعة هذا الرغيف، فهناك إنسان زرع القمح، وهناك إنسان آخر هداه الله أن يطحن هذا القمح، وهو سبحانه هدى الإنسان أن يصنع منخلاً ليفصل الدقيق عن النخالة، ثم هداه أن يعجن الدقيق حتى يجد له طعماً أفضل. ولاشك أنه ترك مرة قطعة من العجين ثم شُغل عنها بأي شاغل أو بأي سبب ثم رجع لها مرة أخرى فوجدها متخمرة، فلما خبزها خرج له العيش أفضل طعماً، إنه سبحانه قدر فهدى، وإلا كيف تأتي هذه التجربة الطويلة؟ ومثال آخر: إن الإنسان حين ينظف ثوبه، لو أنه استعرض أعمال من سبقوه في هذا الموضوع منذ آدم، لعلم أن كل واحد سبقه في الوجود أعطاه مرحلة من النفعية إلى أن وصل للغسالة الكهربائية التي تغسل له بدون تعب، كل هذه الأشياء جاءت له بهدايات من الله. وقد قلت مرة: لماذا طبخت الناس «الكوسة» ولم تطبخ «الخيار» ؟ إن هذه دليل على أن هناك تجارب كثيرة مرت على الإنسان حتى يميز طعم الكوسة المطبوخة عن الخيار، وكذلك طبخ الناس الملوخية ولم يطبخوا النعناع، مع أن النعناع أحسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1078 منها، حدث ذلك؛ لأن هناك تجارب وصلتنا بأن النعناع لا يُستساغ طعمه مطبوخا. وأنت لو نظرت إلى أي شيء تستفيد به اليوم، وقدرت الأعمال التي تداولته من يوم أن وُجد، ستجد أن الحق قد قدر لكل إنسان عملاً ومجالاً، وظل يخدمك أنت. ومادمت قد خُدمتَ بهؤلاء الناس كلهم من أول آدم وحتى اليوم، فلا بد أن تنظر لترى ماذا ستقدم لمن يأتي من بعدك، فلا تكن كسولاً في الحياة؛ تأخذ خير غيرك كله في الوجود، وبعد ذلك لا تعطي أي شيء، بل لابد أن يكون لك عطاء، فكما أخذت من بيئتك لابد أن تعطي هذه البيئة، ولو لم يوجد هذا لما ارتقت الحياة؛ لأن معنى ارتقاء الحياة أن إنساناً أخذ خبرة من سبقوه، وحاول أن يزيد عليها، أي أن يأخذ أكبر ثمرة بأقل مجهود. فلو قدر الناس جهد الإنسان الذي ابتكر «العجلة» مثلا التي تسير عليها السيارة لكان عليهم أن يستغفروا الله له بمقدار ما أراحهم، فبعد أن كان الإنسان يحمل على أكتافه قصارى ما يحمل، وَفَّر عليه مَن اختراع هذا أن يحمل ويتعب، وجعله يحمل أكبر كمية وينقلها بأقل مجهود. إذن لابد أن تنظر إلى النعم التي تستفيد بها الآن وترى كم مرحلة مرت بها، وهل صنعها الناس هكذا أم تعبوا وكدوا واجتهدوا منذ بدء الوجود على الأرض، وعرف الإنسان جيلا بعد جيل كيفية تطوير تلك الأشياء، وقد يحدث خطأ في مرحلة معينة فيبدأ الإصلاح أو التحسين وهكذا. فأنت عندما تجد أن العالم قدم لك كل هذه المنتجات، لابد أن تسأل نفسك: ما الذي ستقدمه أنت لهذا العالم، وبذلك تظل الحلقة الإنسانية مرتقية ومتصلة. والحق سبحانه يرسل الرسل ويضع المنهج: «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» ، حتى تستقيم حياة الناس على الأرض، لكن الناس غلبت عليهم الغفلة عن أمر المنهج؛ ولذلك تظهر في الوجود فسادات بقدر الغفلة، وعندما يزداد الفساد يبعث الحق سبحانه رسولا جديدا يذكرهم بالمنهج مرة أخرى، وعندما يأتي الرسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1079 يؤمن به بعض من الناس ويحاربون معه، وينتصر الرسول وتستقر مبادئ الله في الأرض، ثم تمر فترة وتأتي الغفلة فيحدث الخلاف، فهناك أناس يتمسكون بمنهج الله، وأناس يفرطون في هذا المنهج، ويحدث الخلاف وتقوم المعارك. ولو كان الحق سبحانه وتعالى يريد الكون بلا معارك بين حق وباطل لجعل الحق مسيطراً سيطرة تسخير. لكن الله تعالى أعطانا تمكيناً، وأعطانا اختباراً؛ لذلك نجد من ينشأ مؤمناً، ومن ينشأ كافراً، نجد الطائع، ونجد العاصي، هذا فريق، وهذا فريق. وإياك أن تفهم أن وجود الكافرين في الأرض، أو وجود العصاة في الكون دليل على أنهم غير داخلين في حوزة الله، لا. بل إن الله تعالى هو الذي أعطاهم هذا الاختيار، ولو شاء الله أن يجعل الناس أمة واحدة لما استطاع إنسان أن يخرج على مراد الله. وفي الآية التي نحن بصددها جاء الحق بأولي العزم من الرسل: سيدنا موسى عليه السلام، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وسيدنا عيسى عليه السلام وبعد ذلك يقول سبحانه: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] إذن ما الذي جعل الناس تقتتل فيما بينها؟ إنه الاختلاف بين الناس، لقد اختلفوا فاقتتلوا. لكن ألا يمكن أن يكونوا قد اختلفوا ولم يقتتلوا؟ إن ذلك لو حدث لكان إجماعاً على الفساد. والحق سبحانه لا يريد أن يحدث الإجماع على الفساد، فإن لم يسيطر الخير على أمور البشر فلا أقل من أن يظل عنصر الخير موجوداً، ويأتي واحد ليجد عنصر الخير وينميه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1080 إن الحق سبحانه لا يمحو في أزمنة الباطل معالم الخير والأفعال الحسنة، بل يستبقي سبحانه معالم الخير والأفعال الحسنة ليذهب إليها أي إنسان يريد الخير، وقد يكون الخير ضعيفاً، ولكن الله لا يمحوه؛ لأنه يعطي به دفعة جديدة لمؤمنين جدد يرفعون راية الحق، وإن بدأوا ضعفاء. ولذلك نجد الرسول الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لولا عباد الله ركع وصبية رُضّع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا» . إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينبهنا ألا ننظر إلى الضعفاء على أنهم عالة وأننا أقوياء لمجرد أنهم يعيشون في أكنافنا. بل قد يكونون سياج لطف ورحمة كما في الحديث السابق. إن الله سبحانه وتعالى رفع عنا العذاب من أجل وجود الضعفاء بيننا، لأن في الضعاف يوجد شيء من الخير، ولتظل في الوجود خلية من الخير حتى إذا ما أراد الوجود أن يفيق إلى الرشد فإنه سيجد من الخير ما يرشده. إذن لولا الاقتتال لعم الفساد، وانتهت المسألة. لكن الناس اختلفت فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا} أي لظلوا على منهج واحد من الكفر أو من الفساد، لكن الله يفعل ما يريد. وفي الاقتتال كما نعرف هناك تضحيات بالنفس، وتضحيات من أجل أن تظل القيم السماوية على الأرض. وتقتضي التضحية إما أن يجود الإنسان بنفسه وإما أن يجود بماله، ولذلك فمن المناسب هنا أن نتكلم عن النفقة وهي الجود بالمال، وخاصة أنه في الزمن القديم كان المقاتل هو الذي يجهز عدة قتاله: فرسه، رمحه، سيفه، سهامه، لذلك فهو يحتاج إلى إنفاق، ويتكلم الحق عن هذه المسألة لأن الأمر بصدد استبقاء خلية الإيمان المصورة في المنهج السماوي الذي جاء به الرسل؛ ليظل هذا المنهج في الأرض حتى يفيء إليه الناس إن صدمهم الشر أو صدمهم الباطل فيقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1081 {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1082 ونحن نعرف أن كل نداء من الحق يبدأ بقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا} إنما يدل على أن ما يأتي من بعد هذا القول هو تكليف لمن آمن بالله، وليس تكليفاً للناس على إطلاقهم؛ لأن الله لا يكلف من كفر به، إنما يكلف الله من آمن به، ومن اجتاز ذلك وأصبح في اليقين الإيماني فهو أهل لمخاطبة الله له، فكأنه يجد في القول الرباني نداء يقول له: يا من آمن بي إلها حكيما قادرا مشرعاً لك، أنا أريد منك أن تفعل هذا الأمر. إذن الإيمان هو حيثية كل حكم، فأنت تفعل ذلك لماذا؟ لا تقل: لأن حكمته كذا وكذا. لا. ولكن قل: لأن الله الذي آمنت به أمرني بهذه الأفعال، سواء فهمت الحكمة منها أو لم تفهمها، بل ربما كان إقبالك على أمر أمرك الله به وأنت لا تفهم له حكمة أشد في الإيمان من تنفيذك لأمر تعرف حكمته. ولو أن إنساناً قال له الطبيب: إن الخمر التي تشربها تفسد كبدك وتعمل فيك كذا وكذا، وبعد ذلك امتنع عن الخمر، صحيح أن امتناعه عن الخمر صادف طاعة لله، لكن هل هو امتنع لأن الله قال؟ لا، لم يمتنع لأن الله قال، ولكنه امتنع لأن الطبيب قال، فإيمانه بالطبيب أكثر من إيمانه برب الطبيب. أما المؤمن فيقول: أنا لا أشرب الخمر؛ لأن الله قد حرمها، ولماذا انتظر حتى يقول لي الطبيب: إن كبدك سيضيع بسبب الخمر، فالرحمة هي ألا يجيء الداء. إن الحق يقول: {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} أي أنا لا أطلب منكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1082 أن تنفقوا علي، ولكن أنفقوا من رزقي عليكم؛ لأن الرزق يأتي من حركة الإنسان، وحركة الإنسان تحتاج طاقة تتحرك في شيء أو مادة، وهذه الحركة تأتي على ترتيب فكر، وهذا الفكر رتبه من خلقه، والجوارح التي تنفعل، واليد التي تتحرك، والرِّجل التي تمشي خلقها الله، والمادة التي تفعل بها مخلوقة لله. وسنأخذ الزارع نموذجا، نجد أن الأرض التي فيها العناصر مخلوقة لله، إذن فالإنسان يعمل بالعقل الذي خلقه الله، ويخطط بالجوارح التي خلقها الله لتأتي له بالطاقة التي يعمل بها في المادة التي خلقها الله لتعطي للإنسان خيرها. . فأي شيء للإنسان إذن؟ ومع ذلك إن حصل للإنسان خير من هذا كله فهو سبحانه لا يقول: «إنه لي» بل أمنحه لك أيها الإنسان، ولكن أعطني حقي فيه، وحقي لن آخذه لي ولكن هو لأخيك المسكين، والحق يقول: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] وإياك أن تقول: ما دخلي أنا بالمسكين؟ عليك أن تعلم أنّ المسكنة عَرَض، والعرض من الممكن أن يلحق بك أنت. فلا تُقدِّر أنك معطٍ دائما، ولكن قدر أنك ربما حدث لك ما يجعلك تأخذ لاَ أنْ تعطي. الحق يقول لك: أعط المسكين وأنت غني؛ لأنه سبحانه سيقول للناس: أن يعطوك وأنت فقير، فقدِّر حكم الله ساعة يُطلب منك، ليحميك ساعة أن يُطلب لك، وبذلك تتوازن المسألة. ومع أنه سبحانه هو الذي يرزق، فهو يريد منكم أيها العباد أن تتعاونوا وأن يحب بعضكم بعضا، حتى تُمحى الضغائن من قلوبكم؛ لأن الإنسان الضعيف ضعفا طبيعياً وليس ضعف التسول أو الكسل أو الاحتراف، بل ضعف عدم القدرة على العمل هو مسئولية المؤمنين، فسبحانه وتعالى يجعل القوي مسئولا أن يساعدك وأنت ضعيف. وأنت حين ترى وأنت ضعيف لا تقدر الأقوياء الذين قدروا لم ينسوك، وذكروك بما عندهم، عندئذ تعلم أنك في بيئة متساندة تحب لك الخير، فإن رأيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1083 نعمة تنالك إن عجزت فأنت لا تحسدها أبداً، ولا تحقد على معطيها، بل تتمنى من حلاوة وقعها في نفسك لأنها جاءتك عن حاجة تتمنى لو أن الله قدرك لتردها، فيكون المجتمع مجتمعاً متكافلاً متضامناً. فحين يقول الله تعالى: {أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} فأنتم لا تتبرعون لذات الله بل تنفقون مما رزقكم، ومن فضل الله عليكم أنه احترم أثر عملكم ونسبه لكم حتى وإن احتاج أخوك، فهو سبحانه يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] إن الحق سبحانه قد اعتبر النفقة في سبيل الله هي قرض من العبد للرب الخالق الوهاب لكل رزق. وحتى نفهم معنى النفقة أقول: قد قلنا من قبل: إن الكلمة مأخوذة من مادة «النون والفاء والقاف» ، ويقال: نفقت السوق أي انتهت بسرعة وتم تبادل البضائع فيها بالأثمان المقررة لها، ونحن نعرف أن التجارة تعني مقايضة بين سلع وأثمان. والسلعة هي ما يستفاد بها مباشرة. والثمن ما لا يستفاد به مباشرة. فعندما تكون جائعا أيغنيك أن يكون عندك جبل من ذهب؟ إن هذا الجبل من الذهب أنت لا تستفيد منه مباشرة، أما فائدتك من رغيف الخبز فهي استفادة مباشرة، وكذلك كوب الماء الممتلئ، تستفيد منه مباشرة، والملابس التي ترتديها أنت تستفيد منها مباشرة. إذن فالذي يستفاد منه مباشرة اسمه سلعة، والذي لا يستفاد منه مباشرة نسميه ثمناً. ولذلك يقول لنا الحق إنذاراً وتحذيراً من الاعتزاز بالمال: {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ والكافرون هُمُ الظالمون} [البقرة: 254] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1084 إن الحق سبحانه ينبهنا أن ننفق من رزقه لنا من قبل أن يأتي اليوم الآخر الذي لا بيع فيه؛ أي لا مجال فيه لاستبدال أثمان بسلع أو العكس، وأيضا لا يكون في هذا اليوم «خُلة» ، ومعنى «خلة هي الود الخالص، وهي العلاقة التي تقوم بين اثنين فيصير كل منهما موصلاً بالآخر بالمحبة؛ لأن كُلاًّ منكما منفصل عن الآخر وإن ربطت بينكم العاطفة وفي الآخرة سيكون كل إنسان مشغولا بأمر نفسه. إن اليوم الآخر ليس فيه بيع ولا شراء ولا فيه خلة ولا شفاعة، وهذه هي المنافذ التي يمكن للإنسان أن يستند عليها. فأنت لا تملك ثمنا تشتري به، ولا يملك غيرك سلعة في الآخرة، إذن فهذا الباب قد سد. وكذلك لا يوجد خلة أو شفاعة، والشفاعة هذه مأذون فيها. إن كانت ممن أذن له الله أن يشفع فهي في يد الله، ومعنى «شفيع» مأخوذة من الشفع والوتر. الوتر واحد والشفع اثنان، فكأن الشفيع يضم صوته لصوتي لنقضي هذه الحاجة عند فلان. فيتشفع الإنسان بإنسان له جاه عند المشفوع عنده حتى ينفذ له ما يطلب. ولكن هذه الوسائل في الآخرة غير موجودة. فلا بيع ولا خلة ولا شفاعة؛ فأنتم إذا أنفقتم اتقيتم ذلك اليوم، فانتهزوا الفرصة من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة. وهذه هي أبواب النجاة المظنونة عند البشر التي تُغلق في هذا اليوم العظيم. وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: أنا لم أفوت فرصة على خلقي؛ خلقي هم الذين ظلموا أنفسهم ووقفوا أنفسهم هذا الموقف، فأنا لم أظلمهم. لذلك يذيل الحق الآية بقوله: {والكافرون هُمُ الظالمون} . وبعد أن تكلم الله سبحانه وتعالى عن الرسل، وعن الاختلاف، وعن القتال لتثبيت منهج الحق، وعن الإنفاق، يوضح لنا التصور الإيماني الصحيح الذي في ضوئه جاءت كل هذه المسائل. فقد جاء موكب الرسالات كلها من أجل هذا المنهج فقال سبحانه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1085 {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1086 ونقف بالتأمل الآن عند قوله الحق: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} . إن كلمة {الله} هي عَلَمٌ على واجب الوجود. وعندما نقول: «الله» فإن الذهن ينصرف إلى الذات الواجبة الوجود. ما معنى «واجبة الوجود» ؟ إن الوجود قسمان: قسم واجب، وقسم ممكن. والقسم الواجب هو الضروري الذي يجب أن يكون موجودا، والحق سبحانه وتعالى حين أعلمنا باسمه {الله} أعطانا فكرة على أن كلمة {الله} هذه يتحدى بها سبحانه أن يُسمى بها سواه. ولو كنا جميعاً مؤمنين لكان احترامنا لهذا التحدي نابعا من الإيمان. ولكنْ هنا كافرون بالله ومتمردون وملحدون يقولون: «الله خرافة» ، ومع ذلك هل يجرؤ واحد من هؤلاء أن يسمي نفسه {الله} ؟ لم يفعل أحد هذا؛ لأن الله تحدى بذلك، فلم يجرؤ واحد أن يدخل في هذه التجربة. وعدم جرأة الكفار والملاحدة في أن يدخلوا في هذه التجربة دليل على أن كفرهم غير وطيد في نفوسهم، فلو كان كفرهم صحيحاً لقالوا: سنسمي ونرى ما يحدث، ولكن هذا لم يحدث. إذن {الله} علم واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال. وبعد ذلك جاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1086 بالقضية الأساسية وهي قوله تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وهنا نجد النفي ونجد الإثبات، النفي في {لاَ إله} ، والإثبات في {إِلاَّ هُوَ} . والنفي تخلية والإثبات تحلية. خلى سبحانه نفسه من وجود الشريك له ثم أثبت لنا وحدانيته. و «لا إله إلا الله» أي لا معبود بحق إلا الله. ونعرف أن بعضنا من البشر في فترات الغفلة قد عبدوا أصناماً وعبدوا الكواكب. ولكن هل كانت آلهة بحق أم بباطل؟ لقد كانت آلهة بباطل. ودليل صدق هذه القضية التي هي «لا إله إلا الله» ، أي لا معبود إلا الله أن أحدا من تلك الآلهة لم يعترض على صدق هذه القضية. إذن فهذا الكلام هو حق وصدق. وإن ادعى أحد غير ذلك، نقول له: إن الله قد أخبرنا أنه لا معبود بحق غيره؛ لأنه هو الذي خلق وهو الذي رزق، وقال: أنا الذي خلقت. إن كان هذا الكلام صحيحاً فهو صادق فيه، فلا نعبد إلا هو. وإن كان هذا الكلام غير صحيح، وأن أحداً غيره هو الذي خلق هذا الكون فأين هذا الأحد الذي خلق، ثم ترك من لم يخلق ليأخذ الكون منه ويقول: «أنا الذي خلق الكون» ؟ إنه أمر من اثنين، الأمر الأول: هو أنه ليس هناك إله غيره. فالقضية إذن منتهية. والأمر الآخر: هو أنه لو كان هناك آلهة أخرى، وبعد ذلك جاء واحد وقال: «أنا الإله وليس هناك إله إلا أنا» . فأين هذه الآلهة الأخرى؟ ألم تعلم بهذه الحكاية؟ إن كانوا لم يعلموا بها، فهم لا يصلحون أن يكونوا آلهة، وإن كانوا قد علموا فلماذا لم يقولوا: لا. نحن الآلهة، وهذا الكلام كذب؟ وكما بعث الله رسلا بمعجزات كان عليهم أن يبعثوا رسولا بمعجزات. فصاحب الدعوة إذا ادّعاها ولم يوجد معارض له، تثبت الدعوى إلى أن يوجد مُنازِع. إذن كلمة «لا إله إلا الله» معها دليل الصدق؛ لأنه إما أن يكون هذا الكلام حقا وصدقا فتنتهي المسألة، وإن لم يكن حقا فأين الإله الذي خلق والذي يجب أن يُعبد بعد أن سمع من جاء ليأخذ منه هذه القضية؟ وبعد ذلك لا نسمع له حساً ولا حركة، ولا يتكلم، ولا نعلم عنه شيئا، فما هو شأنه؟ إما أنه لم يعلم فلا يصلح أن يكون إلها؛ لأنه لو كان قد علم ولم يرد فليست له قوة. ولذلك ربنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1087 سبحانه يأتي بهذه القضية من ناحية أخرى فيقول: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 42 - 43] فلو كان عند تلك الآلهة المزعومة مظاهر قوة لذهبوا إلى الله سبحانه وتعالى وأنكروا ألوهيته، ولو كان هناك إله غير الله لحدثت معركة بين الآلهة، ولكن هذا لم يحدث. فالكلمة «لا إله إلا الله» صدق في ذاتها حتى عند من ينكرها، والدليل فيها هو عدم وجود المنازع لهذه الدعوى؛ لأنه إن لم يوجد منازع فقد ثبت أنه سبحانه لا إله إلا الله. وإن وجد المنازع نقول: أين هو؟ وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى هب أننا في اجتماع، وبعد ذلك وجدنا حافظة نقود، فعرضناها على الموجودين، فلم نجد لها صاحباً، ثم جاء واحد كان معنا وخرج، وقال: يا قوم بينما كنت أجلس معكم ضاعت حافظة نقودي. ولما لم يدعها واحد منا لنفسه فهي إذن حافظته هو. إذن «لا إله إلا الله» هي قضية تمتلئ بالصدق والحق، والله هو المعبود الذي يُتَوَجّه إليه بالعبادة، والعبادة هي الطاعة. فمعنى عابد أي طائع، وكل طاعة تقتضي أمراً وتقتضي نهياً، ومادامت العبادة تقتضي أمراً وتقتضي نهياً، فلا بد أن يكون المأمور والمنهي صالحاً أن يفعل وصالحاً ألاّ يفعل. فعندما نقول له: افعل كذا كمنهج إيمان، فهو صالح لئلا يفعل. وعندما نقول له: لا تفعل فهو صالح لأن يفعل، وإلا لو لم يكن صالحا ألا يفعل أيقول له «افعل» ؟ لا، لا يقول له ذلك. ولو كان صالحا ألا يفعل أيقول له «لا تفعل» ؟ إن ذلك غير ممكن. إذن لابد أن يكون صالحاً لهذه وتلك وإلا لكان الأمر والنهي عبثاً ولا طائل من ورائهما. لذلك عندما أرادوا أن يقصروا الإسلام في العبادات الطقسية التي هي شهادة لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والصلاة، والصوم، والزكاة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1088 والحج، قالوا: هل هذا هو كل الإسلام، وقالوا: إنه دين يعتمد على المظاهر فقط، قلنا لهم: لا، إن الإسلام هو كل حركة في الحياة تناسب خلافة الإنسان في الأرض؛ لأن الله يقول في كتابه الكريم: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] {واستعمركم فِيهَا} أي طلب منكم أن تعمروها، فكل حركة في الحياة تؤدي إلى عمار الأرض فهي من العبادة، فلا تأخذ العبادة على أنها صوم وصلاة فقط؛ لأن الصوم والصلاة وغيرهما هي الأركان التي ستقوم عليها حركة الحياة التي سَيُبني عليها الإسلام، فلو جعلت الإسلام هو هذه الأركان فقط لجعلت الإسلام أساسا بدون مبنى، فهذه هي الأركان التي يُبني عليها الإسلام، فإذن الإسلام هو كل ما يناسب خلافة الإنسان في الأرض يبيّن ذلك ويؤكده قول الله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] ويخرج إلينا أناس يقولون: نحن ليس لنا إلا أن نعبد ولا نعمل. ونقول لأي منهم: كم تأخذ الصلاة منك في اليوم؟ ساعة مثلا. والزكاة كم تأخذ منك في العالم يوماً واحداً في العام؟ والصوم كم يأخذ منك من وقت؟ نهار أيام شهر واحد. وفريضة الحج أتأخذ منك أكثر من رحلة واحدة في عمرك؟ فبالله عليك ماذا تفعل في الباقي من عمرك من بعد ذلك وهو كثير؟ إنك لا تأخذ أكثر من ساعة في اليوم للصلاة، ولا تأخذ أكثر من يوم في السنة لإخراج الزكاة، وتقضي شهراً في السنة تصوم نهاره. وتحج مرة واحدة في عمرك، فماذا تفعل في بقية الزمان، ستأكل وتلبس، ستطلب رغيف الخبز للطعام فمن الذي سيصنعه لك؟ إن هذا الرغيف يمر بمراحل حتى يصير لقمة تأكلها. ويحتاج إلى أكثر من علم وأكثر من حركة وأكثر من طاقة. إن المحل الذي يبيعه فقط ولا يخبزه يحتاج إلى واجهة من زجاج أو غيره، ولابد أن يعمل فيه من يذهب بعربته إلى المخبز ليحمل الخبز، وينقله إلى المحل ويبيعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1089 وإذا نظرت إلى الفرن فسوف تجد مراحل عدة من تسليم وتسلم للدقيق، ثم إلى العجين، وإلى النار التي توقد بالمازوت، ويقوم بذلك عمال يحتاجون لمن يخطط لهم، وقبل ذلك كان الدقيق مجرد حبوب، وتم طحنها لتصير دقيقاً، وهناك مهندسون يديرون الماكينات التي تطحن، ويعملون على صيانتها، وبعد ذلك الأرض التي نبت فيها القمح وكيف تم حرثها، وتهيئتها للزراعة، وريها، وتسميدها، وزرعها، وحصدها، وكيف دُرِسَ القشر والسنابل، وكيف تتم تذريته من بعد ذلك، لفصل الحبوب عن التبن، وتعبئة الحبوب، إلى غير ذلك؟ انظر كم من الجهد أخذ رغيف الخبز الذي تأكله، وكم من الطاقات وكم رجال للعمل، فكيف تستسيغ لنفسك أن يصنعوه لك، وأنت فقط جالس لتصلي وتصوم؟ لا، إياك أن تأخذ عمل غيرك دون جهد منك. مثال آخر، أنت تلبس جلبابا، كم أخذ هذا الجلباب من غزل ونسج وخيط؟ إذن فلا تقعد، وتنتفع بحركة المتحرك في الحياة، وتقول: أنا مخلوق للعبادة فقط، فليست هذه هي العبادة، ولكن العبادة هي أن تطيع الله في كل ما أمر، وأن تنتهي عن كل ما نهى في إطار قوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} إن كل عمل يعتبر عبادة، وإلا ستكون «تنبلاً» في الوجود. والإيمان الحق يقتضي منك أن تنتفع بعملك ولا تعتمد على عمل غيرك. إن الحق سبحانه وتعالى قد استخلفنا في الأرض من أجل أن نعمرها. ومن حسن العبادة أن نتقن كل عمل وبذلك لا نقيم أركان الإسلام فقط، ولكن نقيم الأركان والبنيان معا. ونكون قد أدينا مسئولية الإيمان، وطابق كل فعل من أفعالنا قولنا: «لا إله إلا الله» . ولقد عرفنا أن كلمة {الله} هي علَم على واجب الوجود، وهي الاسم الذي اختاره الله لنفسه وأعلمنا به، ولله أسماء كثيرة كما روى في الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين سأل الله بكم اسم هو له أنزله في كتابه أو علمه أحداً من خلقه أي خصّه به أو استأثر به في علم الغيب عنده، فلا تظنن أن أسماء الله هي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1090 كلها هذه الأسماء التي نعرفها، ولكن هذه الأسماء هي التي أذن الله سبحانه وتعالى بأن نعلمها. ومن الجائز، أو من لفظ الحديث نعلم أن الله قد يُعلّم بعضا من خلقه أسماء له، ويستأثر لنفسه بأسماء سنعرفها يوم القيامة حين نلقاه، وحين نتكلم عن الأسماء الأخرى نجد أنها ملحوظ فيها الصفة، ولكنها صارت أسماء لأنها الصفة الغالبة، فإذا قيل: «قادر» نجد أننا نستخدم هذه الكلمة لوصف واحد من البشر، ولكن «القادر إذا أطلق انصرف إلى القادر الأعلى وهو الله. وكذلك» السميع «، و» البصير «. و» العليم «. إننا نجد أن بعضاً من أسماء الله سبحانه وتعالى له مقابل، ومن أسماء الله الحسنى ما لا تجد له مقابلاً. فإذا قيل» المحيي «تجد» المميت «و» المعز «تجد» المذل «، لأنها صفة يظهر أثرها في الغير، فهو مميت لغيره، ومعزّ لغيره، ومذل لغيره، لكن الصفة إن لم يوجد لها مقابل نسميها صفة ذات، فهو» حي «ولا نأتي بالمقابل إنما» مُحيي «نأتي بالمقابل وهو» المميت «، فهذه اسمها صفة فعل. فصفات الفعل يتصف بها وبمقابلها لأنها في الغير. لكن صفة الذات لا يتصف إلا بها. وحينما قال الحق: {الله} فهو سبحانه يريد أن يعطينا بعض تجليات الله في أسمائه، فقال: «الله لا إله إلا هو» ليحقق لنا صفة التوحيد، ويجب أن نعلم أن «إلا» هنا ليست أداة استثناء، لأنها لو كانت أداة استثناء فكأنك تنفي أن توجد آلهة ويكون الله من ضمن هذه الآلهة التي نفيتها وذلك غير صحيح. وإنما المراد أنه لا آلهة أبداً غير الله فهو واحد لا شريك له، وأنه لا معبود بحق إلا هو فكلمة «إلاّ» ليست للاستثناء وإنما هي بمعنى غير، أي لا إله غير الله. وقد عرفنا أن هذه القضية معها دليلها، وإلا فلو كان هناك إله آخر لقال لنا: إنه موجود. لكن لا إله إلا هو سبحانه أبلغنا {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} . وأعجبني ما قاله الدكتور عبد الوهاب عزام رحمة الله عليه وكان متأثرا بالشاعر الباكستاني «إقبال» ، كان للشاعر إقبال شيء اسمه «المثاني» ، أي أن يقول بيتين من الشعر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1091 في معنى، وبيتين من الشعر في معنى، وكان يغلب على شعر إقبال الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي، وقد تأثر الدكتور عبد الوهاب عزام بشعر إقبال فجعل له مثاني أيضا يناظر فيها «إقبال» ، فيقول: إنما التوحيد إيجاب وسلب ... وفيهما للنفس عزم ومضاء وقوله: «إنما التوحيد إيجاب وسلب» هو قول متأثر بالقضية الكهربية. فيقول: إنما التوحيد إيجاب وسلب فيهما للنفس عزم ومضاء. فأنت عندما تقول «لا إله» ، ف «لا» للنفي، وعندما تكمل قولك: «إلا الله» ف «إلا» للإثبات، ويكمل الدكتور عزام قوله: لا وإلا قوة قاهرة. فهما في القلب قطبا الكهرباء كأن الكهرباء تأتي بأنك تسلب وتوجب. فالإيجاب في «إلا» والسلب في «لا» . ومادام فيه إيجاب وسلب، إذن ففيه شرارة كهرباء. {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} ، و {الحي} هو أول صفة يجب أن تكون لذلك الإله، لأن القدرة بعد الحياة، والعلم بعد الحياة. فكل صفة لابد أن تأتي بعدها الذكر وإلا فليست صفة من صفات الله أسبق من صفة ولا متقدمة عليها فكلها قديمة لا أول لها، فلو كان عدماً فكيف تأتي الصفات على العدم؟ ، وكلمة «حيّ» عندما نسمعها نقول: ما هو الحي؟ . إن الفلاسفة قد احتاروا في تفسيرها. فمنهم من قال: الحيّ هو الذي يكون على صفة تجعله مُدْرِكاً إن وُجِدَ ما يُدْرَكْ. كأن الفيلسوف الذي قال ذلك: يعني بالحياة حياتنا نحن، وما دوننا كأنه ليس فيه إدراك. ونقول لصاحب هذا الرأي: لا، إن أردت الحياة بالمعنى الواسع الدقيق فلابد أن تقول: الحياة هي أن يكون الشيء على الصفة التي تبقى صلاحيته لمهمته هذا هو ما يجب أن يكون عليه التعريف، ف {الحي} : هو الذي يكون على صفة تُبقى له صلاحيته لمهمته، مثال ذلك النبات، مادمت تجده ينمو، إذن ففيه حياة تبقى له صلاحية مهمته. فلو قطع لانتهت الصلاحية. ومثال الإنسان عندما يموت تنتهي صلاحيته لمهمته، والعناصر الجامدة عندما تأتي مع بعضها تتفاعل، هذا التفاعل فرع وجود الحياة، لكنها حياة مناسبة لها وليست مثل حياتنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1092 أنت مثلاً ترى «الزلط» الناعم الأملس، تجده على مقدار واحد؟ لا، إن أشكاله مختلفة، وهذا دليل على أن هناك مراحل للحجر الواحد منها، ولو استمرت تلك الأحجار في بيئتها الطبيعية فلا شك أن هذه الكبيرة تتفتت يوماً وتصير صغيرة ثم تكبر مرة أخرى، لكن الإنسان حين يستخدم هذه الأحجار تكون قد خرجت من بيئتها. ومن حكمة الله أنه لا يوجد شيء تنتهي جدواه أبداً، بل هو سبحانه يهيئ لكل شيء مهمة أخرى. إذن فكل كائن يكون على صفة تُبقى له صلاحيته لمهمة، وتكون له حياة مناسبة لتلك المهمة. نحن لا نأتي بهذا الكلام من عندنا، ولكننا نأتي بهذا الكلام لأننا نقرأ القرآن بإمعان وتدبر، ونقول: ماذا يقابل الحياة في القرآن؟ إنه الهلاك بدليل أن الله قال: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] إذن فالحياة مقابلة للهلاك. و {الحي} غير هالك. والهالك لا يكون حياً، ويقول تعالى في الآخرة: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] ومعنى ذلك أن كل الأجناس من أعلاها إلى أدناها، سواء الإنسان، أو الملائكة، أو الحيوان أو النبات، كلها ستكون هالكة، ومادام كل شيء سيهلك يوم القيامة فكأنه لم يكن هالكاً قبل ذلك، وله حياة مناسبة له. أليست الحجارة شيئاً، وستدخل في الهلاك يوم القيامة؟ . إذن فهي قبل ذلك غير هالكة. لكننا نحن البشر لا نفطن إلى ذلك ونفهم الحياة فقط على أنها الحس والحركة الظاهرة. مع أن العلماء قد أثبتوا أنه حتى الذرة فيها دوران، ولها حياة. وأنت عندما تنظر بالمجهر على ورقة من النبات، وترى ما بها من خضر وخلايا، وتشاهد العمليات التي تحدث بها، وتقول: هذه حياة أرقى من حياتنا، وأدق منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1093 إذن فكل شيء له حياة، إياك أن تظن أنك أنت الذي تهلكها، فعندما تأتي بحجر وتدقه أو تضعه في الفرن لتصنع الجير؛ إياك أن تقول: إنك أذهبت من الأحجار الحياة المناسبة لها، أنت فقط قد حولت مهمتها من حجر صلب، وصارت لها مهمة أخرى، فالمسائل تتسلسل إلى أن يصير لكل شيء في الوجود حياة تناسب المهمة التي يصلح لها. وانظر إلى مهمة الحق، ما شكلها؟ إنها الحياة العليا، وهو الحي الأعلى وحي لا تُسلب منه الحياة، لأن أحدا لم يعطه الحياة، بل حياته سبحانه ذاتية، فهذا هو الحي على إطلاقه. إذن فالحي على إطلاقه هو الله والحق سبحانه وتعالى قال: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي} وأثر صفة هذه موجود في كل الصفات الأخرى فقال: {القيوم} . والقيوم هو صفة مبالغة في قائم. ومثلها قولنا: «الله غفور» لكن ألا يوجد غافر؟ يوجد غافر، لكن «غفور» هي صفة مبالغة. وقد يقول قائل: هل صفات الله فيها صفة قوية وأخرى ضعيفة؟ . نقول: لا، فصفات الله لا يصح أن توصف بالضعف أو بالقوة، صفات الله نظام واحد. وحتى نفهم ذلك فنضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نحن نقول: كلنا نأكل كي نستبقي حياتنا، فكل واحد منا «آكل» ، لكن عندما نقول: فلان أكول، فمعنى ذلك أنه أخذ صفة الأكل التي كلنا شركة فيها وزاد فيها فنقول عليه: «أكّال» أو «أكول» . من أي ناحية تأتي هذه الزيادة؟ قد تأتي الزيادة من أنك تأكل في العادة رغيفاً وهو يأكل رغيفين أو ثلاثة، إذن فالحدث له في الأكل أثر كبير، فنقول عليه: أكول. وقد يأكل معك رغيفا في الوجبة الواحدة، لكنه يأكل خمس وجبات بدلا من ثلاث وجبات؛ فيكون أيضا أكولا، إذن ف «أكول» إما مبالغة في الحدث نفسه وإما بتكرار الحدث. ونحن ننظر إلى صفات الله ونقول: إنها لا تحتمل القوة والضعف في ذات الحدث، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1094 إنما في تكررها بالنسبة للمخلوقين جميعاً، فالله غافر لهذا، وغافر لذاك، وغافر لكل عاص يتوب، إذن فالحدث يتكرر، فيكون «غفوراً» وغفاراً «. وهذا ما يحل لنا الإشكال في كثير من الأمور، فعندما يقول سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] فنحن هنا نجد قضية لغوية تقول: إنك إذا جئت بصيغة المبالغة، وأثبتها، تكون الصيغة الأخرى الأقل منها ثابتة بالضرورة، مثال ذلك عندما نقول: فلان» علاّم «أو» عالم «، فما دمت أثبت له الصفة القوية؛ تكون الصفة الضعيفة موجودة، لكن إذا نفيت الصفة المبالغ فيها قد تكون الصفة الأخرى موجودة، فهو ليس» علامة «لكنه قد يكون» علاماً «أو عالما» ، فإذا قلت: فلان «علامة» فقد أثبت له الأدنى أيضاً، فيكون «علاَّما» أو «عالما» . لكن إذا نفيت عنه «علامة» انتفى عنه الباقي؟ لا، إذن فنفي الأكثر لا ينفي الأقل. لكن إذا أُثبت الأكثر ثبت الأقل، وإذا نفيت الأكثر فلن ينتفي الأقل، فإذا قلت: الله ليس بظلام للعبيد، نفيت الأكثر. صحيح أنه غير مبالغ في الظلم، فهل يمكن أن يكون ظالماً؟ على حسب ما قلنا: إذا نفينا الأكثر لا ينتفي الأقل نقول: لا، لأننا هنا يجب أن نأخذ القضية الأولى في أن المبالغة في الحدث والمبالغة في الفعل تأتي مرة في ذات الحدث، ومرة في تكرار الحدث؛ فيكون معاذ الله ظلاَّماً، ولذلك لم يقل: بظلاّم للعبد، بل قال: بظلاّم للعبيد. إذن فهذا العبد يحتاج ظالماً، والعبد الآخر يحتاج ظالماً، وذاك يحتاج ظالماً! فعندما يظلم كل هؤلاء يكون ظلاماً، ولذلك نفاها سبحانه وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} . والحق هنا يقول: «قيوم» وهذه صفة مبالغة من قائم، فالأصل فيها: القائم على أمر بيته، والقائم على أمر رعيته، والقائم على أمر المدرسة، والقائم على أمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1095 هذه الإدارة، ومعنى قائم على أمرها: أنه متولي شئونها، فكأن القيام هو مظهر الإشراف. فنحن لا نقول: «قاعد على إدارتها» . وعندما نقول «قيوم» فمعناها أنه أوسع في القيام. كيف جاء هذا الاتساع؟ . لأن القائم قد يكون قائماً بغيره، لكن حين يكون قائما بذاته، وغيره يستمد قيامه منه، فهو قائم على كل نفس وهو سبحانه القائل: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33] إن المشركين قد بلغو السفه في جحودهم فجعلوا لله شركاء في العبادة، فهل يستطيع أحد أن يبلغ تلك المرتبة العالية، مرتبة خلق العالم والقيام على كل أمر فيه، صغر أو كبر؟ . إنه الحافظ المراقب لكل نفس، العالم بكل ما خفي وظهر، وهذه الأوثان لا تضر ولا تنفع، فكيف تتوهمون يا من أشركتم بالله له نداً، إن الحق مُنزه عن ذلك بقيامه على كل نفس وكل الخلق. لكن أهل الضلال أغواهم ضلالهم فلم يعد لهم هاد بعد الله. إن الحق سبحانه قائم بذاته، وقائم على غيره. والغير إن كان قائماً إنما يستمد منه القيام. فلابد أن يكون «قيوماً» ، ومن قيومته أنه {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} ، وقيل في كتب العلم: إن قوم بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: أينام ربنا؟ . فأوحى الله إليه: أن آت بزجاجتين وضعهما في يد إنسان، ودعه إلى أن ينام، ثم انظر الجواب. فلما وضع في يده الزجاجتين ونام. انكسرت الزجاجتان فقال: هو كذلك، هو قائم على أمر السماء والأرض، ولو كانت تأخذه سنة أو نوم لتحطمت الدنيا. وهو سبحانه {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} . و «السنة» هي أول ما يأتي من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1096 النعاس؛ أي النوم الخفيف، فالواحد منا يكون جالساً ثم يغفو، لكن النوم هو «السُباتْ العميق» ، فلما قال: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} قالوا: إنه يتغلب على النوم الخفيف لكن؛ هل يقدر على مقاومة النوم العميق؟ . فقال الحق عن نفسه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} . وعرفنا أن السنة هي: النعاس الذي يأتي في أول النوم، ومظهرها يبدو أولاً في العين وفي الجفن، فعندما يذهب إنسان في النوم؛ فإن أثر ذلك يظهر في عينيه، ولذلك يقولون: إن العين هي الجارحة التي يمكن أن تعرف بها أحوال الإنسان، وقد اكتشفوا في عصرنا الحديث أن الشرايين لا يمكن أن يعرفوا حالتها بالضبط إلا من العين. فالفتور الذي يأتي في العين أولاً هو السنة أو مقدمات النوم ونسميه: النعاس. {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} أتريدون تطميناً من إله لمألوه، ومن معبود لعابد، ومن خالق لمخلوق أكثر من أنه يقول للعابد المخلوق: «نم أنت ملء جفونك، واسترح؛ لأن ربك لا ينام» . ماذا تريد أكثر من هذا؟ هو سبحانه يعلم أنه خلقك، وأنك تحتاج إلى النوم، وأثناء نومك فهناك أجهزة في جسمك تعمل. أإذا نمت وقف قلبك؟ أإذا نمت انقطع نفسك؟ أإذا نمت وقفت معدتك من حركتها الدودية التي تهضم؟ أإذا نمت توقفت أمعاؤك عن امتصاص المادة الغذائية؟ لا، بل كل شيء في دولابك يقوم بعمله. فمن الذي يُشرف على هذه العمليات لو كان ربك نائما؟ إذن فأنت تنام وهو لا ينام. وبالله هل هذه عبودية تُذلنا أو تُعزنا؟ إنها عبودية تُعزنا؛ فالذي نعبده يقول: ناموا أنتم؛ لأنني لا تأخذني سنة ولا نوم. وإياك أن تفهم أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن شيئا في كونه يخرج على مراده، لا؛ لأن كل ما في السماوات والأرض له، فلا شيء ولا أحد يخرج عن قدرته. ولذلك يقول الحق: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} . ويتابع سبحانه بقوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} إنّه سبحانه وتعالى يوضح: أنا أعطيتك الراحة في الدنيا، وحتى الكافر جعلته يتنعم بنعمي، ولم أجعل الأسباب تضن عليه، وأعطيته مادام قد اجتهد في تلك الأسباب مما يدل على أنني ليس عندي محاباة، قلت للأسباب: يا أسباب من يُحسنك يأخذك ولو كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1097 كافراً بي. لكنه سيأتي يوم القيامة وليس للكافر إلا العذاب، لأنه ما دام قد عمل في الدنيا وأحسن عملاً فقد أخذ جزاءه، فإياكم أن تظنوا كما قالوا: «هؤلاء شفعاؤنا عند الله» ، وجاء فيهم قول الحق: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] إن هؤلاء الذين افتروا على الله بالشرك به، واتخذوا أصناما باطلة لا تضرهم ولا تنفعهم. يقولون عن هذه الأصنام: إنها تشفع لهم عند الله في الآخرة، ويأمر الحق سبحانه رسوله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يبلغ المشركين: قل لهم يا محمد: هل تخبرون الله بشريك لا يعلم الله له وجودا في السموات ولا في الأرض، وهو الخالق لكل ما في السموات والأرض ومُنزه سبحانه عن أن يكون له شريك في الُملك. لقد أرادوا أن يخلوا بقضية التوحيد ويجعلوا لله شركاء ويقولون: إن هؤلاء الشركاء هم الذين سيشفعون لنا عند الله. فيقول الحق سبحانه: إن الشفاعة لا يمكن أن تكون عندي إلا لمن أذنت له أن يشفع. إن الشفاعة ليست حقا لأحد. ولكنها عطاء من الله، لذلك يقول: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} . ويقول الحق: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} . ساعة يتعرض العلماء إلى: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} يشرحون لنا أن ما بين اليدين أي ما أمامك، وما خلفك أي ما وراءك، وما بين يدي الإنسان يكون: مواجها لآلة الإدراك الرائدة وهي العين، فهو أمر يُشهد. والذي في الخلف يكون غيباً لا يراه، كأن ما بين اليد يراد به المشهود والذي في الخلف يراد به الغيب، فهو {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم مشهدهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1098 وغيبهم، ويطلق «ما بين اليد» إطلاقا آخر. إننا قد نسأل عمّا بين يديك. هل هو مواجه لك أو غير مواجه؟ فلو كان أمامك بشر، فهل هم قادمون إليك أو راحلون عنك؟ إنهم إن كانوا راحلين عنك فقد سبقوك وقد جئت أنت من بعدهم، ومن وراءك سيأتي من بعدك. أي أن الحق سبحانه يخبرنا أنه يعلم الماضي والمستقبل. فمرة يعلم الحق ما بين أيديهم، أي العالم المشهود ويسمونه «عالم الملك» ، وما خلفهم أي الغيب، ويسمونه «عالم الملكوت» . إنه يعلم المشهود لهم والخفي عنهم. وكما يقول الحق: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] إن عند الله علم جميع الغيب ويحيط علمه بكل شيء، ولا تخفى عليه خافية. إنها إحاطة من كل ناحية. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} . إنه الحق يعلم مطلق العلم. وكون الحق يعلم فإن ذلك لا ينفي أن يكون غيره يعلم أيضا، لكن علم البشر هو بعض علم موهوب من الخالق لعباده. فعندما يقول واحد: أنا أقول الشعر. فهل منع ذلك القول أحداً آخر من أن يقول الشعر؟ لا. إنه لم يقل: ما يقول الشعر إلا أنا. ويقول سبحانه: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} ، و «العلم» هو الصفة التي تعلم الأشياء على وفق ما هي عليه، هذا هو العلم. وصفة الله وعلمه أعظم من أن يحاط بهم، لأنها لو أحيطت لحددت، وكمالات الله لا تحدد، مثلما ترى شيئا يعجبك فتقول: هذه قدرة الله، هل هي قدرة الله أو مقدور الله؟ إنها مقدور الله أي أثر القدرة، فعندما يقول: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} أي من معلومه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1099 «ويحيطون» هي دقة في الأداء، لأنك قد تدرك معلوما من جهة وتجهله من جهات، فأوضح سبحانه: أنك لا تقدر أن تحيط بعلم الله أو قدرته؛ لأن معنى الإحاطة أنك تعرف كل شيء، مثل المحيط على الدائرة، لكن ذلك لا يمنع أن نعلم جزئية ما، ونحن نعلم بما آتانا الله من قوانين الاستنباط، فهناك مقدمات نستنبط منها نتائج، مثل الطالب الذي يحل مسألة جبر، أو تمرين هندسة، أيعلم هذه الطالب غيبا؟ لا، ولكنه يأخذ مقدمات موضوعة له ويصل إلى نتائج معروفة سلفا لأستاذه. وأنت لا تحيط بعلم إلا بما شاء لك الله أن تحيط، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} . وقول الله: {إِلاَّ بِمَا شَآءَ} هو إذن منه سبحانه بأنه سيتفضل على خلقه بأن يشاء لهم أن يعلموا شيئا من معلومه، وكان هذا المعلوم خفيا عنهم ومستورا في أسرار الكون، ثم يأذن الله للسر أن ينكشف، وكل شيء اكتشفه العقل البشري، كان مطمورا في علم الغيب وكان سراً من أسرار الله، وبعد ذلك أذن الله للسر أن ينكشف فعرفناه، بمشيئته سبحانه. فكل سر في الكون له ميلاد كالإنسان تماما، أي أن له ميعاداً يظهر فيه، وهذا الميعاد يسمى مولد السر. لقد كان هذا السر موجودا وكان العالم يستفيد منه وإن لم يعلمه. لقد كنا نحن نستفيد على سبيل المثال من قانون الجاذبية ولم نكن نعلم قانون الجاذبية، وكذلك النسبية كنا نستفيد منها ولم نكن نعلمها، وهذا ما يبينه لنا الحق في موضع آخر من القرآن الكريم، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] ما دام قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ} ، فهذا يعني أنه سبحانه سيولد لنا أسراراً جديدة، وهذا الميلاد إيجاداً وإنما هو إظهار، ولذلك يقول الناس عن الأسرار العلمية: إنها اكتشافات جديدة، لقد تأدبوا في القول مع أن كثيراً منهم غير متدينين، قالوا: اكتشفنا كذا، كأن ما اكتشفوه كان موجودا وهم لا يقصدون هذا الأدب. إنما هي جاءت كذلك، أما المؤمنون فيقولون: لقد أذن الله لذلك السر أن يولد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1100 وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} فيه تحد واضح. فحتى إذا اجتمع البشر مع بعضهم فلن يحيطوا بشيء إلا بإذنه. وهذا تحد للكل حين يشاء سبحانه أن يجد إظهار سر في الوجود، فهذا السر يولد، وقد يكون إظهار السر موافقا لبحث الناس مثل العالم الذي يجلس في معمله ليجرب في العناصر والتفاعلات، ويهتدي لهذه وهذه، إنه يتعب كثيرا كي يعرف بعضا من الأسرار، ونحن لا ندري بتعبه وجهده إلا يوم أن يكشف سره. لقد أخذ المقدمات التي وضعها الله في الكون حتى إذا تتبعناها نصل إلى سره، مثلما نريد أن نصل إلى الولد فنتزوج حتى يأتي، وقد يأذن الله مراراً كثيرة أن يولد السر بدون أن يشتغل الخلق بمقدماته، لكن ميعاد ميلاد السر قد جاء ولم ينشغل العلماء بمقدماته؛ فيخرجه الله لأي مخترع كنتيجة لخطأ في تجربة ما. وعندما نبحث في تاريخ معظم الاكتشافات نجدها كذلك، لقد جاءت مصادفة، فهناك عالم يبحث في مجال ما، فتخرج له حقيقة أخرى كانت مخفية عنا جميعاً. لقد جاء ميعاد ميلادها على غير بحث من الخلق، فجاء الله بها في طريق آخر لغيرها، وفي بعض الأحيان يوفق الله عالما يبحث المقدمات ويكشف له السر الذي يبحث عنه. إذن، ف {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} تعني أن الإنسان قد يصادف السر بالبحث، ومرة يأتي سر آخر في مجال البحث عن غيره، فالله لا يضن بكشف السر حتى لو لم يشتغلوا به ونسميها نحن مصادفة إن كل شيء يجري في الكون إنما يجري بمقدار، وهذا هو الذي يفرق لنا بين معرفة غيب كان موجوداً وله مقدمات في كون الله نستطيع أن نصل إليه بها، وشيء مستور عند الله ليست له مقدمات؛ إن شاء سبحانه أعطاه من عنده تفضلا؛ من باب فضل الجود لا بذل المجهود وهو سبحانه يفيضه في «المصادفة» هنا ويفيضه فيما لا مقدمات له على بعض أصفيائه من خلقه، ليعلم الناس جميعاً أن لله فيوضات على بعض عبيده الذين وَالاَهُمُ الله بمحبته وإشراقاته وتجليه. لكن هل هذا يعني أن باستطاعتنا أن نعرف كل الغيب؟ لا، فالغيب قسمان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1101 غيب جعل الله له في كونه مقدمات، إن استعملناها نصل إليه، ككثير من الاكتشافات، وإذا شاء الله أن يولد سر ما ولم نبحث عنه فهو يعطيه لنا «مصادفة» من باب فيض الجود لا بذل المجهود. ونوع آخر من الغيب ليست له مقدمات، وهذا ما استأثر الله بعلمه إلا أنه قد يفيض به على بعض خلقه كما يقول سبحانه: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 26 - 27] إن الله هو عالم الغيب فلا يُطلع أحدا من خلقه على غيبه إلا من ارتضاه واصطفاه من البشر، لذلك فلا أحد يستطيع أن يتعلم هذا اللون من الغيب. ولذلك فلا يوجد من يفتح دكانا لعلم الغيب يذهب إليه الإنسان ليسأله عن الغيب. إن الحق يقول: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] وهو سبحانه لا يعطي المفتاح لأحد من خلقه. وقد يريد الله أن يعطي لواحد كرامة، فأعطاه كلمة على لسانه قد يكون هو غير مدرك لها {فيقول: من يسمح هذا القول وينتفع به. فلان قال لي: كذا وكذا. . يا سلام} وهذا فيض من الله على عبده حين يبين الله لنا أنه يوالي هؤلاء العباد الصالحين. وقوله الحق: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ} نجد أن كلمة {بِشَيْءٍ} تعني أقل القليل. وقوله سبحانه: {مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} يعلمنا أن الحق فيما يتكلم به عن نفسه ولخلقه فيه نظائر، كالوجود، هو سبحانه موجود وأنت موجود، كالغني هو غني وأنت غني، كالعلم هو عالم وأنت تكون عالماً، فهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1102 نقول: إن الصفة لله كالصفة عندنا؟ لا، كذلك كل ما يرد بالنسبة للغيب فيما يتعلق بالله إضافة أو وصفاً؛ لا تأخذها بالمناسب عندك؛ بل خذها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فإذا قيل لله يد، قل: هو له يد كما أن له وجوداً؛ وبما أن وجوده ليس كوجودي فيده ليست كيدي بل افهمها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، فإذا قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} نقول: هو قال هذا، ومادام قال هذا فسنأخذ هذه الكلمة في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فلا تقل له كرسي وسيقعد عليه مثلنا، لا. لقد وجدنا من قال: أين يوجد الله؟! {متى وجد؟} {وقلنا ونقول: «متى» و «أين» لا تأتي بالنسبة لله، إنها تأتي بالنسبة لكم أنتم، لماذا؟ لأن «متى» زمان و «أين» مكان. والزمان والمكان ظرفان للحدث، فالشيء الحادث هو الذي له زمان ومكان، مثال ذلك أن أقول: «أنا شربت» ومادام قد حدث الشرب فيكون له زمان ومكان، لكن هب أنني لم أشرب، أيكون هناك زمان أو مكان؟} لا، فمادام الله ليس حدثاً فليس متعلقاً به زمان أو مكان، لأن الزمان والمكان نشأ عندما خلق الله وأحدث هذا الكون، فلا تقل: «متى» لأن «متى» خُلِقَت به، ولا تقل «أين» لأن أين خُلِقَت به ولأن «متى» و «أين» ظرفان؛ هذه للزمان، وهذه للمكان، والزمان والمكان فرعا الحديث. وعندما يوجد حدث فقل زمان ومكان. إذن فما دام الله ليس حدثاً، فإياك أن تقول فيه متى، وإياك أن تقول فيه أين، لأن «متى» و «أين» وليدة الحدث. وقوله الحق: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} نأخذه كما قلنا في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، الكرسي: في اللغة من الكِرْس. والكِرْسُ هو: التجميع، ومنه الكراسة وهي عدة أوراق مجمعة، وكلمة «كرسي» استعملت في اللغة بمعنى الأساس الذي يُبنى عليه الشيء، فمادة «الكرسي» (الكاف والراء والسين) تدل على التجميع وتدل على الأساس الذي تثبت عليه الأشياء؛ فنقول: اصنع لهذا الجدار كرسيًّا، أي ضع لهذا الجدار أساساً يقوم عليه. وتطلق أيضاً على القوم والعلماء الذين يقوم بهم الأمر فيما يشكل من الأحداث، والشاعر العربي قال: «كراسي في الأحداث حين تنوب» أي يعتمد عليهم في الأمور الجسيمة. وحين يُنسب شيء من ذلك للحق سبحانه وتعالى. فإن السلف لهم فيها كلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1103 والخلف لهم فيها كلام، والسلف يقولون: كما قال الله نأخذها ولكن نضع كيفيتها وتصورها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وبعضهم قال: نؤولها بما يُثبت لها صفة من الصفات، كما يثبتون قدرة الحق بقوله الحكيم: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] أي أن قدرة الله فوق قدرتهم، وكما قال سبحانه عن قدرته في الخلق: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] إن كمال قدرة الله أحكمت خلق السماء، والحق سبحانه مقدس وَمُنَزَّهٌ عن أن يتصور المخلوق كلمة «يد» بالنسبة لله. ونحن نقول: الله قال ذلك، ونأخذها من الله؛ لأنه أعلم بذاته وبنفسه، ونُحيلها إلى ألاَّ يكون له شبيه أو نظير، كما أثبتنا لله كثيراً من الصفات، في خلق الله مثلها ومع ذلك نقول: علمه لا كعلمنا، وبصره لا كبصرنا، فلماذا يكون كرسيه مثل كرسينا؟ . فتكون في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . والعلماء قالوا عن الكرسي: إنه ما يُعتمد عليه، فهل المقصود علمه؟ . نعم. وهل المقصود سلطانه وقدرته؟ . نعم، لأن كلمة «كرسي» توحي بالجلوس فوقه، والإنسان لا يجلس عن قيام إلا إذا استتب له الأمر، ولذلك يسمونه «كرسي الملك» ؛ لأن الأمر الذي يحتاج إلى قيام وحركة لا يجعلك تجلس على الكرسي، فعندما تقعد على الكرسي، فمعنى ذلك أن الأمر قد استتب، إذن فهو بالنسبة لله السلطان، والقهر، والغلبة، والقدرة. أو نقول: مادام قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} فوسع الشيء أي: دخل في وسعه واحتماله. «والسماوات والأرض» نحن نفهمها أنها كائنات كبيرة بالنسبة لنا، إنه سبحانه يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1104 {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] وعندما يقول: إن الكرسي وسع السماوات والأرض، إذن، فهو أعظم من السماوات والأرض أي دخل في وسعه السماوات والأرض. ولذلك «يقول أبو ذر الغفاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: (سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الكرسي فقال: يا أبا ذر ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة. وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة) » . والبشرية بكل ما وصلت له من إنجازات علمية قد وصلت إلى القمر فقط وهو مجرد ضاحية من ضواحي الأرض، ومفصول عنا بمسافة تقاس بالثواني الضوئية، ولقد تعودنا في حياتنا أن نستخدم وحدات الميل والكيلومتر لقياس الأطوال والأبعاد الكبيرة، لكننا اكتشفنا أن هذه الوحدات ليست ذات نفع في قياس أبعاد النجوم؛ لأننا نعرف مثلا أن الشمس تبعد عن الأرض ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال، ولكن عندما نريد أن نرصد المسافة بيننا وبين أحد النجوم فلسوف نضطر إلى استخدام أعداد كثيرة من الأصفار أمام رقم ما، وهذا يجعل التعبير غير عملي، ولهذا السبب وضع علماء الفلك وحدة ملائمة لقياس أبعاد النجوم وهي ما نسميه السنة الضوئية. ونحن نعرف أن سرعة الضوء حوالي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية. ولذلك فقياس أي مسافة بيننا وبين أي نجم في السماء أمر يحتاج إلى حسابات دقيقة وكثيرة ودراسة علوم متعددة. فالشمس بيننا وبينها ثلاثة وتسعون مليوناً من الأميال ويصلنا ضوؤها في خلال ثماني دقائق وثلث الدقيقة. والشعرى اليمانية وهي ألمع نجوم السماء يصل إلينا ضؤوها في تسع سنوات ضوئية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1105 إذن فالسنة الضوئية هي وحدة لقياس المسافات الفلكية. ونحن نذهل عندما نعرف أن بعض النجوم يصل ضؤوها إلينا في خمسين سنة ضوئية!! كل ذلك ونحن لم نصل بعد إلى السماء الدنيا، فما بالنا ببقية السماوات؟ إذن فحدود ملك الله فوق تصورنا. ولنا أن نعرف أي تكريم من الحق للمؤمنين حين يصور لنا ضخامة الجنة يقول سبحانه: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم} [الحديد: 21] هذه هي الجنة التي أعدها الله للمؤمنين بالله ورسله الذين يسارعون إلى طلب غفران الله. فإذا كان عرض الجنة هو السماوات والأرض، فما طولها إذن؟ وكم يكون بعدها؟ والعرض كما نعرف هو أقل البعدين. إذن يجب أن نفهم أن هناك عوالم أخرى غير السماء والأرض، لكن عيوننا لا تبصر فقط إلا ما أراده الحق لنا من السماء والأرض، ولذلك فعندما نسمع قول الحق: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} فلنا أن نتخيل أي عظمة هي عظمة كرسي ذي الجلال والإكرام. إن الحق يقول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} ، ومعنى آده الشيء، أي أثقله. وحتى نفهم ذلك هب أن إنساناً يستطيع أن يحمل عشرة كيلوجرامات، فإن زدنا هذا الحمل إلى عشرين من الكيلوجرامات فإن الحمل يثقل عليه، ويجعل عموده الفقري معوجاً حتى يستطيع أن يقاوم الثقل. فإن زدنا الحمل أكثر فقد يقع الرجل على الأرض من فرط زيادة الوزن الثقيل. إذن فمعنى {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي أنه لا يثقل على الله حفظ السماوات والأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1106 إن السماء والأرض وهما فوق اتساع رؤية البشر؛ فقد وسعهما الكرسي الرباني. وقال بعض المفسرين: إذا كان الكرسي لا يثقل عليه حفظ السماوات والأرض فما بالنا بصاحب الكرسي!!؟ هاهو ذا الحق سبحانه وتعالى يطمئنا فيقول: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر: 41] إنه الحق وحده سبحانه وتعالى الذي يحفظ السماوات والأرض في توازن عجيب ومذهل، ولئن قُدِّرَ لهما أن تزولا. فلن يحفظهما أحد بعد الله، أي لا يستطيع أحد إمساكهما؛ فهما قائمتان بقدرة الواحد القهار، وإذا أراد الله أن تزولا فلا يستطيع أحدٌ أن يمسكهما ويمنعهما من الزوال. وإذا كانت هذه الأشياء الضخمة من صنع الله وهو فوقها، فإنه عندما يصف نفسه بأنه «عليّ» و «عظيم» فذلك أمر طبيعي. إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا تذييلاً منطقياً يقتضيه ما تقدمت به الآية الجليلة: آية الكرسي، إنه الحق يقول: {وَهُوَ العلي العظيم} وكلمة «عليّ» صيغة مبالغة في العلو. و «العليّ» هو الذي لا يوجد ما هو أعلى منه فكل شيء دونه. هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها نعرفها بآية الكرسي؛ لأن كلمة «الكرسي» هي الظاهرة فيها. وكلمة «الكرسي» فيها: تعني السلطان والقهر والقدرة والملكية وكلها مأخوذة من صفات الحق جل وعلا. إنه لا إله إلا هو. إنه الحي. إنه القيوم. إنه الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. والشفاعة عنده مأذون فيها بإرادته هو وحده وليس بإرادة سواه. وهو العليم بكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1107 شيء، الذي يسع كرسيه السماوات والأرض وهو العليّ فلا أعلى منه، وهو العظيم بمطلق العظمة. وتتجمع كل هذه الصفات لتضع أمامنا أصول التصور في العقيدة الإيمانية، وقد وردت فيها أحاديث كثيرة، ومنها نستخلص أنها آية لها قدرها ومقدارها عند الله. «فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال:» وكلني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو الطعام فأخذته وقلت والله لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال: إني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يا أبا هريرة: «ما فعل أسيرك البارحة» ؟ قال: قلت يا رسول الله: شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: «أما إنه كذبك وسيعود» فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا أبا هريرة: «ما فعل أسيرك» ؟ فقلت يا رسول الله: شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال: «أما إنه قد كذبك وسيعود» فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي «الله لا إله إلا هو الحي القيوم» حتى تختم الآية؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما فعل أسيرك البارحة» ؟ قلت يا رسول الله: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال: «ما هي» قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم «الله لا إله إلا هو الحي القيوم» ، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا (أي الصحابة) أحرص شيء على تعلم الخير، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أما أنه قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1108 صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ذاك الشيطان «» . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سورة البقرة فيها سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه آية الكرسي» . وعن أبي أمامه قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» من قرأ دبر كل صلاة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت «. وعن علي كرم الله وجهه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» من قرأها يعني آية الكرسي حين يأخذ مضجعه آمنه الله تعالى على داره، ودار جاره، وأهل دويرات حوله «. كل هذه المعاني قد وردت في أفضال هذه الآية الكريمة، وقد جلس العلماء يبحثون عن سر هذه المسألة فقال واحد منهم: انظروا إلى أسماء الله الموجودة فيها. وبالفعل قام أحد العلماء بحصر أسماء الله الحسنى فيها، فوجد أن فيها ستة عشر اسماً من أسماء الله، وبعضهم قال: إن بها سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى، وبعضهم قال أن فيها واحداً وعشرين اسماً من أسماء الله، كل ذلك من أجل أن يستنبطوا منها أشياء، ويعلموا فضل وفضائل هذه الآية الكريمة. والذين قالوا إن بها ستة عشر اسما من أسماء الله قالوا: إن بها اسم علم واجب الوجود «الله» . واسم «هو» في لا إله إلا هو: هو الاسم الثاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1109 و «الحيّ» هو الاسم الثالث. و «القيوم» هو الاسم الرابع. وعندما ندقق في قول الحق «لا تأخذه سنة ولا نوم» نجد أن الضمير في «لا تأخذه عائد إلى ذاته جل شأنه. . و» له ما في السماوات وما في الأرض «فيها ضمير عائد إلى ذاته سبحانه. وكذلك الضمائر في قوله:» عنده «و» بإذنه «و» يعلم «و» من علمه «و» بما شاء «و» كرسيه «كلها تعود إلى ذاته جل شأنه. و» لا يؤوده حفظهما «فيها ضمير عائد إلى ذاته كذلك. و» هو «في قوله سبحانه» وهو العلي العظيم «اسم من أسمائه تعالى. و» العلي «اسم من أسمائه جل وعلا. و» العظيم «كذلك اسم من أسمائه سبحانه وتعالى. لكنَّ عالماً آخر قال: إنها سبعة عشر اسماً من أسماء الله؛ لأنك لم تحسب الضمير في المصدر المشتق منه الفعل الموجود بقوله:» حفظهما «إن الضمير في» هما «يعود إلى السماوات والأرض. و» الحفظ «مصدر. فمن الذي يحفظ السماوات والأرض؟ إنه الله سبحانه وتعالى، وهكذا أصبحوا سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى في آية الكرسي. وعالم ثالث قال: لا، أنتم تجاهلتم أسماء أخرى؛ لأن في الآية الكريمة أسماء واضحة للحق جل وعلا، وهناك أسماء مشتقة، مثال ذلك: الله لا إله إلا هو. الحي هو. القيوم هو. العلي هو. العظيم هو. ولكن العلماء قالوا ردا على ذلك: صحيح أنها أسماء مشتقة ولكنها صارت أعلاماً. المهم أن في الآية الكريمة ستة عشر اسماً، وإن حسبنا الضمير المستتر في» حفظهما «نجد أنها سبعة عشر اسماً، وإذا حسبنا الضمير الموجود في المشتقات مثل» الحي هو «و» القيوم هو «و» العلي هو «و» العظيم هو «. صارت أسماء الله الحسنى الموجودة في هذه الآية الكريمة واحداً وعشرين اسماً. إذن هي آية قد جمعت قدراً كبيرا من أسماء الله، ومن ذلك جاءت عظمتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1110 وهذه الآية الكريمة قد بيّنت ووضحت قواعد التصور الإيماني، وأنشأت عقيدة متكاملة يعتز المؤمن أن تكون هذه العقيدة عقيدته. والآية في ذاتها تتضمن حيثيات الإيمان، إنه ما دام هو الله لا إله إلا هو، وما دام هو الحيّ القيوم على أمر السماء والأرض، وكل شيء بيده، وهو العلي العظيم، فكل هذه مبررات لأن نؤمن به سبحانه وتعالى، وأن نعتز بأن نعتقد هذه المعتقدات، وتكون هي الدليل على أن المؤمن فخور بهذا الدين الذي كان أمر الألوهية المطلقة واضحاً وبيّناً فيه. ولذلك فمن الطبيعي ألا يقهر الحق أحداً على الإيمان به إكراهاً، لأن الذي يقهر أحداً على عقيدة ما، هو أول مَنْ يعتقد أنه لولا الإكراه على هذه العقيدة لما اعتقدها أحد. ونحن في حياتنا اليومية نجد أن أصحاب المبادئ الباطلة هم الذين يمسكون السياط من أجل إكراه الناس على السير على مبادئهم. وكل من أصحاب هذه المبادئ الباطلة يعلم تمام العلم أنه لو ترك السوط والقهر ما سار إنسان على مثل هذه المبادئ الباطلة. ولو كان أحد من أصحاب هذه المبادئ الباطلة معتقداً أن مبدأه سليم لقال: أطرح هذا المبدأ على الناس، وأترك لهم الخيار؛ لأنه في هذه الحالة سيكون واثقاً من مبدئه. أما الذي يقهر الناس إكراها بالسوط أو السلطان ليعتقدوا مبدأ ما، فهو أول من يشك في هذا المبدأ، وهو أول من يعتقد أنه مبدأ باطل. مثل هؤلاء نراهم عندما تضعف أيديهم عن استعمال السوط أو السلطان فإن أمر مبدئهم ينهزم ويسقط بنيانه. والحق سبحانه وتعالى بعد ذلك يقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1111 إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا نحن العباد المؤمنين ولسائر البشرية أنه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} . والإكراه هو أن تحمل الغير على فعل لا يرى هو خيراً في أن يفعله. أي لا يرى الشخص المكرَه فيه خيراً حتى يفعله. ولكن هناك أشياء قد نفعلها مع من حولنا لصالحهم، كأن نرغم الأبناء على المذاكرة، وهذا أمر لصالح الأبناء، وكأن نجبر الأطفال المرضى على تناول الدواء. ومثل هذه الأمور ليست إكراهاً، إنما هي أمور نقوم بها لصالح من حولنا؛ لأن أحداً لا يسره أن يظل مريضاً. إن الإكراه هو أن تحمل الغير على فعل من الأفعال لا يرى فيه هو الخير بمنطق العقل السليم. ولذلك يقول الحق سبحانه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} . ومعنى هذه الآية أن الله لم يكره خلقه وهو خالقهم على دين، وكان من الممكن أن الله يقهر الإنسان المختار، كما قهر السماوات والأرض والحيوان والنبات والجماد، ولا أحد يستطيع أن يعصى أمره. فيقول سبحانه: {لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً} [الرعد: 31] لكن الحق يريد أن يعلم من يأتيه محباً مختاراً وليس مقهوراً، أن المجيء قهراً يثبت له القدرة، ولا يثبت له المحبوبية، لكن من يذهب له طواعية وهو قادر ألا يذهب فهذا دليل على الحب، فيقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} أي أنا لم أضع مبدأ الإكراه، وأنا لو شئت لآمن من في الأرض كلهم جميعاً. فهل الرسل الذين أرسلهم سبحانه يتطوعون بإكراه الناس؟ . لا، إنّ الرسول جاء لينقل عن الله لا ليكره الناس، وهو سبحانه قد جعل خلقه مختارين، وإلا لو أكرههم لما أرسل الرسل، ولذلك يقول المولى عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1112 إن الرسول له مهمة البلاغ عن الله؛ لأن الله لم يرد خلقه مكرهين على التدين، إذن فالمبلغ عنه لا يُكره خلقه على التدين، إلا أن هنا لبساً. فهناك فرق بين القهر على الدين، والقهر على مطلوب الدين، هذا هو ما يحدث فيه الخلاف. تقول لمسلم: لماذا لا تصلي؟ يقول لك: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} ، ويدعي أنه مثقف، ويأتيك بهذه الآية ليلجمك بها، فتقول له: لا. {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} عقيدة وإيماناً، إنما إن آمنت وأعلنت أنك آمنت بالله وصرت معنا مسلماً فلا بد أن تعرف أنك إن كسرت حكماً من أحكام الإسلام نطلب منك أن تؤديه، أنت حر أن تؤمن أو لا تؤمن، لكن حين التزمت بالإيمان، فعليك مسئولية تنفيذ مطلوب الإيمان، وإلا حسب تصرفك أنه من تصرفات الإسلام، فإذا كنت تشرب خمراً فإنك حر؛ لأنك كافر مثلاً، لكن أتؤمن ثم تشرب خمراً!؟ لا. أنت بذلك تكسر حداً من حدود الله، وعليك العقاب. ولأنك مادمت قد علمت كعاقل رشيد مطلوب الإسلام، فعليك أن تنفذ مطلوب الإسلام، ولذلك لم يكلف الله الإنسان قبل أن ينضج عقله بالبلوغ؛ حتى لا يقال: إن الله قد أخذ أحداً بالإيمان وألزمه به قبل أن يكتمل عقله. بل ترك التكليف حتى ينضج الإنسان ويكتمل، حتى إذا دخل إلى دائرة التكليف عرف مطلوباته، وهو حر أن يدخل إلى الإيمان أو لا يدخل، لكن إن دخل سيُحاسب. إذن فلا يقل أحد عندما يسمع حكماً من أحكام الدين: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} ؛ لأن هذه الآية نزلت بشأن العقيدة الأساسية، فإن اتبعت هذه العقيدة صار لزاماً عليك أن توفي بمطلوباتها. وقد أراد خصوم الإسلام أن يصعدوا هذه العملية فقالوا كذباً وافتراء: إن الإسلام انتشر بحد السيف. ونقول لهم: لقد شاء الله أن ينشأ الإسلام ضعيفاً ويُضطهد السابقون إليه كل أنواع الاضطهاد، ويُعذبون، ويُخرجون من ديارهم ومن أموالهم ومن أهلهم، ولا يستطيعون عمل شيء. إذن ففترة الضعف التي مرت بالإسلام أولا فترة مقصودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1113 ونقول لهم أيضا: من الذي قهر وأجبر أول حامل للسيف أن يحمل السيف؟! والمسلمون ضعاف ومغلبون على أمرهم، لا يقدرون على أن يحموا أنفسهم، إنكم تقعون في المتناقضات عندما تقولون: إن الإسلام نُشِرَ بالسيف. ويتحدثون عن الجزية رفضاً لها، فنقول: وما هي الجزية التي يأخذها الإسلام من غير المسلمين كضريبة للدفاع عنهم؟ لقد كان المسلمون يأخذون الجزية من البلاد التي دخلها الفتح الإسلامي، أي أن هناك أناساً بقوا على دينهم. ومادام هناك أناس باقون على دينهم فهذا دليل على أن الإسلام لم يُكره أحداً. وقول الله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} علته أن الرشد واضح والغي واضح، ومادام الأمر واضحا فلا يأتي الإكراه يأتي في وقت اللبس، وليس هناك لبس، لذلك يقول الحق: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} . ومادام الرشد بائنا من الغيّ فلا إكراه. لكن الله يعطيك الأدلة، وأنت أيها الإنسان بعقلك يمكنك أن تختار، كي تعرف أنك لو دخلت الدين لالتزمت، وحوسبت على دخولك في الدين، فلا تدخل إلا وأنت مؤمن واثق بأن ذلك هو الحق؛ لأنه سيترتب عليه أن تقبل أحكام الدين عليك. {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} والرشد: هو طريق النجاة، و «الغي» : هو طريق الهلاك. ويقول الحق إيضاحاً للرشد والغي في آية أخرى من آيات القرآن الكريم: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146] إن الحق يعلمنا أن المتكبرين في الأرض بغير حق لن يستطيعوا الفوز برؤية آيات الله ودلائل قدرته، وحتى إن رأوا السبيل الصحيح فلن يسيروا فيه، وإن شاهدوا طريق الضلال سلكوا فيه لأنهم يكذبون بآيات الرحمن ويغفلون عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1114 والغي أيضا هو ضلال الطريق، فعندما يسير إنسان في الصحراء ويضل الطريق يقال عنه: «فلان قد غوى» أي فقد الاتجاه الصحيح في السير، وقد يتعرض لمخاطر جمة كلقاء الوحوش وغير ذلك. ويوضح لنا الحق طريق الرشد بمنطوق آخر في قوله الحق: {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10] إن الجن قد ظنوا كما ظن بعض من معشر الإنس أن الله لن يبعث أحداً بعد الموت أو لن يرسل رسولاً من البشر لهداية الكون. وقد طلب الجن بلوغ السماء فوجدوها قد مُلئت حرساً من الملائكة وشُهباً محرقة. وإن الجن لا يعلمون السر في حراسة السماء وهل في ذلك شَرٌّ بالبشر أو أراد الله بهم خيراً وهدى. إذن فالرُّشْد بضم الراء وتسكين الشين والرَشَد بفتح الراء وفتح الشين كلاهما يوضح الطريق الموصل للنجاة. ويقابل الرشد الغيّ. ويتابع الحق: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أولا: نلحظ أن الحق هنا قد قدم الكفران بالطاغوت، ثم جاء بالإيمان بالله؛ لأن الأمر يتطلب التخلية أولا والتحلية ثانيا، لابد أن يتخلى الإنسان من الطاغوت فلا يدخل على أنه يؤمن بالله وفي قلبه الطاغوت، فنحن قبل أن نكوي الثوب نغسله وننظفه، والتخلية قبل التحلية. وما هو «الطاغوت» ؟ إنه من مادة «طغى» ، وكلمة «طاغوت» مبالغة في الطغيان. لم يقل: طاغ، بل طاغوت، مثل جبروت، والطاغوت إما أن يطلق على الشيطان، وإما أن يُطلق على من يعطون أنفسهم حق التشريع فيكَفِّرون وينسبون من يشاءون إلى الإيمان حسب أهوائهم، ويعطون أشياء بسلطة زمنية من عندهم، ويُطلق أيضاً على السحرة والدجالين، ويُطلق على كل من طغى وتجاوز الحد في أي شيء، فكلمة «طاغوت» مبالغة، وقد تكون هذه المبالغة متعددة الألوان، فمرة يكون الطاغي شيطانا، ومرة يكون الطاغي كاهناً، ومرة يكون ساحراً أو دجالاً، ومرة يكون حاكماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1115 ومادة «الطاغوت» تدل على أن الموصوف بها هو من تزيده الطاعة له طغياناً، فعندما يجربك في حاجة صغيرة، فتطيعه فيها فيزداد بتلك الطاعة طغيانا عليك. والحق سبحانه يقول: {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] ويزيد في الأمر حتى يصير طاغية، ولا يوجد أحد استهل عمله بالطغيان العالي، إنما يبدأ الأمر خطوة خطوة، كأي نظام ديكتاتوري قهري، إنه يبدأ ب (جس نبض) فإن صبر الناس، ازداد هذا النظام في القسوة حتى يصير طاغوتا، إذن فالطاغوت هو الذي تستزيده الطاعة طغيانا، وتُطلق على الشيطان؛ لأنه هو الأساس، وعلى الذين يتكلمون باسم الدين للسلطة الزمنية (سواء كانوا كهاناً أو غيرهم) ، وتُطلق على الذين يسحرون ويدجلون، لأنهم طغوا بما علموه؛ إنهم يستعملون أشياء يتعبون بها الناس، وقد جاءت الكلمة هنا بصيغة المبالغة لاشتمالها على كل هذه المعاني، وإذا استعرضنا الكلمة في القرآن نجد أن «الطاغوت» ترد مذكرة في بعض الأحيان، وقد وردت مؤنثة في آية واحدة في القرآن: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا وأنابوا إِلَى الله لَهُمُ البشرى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17] لقد أوضحت هذه الآية أنهم تركوا كل أنواع الطغيان وأصنافه، أي إن الذين اجتنبوا الألوان المتعددة من الطغيان هم الذين يتجهون بالعبادة الخالصة لله، ولهم البشرى. {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} وكلمة {استمسك} غير كلمة «مسك» . لأن {استمسك} تدل على أن فيه مجاهدة في المسك، والذي يتدين يحتاج إلى مجاهدة في التدين؛ لأن الشيطان لن يتركه، فلا يكفي أن تمسك، بل عليك أن تستمسك، كلما وسوس الشيطان لك بأمر فعليك أن تستمسك بالتدين، هذا يدل على أن هناك مجاهدة وأخذاً وردّاً. {فَقَدِ استمسك بالعروة} والعروة هي العلاقة، مثلما نقول: «عروة الدول» ، التي تمسكها منه، وهذه عادة ما تكون مصنوعة من الحبل الملفوف المتين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1116 و «الوثقى» هي تأنيث «الأوثق» أي أمر موثوق به، وقوله: {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} ، قد يكون تشبيها بعروة الدلو لأن الإنسان يستخدم الدلو ليأتي بالماء، وبالماء حياة البدن، وبالدين حياة القيم. {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} كأنه ساعة جاء بكلمة «عروة» يأتي بالدلو في بال الإنسان، والدلو تأتي بالماء، والماء به حياة البدن، إذن فهذه تعطينا إيحاءات التصور واضحة، {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} ، وما دامت «عروة وثقى» التي هي الدين والإيمان بالله، وما دامت هي الدين وحبل الله فهذه وثقى، وما دامت «وثقى» فلا انفصام لها، وعلينا أن نعرف أن فيه انفصاماً. وفيه انفصام الأول بالفاء والثاني بالقاف. الانفصام: يمنع الاتصال الداخلي؛ مثلما تنكسر اليد لكنها تظل معلقة، والانقصام: أن يذهب كل جزء بعيداً عن الآخر أي فيه بينونة، والحق يقول: {لاَ انفصام لَهَا والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} توحي بأن عملية الطاغوت ستكون دائماً وسوسة، وهذه الوسوسة هي: الصوت الذي يُغري بالكلام المعسول، ولذلك أخذت كلمة «وسوسة الشيطان» من وسوسة الحُليّ، ووسوسة الذهب هي رنين الذهب، أي وسوسة مغرية مثل وسوسة الشيطان، والله عليم بكل أمر. ويقول الحق بعد ذلك: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1117 إن الله وليّ الذين آمنوا ما دام {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1117 بالعروة الوثقى} وكأن الحق يشرح ذلك بهذه الآية، فما دام العبد سيتصل بالعروة الوثقى ويستمسك بها، وهذه ليست لها انفصام فقد صارت ولايته لله، وكلمة «وليّ» إذا سمعتها هي من «وَلِيَ» أي: جاء الشيء بعد الشيء من غير فاصل؛ هذا يليه هذا، وما دام يليه من غير فاصل فهو الأقرب له، وما دام هو الأقرب له إذن فهو أول من يفزع لينقذ، فقد يسير معي إنسان فإذا التوت قدمي أناديه؛ لأنه الأقرب مني، وهو الذي سينجدني. فلا يوجد فاصل، وما دام لا يوجد فاصل فهو أول من تناديه، وأول من يفزع إليك بدون أن تصرخ له؛ لأن من معك لا تقل له: خذ بيدي، إنه من نفسه يأخذ بيدك بلا شعور، إذن فكلمة {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} إذا نظرت إليها وجدتها تنسجم أيضا مع {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، فلا يريدك أن تناديه؛ لأن هناك من تصرخ عليه لينجدك، وهو لن تصرخ عليه؛ لأنه سميع وعليم، {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} . وكلمة «وليّ» أيضا منها (مولى) ومنها (وال) ، {وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} أي هو الذي يتولى شئونهم وأمورهم، كما تقول: الوالي الذي تولى أمر الرعية، وكلمة «مولى» مرة تطلق على السيد، ومرة تطلق على خادمه، ولذلك يقول الشاعر: مولاك يا مولاي طالب حاجة ... أي عبدك يا سيدي طال بحاجة، فهي تستعمل في معان مترابطة؛ لأننا قلنا: «وَلِيّ» تعني القريب، فإذا كان العبد في حاجة إلى شيء فمن أول من ينصره؟ سيده، وإذا نادى السيد، فمن أول مجيب له؟ إنه خادمه، إذن فيُطلق على السيد ويُطلق على العبد، ويُطلق على الوالي، {اللهُ وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} . وقوله الحق: {الذين آمَنُواْ} يعني جماعة فيها أفراد كثيرة، كأنه يريد من الذين آمنوا أن يجعلوا إيمانهم شيئا واحداً، وليسوا متعددين، أو أن ولاية الله لكل فرد على حدة تكون ولاية لجميع المؤمنين، وما داموا مؤمنين فلا تضارب في الولايات؛ لأنهم كلهم صادرون وفاعلون عن إيمان واحد، ومنهج واحد، وعن قول واحد، وعن فعل واحد، وعن حركة واحدة. وكيف يكون {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} ؟ إنه وليهم أي ناصرهم. ومحبهم ومجيبهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1118 ومعينهم، هو وليهم بما أوضح لهم من الأدلة على الإيمان، هل هناك حُب أكثر من هذا؟ هل تركنا لنبحث عن الأدلة أو أنه لفتنا إلى الأدلة؟ وتلك هي ولاية من ولايات الله. فقبل أن نؤمن أوجد لنا الأدلة، وعندما آمنا وَالانَا بالمعونة، وإن حاربنا خصومنا يكن معنا، وبعد ذلك تستمر الولاية إلى أن يعطينا الجزاء الأوفى في الآخرة، إذن فهو وليّ في كل المراحل، بالأدلة قبل الإيمان ولي. ومع الإيمان استصحاباً يكون ناصرنا على خصومنا وخصومه. وفي الآخرة هو وليّنا بالمحبة والعطاء ويعطينا عطاءً غير محدود، إذن فولايته لا تنتهي. {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} إنه سبحانه يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان؛ لأن الظلمات عادة تنطمس فيها المرائي، فلا يمكن أن ترى شيئاً إلا إذا كان هناك ضوء يبعث لك من المرئي أي أشعة تصل إليك، فإن كانت هناك ظلمة فمعنى ذلك أنه لا يأتي من الأشياء أشعة فلا تراها، وعندما يأتي النور فأنت تستبين الأشياء، هذه في الأمور المُحسَّة؛ وكذلك في مسائل القيم، {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات} . هل هم دخلوا النور يا ربنا؟ لنا أن نفهم أن المقصود هنا هم المرتدون الذين وسوس لهم الشيطان فأدخلهم في ظلمات الكفر بعد أن كانوا مؤمنين، أو {يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات} ، أي يحولون بينهم وبين النور فيمنعونهم من الإيمان كما يقول واحد: أما دريت أن أبي أخرجني من ميراثه؟ إن معنى ذلك أنه كان له الحق في التوريث، وأخرجه والده من الميراث. وهذا ينطبق على الذين تركوا الإيمان، وفضلوا الظلمات. والقرآن يوضح أمر الخروج من الظلمة إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان في مواقع أخرى، كقول سيدنا يوسف للشابين اللذين كانا معه في السجن: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1119 مِنَ المحسنين قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف: 36 - 37] فهل كان سيدنا يوسف في ملة القوم الكافرين ثم تركها؟ لا، إنه لم يدخل أساساً إلى ملة القوم الذين لا يؤمنون بالله. إن هذه الملة كانت أمامه، لكنه تركها ورفض الدخول فيها وتمسك بملة إبراهيم عليه السلام. وفي التعبير ما فيه من تأكيد حرية الاختيار. وهناك آية أخرى يقول فيها الحق: {والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70] إن معنى الآية أن الله قد خلقنا جميعاً، وقدر لكل منا أجلاً، فمنا من يموت صغيراً، ومنا من يبلغ أرذل العمر، فيعود إلى الضعف وتقل خلايا نشاطه فلا يعلم ما كان يعلمه. وليس معنى الآية أن الإنسان يوجد في أرذل العمر ثم يرد إلى الطفولة. وعندما يقول الحق: {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات} فالحق أورد هنا كلمة أولياء عن الطاغوت، لأن الطاغوت كما قلنا: ألوان متعددة، الشيطان طاغوت، والدجال طاغوت، والساحر طاغوت. وجاء الحق بالخبر مفرداً وهو الطاغوت لمبتدأ جمع وهو أولياء، ووصف هؤلاء الأولياء للطاغوت بأنهم يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات. لقد أفرد الله الطاغوت وأورد بالجمع الأفراد الذين ينقلهم الطاغوت إلى الظلمات. ولماذا لم يقل الله هنا: «طواغيت» بدلا من طاغوت؟ إن الطاغوت كلمة تتم معاملتها هنا كما نقول: «فلان عدل» أو «الرجلان عدل» أو «الرجال عدل» . وعلى هذا القياس جاءت كلمة طاغوت، فالشيطان والدجال والكاهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1120 والساحر والحاكم بغير أمر الله؛ كلهم طاغوت، لقد التزمت الآية بالإفراد والتذكير. فالطاغوت تُطلق على الواحد أو الاثنين أو الجماعة، أي أن المُخرجين من النور إلى الظلمات هم أولياء الطاغوت، أو من اتخذوا الطواغيت أولياء، وهم إلى النار خالدون. والدخول للنار يكون للطواغيت ويكون لأتباع الطواغيت، كما يقول الحق في كتابه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] إن أتباع الطواغيت، والطواغيت في نار جهنم. وقانا الله وإياكم عذابها. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة واقعية في الكون من قوله: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} ، فهو الولي، وهو الناصر فيقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1121 وساعة تسمع {أَلَمْ تَرَ} ؛ فأنت تعلم أنها مكونة من همزة هي «أ» وحرف نفي وهو «لم» ، ومنفي هو «تر» والهمزة: تأتي هنا للإنكار، والإنكار نفي بتقريع، ولكنها لم تدخل على فعل مثبت حتى يقال: إنها أنكرت الفعل بعدها، مثلما تقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1121 للولد: أتضرب أباك! هنا الهمزة جاءت لا لتستفهم وإنما أتت تنكر هذه الفعلة، لأن الفعل بعدها مثبت وهو «تضرب» ، وجاءت الهمزة قبله فتسمى «همزة إنكار» للتقريع. إذن فالإنكار: نفي بتقريع إذا دخلت على فعل منفي. وما دام الإنكار نفيا والفعل بعدها منفيٌ فكأنك نفيت النفي، إذن فقد أثبته، كأنه سبحانه عندما يقول للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {أَلَمْ تَرَ} فالمقصود «أنت رأيت» . ولماذا لم يقل له: أرأيت؟ لقد جاء بها بأسلوب النفي كي تكون أوقع، فقد يكون مجيء الإثبات تلقيناً للمسئول، فعندما يقول لك صديق: أنت لم تسأل عني وأنت تهملني. فأنت قد ترد عليه قائلا: ألم أساعدك وأنت ضعيف؟ ألم آخذ بيدك وأنت مريض؟ لقد سبق أن قدمت خدماتك لهذا الصديق، ولكنك تريد أن تنكر النفي الذي يقوله هو، وهكذا نعلم أن نفي النفي إثبات، ولذلك فنحن نأخذ من قوله تعالى من هذه العبارة {أَلَمْ تَرَ} على معنى: أنت رأيت، والرؤية تكون بالعين. فهل رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو المخاطب الأول بالقرآن الكريم من ربه هل رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الحادثة أيام إبراهيم؟ طبعاً لا، فكأن {أَلَمْ تَرَ} هنا تأتي بمعنى: ألم تعلم. ولماذا جاء ب {أَلَمْ تَرَ} هنا؟ لقد جاء بها لنعلم أن الله حين يقول: «ألم تعلم» فكأنك ترى ما يخبرك به، وعليك أن تأخذه على أنه مصدق كأنك رأيته بعينك. فالعين هي حاسة من حواسك، والحاسة قد تخدع، ولكن ربك لا يخدع، إذن ف {أَلَمْ تَرَ} تعني: «ألم تعلم علم اليقين» ، وكأنك قد رأيت ما يخبرك به الله، ولذلك يقول تعالى للرسول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] والرسول ولد عام الفيل، فلم ير هذه الحادثة، وكأن الله يخبره بها ويقول له: ألم تعلم، وكأنه يقول له: اعلم علماً يقينا كأنك تراه؛ لأن ربك أوثق من عينيك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1122 وعندما يقال: {أَلَمْ تَرَ} فالمراد بها «ألم تر كذا» ، لكن الحق قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} واستعمال حرف {إِلَى} هنا يشير إلى أمر عجيب قد حدث ومثال ذلك ما نقوله أحيانا: ألم تر إلى زيد يفعل كذا. فكأن ما فعله زيد أمر عجيب، وكأنه ينبه هنا إلى الالتفات إلى نهاية الأمر، لأن «إلى» تفيد الوصول إلى غاية، فكأنها مسألة بلغت الغاية في العجب، فلا تأخذها كأنك رأيتها فقط، ولكن انظر إلى نهايتها فيما حدث. والحق يقول هنا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} و {إِلَى} جاءت هنا لتدل على أنه أمر بلغ من العجب غاية بعيدة، وهو بالفعل قد بلغ من العجب غاية بعيدة، والحق سبحانه وتعالى لم يقل لنا من هو ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم في ربه، لأنه لا يعنينا التشخيص سواءً كان النمروذ أو غيره. فإذا ذهب بعض المفسرون إلى القول: إنه ملك واسمه النمروذ. فإننا نقول لهم شكراً لاجتهادكم، ولكن لو شاء الله تحديد اسم الرجل لحدده لنا، والذي يهمنا هو أنه واحد خرج على رسول الله إبراهيم عليه السلام وجادله في هذه المسألة، والتشخيص هنا ليس ضرورياً، والحق سبحانه وتعالى حينما يريد شيوع الأمر وإمكان حدوثه في أي زمان أو مكان فإن الله لا يشخص الأمر، فأي إنسان في أي مكان قد يحاجج أي مؤمن. وليس كذلك الأمر بالنسبة لأي تشخيص أو تحديد، ومثال ذلك هؤلاء الذين يريدون أن يعرفوا قصة أهل الكهف، ويتساءلون: أين ومتى، وكم عددهم، ومن هم؟ ونقول: لو جاءت واحدة من هؤلاء لفسدت القصة؛ لأنه لو حددنا زمانها سيأتي واحد يقول لك: مثل ذلك الزمان الذي حدثت فيه القصة كان يسمح بها. ولو حددنا المكان سيقول آخر: إن المكان كان يسمح بهذه المسألة. ولو حددنا الأشخاص بأسمائهم فلان وفلان، فسيقول ثالث: إن مثل هذه الشخصيات يمكن أن يصدر منها مثل هذا السلوك وأنَّى لنا بقوة إيمان هؤلاء؟ والحق لم يحدد الزمان والمكان والأشخاص وجاء بها مبهمة ليدل على أن أي فتية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1123 في أي زمان وفي أي مكان يقولون ما يقولون، ولو شخصها في واحد لفسد المراد. للنظر إلى دقة الحق حين ضرب مثلا للذين كفروا بامرأة نوح وامرأة لوط حين قال جل وعلا: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} [التحريم: 10] ولم يحدد لنا اسم امرأة من هاتين المرأتين، بل ذكر الأمر المهم فقط؛ وهو أن كلا منهما زوجة لرسول كريم، ولكن كلا منهما أصرت على الكفر فدخلتا النار. ولكن الحق سبحانه وتعالى حين أراد التخصيص بحادث لن يتكرر في أي زمان أو مكان جاء بذكر السيدة مريم بالتشخيص والتحديد الواضح حين قال: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12] تحديد الحق لمريم بالاسم والحادث لماذا؟ لأن الواقعة غير قابلة للتكرار من أيَّةِ امرأة أخرى. التشخيص هنا واجب؛ لأنه لن تلد امرأة من غير زوج إلا هذه، إنما إذا كانت المسألة ستتكرر في أي زمان أو مكان فهو سبحانه يأتي بوصفها العام، ومثال ذلك قول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إبراهم} فلم يقل لنا: من هو؟ «حاجَّ» أصلها «حاجج» ، مثل «قاتل» و «شارك» . وعندما يكون هناك حرفان مثلان، فنحن نسكن الأول وندغم الثاني فيه وذلك للتخفيف، فتصير (حاج) ، و «حاج» من مادة «فاعل» التي تأتي للمشاركة، وحتى نفهم معنى «المشاركة» . إليكم هذا المثال: نحن نقول: قاتل زيد عَمراً، أو نقول: قاتل عمرو زيداً، ومعنى ذلك أن كُلاًّ منهما قد تقاتل، وكلاهما فاعل ومفعول في الوقت نفسه، لكننا غلبنا جانب الفاعل في واحد، وجانب المفعول في الثاني. برغم أن كلا منهما فاعل ومفعول معا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1124 ومثال آخر، حين نقول: شارك زيد عمراً، وشارك عمرو زيداً، إذن فالمفاعلة جاءت من الاثنين، هذا فاعل وهذا مفعول، لكننا عادة نُغلب الفاعلية فيمن بدأ، والمفعولية في الثاني، وإن كان الثاني فاعلا أيضا. ولذلك يقول الشاعر عندما يريد أن يشرح حال إنسان يمشي في مكان فيه حيات كثيرة ومتحرزاً من أن حية تلدغه فقال: قد سالم الحيات منه القدم ... الأفعوان والشجاع القشعما إن الشاعر هنا يصف لنا إنساناً سار في مكان مليء بالحيات، وعادة ما يخاف الإنسان أن تلدغه حية، لكن هذا الإنسان الموصوف في هذا البيت نجد أن الحيات قد سالمت قدمه، أي لم تلدغه لأنه لم يَهِجْها، والثعابين عادة لا تلدغ إلا من يبدأها بالإهاجة، نجد هنا أن الفاعل هو الحيات؛ لأنها سالمت قدمه. ويصح أيضا أن نقول: إن القدم هي التي سالمت الحيات. ونحن نعرف من قواعد اللغة ما درسناه قديما ما يسمى بالبدل، والبدل يأخذ حكم المبدل منه، فإن كان المبدل منه مجروراً كان البدل كذلك. هنا جاءت «الحيات» في هذا البيت من الشعر مرفوعة ولكن الأفعوانَ جاءت في البيت منصوبة مع أنها بدل من مرفوع هو «الحيات» لأنه لاحظ ما فيها أيضاً من المفعولية فأتى بها منصوبة. كما أن بالإمكان أن تُقرأ «الحيات» بالنصب و «القدم» بالرفع لأن كلا منهما فاعل ومفعول من حيث المسالمة. وكذلك في قول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إبراهم} نحن نلاحظ أن كلمة {إبراهم} تأتي في الآية الكريمة منصوبة بالفتحة، أي يغلب عليها المفعولية. فمن إذن الذي حاجّ إبراهيم؟ إنه شخص ما، وهو الفاعل؛ لأنه الذي بدأ بالمحاجّة، وهكذا تدلنا الآية الكريمة، وتصف الآية ذلك الرجل {أَنْ آتَاهُ الله الملك} أي أن الرجل هو الذي بدأ الحجاج قائلا لإبراهيم: من ربك؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1125 فقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} وهذه هي براعة القرآن في أن يترك الشيء ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى أصله، فقوله الحق: {إِذْ قَالَ إبراهم رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فكأن الذي حاج إبراهيم سأله: من ربك؟ فقال إبراهيم: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} . ولنا أن نلحظ أن هذه الآية قد جاءت بعد قوله الحق في الآية السابقة: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} ، والولاية هي النصر والمحبة والمعونة، فيريد سبحانه أن يبين لنا كيف أعان الله إبراهيم على من حاجه، إلا أن الذي حاج إبراهيم دخل في متاهات السفسطة بعد أن سمع قول إبراهيم: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، وقد جاء الحق ب {يُحْيِي وَيُمِيتُ} ؛ لأن تلك القضية هي التي لم يدَّعِ أحد أنه فعلها، ولم يدَّع أحد أنه شريك فيها، حتى الكافرون إذا سألتهم: من الذي خلق؟ يقولون الله. إذن فهذه قضية ثابتة. إلا أن الخصم الذي حاجّ إبراهيم أراد أن ينقل المحاجة نقلة سفسطائية. والسفسطة كما نعلم هي الكلام الذي يطيل الجدل بلا نهاية. وقال الرجل الذي يحاج إبراهيم عليه السلام: إذا كان ربك الذي يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت. فسأله إبراهيم عليه السلام؛ كيف تحيي أنت وتميت؟ قال الرجل: أنا أقدر أن أقتل ما عندي من مساجين وأقدر ألا أقتلهم، فالذي لم أقتله كأنني أحييته، والذي قتلته فقد أمته. ولم يقل سيدنا إبراهيم لنتفق أولا ما الحياة؟ وما الموت؟ ذلك أن إبراهيم خليل الرحمن لم يشأ أن يطيل هذه المجادلة، فجاء له بأمر يُلجمه من البداية وينتهي الجدل، فقال له: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} . وهكذا أنهى سيدنا إبراهيم هذا الجدل. كان من الممكن أن يدخل معه سيدنا إبراهيم في جدل، ويقول له: ما هي الحياة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1126 ونحن نعرف أن الحياة هي إعطاء المادة ما يجعلها متحركة حساسة مريدة مختارة، أما الموت فهو إخراج الروح من الجسد، فالذي يقتل إنساناً؛ إنما يخرج روحه من جسده، والقتل يختلف عن الموت؛ لأن الموت خروج الروح من الجسد بدون جرح، أو نقض بنية، أو عمل يفعله الإنسان في بدنه كالانتحار. وقد يكون الإنسان جالساً مكانه وينتهي عمره فيموت، ولا أحد قادر قبل ذلك أن يقول له: مت فيموت، هذا هو الموت، لكن إزهاق الروح بجرح جسيم أو نقض بنية فهذا هو القتل وليس الموت، ولذلك يجعل الله القتل مقابلاً للموت، في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين} [آل عمران: 144 - 145] وقد أوضح لنا الله سبحانه وتعالى الفرق بين الموت والقتل، وجعل كلا منهما مقابلاً للآخر، فعندما أشيع أن رسول الله قد قتل، هَمَّ بعض المسلمين بالارتداد إلى الكفر، فأنكر الله عليهم ذلك قائلاً: إن محمداً رسول من عند الله قد مات من قبله المرسلون أفإن مات أو قتل رجعتم عن الإيمان للكفر، ومَنْ يفعل ذلك فإنما يضر نفسه، والثواب عند الله للثابتين على منهج الله الشاكرين لنعمه، أوضح لنا الحق أن موت أي إنسان لا يمكن أن يحدث إلا بإذن الله، وقد كتب الله ذلك في كتاب مشتمل على الآجال. ويريد الله أن يُنبهنا ويُلفتنا إلى حقيقة هامة وهي أن الرسل في جدلهم مع أممهم أو مع المناقشين لهم لا يكون الهدف أنّ النبي يظفر بالغلبة وإنما يكون الهدف بالنسبة للرسول أو النبي أن يصل إلى الحقيقة، ولذلك لم يتوقف إبراهيم عليه السلام مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1127 الرجل الذي يحاجّه في الله عند نقطة الإحياء والإماتة؛ لأنه رأى في مناقشة الرجل لونا من السفسطة. وعلينا ونحن نتدبر آيات القرآن بالخواطر الإيمانية أن نفهم الفرق بين الإماتة والقتل. الصحيح أن الإماتة والقتل يشتركان في أمر واحد وهو خروج الروح من الجسد. والإماتة تختلف عن القتل بأنه لا يقدر عليها إلا واهب الحياة الذي وضع مقومات خاصة في البنية الإنسانية حتى تسكنها الروح، وهو القادر على أن يسلب الروح بأمر غير مُحس. أما القتل فهو أن تجرح إنساناً فيموت، أو تنقض بنيته، تكسر له رأسه مثلاً، أما «الإماتة» فهي أن تنقبض حياته بمجرد الأمر دون أن تقربه، هل أحد من البشر يقدر على هذه؟ لا. إذن فالذي حاج إبراهيم لم يحي الذي قال: إنه سيتركه بدون عقوبة، إنه لم يقتله، لكنه أبقى الحياة التي كانت فيه، هذا إذا أردنا أن ندخل في جدل. والله قد جعل القتل مقابلاً للموت، صحيح أنهما ينتهيان بأن لا روح، لكنْ هناك فرق بين أن تؤخذ الروح بدون هذه الوسائل. وأن تترك الروحُ البدنَ لأن بنيته قد تهدمت. وإياك أن تظن أن الروح لا تخضع لقوانين معينة، إن الروح لا تحل إلا في مادة خاصة، فإذا انتهت المقومات الخاصة في المادية فالروح لا تسكنها، فلا تقل: إنه عندما ضربه على رأسه أماته! لا، هو لم يخرج الروح لأن الروح بمجرد ما انتهت البنية تختفي. والمثال الذي يوضح ذلك: لنفترض أن أمامنا نوراً، إذا كسرت الزجاجة يذهب النور. هل الزجاجة هي النور؟ لا، لكن الكهرباء لا تظهر إلا في هذه الزجاجة، كذلك الروح لا توجد إلا في بنية لها مواصفات خاصة، إذن فالقاتل لا يخرج الروح ولكنه يهدم البنية بأمر محس؛ فالأمر الغيبي وهو الروح لا يسكن في بنية مهدومة. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك} ، انظر إلى الطغيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1128 أتجعل إيتاء الملْكُ وهو نعمة وسيلة إلى التمرد على من أنعم عليك بهذا؟ أتجعل شكر النعمة بأنك تخالف المنعم؟ من الذي أبطره؟ أأبطره أن آتاه الله الملك؟ وكيف يعين الله واحداً ليس مؤمنا به؟ والمُلْكُ بمعنى الأمر والنهي إنما يكون للمبلغ عن الله، إنما الملك الآخر مُلْكُ السلطان بأن يُحَكِّمَ إنسانا على جماعة، فمن الجائز أن يكون مؤمنا، وأن يكون كافراً. وقوله {أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} هو جواب على من قال: «من ربك» فجاءته إجابة إبراهيم عليه السلام {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} وعرفنا ما في هذا الأمر من سفسطة، فلم يقل له إبراهيم: أأنت تُحيي وتميت، بل ينقله إلى أمر آخر، كأنه قد قال له: اترك الأمر الغيبي وهو الروح، وتعالى للأمر المشهود {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} . ولأن الله ولي الذي آمنوا فهو سبحانه لم يلهم المحاج أن يَرُدّ؛ كان يستطيع أن يقول له: اجعل من يأتي بها من المشرق يأتِ بها من المغرب، لكنه لم يقلها {مما يدل على أنه غبي} أو يكون ذكيا فيقول: إن الرب الذي معه بهذا الشكل قد يفعلها، فخاف. إذن ف {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} حقا. وهو سبحانه {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} . وما معنى كلمة «بُهِتَ» ؟ إن البهت يأخذ ثلاث صور: الصورة الأولى: الدهشة؛ نَقَله فيما يمكن أن تحدث فيه مماحكة إلى مالا تحدث فيه مماحكة وجدال، أراد أن يجد أمراً يرد به فلم يقدر، مثلما قال: أنا أحيي وأميت، لقد هش، وأول ما فاجأه هو الدهش، ثم كان التحيّر، أراد أن يجد أي مخرج من هذه الورطة فلم يجد، إذن فقد هُزم. فهذه هي نهاية البَهت. ف «بُهت» تعني أنه دهش أولا، فتحير في أن يرد ثانيا، فكان نتيجة ذلك أنه هُزم ثالثا، وهذا أمر ليس بعجيب؛ لأنه مادام كافراً فليس له ولي، أو وليه من لا يقدر {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} ، أما إبراهيم خليل الرحمن فوليه الله. ويختم الحق الآية بقوله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} لا يهديهم إلى برهان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1129 ولا إلى دليل، ولا إلى حجة، لأن وليهم الشيطان، {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} والآية التي تأتي من بعد ذلك كلها ستتدخل في الحياة والموت، ومن المهم أن الآية تدخل في الحياة والموت كي لا نفهم أن إبراهيم إنما ترك المحاجة مع ذلك الذي حاجّه في أمر الموت والحياة هربا من الكلام فيها، لذلك يريد الله أن يستوفي تلك القضية استيفاء في قصص متعددة، ويبسط الحق القضية التي عدل عنها إبراهيم وهي الموت والحياة فيقول سبحانه: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1130 وعندما ننظر إلى بداية الآية نجدها تبدأ ب «أو» ، وما بعد «أو» يكون معطوفاً على ما قبلها، فكأن الحق يريد أن يقول لنا: أو (أَلَمْ تَرَ) إلى مثل الذي مر على قرية. وعندما تسمع كلمة {قَرْيَةٍ} فإنها تفيد تجمع جماعة من الناس يسكنون في مكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1130 محدود، ونفهم أن الذي مر على هذه القرية ليس من سكانها، إنما هو قد مر عليها سياحة في رحلة. ونلحظ كذلك أن الحق سبحانه لم يشأ أن يأتي لنا باسم القرية أو باسم الذي مر عليها. قال البعض: إنه هو أرمياء بن حلقيا أو هو الخضر، أو هو عزير، وقد قلنا من قبل: إنه إذا أبهم الحق فمعناه: لا تشخص الأمر، فيمكن لأي أحد أن يحدث معه هذا. {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ} . وقالوا: إنها بيت المقدس، {وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} وحتى نفهم معنى خاوية على عروشها، لنا أن نعرف أنني عندما أقول: «أنا خويان» أي «أنا بطني خاوية» : «جوعان» ف «خاوية» المقصود بها أنها قرية خالية من السكان، وقد تكون أبنيتها منصوبة، لكن ليس فيها سكان، والحق بقوله عن تلك القرية: إنها خاوية على عروشها، و «العرش» يطلق على البيت من الخيام، ويطلق كما نعرف على السقف، فإذا قال: {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي أن العرش قد سقط أولا، ثم سقطت الجدران عليه، مثلما نقول في لغتنا العامية: «جاب عاليها على واطيها» . وعندما يمر إنسان على قرية مثل هذه القرية فلا بد أن مشهدها يكون شيئاً لافتا للنظر، قال: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} فكأنه يسأل عن القرية، وعن إماتة وإحياء الناس الذين يسكنون القرية. والحق حين يذكر القرية في القرآن فهو يقصد في بعض الأحيان الحديث عن أهلها مثل قوله تعالى: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82] إن أبناء يعقوب عليه السلام حين عادوا من مصر وتركوا أخاهم الأصغر مع يوسف عليه السلام قالوا لأبيهم: أرسل من يأتيك بشهادة أهل مصر واسأل بنفسك زملاءنا الذين كانوا معنا في القافلة، وسيقولون لك: إننا قد تركنا أخانا بمصر. لكن سؤال الذي مر على القرية الخاوية على عروشها هو سؤال عن أهلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1131 {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} وساعة تسمع {أنى} فهي تأتي مرة بمعنى «كيف» ، ومرة تأتي بمعنى: «من أين» ، والمناسب لها هنا هو أن يكون السؤال كالتالي: «كيف يحيي الله هذه بعد موتها» ؟ وقوله هذا يدل على أنه مؤمن، فهو لا يشك في أن قضية الإحياء من الله، وإنما يريد أن يعرف الكيفية، فكأنه مؤمن بأن الله هو الذي يحيي ويميت، وهذه ستأتي في قصة سيدنا إبراهيم: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260] هو لا يشك في أن الله يُحيي الموتى، إنما يريد أن يرى كيف تتم هذه الحكاية؛ لأن الذي يريد أن يعرف كيفية الشيء، لابد أن متعجب من وجود هذا الشيء، فيتساءل: كيف تم عمل هذا الشيء؟ مثلما نرى الأهرام، ونحن لا نشك أن الأهرام مبنية بهذا الشكل، لكننا نتساءل فقط: كيف بنوها؟ كيف نقلوا الحجارة بضخامتها لأعلى ولم يكن هناك سقالات أو روافع آلية؟ إذن فنحن نتعجب فقط، والتعجب فرع الإيمان بالحدث. والسؤال عن الكيفية معناه التيقن من الحدث، فقول الحق: {أنى يُحْيِي هذه الله} . . يعني: كيف يُحيي الله هذه القرية بعد موتها، فكأن القائل لا يشك في أن الله يُحيي، ولكنه يريد الكيفية، والكيفية ليست مناط إيمان، فالله لم ينهنا عن التعرف عن الكيفية؛ فهو يعلم أننا نؤمن بأنه قادر على إيجاد هذا الحدث. وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى فمُصمم الملابس عندما يقوم بتفصيل أزياء جميلة، أنت تراها، فأنت تتيقن من أنه صانعها، ولكنك تتعجب فقط من دقة الصنعة، وتقول له: بالله كيف عملت هذه؟ كأنك قد عشقت الصنعة! فتشوقت إلى معرفة كيف صارت، فما بالنا بصنعة الحق تبارك وتعالى؟ إنك تندهش وتتعجب لتعيش في ظل السر السائح من الخالق في المخلوق، وتريد أن تنعم بهذه النعم. ومثال آخر ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد أنت ترى مثلا لوحة رسمها رسام، فتقول له: بالله كيف مزجت هذه الألوان؟ أنت لا تشك في أنه قد مزج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1132 الألوان. بل تريد أن تسعد نفسك بأن تعرف كيف رسمها، إذن فقوله وقول إبراهيم بالسؤال في الإحياء والإماتة فيما يأتي ليس معناه أنه غير مؤمن بل هو عاشق ومشتاق لأن يعرف الكيفية؛ ليعيش في جو الإبداع الجمالي الذي أنشأ هذه الصنعة. ونعلم أن إحياء الناس سيترتب عليه إحياء القرية، فالإنسان هو باعث الحركة التي تعمر الوجود، والناس لهم حياة ولهم موت، والقرية بأنقاضها وجدرانها وعروشها لها حياة ولها موت. وعندما سأل العبد هذا السؤال، أراد الله أن تكون الإجابة تجربة معاشة في ذات السائل؛ لذلك يأتي القرآن بالقول {فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ} . إن صاحب السؤال قد أراد أن يعرف الكيفية، وطلبه هو إيمان دليل، ليصبح فيما بعد إيمانا بواقع مشاهد {فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ} لقد جعل الله الأمر والتجربة في السائل ذاته وهذا إخبار الله. لقد أماته مائة عام، والعام هو الحول، وقد سموا «الحول» عاما؛ لأن الشمس تعوم في الفلك كله في هذه المدة، والعوم سَبْحٌ، والحق يقول: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] ولذلك نسميه عاماً. {فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ، فكأن الله قال له كلاماً كما كلم موسى، أو سمع صوتاً أو ملكاً أو أن أحداً من الموجودين رأى التجربة. فالمهم أن هناك سؤالاً وجواباً. ويخبرنا الحق سبحانه بحوار دار في هذا الشأن، السؤال هو: كم لبثت؟ فأجاب الرجل: لبثت يوماً أو بعض يوم. وإجابة الرجل تعني أنه قد تشكك، فقد وجد اليوم قد قارب على الانتهاء أو انتهى، أو أنه عندما رأى الشمس مشرقة أجاب هذه الإجابة: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أو يكون قد قال ذلك؛ لأنه لا يستطيع أن يتحكم في تقدير الزمن. فهل هو صادق في قوله أو كاذب؟ إنه صادق، لأنه لم ير شيئاً قد تغير فيه ليحكم بمقدار التغير، فلو كان قد حلق لحيته مثلاً، وقام بعد ذلك ليجد لحيته قد طالت، أو قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1133 نام بشعر أسود، وقام بعد ذلك بشعر أشيب، فلو حدثت أية تغيرات فيه لكان قد لمسها، لكنه لم يجد تغيراً. فماذا كان جواب الحق؟ قال الحق: {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} . إننا هنا أمام طرفين ويكاد الأمر أن يصبح لغزاً، وطرف يقول: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ورب يقول: {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} . ونريد أن نحل هذا اللغز. إن الحق سبحانه صادق ومُنزّه والعبد المؤمن صادق في حدود ما رأى من أحواله. ونريد دليلا على هذا، ودليلا على ذاك. نريد دليلا على صدق العبد في قوله: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} . ونريد من الحق سبحانه وتعالى دليل اطمئنان لا دليل برهان على أن الرجل قد مات مائة عام وعاد إلى الحياة. ونقول: إن في القصة ما يؤيد {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ، وما يؤيد {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} ، فقد كان مع الرجل حماره، وكان معه طعامه وشرابه من عصير وعنب وتين. فقال الحق سبحانه وتعالى: {لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} ، وأراد أن يدلل على الصدق في القضيتين معاً قال: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} ، ونظر الرجل إلى طعامه وشرابه فوجد الطعام والشراب لم يتغيرا، وهذا دليل على أنه لم يمكث إلا يوما أو بعض يوم، وبذلك ثبت صدق الرجل، بقيت قضية {مِاْئَةَ عَامٍ} . فقال الحق: {وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} وهذا القول يدل على أن هنا شيئا عجيبا، وأراد الله أن يبين له بنظرة إلى الحمار دليلاً على صدق مرور مائة عام، ووجد الرجل حماره وقد تحول عظاماً مبعثرة، ولا يمكن أن يحدث ذلك في زمن قصير، فإن موت الحمار أمر قد يحدث في يوم، لكن أن يرم جسمه، ثم ينتهي لحمه إلى رماد، ثم تبقى العظام مبعثرة، فتلك قضية تريد زماناً طويلاً لا يتسع له إلا مائة عام، فكأن النظر إلى الحمار هو دليل على صدق مرور مائة عام، والنظر إلى الطعام دليل على صدق {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} . فالقضية إذن قضية عجيبة، وكيف طُوي الزمن في مسألة الطعام، وكيف بُسط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1134 الزمن في مسألة الحمار. إنه سبحانه يظهر لنا أنه هو القابض الباسط، فهو الذي يقبض الزمن في حق شيء، ويبسط الزمن في حق شيء آخر، والشيئان متعاصران معا. وتلك العملية لا يمكن أن تكون إلا لقدرة طليقة لا تملكها النواميس الكونية، وإنما هي التي تملك النواميس. وقد قال الحق سبحانه: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} ، فمن هم الناس الذين سيجعل الله من قضية الذي مر على قرية آية لهم؟ كان لابد أن يوجد أناس في القصة، لكن القرية خاوية على عروشها، وليس فيها إنسان أو بنيان، أهم الذين كانوا في القرية أم سواهم؟ قال بعض المفسرين هذا، وقال البعض الآخر الرأي المضاد. وأصدق شيء يمكن أن يتصل بصدق الله في قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} هو قبض الله للزمن في حق شيء، وبسطه في حق شيء آخر، وعزيز كما قال جمهرة العلماء هو الذي مر على قرية، وعزيز هذا كان من الأربعة الذين يحفظون التوراة، فلم يحفظ التوراة إلا أربعة: موسى، وعيسى، وعزير، ويوشع، وقد أراه الله العظام وكيف ينشزها ويرفعها فتلتحم ثم يكسوها لحما، أي أراه عملية الإحياء مشهدياً، وفي هذا إجابة للسؤال: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} ؟ والحق يقول: {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا} و {نُنْشِزُهَا} أي نرفعها، ورأى «عزير» كل عظمة في حماره، وهي ترفع من الأرض، وشاهد كل عظمة تركب مكانها، وبعد تكوين الهيكل العظمي للحمار بدأت رحلة كسوة العظام لحماً، وبعد ذلك تأتي الحياة. لقد وجد عزير إجابة في نفسه، ووجد إجابة في الحمار، ومن بعد ذلك تذكر قريته التي خرج منها، وأراد العودة إليها، فلما عاد إليها وجد أمرها قد تغير بما يتناسب مع مرور مائة عام، وكان في تلك القرية مولاة لهم، أي أمة في أسرته، وكانت هذه الأمة قد عميت وأصبحت مقعدة، فلما دخل وقال: أنا العزير. قالت الأمة: ذهب العزيز من مائة عام ولا ندري أين ذهب ولم يعد؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1135 قال: أنا العزير. قالت: إن للعزير علامة، هذه العلامة أنه مجاب الدعوة، ولم تنس نفسها. قالت: فإن كنت العزير فادع الله أن يرد عليَّ بصري وأن يخرجني من قعودي هذا. فدعا عزير الله فبرئت، فلما برئت؛ نظرت إليه فوجدته هو العزير فذهبت إلى قومها وأعلنت أن العزير قد عاد. وبعد ذلك ذهب العزير إلى ابنه، فوجده رجلا قد تجاوز مائة سنة، وكان العزير لا يزال شابا في سن خمسين سنة. ولذلك ترى الشاعر يقول مُلغزاً: وما ابنٌ رأى أباه وهو في ضعف عمره؟ والمقصود بهذا اللغز هو العزير الذي أماته الله وهو في الخمسين ثم أحياه الله في عمره نفسه بعد مائة عام، والتقى العزير بابنه. قال الابن: كنت اسمع أن لأبي علامة بين كتفيه «شامة» . فلما كشف العزير كتفه لابنه وجد الشامة. وتثبت أهل القرية من صدق عزير: بشيء آخر هو أن (بختنصر) حينما جاء إلى بيت المقدس وخربها حرق التوراة، إلا أن رجلا قال: إن أباه قد دفن في مكان ما نسخة من التوراة، فجاءوا بالنسخة، قال العزير: وأنا أحفظها. وتلا العزير التوراة كما وُجدت في النسخة، فصدق القوم أنه العزير، وتعجب الناس وهم يشاهدون ابنا تخطى المائة وأبا في سن الخمسين. ولذلك يذيل الحق الآية بالقول: {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . ألم يكن قبل ذلك يعلم أن الله على كل شيء قدير؟ نعم كان يعلم علم الاستدلال، وهو الآن يعلم علم المشهد، علم الضرورة، فليس مع العين أين. إذن ف {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هي تأكيد وتعريف بقدرة الله على أن يبسط الزمن ويقبضه، وقدرة الله على الإحياء والإماتة، فصار يعلم حق اليقين بعد أن كان يعلم علم اليقين. وهذه المسألة تفسر ما يقوله العلم الحديث عن تعليق الحياة. ومعنى تعليق الحياة هو يشبه ما تفعله بعض الثعابين عندما تقوم بالبيات الشتوي، أي تنكمش في الشتاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1136 في ذاتها ولا تُبدي حركة، وتظل هكذا إلى أن يذهب الشتاء، ومدة البيات الشتوي لا تحتسب من عمر الثعابين، ولذلك يقال: إن ذلك هو عملية تعليق الحياة. وهذه العملية التي قد نفسر بها مسألة أهل الكهف. فأهل الكهف أيضا مرت عليهم العملية نفسها: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] إنهم لم يروا شيئاً قد تغير فيهم. وبعد ذلك قال الحق سبحانه: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} [الكهف: 25] إن الله حدد الزمن الذي لبثوه، بينما هم قالوا: إن الزمن هو يوم أو بعض يوم. ومعنى ذلك أنهم عندما ناموا هذا اللون من النوم واستيقظوا وجدوا أنفسهم على حالتهم التي كانت قبل هذا اللون من النوم. إذن فقد علق الله حياتهم. ونلاحظ أن كل هذه العملية قد جاءت هنا في قصة العزير بعد آية الكرسي التي تصور العقيدة الإيمانية: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلي العظيم} [البقرة: 255] وتصور قضية الحياة وقضية الموت ونعلم أن إبراهيم حين حاجَّه الرجل وقال له: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1137 {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} نقل إبراهيم الحجة إلى الليل والنهار، وطلب منه أن يعكس آية الليل والنهار، فقال للرجل: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} . وحتى لا يظن أحد أن إبراهيم عليه السلام إنما ترك الكلام عن الإحياء والإماتة فراراً من الجدل. ونقل الأمر إلى الشمس، لكن أراد الله أن يأتي بقصة هذا الإنسان الذي مر على قرية وهي خاوية، فيحدث له كل ما تقدم ليثبت الحق لنا أن قضية الحياة وقضية الموت بيده وحده. وليخرج الحق سبحانه أمر الحياة والموت عن مجال السفسطة الجدلية. وعرفنا أن قبل معنى السفسطة الجدلية حينما تعرضنا لقول الذي حاج إبراهيم في ربه باثنين من المسجونين وقال: أنا أستطيع أن أقتل واحدا، وأن أترك الثاني بلاَ قتل. هذه هي السفسطة: إنه لم يحيي، بل أبقى حياة. وعرفنا أن الإحياء ضد الإماتة؛ لأن الإماتة هي أن تخرج الروح من الجسد بدون جرح، أو نقض بنية، أو عمل يفعله الإنسان في البدن. أما إذا فعل إنسان أي شيء من هذه الأفعال ضد إنسان آخر فلا يقال إنه أماته بل يقال لقد قتله. والموت كما عرفنا غير القتل. وتأتي بعد ذلك قصة لإبراهيم أيضا بعد أن نقل الجدل مع الرجل إلى الشمس، فبهت الرجل الذي كفر، أما إبراهيم عليه السلام فهو يؤمن بقدرة الله، لكنه يريد أن يعرف الكيفية. إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} » . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1138 ونحن المسلمين لم نشك في هذا الأمر. إذن، فإبراهيم عليه السلام لم يشك من باب أولى بدليل منطوق الآية حين قال الحق سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1139 إن إبراهيم عليه السلام يسأل: كيف تُحيي الموتى؟ أي أنه يطلب الحال التي تقع عليها عملية الإحياء. فإبراهيم عليه السلام لا يتكلم في الإحياء، وإنما كان شكه عليه السلام في أن الله سبحانه قد يستجيب لطلبه في أن يريه ويطلعه على كيفية إحياء الموتى؟ ولنضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد والمثل لتقريب المسألة من العقول؛ لأن الله مُنزه عن أي تشبيه. إن الواحد منا يقول للمهندس: كيف بنيت هذا البيت؟ إن صاحب السؤال يشير إلى حدث وإلي مُحْدَث وهو البيت الذي تم بناؤه. فهل معرفة الكيفية تدخل في عقيدة الإيمان؟ لا. ولنعلم أولا ما معنى: عقيدة؟ . إن العقيدة هي: أمر معقود، وإذا كان هذا فكيف يقول: {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ؟ فهل هذا دليل على أن إبراهيم قبل السؤال، وقبل أن يجاب إليه، لم يكن قلبه مطمئناً؟ لا، لقد كان إبراهيم مؤمناً، ولكنه يريد أن يزداد اطمئناناً، لأنه أدار بفكره الكيفية التي تكون عليها عملية الإحياء، لكنه لا يعرف على أية صورة تكون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1139 إذن فالاطمئنان جاء لمراد في كيفية مخصوصة تخرجه من متاهات كيفيات متصورة ومتخيلة، ومادمت تريد الكيفية، وهذه الكيفية لا يمكن أن نشرحها لك بكلام. بل لابد أن تكون تجربة عملية واقعية، {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} . و «صرهن» أي أملهن واضممهن إليك لتتأكد من ذوات الطير، ومن شكل كل طير، حتى لا تتوهم أنه قد جاء لك طير آخر. وقال المفسرون: إن الأربعة من الطير هي: الغراب، الطاووس، الديك، الحمامة، وهكذا كان كل طائر له شكلية مختلفة. {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً} ، فهل أجرى سيدنا إبراهيم هذه العملية أو اكتفى بأن شرح الله له الكيفية؟ إن القرآن لم يتعرض لهذه الحكاية، فإما أن يكون الله قد قال له الكيفية، فإن أراد أن يتأكد منها فليفعل، وإما أنه قد تيقن دون أن يجري تلك العملية. إن القرآن لم يقل لنا هل أجرى سيدنا إبراهيم هذه العملية أم لا؟ والحق يقول مخاطبا إبراهيم بخطوات التجربة: {ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً} وكان المفروض أن يقول: يأتينك طيرانا. فكيف تسعى الطيور؟ إن الطير يطير في السماء وفي الجو. لكن الحق أراد بذلك ألا يدع أي مجال لاختلاط الأمر فقال: «سعيا» أي أن الطير سيأتي أمامه سائرا، لقد نقل الحق الأمر من الطيران إلى السعي كي يتأكد منها سيدنا إبراهيم، إذن فلكي تتأكد يا إبراهيم ويزداد اطمئنانك جئنا بها من طيور مختلفة وأنت الذي قطعتها، وأنت الذي جعلت على كل جبل جزءا، ثم أنت الذي دعوت الطير فجاءتك سعيا. وهنا ملحظية في طلاقة القدرة، وفي الفرق بين القدرة الواجبة لواجب الوجود، وهو الحق سبحانه وتعالى، والقدرة الممنوحة من واجب الوجود وهو الله سبحانه لمنكر واجب الوجود وهو الإنسان، هذا له قدرة، وذاك له قدرة؛ إن قدرة الله هي قدرة واجبة، وقدرة الإنسان هي قدرة ممكنة، وقدرة الله لا ينزعها منه أحد، وقدرة الإنسان ينزعها الله منه؛ فالإنسان من البشر، والبشر تتفاوت قدراتهم؛ فحين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1140 تكون لأحدهم قدرة فهناك آخر لا قدرة له، أي عاجز. ويستطيع القادر من البشر أن يعدي أثر قدرته إلى العاجز؛ فقد يحمل القادر كرسيا ليجلس عليه من لا يقدر على حمله. لكن قدرة الحق تختلف. كأن الحق سبحانه وتعالى يقول: أنا أعدي من قدرتي إلى من لا يقدر فيقدر، أنا أقول للضعيف: كن قادراً، فيكون. وهذا ما نفهمه من قوله سبحانه لإبراهيم: {ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً} . إن إبراهيم كواحد من البشر عاجز عن كيفية الإحياء، ولكن الحق يعطيه القدرة على أن ينادي الطير، فيأتي الطير سعيا. إن الحق يعطي القدرة لإبراهيم أن يدعو الطير فيأتي الطير سعيا. وهذا هو الفرق بين القدرة الواجبة، وبين القدرة الممكنة. إن قدرة الممكن لا يعديها أحدٌ لخالٍ منها، ولكن قدرة وجب الوجود تُعديها إلى من لا يقدر فيقدر، ولذلك يأتي القول الحكيم بخصائص عيسى ابن مريم عليه السلام: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49] إن خصائص عيسى ابن مريم لا تكون إلا بإذن من الله، فقدرة عيسى عليه السلام أن يصنع من الطين ما هو على هيئة الطير، وإذا نفخ فيه بإذن الله لأصبح طيرا، وكذلك إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، إن ذلك كله بإذن ممن؟ بإذن من الله. وكذلك كان الأمر في تجربة سيدنا إبراهيم، لذلك قال له الحق: {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . إن الله عزيز أي لا يغلبه أحد. وهو حكيم أي يضع كل شيء في موقعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1141 وكذلك يبسط الحق قصة الحياة وقصة الموت في تجربة مادية؛ ليطمئن قلب سيدنا إبراهيم، وقد جاءت قصة الحياة والموت؛ لأن الشك عند الذين عاصروا الدعوة المحمدية كان في مسألة البعث من الموت، وكل كلامهم يؤدي إلى ذلك، فهم تعجبوا من حدوث هذا الأمر: {قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] وفي قول آخر: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 79] لقد أمر الحق سبحانه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليجيب على ذلك: قل يا محمد: يحييها الذي أنشأها أول مرة؛ فقد خلقها من عدم ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} [الروم: 27] إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يبدأ الخلق على غير مثال، ثم يعيده بعد الموت، وإعادته أهون عليه من ابتدائه بالنظر إلى مقاييس اعتقاد من يظن أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه؛ فالله له مطلق القدرة في خلقه، وهو الغالب في ملكه، وهو الحكيم في فعله وتقديره. إن الذي يعيد إنما يعيد من موجود، أما الذي بدأ فمن معدوم. فالأهون هو الإعادة، أما الابتداء فهو ابتداء من معدوم، وكلاهما من قدرة الحق سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1142 وتعالى. إن هذه القضية إنما تثبت اليوم الآخر، لأن الإيمان باليوم الآخر هو الميزان العقدي فإن استقر في القلب فالإنسان بكل جوارحه يتجه إلى الأفعال التي تسير على ضوء منهج الله لينال الإنسان الجزاء الأوفى. إن الإنسان حينما يفهم أن هناك حسابا وهناك جزاءً، وهناك بعثا، فهو يعرف أنه لم ينطلق في هذا العالم، ولم يفلت من الإله الواحد القهار، إن للإنسان عودة، فالذي يغتر بما آتاه الله نقول له: لا، إنك لن تفلت من يد الله، بل لك عودة بالموت وعودة بالبعث. وإذا ما استقرت في أذهان المسلمين تلك العودة، فكل إنسان يقيم حسابه على هذه العودة. وبعد أن استقر الأمر في شأن الحياة والموت أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجيء بشيء هو ثمرة الحياة في الكائن الحي وأول مظهر من مظاهر الحياة هو الحس والحركة. والحركة في الوجود أرادها الله للإنسان؛ لأنه وهو الحق قد أراد الإنسان للخلافة في الأرض. والخلافة في الأرض تقتضي أن يعمر الإنسان الأرض، كما قال الله سبحانه وتعالى: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] إن خلافة الإنسان في الأرض تقتضي أن يتحرك ويعمر الأرض. وحين يريد الله منا أن نتحرك ونعمر الأرض فلا بد من أعمال تنظم هذه الحركة، ولا بد من فنون متعددة تقوم على العمارة. ويوزع الله الطاقات الفاعلة لهذه الفنون المتعددة ويجعلها مواهب مفكرة ومخططة في البشر. إن الحق سبحانه لم يجعل من إنسان واحد مجمع مواهب، بل نثر الله المواهب على الخلق، وكل واحد أخذ موهبة ما. لماذا؟ لأن الله قد أراد أن يتكامل العالم ولا يتكرر؛ فالتكامل يوحي بالاندماج فإذا كنت أنت تعرف شيئاً خاضعا لموهبتك، وأنا لا أعرفه فأنا مضطر أن ألتحم بك، وأنا أيضا قد أعرف شيئا وأنت لا تعرفه، لذلك تضطر أنت أن تلتحم بي. وهذا اللون من الالتحام ليس التحام تفضل، إنما هو التحام تعايش ضروري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1143 لكن لو أن كل واحد صار مجمع مواهب، لاستغنى عن غيره من البشر وأقام وحده بمفرده، وينتهي احتياجه للمجتمع الإنساني. فكأن الله حين وزع أسباب الفضل على الخلق يريد منهم أن يتكاملوا ويلتحم بعضهم ببعض لا التحام فضل، ولكن التحام تعايش ضروري؛ لأن واحداً يريد ما ينتجه الآخر بموهبته، والآخر يريد من إنسان غيره ما هو موهوب فيه. ولذلك فالناس بخير ما تباينوا؛ لأن كلا منهم يحتاج إلى الآخر. ولذلك لا نجد أي تقدم في مجتمع إلا إذا كانت المواهب في هذا المجتمع مختلفة ومتآزرة. أما حين يوجد قوم لهم مواهب متحدة فلابد أن يقاتل بعضهم بعضا لكن عندما يكون كل واحد في حاجة لموهبة الآخر، فهم يتعايشون؛ لأن الحياة لا تسير إلا بالكل، ولذلك إذا استوت جماعة في المواهب فلا بد أن يتفانوا لأنهم يتنافسون فيها ويريد كل واحد منهم أن يستأثر بها لنفسه، لكن لا أحد في المواهب المتكاملة يقول: لماذا يكون فلان أفضل مني، لأنه يعرف أنه من الضروري أن يوجد المهندس والطبيب والصانع، ولذلك تجد الوجود منظما بذاته التنظيم الطبيعي الذي يُوجد قاعدة ويُوجد قمة، فالقمة الصغيرة تحملها القاعدة الكبيرة. ولو عكست الهرم لصارت مشكلة؛ لأن الأمر في هذه الحالة سَيَجِّدُ به جوانب كثيرة ليس لها أساس ولا ترتكز على شيء، ولذلك فمن الحكمة إذا رأيت في المجتمع واحداً قد ذهب إلى القمة فأعنه على أن يستمر متفوقا، ولا تصطرع معه فتسقطوا جميعا، فلابد من التفاضل كي ينشأ التكامل. والحق سبحانه وتعالى يعرض لنا هذه القضية عرضا اجتماعيا وعرضا اقتصاديا؛ ليبين لنا أن أصل الوجود يجب أن ينشأ على أمر اجتماعي وأمر اقتصادي، لماذا؟ لأن الإنسان مشغول أولا باستبقاء حياته، ثم باستبقاء نوعه. واستبقاء حياة الإنسان بالقوت، واستبقاء نوعه بالزواج. واستبقاء الحياة بالقوت يحتاج إلى حركة في الحياة، والحق يحترم ثمرتها، وعندما يريد الحق أن يرقق قلب المتحرك على أخيه العاجز فهو يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1144 كما ضربنا المثل من قبل ولله المثل الأعلى وقلنا: إن الإنسان يعطي أولاده مصروفا، وكل واحد منهم يضعه في حصالته، فهب أن واحداً من الأولاد اضطر إلى شيء عاجل كإجراء جراحة، هنا يذهب الرجل إلى أولاده ويقول لهم: أقرضوني ما في حصالاتكم لأن أخاكم يحتاج إلى عملية، وسأرده لكم بعد ذلك مضاعفا. إن الأب لم يرجع في هبته ليقول إن ما في الحصالات هو مالي وسآخذه. لا، هو مالكم، لكنه سيكون دينا عندي. كذلك يصنع الله مع الخلق فيوضح: بعضكم عاجز وبعضكم قادر، وسأتكفل أنا بالعاجز، واقترض من القادر. وكان ضروريا أن يكون بعضنا عاجزاً، حتى لا يظن أحد أن القوة ذاتية في النفس البشرية. لا، إن القوة موهوبة؛ ويستطيع من وهبها أن يسلبها. وحتى يعرف صاحب القوة أن القوة ليست ذاتية فيه، ويجد بجانبه إنساناً آخر عاجزاً. لكن هذا العاجز الذي سيلفت القوي إلى أن القوة ليست ذاتية، ما ذنبه؟ إنّ الله قد جعله وسيلة إيضاح في الكون وكأن الحق يقول: سنضمن لك أيها العاجز المستوى اللائق من الحياة من أثر قدرة القادر، وما دام من أثر قدرة القادر، فهل سيتحرك القادر في الكون على قدر «حاجته» أو على قدر «طاقته» ؟ لابد أن يتحرك على قدر طاقته؛ لأنه لو تحرك على قدر حاجته فلن يجد ما يعطيه للعاجز. ويتكلم الحق سبحانه وتعالى عن تلك القضية المهمة في البناء الاجتماعي والبناء الاقتصادي بعد إثبات قضية البعث والإحياء والإماتة لكي تكون ماثلة أمامنا وينتقل بنا الحق سبحانه وتعالى كي يعطينا الكيان الإسلامي الاقتصادي الاجتماعي فيقول جل شأنه: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1145 إن الله ينسب المال للبشر المتحركين؛ لأنهم أخذوا هذه الأموال بحركتهم. وفي موضع آخر من القرآن يقول الحق: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33] إن المال كله مال الله، وقد أخذه الإنسان بالحركة، فاحترم الله هذه الحركة، واحترم الله في الإنسان قانون النفعية، فجعل المال المتبقي من حركتك ملكا لك أيها الإنسان، لكن إن أراد الله هذا المال فسيأخذه، ومن فضل الله على الإنسان أنه سبحانه حين يطلب من الإنسان بعضا من المال المتبقي من حركته فهو يطلبه كقرض، ويرده مضاعفا بعد ذلك. إذن فالإنفاق في سبيل الله يرده الله مضاعفا، وما دام الله يضاعفه فهو يزيد، لذلك لا تحزن ولا تخف على مالك؛ لأنك أعطيته لمقتدر قادر واسع عليم. إنه الحق الذي يقدر على إعطاء كل واحد حسب ما يريد هو سبحانه؛ إنه يعطي على قدر نية العبد وقدر إنفاقه. وهذه الآية تعالج قضية الشُح في النفس الإنسانية؛ فقد يكون عند الإنسان شيء زائد، وتشح به نفسه ويبخل، فيخاف أن ينفق منه فينقص هذا الشيء. وهنا تقول لك قضية الإيمان: أنفق لأنه سبحانه سيزيدك، والحق سيعطيك مثلما يعطيك من الأرض التي تزرعها. أنت تضع الحبة الواحدة. فهل تعطيك حبة واحدة؟ لا. إن حبة القمح تعطي كمية من العيدان وكل عود فيه سنبلة وهي مشتملة على حبوب كثيرة، فإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تضاعف لك ما تعطيه أفلا يضاعف العطاء لك الذي خلقها؟ وإذا كان بعض من خلق الله يضاعف لك، فما بالك بالله جل وعلا؟ إن الأرض الصماء بعناصرها تعطيك، أئذا ما أخذت كيلة القمح من مخزنك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1146 لتبذرها في الأرض أيقال: إنك أنقصت مخزنك بمقدار كيلة القمح؟ لا؛ لأنك ستزرع بها، وأنت تنتظركم ستأتي من حبوب، وهذه أرض صماء مخلوقة لله، فإذا كان المخلوق لله قد استطاع أن يعطيك بالحبة سبعمائة، ألا يعطيك الذي خلق هذه الأرض أضعاف ذلك؟ إنه كثير العطاء. والحق قد نسب للمنفقين الأموال التي رزقهم الله بها فقال: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} وكلمة {فِي سَبِيلِ الله} كلمة عامة، يصح أن يكون معناها الجهاد، أو مصارف الصدقات؛ لأن كل هذا في سبيل الله؛ لأن الضعيف حين يجد نفسه في مجتمع متكافل، ويجد صاحب القوة قد عدّى من أثر قوته وحركته إليه، أيحقد على ذي القوة؟ لا؛ لأن خيره يأتيه، نضرب المثل في الريف نقول: البهيمة التي تدر لبناً ساعة تسير في الحارة. فالكل كان يدعو الله لها ويقول: «يحميكي» لماذا؟ لأن صاحبها يعطي كل من حوله من لبنها ومن جبنتها ومن سمنها، لذلك يدعو لها الجميع، ولا يربطها صاحبها، ولا يعلفها، ولا ينشغل عليها، والخير القادم منها يذهب إلى كل الأهل، وحين نجد مجتمعاً بهذا الشكل ويجد العاجز من القوي معيناً له، هنا يقول العاجز: إنني في عالم متكامل. وإذا ما وُجد في إنسان قوة وفي آخر ضعف؛ فالضعيف لا يحقد وإنما يقول: إن خير غيري يصلني. وكذلك يطمئن الواهب أنه إن عجز في يوم ما سيجد من يكفله والقدرة أغيار ما دام الإنسان من الأغيار. فقد يكون قويا اليوم ضعيفاً غداً. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} هو قانون يريد به الله أن يحارب الشح في نفس المخلوقين، إنه يقول لكل منا: انظر النظرة الواعية؛ فالأرض لا تنقص من مخزنك حين تعطيها كيلة من القمح! صحيح أنك أنقصت كيلة من مخزنك لتزرعها، ولكنك تتوقع أن تأخذ من الأرض أضعافها. وإياك أن تظن أن ما تعطيه الأرض يكون لك فيه ثقة، وما يعطيه الله لا ثقة لك فيه. {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1147 سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} إن الآية تعالج الشح، وتؤكد أن الصدقة لا تنقص ما عند الإنسان بل ستزيده. وبعد ذلك يقول تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1148 إنها لقطة أخرى يوضح فيها الحق: إياك حين تنفق مالك في سبيل الله وأنت طامع في عطاء الله أن تمن على من تعطيه أو تؤذيه. والمنّ هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه أوجب عليه حقا له وأنه أصبح صاحب فضل عليه، وكما يقولون في الريف (تعاير بها) ، والشاعر يقول: وإنّ امرَأً أسدى إليّ صنيعة ... وذكَّرنيها مَرَّةً للئيم ولذلك فمن الأدب الإيماني في الإنسان أن ينسى أنه أهدى وينسى أنه أنفق، ولا يطلع أحداً من ذويه على إحسانه على الفقير أو تصدقه عليه وخاصة الصغار الذين لا يفهمون منطق الله في الأشياء، فعندما يعرف ابني أنني أعطي لجاري كذا، ربما دلّ ابني وَمَنّ على ابن جاري، ربما أخذه غروره فعيّره هو، ولا يمكن أن يقدر هذا الأمر إلا مُكَلَّفٌ يعرف الحكم بحيثيته من الله. إن الحق يوضح لنا: إياك أن تتبع النفقة منّا أو أذى؛ لأنك إن أتبعتها بالمنّ ماذا يكون الموقف؟ يكرهها المُعْطَى الذي تصدقت بها عليه ويتولد عنده حقد، ويتولد عنده بغض، ولذلك حينما قالوا: «اتق شر من أحسنت إليه» شرحوا ذلك بأن اتقاء شر ذلك الإنسان بألا تذكره بالإحسان، وإياك أن تذكره بالإحسان؛ لأن ذلك يولد عنده حقداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1148 ولذلك تجد كثيرا من الناس يقولون: كم صنعت بفلان وفلان الجميل، هذا كذا وهذا كذا، ثم خرجوا عليّ فانكروه. وأقول لكل من يقول ذلك: ما دمت تتذكر ما أسديته إليهم فمن العدالة من الله أن ينكروه، ولو أنك عاملت الله لما أنكروه، فما دمت لم تعامل الله، فإنك تقابل بنكران ما أنفقت. فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يسخي بالآية الأولى قلب المنفق ليبسط يده بالنفقة، لذلك قال: {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . فالحق سبحانه وتعالى طمأننا في الآية الأولى على أن الصدقة والنفقة لا تنقص المال بل تزيده، وضرب لنا الحق سبحانه المثل بالأرض التي تؤتينا بدل الحبة الواحدة سبعمائة حبة، ثم يوضح الحق لنا أن آفة الإنفاق أن يكون مصحوباً ب «المنّ» أو «الأذى» ؛ لأن ذلك يفسد قضية الاستطراق الصفائي في الضعفاء والعاجزين، ولذلك يقول الحق سبحانه: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 262] انظر إلى الدقة الأدائية في قوله الكريم: {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى} . قد يستقيم الكلام لو جاء كالآتي: «الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى» ، لكن الحق سبحانه قد جاء ب «ثم» هنا؛ لأن لها موقعاً. إن المنفق بالمال قد لا يمن ساعة العطاء، ولكن قد يتأخر المنفق بالمن، فكأن الحق سبحانه وتعالى ينبه كل مؤمن: يجب أن يظل الإنفاق غير مصحوب بالمن وأن يبتعد المنفق عن المن دائماً، فلا يمتنع عن المن فقط وقت العطاء، ولكن لابد أن يستمر عدم المن حتى بعد العطاء وإن طال الزمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1149 إن «ثم» تأتي في هذا المعنى لوجود مسافة زمنية تراخى فيها الإنسان عن فعل المن. فالحق يمنع المن منعاً متصلاً متراخياً، لا ساعة العطاء فحسب، ولكن بعد العطاء أيضاً. وشوقي أمير الشعراء رَحِمَهُ اللَّهُ عندما كتب الشعر في حمل الأثقال وضع أبياتاً من الشعر في مجال حمل الأثقال النفسية، فقال: أحملت دَيْناً في حياتك مرة؟ ... أحملت يوما في الضلوع غليلا؟ أحملت مَنّاً في النهار مُكَرَّرا؟ ... والليلِ مِن مُسْدٍ إليك جميلا؟ وبعد أن عدد شوقي أوجه الأحمال الثقيلة في الحياة قال: تلك الحياة وهذه أثقالها ... وُزِنَ الحديدُ بها فعاد ضئيلا كأن المن إذن عبء نفسي كبير. ويطمئن الحق سبحانه من ينفقون أموالهم دون مَنٍّ ولا أذى في سبيل الله بأن لهم أجراً عند ربهم. وكلمة «الأجر» والإيضاح من عند الرب هي طمأنة إلى أن الأمر قد أحيل إلى موثوق بأدائه، وإلى قادر على هذا الأداء. أما الذي يمن أو يؤذي فقد أخذ أجره بالمن أو الأذى، وليس له أجر عند الله؛ لأن الذي يمن أو يؤذي لم يتصور رَبَّ الضعيف، وإنما تصور الضعيف. والمنفق في سبيل الله حين يتصور رب الضعيف، وأن رب الضعيف هو الذي استدعاه إلى الوجود، وهو الذي أجرى عليه الضعف، فهو يؤمن أن الله هو الكفيل برزق الضعيف، وحين ينفق القوي على الضعيف فإنما يؤدي عن الله، ولذلك نجد في أقوال المقربين: «إننا نضع الصدقة في يد الله قبل أن نضعها في يد الضعيف» ولننظر إلى ما فعلته سيدتنا فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد راحت تجلو الدرهم وتطيبه، فلما قيل لها: ماذا تصنعين؟ قالت: أجلو درهماً وأطيبه لأني نويت أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1150 أتصدق به. فقيل لها: أتتصدقين به مجلواً ومعطراً؟ قالت الزهراء بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لأني أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير. إن الأجر يكون عند من يغليه ويعليه ويرتفع بقيمته وهو الخالق الوهاب. ولنتأمل قول الحق: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لماذا لم يقل الله: ولا خوف منهم؟ . لأن الحق يريد أن يوضح لنا بقوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أن هناك عنصراً ثالثاً سيتدخل. إنه تدخل من شخص قد يظهر للإنسان المنفق أنه محب له، فيقول: ادخر للأيام القادمة، ادخر لأولادك. لمثل هذا العنصر يقول الحق: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي إياك يا صاحب مثل هذا الرأي أن تتدخل باسم الحب، ولتوفر كلامك؛ لأن المنفق في سبيل الله إنما يجد العطاء والحماية من الله. فلا خوف على المنفق في سبيل الله، وليس ذلك فقط، إنما يقول الحق عن المنفقين في سبيل الله دون منٍّ ولا أذى: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ومعناها أنه سوف يأتي في تصرفات الحق معهم ما يفرحهم بأنهم تصدقوا إما بسرعة الخلف عليهم، أو برضى النفس، أو برزق السلب، فآفة الناس أنهم ينظرون إلى رزق الإيجاب دائما، أي أن يقيس البشر الرزق بما يدخل له من مال، ولا يقيسون الأمر برزق السلب، ورزق السلب هو محط البركة. هب أن إنسانا راتبه خمسون جنيها، وبعد ذلك يسلب الله منه مصارف تطلب منه مائة جنيه، كأن يدخل فيجد ولده متعبا وحرارته مرتفعة، فيرزق الله قلب الرجل الاطمئنان، ويطلب من الأم أن تعد كوبا من الشاي للابن ويعطيه قرصا من الأسبرين، وتذهب الوعكة وتنتهي المسألة. ورجل آخر يدخل ويجد ولده متعبا وحرارته مرتفعة، وتستمر الحرارة لأكثر من يوم، فيقذف الله في قلبه الرعب، وتأتي الخيالات والأوهام عن المرض في ذهن الرجل، فيذهب بابنه إلى الطبيب فينفق خمسين أو مائة من الجنيهات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1151 الرجل الأول، أبرأ الله ابنه بقرش. والثاني، أبرأ الله ابنه بجنيهات كثيرة. إن رزق الرجل الأول هو رزق السلب، فكما يرزق الله بالإيجاب، فالله يرزق بالسلب أي يسلب المصرف ويدفع البلاء. وهناك رجل دخله مائة جنيه، ويأتي له الله بمصارف تأخذ مائتين، وهناك رجل دخله خمسون جنيها فيسلب الله عنه مصارف تزيد على مائة جنيه، فأيهما الأفضل. إنه الرجل الذي سلب الله عنه مصارف تزيد على طاقته. إذن فعلى الناس أن تنظر إلى رزق السلب كما تنظر إلى رزق الإيجاب، وقوله الحق عن المنفقين في سبيله دون مَنٍّ أو أذى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} هذا القول دليل على أن الله سيأتي بنتيجة النفقة بدون مَنّ أو أذى بما يفرح له قلب المؤمن، إما بالبركة في الرزق وإمّا بسلب المصارف عنه، فيقول القلب المؤمن: إنها بركة الصدقة التي أعطيتها. إنه قد تصدق بشيء فرفع وصرف عنه الله شيئا ضارا، فيفرح بذلك القلب المؤمن. وبعد ذلك ينبهنا الحق سبحانه وتعالى إلى قضية مهمة هي: إن لم تَجُد أيها المؤمن بمالك فأحسن بمقالك، فإن لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بحسن الرد، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة» . والحق سبحانه وتعالى يحدد القضية في هذه الآية: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1152 ما معنى {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ؟ إننا في العادة نجد أن المعروف مقابل للمنكر، كأن الأمر الخَيِّر أمر متعارف عليه بالسجية، وكأن المتعارف عليه دائما من جنس الجمال ومن جنس الخير، أما الأمر الذي تنكره النفس فمن جنس الشر وجنس القبح. ولذلك يقول الحق: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} فكأن من شأن الجمال ومن شأن الحسن أن يكون معروفا، ومن شأن النقيض أن يكون منكرا، إذن فالقول المعروف هو أن ترد السائل الرد الجميل بحيث لا تمتلئ نفسه بالحفيظة عليك، وبحيث لا توبخه لأنّه سألك، وإذا كان السائل قد تجهم عليك تجهم المحتاج فاغفر له ذلك، لماذا؟ لأن هناك إنسانا تلهب ظهره سياط الحاجة، ويراك أهلا لغنى أو ليسار أو جدة وسعة من المال، وقد يزيد بالقول واللسان قليلاً عليك، وربما تجاوز أدب الحديث معك، فعليك أن تتحمله. وإذا كنت أنت أيها العبد تصنع المعاصي التي تغضب الله، ويحلم الحق عليك ويغفرها لك ولا يعذبك بها، فإذا ما صنع إنسان معك شيئا فكن أيضا صاحب قول معروف ومغفرة وحلم؛ إن الحق سبحانه يقول لنا: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} ؟ إننا جميعا نحب أن يغفر الله لنا، ولذلك يجب أن نغفر لغيرنا وخصوصا للمحتاج. والحق حين يقول: {والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ} ففي ذلك تنبيه للقادر الذي حرم الفقير، وكأنه يقول له: إنما حرمت نفسك أيها القادر من أجر الله. إنك أيها القادر حين تحرم فقيراً، فأنت المحروم؛ لأن الله غني عنك، وهو سبحانه يقول: {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] إن الله غني بقدرته المطلقة، غني وقادر أن يستبدل بالقوم البخلاء قوما يسخون بما أفاء الله عليهم من رزق في سبيل الله. فالذي يمسك عن العطاء إنما منع عن نفسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1153 باب رحمة. ولذلك يقول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1154 فالذي يتصدق ويتبع صدقته بالمن والأذى، إنما يُبطل صدقته، وخسارته تكون خسارتين: الخسارة الأولى أنه أنقص ماله بالفعل؛ لأن الله لن يعوض عليه؛ لأنه أتبع الصدقة بما يبطلها من المن والأذى، والخسارة الأخرى هي الحرمان من الثواب؛ فالذي ينفق ليقول الناس عنه إنه ينفق، عليه أن يعرف أن الحق يوضح لنا: أنه يعطي الأجر على قاعدة أن الذي يدفع الأجر هو من عملت له العمل. إن الإنسان على محدودية قدرته يعطي الأجر لمن عمل له عملا، والذي يعمل من أجل أن يقول الناس إنه عمل، فليأخذ أجره من القدرة المحدودة للبشر، ولذلك قال لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الذي يفعل الحسنة أو الصدقة ليقال عنه إنه فعل، فإنه يأتي يوم القيامة ولا يجد أجرا له. وقد جاء في الحديث الشريف: «ورجل آتاه الله من أنواع المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها؟ قال: ما تركت من شيء تجب أن أنفق فيه إلاّ أنفقت فيه لك، قال: كذبت إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1154 أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل، فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار» . إياك إذن أن تقول: أنا أنفقت ولم يوسع الله رزقي؛ لأن الله قد يبتليك ويمتحنك، فلا تفعل الصدقة من أجل توسيع الرزق، فعطاء الله للمؤمن ليس في الدنيا فقط، ولكن الله قد يريد ألا يعطيك في الفانية وأبقى لك العطاء في الباقية وهي الآخرة. وهو خير وأبقى. والحق يقول: {وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} والصفوان هو الحجر الأملس، ويُسمى المروة والذي نسميه بالعامية «الزلطة» . ويقال للأصلع «صفوان» ، أي رأسه أملس كالمروة. والشيء الأملس هو الذي لا مسام له يمكن أن تدركها العين المدركة، إنما يدرك الإنسان هذه المسام بوضع الحجر تحت المجهر. وعندما يكون الشيء ناعما قد يأتي عليه تراب، ثم يأتي المطر فينزل على التراب وينزلق التراب من على الشيء الأملس، ولو كان بالحجر بعض من الخشونة، لبقى شيء من التراب بين النتوءات، فالذي ينفق ماله رئاء الناس، كالصفوان يتراكم عليه التراب، وينزل المطر على التراب فيزيله كلّه فيصير الأمر: {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} أي فقدوا القدرة على امتلاك أي شيء؛ لأن الله جعل ما لهم من عمل هباء منثوراً. وهؤلاء كالحجر الصفوان الذي عليه تراب فنزل عليه وابل. . أي مطر شديد فتركه صلدا. . تلك هي صفات من قصدوا بالإنفاق رئاء الناس، فيبطل الله جزاءهم؛ لأن الله لا يوفقهم إلى الخير والثواب. ويأتي الله بالمقابل، وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله فيقول: {وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1155 إن ابتغاء مرضاة الله في الإنفاق تعني خروج الرياء من دائرة الإنفاق، فيكون خالصا لوجهه سبحانه وأما التثبيت من أنفسهم، فهو لأنفسهم أيضا. فكأن النفس الإيمانية تتصادم مع النفس الشهوانية، فعندما تطلب النفس الإيمانية أي شيء فإن النفس الشهوانية تحاول أن تمنعها. وتتغلب النفس الإيمانية على النفس الشهوانية وتنتصر لله. والمراد ب {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} هو أن يتثبت المؤمن على أن يحب نفسه حبا أعمق لا حبا أحمق. إذن فعملية الإنفاق يجب أن تكون أولا إنفاقا في سبيل الله، وتكون بتثبيت النفس بأن وهب المؤمن أولا دمه، وثبت نفسه ثانيا بأن وهب ماله، وهكذا يتأكد التثبيت فيكون كما تصوره الآية الكريمة: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265] والجنة كما عرفنا تُطلق في اللغة على المكان الذي يوجد به زرع كثيف أخضر لدرجة أنه يستر من يدخله. ومنها «جن» أي «ستر» ، ومن يدخل هذه الجنة يكون مستوراً. إن الحق يريد أن يضرب لنا المثل الذي يوضح الصنف الثاني من المنفقين في سبيل الله ابتغاء مرضاته وتثبيتا من أنفسهم الإيمانية ضد النفس الشهوانية، فيكون الواحد منهم كمن دخل جنة كثيفة الزرع، وهذه الجنة توجد بربوة عالية، وعندما تكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1156 الجنة بربوة عالية فمعنى ذلك أنها محاطة بأمكنة وطيئة ومنخفضة عنها، فماذا يفعل المطر بهذه الجنة التي توجد على ربوة؟ وقد أخبرنا الحق بما يحدث لمثل هذه الجنة قبل أن يتقدم العلم الحديث ويكتشف آثار المياه الجوفية على الزراعة. فهذه الجنة التي بربوة لا تعاني مما تعاني منه الأرض المستوية، ففي الأرض المستوية قد توجد المياه الجوفية التي تذهب إلى جذور النبات الشعرية وتفسدها بالعطن، فلا تستطيع هذه الجذور أن تمتص الغذاء اللازم للنبات، فيشحب النبات بالاصفرار أولا ثم يموت بعد ذلك، إنّ الجنة التي بربوة تستقبل المياه التي تنزل عليها من المطر، وتكون لها مصارف من جميع الجهات الوطيئة التي حولها، وترتوي هذه الجنة بأحدث ما توصل إليه العلم من وسائل الري، إنها تأخذ المياه من أعلى، أي من المطر، فتنزل المياه على الأوراق لتؤدي وظيفة أولى وهي غسل الأوراق. إن أوراق النبات كما نعلم مثل الرئة بالنسبة للإنسان مهمتها التنفس، فإذا ما نزل عليها ماء المطر فهو يغسل هذه الأوراق مما يجعلها تؤدي دورها فيما نُسميه نحن في العصر الحديث بالتمثيل الكلوروفيلي. وبعد ذلك تنزل المياه إلى الجذور لتذيب العناصر اللازمة في التربة لغذاء النبات، فتأخذ الجذور حاجتها من الغذاء المذاب في الماء، وينزل الماء الزائد عن ذلك في المصارف المنخفضة. وهذه أحدث وسائل الزراعة الحديثة، واكتشفوا أن المحصول يتضاعف بها. إن الحق يخبرنا أن من ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل هذه الجنة التي تروى بأسلوب رباني، فإن نزل عليها وابل من المطر، أخذت منه حاجتها وانصرف باقي المطر عنها، {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} ؛ والطلُّ وهو المطر والرذاذ الخفيف يكفيها لتؤتي ضعفين من نتاجها. وإذا كان الضعف هو ما يساوي الشيء مرتين، فالضعفان يساويان الشيء أربع مرات. والله يضرب لنا مثلا ليزيد به الإيضاح لحالة من ينفق ماله رئاء الناس فيسأل عباده المؤمنين وهو أعلم بهم فيقول جل شأنه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1157 {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1158 إن الحق سبحانه يشركنا في الصورة كأنه يريد أن يأخذ منا الشهادة الواضحة. فهل يود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات. ونعلم أن النخيل والأعناب هما من أهم ثمار نَتاج المجتمع الذي نزل به القرآن الكريم. ونعرف أن هناك حدائق فيها نخيل وأعناب، ويضيف إليها صاحبها أشجاراً من الخوخ وأشجاراً من الفواكة الأخرى. ولذلك يقول الحق في أصحاب الجنة: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 32 - 36] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1158 كأن الجنتين هنا فيهما أشياء كثيرة، فيهما أعناب، وزادهما الله عطاء النخيل، ثم الزرع، وهذا يسمى في اللغة عطف العام على الخاص، أو عطف الخاص على العام، ليذكر الشيء مرتين، مرة بخصوصه، ومرة في عموم غيره. وعندما يتحدث الحق سبحانه عن جنة الآخرة فإنه يقول مرة: {أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 89] لقد هيأ الله للمؤمنين به، المقاتلين في سبيل نصرة دينه وإعلاء كلمته جنات تتخللها الأنهار، وذلك هو الفوز والنجاح الكبير. ومرة أخرى يتحدث الحق عن جنة الآخرة بقوله: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 100] إن الحديث عن الأنهار التي تجري تحت الجنة يأتي مرة مسبوقا ب «مِن» . ومرة أخرى غير مسبوق ب «مِن» . فعندما يأتي الحديث عن تلك الأنهار التي تحت الجنة مسبوقا ب «مِن» فإن ذلك يوحي أن نبعها ذاتي فيها والمائية مملوكة لها. وعندما يأتي الحديث عن تلك الأنهار التي تجري تحت الجنة مسبوق ب «مِن» ، فمعنى ذلك أن نبع هذه الأنهار غير ذاتي فيها، ولكنه يجري تحتها بإرادة الله فلا يجرؤ أحد أن يمنع الماء عن هذه الجنة التي أعدها الله للمؤمنين. وعندما يشركنا الحق في التساؤل: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَأَصَابَهُ الكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1159 كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266] إن الجنة التي بهذه الصفة وفيها الخير الكثير، لكن صاحبها يصيبه الكبر، ولم تعد في صحته فتوة الشباب، إنه محاط بالخير وهو أحوج ما يكون إلى ذلك الخير؛ لأنه أصبح في الكبر وليس له طاقة يعمل بها، وهكذا تكون نفسه معلقة بعطاء هذه الجنة، لا لنفسه فقط ولكن لذريته من الضعفاء. وهذه قمة التصوير للاحتياج للخير، لا للنفس فقط ولكن للأبناء الضعفاء أيضا. إننا أمام رجل محاط بثلاثة ظروف. الظرف الأول: هو الجنة التي فيها من كل خير. والظرف الثاني: هو الكبر والضعف والعجز عن العمل. والظرف الثالث: هو الذرية من الضعفاء. فيطيح بهذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت، فأي حسرة يكون فيها الرجل؟ إنها حسرة شديدة. كذلك تكون حسرة من يفعل الخير رئاء الناس. والإعصار كما نعرف هو الريح الشديد المصحوبة برعد وبرق ومطر وقد يكون فيه نار، هذا إذا كانت الشحنات الكهربائية ناتجة من تصادم السحب أو حاملة لقذائف نارية من بركان ثائر. هكذا يكون حال من ينفق ماله رئاء الناس. ابتداء مطمع وانتهاء موئس أي ميئوس منه. إذن فكل إنسان مؤمن عليه أن يتذكر ساعة أن ينفق هذا الابتلاء المثير للطمع، وذلك الانتهاء المليء باليأس. إنها الفجيعة الشديدة. ويصورها الشاعر بقوله: فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع ويقول آخر: كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1160 إن الذي يرائي يخسر كل حاجاته، ولا يقدر على شيء مما كسب. ويقول الحق من بعد ذلك: {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1161 إن هذه الآية تعطي صورا تحدث في المجتمع البشري. وكانت هذه الصور تحدث في مجتمع المدينة بعد أن أسس فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دولة الإسلام. فبعض من الناس كانوا يحضرون العِذق من النخل ويعلقه في المسجد من أجل أن يأكل منه من يريد، والعِذق هو فرع قوي من النخل يضم الكثير من الفروع الصغيرة المعلقة عليها ثمار البلح. وكان بعضهم يأتي بعذق غير ناضج أو بالحَشَف الصغيرة المعلقة عليها ثمار البلح. وكان بعضهم يأتي بعذق غير ناضج أو بالحشف وهو أردأ التمر، فأراد الله أن يجنبهم هذا الموقف، حتى لا يجعلوا لله ما يكرهون، فأنزل هذا القول الحكيم: {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . إن الإنفاق يجب أن يكون من الكسب الطيب الحلال، فلا تأتي بمال من مصدر غير حلال لتنفق منه على أوجه الخير. فالله طيب لا يقبل إلا طيبا. ولا يكون الإنفاق من رُذَال وردِيء المال. ويحدد الحق سبحانه وتعالى وسيلة الإنفاق من عطائه فيقول: {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} وهو سبحانه يذكرنا دائما حين يقول: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} ألا نظن الكسب هو الأصل في الرزق. لا، إن الكسب هو حركة موهوبة لك من الله. إنك أيها العبد إنما تتحرك بطاقة موهوبة لك من الله، وبفكر ممنوح لك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1161 الله، وفي أرض سخرها لك الله، إنها الأدوات المتعددة التي خصك بها الله وليس فيها ما تملكه أنت من ذاتيتك. ولكن الحق يحترم حركة الإنسان وسعيه إلى الرزق فيقول: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . ويحذرنا الحق من أن نختار الخبيث وغير الصالح من نتاج عملنا لننفق منه بقوله سبحانه: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي لا يصح ولا يليق أن نأخذ لأنفسنا طيبات الكسب ونعطي الله رديء الكسب وخبيثه؛ لأن الواحد منا لا يرضى لنفسه أن يأخذ لطعامه أو لعياله هذا الخبيث غير الصالح لننفق منه أو لنأكله. {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي أنك أيها العبد المؤمن لن ترضى لنفسك أن تأكل من الخبيث إلا إذا أغمضت عينيك، أو تم تنزيل سعره لك؛ كأن يعرض عليك البائع شيئا متوسط الجودة أو شيئا رديئاً بسعر يقل عن سعر الجيد. لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا بهذه الصور أوجه الإنفاق: إن النفقة لا تنقص المال وإنما تزيده سبعمائة مرة. إن النفقة لا يصح أن يبطلها الإنسان بالمن والأذى. إن القول المعروف خير من الصدقة المتبوعة بالمن أو الأذى. إن الإنفاق لا يكون رئاء الناس إنما يكون ابتغاءً لمرضاة الله. هذه الآيات الكريمة تعالج آفات الإنفاق سواءً آفة الشح أو آفة المن أو الأذى، أو الإنفاق من أجل التظاهر أمام الناس، أو الإنفاق من رديء المال. وبعد ذلك يقول سبحانه: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1162 إن الشيطان قد يوسوس لكم بأن الإنفاق إفقار لكم، ويحاول أن يصرفكم عن الإنفاق في وجوه الخير، ويغريكم بالمعاصي والفحشاء، فالْغَنِيُّ حين يقبض يده عن المحتاج فإنه يُدْخِل في قلب المحتاج الحقد. وأي مجتمع يدخل في قلبه الحقد نجد كل المنكرات تنتشر فيه. ويعالج الحق هذه المسائل بقوله: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36 - 37] إن الحق سبحانه وتعالى لا يسألك أن ترد عطاءه لك من المال، إنما يطلب الحق تطهير المال بالإنفاق منه في سبيل الله ليزيد ولينمو، وليخرج الضغن من المجتمع؛ لأن الضغن حين يدخل مجتمعا فعلى هذا المجتمع السلام. ولا يُفيق المجتمع من هذا الضغن إلا بأن تأتيه ضربة قوية تزلزله، فينتبه إلى ضرورة إخراج الضغن منه لذلك يحذرنا الله أن نسمع للشيطان: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268] فالذي يسمع لقول الشيطان ووعده، ولا يستمع إلى وعد الله يصبح كمن رجّح عدو الله على الله أعاذنا الله وإياكم من مثل هذا الموقف إن الشيطان قد وسوس لكم بالفقر إذا أنفقتم، وخبرة الإنسان مع الشيطان تؤكد للإنسان أن الشيطان كاذب مضلل، وخبرة الإنسان مع الإيمان بالله تؤكد للإنسان أن الله واسع المغفرة، كثير العطاء لعباده. والحكمة تقتضي أن نعرف إلى أي الطرق نهتدي ونسير. وبعد ذلك يقول الحق: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1163 فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1164 والحكمة هي وضع الشيء في موضعه النافع. فكأن الحق يقول: كل ما أمرتكم به هو عين الحكمة؛ لأني أريد أن أُؤَمِّنَ حياتكم الدنيا فيمن تتركون من الذرية الضعفاء، وأُؤَمِّنَ لكم سعادة الآخرة. فإن صنع العبد المؤمن ما يأمر به الله فهذا وضع الأشياء في موضعها وهو أخذ بالحكمة. وقد أراد الحق أن يعلم الإنسان من خلال عاطفته على أولاده، لأن الإنسان قد تمر عليه فترة يهون فيها عنده أمر نفسه، ولا ينشغل إلا بأمر أولاده، فقد يجوع من أجل أن يشبع الأولاد، وقد يعرى من أجل أن يكسوهم. ولنا المثل الواضح في سيدنا إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، لقد ابتلاه ربه في بداية حياته بالإحراق في النار، ولأن إبراهيم قوى الإيمان فقد جعل الله النار برداً وسلاماً . وابتلاه الله في آخر حياته برؤيا ذبح ابنه، ولأن إبراهيم عظيم الإيمان فقد امتثل لأمر الرحمن الذي افتدى إسماعيل بكبش عظيم. والإنسان في العمر المتأخر يكون تعلقه بأبنائه أكبر من تعلقه بنفسه. وهكذا كان الترقي في ابتلاء الله لسيدنا إبراهيم عليه السلام، ولذلك أراد الله أن يضرب للبشر على هذا الوتر وقال: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] إن الحق سبحانه يريد من عباده أن يؤمّنوا على أولادهم بالعمل الصالح والقول السديد. ومثال آخر حين أراد الحق أن يحمي مال اليتامى، وأعلمنا بدخول موسى عليه السلام مع العبد الصالح الذي أوتى العلم من الله، يقول سبحانه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1164 {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77] كان موسى عليه السلام لا يعلم علم العبد الصالح من أن الجدار كان تحته كنز ليتيمين، كان أبوهما رجلاً صالحا، وأهل هذه القرية لئام، فقد رفضوا أن يطعموا العبد الصالح وموسى عليه السلام، لذلك كان من الضروري إقامة الجدار حتى لا ينكشف الكنز في قرية من اللئام ويستولوا عليه ولا يأخذ الغلامان كنز أبيهما الذي كان رجلاً صالحاً. إذن فالحق سبحانه يعلمنا أن نُؤَمِنَ على أبنائنا بالعمل الصالح، وهذه هي الحكمة عينها التي لا يصل إليها أصحاب العقول القادرة على الوصول إلى عمق التفكير السديد. وسيدنا الحسن البصري يعطينا المثل في العمل الصالح عندما يقول لمن يدخل عليه طالبا حاجة: مرحباً بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة. إن سيدنا الحسن البصري قد أوتي من الحكمة ما يجعله لا ينظر إلى الخير بمقدار زمنه، ولكن بمقدار ما يعود عليه بعد الزمن. وقد ضربت من قبل المثل بالتلميذ الذي يَجِدُّ ويتعب في دروسه ليحصل على النجاح، بينما أخوه يحب لنفسه الراحة والكسل. ثم نجد التلميذ الذي يتعب هو الذي يرتقي في المجتمع، بينما الذي ارتضى لنفسه الكسل يصير صعلوكاً في المجتمع. وبعد ذلك يقول سبحانه: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1165 يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1166 وقد عرفنا النفقة من قبل، فما هي مسألة النذر؟ . إن النذر هو أن تُلزم نفسك بشيء من جنس ما شرع الله فوق ما أوجب الله. فإذا نذرت أن تصلي لله كل ليلة عددا من الركعات فهذا نذر من جنس ما شرع الله؛ لأن الله قد شرع الصلاة وفرضها خمسة فروض، فإن نذرت فوق ما فرضه الله فهذا هو النذر. ويقال في الذي ينذر شيئا من جنس ما شرع الله فوق ما فرضه الله: إن هذا دليل على أن العبادة قد حَلَتَ له، فأحبها وعشقها، ودليل على أنه قارب أن يعرف قدر ربه؛ وأن ربه يستحق منه فوق ما افترضه عليه، فكأن الله في افتراضه كان رحيماً بنا، لأنه لو فرض ما يستحقه منا لما استطاع واحد أن يفي بحق الله. إذن فعندما تنذر أيها العبد المؤمن نذراً، فإنك تُلزم نفسك بشيء من جنس ما شرع الله لك فوق ما فرض الله عليك. وأنت مخير أن تقبل على نذر ما، أو لا تقبل. لكن إن نطقت بنذر فقد لزم. لماذا؟ لأنك ألزمت نفسك به. ولذلك فمن التعقل ألا يورط الإنسان نفسه ويسرف في النذر، لأنه في ساعة الأداء قد لا يقدر عليه. وأهل القرب من الله يقولون لمن يخل بالنذر بعد أن نذر: هل جربت ربك فلم تجده أهلاً لاستمرار الود. وليس فينا من يجرؤ على ذلك؛ لأن الله أهل لعميق الود. ولهذا فمن الأفضل أن يتريث الإنسان قبل أن ينذر شيئا. ونقف الآن عند تذييل الآية: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . إن الظالمين هم من ظلموا أنفسهم؛ لأن الحق عرفنا أن ظلم الإنسان إنما يكون لنفسه، وقال لنا: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] ومن أشد الظلم للنفس الإنفاق رياءً، أو الإنفاق في المعاصي، أو عدم الوفاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1166 بالنذر، فليس لمن يفعل ذلك أعوان يدفعون عنه عذاب الله في الآخرة. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1167 فإن أظهرتم الصدقة فنعم ما تفعلون؛ لتكونوا قدوة لغيركم، ولتردوا الضغن عن المجتمع. وإن أخفيتم الصدقة وأعطيتموها الفقراء فإن الله يكفر عنكم بذلك من سيئاتكم، والله خبير بالنية وراء إعلان الصدقة ووراء إخفاء الصدقة. والتذييل في هذه الآية الكريمة يخدم قضية إبداء الصدقة وقضية إخفاء الصدقة، فالحق خبير بنية من أبدى الصدقة، فإن كان غنياً فعليه أن يبدي الصدقة حتى يحمي عرضه من وقوع الناس فيه؛ لأن الناس حين يعلمون بالغني فلا بد أن يعلموا بإنفاق الغني، وإلا فقد يحسب الناس على الغني عطاء الله له، ولا يحسبون له النفقة في سبيل الله. لماذا؟ لأن الله يريد أن يحمي أعراض الناس من الناس. أما إن كان الإنسان غير ظاهر الغنى فمن المستحسن أن يخفي الصدقة. وإن ظهرت الصدقة كما قلت ليتأسى الناس بك، وليس في ذهنك الرياء فهذا أيضا مطلوب. والحق يقول: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي أن الله يجازي على قدر نية العبد في الإبداء أو في الإخفاء. إنه باستقراء الآيات التي تعرضت للإنفاق نجده سبحانه يسد أمام النفس البشرية كل منافذة الشُح، ويقطع عنها كل سبيل تحدثه به إذا ما أرادت أن تبخل بما أعطاها الله، والخالق الذي وهب للمخلوق ما وهبه يطلب منه الإنفاق، وإذا نظرنا إلى الأمر في عرف المنطق وجدناه أمراً طبيعيا؛ لأن الله لا يسأل خلقه النفقة مما خَلَقُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1167 ولكنه يسألهم النفقة مما خلقه لهم. إن الإنسان في هذا الكون حين يُطلب إيمانياً منه أن ينفق فلازم ذلك أن يكون عنده ما ينفقه، ولا يمكن أن يكون عنده ما ينفقه إلا إذا كان مالكاً لشيء زاد على حاجته وحاجة من يعوله، وذلك لا يتأتى إلا بحصيلة العمل. إذن فأمر الله للمؤمن بالنفقة يقتضي أن يأمره أولاً بأن يعمل على قدر طاقته لا على قدر حاجته، فلو عمل كل إنسان من القادرين على قدر حاجته، فكيف توجد مقومات الحياة لمن لا يقدر على العمل؟ . إذن فالحق يريد منا أن نعمل على قدر طاقتنا في العمل لنعول أنفسنا ولنعول من في ولايتنا، فإذا ما زاد شيء على ذلك وهبناه لمن لا يقدر على العمل. ولقائل أن يقول: إذا كان الله قد أراد أن يحنن قلوب المنفقين على العاجزين فلماذا لم يجعل العاجزين قادرين على أن يعملوا هم أيضاً؟ نقول لصاحب هذا القول: إن الحق حين يخلق. . يخلق كوناً متكاملاً منسجماً دانت له الأسباب، فربما أطغاه أن الأسباب تخضع له، فقد يظن أنه أصبح خالقاً لكل شيء، فحين تستجيب له الأرض إن حرث وزرع، وحين يستجيب الماء له إن أدلى دلوه، وحين تستجيب له كل الأسباب، ربما ظن نفسه أصيلاً في الكون. فيشاء الله أن يجعل القوة التي تفعل في الأسباب لتنتج، يشاء سبحانه أن يجعلها عرضاً من أعراض هذا الكون، ولا يجعلها لازمة من لوازم الإنسان، فمرة تجده قادراً، ومرة تجده عاجزاً. فلو أنه كان بذاتيته قادراً لما وُجَدَ عَاجزٌ. إذن فوجود العاجزين عن الحركة في الحياة لفت للناس على أنهم ليسوا أصلاء في الكون، وأن الذي وهبهم القدرة يستطيع أن يسلبهم إياها ليعيدها إلى سواهم، فيصبح العاجز بالأمس قادراً اليوم، ويصبح القادر بالأمس عاجزاً اليوم وبذلك يظل الإنسان منتبهاً إلى القوة الواهبة التي استخلفته في الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1168 ولذلك كان الفارق بين المؤمن والكافر في حركة الحياة أنهما يجتمعان في شيء، ثم ينفرد المؤمن في شيء، يجتمعان في أن كل واحد من المؤمنين ومن الكافرين يعمل في أسباب الحياة لينتج ما يقوته ويقوت من يعول، ذلك قدر مشترك بين المؤمن والكافر. والكافر يقتصر على هذا السبب في العمل فيعمل لنفسه ولمن يعول. ولكن المؤمن يشترك معه في ذلك ويزيد أنه يعمل لشيء آخر هو: أن يفيض عنه شيء يمكن أن يتوجه به إلى غير القادر على العمل. محتسبا ذلك عند الله. ولذلك قلنا سابقا: إن الحق سبحانه حينما تكلم عن الزكاة تكلم عنها مرة مطلوبة أداء، وتكلم عنها مرة أخرى مطلوبة غاية فقال: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} . ولم يقل للزكاة مؤدون، فالمؤمنون لا يعلمون لقصد الزكاة إلا إن عملوا عملا على قدر طاقاتهم ليقوتهم وليقوت من يعولهم، ثم يفيض منهم شيء يؤدون عنه الزكاة. والحق سبحانه وتعالى في أمر الزكاة: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110] إذن فحصيلة الأمر أن الزكاة مقصودة لهم حين يقبلون على أي عمل. لقد صارت الزكاة بذلك الأمر الإلهي مطلوبة غاية، فهي أحد أركان الإسلام وبذلك يتميز المؤمن على الكافر. والحق سبحانه وتعالى حين تعرض لمنابع الشُح في النفس البشرية أوضح: أن أول شيء تتعرض له النفس البشرية أن الإنسان يخاف من النفقة لأنها تنقص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1169 ما عنده، وقد حذر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الشح في قوله: «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . هي كذلك، ولكن الحق سبحانه أوضح لكل مؤمن: أنها تنقص ما عندك، ولكنها تزيدك مما عند الله؛ فهي إن أنقصت ثمرة فعلك فقد أكملتك بفعل الله لك. وحين تكملك بفعل الله لك، يجب أن تقارن بين قوة مخلوقة عاجزة وقوة خالقة قادرة. ويلفتنا سبحانه: أن ننظر جيداً إلى بعض خلقه وهي الأرض، الأرض التي نضع فيها البذرة الواحدة أي الحبة الواحدة فإنها تعْطِي سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فلو نظر الإنسان أول الأمر إلى أن ما يضعه في الأرض حين يحرث ويزرع يقلل من مخازنه لما زرع ولما غرس، ولكنه عندما نظر لما تعطيه الأرض من سبعمائة ضعف أقبل على البذر، وأقبل على الحرث غير هياب؛ لأنها ستعوضه أضعاف أضعاف ما أعطى. وإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعطي هذا العطاء، فكيف يكون عطاء خالق الأرض؟ {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] إذن فقد سدّ الحق بهذا المثل على النفس البشرية منفذ الشُح. وشيء آخر تتعرض له الآيات، وهو أن الإنسان قد يُحْرَج في مجتمعه من سائل يسأله فهو في حرصه على ماله لا يحب أن ينفق، ولحرصه على مكانته في الناس لا يحب أن يمنع، فهو يعطي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1170 ولكن بتأفف، وربما تعدى تأففه إلى نهر الذي سأله وزجره، فقال الحق سبحانه وتعالى ليسد ذلك الموقف: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263] وقول الله: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ} يدل على أن المسئول قد أحفظه سؤال السائل وأغضبه الإحراج، ويطلب الحق من مثل هذا الإنسان أن يغفر لمن يسأله هذه الزلة إن كان قد اعتبر سؤاله له ذنباً: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263] وبعد ذلك يتعرض الحق سبحانه وتعالى إلى «المن» الذي يفسد العطاء؛ لأنه يجعل الآخذ في ذلة وانكسار، ويريد المعطي أن يكون في عزة العطاء وفي استعلاء المنفق، فهو يقول: إنك إن فعلت ذلك ستتعدى الصدقة منك إلى الغير فيفيد، ولكنك أنت الخاسر؛ لأنك لن تفيد بذلك شيئا، وإن كان قد استفاد السائل. إذن فحرصا على نفسك لا تتبع الصدقة بالمن ولا بالأذى. ثم يأتي الحق ليعالج منفذا من منافذ الشح في النفس البشرية هو: أن الإنسان قد يحب أن يعطي، ولكنه حين تمتد يده إلى العطاء يعز عليه إنفاق الجيد من ماله الحسن، فيستبقيه لنفسه ثم يعزل الأشياء التي تزهد فيها نفسه ليقدمها صدقة فينهانا سبحانه عن ذلك فيقول: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [البقرة: 267] أي إن مثل هذا لو أُعطى لك لما قبلته إلا أن تغمض وتتسامح في أخذه وكأنك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1171 لا تبصر عيبه لتأخذه، فما لم تقبله لنفسك فلا يصح أن تقبله لسواك. ثم بعد أن تكلم القرآن عن منافذ الشُح في النفس الإنسانية بين لنا أن الذي ينتج هذه المنافذ ويغذيها إنما هو الشيطان: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268] فإن سوّيتم بين عِدَةِ الشيطان ووعد الله لكم بالرضوان كان الخسران والضياع. فراجعوا إيمانكم، وعليكم أن تجعلوا عدة الشيطان مدحورة أمام وعد الله لكم بالفضل والمغفرة. ثم يتكلم بعد ذلك عن زمن الصدقة وعن حال إنفاقها ظاهرة أو باطنة وتكون النية عندك هي المرجحة لعمل على عمل، فإذا كنت إنسانا غنيا فارحم عرضك من أن يتناوله الناس وتصدق صدقة علنية فيما هو واجب عليك لتحمي عرضك من مقولهم، وأن أردت أن تتصدق تطوعا فلا مانع أن تُسر بها حتى لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك. . فعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا. وكأن الله فتح أمام النفس البشرية كل منافذ العطاء وسد منافذ الشح. انظروا بعد ذلك إلى الحق سبحانه حينما يحمي ضعاف المؤمنين ليجعلهم في حماية أقوياء المؤمنين. اعلم أيها العبد المؤمن أنك حين تتلقى حكم الله لا تتلقاه على أنه مطلوب منك دائما، ولكن عليك أن تتلقى الحكم على أنه قد يَصير بتصرفات الأغيار مطلوبا لك، فإن كنت غنيا فلا تعتقد أن الله يطالبك دائما، ولكن قَدّرْ أنك إن أصبحت بعرض الأغيار في الحياة فقيراً سيكون الحكم مطلوباً لك. فقدر حال كونه مطلوباً منك الآن؛ لأنك غني أنّه سيطلُب لك إن حصلت لك أغيار، فصرت بها فقيراً. إذن فالتشريع لك وعليك، فلا تعتبره عليك دائما لأنك إن اعتبرته عليك دائما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1172 عزلت نفسك عن أغيار الحياة، وأغيار الحياة قائمة لا يمكن أن يبرأ منها أحد أبدا لذلك أمر سبحانه المؤمنَ أن يكفل أخاه المؤمن. انظروا إلى طموحات الإيمان في النفس الإنسانية، حتى الذين لا يشتركون معك في الإيمان. إن طُلب منك أن تعطي الصدقة المفروضة الواجبة لأخيك المؤمن فقد طلب منك أيضا أن تتطوع بالعطاء لمن ليس مؤمنا. وتلك ميزة في الإسلام لا توجد أبدا في غيره من الأديان، إنه يحمي حتى غير المؤمن. ولذلك يقول الحق: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1173 ما أصل هذه المسألة؟ أصل هذه المسألة أن بعض السابقين إلى الإسلام كانت لهم قرابات لم تسلم. وكان هؤلاء الأقرباء من الفقراء وكان المسلمون يحبون أن يعطوا هؤلاء الأقارب الفقراء شيئا من مالهم، ولكنهم تحرجوا أن يفعلوا ذلك فسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذا الأمر. وهاهي ذي أسماء بنت أبي بكر الصديق وأمها «قُتَيْلَةَ» كانت مازالت كافرة. وتسأل أسماء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تعطي من مالها شيئا لأمها حتى تعيش وتقتات. وينزل الحق سبحانه قوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} ، «وعن أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاستفتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1173 قلت: قدمتْ عليّ أمي وهي راغبة. أفأصل أمّي؟ قال:» نعم صلي أمّكِ «. ولقد أراد بعض من المؤمنين أن يضيقوا على أقاربهم ممن لم يؤمنوا حتى يؤمنوا، لكن الرحمن الرحيم ينزل القول الكريم: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} . إنه الدين المتسامي. دين يريد أن نعول المخلوق في الأرض من عطاء الربوبية وإن كان لا يلتقي معنا في عطاء الألوهية؛ لأن عطاء الألوهية تكليف، وعطاء الربوبية رزق وتربية. والرزق والتربية مطلوبات لكل من كان على الأرض؛ لأننا نعلم أن أحداً في الوجود لم يستدع نفسه في الوجود، وإنما استدعاه خالقه، وما دام الخالق الأكرم هو الذي استدعى العبد مؤمناً أو كافراً، فهو المتكفل برزقه. والرزق شيء، ومنطقة الإيمان بالله شيء آخر، فيقول الحق: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} . أو أن الآية حينما نزلت في الحثّ على النفقة ربما أن بعض الناس تكاسل، وربما كان بعض المؤمنين يعمدون إلى الرديء من أموالهم فينفقونه. وإذا كان الإسلام قد جاء ليواجه النفس البشرية بكل أغيارها وبكل خواطرها، فليس بعجيب أن يعالجهم من ذلك ويردهم إلى الصواب إن خطرت لهم خاطرة تسيء إلى السلوك الإيماني. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب حين ينزل أي أمر أن يلتفت المسلمون إليه لفتة الإقبال بحرارة عليه، فإذا رأى تهاوناً في شيء من ذلك حزن، فيوضح له الله: عليك أن تبلغهم أمر الله في النفقة، وما عليك بعد ذلك أن يطيعوا. {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1174 ولقائل أن يقول: ما دام الله هو الذي يهدي فيجب أن نترك الناس على ما هم عليه من إيمان أو كفر، وما علينا إلا البلاغ، ونقول لأصحاب هذا الرأي: تنبهوا إلى معطيات القرآن فيما يتعلق بقضية واحدة، هذه القضية التي نحن بصددها هي الهداية، ولنستقرئ الآيات جميعا، فسنجد أن الذين يرون أن الهداية من الله، وأنه ما كان يصح له أن يعذب عاصياً، لهم وجهة نظر، والذين يقولون: إن له سبحانه أن يعذبهم؛ لأنه ترك لهم الخيار لهم وجهة نظر، فما وجهة النظر المختلفة حتى يصير الأمر على قدر سواء من الفهم؟ إن الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم في قرآنه الكلام الموحَى، فهو يطلب منا أن نتدبره، ومعنى أن نتدبره ألا ننظر إلى واجهة النص ولكن يجب أن ننظر إلى خلفية النص. {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ} يعني لا تنظر إلى الوجه، ولكن انظر ما يواجه الوجه وهو الخلف. {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} [النساء: 82] فالحق سبحانه وتعالى قد قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] كيف يكون الله قد هداهم، ثم بعد ذلك يستحبون العمى على الهدى؟ إذن معنى «هدام» أي دلهم على الخير. وحين دلَّهم على الخير فقد ترك فيهم قوة الترجيح بين البدائل، فلهم أن يختاروا هذا، ولهم أن يختاروا هذا، فلما هداهم الله ودلَّهم استحبوا العمَى على الهدى. والله يقول لرسوله في نصين آخرين في القرآن الكريم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1175 فنفى عنه أنه يهدي. وأثبت له الحق الهداية في آية أخرى يقول فيها: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] فكيف يثبت الله فعلاً واحداً لفاعل واحد ثم ينفي الفعل ذاته عن الفاعل ذاته؟ نقول لهم: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدل الناس على منهج الله ولكن ليس عليه أن يحملهم على منهج الله؛ لأن ذلك ليس من عمله هو، فإذا قال الله: {إِنَّكَ لتهدي} أي لا تحمل بالقصر والقهر من أحببت، وإنما أنت «تهدي» أي تدل فقط، وعليك البلاغ وعلينا الحساب. إذن فقول الحق: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} ليس فيه حجة على القسرية الإيمانية التي يريد بعض المتحللين أن يدخلوا منها إلى منفذ التحلل النفسي عن منهج الله ونقول لهؤلاء: فيه فرق بين هداية الدلالة وهداية المعونة، فالله يهدي المؤمن ويهدي الكافر أي يدلهم، ولكن من آمن به يهديه هداية المعونة، ويهديه هداية التوفيق، ويهديه هداية تخفيف أعمال الطاعة عليه. {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُم} تلك قضية تعالج الشُح منطقياً، وكل معطٍ من الخلق عطاؤه عائد إليه هو، ولا يوجد معطٍ عطاؤه لا يعود عليه إلا الله، هو وحده الذي لا يعود عطاؤه لخلقه عليه، لأنه سبحانه أزلا وقديما وقبل أن يخلق الخلق له كل صفات الكمال، فعطاء الإنسان يعود إلى الإنسان وعطاء ربنا يعود إلينا. ولذلك قال بعض السلف الذين لهم لمحة إيمانية: ما فعلت لأحد خيراً قط؟ فقيل له: أتقول ذلك وقد فعلت لفلان كذا ولفلان كذا ولفلان كذا؟ فقال: إنما فعلته لنفسي. فكأنه نظر حينما فعل للغير أنه فعل لنفسه. ولقد قلنا سابقا: إن العارف بالله «الحسن البصري» كان إذا دخل عليه من يسأله هشّ في وجهه وبشّ وقال له: مرحباً بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1176 إذن فقد نظر إلى أنه يعطيه وإن كان يأخذ منه. فالحق سبحانه وتعالى يعالج في هذه القضية {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} أي إياكم أن تظنوا أنني أطلب منكم أن تعطوا غيركم، لقد طلبت منكم أن تنفقوا لأزيدكم أنا في النفقة والعطاء، ثم يقول: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} ومعنى التوفية: الأداء الكامل. ولا تظنوا أنكم تنفقون على من ينكر معروفكم؛ لأن ما أنفقتم من خير فالله به عليم. إذن فاجعل نفقتك عند من يجحد، ولا تجعل نفقتك عند من يحمد، لأنك بذلك قد أخذت جزاءك ممن يحمدك وليس لدى الله جزاء لك. كنت أقول دائما للذين يشكون من الناس نكران الجميل ونسيان المعروف: أنتم المستحقون لذلك؛ لأنكم جعلتموهم في بالكم ساعة أنفقتم عليهم، ولو جعلتم الله في بالكم لما حدث ذلك منهم أبداً. {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله} أهذه الآية تزكية لعمل المؤمنين، أم خبر أريد به الأمر؟ إنها الاثنان معا، فهي تعني أنفقوا ابتغاء وجه الله. {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} أنتم لا تظلمون من الخلق، ولا تظلمون من الخالق، أما من الخلق فقد استبرأتم دينكم وعرضكم حين أديتم بعض حقوق الله في أموالكم، فلن يعتدي أحد عليكم ليقول ما يقول، وأما عند الله فهو سبحانه يوفي الخير أضعاف أضعاف ما أنفقتم فيه. وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن مصرف من مصارف النفقة كان في صدر الإسلام: {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1177 ساعة أن نسمع «جاراً ومجروراً» قد استهلت به آية كريمة فنعلم أن هناك متعلقاً. ما هو الذي للفقراء؟ هو هنا النفقة، أي أن النفقة للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. وإذا سألنا: ما معنى «أحصروا» فإننا نجد أن هناك «حَصر» وهناك «أحصر» وكلامهما فيه المنع، إلا أن المنع مرة يأتي بما لا تقدر أنت على دفعه، ومرة يأتي بما تقدر على دفعه. فالذي مرض مثلاً وحُصِرَ على الضرب في الأرض، أكانت له قدرة أن يفعل ذلك؟ لا، ولكن الذي أراد أن يضرب في الأرض فمنعه إنسان مثله فإنه يكون ممنوعاً، إذن فيئول الأمر من الأمرين إلى المنع، فقد يكون المنع من النفس ذاتها أو منع من وجود فعل الغير، فهم أحصروا في سبيل الله. حُصِرُوا لأن الكافرين يضيقون عليهم منافذ الحياة، أو حَصَرُوا أنفسهم على الجهاد، ولم يحبوا أن يشتغلوا بغيره؛ لأن الإسلام كان لا يزال في حاجة إلى قوم يجاهدون. وهؤلاء هم أهل الصُّفة {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض} وعدم استطاعتهم ناشئ من أمر خارج عن إرادتهم أو من أمر كان في نيتهم وهو أن يرابطوا في سبيل الله، هذا من الجائز وذاك من الجائز. وكان الأنصار يأتون بالتمر ويتركونه في سبائطه، ويعلقونه في حبال مشدودة إلى صواري المسجد، وكلما جاع واحد من أهل الصفة أخذ عصاه وضرب سباطة لتمر، فينزل بعض التمر فيأكل، وكان البعض يأتي إلى الرديء من التمر والشيص ويضعه، وهذا هو ما قال الله فيه: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} . وإذا نظرنا إلى قول الحق: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض} و «الضرب» هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1178 فعل مِن جارحة بشدة على متأثر بهذا الضرب، وما هو الضرب في الأرض؟ إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أن الكفاح في الحياة يجب أن يكون في منتهى القوة، وإنك حين تذهب في الأرض فعليك أن تضربها حرثاً، وتضربها بذراً، لا تأخذ الأمر بهوادة ولين ولذلك يقول الحق: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور} [الملك: 15] إن الأرض مسخرة من الحق سبحانه للإنسان، يسعى فيها، ويضرب فيها ويأكل من رزق الله الناتج منها. وحين يقول الله سبحانه في وصف الذين أحصروا في سبيل الله فلا يستطيعون الضرب في الأرض {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} أي يظنهم الجاهل بأحوالهم أنهم أغنياء، وسبب هذا الظن هو تركهم للمسألة، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} والسمة هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها، فكأنك ستجد فيهم خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أو يطلبوا، ولكنك تعرفهم من حالتهم التي تستحق الإنفاق عليهم، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} فكأنه أباح مجرد السؤال ولكنه نهى عن الإلحاحٍ والإلحاف فيه، ولو أنهم سألوا مجرد سؤال بلا إلحاف ولا إلحاح أَمَا كان هذا دليلاً على أنهم ليسوا أغنياء؟ نعم، لكنه قال: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} إذن فليس هناك سؤال، لا سؤال على إطلاقه، ومن باب أولى لا إلحاف في السؤال؛ بدليل أن الحق يقول: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} ، ولو أنهم سألوا لكنا قد عرفناهم بسؤالهم، إذن فالآية تدلنا على أن المنفي هو مطلق السؤال، وأما كلمة «الإلحاف» فجاءت لمعنى من المعاني التي يقصد إليها أسلوب الإعجازي، ما هو؟ إن «السيما» كما قلنا هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها، فكأنك ستجد خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أي أنت تعرفهم من حالتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1179 البائسة، فإذا ما سأل السائل بعد ذلك اعتبر سؤاله إلحاحاً؛ لأن حاله تدل على الحاجة، ومادامت حالته تدل على الحاجة فكان يجب أن يجد من يكفيه السؤال، فإذا ما سأل مجرد سؤاله فكأنه ألحف في المسألة وألح عليها. وأيضا يريد الحق من المؤمن أن تكون له فراسة نافذة في أخيه بحيث يتبين أحواله بالنظرة إليه ولا يدعه يسأل، لأنك لو عرفت ب «السيما» فأنت ذكي، أنت فطن، أنا لو لم تعرف ب «السيما» وتنتظر إلى أن يقول لك ويسألك، إذن فعندك تقصير في فطنة النظر، فهو سبحانه وتعالى يريد من المؤمن أن يكون فطن النظر بحيث يستطيع أن يتفرس في وجه إخوانه المؤمنين ليرى من عليه هم الحاجة ومن عنده خواطر العوز، فإذا ما عرف ذلك يكون عنده فطانة إيمانية. ولنا العبرة في تلك الواقعة، فقد دق أحدهم الباب على أحد العارفين فخرج ثم دخل وخرج ومعه شيء، فأعطاه الطارق ثم عاد باكياً فقالت له امرأته: ما يبكيك؟ . قال: إن فلاناً طرق بابي. قالت: وقد أعطيته فما الذي أبكاك؟ . قال: لأني تركته إلى أن يسألني. إن العارف بالله بكى؛ لأنه أحس بمسئولية ما كان يجب عليه أن يعرفه بفراسته، وأن يتعرف على أخبار إخوانه. ولذلك شرع الله اجتماعات الجمعة حتى يتفقد الإنسان كل أخ من إخوانه، ما الذي أقعده: أحاجة أم مرض؟ أحدث أم مصيبة؟ وحتى لا يحوجه إلى أن يذل ويسأل، وحين يفعل ذلك يكون له فطنة الإيمان. {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} يجب أن تعلم أنه قبل أن تعطي قد علم الله أنك ستعطي، فالأمر محسوب عنده بميزان، ويجيء تصرف خلقه على وفق قدره، وما قدره قديما يلزم حاليا، وهو سبحانه قد قدر؛ لأنه علم أن عبده سيفعل وقد فعل. وكل فعل من الأفعال له زمن يحدث فيه، وله هيئة يحدث عليها. والزمن ليل أو نهار. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى مبينا حالات الإنفاق والأزمان التي يحدث فيها وذلك في قوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1180 {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ باليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1181 إن المسألة في الإنفاق تقتضي أمرين: إما أن تنفق سراً، وإما أن تنفق علانية. والزمن هو الليل والنهار، فحصر الله الزمان والحال في أمرين: الليل والنهار فإياك أن تحجز عطيّةً تريد أن تعطيها وتقول: «بالنهار أفعل أو في الليل أفعل؛ لأنه أفضل» وتتعلل بما يعطيك الفسحة في تأخير العطاء، إن الحق يريد أن تتعدى النفقة منك إلى الفقير ليلاً أو نهاراً، ومسألة الليلية والنهارية في الزمن، ومسألة السرية والعلنية في الكيفية لا مدخل لها في إخلاص النية في العطاء. {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ باليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أقالت الآية: الذين ينفقون أموالهم بالليل أو النهار؟ لا، لقد طلب من كل منا أن يكون إنفاقه ليلاً ونهاراً وقال: «سراً وعلانية» فأنفق أنت ليلاً، وأنفق أنت نهارا، وأنفق أنت سراً، وأنفق أنت علانية، فلا تحدد الإنفاق لا بليل ولا بنهار، لا بزمن ولا بكيفية ولا بحال. إن الحق سبحانه استوعب زمن الإنفاق ليلاً ونهارا، واستوعب أيضاً الكيفية التي يكون عليها الإنفاق سراً وعلانية ليشيع الإنفاق في كل زمن بكل هيئة، وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى عن هؤلاء: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} وهذا القول يدل على عموم من يتأتى منه الإنفاق ليلاً أو نهاراً، سراً أو علانية. وإن كان بعض القوم قد قال: إنها قيلت في مناسبة خاصة، وهي أن الإمام عليًّا كرم الله وجهه ورضى عنه كانت عنده أربعة دراهم، فتصدق بواحد نهاراً، وتصدق بواحد ليلا، وتصدق بواحد سراً، وتصدق بواحد علانية، فنزلت الآية في هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1181 الموقف، إلا أن قول الله: {فَلَهُمْ} يدل على عموم الموضوع لا على خصوص السبب، فكأن الجزاء الذي رتبه سبحانه وتعالى على ذلك شائع على كل من يتأتى منه هذا العمل. وقول الله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} هنا نجد أن كلمة «أجر» تعطينا لمحة في موقف المؤمن من أداءات الإنفاق كلها؛ لأن الأجر لا يكون إلا عن عمل فيه ثمن لشيء، وفي أجر لعمل. فالذي تستأجره لا يقدم لك شيئا إلا مجهودا، هذا المجهود قد ينشأ عنه مُثْمَنٌ، أَيْ شيء له ثمن، فقول الله {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} يدل على أن المؤمن يجب أن ينظر إلى كل شيء جاء عن عمل فالله يطلب منه أن ينفق منه. إن الله لا يعطيه ثمن ما أنفق، وإنما يعطيه الله أجر العمل، لماذا؟ لأن المؤمن الذي يضرب في الأرض يخطط بفكره، والفكر مخلوق لله، وينفذ التخطيط الذي خططه بفكره بوساطة طاقاته وأجهزته؛ وطاقاتُه وأجهزته مخلوقة لله، ويتفاعل مع المادة التي يعمل فيها، وكلها مخلوقة لله، فأي شيء يملكه الإنسان في هذا كله؟ لا الفكر الذي يخطط، ولا الطاقة التي تفعل، ولا المادة التي تنفعل؛ فكلها لله. إذن فأنت فقط لك أجر عملك؛ لأنك تُعمل فكرا مخلوقا لله، بطاقة مخلوقة لله، في مادة مخلوقة لله، فإن نتج منها شيء أراد الله أن يأخذه منك لأخيك العاجز الفقير فإنه يعطيك أجر عملك لا ثمن عملك. لكن المساوي لك في الخلق هو الإنسان إن أخذ منك حصيلة عملك فهو يعطيك ثمن ما أخذ منك، فهي من المخلوق المساوي «ثمن» ، وهي من الخالق الأعلى أجر؛ لأنك لا تملك شيئا في كل ذلك. وبعد ذلك يقول الحق: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} والخوف هو الحذر من شيء يأتي، فمن الخائف؟ من المخوف؟ ومن المخوف عليه؟ {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} ممن؟ يجوز أن يكون {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من أنفسهم؛ فقد يخاف الطالب على نفسه من أن يرسب، فالنفس واحدة خائفة ومخوف عليها، إنها خائفة الآن ومخوف عليها بعد الآن. فالتلميذ عندما يخاف أن يرسب، لا يقال: إن الخائف هو عين المخوف؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1182 لأن هذا في حاله، وهذا في حاله. أو {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من غيرهم، فمن الجائز أن يكون حول كثير من الأغنياء أناس حمقى حين يرون أيدي هؤلاء مبسوطة بالخير للناس فيغمرونهم ليمسكوا مخافة أن يفتقروا كأن يقولوا لهم: «استعدوا للزمن فوراءكم عيالكم» . لكن أهل الخير لا يستمعون لهؤلاء الحمقى. إذن ف {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} لا من أنفسهم، ولا من الحمقى حولهم. ويتابع الحق: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لا خوف عليهم الآن، ولا حزن عندهم حين يواجهون بحقائق الخير التي ادخرها الله سبحانه وتعالى لهم بل إنهم سيفرحون. بعد ذلك يتعرض الحق سبحانه وتعالى إلى قضية من أخطر قضايا العصر، وهذه القضية كان ولابد أن يتعرض لها القرآن؛ لأنه يتكلم عن النفقة وعن الإنفاق ولا شك أن ذلك يقتضي منفِقا ومنفَقاً عليه؛ لأنه عاجز، فهب أن الناس شحّوا، ولم ينفقوا، فماذا يكون موقف العاجز الذي لا يجد؟ إن موقفه لا يتعدى أمرين: إما أن يذهب فيقترض، وإن لم يقبل أحد أن يقرضه فهو يأخذ بالربا والزيادة وإلا فكيف يعيش؟ إذن فالآيات التي نحن بصددها تعرّضت للهيكل الاقتصادي في أمة إسلامية جوادة، أو أمة إسلامية بخيلة شحيحة، لماذا؟ لأن الذي خلق الخلق قد صنع حسابا دقيقا لذلك الخلق، بحيث لو أحصيت ما يجب على الواجدين من زكاة، وأحصيت ما يحتاج إليه من لا يقدر لأن به عجزا طبيعيا عن العمل، لوجدت العاجزين يحتاجون لمثل ما يفيض عن القادرين بلا زيادة أو نقصان، وإلا كان هناك خطأ والعياذ بالله في حساب الخالق، ولا يمكن أن يتأتى ذلك أبداً. وحين ننظر إلى المجتمعات في تكوينها نجد أن إنساناً غنيا في مكان قد نبا به مكانه، واختار أن يقيم في مكان آخر، فيعجب الناس لماذا ترك ذلك المكان وهو في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1183 يسر ورخاء وغنى؟ ربما لو كان فقيراً لقلنا طلبا للسعة، فلماذا خرج من هذا المكان وهو واجد، وهو على هذا الحال من اليسر؟ إنهم لم يفطنوا إلى أن الله الذي خلق الخلق يُدير كونه بتسخير وتوجيه الخواطر التي تخطر في أذهان الناس، فتجد مكانه قد نبا به، وامتلأت نفسه بالقلق، واختار أن يذهب إلى مكان آخر. ولو أن عندنا أجهزة إحصائية دقيقة وحسبنا المحتاجين في البيئة التي انتقل منها لوجدنا قدرا من المال زائد على حاجة الذين يعيشون في هذه البيئة؛ فوجهه الله إلى مكان آخر يحتاج إلى مثل هذا الكم منه. وهكذا تجد التبادل منظما. فإن رأيت إنسانا محتاجا أو إنسانا يريد أن يرابي فاعلم أن هناك تقصيراً في حق الله المعلوم ولا أقول في الحق غير المعلوم. أي أن الغني بخل بما يجب عليه إنفاقه للمحتاج. والقرآن حين يواجه هذه المسألة فهو يواجهها مواجهة تُبشِّع العمل الربوي تبشيعا يجعل النفس الإنسانية المستقيمة التكوين تنفر منه فيقول سبحانه: {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1184 وانظروا إلى كلمة {يَأْكُلُونَ} ، هل كل حاجات الحياة أكل؟ لا، فحاجات الحياة كثيرة، الأكل بعضها، ولكن الأكل أهم شيء فيها؛ لأنه وسيلة استبقاء النفس. و {الربا} هو الأمر الزائد، وما دام هو الأمر الزائد يعني هو لا يحتاج أن يأكل، فهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1184 تقريع له. إن الحق يريد أن يبشع هذا الأمر فيقول: لهم سمة. هذه السمة قال العلماء أهي في الآخرة يتميزون بها في المحشر، كما يقول الحق: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] فهؤلاء غير المصلين لهم علامة مميزة، وهؤلاء غير المزكين لهم علامة أخرى مميزة بحيث إذا رأيتهم عرفتهم بسيماهم، وأنهم من أي صنف من أصناف العصاة فكأنهم حين يقومون يوم القيامة يقومون مصروعين كالذي يتخبطه ويضربه الشيطان من المس فيصرعه، أو أن ذلك أمر حاصل لهم في الدنيا، ولنبحث هذا الأمر: {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} . نريد أن نعرف كلمة «التخبط» وكلمة «الشيطان» وكلمة «المس» . «التخبط» هو الضرب على غير استواء وهدى، أنت تقول: فلان يتخبط، أي أن حركته غير رتيبة، غير منطقية، حركة ليس لها ضابط، ذلك هو التخبط. و «الشيطان» جنس من خلق الله؛ لأن الله قال لنا: إنه خلق الإنس والجن، والجن منهم شياطين، وجن مطلق، والشيطان هو عاصي الجن. ونحن لم نر الشيطان، ولكننا علمنا به بوساطة إعلام الحق الذي آمنا به فقال: أنا لي خلقا مستتر، ولذلك سميته الجن، من الاستتار ومنه المجنون أي المستور عقله، والعاصي من هذا الخلق اسمه «شيطان» . إذن فإيماننا به لا عن حس، ولكن عن إيمان بغيب أخبرنا به من آمنا به. وحين نجد شيئاً اسمه الإيمان يجب أن نعرف أنه متعلق بشيء غير مُحس؛ لأن المُحس لا يقال لك: آمن به؛ لأنه مشهود لك، فأنا لا أقول: أنا أؤمن بأن المصباح منير الآن، أنا لا أؤمن بأننا مجتمعون في المسجد الآن، لا أقول ذلك لأن هذا واقع مشهود ومُحسّ. إذن فالأمر الإيماني يتعلق بالغيب، مثل الإيمان بوجود الملائكة. فإذا ما كنا قد آمنا بالغيب نجد الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا صورة للشيطان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1185 ولكنه حين يعطينا صورة للشيطان أو لرأس الشيطان المميزة له، كما أن رءوسنا نحن هي التي تميزنا يتكلم سبحانه عن شجرة الزقوم فيقول جل شأنه: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 64 - 65] وشجرة الزقوم في الآخرة في النار، إذن فنحن لا نراها، ورءوس الشياطين لا نراها، فكيف يشبه الله ما لم نره بما لم نره، يشبه شيئا مجهولاً بشيء مجهول؟ نقول: نعم، وذلك أمر مقصود للإعجاز القرآني؛ لأن للشيطان صورة متخيلة بشعة، بدليل أنك لو طلبت من رسامي العالم في فن الكاريكاتير، وقلت لهم: ارسموا لنا صورة الشيطان، ولم تعطهم ملامح صورة محددة، فكل منهم يرسم وفق تخيله كياناً غاية في القبح: فهذا يصوره بالقبح من ناحية، وذلك يصوره بالقبح من ناحية أخرى بحيث لو جمعت الرسوم لما اتحد رسم مع رسم. إذن فكل واحد يستبشع صورة يرسمها. وساعة نعطي الجائزة لمن رسم صورة الشيطان أنعطي الجائزة لأجملهم صورة أم لأقبحهم صورة؟ إننا نعطي الجائزة لصاحب أشد الصور قبحا. إذن فصورة الشيطان المتمثلة صورة بشعة قبيحة، ولو جاء على صورة واحدة من القبح لاختلف الناس حول هذه الصورة فلعل هذا يكون قبحا عندك ولا يكون قبحا عن آخر، ولكن حين يُطلق الله أخيلة الناس في تصور القبح، يكون القبح مائلا وواضحا في عمل كل إنسان فتكون الصورة أكمل وأوفى فالأكمل والأوفى أن يكون القبح شائعا فيها جميعا. ويقول الحق: {الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} الشيطان قلنا: إنه العاصي من الجن، وقلنا: إن ربنا سبحانه وتعالى حكى لنا كثيرا أن الشياطين لهم التصاق واتصال بكثير من الإنس: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1186 و {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} فكأن الشيطان قد مس التكوين الإنساني مساً أفسد استقامة ملكاته، فالتكوين الإنساني له استقامة ملكات مع بعضها البعض؛ فكل حركة لها استقامة، فإذا ما مسّه الشيطان فسد تآزر الملكات، فملكاته النفسية تكون غير مستقيمة وغير منسجمة مع بعضها البعض، فتكون حركته غير رتيبة وغير منطقية. وما المناسبة بين هذه الصورة وبين عملية الربا؟ . إن أردنا في الآخرة ميزة، فساعة ترى واحداً مصروعاً فاعرف أنه من أصحاب الربا، هذا في الآخرة، وفي الدنيا تجد أيضاً أن له حركة غير منطقية، هستيرية، كيف؟ انظر إلى العالم الآن، لقد خلق الله العالم على هيئة من التكامل. فهذا إنسان يتمتع بإمكانات ومواهب، وذاك يتمتع بمواهب وإمكانات أخرى، حتى يحتاج صاحب هذه الإمكانات إلى صاحب تلك الإمكانات فيكتمل الكون، ولو أن كل إنسان كان وحدة متكررة لاستغنى الكل عن الكل. ولو أن الأفراد متساوون في المواهب لما احتاج الناس لبعضهم البعض. لكن المواهب تختلف؛ لأنك إن أجدت فنًّا من فنون الحياة فقد أجاد سواك فنونا أخرى أنت محتاج إليها، فإن احتاجوا إليك فيما أَجَدْت، فقد احتجت إليهم فيما أجادوا، وهكذا يتكامل العالم. وكذلك خلق الله الكون: مناطق حارة، ومناطق باردة، ومناطق بها معادن، ومناطق بها زراعة؛ حتى يضطر العالم إلى أن يتكامل، ويضطر العالم إلى أن يتعايش مع بعضه ولذلك يقول الحق في سورة «الرحمن» : {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10] {وَضَعَهَا} لمن؟ . {والأرض} ، أي أرض، وأي أنام؟ . الأرض كل الأرض، والأنام كل الأنام، فإن تحددت بحواجز فسدت. إن منع الإنسان من حرية الانتقال من مكان إلى مكان يفسد حركة الإنسان في الكون، فقد يرغب إنسان في أن ينتقل إلى أرض بكر ليعمرها، فيرفض أهل تلك الأرض، فلو أن الأرض كل الأرض كانت للأنام بحيث إن ضاق العمل في مكان ذهبت إلى مكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1187 آخر، بدون قيود عليك، تلك القيود التي نشأت من السلطات الزمنية التي تحتجز الأماكن لأنفسها، فهذا ما يفسد الكون. فهناك بيئات تشتكي قلة القوت، وبيئات تشتكي قلة الأيدي العاملة لأرض خراب وهي تصلح أن تزرع، فلو أن الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام لما حدث عجز. ونلاحظ ما يُقال: ازدحام السكان أو الانفجار السكاني، بينما توجد أماكن تتطلب خلقاً! ويوجد خلق تتطلب أماكن، فلماذا هذا الاختلال؟ هذا الاختلال ناشئ من أن السلوك البشري غير منطقي في هذا الكون. والكون الذي نعيش فيه، فيه ارتقاءات عقلية شتّى، وطموحات ابتكارية صعدت إلى الكواكب، وتغزو الفضاء، ووُجِدَت في كل بيت آلات الترفيه، أما كان المنطق يقتضي أن يعيش العالم سعيداً مستريحاً؟ كان المنطق يقتضي أن يعيش العالم مستريحاً هادئاً؛ لأنه في كل يوم يبتكر أشياءَ تعطي له أكبر الثمرة بأقل مجهود في أقل زمن، فماذا نريد بعد هذا؟ ولكن هل العالم الذي نعيش فيه منطقي مع هذا الواقع؟ لا، بل نحن نجد أغنى بلاد العالم وأحسنها وفرة اقتصادية هي التي يعاني الناس فيها القلق، وهي التي تمتلئ بالاضطراب، وهي التي ينتشر فيها الشذوذ، وهي التي تشكو من ارتفاع نسبة الجنون بين سكانها. إذن فالعالم ليس منطقياً. وهذا التخبط يؤكد ما يقوله الحق: {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} إنها حركة هستيرية في الكون تدل على أنه كون غير مستريح، كون غير منسجم مع طموحاته وابتكاراته. أما كان على هذا الكون بعقلائه أن يبحثوا عن السبب في هذا، وأن يعرفوا لماذا نشقى كل هذا الشقاء وعندنا هذه الطموحات الابتكارية؟ كان يجب أن يبحثوا، فالمصيبة عامة، لا تعم الدول المتخلفة أو النامية فقط، بل هي أيضاً في الدول المتقدمة، كان يجب أن يعقد المفكرون المؤتمرات ليبحثوا هذه المسألة، فإذا ما كانت المسألة عامة تضم كل البلاد متقدمها ومتأخرها وجب أن نبحث عن سبب مشترك، ولا نبحث عن سبب قد يوجد عند قوم ولا يوجد عن قوم آخرين؛ لأننا لو بحثنا لقلنا: يوجد في هذه البيئة. وكذلك هو موجود في كل البيئات، فلا بد أن يوجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1188 القدر المشترك. فالأرزاق التي توجد في الكون تنقسم إلى قسمين: رزق أنتفع به مباشرة، ورزق هو سبب لما أنتفع به مباشرة. أنا آكل رغيف الخبز، هذا اسمه رزق مباشر، وأشرب كون الماء، وهو رزق مباشر، واكتسي بالثوب وذلك أيضاً رزق مباشر، وأسكن في البيت وهذا رابعاً رزق مباشر، وأنير المصباح رزق مباشر. ولكن المال يأتي بالرزق المباشر، ولا يغني عن الرزق المباشر. فإذا كان عندي جبل من ذهب وأنا جوعان، ماذا أفعل به؟ . إذن فرغيف العيش أحسن منه، هذا رزق مباشر، فالنقود أو الذهب أشتري بها هذا وهذا، لكن لا يغنيني عن هذا وهذا. وقد جاء وقت أصبح الناس يرون فيه أن المال هو كل شيء حتى صار هدفا وتعلق الناس به. . وفي الحق أنّ المال ليس غاية، ولا ينفع أن يكون غاية بل هو وسيلة. فإن فقد وسيلته وأصبح غاية فلا بد أن يفسد الكون؛ فعلة فساد الكون كله في القدر المشترك الذي هو المال، حيث أصبح المال غاية، ولم يعد وسيلة. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يطهر حياة الاقتصاد للناس طهارة تضمن حِلّ ما يطعمون، وما يشربون، وما يكتسون، حتى تصدر أعمالهم عن خليات إيمانية طاهرة مصفاة؛ ذلك أن الشيء الذي يصدر عن خلية إيمانية طاهرة مصفاة لا يمكن أن ينشأ عنه إلا الخير. ومن العجيب أن نجد القوم الذين صدروا لنا النظام الربوي يحاولون الآن جاهدين أن يتخلصوا منه، لا لأنهم ينظرون إلى هذا التخلص على أنه طهارة دينية، ولكن لأنهم يرون أن كل شرور الحياة ناشئة عن هذا الربا. وليست هذه الصيحة حديثة عهد بنا، فقديما أي من عام ألف وتسعمائة وخمسين قام رجل الاقتصاد العالمي «شاخت» في ألمانيا وقد رأى اختلال النظام فيها وفي العالم، فوضع تقريره بأن الفساد كله ناشئ من النظام الربوي، وأن هذا النظام يضمن للغني أن يزيد غنى، وما دام هذا النظام قد ضمن للغني أن يزيد غنى، فمن أين يزداد غنى؟ لاشك أنه يزداد غنى من الفقير. إذن فستئول المسألة إلى أن المال سيصبح في يد أقلية في الكون تتحكم في مصائره كلها ولاسيما المصائر الخلقية. لماذا؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1189 لأن الذين يحبون أن يستثمروا المال لا ينظرون إلا إلى النفعية المالية، فهم يديرون المشروعات التي تحقق لهم تلك النفعية. وهناك رجل اقتصاد آخر هو «كينز» الذي يتزعم فكرة «الاقتصاد الحر» في العالم يقول قولته المشهورة: إن المال لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى درجة الصفر. ومعنى ذلك أنه لا ربا. وإذا ما نظرنا إلى عملية عقد الربا في ذاتها وجدناها عقداً باطلاً؛ لأن كل عقد من العقود إنما يوجد لحماية الطرفين المتعاقدين، وعقد الربا لا يحمي إلا الطرف الدائن فقط، وهناك أمر خلقي آخر وهو أن الإنسان لا يعطي ربا إلا إذا كان عنده فائض زائد على حاجته. ولا يأخذ إنسان من المرابي إلا إذا كان محتاجاً. فانظروا إلى النكسة الخلقية في الكون. إن المعدم الفقير الذي لا يجد ما يسد جوعه وحاجته يضطر إلى الاستدانة، وهذا الفقير المعدم هو الذي يتكفل بأن يعطي الأصل والزائد إلى الغني غير المحتاج. إنها نكسة خلقية توجد في المجتمع ضِغناً، وتوجد في المجتمع حقداً، وتقضي على بقية المعروف وقيمته بين الناس، وتنعدم المودة في المجتمع. فإذا ما رأى إنسان فقيرٌ إنساناً غنياً عنده المال، ويشترط الغني على الفقير المعدم أن يعطيه ما يأخذه وأن يزيد عليه، فعلى أية حال ستكون مشاعر وأحاسيس الفقير؟ كان يكفي الغني أن يعطي الفقير، وأن يسترد الغني بعد ذلك ما أخذه الفقير، ولكن الغني المرابي يطلب من الفقير أن يسدد ما أخذه ويزيد عليه. وكانوا يتعللون ويقولون: إن النص القرآني إنما يتكلم عن الربا في الأضعاف المضاعفة، فإذا ما منعنا القيد في الأضعاف المضاعفة لا يكون حراماً!! أي أنهم يريدون تبرير إعطاء الفقير مالاً، وأن يرده أضعافاً فقط لا أضعافاً مضاعفة؛ حتى لا يصير ذلك الاسترداد بالزيادة حراماً. ولهؤلاء نقول: إن الذين يقولون ذلك يحاولون أن يتلصصوا على النص القرآني، وكأن الله قد ترك النص ليتلصصوا عليه ويسرقوا منه ما شاءوا دون أن يضع في النص ما يحول دون هذا التلصص، ولو فطنوا إلى أن الله يقول في آخر الأمر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1190 {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] هذا القول الحاسم يوضح أن الله لم يستثن ضعفاً ولا أضعافاً. إذن فقوله الحق: {يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] إن هذا القول الحكيم لم يجئ إلا ليبين الواقع الذي كانوا يعيشونه، ولم يستثن الله ضعفاً أو أضعافاً؛ لأن الحق جعل التوبة تبدأ من أن يأخذ الإنسان رأس ماله فقط، فلا يسمح الله لأحد أن يأخذ نصف الضعف أو الضعف أو الضعفين، ولا يسمح بالأضعاف ولا بالمضاعفات. وكانوا يتعللون أن اتفاق الطرفين على أي أمر يعتبر تراضياً ويعتبر عقداً. وقد يكون ذلك صحيحاً إن لم يكن هناك مشرع أعلى من كل الخلق يسيطر على هذا التراضي. فهل كلما تراضى الطرفان على شيء يصير حلالاً؟ لو كان الأمر كذلك لكان الزنا حلالاً: لأنهما طرفان قد تراضيا. وكل ذلك لا يتأتى أي رضاء الطرفين إلا في الأمور التي ليس فيها تشريع صدر عن المشرع الأعلى، وهو الله الحيّ القيوم. إن الله قد فرض أمراً يقضي على التراضي بيني وبينك؛ لأنه هو المسيطر، وهو الذي حكم في الأمر، فلا تراضي بيننا فيما يخالف ما شرع الله أو حكم فيه. وإذا نظرنا نظرة أخرى فإننا نجد أن التراضي الذي يدعونه مردود عليه. إنه «تراضٍ» باطل بالفحص الدقيق والبحث المنطقي. لماذا؟ لأننا نقول إن التراضي إنما ينشأ بين اثنين لا يتعدى أمر ما تراضيا عليه إلى غيرهما، أما إذا كان الأمر قد تعدى من تراضيا عليه إلى غيرهما فالتراضي باطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1191 فهب أن واحداً لا يملك شيئا، وواحداً آخر يملك ألفا، والذي يملك ألفا هي ملكه، وأدار بها عملا من الأعمال، وحين يدير صاحب الألف عملا فالمطلوب له أجر عمله ليعيش من هذا الأجر. أما الذي لا يملك شيئا إذا ما أراد أن يعمل مثلما عمل صاحب الألف، فذهب إلى إنسان وأخذ منه ألفا ليعمل عملا كعمل صاحب الألف، فيشترط من يعطيه هذه الألف من الأموال أن يزيده مائة حين السداد، فيكون المطلوب من الذي اقترض هذه الألف أجر عمله كصاحب الألف الأول ومطلوب منه أيضا أن يزيد على أجره تلك المائة المطلوبة لمن أقرضه بالربا. فمن أين يأتي من اقترض ألفا بهذه المائة الزائدة؟ إن سلعته لو كانت تساوي سلعة الآخر فإنه يخسر. وإن كانت سلعته أقل من سلعة الآخر فإنها تكسد وتبور. إذن فلا بد له من الاحتيال النكد، وهذا الاحتيال هو أن يخلع على سلعته وصفا شكليا يساوي به سلعة الآخر، ويعمد إلى إنقاص الجواهر الفعالة في صنعة سلعته، فيسحب منها ما يوازي المائة المطلوب سدادها للمرابي. فن الذي سيدفع ذلك؟ إنه المستهلك. إذن فالمستهلك قد أضير بهذا التراضي؛ فهو الذي سيغرم؛ لأنه هو الذي يدفع أخيراً قيمة قرض الرجل المتاجر بالسلعة وقيمة النسبة الربوية التي حددها المرابي. إذن فالعقد بين المقترض والمرابي حتى في عرفهم عقد باطل رغم أن الاثنين المقترض والمرابي قد اعتبرا هذا العقد تراضيا. إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد أن يشيع في الناس الرحمة والمودة. وأن يشيع في الناس التعاطف. إنه الحق سبحانه صاحب كل النعمة أراد أن يشيع في الناس أن يعرف كل صاحب نعمة في الدنيا أنه يجب عليه أن تكون نعمته متعدية إلى غيره، فإن رآها المحروم علم أنه مستفيد منها، فإذا كان مستفيداً منها فإنه لن ينظر إليها بحقد، ولا أن ينظر إليها بحسد، ولا يتمنى أن تزول لأن أمرها عائد إليه. ولكن إذا كان السائد هو أن يريد صاحب النعمة في الدنيا أن يأخذ بالاستحواذ على كل عائد نعمته، ولا يراعي حق الله في مهمة النعمة، ولا تتعدى هذه النعمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1192 إلى غيره، فالمحروم عندما يرى ذلك يتمنى أن تزول النعمة عن صاحبها وينظر إليها بحسد. ويشيع الحقد ومعه الضغينة، ويجد الفساد فرصة كاملة للشيوع في المجتمع كله. إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يسيطر على الاقتصاد عناصر ثلاثة: العنصر الأول: الرفد والعطاء الخالص، فيجد الفقير المعدم غنيا يعطيه، لا بقانون الحق المعلوم المفروض في الزكاة، ولكن بقانون الحق غير المعلوم في الصدقة، هذا هو الرفد. العنصر الثاني: يكون بحق الفرض وهو الزكاة. العنصر الثالث: هو بحق القرض وهو المداينة. إذن فأمور ثلاثة هي التي تسيطر على الاقتصاد الإسلامي: إما تطوع بصدقة، وإما أداءٌ لمفروض من زكاة، وإما مداينة بالقرض الحسن، وذلك هو ما يمكن أن ينشأ عليه النظام الاقتصادي في الإسلام. ولننظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى حين عرض هذه المسألة وبشّع هيئة الذين يأكلون الربا بأنهم لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه ويصرعه الشيطان من المس. لماذا؟ لأن الحق قال فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} فهل الكلام في البيع، أو الكلام في الربا؟ إن الكلام في الربا. وكان المنطق يقتضي أن يقول: «الربا كالبيع» ، فما الذي جعلهم يعكسون الأمر؟ إن النص القرآني هنا يوحي إلى التخبط حتى في القضية التي يريدون أن يحتجوا بها. كأنهم قالوا: ما دمت تريد أن تحرم الربا، فالبيع مثل الربا، وعليك تحريم البيع أيضا. وكان القياس أن يقولوا: «إنما الربا مثل البيع» ، لكن الحق سبحانه أراد أن يوضح لنا تخبطهم فجاء على لسانهم: إنما البيع مثل الربا فإن كنتم قد حرمتم الربا فحرموا البيع، وإن كنتم قد حللتم البيع فحللوا الربا. إنهم يريدون قياسا إما بالطرد، وإما بالعكس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1193 فقال الله القول الفصل الحاسم: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى} [البقرة: 275] وعن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «لَعَنَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آكل الربا وموكله» . إنها موعظة من الله جاءت، الموعظة إن كانت من غير مستفيد منها، فالمنطق أن تُقبل بضم التاء أما الموعظة التي يُشَك فيها، فهي الموعظة التي تعود على الواعظ بشيء ما. فإذا كانت الموعظة قد جاءت ممن لا يستفيد بهذه الموعظة، فهذه حيثية قبولها {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى} ، ولنر كلمة «ربه» حينما تأتي هنا فلنفهم منها أن المقصود بها الحق سبحانه الذي تولى تربيتكم، ومتولي التربية خلقا بإيجاد ما يستبقي الحياة، وإيجاد ما يستبقي النوع، ومحافظة على كل شيء بتسخير كل شيء لك أيها الإنسان، فيجب أن تكون أيها الإنسان مهذبا أمام ربك فلا توقع نفسك في اتهام الرب الخالق في شبهة الاستفادة من تلك الموعظة معاذ الله. لماذا؟ لأن الخالق رب، وما دام الخالق رباً فهو المتولي تربيتكم، فإياك أيها الإنسان أن تتأبَّى على عظة المُربّي. {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ} ومعنى ذلك أن الأمر لن يكون بأثر رجعي فلا يؤاخذ بما مضى منه؛ لأنه أخذ قبل نزول التحريم؛ تلك هي الرحمة، لماذا؟ لأنه من الجائز أن يكون المرابي قد رتب حياته ترتيباً على ما كان يناله من ربا قبل التحريم، فإذا كان الأمر كذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعفو عما قد سلف. وعلى المرابي أن يبدأ حياته في الوعاء الاقتصادي الجديد. تلك هي عظمة التشريع الرباني {فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله} أي أن له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1194 ما سبق وما مضى قبل تحريم الربا. وتفيد كلمة {وَأَمْرُهُ إِلَى الله} أن الله سبحانه وتعالى حينما يعفو عما سلف فله طلاقة الحرية في أن يقنن ما شاء، فيجب أن تتعلق دائما باستدامة الفضل من الله. {وَأَمْرُهُ إِلَى الله} إن مثل هذا الإنسان ربما قال: سأنهار اقتصاديا ومركزي سيتزعزع، وسأصبح كذا وكذا. لا. اجعل سندك في الله، ففي الله عوض عن كل فائت، هو سبحانه لا يريد أن يزلزل مراكز الناس، ولكن يريد أن يقول لهم: إنني إن سلبتكم نعمتي فاجعلوا أنفسكم في حضانة المنعم بالنعمة. وما دمت قد جعلت نفسك في حضانة المنعم بالنعمة، إذن فالنعمة لا شيء؛ لأن المنعم عوض عن هذه النعمة، والربا من السبع الموبقات التي أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باجتنابها حيث قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» {وَأَمْرُهُ إِلَى الله وَمَنْ عَادَ} أي عاد بعد الموعظة ماذا يكون أمره؟ {فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وكان يكفي أن يقول عنهم: إنهم {أَصْحَابُ النار} فلعل واحداً يكون مؤمنا وبعد ذلك عاد إلى معصية، فيأخذ حظه من النار. إنما قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يدل على أنه خرج عن دائرة الإيمان. وافهم السابق جيداً لتفهم التذييل اللاحق؛ لأن هنا أمرين: هنا ربا حرمه الله، وأناس يريدون أن يُحلّلوا الربا عندما قالوا: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} ، فإن عدت إلى الربا حاكما بحرمته فأنت مؤمن عاصٍ تدخل النار. إنما إن عدت إلى ما سلف من المناقشة في التحريم، وقلت: البيع مثل الربا، وناقشت في حرمة الربا وأردت أن تحلله كالبيع فقد خرجت عن دين الإسلام. وحين تخرج عن دين الإسلام فلك الخلود في النار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1195 ومن هنا يجب أن نلفت الذين يقولون بالربا، ونقول لهم: قولوا: إن الربا حرام، ولكننا لا نقدر على أنفسنا حتى نبطله ونتركه، وعليكم أن تجاهدوا أنفسكم على الخروج منه حتى لا تتعرضوا لحرب الله ورسوله. إنهم باعتقادهم أن الربا حرام يكونون عاصين فقط، أما أن يحاولوا تبرير الربا ويحللوه فسيدخلون في دائرة أخرى شر من ذلك، وهي دائرة الكفر والعياذ بالله. وقد عرفنا أن آدم عليه السلام عصى ربه، وأكل من الشجرة، وإبليس عصى ربه، فلما تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، أما إبليس فقد طرده الله، ولماذا طرد الله إبليس وأحل عليه اللعنة؟ لأن آدم أقر بالذنب وقال: «ربنا ظلمنا أنفسنا» . لقد اعترف آدم: حكمك يا رب حكم حق، ولكني ظلمت نفسي. ولكن إبليس عارض في الأمر وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} ، فكأنه رد الأمر على الآمر. وبعد ذلك حين بين الله الحكم في الربا، وبين أن من انتهى له ما سلف، فماذا عن الذي يعود؟ {وَمَنْ عَادَ} وهي المقابل {فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، يريد سبحانه أن يقول: إياكم أن يخدعكم الربا بلفظه، فالألفاظ تخدع البشر؛ لأنكم سميتموه «ربا» بالسطحية الناظرة: لأن الربا هو الزيادة، والزكاة تنقص، فالمائة في الربا تكون مائة وعشرة مثلا حسب سعر الفائدة، وفي الزكاة تصبح المائة (97. 5) ، في الأموال وعروض التجارة، وتختلف عن ذلك في الزروع وغيرها، وفي ظاهر الأمر أن الربا زاد، والزكاة أنقصت، ولكن هذا النقصان وتلك الزيادة هي في اصطلاحاتكم في أعرافكم. والحق سبحانه وتعالى يمحق الزائد، وينمي الناقص؛ فهو سبحانه يقول: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1196 وكلمة {يَمْحَقُ} من «محق» أي ضاع حالا بعد حال، أي لم يضع فجأة، ولكن تسلل في الضياع بدون شعور، ومنه «المحاق» أي الذهاب للهلال. {يَمْحَقُ الله الربا} أي يجعله زاهيا أمام صاحبه ثم يتسلل إليه الخراب من حيث لا يشعر. ولعلنا إن دققنا النظر في البيئات المحيطة بنا وجدنا مصداق ذلك. فكم من أناس رابوا، ورأيناهم، وعرفناهم، وبعد ذلك عرفنا كيف انتهت حياتهم. {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} ويقول في آية أخرى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله} [الروم: 39] فإياكم أن تعتقدوا أنكم تخدعون الله بذلك. . ما هو المقابل؟ {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39] و {المضعفون} هم الذين يجعلون الشيء أضعافاً مضاعفة. وعندما يقول الحق: {يَمْحَقُ الله الربا} فلا تستهن بنسبة الفعل لله؛ إن نسبة الفعل لفاعله يجب أن تأخذ كيفيته من ذات الفاعل، فإذا قيل لك: فلان الضعيف يصفعك، أو فلان الملاكم يصفعك، فلابد أن تقيس هذه الصفعة بفاعلها، فإذا كان الله هو الذي قال: {يَمْحَقُ الله} . أيوجد محق فوق هذا؟ لا، لا يمكن. وأيضا حين يقول الله: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} في القرآن الذي يُتلى وهو معجز؛ ومحفوظ ومُتحدي بحفظه، فهذه قضية مصونة {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} ؛ لأن الذي قالها هو الله في كتاب الله المحفوظ، الذي يُتلى مُتَعَبِّداً به، أي أن القضية على ألسنة الجماهير كلها، وفي قلوب المؤمنين كلها، أيقول الله قضية يحفظها ذلك الحفظ ليأتي واقع الزمن ليكذبها؟ لا، لا يمكن. فالإنسان لا يحفظ إلا المستند الذي يؤيده! {أنا لا أحفظ إلا «الكمبيالة» التي تخصني} فما دام هو حافظه وهو القائل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1197 {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فمعنى ذلك أنه سبحانه سيطلق فيه قضايا، وهذه القضايا هو الذي تَعهد بحفظها، ولا يتعهد بحفظها إلا لتكون حجة على صدقه في قولها. فالشيء الذي لا يكون فيه حُجة لا نحافظ عليه. وهو سبحانه القائل: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] إن هذه قضية قرآنية تعهد الله بحفظها، فلابد أن يأتي واقع الحياة ليؤيدها، فإذا كان واقع الحياة لا يؤيدها، ماذا يكون الموقف؟ أنكذب القرآن وحاشانا أن نكذب القرآن الذي قاله الحق الذي لا إله سواه ليُدير كوناً من ورائه. {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} . ولماذا قال الحق: «كفار» ولم يقل: «كافر» ، ولماذا قال: «أثيم» وليس مجرد «آثم» ؟ لأنه يريد أن يرد الحكم على الله وما دام يريد أن يرد الحكم على الله، فقد كفر كفرين اثنين: كفر لأنه لم يعترف بهذه، وكفر لأنه ردّ الحكم على الله، وهو «أثيم» ، ليس مجرد «آثم» ، وفي ذلك صيغة المبالغة لنستدل على أن القضية التي نحن بصددها قضية عمرانية اجتماعية كونية، إن لم تكن كما أرادها الله فسيتزلزل أركان المجتمع كله. وبعد أن شرح لنا الحق مرارة المبالغة في «كفار» وفي «أثيم» يأتي لنا بالمقابل حتى ندرك حلاوة هذا المقابل، ومثال ذلك ما يقول الشاعر: فالوجه مثل الصبح مبيضّ ... والشعر مثل الليل مسودُّ ضدّان لما استجمعا حَسُنا ... والضد يظهر حسنَه الضدُّ فكأن الله بعد أن تكلم عن الكَفَّار والأثيم يرجعنا لحلاوة الإيمان فيقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1198 {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1199 وقلنا: إن كلمة «أجر» تقتضي أنه لا يوجد مخلوق يملك سلعة، إنما كلنا مستأجرون، لماذا؟ لأننا نشغل المخ المخلوق لله، بالطاقة المخلوقة لله، في المادة المخلوقة لله، فماذا تملك أنت أيها الإنسان إلا عملك، وما دمت لا تملك إلا عملك فلك أجر {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} . وكلمة {عِندَ رَبِّهِمْ} لها ملحظ؛ فعندما يكون لك الأجر عند المساوي لك قد يأكلك، أما أجرك عند رب تولّى هو تربيتك، فلن يضيع أبداً. ويتابع الحق: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} لا من أنفسهم على أنفسهم، ولا من أحبابهم عليهم، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ؛ لأن أي شيء فاتهم من الخير سيجدونه مُحضرا أمامهم. وبعد ذلك يقول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1199 وحين يقول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ} فنحن نعرف أن النداء بالإيمان حيثية كل تكليف بعده، وساعة ينادي الحق ويقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ} أي يا من آمنتم بي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1199 إلها قادراً حكيماً، عزيزاً عنكم غالباً على أمري، لا تضرني معصيتكم، ولا تنفعني طاعتكم، فإذا كنتم قد آمنتم بي وأنا إله قادر حكيم فاسمعوا مني ما أحبه لكم من الأحكام. إذن فكل {ياأيها الذين آمَنُواْ} في القرآن هي حيثية كل حكم يأتي بعدها، وأنت تفعل ما يأمرك به الله، وإن سألك أحد: وقال لك: لماذا فعلت هذا الأمر؟ فقل له فعلته لأني مؤمن، والذي أمرني به هو الذي آمنت بحكمته وقدرته. وأنت لا تدخل في متاهة علل الأحكام، لأنك آمنت بأن الله إله حكيم قادر، أنزل لك تلك التكاليف، وإياك أن تدخل في متاهة علة الأحكام، لماذا؟ لأن هناك أشياء قد تغيب علّتها عنك، أكنت تؤجلها إلى أن تعرف العلة؟ . أكنا نؤجل تحريم لحم الخنزير إلى أن يثبت حالياً بالتحليل أنه ضار؟ لا، إذا كان قد ثبت حالياً بالتحليل أنه ضار فنحن نزداد ثقة في كل حكم كلفنا الله به، ولم نهتد إلى علته، والحق يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} ومن عجائب كلمة {اتقوا} أنها تأتي في أشياء يبدو أنها متناقضة، إنما هي ملتقية {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} ولم يقل هنا: اتقوا النار كما قال في آية أخرى: {اتقوا النار} . إذن فكيف يقول: {اتقوا الله} ويقول: {اتقوا النار} ؟ لأن معنى {اتقوا} : أي اجعلوا وقاية بينكم وبين ربكم. كيف نجعل وقاية بيننا وبين ربنا مع أن المطلوب منا إيمانياً أن نلتحم بمنهج الله لنكون دائما في معية الله؟ نقول: الله سبحانه وتعالى له صفات جلال كالقهار، والمنتقم، والجبار، وذي الطول وشديد العقاب؛ فهو يطلب من عبده المؤمن أن يجعل بينه وبين صفات جلاله وقاية، فالنار جند من جنود صفات الجلال، وحين يقول سبحانه: {اتقوا الله} يعني: اجعلوا وقاية بينكم وبين صفات الجلال التي من جنودها النار. إذن ف {اتقوا الله} مثل {اتقوا النار} أي اجعلوا وقاية بينكم وبين النار. ويتابع الحق: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} ، و {ذَرُواْ} أي اتركوا، ودعوا، وتناسوا، واطلبوا الخير من الله فيما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1200 حقاً بالله. كأن الله أراد أن يجعلها تصفية فاصلة، يولد من بعدها المؤمن طاهرا نقيا. إنه أمر من الحق: دعوا الربا الذي لم تقبضوه؛ لأن الذي قبضتموه أمره {فَلَهُ مَا سَلَفَ} والذي لم تقبضوه اتركوه: {اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} فإن قلتم إن التعاقد قد صدر قبل التحريم، والتعاقد قد أوجب لك الحق في ذلك، تذكر أنك لم تقبض هذا الحق ليصير في يدك، ولا تقل إن حياتي الاقتصادية مترتبة عليه، فترتيب الحياة الاقتصادية لم ينشأ بالاتفاق على هذا الربا، ولكنه ينشأ بقبضه وأنت لم تقبضه. ويتابع الحق: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1201 في هذه الآية قضية كونية يتغافل عنها كثير من الناس. لقد جاء نظام ليحمي طائفة من ظلم طائفة، ولم يأت هذا النظام إلا بعد أن وجدت طائفة المرابين الذين ظلموا طائفة الفقراء المستضعفين. وحَسْبُ هؤلاء المستضعفين الذين استغلوا من المرابين أن ينصفهم القرآن وأن يُنهي قضية الربا إنهاءً يعطي الذين رابوا ما سلف لأنهم بنوا حياتهم على ذلك. و {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} كلمة (الألف والذال والنون) من «الأذن» وكل المادة مشتقة من «الأذن» و «الأذُن» هي الأصل الأول في الإعلام؛ لأن الإنسان ليس مفروضاً أنه قارئ أولا، إنّه لا يكون قارئاً إلا إذا سمع، إذن فلا يمكن أن ينشأ إعلام إلا بالسماع والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن أدوات العلم للإنسان قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1201 {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] ولذلك عندما جاء علم وظائف الأعضاء ليبحث ذلك وجدوها طبق الأصل كما قال الله عنها. فالوليد الصغير حين يولد إن جاء إصبع إنسان عند عينيه فلا يهتز له رمش؛ لأن عينه لم تؤد مهمتها بعد، ولكن إن تصرخ بجانب أذنه فإنه ينفعل. وعرفنا أن أول أداة تؤدي مهمتها بالنسبة للإنسان الوليد هي أذنه، وهي أيضا الأداة التي تؤدي مهمتها بالنسبة للإنسان مستيقظاً كان أو نائماً. إن العين تغمض في النوم فلا ترى، لكن الأذن مستعدة طوال الوقت لأن تسمع؛ لأنها آلة الاستدعاء. إذن فمادة «الأَذَان» و «الأُذُن» كلها جاءت من مهمة السمع، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 5] ما معنى أذنت؟ . أنت حين تسمع من مساو لك، فقد تنفذ وقد لا تنفذ، لكن حين تسمعه من إله قادر فلا مناص لك إلا أن تنفذ، فكأن الله يقول: إن الأرض تنشق حين تسمع أمري بالانشقاق. فبمجرد أن تسمع الأرض أمر الحق فإنها تفعل، وحق لها أن تفعل ذلك؛ إنها أذنت لأمر الله، أي خضعت؛ لأن القائل لها هو الله. إذن كل المادة هنا جاءت من «الأذن» . ولذلك فالله يقول لمن لا يفعل ما أمر به الله في الربا؛ {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} . أما حرب الله فلا نقول فيها إلا قول الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1202 ولا يستطيع أحد أن يحتاط لها. وأما حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهذه هي الأمر الظاهر. كأن الله سبحانه وتعالى يجرد على المرابين تجريدة هائلة من جنوده التي لا يعلمها إلا هو، وحرب رسول الله جنودها هم المؤمنون برسوله، وعليهم أن يكونوا حربا على كل ظاهرة من ظواهر الفساد في الكون؛ ليطهروا حياتهم من دنس الربا. وهكذا وضع الله نهاية لأسلوب التعامل، حتى يتطهر المال من ذلك الربا، فإذا قال الحق: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} فمعنى هذا أنه سبحانه يبين لنا بهذا القول أنه لا حق للمرابين في ضعف ولا ضعفين، ولا في أضعاف مضاعفة. وحينئذ {لاَ تَظْلِمُونَ} من رابيتم، بأن تأخذوا منهم زائدا عن رأس المال. ولكن ما موقع {وَلاَ تُظْلَمُونَ} ، ومن الذي يظلمهم؟ قد يظلمهم الضعيف الذي ظُلِمَ لهم سابقا، ويأخذ منهم بعض رأس المال بدعوى أنهم طالما استغلوه فأخذوا منه قدراً زائدا على رأس المال. إن المشرع يريد أن يمنع الظالم السابق فينهي ظلمه، وأن يسعف المظلوم اللاحق فيعطيه حقه، وهو سبحانه لا يريد أن يوجه ظلما ليستغل به من ظُلم فيظلم الذي ظلمه أولا، بل سبحانه يشاء بهذا الحكم أن ينهي هذا النوع من الظلم على إطلاقه، وأن يجعل الجميع على قدر سواء في الانتفاع بمزايا الحكم. وكثير من النظريات التي تأتي لتقلب نظاما في مجتمع ما تعمد إلى الطائفة التي ظَلَمَت، فلا تكتفي بأن تكفها عن الظلم، ولكن تمكن للمظلوم أن يظلم من ظلمه، وذلك هو الإجحاف في المجتمع، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه الناس جيدا؛ لأن الله الذي أنصفك أيها المظلوم من ظالمك، فمنع ظلمه لك، هنا يجب أن تحترم حكمه حينما قال: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} وبهذا القول انتهت القضية. ويستأنف سبحانه الأمر بعدالة جديدة تجمعك وتجمعه على قدم المساواة بدون ظلم منك أيها المظلوم سابقا بحجة أنه طالما ظلمك. والمجتمعات حين تسير على هذا النظام {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} إنما تسير على نمط معتدل لا على ظلم موجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1203 فنحن نعيب على قوم أنهم ظلموا، ثم نأتي بقوم لنجعلهم يَظْلِمون، لا. . إن الجميع على قدم المساواة من الآن. وفساد أي نظام في المجتمع يأتي من توجيه الظلم من فئة جديدة إلى فئة قديمة، فبذلك يظل النظام قائما، طائفة ظَلَمَت، وتأتي طائفة كانت مظلومة لتظلم الطائفة الظالمة سابقا، نقول لهم: ذلك ظلم موجه، ونحن نريد أن تنتظم العدالة وتشمل كل أفراد المجتمع بأن يأخذ كل إنسان حقه، فالذي ظَلَمَ سابقا منعناه عن ظلمه، والمغلوب سابقا أنصفناه، وبذلك يصير الكل على قدم المساواة؛ ليسير المجتمع مسيرة عادلة تحكمه قضية إيمانية. إننا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه. وبعد ذلك يجيء القرآن ليفتح باب جديدا من الأمل أمام المظلومين. وليضع حدا للذين كانوا ظالمين أولا، وحكم لهم برأس المال ومنعهم من الزائد على رأس المال، فحنن قلوبهم على هؤلاء. أَيْ ليست ضربة لازب أن تأخذوا رأس المال الآن، ولكن عليكم أن تُنْظِروا وتمهلوا المدين إن كان معسراً، وإن تساميتم في النضج الإيماني اليقيني وارتضيتم الله بديلا لكم عن كل عوض يفوتكم، فعليكم أن تتجاوزوا وتتنازلوا حتى عن رءوس أموالكم التي حكم الله لكم بها لتترفعوا بها وتهبوها لمن لا يقدر. فيأتي قول الحق: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1204 و {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} حكم بأن للدائن رأس المال، ولكن هب أنّ المدين ذو عسرة، هنا قضية يثيرها بعض المستشرقين الذين يدعون أنهم درسوا العربية، لقد درسوها صناعة، ولكنها عزت عليهم ملكة؛ لأن اللغة ليست صناعة فقط، اللغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1204 طبع، واللغة ملكة، اللغة وجدان، يقولون: إن القرآن يفوته بعض التقعيدات التي تقعدها لغته. فمثلا جاءوا بهذه الآية: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . قال بعض المستشرقين: نريد أن نبحث مع علماء القرآن عن خبر {كَانَ} في قوله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} ، صحيح لا نجد خبر {كَانَ} ، ولكن الملكة العربية ليست عنده؛ لأنه إذا كان قد درس العربية كان يجب أن يعرف أن {كَانَ} تحتاج إلى اسم وإلى خبر، اسم مرفوع وخبر منصوب وهذه هي التي يقال عنها كان الناقصة، كان يجب أن يفهم أيضا معها أنها قد تأتي تامة أي ليس لها خبر، وتكتفي بالمرفوع، وهذه تحتاج إلى شرح بسيط. إن كل فعل من الأفعال يدل على حدث وزمن، وكلمة {كَانَ} إن سمعتها دلت على وجود وحدث مطلق لم تبين فيه الحالة التي عليها اسمها، كان مجتهدا؟ كان كسولا؟ مثلا فهي تدل على وجود شيء مطلق أي ليس له حالة، ومعنى ذلك أن {كَانَ} دلت على الزمن الوجودي المطلق أي على المعنى المجرد الناقص، والشيء المطلق لا يظهر المراد منه إلا إذا قيد، فإن أردت أن تدل على وجود مقيد ليتضح المعنى، ويظهر، فلا بد أن تأتيها بخبر، كأن تقول: كان زيد مجتهدا، هنا وجد شيء خاص وهو اجتهاد زيد. إذن ف {كَانَ} هنا ناقصة تريد الخبر يكملها وليعطيها الوجود الخاص، فإذا لم يكن الأمر كذلك وأردنا الوجود فقط تكون {كَانَ} تامة أي تكتفي بمرفوعها فقط مثل أن تقول: عاد الغائب فكان الفرح أي وجد، أو أشرقت الشمس فكان النور، والشاعر يقول: وكانت وليس الصبح فيها بأبيض ... وأضحت وليس الليل فيها بأسود فقوله {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} أي فإن وجد ذو عسرة. . أي إن وجد إنسان ليس عنده قدرة على السداد، {فَنَظِرَةٌ} من الدائن {إلى مَيْسَرَةٍ} أي إلى أن يتيسر، ويكون رأس المال في هذه الحالة {قَرْضاً حَسَناً} ، وكلما صبر عليه لحظة أعطاه الله عليها ثوابا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1205 ولنا أن نعرف أن ثواب القرض الحسن أكثر من ثواب الصدقة؛ لأن الصدقة حين تعطيها فقد قطعت أمل نفسك منها، ولا تشغل بها، وتأخذ ثوابا على ذلك دفعة واحدة، لكن القرض حين تعطيه فقلبك يكون متعلقا به، فكلما يكون التعلق به شديدا، ويهب عليك حب المال وتصبر فأنت تأخذ ثوابا. لذلك يجب أن تلحظ أن القرض حين يكون قرضا حسنا والمقترض معذور بحق؛ لأن فيه فرقاً بين معذور بحق، ومعذور بباطل، المعذور بحق هو الذي يحاول جاهدا أن يسدد دينه، ولكن الظروف تقف أمامه وتحول دون ذلك، أما المعذور بباطل فيجد عنده ما يسد دينه ولكنه يماطل في السداد ويبقى المال ينتفع به وهو بهذا ظالم. ولذلك جرب نفسك، ستجد أن كل دين يشتغل به قلبك فاعلم أن صاحبه حرص على السداد ولم يسدد، وكل دين كان برداً وسلاماً على قلبك فاعلم أن صاحبه معذور بحق ولا يقدر أن يسدد، وربما استحييت أنت أن تمر عليه مخافة أن تحرجه بمجرد رؤيتك. وهؤلاء لا يطول بهم الدّيْنُ طويلا؛ لأن الرسول حكم في هذه القضية حكما، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» . فما دام ساعة أخذها في نيته أن يؤدي فإن الله ييسر له سبيل الأداء، ومن أخذها يريد إتلافها، فالله لا ييسر له أن يسدد؛ لأنه لا يقدر على ترك المال يسدد به دينه وهذه حادثة في حياة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تفسر لنا هذا الحديث، فقد مات رجل عليه دين، فلما علم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه مدين؛ قال لأصحابه: صلوا على أخيكم. إذن فهو لم يصل، ولكنه طلب من أصحابه أن يصلوا، لماذا لم يصل؟ لأنه قال قضية سابقة: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه» ما دام قد مات ولم يؤد إذن فقد كان في نيته أن يماطل، لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يمنع أصحابه من الصلاة عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1206 والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأتي للمعسر ويعامله معاملة الأريحية الإيمانية فيقول: «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . ومعنى «أنظر» أي أمهله وأخر أخذ الدين منه فلا يلاحقه، فلا يحبسه في دَيْنِه، فلا يطارده، وإن تسامى في اليقين الإيماني، يقول له: «اذهب، الله يعوض عليَّ وعليك» وتنتهي المسألة، ولذلك يقول الحق: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} والثمرة هي حسن الجزاء من الله. فإما أن تنظر وتؤخر، وإما أن تتصدق ببعض الدين أو بكل الدين، وأنت حر في أن تفعل ما تشاء. فانظروا دقة الحق عند تصفية هذه القضية الاقتصادية التي كانت الشغل الشاغل للبيئة الجاهلية. ولقد عرفنا مما تقدم أن الإسلام قد بنى العملية الاقتصادية على الرفد والعطاء، وتكلم الحق سبحانه وتعالى عنها في آيات النفقة التي سبقت من أول قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ} . وتكلم طويلاً عن النفقة. والنفقة تشمل ما يكون مفروضاً عليك من زكاة، وما تتطوع به أنت. والمتطوع بشيء فوق ما فرض الله يعتبره سبحانه حقاً للفقير، ولكنه حق غير معلوم، ولذلك حينما تعرضنا إلى قوله سبحانه: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 15 - 17] أيتطلب الإسلام منا ألا نهجع إلا قليلاً من الليل؟ لا، إن للمسلم أن يصلي العشاء وينام، ثم يقوم لصلاة الفجر، هذا ما يطلبه الإسلام. لكن الحق سبحانه هنا يتكلم عن المحسنين الذين دخلوا في مقام الإحسان مع الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1207 {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15 - 18] هل التشريع يلزم المؤمن أن يقوم بالسحر ليستغفر؟ لا، إن المسلم عليه أن يؤدي الفروض، ولكن إن كان المسلم يرغب في دخول مقام الإحسان فعليه أن يعرف الطريق: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] والكلام هنا في مقام الإحسان. ويضيف الحق عن أصحاب هذا المقام: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] إن الله سبحانه قد حدد في أموال من يدخل في مقام الإحسان حقا للسائل والمحروم، ولم يحدد الله قيمة هذا الحق أو لونه. هل هو معلوم أو غير معلوم. لكن حين تكلم الله عن المؤمنين قال سبحانه: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم} [المعارج: 24 - 25] وهكذا نجد في أموال صاحب مقام الإحسان حقا للسائل والمحروم، لكن في أموال صاحب الإيمان حق معلوم وهو الزكاة. ومقام الإحسان يعلو مقام الإيمان؛ لأن الحق في مال المؤمن معلوم، أما في مقام الإحسان فإن في مالهم حقا للإحسان إلى الفقير وإن لم يكن معلوما، أي لم يحدد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1208 وقد رأينا بعض الفقهاء قد اعتبر الزكاة ما دامت حقاً للفقير عند الغني فإن منع الغني ما قدره نصاب سرقة تُقطع يد الغني، لأنه أخذ حق الفقير. ونصاب السرقة ربع دينار ذهباً، فيبني الإسلام قضاياه الاجتماعية إما عل النفقة غير المفروضة وإما على النفقة المفروضة. فإذا ما شحّت نفوس الناس، ولم تستطيع أن تتبرع بالقدر الزائد على المفروض، وتمكن حب مالها في نفسها تمكنا قوياً بحيث لا تتنازل عنه يقول الله سبحانه لكل منهم: أنت لم تتنازل عن مالك، وأنا حرمت الربا، فكيف نلتقي لنضع للمجتمع أساساً سليماً؟ سنحتفظ لك بمالك ونمنع عنك فائدة الربا، وهكذا نلتقي في منتصف الطريق، لا أخذنا مالك، ولا أخذت من غيرك الزائد على هذا المال. وشرح الحق سبحانه آية الديْن، وأخذت هذه الآية أطول حيز في حجم آيات القرآن، لماذا؟ . لأن على الديْن هذا تُبنى قضايا المجتمع الاقتصادية عند من لا يجد مورداً مالياً يُسيّر به حركة حياته. وحين وضع الحق آية الديْن لم يضعها وضعاً تقنينياً جافاً جامداً، وإنما وضعها وضعاً وجدانيا. أي مزج التقنين بالوجدان، مزج الحق جمود القانون بروح الإسلام، فلم يجعلها عملية جافة. والمشرعون من البشر عندما يقننون فهم يضعون القانون جافاً، فمثال ذلك: من قتل يقتل، وغير ذلك. لكن الحق يقول غير ذلك حتى في أعنف قضايا الخلاف، وهي خلافات الدم، فقال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] والحق سبحانه وتعالى قبل أن يأتي بآية الديْن، يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1209 {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1210 ولقد أوضحنا من قبل أن تقوى الله تقتضي أن تقوم بالأفعال التي تقينا صفات الجلال في الله، وأوضحنا أن الله قال: {واتقوا يَوْماً} أي أن نفعل ما يجعل بيننا وبين النار وقاية، فالنار من متعلقات صفات الجلال. وهاهو ذا الحق سبحانه هنا يقول: {واتقوا يَوْماً} ، فهل نتقي اليوم، أو نتقي ما ينشأ في اليوم؟ إن اليوم ظرف زمان، والأزمان لا تُخاف بذاتها، ولكن يخاف الإنسان مما يقع في الزمن. لكن إذا كان شيء في الزمن مخيفاً، إذن فالخوف ينصب على اليوم كله، لأنه يوم هول؛ كل شيء فيه مفزّع ومخوف، وقانا الله وإياكم ما فيه من هول، وانظر إلى الدقة القرآنية المتناهية في قوله: {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} . إن الرجوع في هذا اليوم لا يكون بطواعية العباد ولكن بإرادة الله. وسبحانه حين يتكلم عن المؤمنين الذين يعملون الصالح من الأعمال؛ فإنه يقول عن رجوعهم إلى الله يوم القيامة: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45 - 46] ومعنى ذلك أن العبد المؤمن يشتاق إلى العودة إلى الله؛ لأنه يرغب أن ينال الفوز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1210 أما غير المؤمنين فيقول عنهم الحق: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] إن رجوع غير المؤمنين يكون رجوعاً قسرياً لا مرغوباً فيه. والحق يقول عن هذا اليوم: {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . وبعد ذلك يقنن الحق سبحانه للدين فيقول سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1211 إنها أطول آية في آيات القرآن ويستهلها الله بقوله: {ياأيها الذين آمنوا} وهذا الاستهلال كما نعرف يوحي بأن ما يأتي بعد هذا الاستهلال من حكم، يكون الإيمان هو حيثية ذلك الحكم، فما دمت قد آمنت بالله فأنت تطبق ما كلفك به؛ لأن الله لم يكلف كافراً، فالإنسان كما قلنا سابقاً حر في أن يُقبل على الإيمان بالله أو لا يُقبل. فإن أقبل الإنسان بالإيمان فليستقبل كل حكم ن الله بالتزام. ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى إن الإنسان حين يكون مريضاً، هو حر في أن يذهب إلى الطبيب أو لا يذهب، ولكن حين يذهب الإنسان إلى الطبيب ويكتب له الدواء فالإنسان لا يسأل الطبيب وهو مخلوق مثله: لماذا كتبت هذه العقاقير؟ . إن الطبيب يمكن أن يرد: إنك كنت حرا في أن تأتي إليّ أو لا تأتي، لكن ما دمت قد جئت إلى فاسمع الكلام ونفذه. والطبيب لا يشرح التفاعلات والمعادلات لا، إن الطبيب يشخص المرض، ويكتب الدواء. فما بالنا إذا أقبلنا على الخالق الأعلى بالإيمان؟ إننا نفذ أوامره سبحانه، والله لا يأمر المؤمن إلا عن حكمة، وقد تتجلى للمؤمن بعد ذلك آثار الحكمة ويزداد المؤمن ثقة في إيمانه بالله. يقول الحق: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} وعندما نتأمل قول الحق: {تَدَايَنتُم} نجد فيها «دَيْن» ، وهناك «دِين» ، ومن معنى الدِيّن الجزاء، ومن معنى الدِّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1212 منهج السماء، وأما الدَّيْن فهو الاقتراض إلى موعد يسدد فيه. هكذا نجد ثلاثة معان واضحة: الدِّين: وهو يوم الجزاء، والدَّيْن وهو المنهج السماوي والدَّيْن: هو المال المقترض. والله يريد من قوله: {تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} أن يزيل اللبس في معنيين، ويبقى معنى واحداً وهو الاقتراض فقال: {بِدَيْنٍ} فالتفاعل هنا في مسألة الدَيْن لا في الجزاء ولا في المنهج، والحق يحدد الدَيْن بأجل مُسمّى. وقد أراد الله بكلمة «مُسمّى» مزيداً من التحديد، فهناك فرق بين أجل لزمن، وبين أجل لحدث يحدث، فإذا قلت: الأجل عندي مقدم الحجيج. فهذا حدث في زمن، ومقدم الحجيج لا يضمنه أحد، فقد تتأخر الطائرة، أو يصاب بعض من الحجيج بمرض فيتم حجز الباقين في الحجر الصحي. أما إذا قلت: الأجل عندي شهران أو ثلاثة أشهر فهذا يعني أن الأجل هو الزمن نفسه، لذلك لا يصح أن يؤجل أجل دينه إلى شيء يحدث في الزمن؛ لأنه من الجائز ألا يحدث ذلك الشيء في هذا الزمن. إن التداين بديْن إلى أجل مُسمى يقتضي تحديد الزمن، والحق يوضح لنا: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} وكلمة {فاكتبوه} هي رفع لحرج الأحباء من الأحباء. إنه تشريع سماوي، فلا تأخذ أحد الأريحية، فيقول لصاحبه: «نحن أصحاب» ، إنه تشريع سماوي يقول لك: اكتب الديْن، ولا تقل: «نحن أصدقاء» فقد يموت واحد منكما فإن لم تكتب الديْن حرجاً فماذا يفعل الأبناء، أو الأرامل، أو الورثة؟ . إذن فإلزام الحق بكتابة الديْن هو تنفيذ لأمر من الله يحقق رفع الحرج بين الأحباء. ويظن كثير من الناس أن الله يريد بالكتابة حماية الدائن. لا، إن المقصود بذلك والمهم هو حماية المدين، لأن المدين إن علم أن الديْن عليه موثق حرص أن يعمل ليؤدي ديْنه، أما إذا كان الدين غير موثق فيمن الجائز أن يكسل عن العمل وعن سداد الديْن. وبذلك يحصل هو وأسرته على حاجته مرة واحدة، ثم يضن المجتمع الغني على المجتمع الفقير فلا يقرضه؛ ويأخذون عجز ذلك الإنسان عن السداد ذريعة لذلك، ويقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1213 هذا الإنسان الذي لم يؤد دينه في دائرة تحمل الوزر المضاعف، لأنه ضيّق باب القرض الحسن. إن الله يريد أن يسير دولاب الحياة الاقتصادية عند من لا يملك، لأن من يملك يستطيع أن يسيّر حياته، أما من لا يملك فهو المحتاج. ولذلك فهناك مثل في الريف المصري يقول: من يأخذ ويعطي يصير المال ماله. إنه يقترض ويسدد، لذلك يثق فيه كل الناس، ويرونه أميناً ويرونه مُجداً، ويرونه مخلصاً، ويعرفون عنه أنه إذا أخذ وفّى، فكل المال يصبح ماله. إذن فالله سبحانه بكتابة الديْن يريد حماية حركة الحياة عند غير الواجد؛ لأن الواجد في غير حاجة إلى القرض. لذلك جاء الأمر من الحق سبحانه: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} . ومن الذي يكتب الديْن؟ . انظر الدقة: لا أنت أيها الدائن الذي تكتب، ولا أنت أيها المدين، ولكن لابد أن يأتي كاتب غير الاثنين، فلا مصلحة لهذا الثالث من عملية الدين {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله} . وفي ذلك إيضاح بأن الإنسان الذي يعرف الكتابة إن طُلب منه أن يكتب ديْناً ألا يمتنع عن ذلك، لماذا؟ لأن الآية آية الديْن قد نزلت وكانت الكتابة عند العرب قليلة، كان هناك عدد قليل فقط هم الذين يعرفون الكتابة، فكان هناك طلب شديد على من يعرف الكتابة. ولكن إن لم يُطْلَب أحد من الذين يعرفون الكتابة أن يكتب الديْن فماذا يفعل؟ . إن الحق يأمره بأن يتطوع، وفي ذلك يأتي الأمر الواضح «فليكتب» ؛ لأن الإنسان إذا ما كان هناك أمر يقتضي منه أن يعمل، والظرف لا يحتمل تجربة، فالشرع يلزمه أن يندب نفسه للعمل. هب أنكم في زورق وبعد ذلك جاءت عاصفة، وأغرقت الذي يمسك بدفة الزورق، أو هو غير قادر على إدارة الدفة، هنا يجب أن يتقدم من يعرف ليدير الدفة، إنه يندب نفسه للعمل، فلا مجال للتجربة. والحق سبحانه وتعالى حين عرض قضية الجدب في قصة سيدنا يوسف قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1214 {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 47 - 48] وقال سيدنا يوسف: {قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] إن المسألة جدب فلا تحتمل التجربة، وهو كفء لهذه المهمة، يملك موهبة الحفظ والعلم، فيندبُ نفسه للعمل. كذلك هنا {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله} إذا طلب منه وإن لم يطلب منه وتعين {فَلْيَكْتُبْ} . وهذه علة الأمرين الاثنين، وما دامت الكتابة للتوثيق في الدَّيْن؛ فمن الضعيف؟ إنه المدين، والكتابة حجة عليه للدائن، لذلك يحدد الله الذي يملل: الذي عليه الديْن، أي يملي الصيغة التي تكون حجة عليه {وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق} ولماذا لا يملي الدائن؟ لأن المدين عادة في مركز الضعف، فلعل الدائن عندما تأتي لحظة كتابة ميعاد السداد فقد يقلل هذا الميعاد، وقد يخجل المدين أن يتكلم ويصمت؛ لأنه في مركز الضعف. ويختار الله الذي في مركز الضعف ليملي صيغة الديْن، يملي على راحته، ويضمن ألا يُؤخذ بسيف الحاجة في أن موضع من المواضع. لكن ماذا نفعل عندما يكون الذي عليه الديْن سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو؟ إن الحق يضع القواعد {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} والسفيه هو البالغ مبلغ الرجال إلا أنه لا يمتلك أهلية التصرف. والضيف هو الذي لا يملك القدرة التي تُبلغه أن يكون ناضجا النضج العقلي للتعامل، كأن يكون طفلا صغيرا، أو شيخا بلغ من الكبر حتى صار لا يعلم من بعد علمه شيئا، أو لا يستطيع أن يمل. أي أخرس فيقول بالإملاء الولي أو القيمّ أو الوصيّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1215 ويأتي التوثيق الزائد: بقوله تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} . ولننظر إلى الدقة في التوثيق عندما يقول الحق: {واستشهدوا} نستشهد ونكتب، لأنه سبحانه يريد بهذا التوثيق أن يؤمّن الحياة الاقتصادية عند غير الواجد؛ لأن الحاجة عندما تكون مؤمَّنَة عند غير الواجد فالدولاب يمشي وتسير حركة الحياة الاقتصادية؛ لأن الواجد هو القليل، وغير الواجد هو الكثير، فكل فكر جاد ومفيد يحتاج إلى مائة إنسان ينفذون التخطيط. أن الجيب الواجد الذي يصرف يحتاج إلى مائة لينفذوا، ولهذا تكون الجمهرة من الذين لا يجدون، وذلك حتى يسير نظام الحياة؛ لأن الله لا يريد أن يكون نظام الحياة تفضلا من الخلق على الخلق، إنما يريد الله نظام الحياة نظاما ضروريا؛ فالعامل الذي لا يعول أسرة قد لا يخرج إلى العمل، لذلك فالحق يربط خروج العامل بحاجته. إنه يحتاج إلى الطعام ورعاية نفسه وأسرته فيخرج اضطرارا إلى العمل، وبتكرار الأمر يعشق عمله، وحين يعشق العمل فهو يحب العمل في ذاته. وبذلك ينتقل من الحاجة إلى العمل، إلى حب العمل في ذاته، وإذا ما أحب العمل في ذاته، فعجلة الحياة تسير. والحق سبحانه حين يحدد الشهود بهذا القول: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} . ولماذا قال الحق: {شَهِيدَيْنِ} ولم يقل «شاهدان» ؟ لأن مطلق شاهد قد يكون زوراً، لذلك جاء الحق بصيغة المبالغة. كأنه شاهد عرفه الناس بعدالة الشهادة حتى صار شهيدا. إنه إنسان تكررت منه الشهادة العادلة؛ واستأمنه الناس على ذلك، وهذا دليل على أنه شهيد. وإن لم يكن هناك شهيدان من الرجال فالحق يحدد لنا {فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء} . إن الحق سبحانه وتعالى قد طلب منا على قدر طاقتنا أي من نرضى نحن عنهم، وعلل الحق مجيء المرأتين في مقابل رجل بما يلي: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} ؛ لأن الشهادة هي احتكاك بمجتمع لتشهد فيه وتعرف ما يحدث. والمرأة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1216 بعيدة عن كل ذلك غالبا. أن الأصل في المرأة ألا علاقة لها بمثل هذه الأعمال، وليس لها شأن بهذه العمليات، فإذا ما اضطرت الأمور إلى شهادة المرأة فلتكن الشهادة لرجل وامرأتين؛ لأن الأصل في فكر المرأة أنه غير مشغول بالمجتمع الاقتصادي الذي يحيط بها، فقد تضل أو تنسى إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، وتتدارس كلتاهما هذا الموقف، لأنه ليس من واجب المرأة الاحتكاك بجمهرة الناس وبخاصة ما يتصل بالأعمال. وبعد ذلك يقول الحق: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ} فكما قال الحق عن الكاتب ألا يمتنع عن توثيق الديْن، كذلك الشهادة على هذا الديْن. وكيف تكون الشهادة، هل هي في الأداء أو التحمل؟ إن هنا مرحلتين: مرحلة تحمل، ومرحلة أداء. وعندما نطلب من واحد قائلين: تعال اشهد على هذا الديْن. فليس له أن يمتنع، وهذا هو التحمل. وبعدما وثقنا الديْن، وسنطلب هذا الشاهد أمام القاضي، والوقوف أمام القاضي هو الأداء. وهكذا لا يأبى الشهداء إذا ما دعوا تحملا أو أداءً. لكن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن كل نفس بشرية لها مجال حركتها في الوجود ويجب ألا تطغى حركة حدث على حدث، فالشاهد حين يُستدعى بضم الياء ليتحمل أولا أو ليؤدي ثانيا ينبغي ألاّ تتعطل مصالحه؛ إن مصالحه ستتعطل؛ لأنه عادل، ولأنه شهيد، لذلك يضع الله لذلك الأمر حداً فيقول: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} . إذن فالشهادة هنا تتطلب أن نحترم ظرف الشاهد. فإن كان عند الشاهد عمل أو امتحان أو صفقة أو غير ذلك، فلنا أن نقول للشاهد: إما أن تتعين في التحمل حيث لا يوجد من يوثق به ويطمأن إليه أما في الأداء فأنت مضطر. إن الشاهد يمكنه أن يذهب إلى أمره الضروري الذي يجب أن يفعله، فلا يطغى حدث على حدث، لذلك علينا أن نبحث عن شاهد له قدرة السيطرة على عمله بدرجة ما. وإن لم نجد غيره، فماذا يكون الموقف؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1217 لقد قال الحق: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} إذن فعلينا أن نبحث له عن «جُعْل» يعوض عليه ما فاته، فلا نلزمه أن يعطل عمله وإلا كانت عدالته وَبالاً عليه، لأن كل إنسان يُطلب للشهادة تتعطل أعماله ومصالحه. والله لا يحمي الدائن والمدين ليضر الكاتب أو الشهيد. وقوله الحق لكلمة: {يُضَآرَّ} فمن الممكن أن تأتي الكلمة على وجهين في اللغة، فمرة تأتي {يُضَآرَّ} بمعنى أن الضرر يأتي من الكاتب أو الشهيد، ومرة أخرى تأتي كلمة {يُضَآرَّ} بمعنى الضرر يقع على الكاتب أو الشهيد. فاللفظ واحد، ولكن حالة اللفظ بين الإدغام الذي هو عليه حسب قواعد اللغة وبين فكه هي التي تُبَيِّنُ لنا اتجاه المعنى. فإن قلنا: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} بكسر الراء، فالمعنى في هذه الحالة هو أن يقع الضرر من الكاتب فيكتب غير الحق، أو أن يقع الضرر من الشهيد فيشهد بغير العدل. وإن قلنا: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} بفتح الراء فالمنهي عنه هو أن يقع الضرر على الكاتب أو الشهيد من الذين تؤدي الكتابة غرضا لهم، وتؤدي الشهادة واجبا بالنسبة لهم؛ ليضمن الدائن دَيْنه، وليستوثق أن أداءه محتم. والكاتب والشهيد شخصان لهما في الحياة حركة، ولكل منهما عمل يقوم به ليؤدي مطلوبات الحياة، فإذا عُلِمَ بضم العين وكسر اللام وفتح الميم أنه كاتب أو شهد بأنه عادل، عند ذلك يتم استدعاؤه في كل وقت من أصحاب المصلحة في المداينة، وربّما تعطلت مصالح الكاتب أو الشهيد. ويريد الله أن يضمن لذلك الكاتب أو الشهيد ما يبقى على مصلحته. ولذلك أخذت القوانين الوضعية من القرآن الكريم هذا المبدأ، فهي إن استدعت شاهدا من مكان ليشهد في قضية فإنّها تقوم له بالنفقة ذهابا وبالنفقة إيابا، وإن اقتضى الأمر أن يبيت فله حق المبيت وذلك حتى لا يضار، وهو يؤدي الشهادة، وحتى لا يتعطل الشاهد عن عمله أو يصرف من جيبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1218 ويريد الحق سبحانه وتعالى أيضا أن يضمن مصالح الجميع لا مصلحة جماعة على حساب جماعة. ويقول الحق في هذه «المضارة» : {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أي وإن تفعلوا الضرر من هذا أو من ذاك فإنه فسوق بكم، إنه سبحانه يحذر أن يقع الضرر من الكاتب أو الشهيد، أو أن يقع الضرر على الكاتب أو الشهيد. ففعل الضرر فسوق، أي خروج عن الطاعة. والأصل في «الفسق» هو خروج الرطبة من قشرتها، فالبلح حين يرطب تكون القشرة قد خلعت عن الأصل من البلحة، فتخرج الثمرة من القشرة فيقال: «فسقت الرطبة» . ومنها أخذ معنى الفسوق وهو الخروج عن طاعة الله في كل ما أمر. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {واتقوا الله} وعلمنا من قبل معنى كلمة «التقوى» حين يقول الله: {واتقوا الله} أو يقول سبحانه: {واتقوا النار} {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} ، وكل هذه المعاني مبنية على الوقاية من صفات جلال الله، وجبروته، وقهره، وإذا قلنا: {واتقوا النار} فالنار من جنود صفات القهر لله، ف {واتقوا الله} هي بعينها {واتقوا النار} هي بعينها {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} . ويقول الحق سبحانه: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} . وهنا مبدأ إيماني يجب أن نأخذه في كل تكليف من الله؛ فإن التكاليف إن جاءت من بشر لبشر، فأنت لا تنفذ التكليف من البشر إلا إن أقنعك بحكمته وعلته؛ لأن التكليف يأتي من مساوٍ لك، ولا توجد عقلية أكبر من عقلية، وقد تقول لمن يكلفك: ولماذا أكون تبعا لك وأنت لا تكون تبعا لي؟ إنك إذا أردت أن تكلفني بأمر من الأمور وأنت مساو لي في الإنسانية والبشرية وعدم العصمة فلا بد أن تقنعني بحكمة التكليف. أما إن كان التكليف من أعلى وهو الحق سبحانه وهو الله الذي آمنا بقدرته وعلمه وحكمته وتنزهه عن الغرض العائد عليه فالمؤمن في هذه الحالة يأخذ الأمر قبل أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1219 يبحث في الحكمة؛ لأن الحكمة في هذا الأمر أنه صادر من الله، وحين ينفذ المؤمن التكليف الصادر من الله فسيعلم سر هذه الحكمة فيما بعد؛ فأسرار الحكم عند الله تأتي للمؤمن بعد أن يقبل على تنفيذ التكاليف الإيمانية. إن الحق سبحانه على سبيل المثال لا يقنع العبد بأسرار الصوم، ولكن إن صام العبد المؤمن كما قال الله وعند ممارسة المؤمن لعبادة الصوم سيجد أثر حكمة الصوم في نفسه بما لا يمكن إقناعه به أولا. إن المؤمن حين يفعل التكليف الإيماني فإن الله يعلمه حكمة التكليف. ولنا في قوله سبحانه الدليل الواضح: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم} [الأنفال: 29] إن الله سبحانه يَعِدُ عباده المؤمنين أنهم عندما يتقونه فإنه يجعل لهم دلائل تبين لهم الحق من الباطل ويستر عنهم السيئات ويغفر لهم. لماذا؟ لأن الله الذي يعلمنا هو الحق سبحانه العليم بكل شيء. وعلم الله ذاتي، أما علم الإنسان فقد يكون أثرا من ضغط الأحداث عليه فيفكر الإنسان في تقنين شيء يخرجه مما يكون فيه من شر ولكن علم العليم الأعلى سابق على ذلك لأنه علم ذاتي. وفيما سبق علمنا أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى الديْن هذه العناية ليضمن للحياة حركتها الطاهرة، حركتها السليمة؛ لأن المعدم لا وسيلة له في حركة الحياة إلا أمور ثلاثة، الأمر الأول: الرِّفْدُ أي عطاء تطوعي يستعين به على حركة الحياة. والأمر الثاني: الفرض الذي فرضه الله في الزكاة. والأمر الثالث: القرض الذي شرعه. فعندما لا يجد المؤمن المعدم الرفد أو الفرض فماذا يكون بعد ذلك؟ إنه القرض. إذن فالقرض هو المفزَع الثالث للحركة الاقتصادية عند المعدمين. وعرفنا أن القرض عند الله يفوق ويعلو الصدقة في الثواب؛ لأن الصدقة حين تتصدق بها تكون قد خرجت من نفسك من أول الأمر فلا مشغولية لذهنك بعد ذلك، ولكن القرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1220 نفسك تكون متعلقة به؛ لأنك لا تزال مالكاً له، وكلما صبرت عليه أخذت ثواباً من الله على كل صبرة تصبرها على المدين. وعرفنا كذلك أن الحق سبحانه وتعالى قد استوثق لعملية الديْن استيثاقا يجب أن نفهمه من وجهيه، الوجه الأول: أنه يحفظ بذلك ثمرة حركة المتحرك في الحياة وهي أن يتمول، أي أن يكون عنده مال؛ فإن لم نَحْم له ثمرة حركته في الحياة استهان بالحركة، وإذا استهان بالحركة تَعطلت مصالح كثيرة؛ لأن حركة المتحرك في الحياة تنفع بشراً كثيرين قصد المتحرك ذلك أو لم يقصد، وضربنا المثل بمن يريد بناء عمارة، وعنده مال، فيسلط الله عليه خاطراً من خواطره مصداقاً لقوله الحق: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] فيقول: ولماذا أكنز المال؟ ولماذا لا أبني عمارة أستفيد من إيجارها؟ . وبذلك لا يتناقص المال بل يزيد. وليس في بال ذلك الرجل أن ينفعَ أحداً. إن باله مشغول بأن ينفع نفسه، لكن حركته وإن لم يقصد نفعَ الغير ستنفع الغير. . فالذي يحفر الأرض سيأخذ أجراً لذلك، والذي يضرب الطوب سيأخذ أجراً لذلك، وكل من يشترك في عمل لإقامة هذا البنيان من بناء أو إدخال كهرباء أو توصيل مياه أو تحسين وتجميل كل واحد من هؤلاء سيأخذ أجره، وبذلك يستفيد الجميع وإن لم يقصد المتحرك في الحياة. إذن فالحق يريد أن يحمي حركة المتحرك في الحياة لأنه لو لم يحم الله ثمرة حركته في الحياة؛ لاكتفى المتحرك في حركته بما يقوته ويقوت من يقول، ويبقى الضعيف في الحياة؛ فمن ذا يعوله؟ . إذن لابد أن يضمن للمتحرك ماله حتى يتشجع على الحركة إن الله الذي وهب الناس أرزاقهم، عندما يطلب من القوي المتحرك أن يعطي أخاه الضعيف المحتاج قرضاً، لا يقول الله: «اقرض المحتاج» ، ولكنه جل وعلا يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1221 إن الله سبحانه وتعالى قد احترم حركة الإنسان المتحرك في الحياة وجعل المال مال المتحرك، فلا يقول الله للمتحرك: أعط المحتاج من المال الذي وهبتك إياه. لا، إنه مال المتحرك، ويقول الله للمتحرك: اقرضني لأن أخاك في حاجة إليه، كما نقول للتقريب لا للتشبيه ولله المثل الأعلى أنت تأخذ من حصالة ابنك لمصلحة أخيه، وتعد ابنك الذي أخذت من حصالته أنك سوف تعطيه الكثير. والمال الذي أخذته من حصالة ابنك قرضا أنت الذي أعطيته له أولا. إذن فالله يريد أن يحمي حركة الحياة، وإن لم نحم حركة الحياة، لا يكون كل إنسان آمناً على ثمرة حركته، فستفسد الحياة كلها ويستشري الضغن والحقد والذي يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36 - 37] وساعة يتفشى الضغن في المجتمع فلا فائدة في هذا المجتمع أبداً. إذن فالحق حين يوثق الديْن يريد أن يحمي حركة المتحرك؛ لأن الناس تختلف فيما بينها في الحركات الطموحية. ولا توجد الحركات الطموحية في كل الناس، بل توجد في بعضهم، فلنستغل حركة الطموح عند بعض الناس؛ لأنهم سيفيدون المجتمع: قصدوا ذلك أو لم يقصدوا. وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يحمي أيضاً الإنسان من نفسه؛ لأنه إن علم أن الديْن الذي عليه موثق، ولا وسيلة لإنكاره حاول جاهداً أن يتحرك في الحياة ليؤديه. وحين يتحرك الإنسان ليؤدي عن نفسه الدين فإن ذلك يزيد الحركة في الحياة، ويزداد النفع. وهكذا نرى أن الله أراد بالتوثيق للدين حماية المديْن من نفسه؛ لأن المدين قد تطرأ عليه ظروف فيماطل، وإذا ما ماطل فلن تكون الخسارة فيه وحده، ولكنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1222 سيصبح أسوة عند جميع الناس وسيقول كل من عنده مال: لا أعطي أحداً شيئاً لأن فلاناً الغني مثلي قد أعطى فلاناً الفقير وماطله وأكله، وعند ذلك تتوقف حركة الحياة ولكن إذا كان الدين موثقا ومكتوبا فإن المدين يكون حريصا على أدائه. والله يريد أن يضمن لحركة الحياة دواماً واستمراراً شريفاً نظيفاً. ولذلك نجد في آية الدَّين أن كلمة «الكتابة» ومادتها «الكاف والتاء والباء» تتكرر أكثر من مرة بل مرات كثيرة. {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] وهذا التكرار في هذه الآية لعملية الكتابة يؤصل العلاقة بين الناس؛ فالكتابة هي عمدة التوثيق، وهي التي لا تغش، لأنك إن سجلت شيئاً على ورقة فلن تأتي الورقة لتنكر ما كتبته أنت فيها، ولكن الأمر في الشهادة قد يختلف، فمن الجائز أن يخضع الشاهد لتأثير ما فينكر الحقيقة، ولذلك فإن الحق يعطينا قضية إيمانية جديدة حين يقول: «أن يكتب كما علمه الله» أي أن يكتب الكاتب على وفق ما علمه الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1223 فكأنه لابد أن يكون فقيهاً عالماً بأمور الكتابة، أو «كما علمه الله» أي أنّ الله أحسن إليه وعلمه الكتابة دون غيره، فكما أحسن الله إليه بتعلم الكتابة فليحسن ولْيُعَدِّ أثر الكتابة إلى الغير. وليست المسألة مسألة كتابة فقط، إنما ذلك يشمل ويضم كل شيء أو موهبة خص الله بها فرداً من الناس من مواهب الله على خلقه؛ فالمؤمن هو من يعمل على أن يعدي أثر النعمة والموهبة إلى الغير. وعليك أن تعدي أثر مواهب الغير إليك فتنفع بها سواك، وبذلك يشيع الخير ويعم النفع لأنك إن أخذت موهبة فستأخذ موهبة واحدة تكفيك في زاوية واحدة من زوايا حياتك، وعندما تعديها للجميع وتنقلها إليهم فيعدي الجميع مواهبهم المجتمعة لمصلحتك، فأيهما أكسب؟ حين تعدي وتنقل موهبتك إلى الناس، تكون أنت الأكثر كسباً؛ لأن الجميع يعدون وينقلون مواهبهم إليك. وإذا أتقنت صنعك للناس فالصنعة التي في يدك واحدة، وعندما تتقنها فإن الله يسلط جنود الخواطر على كل من يصنع لك شيئاً أن يتقنه، كما أتقنْت أنت لسواك. وبعد ذلك يعلمنا الحق سبحانه شدة الحرص على التوثيق فيقول: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1224 والسفر كما نعلم هو خروج عن رتابة الحياة في المواطن، ورتابة الحياة في الموطن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1224 تجعل الإنسان يعلم تمام العلم مقومات حياته، لكن السفر يخرج الإنسان عن رتابة الحياة فلا يتمكن من كثير من الأشياء التي يتمكن بها في الإقامة. فهب أنك مسافر، واضطررت إلى أن تستدين، ولا يوجد كاتب ولا يوجد شهيد، فماذا يكون الموقف؟ هاهو ذا الحق يوضح لك: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} . إذن فلم يترك الله مسألة الديْن حتى في السفر فلم يشرِّع فقط للإقامة ولكن الحق قد شرَّع أيضا للسفر {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} وهكذا الكتابة، والشهادة في الإقامة والرهان المقبوضة في السفر هدفها حماية الإنسان أمام ظروف ضغط المجتمع. ولكن هل يمنع الحق سبحانه وتعالى طموحية الإيثار؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى رجولية التعامل؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى المروءات من أن تتغلغل في الناس؟ لا. إنه الحق سبحانه يقول: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} إنه الطموح الإيماني، لم يَسُدّ الله مسألة المروءة والإيثار في التعامل. إن كتابة الديْن والإشهاد والرهن ليس إلزاماً لأن الله قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} . وأيضا قد نفهم أن الذي اؤتمن هو المدين، وهنا نقول: لا، إن الأمر مختلف، فهنا رهان، وذلك معناه وجود مسألتين، المسألة الأولى هي «الديْن» ، والمسألة الثانية هي «الرهان المقبوضة» وهي مقابل الديْن. فواحد مأمون على الرهن في يده. والآخر مأمون على الديْن. ولهذا يكون القول الحكيم مقصودا به من بيده الرهن، ومن بيده الدَّيْن ومعنى ذلك أن يؤدي مَن معه الرهن أمانته، وأن يؤدي الآخر ديْنه. وحين نرتقي إلى هذا المستوى في التعامل فإن وازع الإنسان ليس في التوثيق الخارج عن ذات النفس، ولكنه التوثيق الإيماني بالنفس، ولكن أنضمن أن يوجد التوثيق الإيماني عند كل الناس؟ . أنضمن الظروف؟ . نحن لا نضمن الظروف، فقد توجد الأمانة الإيمانية وقت التحمل والأخذ، ولا نضمن أن توجد الأمانة الإيمانية وقت الأداء فقد يأتي واحد ويقول لك: إن عندي مائة جنيه وخذها أمانة عندك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1225 ومعنى «أمانة» أنه لا يوجد صك، ولا شهود، وتكون الذمة هي الحكم، فإن شئت أقررت بهذه الجنيهات المائة، وإن شئت أنكرتها. إن الرجل الذي يفعل معك ذلك إنما يطلب منك توثيق المائة جنيه في الذمة الإيمانية، ومن الجائز أن تقول له لحظة أن يفعل معك ذلك: نعم سأحتفظ لك بالمائة جنيه بمنتهى الأمانة. وتكون نيتك أن تؤديها له ساعة أن يطلبها، ولكنك لا تضمن ظروف الحياة بالنسبة لك، وأنت كإنسان من الأغيار. ومن الجائز أن تضغط عليك الحياة ضغطا يجعلك تماطل معه في أداء الأمانة، أو يجعلك تنكرها، فتقول لمن ائتمنك: ابعد عني؛ أنا لا أملك نفسي في وقت الأداء، وإن ملكت نفسي وقت التحمل. والأمانة هي القضية العامة في الكون، وإن كانت خاصة الآن بالنسبة للآية الكريمة التي نحن بصددها والحق سبحانه يعرضها بعمومها على الكون كله فيقول جل شأنه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] إن الكون كله أشفق على نفسه من تحمل الأمانة وهذا يعني أن الأمانة سوف تكون عرضة للتصرف والاختيار، ولا كائن في الكون قد ضمن لنفسه القدرة على الوفاء وقت الأداء. لقد أعلنت الكائنات قولها فأبين تحمُّل الأمانة وكأنها قالت: إنّا يا ربنا نريد أن نكون مسخرين مقهورين لا اختيار لنا؛ ولذلك نجد الكون كله يؤدي مهمته كما أرادها الله، ما عدا الإنسان، أي أنه الذي قبل بما له من عقل وتفكير أن يتحمل أمانة الاختيار، وبلسان حاله أو بلسان مقاله قال: إنني قادر على تحمل الأمانة؛ لأني أستطيع الاختيار بين البدائل. وهنا نُذَكِّر الإنسان: إنك قد تكون قوياً لحظة التحمل، ولكن ماذا عن حالك وقت الأداء؟ لذلك قال الله عن الإنسان: {وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} لقد ظلم الإنسان نفسه حيث حمل الأمانة ولم يف بها فلذلك فهو ظلوم. وهو جهول لأنه قدّرَ وقت التحمل، ولم يقدّر وقت الأداء، أو ضمنها ثم خاس وخالف ما عاهد نفسه على أدائها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1226 إذن فالإنسان وإن كان واثقاً أنه سيؤدي الأمانة إلاّ أنه عرضة للأغيار، لذلك قال الحق سبحانه: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله} فالكتابة فرصة ليحمي الإنسان نفسه من الضعف وقت الأداء، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يوثق الأمر توثيقاً لا يجعلك أيها العبد خاضعاً لذمتك الإيمانية فقط، ولكنّك تكون خاضعاً للتوثيق الخارج عن إيمانيتك أيضاً، وذلك يكون بكتاب الدين صغيرا أو كبيرا إلى أجله. ويقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} وهذه الكلمة {وَلاَ تَكْتُمُواْ} إنما هي أداء معبر، لأن كلمة «شهادة» تعني الشيء الذي شهدته، فما دمت قد شهدت شيئاً فهو واقع، والواقع لا يتغير أبداً، ولذلك فالإنسان الذي يحكي لك حكاية صدق لا يختلف قوله في هذه الحكاية حتى وإن رواها ألف مرة؛ لأنه يستوحي واقعاً. لكن الكذّاب يستوحي غير واقع، فيقول كلمة، وينسى أنه كذب من قبل فيكذب كذبة أخرى؛ لأنه لا يستوحي واقعاً. فكلمة الشهادة هي عن أمر مشهود واقع، وما دام الأمر مشهوداً وواقعاً، فإنه يلح على نفس من يراه أن يخرج، فإياك أن تكبته بالكتم؛ لأن كلمة «الكتم» تعني أن شيئاً يحاول أن يخرج وأنت تحاول كتمانه، لذلك يقول الحق: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} فكأن الطبيعة الإيمانية الفطرية تلح على صاحبها لتنطقه بما كان مشهوداً له لأنه واقع. لذلك يأتي الأمر من الحق؛ {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه} . وقد يسأل الإنسان: هل الكتم هنا صفة للقلب أو للإنسان الذي لم يقل الشهادة؟ . إن الشاعر يقول: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلاً وساعة يؤكد الله شيئاً فهو يأتي بالجارحة التي لها علاقة بهذا الصدد، فتقول: أنا رأيته بعيني وسمعته بأذني، وأعطيته بيدي ومشيت له برجلي. إنّك تذْكر الجارحة التي لها دخل في هذه المسألة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1227 وعندما يقول الحق: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه} إنّ كل الجوارح تخضع للقلب: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي أن كتمك للحقيقة لن يغير من واقع علم الله شيئاً، وحينما تنتهي مسألة المداينة والتوثيق فيها وظروفها سواء كانت في الموطن العادي أو في أثناء السفر فإن الله يضمن للإنسان المتحرك في الحياة حركة شريفة وطاهرة. فإن لم تكن هذه فالمصالح تتوقف، ويصيبها العطل، فالذي لا يقدر على الحركة فماذا يصنع في الحياة؟ . إن قلبه يمتلئ بالحقد على الواجد، وحين يمتلئ قلبه بالحقد على الواجد فإنه يكره النعمة عنده، وحين يكره المعدم النعمة عند أخيه الواجد، فالنعمة نفسها تكره أن تذهب إلى من كره النعمة عند أخيه. إنها مسائل قد رتبها الحق سبحانه بعضها متعلق بالبعض الآخر. إن النعمة تحب المُنعم عليه بضم الميم وفتح العين أكثر من حب المنعم عليه للنعمة وتذهب إلى من أنعم الله عليه بها بعشق، فمن كره النعمة عند منعم عليه فالنعمة تستعصي عليه حتى كأنها تقول له: لن تنال مني خيراً. وليجربها كل إنسان. أحبب النعمة عند سواك فستجد نعمة الكل في خدمتك، إنك إنْ أحببت النعمة عند غيرك فإنها تأتي إليك لتخدمك. وأيضاً فعلى المؤمن أن يعرف أن بعض النعم ليست وليدة كد وجهد، قد تكون النعمة مجرد فضل من الله، يفضل به بعض خلقه، فحين تكرهها أنت عند المنعم عليه تكون قد اعترضت على قدر الله في النعمة. وحين تعترض على قدر الله في النعمة فإن الحق سبحانه لا يجعلك تنتفع منها بشيء. فإن رأيت قريباً حبس نعمته عن أقاربه فاعلم أنهم يكرهون النعمة عنده. ولو أحبوها لسعت النعمة إليهم. إن المنهج الإلهي يريد أن يجعل الناس كتلة متكافلة متكاملة بحيث إذا رأيت أنا النعمة عندك ونلت منها، أحببتها عندك، وحين أحب النعمة عندك فإن العطاء يجيء من هذه النعمة إليّ، ولا تجد فارقاً بين واجد ومعدم. إنك لا تجد فارقاً بين واجد ومعدم إلا في مجتمع لا يؤدي حكم الله في شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1228 لقد قلنا ذلك في مجال اضطرار الإنسان إلى الربا لأنه لم يجد من يقرضه قرضاً حسناً، ولم يجد من يؤدي فرض الله له من الزكاة لتسع حاجته فاضطر أن يأخذ بالربا، وبذلك يدخل المجتمع الربوي في حرب مع الله، وهل لأحد جلد على أن يدخل في حرب مع الله؟ لا. والمجتمع الربوي يدخل في حرب مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقد حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الربا وقال في حجة الوداع: «إن كل ربا موضوع ولكن رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله» . وتلك سمة سمو التشريع السماوي، إن التشريع البشري يحمي به صاحبه أقاربه من التقنين، لكن التشريع السماوي يفرض تطبيقاته أولا على الأقارب. وكان الأسوة في ذلك سيدنا عمر بن الخطاب، فساعة يريد عمر أن يضع التشريع فإنه يجمع أهله وأقاربه ويقول: سأقوم بعمل كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني في شيء من هذا لأجعلنه نكالاً للمسلمين. ويعلنها عمر أمام الناس، ولماذا أعلن عمر ذلك؟؛ لأن كثيرا من الناس يجاملون أولياء الأمور، وقد لا يكون أولياء الأمور على دراية بذلك؛ فقد نجد واحداً يدخل على قوم على أساس أنه فلان بن فلان، وبالرعب يقضي هذا الإنسان مصالحه عند الناس برغم أنف الناس. وقد يكون ولي الأمر لا يعرف عن مثل هذا التصرف شيئاً. لكن حين يعلن ولي الأمر على الناس ولأقاربه أنه لا تفرقة أبداً فيما يقنن وأن القانون سائر على نفسه وعلى أهله فمن استغل اسماً لولي الأمر أو اصطنع شيئاً فالتبعة على من فعل له وعليه، وبذلك تستقيم الأمور. لكن أن تظهر الحقائق في استغلال أقارب الحكام بعد انتهاء فترات حكم الحكام، فهنا نقول: ولماذا لم نعرف كل شيء من البداية؟ . وأين كانت الحقائق في وقتها؟ . إن الحاكم المسلم عليه أن يعلن للمحكومين أن القوانين إنما تُطبق عليه أولاً وعلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1229 من يعول. هكذا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حجة الوداع «وربَا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع رِبَانا، رِبَا عباس عبد المطلب فإنه موضوع كله» . وفي معركة بدر، أخرج الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أهل بيته ليحاربوا؛ لأنه لو لم يخرج أحداً من أَهل بيتهِ لقال واحد من الكفار: إنه يحمي أهل بيته، ولو أن أجر الاستشهاد هو الجنة فلماذا يقدم الأباعد ولا يقدم أحبابه للقتال؟ لكن هاهو ذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقدم أقاربه وأحبابه، فهو العارف من ربه بأمر الشهادة وكيف أنها تقصر على الإنسان متاعب الحياة وتدخل الجنة. هكذا كانت المحاباة في صدر الإسلام، إنها محاباة في الباقي، ولم تكن كمحاباة الحمقى في الفاني. وحين يعلمنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك ويضرب على أيدي المرابين فهذه هي الحرب التي يجب أن تقوم، حرب من الله المالك القادر على المحاربة، أما الضعاف الذين لا يستطيعون القتال فهم لا يحاربون؛ لأنهم أمام خالقهم وقاهرهم فلا يقدرون على حربه ولذلك يجب أن تتنبه الدولة إلى مثل هذه الأمور وتقنن تقنينا إسلامياً وبعد ذلك إذا لم تتسع الزكاة المفروضة إلى ما يقوم بأود المحتاجين فلتفرض الدولة ما تشاء لتفي بحاجة المحتاجين. والحق سبحانه وتعالى بعد أن أوضح الأمر عقيدة في قوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} ، وتقنيناً للعقيدة في قوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} ، وحماية للعقيدة بأمره سبحانه المؤمنين أن يقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، وبعد ذلك تكلم الحق عن حماية حركة الاقتصاد في الإنفاق أولاً في سبيل الله، والإنفاق على المحتاجين. يقول سبحانه بعد ذلك: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1230 استهلت الآية بتقديم {لله} على ما في السماوات والأرض، والحق سبحانه يقول: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ذلك هو الظرف الكائنة فيه المخلوقات، السماوات والأرض لم يدع أحد أنها له، لكن قد يوجد في السماوات أو في الأرض أشياء يدعي ملكيتها المخلوقون، فإذا ما نظرنا إلى خيرات الأرض فإننا نجدها مملوكة في بعض الأحيان لأناس بما ملكهم الله، والبشر الذين صعدوا إلى السماء وأداروا في جوها ما أداروا من أقمار صناعية ومراكب فضائية فمن الممكن أن يعلنوا ملكيتهم لهذه الأقمار وتلك المراكب. ويلفتنا الحق سبحانه هنا بقوله: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} وهو يوضح لنا: إنه إن كان في ظاهر الأمر أن الله قد أعطى ملكية السببية لخلقه فهو لم يعط هذه الملكية إلا عَرَضَاً يؤخذ منهم، فإما أن يزولوا عنه فيموتوا، وإما أن يزول عنهم فيؤخذ منهم عن بيع أو هبة أو غصب أو نهب. وكلمة «لله» تفيد الاختصاص، وتفيد القصر، فكل ما في الوجود أمره إلى الله، ولا يدعي أحد بسببية ما آتاه الله أنه يملك شيئا لماذا؟ لأن المالك من البشر لا يملك نفسه أن يدوم. نحن لم نر واحداً لم تنله الأغيار، وما دامت الأغيار تنال كل إنسان فعلينا أن نعلم أن الله يريد من خلقه أن يتعاطفوا، وأن يتكاملوا، ويريد الله من خلقه أن يتعاونوا، والحق لا يفعل ذلك لأن الأمر خرج من يده والعياذ بالله لا، إن الله يبلغنا: أنا لي ما في السماوات وما في الأرض، وأستطيع أن أجعل دولاً بين الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1231 ولذلك نقول للذين يَصلون إلى المرتبة العالية في الغنى، أو الجاه، أو أي مجال، لهؤلاء نقول: احذر حين تتم لك النعمة، لماذا؟ لأن النعمة إن تمت لك علواً وغنىً وعافيةً وأولاداً، أنت من الأغيار، وما دامت قد تمت وصارت إلى النهاية وأنت لاشك من الأغيار، فإن النعمة تتغير إلى الأقل. فإذا ما صعد إنسان إلى القمة وهو متغير فلا بد له أن ينزل عن هذه القمة، ولذا يقول الشاعر: إذا تم شيء بدا نقصه ... ترقب زوالاً إذا قيل تم والتاريخ يحمل لنا قصة المرأة العربية التي دخلت على الخليفة وقالت له: أتم الله عليك نعمته. وسمعها الجالسون حول الخليفة ففرحوا، وأعلنوا سرورهم، لكن الخليفة قال لهم: والله ما فهمتم ما تقول، إنها تقول: أتم الله عليك نعمته، فإنها إن تمت تزول؛ لأن الأغيار تلاحق الخلق. وهكذا فهم الخليفة مقصد المرأة. والشاعر يقول: نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة ... فكيف آسى على شيء لها ذهبا إن النفس المالكة هي نفسها ذاهبة؛ فكيف يحزن على شيء له ضاع منه؟ والحق سبحانه يطلب منا أن نكون دائما على ذكر من قضية واضحة هي: أن الكون كله لله، والبشر جميعا بذواتهم ونفوسهم وما ظهر منها وما بطن لا يخفر على الله، والحق سبحانه لا يحاسبنا على مقتضى ما علم فحسب، بل يحاسبنا على ما تم تسجيله علينا. إن كل إنسان يقرأ كتابه بنفسه. . فسبحانه يقول: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 13 - 14] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1232 والحساب معناه أن للإنسان رصيدا، وعليه أيضا رصيد. والحق سبحانه وتعالى يفسر لنا (له وعليه) بالميزان كما نعرف في موازين الأشياء عندنا وهو سبحانه يقول: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 - 9] إن حساب الحق دقيق عادل، فالذين ثقلت كفة أعمالهم الحسنة هم الذين يفوزون بالفردوس، والذين باعوا أنفسهم للشيطان وهوى النفس تثقل كفة أعمالهم السيئة، فصاروا من أصحاب النار. إذن نحن أمام نوعين من البشر، هؤلاء الذين ثقلت كفة الخير في ميزان الحساب، وهؤلاء الذين ثقلت كفة السيئات والشرور في ميزان الحساب. فماذا عن الذين تساوت الكفتان في أعمالهم. استوت حسناتهم مع سيئاتهم؟ إنهم أصحاب الأعراف، الذين ينالون المغفرة من الله؛ لأن مغفرة الله وهو الرحمن الرحيم قد سبقت غضبه جل وعلا. ولو لم يجيء أمر أصحاب الأعراف في القرآن لقال واحد: لقد قال الله لنا خبر الذين ثقلت موازينهم، وأخبار الذين خفت موازين الخير عندهم، ولم يقل لنا خبر الذين تساوت شرورهم مع حسناتهم. لكن الحليم الخبير قد أوضح لنا خبر كل أمر وأوضح لنا أن المغفرة تسبق الغضب عنده، لذلك فالحساب لا يكتفي الحق فيه بالعلم فقط، ولكن بالتسجيل الواضح الدقيق، لذلك يطمئننا الحق سبحانه فيقول: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70] إن الحق يطمئننا على أن ما نصنعه من خير نجده في كفة الميزان، ويطمئننا أيضا على أنه سبحانه سيجازينا على ما أصابنا من شر الأشرار وأننا سنأخذ من حسناتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1233 لتضاف إلى ميزاننا، إذن فالطمأنينة جاءت من طرفين: طمأننا الحق على ما فعلناه من خير، فلا يُنسى أنه يدخل في حسابنا، وطمأننا أيضا على ما أصابنا من شر الأشرار وسيأخذ الحق من حسناتهم ليضيفها لنا. ونحن نجد في الكون كثيراً من الناس قد يحبهم الله لخصلة من خصال الخير فيهم، وقد تكون هذه الخصلة الخيّرة خفية فلا يراها أحد، لكن الله الذي لا تخفى عليه خافية يرى هذه الخصلة في الإنسان، ويحبه الله من أجلها، ويرى الحق أن حسنات هذا الرجل قليلة، فيجعل بعض الخلق يصيبون هذا الرجل بشرورهم وسيئاتهم حتى يأخذ من حسنات هؤلاء ليزيد في حسنات هذا الرجل. ومعنى {تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} أي تصيروا الوجدانيات إلى نزوعيات عملية، ولكن هل معنى {أَوْ تُخْفُوهُ} هو ألا تصيروا الوجدانيات النفسية إلى نزوعيات عملية؟ لا، فليس لكل شيء نزوع عملي، ومثال ذلك الحب؛ إن الإنسان قد يحب، ولا يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع أنه محترق في حبه، وكذلك الذي يحقد قد لا يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع عن حقده، إذن فهناك أعمال تستقر في القلوب، فهل يؤاخذ الله بما استقر في النفوس؟ إن هذه المسألة تحتاج إلى دقة بالغة؛ لأننا وجدنا بعضا من صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد وقفوا فيها موقفا أبكى بعضهم، هذا عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما حينما سمع هذه الآية قال: لئن آخذنا الله على ما أخفينا في نفوسنا لنهلكن. وبكى حتى سُمع نشيجه بالبكاء. وبلغ ذلك الأمر ابن عباس فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد وجد إخوانه المسلمون مثلما وجد من هذه الآية. فأنزل الله بعدها {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إلى آخر السورة. ولنعلم أن نوازع النفس كثيرة؛ فهناك شيء اسمه «هاجس» وهناك شيء آخر اسمه «خاطر» وهناك ما يسمى «حديث نفس» ، وهناك «هم» وهناك «عزم» ، إنها خمس حالات، والأربع الأولى من هذه الحالات ليس فيها شيء، إنما الأخيرة التي يكون فيها القصد واضحا يجب أن نتنبه لها ولنتناول كل حالة بالتفصيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1234 إن الهاجس هو الخطرة التي تخطر دفعة واحدة، أما الخاطر فهو يخطر. . أي يسير في النفس قليلا، وأما حديث النفس فإن النفس تظل تتردد فيه، وأما الهم فهو استجماع الوسائل، وسؤال النفس عن كل الوسائل التي ينفذ بها الإنسان رغباته، أما العزم (القصد) فهو الوصول إلى النهاية والبدء في تنفيذ الأمر. والقصد هو الذي يُعني به قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} وقد وجدنا كثيرا من العلماء قد وقفوا عند هذا القول وتساءل بعض من العلماء: هل الآية التي جاءت بعد ذلك والتي يقول فيها: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} هل هي نسخ للآية السابقة عليها؟ ولكن نحن نعرف أن الآية هي خبر، والأخبار لا تنسخ إنما الأحكام هي التي يتم نسخها، وعلى ذلك يكون القصد والعزم على تنفيذ الأمر هو المعنى بقوله الحق: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} فهذا هو الذي يحاسبنا الله عليه. وعندما يقول الحق سبحانه: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} فمن هم؟ لقد بين الله من يشاء المغفرة لهم، إنهم الذين تابوا، وهم الذين أنابوا إلى الله، هم الذين قال فيهم الحق: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70] وتبديل المغفرة حسنة مسألة يجب أن يقف عندها الإنسان المكلف من الله وقفة ليرى فضل الله، لأن الذي صنع سيئة ثم آلمته، فكما آلمته السيئة التي ارتكبها وحزن منها، فإن الله يكتب له حسنة. ولكن الذي لم يصنع سيئة لا تفزعه هذه، وبعض العارفين يقول: رُبّ معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة. أورثت عزا واستكبارا. إنك لتجد الخير الشائع في الوجود كله ربما كان من أصحاب الإسراف على أنفسهم في شيء ما قد اقترفوه وتابوا عنه ولكنه لا يزال يؤرقهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1235 يكون الواحد منهم قويا في كل شيء، إلا أنه ضعيف أمام مسألة واحدة، وضعفه أمام هذه المسألة الواحدة جعله يعصي الله بها وهو يحاول جاهداً في النواحي التي ليس ضعيفاً فيها أن يزيد كثيراً في حسناته، حتى يمحو ويذهب الله هذه بهذه. فالخير الشائع في الوجود ربما كان من أصحاب السيئات الذين أسرفوا على أنفسهم في ناحية من النواحي، فيشاء الله سبحانه وتعالى أن يجعلهم متجهين إلى نواحٍ من الخير قائلين: ربما هذه تحمل تلك. لكن الذي يظل رتيباً هكذا لا تلذعه معصية ربما تظل المسائل فاترة في نفسه. ولذلك يجب أن ننظر إلى الذين أسرفوا على أنفسهم لا في زاوية واحدة، ولكن في زوايا متعددة، ونتأدب أمامهم وندعو الله أن يعفيهم مما نعرفه عنهم، وأن يبارك لهم فيما قدموه؛ ليزيل الله عنهم أوزار ما فعلوا. وبعض العلماء يرى في قوله الحق: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أن الله قد جعل المغفرة أمراً متعلقاً بالعابد لله، فإن شئت أن يغفر الله لك فاكثر من الحسنات حتى يبدل الله سيئاتك إلى حسنات. وإن شئت أن تعذب وهذا أمر لا يشاؤه أحد فلا تصنع الحسنات. وهذه المسألة تجعلنا نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا الإيمان به فإنه يُملكنا الزمام. وبمجرد إيماننا به فنحن نتلقى منه زمام الاختيار، والدليل واضح في الحديث القدسي: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني. إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأهم خيرٌ منهم وان تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلىّ ذراعا، تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هَرْوَلَةً» . إذن فبمجرد إيمانك ملكك الله الزمام، فإن أردت أن يتقرب الله إليك ذراعا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1236 فتقرب أنت إليه شبرا، فالزمام في يدك. وإن شئت أن يتقرب الله منك باعا، فتقرب أنت ذراعا. وإن شئت أنت أن يأتي ربك إليك مهرولاً جرياً فأت إليه مشيا. فبمجرد أن يراك الله وأنت تقبل وتتجه إليه، كأنه يقول لك: لا. . استرح أنت، أنا الذي آتي إليك. ولذلك قلنا من قبل في مسألة الصلاة حين تؤمن أيها العبد بالله وبعد ذلك ينادي المؤذن للصلاة، فتذهب أنت إلى الصلاة، صحيح أنت تذهب إلى الصلاة المفروضة، لكن هل منعك الله أن تقف بين يديه في أية لحظة؟ . لقد طلب الله منك أن تحضر بين يديه خمس مرات في اليوم، وبعد ذلك ترك الباب مفتوحاً لك أيها المؤمن فالله لا يمل حتى يمل العبد. والإنسان في حياته العادية ولله المثل الأعلى إذا أراد أن يقابل عظيماً من العظماء فإن الإنسان يطلب الميعاد، فإما أن يقبل العظيم من البشر لقاء من يطلب الميعاد أو يرفض. وإذا قبل العظيم من البشر لقاء من يطلب الميعاد، فإن العظيم من البشر يحدد الزمن، ويحدد المكان، وربما طلب العظيم من البشر أن يعرف سبب وموضوع المقابلة. لكن الله يترك الباب مفتوحاً أمام العبد المؤمن، يلقى الله عبده في أي شيء، وفي أي وقت، وفي أي مكان، وفي أي زمان. حسب نفسي عزاً بأنَّيَ عبد ... يحتفي بي بلا مواعيد ربُّ هو في قدسه الأعز ولكن ... أنا ألقى متى وأين أحبُّ الزمام إذن في يد من؟ . إن الزمام في يد العبد المؤمن. لذلك فالذين قالوا في فهم {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} إن البشر في أيديهم أمر المغفرة لهم، فإن شاء البشر أن يغفر الله لهم فإنهم يفعلون أسباب المغفرة، ويتوبون إلى الله، ويكثرون من الحسنات، ومن يريد أن يتعذب فليظل سادراً في غيه في فعل السيئات. ثم بعد ذلك يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1237 عندما نتأمل هذه الآية الكريمة نجد أن الإيمان الأول بالله كان من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} . وبعد ذلك يأتي إيمان الذين بلغهم الرسول بالدعوة {والمؤمنون} . وبعد ذلك يمتزج إيمان الرسول بإيمان المؤمنين {كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} . أي أن كلا من الرسول والمؤمنين آمنوا بالله. إن الإيمان الأول هو إيمان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والإيمان أيضاً من المؤمنين بالرسالة التي جاء بها الرسول بناءً على توزيع الفاعل في {آمَنَ} بين الرسول والمؤمنين. وبعد ذلك يجمعهما الله الرسول والمؤمنين في إيمان واحد، وهذا أمر طبيعي، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آمن بالله أولاً، وبعد ذلك بلغنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآمنا بالله وبه ثم امتزج الإيمان فصار إيماننا هو إيمان الرسول وإيمان الرسول هو إيماننا، وهذا ما يوضحه القول الحق: {كُلٌّ آمَنَ بالله} . إذن فالرسول في مرحلته الأولى سبق بالإيمان بالله، والرسول مطلوب منه حتى حين يؤمن بالله أن يؤمن بأنه رسول الله، ألم يقل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أشهد أن محمداً رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ وكان الرسول إذا ما أعجبه أمر في سيرته ذاتها يقول: أشهد أني رسول الله. . إنّه يقولها بفرحة. ومثال ذلك ما روي «عن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال:» كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة فجلست الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1238 فخلا عاما فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجد منها شيئا فجعلت أستنظره إلى قابل «أي أطلب منه أن يمهلني إلى عام ثان» فيأبى فَأخبر بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لأصحابه: امشوا نستنظر لجابر من اليهودي فجاءوني في نخلي، فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يكلم اليهودي فيقول (اليهودي) أبا القاسم، لا أنظره فلما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى فجئت بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأكل ثم قال: أين عريشك يا جابر فأخبرته، فقال: افرش لي فيه ففرشته، فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها، ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه، فقام في الرطاب في النخل الثانية ثم قال يا جابر، جذّ واقض فوقف في الجذاذ فَجذذْتُ منها ما قضيته، وفضل منه فخرجت حتى جئت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبشرته فقال: أشهد أني رسول الله «. والحق سبحانه وتعالى يشهد أن لا إله إلا هو: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] إذن فالله يشهد أن لا إله إلا هو، ورسول الله يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أيضاً أنه رسول الله، يبلغ ذلك للمؤمنين فيكتمل التكوين الإيماني، ولذلك يقول الحق عن ذلك: {كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} . والحق يأتي ب «كلً» بالتنوين أي كل من الرسول والمؤمنين. ويورد لنا سبحانه عناصر الإيمان: {كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} . ونحن نعرف أن الإيمان بالله وكل ما يتعلق بالإيمان لابد أن يكون غيباً؛ فلا يوجد إيمان بمحس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1239 أبداً. فالأشياء المحسة لا يدخلها إيمان؛ لأنها مشهودة. وعناصر الإيمان في هذه الآية هي: إيمان بالله وهو غيب. وإيمان بالملائكة وهي غيب من خلق الله، ولو لم يبلغنا الله أن له خلقاً هم الملائكة لما عرفنا، إن الحق أخبرنا أنه خلق الملائكة وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم غيب، ولولا ذلك لما عرفنا أمر الملائكة إيمان بالكتب والرسل. وقد يقول قائل: هل الرسل غيب؟ وهل الكتب السماوية غيب؟ إن الرسل بشر، والكتب مشهودة. ولمثل هذا القائل نقول: لا، لا يوجد واحد منا قد رأى الكتاب ينزل على الرسول، وهذا يعني أن عملية الوحي للرسول بالكتاب هي غيب يعلمه الله ويؤمن به المؤمنون. وكيف نؤمن بكل الرسل ولا نفرق بين أحد منهم؟ . ونقول: إن الرسل المبلغين عن الله إنما يبلغون منهجاً عن الله فيه العقائد التي تختلف باختلاف العصور، وفيه الأحكام التي تختلف باختلاف العصور ومواقع القضايا فيها. إذن فالأصل العقدي في كل الرسالات أمر واحد، ولكن المطلوب في حركة الحياة يختلف؛ لأن أقضية الحياة تختلف، وحين تختلف أقضية الحياة فإن الحق سبحانه ينزل التشريع المناسب، لكن الأصل واحد والبلاغ من خالق لا إله إلا هو، ولذلك يأتي القول الحكيم: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} فنحن لا نفرق بين الرسل في أنهم يبلغون عن الله ما تتفق فيه مناهج التبليغ من ناحية الاعتقاد، وما تختلف من ناحية الأحكام التي تناسب أقضية كل عصر. وبعد ذلك يقول الحق؛ {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} إذن السماع هو بلوغ الدعوة والطاعة هي انفعال بالمطلوب، وأن يمتثل المؤمن أمراً ويمتثل المؤمن نهياً في كل أمر يتعلق بحركة الكون. فالذين يريدون أن يعزلوا الدين عن حركة الحياة يقولون: إن الدين يهتم بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج. وبعد ذلك يحاولون عزل حركة الحياة عن الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1240 لهؤلاء نقول: أنتم تتكلمون عما بلغكم من دين لم يجئ لينظم حركة الحياة، وإنما جاء ليعطي الجرعة المفقودة عند اليهود وهي الجرعة الروحية، لكن الدين الإسلامي جاء خاتماً للأديان منظماً لحركة الحياة، فكل أمر في الحياة وكل حركة فيها داخلة في حدود الطاعة. ونحن حين نقرأ القرآن الكريم، نجد القول الحكيم: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] إذن الحق سبحانه يأمر المؤمنين ويخرجهم من حركة من حركات الحياة إلى حركة أخرى، فهو لم يأخذهم من فراغ، إنما ناداهم لإعلان الولاء الجماعي، وهو إعلان من كل مؤمن بالعبودية لله أمام بقية المخلوقات. وبعد أن يقضي المؤمنون الصلاة ماذا يقول لهم الحق سبحانه؟ يقول لهم: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] إذن فالانتشار في الأرض هو حركة في الحياة، تماماً كما كان النداء إلى السعي لذكر الله. وهكذا تكون كل حركة في الحياة داخلة في إطار الطاعة، إذن «سمعنا وأطعنا» أي سمعنا كل المنهج، ولكن نحن حين نسمع المنهج، وحين نطيع فهل لنا قدرة على أن نطيع كل المنهج أو أن لنا هفوات؟ . ولأن أحداً لن يتم كل الطاعة ولنا هفوات جاء قوله الحق: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} فالغاية والنهاية كلها عائدة إليك، وأنت الإله الحق، لذلك فنحن العباد نطلب منك المغفرَة حتى نلقاك، ونحن آمنون على أن رحمتك سبقت غضبك ويقول الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1241 {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1242 {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إنّه سبحانه لم يكلفكم إلا ما هو في الوسع. لماذا؟ لأن الأحداث بالنسبة لعزم النفس البشرية ثلاثة أقسام: القسم الأول: هو ما لا قدرة لنا عليه، وهذا بعيد عن التكليف. القسم الثاني: لنا قدرة عليه لكن بمشقة أي يجهد طاقتنا قليلا. القسم الثالث: التكليف بالوسع. إذن {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي أن الحق لا يكلف النفس إلا بتكليف تكون فيه طاقتها أوسع من التكليف، كلف الحق كل مسلم بالصلاة خمسة فروض كل يوم، وتملأ أوقاتها بالصلاة وكان من الممكن أن تكون عشرة، بدليل أن هناك أناساً تتطوع وهو سبحانه كلف كل مسلم بالصوم شهراً، ألا يوجد من يصوم ثلاثة أشهر؟ ومثل هذا في الزكاة؛ فهناك من كان يخرج عن ماله كله لله، ولا يقتصر على ما يجب عليه من زكاة. إذن فهذا في الوسع، ومن الممكن أن تزيد، إذن فالأشياء ثلاثة: شيء لا يدخل في القدرة فلا تكليف به، شيء يدخل في القدرة بشيء من التعب، وشيء في الوسع، والحق حين كلف، كلف ما في الوسع. ومادام كلف ما في الوسع فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1242 تطوعت أنت بأمر زائد فهذا موضوع آخر {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} مادمت تتطوع من جنس ما فرض. إذن فالتكليف في الوسع وإلا لو لم يكن في الوسع لما تطوعت بالزيادة. فسبحانه يقول: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} ويأتي بعد ذلك ليعلمنا فيقول: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، وهو القائل: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إذن سبحانه يكلفنا بما نقدر عليه ونطيقه. فقد روي أن الله حينما سمع رسوله وسمع المؤمنين يقولون: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} قال سبحانه: قد فعلت. وعندما قالوا: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال سبحانه: قد فعلت. ولم يكلفنا سبحانه إلا بما في الوسع، وهو القدر المشترك عند كل المؤمنين. وهناك أناس تكون همتهم أوسع من همة غيرهم، ومن تتسع همته فإنه يدخل بالعبادات التي يزيد منها في باب التطوع، ومن لا تتسع همته فهو يؤدي الفروض المطلوبة منه فقط وعندما يطرأ على الإنسان ما يجعل الحكم في غير الوسع؛ فإن الله يخفف التكليف؛ فالمسافر تقول له الشريعة: أنت تخرج عن حياتك الرتيبة، وتذهب إلى أماكن ليس لك بها مستقر، لذلك يخفف الحق عليك التكليف؛ فلك أن تفطر في نهار رمضان، ولك أن تُقصر الصلاة. والحق سبحانه يعلم أن الوسع قد يضيق لذلك فإنه جل شأنه يخفف حكم التكليف ويمنح الرخص عند ضيق الوسع، ومثال ذلك قوله الحق: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّأْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] كانت النسبة في القتال قبل هذه الآية هي واحداً لعشرة، وخففها الحق وجعلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1243 واحداً إلى اثنين لأن هناك ضعفا، وهكذا نرى أنه سبحانه سيخفف التكليف إذا ما زاد عن الوسع. وكثير من الناس يخطئون التفسير؛ فيقولون عن بعض التكاليف: إنها فوق وسعهم ولهؤلاء نقول: لا. لا تحدد أنت الوسع، ثم تقيس التكليف عليه، بل انظر هل كلفك أو لم يكلفك؟ فإذا كان قد كلفك الحق فاحكم بأنه كلفك بما في الوسع، وكل تكاليف الرحمن تدخل في الوسع {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} . و {لَهَا} تفيد الملكية والاختصاص وهي ما تُفيد وتُكْسِبُ النفسَ ثوابا، و {عَلَيْهَا} تفيد الوزر، ونلاحظ أن كل {لَهَا} جاءت مع {كَسَبَتْ} ، وكل {عَلَيْهَا} جاءت مع {اكتسبت} إلا في آية واحدة يقول فيها الحق: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] وهنا وقفة في الأسلوب؛ لأن «كسب» تعني أن هناك فرقاً في المعالجة الفعلية الحدثية بينها وبين كلمة {اكتسبت} ، لأن «اكتسب» فيها «افتعل» أي تكلف، وقام بفعل أخذ منه علاجاً، أما «كسب» فهو أمر طبيعي إذن ف «كسب» غير «اكتسب» وكل أفعال الخير تأتي كسباً لا اكتساباً. مثال ذلك عندما ينظر الرجل إلى زوجته، ويرى جمالها، فهل هو يفتعل شيئاً، أو أن ذلك أمر طبيعي؟ إنه أمر طبيعي، ولكن عندما ينظر الرجل إلى غير محارمه فإنه يرقب هل يرى أحد النظرة؟ وهل رآه أحد من الناس؟ وهل سينال سخرية واستهزاء على ذلك الفعل أو لا؟ لماذا؟ لأنه ارتكب عملاً مفتعلاً. مثال آخر، إنسان يأكل من ماله، أو من مال أبيه، إنه يأكل كأمر طبيعي، أما من يدخل بستاناً ويريد أن يسرق منه فهو يتكلف ذلك الفعل، ويريد أن يستر نفسه، فصاحب الشر يفتعل، أما صاحب الخير فإن أفعاله سهلة لا افتعال فيها. . فالشر هو الذي يحتاج إلى افتعال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1244 والمصيبة الكبرى ألا يحتاج الشر إلى افتعال؛ لأن صاحبه يصير إلى بلادة الحس الإيماني، وتكون الشرور بالنسبة إليه سهلة؛ لأنه تعود عليها كثيراً، ويقول الحق: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} إن الخطيئة تحيط به من كل ناحية، ولم يعد هناك منفذ، وهو لا يفتعل حتى صارت له ملكة في الشر؛ فاللص مثلاً في بداية عمله يخاف ويترقب، لكن عندما تصبح اللصوصية مهنته فإنه يحمل أدوات السرقة ويصير حسه متبلداً. ففي المرحلة الأولى من الشر يكون أهل الشر في حياء من فعل الشر، وذلك دليل على أن ضمائرهم وقلوبهم مازال فيها بعض من خير، لكن عندما يعتبرون الشر حرفة وملكة فهنا المصيبة، وتحيط بكل منهم خطيئة وتطوقه ولا تجعل له منفذاً إلى الله ليتوب. فالذي يلعب الميسر، أو طوقته خطيئة الفحش قد يقول فرحاً: «كانت سهرة الأمس رائعة» ، أما الذي يرتكب الخطأ لأول مرة فإنه يقول: «كانت ليلة سوداء يا ليتها ما حدثت» ، ويظل يؤنب نفسه ويلومها؛ لأنه تعب وأرهق نفسه؛ لأنه ارتكب الخطأ. إذن فقول الحق: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} يوضح لنا أن فعل الشر هو الذي يحتاج إلى مجهود، فإن انتقلت المسألة من اكتسبت إلى كسبت فهذه هي الطامة الكبرى، ويكون قد أحاطت به خطيئته. ويكون على كل نفس ما اكتسبت. والعاقل هو من يكثر ما لنفسه، ولا ما عليها؛ لأن الذي يقول ذلك هو الحق العالم المالك الذي إليه المصير، فليس من هذا الأمر فِكاك. وبعد ذلك يقول الحق على لسان عباده المؤمنين: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} ، ولقائل أن يقول: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طمأننا، فقال: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» . فكيف يأتي القرآن بشيء مرفوع عن الأمة الإسلامية ليدعو به الناس ربهم ليرفعه عنهم؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1245 على مثل هذا القائل نرد: هل قال لك أحد: إن رفع الخطأ والنسيان والاستكراه كان من أول الأمر؟ . لعل الرفع حدث بعد أن دعا الرسول والسابقون من المؤمنين، فما دام قد رُفِعَ بضم الراء وكسر الفاء وفتح العين فمعنى ذلك أنه كان موجوداً، إذن فلا يقولن أحد: كيف تدعو بشيء غير موجود. أو أن ذلك يدل على منتهى الصفاء الإيماني، أي الله يجب ألاّ يُعْصى إلا خطأ أو نسياناً، وأن الله لا يصح ولا يستقيم أن يُعصى قصداً؛ لأن الذي يعرف قدر الله حقاً، لا يليق منه أن يعصي الله إلا نسياناً أو خطأ؛ لأن الخالق هو المنعم بكل النعم، وبعد ذلك كلفنا، وكان يجب ألا نقصد المعصية. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى قد سمى ما حدث من آدم معصية مع أنه يقول: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] وسمى الله النسيان في قصة آدم معصية: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} فكان النسيان أولاً معصية، ولكن الله أكرم أمة محمد، فرفع عنها النسيان. وفي مسألة آدم هناك ملحظ يجب على المؤمن أن يتنبه إليه؛ فآدم خُلِقَ بيد الله، ونحن مخلوقون بقانون التكاثر، وآدم تلقى التكليف من الله مباشرة وليس بواسطة رسول، وكُلِّفَ بأمر واحد وهو ألا يأكل من الشجرة. فإذا كان آدم مخلوقاً من الله مباشرة ومكلفاً من الله مباشرة، ولم يكلف إلا بأمر واحد وهو ألا يقرب هذه الشجرة، ولم تكن هناك تكاليف كثيرة فماذا نسى؟ وماذا تذكر؟ إنها معصية إذن. لقد كان النسيان بالنسبة لآدم معصية؛ لأنه مخلوق بيد الله. {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] لذلك فلم يكن من المناسب أن ينسى هذا التكليف الواحد، وما كان يصح له أن ينسى، وَلَعلّ سيدنا آدم نُسِّيَ لحكمة يعلمها الله رُبَّما تكون ليعمر الأرض التي جعله الله خليفة فيها؛ أما بالنسبة لأمة محمد فحينما نقول: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1246 أَخْطَأْنَا} فكأننا يا رب نقدرك، حق قدرك، ولا نجترئ على عصيانك عمدا، وإن عصينا فإنما يكون العصيان نسياناً أوْ خطأ، وهذه معرفة لقدر الحق سبحانه وتعالى. ولكن ما النسيان؟ وما الخطأ؟ أولاً فيه «أخْطَأ» وفيه «خَطِئَ» و «الخِطْء» لا يكون إلا إثما؛ لأنه تعمد ما لا ينبغي، فأنت تعلم قاعدة وتخطئ، والذي أخطأ قد لا يعرف القاعدة، فأنت تصوب له خطأه لأنه حاد عن الصواب. ومثال ذلك: عندما تتعلم في المدرسة أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب وفي وسط السنة يصححون لك القاعدة حتى تستقر في ذهنك، إنما في أيام الامتحان أيصحح لك المدرس أم يؤاخذك؟ إنه يؤاخذك؛ لأنك درست طوال السنة هذه القاعدة، إذن ففيه خَطِئ وفيه أخطأ، فأخطأ مرة تأتي عن غير قصد؛ لأنه لا توجد قاعدة أنا خالفتها، أو لم أعرف القاعدة وإنما نطقت خطأ؛ لأنهم لم يقولوا لي، أو قالوا لي مرة ولم أتذكر، أي لم تستقر المسألة كملكة في نفسي؛ لأن التلميذ يخطئ في الفاعل والمفعول مدة طويلة، وبعد ذلك ينضج وتصير اللغة ملكة في نفسه إن كان مواظبا على صيانتها. كان التلميذ في البداية يقول: قطع محمد الغصن، ولا يقولها مُشَكَّلةً ولكن يسكن الآخر في نهاية نطقه لاسم محمد، وساعة يتذكر القاعدة ينطقها «محمد» بالرفع وينطق «الغصن» بالنصب لماذا؟ لأنه ترد ثلاث قواعد على ذهنه، هذه فاعل والفاعل حكمه الرفع، فهي مرفوعة، فهو يمر بقضية عقلية، لكن بعدما يمر عليها يقرأها صحيحة وقد لا يتذكر القاعدة، فقد صارت المسألة ملكة لغوية عنده، هذه الملكة اللغوية مثلما نقول: «صارت آلية» . ومثال ذلك الصبي الذي يتعلم الخياطة، انظر كم من الوقت يمر ليتعلم كيف يمسك بخيط ليدخله في سم الإبرة، وقد يضربه معلمه أكثر من مرة ليتعلمها؛ وفتلة الخيط تنثني منه لأنها طويلة فيقصرها ثم لا تدخل في العين فيبرمها لتدخل، إنه يأخذ وقتا كثيرا ثم يعمل الغرزة فتخرج غير منتظمة وبعد ذلك يظل مدة، ثم يفعل كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1247 هذه الأعمال بتلقائية وهو يتكلم مع غيره؛ لأن هذه الأعمال صارت ملكة ذاتية أي عملاً آليًّا. والتدريب على العمل الذهني حسب قواعد محددة مثل تعلم اللغة نسميه ملكة. أما التدريب على عمل الجوارح مثل إدخال الخيط في سم الإبرة نسميه آلية. وعلى سبيل المثال في العمل الذهني عندما تسأل سؤالاً في الفقه لطالب في الأزهر فإنه يحتار قليلا إلى أن يتعرف على الباب الذي فيه إجابة للسؤال، أما إذا سألت السؤال نفسه لعالم مدرب فبمجرد أن توجه له السؤال فإنه يقول لك الحكم والباب الذي فيه هذا الحكم، لقد صار الفقة بالنسبة للعالم ملكة. ويقول الحق من بعد ذلك: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} والإصر هو الشيء الثقيل الذي يثقل على الإنسان، ومثال ذلك الإصر الذي نزل على اليهود «إن أردتم التوبة فاقتلوا أنفسكم أو تصدقوا أو زكوا بربع أموالكم» لكن الله لم يعاملنا كما عامل الأمم السابقة علينا، وعندما نقول: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فنحن نصدق أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «قال الله نعم» ومعنى قال الله نعم أنه سبحانه وتعالى أجاب الدعاء برفع المشقة عن الأمة. أي أن الله لن يحملنا ما لا طاقة لنا به. وعندما نقول: {واعف عَنَّا} فنحن نتوجه إلى الله ضارعين: أنت يا حق تعلم أننا مهما أوتينا من اليقظة الإيمانية والحرص الورعي فلن نستطيع أن نؤدي حقك كاملاً، ولذلك لا ندخل عليك إلا من باب أن تعفو عنا. ومعنى العفو محو الأثر، كالسائر في الصحراء تترك قدماه علامة، وتأتي الريح لتزيل هذا الأثر. كأن هناك ذنباً والذنب له أثر، وأنت تطلب من الله أن يمحوا الذنب. وعندما تقول: {واغفر لَنَا} فأنت تعرف أن من مظاهر التكوين البشري النية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1248 التي تريد أن تحول العزم إلى حيز السلوك والانفعال النزوعي؛ فالمسألة تحتاج منك إلى تدريب، ومثال ذلك، عندما يذنب واحد في حقك فلك أن ترد عليه الذنب بالذنب، ولك أن تكظم الغيظ، لكن يظل الغيظ موجوداً وأنت تحبسه، ولك أن تعفو. لكن ماذا عن مثل هذا الأمر بالنسبة للخالق الذي له كمال القدرة؟ إن الله قد لا يعذب العبد المذنب ولكنه قد يظل غاضبا عليه، ومن منا قادر على أن يتحمل غضب الرب؟ لذلك نطلب المغفرة، ونقول: {واغفر لَنَا وارحمنآ} فنحن ندعوه سبحانه ألا يدخلنا في الذنب الذي يؤدي إلى غضبه والعياذ بالله علينا. فالعفو هو أن نرتكب ذنبا ونطلب من الله المغفرة، ولكن الرحمة هي الدعاء بألا يدخلنا في الذنب أصلا. وعندما يقول الحق: {أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فهذا اعتراف بعبوديتنا له، وأنه الحق خالقنا ومتولي أمورنا وناصرنا، ومادام الحق هو ناصرنا، فهو ناصرنا على القوم الكافرين؛ فكان ختام سورة البقرة منسجما مع أول سورة البقرة في قوله: {الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . في أول السورة ضرب الله المثل بالكافرين والمنافقين. . وفي ختامها يقول الحق دعاء على لسان المؤمنين: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} هذا القول يدل على استدامة المعركة بين الإيمان والكفر، وأن المؤمن يأخذ أحكام الله دائما لينازل بها الكفر أيان وجد ذلك الكفر، ويثق المؤمن تمام الثقة أن الله متوليه؛ لأن الله مولى الذين آمنوا، أما الكافرون فلا مولى لهم. فإذا كان الله هو مولى المؤمن، وإذا كان الكافر لا مولى له، فمعنى ذلك أنه يجب أن تظل المعركة بين المؤمن والكافر قائمة، بحيث إذا رأى المؤمن اجتراءً على الإسلام في أي صورة من صوره فليثق بأن الله ناصره، وليثق بأن الله معه، وليثق المؤمن أن الله لا يطلب منه إلا أن ينفعل بحكمه وتأييده بالنصر؛ لأنه هو الذي يغلب فهو القائل جل وعلا: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1249 يجب أن تظل دائما مؤمناً متيقظاً لعملية الكفر في أي لون من ألوانها؛ فهذا الكفر بعملياته يريد أن يشوه حركة الحياة وأن يتعب الكون، وأن يجعل القوانين الوضعية البشرية هي المسيطرة، كما يجب عليك أيها المؤمن أن تكون من المتقين الذين استهل بهم الله سورة البقرة، وبعد ذلك تسأل الله أن ينصرك دائماً على القوم الكافرين. هذا هو مسك الختام من سورة البقرة {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} . وختام السورة بهذا النص يوحي بأن الذي آمن يجب أن يعدي إيمانه بربه إلى الخلق جميعا، حتى تتساند حركة الحياة، ولا توجد فيها حركة مؤمن على هدى لتصطدم حركة كافر على ضلال؛ لأن في ذلك إرهاقاً للنفس البشرية، وتعطيلاً للقوى والمواهب التي أمد الله بها ذلك الإنسان الذي سخر من أجله كل الوجود، فلا يمكن أن يعيش الإنسان الذي سوّده الله وكرّمَه على سائر الخلق إلا في أمان واطمئنان وسلام وحركة تتعاون وتتساعد لتنهض بالمجتمع الذي تعيش فيه نهضة عمرانية تؤكد للإنسان حقاً أنه هو خليفة الله في الأرض. ولا يكتفي الإيمان منا بأن يؤمن الفرد إيماناً يعزله عن بقية الوجود، لأنه يكون في ذلك قد خسر حركة الحياة في الدنيا، والله يريد له أن يأخذ الدنيا تخدمه كما شاء الله لها أن تكون خادمة، فحين يعدي المؤمن إيمانه إلى غيره ينتفع بخير الغير، وإن اكتفى بإيمان نفسه فقط وترك الغير في ضلالة، انتفع الغير بخير إيمانه وأصابته مضرة الكافر وأذاه. إذن فمن الخير له أن يؤمن الناس جميعاً، ويجب أن يعدي ذلك الإيمان إلى الغير. ولكن الغير قد يكون منتفعاً بالضلال؛ لأنه يؤدي به طغيانه، عندئذ تنشأ المعركة، تلك المعركة التي غاية كل من دخل فيها أن ينتصر، فيعلمنا الله أن نطلب النصر على الكافرين منه؛ لأن النصر على الكافرين لا يعتبر نصراًَ حقيقياً إلا إن أَصَّل صفات الخير في الوجود كله، وحين تتأصل صفات الخير في الوجود كله يكون المؤمن قد انتصر بحق. وحين يطلب منا الله أن نسأله أن ينصرنا لابد أن نكون على مطلوب الله منا في المعركة، بأن نكون جنوداً إيمانيين بحق. وقد عرفنا أن المؤمنين حين يدخلون في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1250 معركة مع غيرهم يستطيعون أن يحددوا مركزهم الإيماني من غاية المعركة. فإن انتهت المعركة بنصرهم وغلبتهم علموا أنهم من جنود الله، وإن هُزموا وغُلبوا فليراجعوا أنفسهم؛ لأن الله أطلقها قضية إيمانية في كتابه الذي حفظه فقال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] فإن لم نغلب فلننظر في نفوسنا: ما الذي أخللنا به من واجب الجندية لله. وحين يعلمنا الحق أن نقول: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} ، أي بعد أن أخذنا أسباب وجودنا من مادة الأرض المخلوقة لنا بالفكر المخلوق لله، نعمل فيها بالطاقة المخلوقة لله، وحينئذ نكون أهلاً للنصر من الله؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد مد يده بأسباب النصر: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] حينئذ لا تخافون أبداً؛ لأن لله جنوداً لم تروها، ولا يتدخل الله بالجنود غير المرئية لنا إلا إذا استنفدنا نحن أسباب الله الممدودة لنا. وحين يختم الحق سبحانه وتعالى سورة البقرة وهي الزهراء الأولى لتأتي بعدها الزهراء الثانية وهي سورة آل عمران نجد أن هذا هو الترتيب القرآني (الآن) وهو ليس على ترتيب النزول الذي حدث، فللقرآن ترتيبان: ترتيب نزولي حين نزلت الآيات لتعالج حدثاً وقع للأمة المسلمة في صراعها مع الكافرين بربهم، وفي تربيته لنفوسهم، فكانت كل آية تأتي لتعالج حادثة. والأحداث في الوجود إنما تأتي على أيدي البشر، فليس من المعقول أن تنزل آيات من القرآن. تعالج أحداثا أخرى لا صلة بينها وبين ما يجري من أحداث في المجتمع الإسلامي أو ما ينشأ في الكون من قضايا. إذن فلابد أن توجد الأحداث أولا، ويأتي بعدها النص القرآني ليعالج هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1251 الأحداث، ولكن بعد أن اكتمل الدين كما قال الله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3] جاء الترتيب الذي يرتب القضايا ترتيباً كلياً، لأنه عالجها من قبل علاجا جزئيا. فحين نقول: إن هذه السورة نزلت بعد كذا، أو فيها آية كذا، نزلت بعد كذا، ونجد أن ذلك يختلف عن النسق النزولي نعلم أن لله سبحانه وتعالى في كتابه ترتيبين: الترتيب الأول: حسب النزول. والترتيب الثاني: الذي وُجد عليه القرآن الآن وتمت به كلمة الله في خدمة الهداية الإيمانية وهذا الأخير من عند الله أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1252 وجاءت أيضاً في سور أخرى، في سورة العنكبوت، وفي سورة الروم، ولقمان، والسجدة، وزاد عليها راءً في بعض السور، وزاد عليها صاداً في بعض السور «المص» و «المر» كل ذلك جاء تأكيداً للمعاني أو تأكيداً للسر الذي وضعه الله في هذه الحروف، وإن لم نكن ندرك ذلك السر. والإنسان ينتفع بأسرار الأشياء التي وضعها من أوجد الأشياء وإن لم يعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1257 هذه الأشياء فهو منتفع بها، وضربنا المثل وقلنا: إن الريفي الذي ليس عنده ثقافة في الكهرباء، أيستفيد بالكهرباء أم لا؟ إنه يستفيد بها ويحرك زر المصباح لينيره أو ليطفئه، أهو يعلم سر ذلك؟ لا، لكنه إنما انتفع به، فكذلك المؤمن حين يقول: «ألف لام ميم» ، يأخذ سرها من قائلها، فهمها أم لم يفهمها، إذن فالمسألة لا تحتاج إلى أن نفلسفها، صحيح أن العقل البشري يحول حول شيء ليستأنس به، ولكن عطاء الله وحكمة العطاء فوق ما يستأنس به وفوق ما نستوحش منه. وقول الحق سبحانه في ختام سورة البقرة: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} يناسب أيضاً سورة آل عمران، لماذا؟ لأن الإسلام سيأتي ليواجه معسكر كفر ومعسكر أهل الكتاب، فحتى لا تتشقق دعوة الله التي صدرت عن الله بمواكب الرسل جميعاً الذين سبقوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن هذا جاء ليناقض شيئاً منه، إنه قد جاء ليعزز دعوة الله، ولتكون هذه الأمم التي تبعت هذه الديانات في صف الإسلام. ولذلك حينما أنكر العرب رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال الله لهم: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي أن من عنده علم الكتاب يشهد أنك رسول الله. {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] . فكان المفروض في أهل الكتاب أنهم حينما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكونوا هم أول المؤمنين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأنه جاء ليؤكد موكب الإيمان ويأتي لهم بسورة يسميها آل عمران حتى يعلم الجميع أنك يا محمد لم تأتي لتهدم ديانة عيسى، ولكن لتبقى ديانة عيسى ولتؤيد ديانة عيسى، فإن كنتم يا من آمنتم بعيسى مؤمنين بعيسى فاهرعوا حالاً إلى الإيمان بمحمد؛ فقد سماها الله آل عمران، وجعل لهم سورة في القرآن. إن رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم تأت للعصبية، أو لتمحو ما قبلها كما تأتي عصبيات البشر حين يأتي قوم على أنقاض قوم، ويهدمون كل ما يتصل بهؤلاء القوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1258 حتى التاريخ يمحونه، والأشياء يمسخونها؛ لأنهم يريدون أن ينشئوا تاريخاً جديداً. لا إن هذا القرآن يريد أن يصوب التاريخ، فيأتي بسورة اسمها «آل عمران» وذلك تكريم عال لهذه الديانة ولتابعيها. وبعد ذلك يأتي الحق فيستهلها: بقوله جل شأنه: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1259 تلك هي قضية القمة، ولذلك يتكرر في القرآن التأكيد على هذه القضية، {الله لا إله إِلاَّ هُوَ} . و {الله} كما يقولون مبتدأ، و {لا إله إِلاَّ هُوَ} خبر، والمبتدأ لابد أن يكون متضحاً في الذهن، فكأن كلمة {الله} متضحة في الذهن، ولكنه يريد أن يعطي لفظ {الله} الوصف الذي يليق به وهو {لا إله إِلاَّ هُوَ} . ولذلك يقول الحق: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] . إذن فالله متضح في أذهانهم، ولكن السلطات الزمنية أرادت أن تطمس هذا الإيضاح، فجاء القرآن ليزيل ويمحو هذا الطمس مؤكدا {الله لا إله إِلاَّ هُوَ} فهذه قضية أطلقها الحق شهادة منه لنفسه: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] . وكفى بالله شهيداً؛ لأنها شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد فلم يروا أحداً آخر إلا هو، وكذلك، شهد أولو العلم الذين يأخذون من الأدلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1259 في الكون ما يثبت صدق الملائكة ويؤكد صدق الله، فإذا ما نظرنا نظرة أخرى نقول: إن الحق أطلقها على نفسه وقال: {لا إله إِلاَّ هُوَ} ؛ وجعلها كلمة التوحيد وجعل الأمر في غاية اليسر والسهولة والبساطة؛ فلم يشأ الله أن يجعل دليل الإيمان بالقوة العليا دليلاً معقداً، أو دليلاً فلسفياً، أو لا يستطيع أحد أن يصل إليه إلا أهل الثقافة العالية، لا، إن الدين مطلب للجميع؛ من راعي الشاة إلى الفيلسوف؛ إنه مطلوب للذي يكنس في الشارع كما هو مطلوب من الأستاذ الجامعي. فيجب أن تكون قضية الإيمان في مستوى هذه العقول جميعاً؛ فلا فلسفة في هذه المسألة، لذلك شاء الحق أن يجعل هذه المسألة في منتهى البساطة فأوضح الله: أنا شهدت ألا إله إلا أنا، فإما أن يكون الأمر صدقاً وبذلك تنتهي المشكلة، وليس من حق أحد الاعتراض، وإن لم تكون صدقاً فقولوا لنا: أين الإله الآخر الذي سمع التحدي، وأخذ الله منه ذلك الكون، وقال: أنا وحدي في الكون، وأنا الذي خلقت، ثم لم نسمع رداً عليه ولا عن معارض له، ألم يدر ذلك الإله الآخر؟ إذن فذلك الآخر لا ينفع أن يكون إلهاً، فإن علم ذلك الآخر ولم يدافع عن نفسه وملكيته للكون فإنه لا يصلح أن يكون إلهاً. وتصبح القضية لله إلى أن يظهر مدع ليناقضها، ف {لا إله إِلاَّ هُوَ} كلمة حق، وبالعقل والمنطق هو إله ولم نجدً معارضاً. وقلنا سابقاً: إن الدعوى حين تُدعى ولا يوجد معارض حين نَسمعها تكون لصاحبها إلى أن يوجد المعارض. وضربنا مثلا: نحن مجتمعون في حجرة، عشرة أشخاص، وبعد ذلك انصرفوا فوجد صاحب البيت حافظة نقود، فجاء واحد متلهفا وقال: لقد ضاعت مني حافظة نقود. فقال له صاحب البيت: وجدنا حافظة ولكن كان هنا عشرة، فلما جئ بالعشرة، وسئلوا لم يدعها أحد، إذن فهي له. إن الله قد قال: {لا إله إِلاَّ هُوَ} ، فإن كان هناك إله آخر فليظهر لنا، ولكن لا تظهر لنا إلا قوة الله {لا إله إِلاَّ هُوَ} ومادام لا إله إلا هو، وهذا الكون يحتاج إلى قيومية لتدبيره، فلا بد أن يكون حيا حياة تناسبه، لأنه سيهب حيوات كثيرة لكل الأجناس، للإنسان وللحيوان وللنبات وللجماد، إذن فالذي يوجدها لابد أن يكون حياً ولابد أن تكون حياته مناسبة له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1260 و «قيّوم» هذه يسمونها صيغة مبالغة؛ لأنّ الحدث إذا وقع فإنه يقع مرة على صورة عادية، ومرة يقع على صورة قوية. مثلما تقول: فلان أكول، و «أكول» غير «آكل» ، فكلنا نأكل، وكلنا يطلق علينا «آكل» ، لكن ليس كلنا يُطلق علينا «أكول» لأن هذه اسمها صيغة مبالغة في الحدث. وإذا كان الله هو الذي يدبر ويقوم على أمر كل عوالم الكون هل يكون قائما أو قَيُّوماً؟ لابد أن يكون قَيُّوماً. و «قيوم» معناها أيضا: قائم بذاته. فما شكل هذا القيام؟ إنه قيام أزلي كامل. إذن فكلمة «قيّوم» صيغة مبالغة من القيام على الأمر، قائم بنفسه، قائم بذاته، ويُقيم غيره، والغير متعدد متكرر، فعندما يكون هذا الغير متعدداً ومتكرراً فهو يحتاج إلى صفة قوية في خالقه، فيكون الخالق قيّوما. إن قوله الحق: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} هو سند المؤمن في كل حركات حياته، «عن أبيّ بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} فضرب في صدري وقال:» ليهنك العلمُ أبا المنذر « وقولوا لنا بالله: حين يوجد ولد وأب، هل يحمل الولد همّا لأي مسألة من مسائل الحياة؟ لا؛ لأن الأب متكفل بها، والمثل العامي يقول: الذي له أب لا يحمل همّا، إذن فالذي له ربٌّ عليه أن يستحي؛ لأنه سبحانه يقول: أنا حيّ، وأنا قيّوم، و» قيّوم «يعني قائم بأمرك. ويؤكد سبحانه هذه القيّومية في سورة البقرة، فقال في آية الكرسي: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} ، كأنه يقول لنا: ناموا أنتم لأنني لا أنام، وإلا فإن نمت أنت عن حراسة حركة حياتك فمن يحرسها لك؟ إنه سبحانه يتفضل علينا بقيوميته ف {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} ، وما دام هو» الحيّ «و» القيّوم «فأمر منطقي أنه قائم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1261 بأمر الخلق جميعا وقد وضع لكل الخلق ما تقوم به حياتهم من مادة وصيانة مادة ومن قيم وصيانة قيم. ومادام هو القيوم القائم بالأمر والمتولي الشئون للخلق فلابد أن يؤدي لهم مطلوبات مادتهم وما يبقيها، ومطلوبات قيمهم وما يبقيها. أما مطلوبات المادة فيقول فيها: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 10] . إنه سبحانه يطمئنا على القوت، وأما مطلوبات القيم فقال سبحانه: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1262 إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضا؛ لأن المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى إيماني. إذن لابد أن تنزل القيم. لذلك قال سبحانه: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق} و {نَزَّلَ} تفيد شيئا قد وجب عليك؛ لأن النزول معناه: شيء من أعلى ينزل، وهو يقول لك: لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك؛ لأنها ليست من مساو لك، إنها من خالق الكون والبشر، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن هو أدنى منك. لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأبّ عليه؛ لأن خضوعك له ليس ذلة بل عزة، فقال: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} . وفي سياق القرآن نجده سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1262 يقول: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] . ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء: 105] . ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه «نزل» ، فجبريل عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء: 105] . وبذلك تتساوى «أنزل» مع «نزل» . وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل: أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ثلاثة وعشرين عاما وينزل القرآن حسب الحوادث، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] . والحق هنا يحدد زمنا. ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاما هو الذي أنزله الله في ليلة القدر. إذن فللقرآن نزولان اثنان: الأول: إنزال من «أنزل» . الآخر: تنزيل من «نَزّل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1263 إذن فالمقصود من قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون، وهذا ما أنزله الله في ليلة القدر. والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجما على حسب الأحداث التي تتطلب تشريعا أو إيضاحا لأمر. لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل، لقد نزلت مرة واحدة؛ لا حسب الأحداث والمناسبات، لقد جاءت مرة واحدة، كما نزل القرآن أولا من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. ولننظر إلى الأداء القرآني حين يقول: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3] وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الحق قال عن القرآن: «نَزَّل» وقال عن التوراة والإنجيل: «أنزل» . لقد جاءت همزة التعدية وجمع سبحانه بين التوراة والإنجيل في الإنزال، وهذا يوضح لنا أن التوراة والإنجيل إنما أنزلهما الله مرة واحدة، أما القرآن الكريم فقد نَزَّله الله في ثلاث وعشرين سنة منجما ومناسباً للحوادث التي طرأت على واقع المسلمين، ومتضمنا البلاغ الشامل من يوم الخلق إلى يوم البعث. ونَزَّل الله القرآن منجما مناسباً للأحداث، ليثبت فؤاد رسول الله؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يتعرض لأحداث شتى، كلما يأتي حدث يريد تثبيتا ينزل نجم من القرآن. {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1264 وكان النجم من القرآن ينزل ويحفظه المؤمنون، ويعملون بهديه، ثم ينزل نجم آخر، والله سبحانه يقول: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33] . فمن رحمته سبحانه وتعالى بالمسلمين أن فتح لهم المجال لأن يسألوا، وأن يستوضحوا الأمور التي تغمض عليهم. وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاما فرصة ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه؛ لأن الشيء إذا ما جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به. ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقا للأدوية مُمتلئا بألوان شتى من الداء، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع فهو يبحث عن قرص أسبرين، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه، وذلك أسهل وأوثق. والحق سبحانه قد جمع للقرآن بين «نزّل» و «أنزل» فقال: {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1265 ويأتي القول الفصل في: {وَأَنزَلَ الفرقان} . هنا الجمع بين «نزل» و «أنزل» . وساعة يقول الحق عن القرآن: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} فمعنى ذلك أن القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1265 يوضح المتجه؛ إنه مصدق لما قبله ولما سبقه، إنه مصدق للقضايا العقدية الإيمانية التي لا يختلف فيها دين عن دين؛ لأن الديانات إن اختلفت فإنما تختلف في بعض الأحكام، فهناك حكم يناسب زمنا وحكم آخر لا يناسب ذلك الزمن. أما العقائد فهي لا تتغير ولا تتبدل، وكذلك الأخبار وتاريخ الرسل، فليس في تلك الأمور تغيير. ومعنى «مصدق» أي أن يطابق الخبر الواقع، وهذا ما نسميه «الصدق» . وإن لم يطابق الخبر الواقع فإننا نسميه «كذبا» . إذن، فالواقع هو الذي يحكم. ولذلك قلنا من قبل: إن الصادق هو الذي لا تختلف روايته للأحداث؛ لأنه يستوحي واقعا، وكلما روى الحادثة فإنه يرويها نفسها بكلماتها وتفاصيلها، أما الكاذب فلا يوجد له واقع يحكي عنه، لذلك يُنشئ في كل حديث واقعا جديدا، ولذلك يقول الناس: «إن كنت كذوبا فكن ذكورا» . أي إن كنت تكذب والعياذ بالله فتذكر ما قلت؛ حتى لا تناقضه بعد ذلك. فالصادق هو من يستقرئ الواقع، ومادام يروي عن صدق فهو يروي عن أمر ثابت لا تلويه الأهواء، فلا يحكي مرة بهوى، ومرة بهوى آخر. ومادام الخبر صادقاً فإنه يصبح حقاً؛ لأن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير وسبحانه يقول هنا: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} . وقد تكلمنا من قبل عن التوراة، وقلنا: إن بعضاً من العلماء حين يتعرض للفظ من الألفاظ فهو يحاول أن يجعله من اللغة العربية، ويحاول أن يعثر له على وزن من الأوزان العربية، وأن يأتي له بصفة من الصفات العربية، فقال بعضهم من التوراة: إنها «الوَرْى» بسكون الراء وكان الناس قديماً يشعلون النار بضرب عود في عود آخر، ويقولون: الزند قد ورى «، أي قد خرجت ناره. وقال بعض العلماء أيضا: إن الإنجيل من» النجْل «، وهو الزيادة. وأقول لهؤلاء العلماء: لقد نظرتم إلى هذه الألفاظ على أنها ألفاظ عربية، لكن التوراة لفظ عبري، والإنجيل لفظ سرياني أو لفظ يوناني، وصارت تلك الكلمات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1266 علما على تلك الكتب وجاءت إلى لغتنا. ولا تظنوا أن القرآن مادام قد نزل عربياً فكل ألفاظه عربية، لا. صحيح أن القرآن عربي، وصحيح أيضا أنه قد جاء وهذه الألفاظ دائرة على لسان العرب، وإذا تم النطق بها يُفهم معناها. والمثال على ذلك أننا في العصر الحديث أدخلنا في اللغة كلمة «بنك» وتكلمنا بها، فأصبحت عربية؛ لأنها تدور على اللسان العربي، فمعنى أن القرآن عربي أن الله حينما خاطب العرب خاطبهم بألفاظ يفهمونها، وهي دائرة في ألسنتهم، وإن لم تكن في أصلها عربية. وحينما تكلم الحق عن التوراة والإنجيل وقال: إن القرآن جاء مصدقا لهما قال جل شأنه: {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} [آل عمران: 4] فأي ناس هؤلاء الذين قال عنهم: {هُدًى لِّلنَّاسِ} ؟ لاشك أنهم الناس الذين عاصروا الدعوة لتلك الكتب. وإذا كان القرآن قد جاء مصداقا لما في التوراة والإنجيل ألا تكون هذه الكتب هداية لنا أيضا؟ نعم هي هداية لنا، ولكن الهداية إنما تكون بتصديق القرآن لها، حتى لا يكون كل ما جاء فيهما ومنسوبا إليهما حجة علينا. فالذي يصدقه القرآن هو الحجة علينا، فيكون {هُدًى لِّلنَّاسِ} معناها: الذين عاصروا هذه الديانات وهذه الكتب، ونحن مؤمنون بما فيها بتصديق القرآن لها. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: «وأنزل الفرقان» يدل على أن الكتاب أي القرآن سيعاصر مهمة صعبة؛ فكلمة «الفرقان» لا تأتي إلا في وجود معركة، ونريد أن نفرق بين أمرين: هدى وضلال، حق وباطل، شقاء وسعادة، استقامة وانحراف، إذن فكلمة «الفرقان» تدل على أن القرآن إنما جاء ليباشر مهمة صعبة وهو أنه يفرق بين الخير والشر، ومادام يفرق بين الخير والشر إذن ففيه خير وله معسكر، وفيه شر وله معسكر، إذن ففيه فريقان. ويأتي للفريق الذي يدافع عن الحق نضالاً وجهاداً بما يفرق له ويميز به بين الحق والباطل ويختم الحق هذه الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1267 بقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} . ولماذا جاء هذا التذييل على هذه الصورة في هذه الآية؟ أي مادام القرآن فرقاناً فلابد أن يفرق بين حق وباطل، والحق له جنوده، وهم المؤمنون، والباطل له جنوده وهم الكافرون، والشر قد جاء من الكافرين فلابد أن يتكلم عن الذين كفروا {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} . والعذاب إيلام، ويختلف قُوّة وضعفا باعتبار المؤلم المباشر للعذاب. فصفعة طفل غير صفعة شاب غير صفعة رجل قوي، كل واحد يوجه الصفعة بما يناسب قوّته، فإذا كان العذاب صادراً من قوة القوي وهو الله، إذن فلابد أنه عذاب لا يطاق. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} أي لا يُغلب على أمره، ولا توجد قوة أخرى ضده، وانتقامه لن يستطيع أحد أن يرده. وقوله الحق سبحانه وتعالى: إنه «قيّوم» أي يقوم بشئون خلقه إيجاداً وإمداداً، بناء مادة وإيجاد قيم، لابد أن يتفرع من ذلك أنه يعلم كل الخلق ويعلم الخبايا، ولذلك يضع التقنين المناسب لكل ما يجري لهم، والتقنينات التي تأتي من البشر تختلف عن التقنينات الموجودة من الله، لماذا؟ لأن الله حين يقنن بكتاب ينزله على رسوله ليبلغ حكم الله فيه فهو سبحانه يقنن لما يعلم، وما يعلمه سبحانه قد يعلمه خلقه وقد لا يعلمونه، وقد تأتي الأحداث بما لم يكن في بال المشرع البشري المقنن حين يقنن، ولذلك يضطرون عادة إلى تغيير القانون؛ لأنه قد جدّت أحداث لم يلتفت إليها المشرع البشري. ولماذا لم يلتفت إليها المشرع البشري؟ لأن علمه مقصور على المرئيات التي توجد في عصره وغير معاصر للأشياء التي تحدث بعد عصره، وأيضا يقنن لملكات خفية عنه. إن الحق سبحانه وتعالى لكونه قيّوما ويُنزل ما يفرق بين الحق والباطل، فهو سبحانه يعلم علماً واسعاً، بحيث لا يُستدرك عليه، ولذلك فالذين يحاولون أن يقولوا: إن هذا الحكم غير ملائم للعصر، نقول لهم: أتستدركون على الله؟ {كأنكم تقولون: إن الله قد فاته مثل هذه الحكاية ونريد أن نصححها له} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1268 لا، لا تستدركوا على الله، وخذوا حكم الله هكذا؛ لأن هذا هو الحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه حكم من عالم لا يتجدد علمه، ولا يطرأ شيء على علمه، وفوق كل ذلك فهو سبحانه لا ينتفع بما يقنن، وهو سبحانه يقول: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1269 انظروا إلى خدمة الآية لكل الأغراض التي سبقتها، مادام قيُّوما وقائما بأمور الخلق، فلابد أن يعلم كل شيء عن الخلق، فلا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومادام سيفرق بين الحق والباطل وينزل بالكفار عذاباً شديداً فلا يخفى عليه شيء. إن الآية تخدم كل الأغراض، وهو سبحانه يعلم كل الأغراض، فحين يقنن بقيوميته، فهو يقنن بلا استدراك عليه، وحين يخرج أحد عن منهجه لا يخفى عليه. إذن فالآية حصاد على التشريع وعلى الجزاء {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} . وبعد ذلك يتكلم الحق عن مظهر القيوميّة الأول بالنسبة للإنسان فيقول: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1269 والتصوير في الرحم هو إيجاد المادة التي سيوجد منها الإنسان على هيئة خاصة؛ هذه الهيئة تختلف نوعيتها: ذكورة وأنوثة. والذكورة والأنوثة تختلفان أشكالاً؛ بيضاء وسمراء وقمحية وخمرية وقصيرة وطويلة، هذه الأشكال التي يوجد عليها الخلق والتي منها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1269 {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] . هذا الاختلاف في الألوان والألسنة والأشياء المتعددة يَدُل على أنها ليست من إنتاج مصنع يصنع قالباً ثم يشكل عليه، لا؛ فكل إنسان يولد يصنع بيد قديرة بقدرة ذاتية. إن الصانع الآن إذا أرادت أن يصنع لك كوباً يصنع قالباً ويكرره، لكن في الخلق البشري كل واحد بقالبه الخاص، وكل واحد بشكله المخصوص، وكل واحد بصوته الذي ثبت أن له بصمة كبصمة اليد، وكل واحد بلون، إذن فهي من الآيات، وهذا دليل على طلاقة القدرة، وفوق كل هذا هو الخلق الذي لا يحتاج إلى عملية علاج، معنى عملية علاج أي يجعل قالباً واحدا ليصب فيه مادته. لا، هو جل شأنه يقول: {بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] . إن الأب والأم قد يتحدان في اللون ولكن الابن قد ينشأ بلون مختلف، ويخلق الله معظم الناس خلقاً سويا، ويخلق قلة من الناس خلقاً غير سوي؛ فقد يولد طفل أعمى أو مصاب بعاهة ما أو بإصبع زائدة أو إصبعين. . وهذا الشذوذ أراده الله في الخلق ليلفتنا الحق إلى حسن وجمال خلقه. لأن من يرى وهو السويّ إنساناً آخر معوَّقاً عن الحركة فإنه يحمد الله على كامل خلقه. وحين يرى إنسان له في كل يد خمس أصابع إنساناً آخر له إصبع زائدة يعوق حركة يده، يعْرف حكمة وجود الأصابع الخمس، فالجمال لا يثبت إلا بوجود القبح، وبضدها تتمايز الأشياء، الإنسان الذي له سبع أصابع في يد واحدة، يضع الطب أمام مهمة يجند نفسه لها؛ حتى يستطيع الطبيب أن يستأصل الزائد عن حاجة الإنسان الطبيعي. ولو خلق الله الإنسان بثلاث أصابع لما استطاع ذلك الإنسان أن يتحكم عند استعماله الأشياء الدقيقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1270 إن الإنسان العادي في حركته اليومية لا يدرك جمال استواء خلقه إلا إذا رأى فرداً من أفراد الشذوذ. والحق يلفت الناس الساهين عن نعم الله عليهم لرتابتها فيهم بفقدها في غيرهم. فساعة أن يرى مبصرٌ مكفوفاً يسير بعكاز، يفطن إلى نعمة البصر التي وهبها له الله فيشعر بنعمة الله عليه. إن الشذوذ في الخلق هو نماذج إيضاحية تلفت الناس إلى نعم الله التي أنعم الله عليهم بها. هذه المُثُل في الكون تلفت الناس إلى نعم الله فيهم، ولذلك تجدها أمامك، وأيضا كي لا تستدرك على خالقك، ولا تقل ما ذنب هذا الإنسان أن يكون مخلوقاً هكذا؟ فهو سبحانه سيعوضه في ناحية أخرى؛ فقد يعطيه عبقرية تفوق إمكانات المبصر. ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى عن الذي ساح في الدنيا «تيمور لنك الأعرج» وهو القائد الذي أذهل الدنيا شجاعة، إن الله قد أعطاه موهبة التخطيط والقتال تعويضاً له عن العرج. ونحن نجد العبقريات تتفجر في الشواذ غالباً، لماذا؟ لأن الله يجعل للعاجز عجزاً معيناً همة تحاول أن تعوض ما افتقده في شيء آخر، فيأتي النبوغ. إذن ف {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} وكل تصوير له حكمة. ومادام كل تصوير له حكمة فكل خلق الله جميل. عليك ألاّ تأخذ الخلق مفصولاً عن حكمة خالقه، بل خُذ كل خلق مع حكمته. إن الذي يجعلك تقول: هذا قبيح، إنك تفصل المخلوق عن حكمته، ومثال ذلك: التلميذ الذي يرسب قد يحزن والده، ولكن لماذا يأخذ الرسوب بعيداً عن حكمته؟ لقد رسب حتى يتعلم معنى الجدية في الاستذكار، فلو نجح مع لعبه ماذا سيحدث؟ كل أقرانه الذين عرفوا أنه لعب ونجح سيلعبون ويقولون: هذا لعب ونجح. . إذن فلا بد أن تأخذ كل عمل ومعه حكمة وجوده. كذلك لا تأخذ العقوبة منفصلة عن الجريمة، فكل عقوبة علينا أن نأخذها ملتصقة بجريمتها، فساعة ترى واحداً مثلاً سيحكمون عليه بالإعدام تأخذك الرحمة به وتحزن، هنا نقول لك: أنت فصلت إعدامه عن القتل الذي ارتكبه سابقاً، إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1271 لو استحضرت جريمته لوجدته يُقتَلُ عدالة وقصاصاً فقد قُتُل غيره ظلماً، فلا تبعد هذه عن هذه. {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ومعنى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي سيُصوِّر وهو عالم أن ما يصوِّره سيكون على هذه الصورة؛ لأنه لا يوجد إله آخر يقول له: هذه لا تعجبني وسأصور صورة أخرى، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك عزيز، أي لا يغلب على أمر، وكل ما يريده يحدث وكل أمر عنده لحكمة، لأنه عندما يقول: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} قد يقول أحد من الناس: إن هناك صوراً شاذة وصوراً غير طبيعية. وهو سبحانه يقول لك: أنا حكيم، وأفعلها لحكمة فلا تفصل الحدث عن حكمته، خذ الحدث بحكمته، وإذا أردت الحدث بحكمته تجده الجمال عينه، وهو سبحانه المصور في الرحم كيف يشاء، هذا من ناحية مادته. وهو سبحانه يوضح: فلن يترك المادة هكذا بل سيجعل لهذه المادة قيما كي تنسجم حركة الوجود مع بعضها يقول سبحانه: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1272 إذن فبعدما صورنا في الأرحام كيف يشاء على مُقتضى حكمته لن يترك الصور بدون منهج للقيم، بل صنع منهج القيم بأن أنزل القرآن وفيه منهج القيم، ولابد أن نأخذ الشيء بجوار الحكمة منه، وإذا أخذنا الشيء بجوار الحكمة منه يوجد كل أمر مستقيما كله جميل وكله خير. فيقول سبحانه: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} . ماذا يعني الحق بقول: {آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} ؟ إن الشيء المحكم هو الذي لا يتسرب إليه خلل ولا فساد في الفهم؛ لأنه محكم، وهذه الآيات المحكمة هي النصوص التي لا يختلف فيها الناس، فعندما يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . هذه آية تتضمن حُكما واضحا. وهو سبحانه يقول: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} [النور: 2] . هذه أيضا أمور واضحة، هذا هو المُحكم من الآيات، فالمُحكم هو ما لا تختلف فيه الأفهام؛ لأن النص فيه واضح وصريح لا يحتمل سواه، و «المُتشابه» هو الذي نتعب في فهم المراد منه، ومادمنا سنتعب في فهم المراد منه فلماذا أنزله؟ ويوضح لنا سبحانه كما قلت لك خذ الشيء مع حكمته كي تعرف لماذا نزل؟ فالمُحْكم جاء للأحكام المطلوبة من الخلق، أي افعل كذا، ولا تفعل كذا، ومادامت أفعالا مطلوبة من الخلق فالذي فعلها يُثاب عليها، والذي لم يفعلها يُعاقب، إذن فسيترتب عليها ثواب وعقاب، فيأتي بها صورة واضحة، وإلا لقال واحد: «أنا لم أفهم» ، إن الأحكام تقول لك: «افعل كذا ولا تفعل كذا» فهي حين تقول: «افعل» ؛ أنت صالح ألا تفعل، فلو كنت مخلوقاً على أنك تفعل فقط؛ لا يقول لك: افعل، لكن لأنك صالح أن تفعل وألا تفعل فهو يقول لك: «افعل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1273 وساعة يقول لك: «لا تفعل» ، فأنت صالح أن تفعل، فلا يقال: «افعل ولا تفعل» إلاّ لأنه خلق فيك صلاحية أن تفعل أو لا تفعل، ونلحظ أنه حين يقول لي: افعل كذا ولا تفعل كذا يريد أن أقف أمام شهوة نفسي في الفعل والترك، ولذلك يقول الحق في الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] . فعندما يقول لي: «افعل ولا تفعل» معناها: أن فيه أشياء تكون ثقيلة أن أفعلها، وأن شيئا ثقيلا علي أن أتركه، فمثلا البصر خلقه الله صالحا لأن يرى كل ما في حيِّزه. على حسب قانون الضوء، والحق يقول له: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 101] . ولكن عند المرأة التي لا يحل لك النظر إليها يقول الحق: اغضض. {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30 - 31] . ومعنى {يَغُضُّواْ} و {يَغْضُضْنَ} أنه سبحانه حدد حركة العين، ومثال آخر؛ اليد تتحرك فيأمرك سبحانه ألاّ تحركها إلا في مأمور به، فلا تضرب بها أحداً، ولا تشعل بها ناراً تحرق وتفسد بل أشعل بها النار لتطبخ مثلاً. إذن فهو سبحانه يأتي في «افعل ولا تفعل» ويحدد شهوات النفس في الفعل أو الترك، فإن كانت شهوة النفس بأنها تنام، يقول الأمر التعبدي: قم وصل، وإن كانت شهوة النفس بأنها تغضب يقول الأمر الإيماني: لا تغضب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1274 إذن فالحكم إنما جاء بافعل ولا تفعل لتحديد حركة الإنسان، فقد يريد أن يفعل فعلاً ضاراً؛ فيقول له: لا تفعل، وقد يريد ألاّ يفعل فعل خير يقول له: افعل. إذن فكل حركات الإنسان محكومة ب «افعل ولا تفعل» ، وعقلك وسيلة من وسائل الإدراك، مثل العين والأذن واللسان. إن مهمة العقل أن يدرك، فتكليفه يدعوه إلى أن يفهم أمراً ولا يفهم أمرا آخر، وجعل الله الآيات المحكمات ليريح العقل من مهمة البحث عن حكمة الأمر المحكم؛ لأنها قد تعلو الإدراك البشري. ويريد الحق أن يلزم العبد آداب الطاعة حتى في الشيء الذي لا تدرك حكمة تشريعه، وأيضا لتحرك عقلك لترد كل المتشابه إلى المحكم من الآيات. وإذا قرأنا قول الحق: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] . نرى أن ذلك كلام عام. وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] . ويتكلم عن الكفار فيقول: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] . إذن فالعقل ينشغل بقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} ، وهذا يحدث في الدنيا، أما في الآخرة فسيكون الإنسان قد تم إعداده إعداداً آخر ليرى الله، نحن الآن في هذه الدنيا بالطريقة التي أعدنا بها الله لنحيا في هذا العالم لا نستطيع أن نرى الله، ومسألة إعداد شيء ليمارس مهمة ليس مؤهلا ولا مهيأ لها الآن، أمر موجود في دنيانا، فنحن نعرف أن إنسانا أعمى يتم إجراء جراحة له أو يتم صناعة نظارة طبية له فيرى. ومن لا يسمع أو ثقيل السمع نصنع له سماعة فيسمع بها. فإذا كان البشر قد استطاعوا أن يُعِدُّوا بمقدوراتهم في الكون المادي أشياء لتؤهلهم إلى استعادة حاسة ما، فما بالنا بالخالق الأكرم الإله المُربّي، ألا يستطيع أن يعيد خلقنا في الآخرة بطريقة تتيح لنا أن نرى ذاته ووجهه؟! إنه القادر على كل شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1275 إذن فالأمر هنا متشابه، إن الله يُدرَك بضم الياء وفتح الراء أو لا يُدْرَك، فما الذي تغير من الأحكام بالنسبة لك؟ لا شيء. إذن فهذه الآيات المتشابهات لم تأتِ من أجل الأحكام، إنما هي قد جاءت من أجل الإيمان فقط، ولذلك فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينهي كل خلاف للعلماء حول هذه المسألة بقوله وهو الرسول الخاتم: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به» . إن المُتشَابه من الآيات قد جاء للإيمان به، والمُحْكَم من الآيات إنما جاء للعمل به، والمؤمن عليه دائما أن يرد المُتشَابِه إلى المُحْكَم. مثال ذلك عندما نسمع قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 10] . إن الإنسان قد يتساءل: «هل لله يد» ؟ على الإنسان أن يرد ذلك إلى نطاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وعندما يسمع المؤمن قول الحق: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] . فهل لله جسم يستقر به على عرش؟ هنا نقول: هذا هو المُتشَابِه الذي يجب على المؤمن الإيمان به، ذلك أن وجودك أيها الإنسان ليس كوجود الله، ويدك ليست كيد الله وأن استواءك أيضا ليس كاستواء الله. ومادام وجوده سبحانه ليس كوجودك وحياته ليست كحياتك فلماذا تريد أن تكون يده كيدك؟ هو كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ولماذا أدخلنا الله إلى تلك المجالات؟ لأن الله يريد أن يُلفت خلقه إلى أشياء قد لا تستقيم في العقول؛ فمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1276 يتسع ظنه إلى أن يؤول ويردها إلى المُحْكَم بأن الله ليس كمثله شيء. فله ذلك، ومن يتسع ظنه ويقول: أنا آمنت بأن لله يداً ولكن في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فله ذلك أيضا وهذا أسلم. والحق يقول: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب} ومعنى {أُمُّ} أي الأصل الذي يجب أن ينتهي إليه تأويل المُتشَابه إن أوّلت فيه، أو تُرجعه إلى المُحكم فتقول: إن لله يداً، ولكن ليست كأيدي البشر. إنما تدخل في نطاق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . ولماذا قال الحق: {هُنَّ أُمُّ الكتاب} ؟ ولم يقل: هن أمهات الكتاب؟ لك أن تعرف أيها المؤمن أنه ليس كل واحدة منهن أما، ولكن مجموعها هو الأم، ولتوضيح ذلك فلنسمع قول الحق: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] . لم يقل الحق: إنهما آيتان؛ لأن عيسى عليه السلام لم يوجد كآية إلا بميلاده من أمه دون أب أي بضميمة أمه، وأم عيسى لم تكن آية إلا بميلاد عيسى أي بضميمة عيسى. إذن فهما معاً يكونان الآية، وكذلك {هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فالمقصود بها ليس كل محكم أُمّا للكتاب، إنما المحكمات كلها هي الأم، والأصل الذي يَرُدُّ إليه المؤمن أيَّ متشابهٍ. ومهمة المحكم أن نعمل به، ومهمة المتشابه أن نؤمن به؛ بدليل أنك إن تصورته على أي وجه لا يؤثر في عملك. فقوله الحق: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} لا يترتب عليه أي حكم، هنا يكفي الإيمان فقط. لكن ماذا من أمر الذين قال عنهم الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} ؟ . ولنا أن نعرف أن «الزيغ» هو الميْل، فزاغ يعني مال، وهي مأخوذة من تزايغ الأسنان، أي اختلاف منابتها، فسنَّةٌ تظهر داخلة، وأخرى خارجة، وعندما لا تستقيم الأسنان في طريقة نموها يصنعون لها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1277 الآن عمليات تجميل وتقويم ليجعلوها صفاً واحداً. إن الذين في قلوبهم زيغ أي ميل، يتبعون ما تشابه من الآيات ابتغاء الفتنة. كأن الزيغ أمر طارئ على القلوب، وليس الأصل أن يكون في القلوب زيغ، فالفطرة السليمة لا زيغ فيها، لكن الأهواء هي التي تجعل القلوب تزيع، ويكون الإنسان عارفاً لحكم الله الصحيح في أمر ما، لكن هوى الإنسان يغلب فيميل الإنسان عن حكم الله. والميل صنعة القلب، فالإنسان قد يخضع منطقه وفكره ليخدم ميل قلبه، ولذلك فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» لماذا؟ لأن آفة الرأي الهوى، وحتى المنحرفون يعرفون القصد السليم، لكن الواحد منهم ينحرف لما يهوى، ودليل معرفة المنحرف للقصد السليم أنه بعد أن يأخذ شرّته في الانحراف يتوب ويعلن توبته، وهذا أمر معروف في كثير من الأحيان؛ لأن الميل تَكَلَّفٌ تبريري، أما القصد السليم فأمر فطري لا يُرهِق، ومثال ذلك: عندما ينظر الإنسان إلى حلاله، فإنه لا يجد انفعال ملكة يناقض انفعال ملكة أخرى، ولكن عندما ينظر إلى واحدة ليست زوجته، فان ملكاته تتعارك، ويتساءل: هل ستقبل منه النظرة أم لا؟ إن ملكاته تتضارب، أما النظر إلى الحلال فالملكات لا تتعب فيه. لذلك فالإيمان هو اطمئنان ملكات، فكل ملكات الإنسان تتآزر في تكامل، فلا تسرق ملكة من وراء أخرى. مثال آخر: عندما يذهب واحد لإحضار شيء من منزله، فإنه لا يحس بتضارب ملكاته، أما إذا ذهب إنسان آخر لسرقة هذا الشيء فإن ملكاته تتضارب، وكذلك جوارحه؛ لأنها خالفت منطق الحق والاستقامة والواقع. {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} إذن فاتباعهم للمتشابه منه ليؤوّلوه تأويلاً يخالف الواقع ليخدموا الزيغ الذي في قلوبهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1278 فالميل موجود عند قلوبهم أولاً ثم بدأ الفكر يخضع للميل، والعبارة تخضع للفكر، وهكذا نرى أن الأصل في الميل قد جاء منهم. . ولننظر إلى أداء القرآن الكريم حين يقول: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] . كأنه يقول: مادمتم تريدون الميل فسأميلكم اكثر وأساعدكم فيه. والحق سبحانه لا يبدأ إنساناً بأمر يناقض تكليفه، لكن الإنسان قد يميله هواه إلى الزيغ، فيتخلى الله عنه: ويدفعه إلى هاوية الزيغ. وآية أخرى يقول فيها الحق: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127] . إنهم الذين بدأوا؛ انصرفوا عن الله فصرف الله قلوبهم بعيداً عن الإيمان. وكذلك الذين يتبعون المتشابه يبتغون به الفتنة أي يطلبون الفتنة، ويريدون بذلك فتنة عقول الذين لا يفهمون، وما داموا يريدون فتنة عقول من لا يفهمون فهم ضد المنهج، وما داموا ضد المنهج فهم ليسوا مؤمنين إذن، وماداموا غير مؤمنين فلن يهديهم الله إلى الخير، لأن الإيمان يطلب من الإنسان أن يتجه فقط إلى الإيمان بالرب الإله الحكيم، ثم تأتي المعونة بعد ذلك من الله. لكن عندما لا يكون مؤمنا فكيف يطلب المعونة من الله، إنه سبحانه يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) . إنهم يبتغون الفتنة بالمتشابه، ويبتغون تأويله، ومعنى التأويل هو الرجوع، لأننا نقول: «آل الشيء إلى كذا» أي رجع الشيء إلى كذا، فكأن شيئاً يرجع إلى شيء، فمن لهم عقل لا زيغ فيه يحاولون جاهدين أن يؤولوا المُتشَابه ويردوه إلى المُحكم، أو يؤمنوا به كما هو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1279 يقول الحق بعد ذلك: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} إن الله لو أراد للمتشابه أن يكون محكما، لجاء به من المُحكَم، إذن فإرادة الله أن تكون هناك آيات المتشابه ومهمتها أن تحرك العقول، وذلك حتى لا تأتي الأمور بمنتهى الرتابة التي يجمد بها عقل الإنسان عن التفكير والإبداع، والله يريد للعقل أن يتحرك وأن يفكر ويستنبط. وعندما يتحرك العقل في الاستنباط تتكون عند الإنسان الرياضة على الابتكار، والرياضة على البحث، وليجرب كل واحد منا أن يستنبط المتشابه إلى المحكم ولسوف يمتلك بالرياضة ناصية الابتكار والبحث، والحاجة هي التي تفتق الحيلة. إن الحق يريد أن يعطي الإنسان دربة حتى لا يأخذ المسألة برتابة بليدة ويتناولها تناول الخامل ويأخذها من الطريق الأسهل، بل عليه أن يستقبلها باستقبالٍ واع وبفكر وتدبر. {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] . كل ذلك حتى يأخذ العقل القدر الكافي من النشاط ليستقبل العقل العقائد بما يريده الله، ويستقبل الأحكام بما يريده الله، فيريد منك في العقائد أن تؤمن، وفي الأحكام أن تفعل {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} . والذين في قلوبهم زيغ يحاولون التأويل وتحكمهم أهواؤهم، فلا يصلون إلى الحقيقة. والتأويل الحقيقي لا يعلمه إلا الله. قد رأينا من يريد أن يعيب على واحد بعض تصرفاته فقال له: يا أخي أتَدّعي أنك أحطت بكل علم الله؟ فقال له: لا. قال له: أنا من الذي لا تعلم. وكأنه يرجوه أن ينصرف عنه. والعلماء لهم وقفات عند قوله الحق: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} : بعضهم يقف عندها ويعتبر ما جاء من بعد ذلك وهو قوله الحق: {والراسخون فِي العلم} كلاماً مستأنفاً، إنهم يقولون: إن الله وحده الذي يعلم تأويل المتشابه، والمعنى: {والراسخون فِي العلم} أي الثابتون في العلم، الذين لا تغويهم الأهواء، إنهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1280 {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} وهو ما قاله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إن الراسخين في العلم يقولون: إن المحكم من الآيات سيعلمون به، والمتشابه يؤمنون به، وكل من المتشابه والمحكم من عند الله. أمّا مَن عطف وقرأ القول الحكيم ووقف عند قوله: {والراسخون فِي العلم} نقول له: إن الراسخين في العلم علموا تأويل المتشابه، وكان نتيجة علمهم قولهم: {آمَنَّا بِهِ} . إن الأمرين متساويان، سواء وقفت عند حد علم الله للتأويل أو لم تقف. فالمعنى ينتهي إلى شيء واحد. وحيثية الحكم الإيماني للراسخين في العلم هي قوله الحق على لسانهم: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} فالمحكم من عند ربنا، والمتشابه من عند ربنا، وله حكمة في ذلك؛ لأنه ساعة أن يأمر الأعلى الأدنى بأمر ويبين له علته فيفهم الأدنى ويعمل، وبعد ذلك يلقي الأعلى الأمر آخر ولا يبين علته، فواحد ينفذ الأمر وإن لم يعرف العلة، وواحد آخر يقول: لا، عليك أن توضح لي العلة. فهل الذي آمن آمن بالأمر أو بالعلة؟ إن الحق يريد أن نؤمن به وهو الآمر، ولو أن كل شيء صار مفهوماً لما صارت هناك قيمة للإيمان. إنما عظمة الإيمان في تنفيذ بعض الأحكام وحكمتُها غائبة عنك؛ لأنك إن قمت بكل شيء وأنت تفهم حكمته فأنت مؤمن بالحكمة، ولست مؤمناً بمن أصدر الأمر. وعندما نأتي إلى لحم الخنزير الذي حرمه الله من أربعة عشر قرناً، ويظهر في العصر الحديث أن في أكل لحم الخنزير مضار، ويمتنع الناس عن أكله لأن فيه مضار، فهل امتناع هؤلاء أمر يثابون عليه؟ طبعاً لا، لكن الثواب يكون لمن امتنع عن أكل لحم الخنزير لأن الله قد حرمه؛ ولأن الأمر قد صدر من الله، حتى دون أن يَعْرِّفنا الحكمة، إن المؤمن بالله يقول: إن الله قد خلقني ولا يمكن وهو الخالق أن يخدعني وأنا العبد الخاضع لمشيئته. إن العبد الممتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر امتثالاً لأمر الله، هو الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1281 ينال الثواب، أما الذي يمتنع خوفاً من اهتراء الكبد أو الإصابة بالمرض فلا ثواب له. وهناك فرق بين الذهاب إلى الحكم بالعلة. وبين الذهاب إلى الحكم بالطاعة للآمر بالحكم. إذن فالمتشابه من الآيات نزل للإيمان به، والراسخون في العلم يقابلهم من تلويهم الأهواء، والأهواء تلوي إلى مرادات النفس وإلى ابتغاءات غير الحق. ومادامت ابتغاءات غير الحق، فغير الحق هو الباطل، فكل واحد من أهل الباطل يحاول أن يأتي بشيء يتفق مع هواه. ولذلك جاء التشريع من الله ليعصم الناس من الأهواء؛ لأن هوى إنسان ما قد يناقض هوى إنسان آخر، والباقون من الناس قد يكون لهم هوى يناقض بقية الأهواء. والحق سبحانه يقول: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71] . إذن فلا بد أن نتبع في حركتنا ما لا هوى له إلا الحق، والدين إنما جاء ليعصمنا من الأهواء؛ فالأهواء هي التي تميلنا، والذي يدل على أن الأهواء هي التي تميل إلى غير الحق أن صاحب الهوى يهوى حكماً في شيء، ثم تأتي ظروف أخرى تجعله يهوى حكماً مقابلاً، إنه يلوي المسألة على حسب هواه، وإلا فما الذي ألجأ دنيا الناس إلى أن يخرجوا من قانون السماء الأول الذي حكم الأرض عند آدم عليه السلام؟ لقد خرجوا من قانون السماء حينما قام قوم بأمر الدين فأخذوا لهم من هذا سلطة زمنية، وأصبحوا يُخضعون المسائل إلى أهوائهم. ونحن إذا نظرنا إلى تاريخ القانون في العالم لوجدنا أن أصل الحكم في القضايا إنما هو لرجال الدين والكهنة والقائمين على أمر المعابد. كان الحكم كله لهم، لأن هؤلاء كانوا هم المتكلمين بمنهج الله. ولماذا لم يستمر هذا الأمر، وجاءت القوانين الرومانية والإنجليزية والفرنسية وغيرها؟ لأنهم جربوا على القائمين بأمر الدين أنهم خرجوا عن نطاق التوجيه السماوي إلى خدمة أهوائهم، فلاحظ الناس أن هؤلاء الكهنة يحكمون في قضية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1282 بحكم ما يختلف عن حكم آخر في قضية متشابهة. إنهم القضاة أنفسهم والقضايا متشابهة متماثلة، لكن حكم الهوى يختلف من قضية إلى أخرى، بل وقد يتناقض مع الحكم الأول، فقال الناس عن هؤلاء الكهنة: لقد خرجوا عن منطق الدين واتبعوا أهواءهم، ليثبتوا لهم سلطة زمنية، فنحن لم نعد نأمنهم على ذلك. وخرج التقنين والحكم من يد الكهنة ورجال الدين إلى غيرهم من رجال التقنين. لقد كان أمر القضاء بين الكهنة ورجال الدين؛ لأن الناس افترضت فيهم أنهم يأخذون الأحكام من منهج الله، فلما تبين للناس أن الكهنة ورجال الدين لا يأخذون الحكم من منهج الله، ولكن من الهوى البشري، عند ذلك أخذ الناس زمام التقنين لأنفسهم بما يضمن لهم عدالة ما حتى ولو كانت قاصرة. وبمناسبة كلمة الهوى نجد أن هناك ثلاثة ألفاظ: أولا: الهواء هو ما بين السماء والأرض، ويراد به الريح ويحرك الأشياء ويميلها وجمعه: الأهوية وهذا أمر حسي. ثانيا: الهوَى: وهو ميل النفس، وجمعه: الأهواء، وهو مأخوذ من هَوِىَ يَهْوَى بمعنى مال. ثالثا: الهَوىّ: بفتح الهاء وضمها وتشديد الياء وهو السقوط مأخوذ من هَوَى يَهْوي: بمعنى سقط. وهذا يدل على أن الذي يتبع هواه لابد أن يسقط، والاشتقاقات اللغوية تعطي هذه المعاني. إنها متلاقية. إذن الراسخون في العلم يقفون ثابتين عند منهج الله. وأما الذين يتبعون أهواءهم فهم يميلون على حسب ميل الريح. فإن الريح مالت، مالوا حيث تميل. ويقول الراسخون في العلم في نهاية علمهم: آمنا {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} . وهنا تلتقي المسألة، فنحن نعرف أن المحكم نزل للعمل به، والمشابه نزل للإيمان به لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى، وهي أن نأخذ الأمر من الآمر لا لحكمة الأمر. وعندما نأخذ الأوامر من الحق فلا نسأل عن علتها؛ لأننا نأخذها من خالق محب حكيم عادل. والإنسان إن لم ينفذ الأمر القادم من الله إلا إذا علم علته وحكمته فإننا نقول لهذا الإنسان: أنت لا تؤمن بالله ولكنك تؤمن بالعلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1283 والحكمة، والمؤمن الحق هو من يؤمن بالأمر وإن لم يفهم. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند الله، المحكم من عند ربنا والمتشابه من عند ربنا: ويضيف سبحانه: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} و {أُوْلُواْ الألباب} أي أصحاب العقول المحفوظة من الهوى، لأن آفة الرأي الهوى، والهوى يتمايل به. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} و «اللب» هو: العقل، يخبرنا الله أن العقل يحكم لُبّ الأشياء لا ظواهر الأشياء وعوارضها، فهناك أحكام تأتي للأمر الظاهر، وأحكام للُبّ. الحق يأمر بقطع يد السارق. وبعد ذلك يأتي من يمثل دور حامي الإنسانية والرحمة ويقول: «هذه وحشية وقسوة» ! هذا ظاهر الفهم، إنما لُبّ الفهم أني أردت أن تُقطع يد السارق حتى أمنعه أن يسرق؛ لأن كل واحد يخاف على ذاته، فيمنعه ذلك أن يسرق. وقد قلنا من قبل إن حادثة سيارة قد ينتج عنها مشوهون قدر مِنْ قطعت أيديهم بسبب السرقة في تاريخ الإسلام كله، فلا تفتعل وتدعي أنك رحيم ولا تنظر إلى العقاب حين ينزل بالمذنب، ولكن انظر إلى الجريمة حين تقع منه، فإن الله يريد أن يحمي حركة الحياة للناس بحيث إذا علمت وكددت واجتهدت وعرقت يضمن الله لك حصيلة هذا العمل، فلا يأتي متسلط يتسلط عليك ليأخذ دمه من عرقك أنت. إذن فهو يحمي حركة الحياة وتحرك كل واحد وهو آمن، هذا «لُبّ» الفهم، ولذلك يقول تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} ، إياكم أن تقولوا: إن هذا القصاص اعتداء على حياة فرد. لا، لأن {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} إنّ من علم إنه إن قَتل فسيقتل، سيمتنع عن القتل، إذن فقد حمينا نفسه وحمينا الناس منه، وهكذا يكون في القصاص حياة، وذلك هو لُبّ الفهم في الأشياء؛ فالله سبحانه وتعالى يلفتنا وينبهنا ألا نأخذ الأمور بظواهرها، بل نأخذها بلبها، وندع القشور التي يحتكم إليها أناس يريدون أن ينفلتوا من حكم الله. و {والراسخون فِي العلم} حينما فَصلوا في أمر المتشابه دعوا الله بالقول الذي أنزله سبحانه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1284 {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1285 فكأن قول الراسخين في العلم: إن كل محكم وكل متشابه هو من عند الله، والمحكم نعمل به، والمتشابه نؤمن به، فهذه هي الهداية؛ ثم يكون الدعاء بالثبات على هذه الهداية، والمعنى: يا رب ثبتنا على عبادتك ولا تجعل قلوبنا تميل أو تزيع. وهذا يدلنا على أن القلوب تتحول وتتغير؛ لذلك يأتي القول الفصل بالدعاء على الثبات الإيماني: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب} [آل عمران: 8] . إنهم يطلبون رحمة هبة لا رحمة حق، فليس هناك مخلوق له حق على الله إلا ما وهبه الله له. والراسخون في العلم يطلبون من الله الرحمة من الوقوع في الهوى بعد أن هداهم الله إلى هذا الحكم السليم بأن المتشابه والمحكم كل من عند الله ويعلموننا كيف يكون الطريق إلى الهداية وطلب رحمة الهبة. والراسخ في العلم مادام قد علم شيئا فهو يريد أن يشيعه في الناس، لذلك يقول لنا: إياكم أن تظنوا أن المسألة مسألة فهم لنص وتنتهي، إن المسألة يترتب عليها أمر آخر، هذا الأمر الآخر لا يوجد في الدنيا فقط، فهناك آخرة، فالدنيا مقدور عليها لأنها محدودة الأمد ومنتهية، ولكن هناك الآخرة التي تأتي بعد الدنيا حيث الخلود، فيقول الحق على لسان الراسخين في العلم: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1285 وقولهم: {رَبَّنَآ} نفهم منه أنه الحق المتولي التربية، ومعنى التربية هو إيصال من تتم تربيته إلى الكمال المطلوب له، فهناك ربٌّ يربي، وهناك عبد تتم تربيته، والربُّ يعطي الإنسان ما يؤهله إلى الكمال المطلوب له. والمؤمنون يرجون الله قائلين: يا رب من تمام تربيتك لنا أن تحمينا من عذاب الآخرة، فإذا ما عشنا الدنيا وانتهت فنحن نعلم أنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومادمت ربا، ومادمت إلها فإنك لا تخلف الميعاد؛ فالذي يخلف الميعاد لا يكون إلها؛ لأن الإله ساعة الوعد يعلم بتمام قدرته وكمال علمه أنه قادر على الإنفاذ، إنما الذي ليس لديه قدرة على الإنفاذ لا يستطيع أن يعد إلا مشمولا بشيء يستند إليه، كقولنا نحن العباد: «إن شاء الله» لماذا؟ لأن الواحد منا لا يملك أن يفي بما وعد. حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} [الكهف: 23 - 24] . قُلنا إياك أن تقول: إني سأفعل شيئا إلا أن تشتمله وتربطه بمشيئة الله؛ لأنك أنت إن وعدت، فأنت لا تضمن عمرك ولا إنفاذ وعدك، إنك لن تفعل شيئا إلا بإرادة الله، لذلك فلا تعد إلا بالمشيئة، لأنك تعد بما لا تضمن، فأنت في حقيقة الأمر لا تملك شيئا، فإن أردت فعل أي شيء أو الذهاب إلى أي مكان فالفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول وزمان ومكان وسبب، ثم يحتاج إلى قدرة لتنفيذ الفعل. والإنسان لا يملك من هذه الأشياء إلا ما يشاء الله له أن يملكه. إن الإنسان لا يملك أن يظل فاعلا. والإنسان لا يملك إن وُجد الفاعل أن يوجد المفعول. والإنسان لا يملك الزمن، ولا يملك المكان، بل لا يملك الإنسان أن يظل السبب قائما ليفعل ما كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1286 يريد أن يفعله؛ فكل هذه العناصر، الفاعل والمفعول، والزمان، والمكان، والسبب، لا يملكها إلا الله. لذلك فليحم الإنسان نفسه من أن يكون كاذبا ومجازفا وليكن في ظل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} [الكهف: 23 - 24] . إن كلمة {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} تعصم الإنسان من أن يكون كاذبا. وعندما لا يحدث الذي يعد به الإنسان فمعنى ذلك أن الله لم يشأ؛ لأن الإنسان لا يملك عنصراً واحداً من عناصر هذا الفعل. وعندما يقول الحق: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} لأن الذي يخلف الميعاد إنما تمنعه قوة قاهرة تأتيه؛ ولو من تغير نفسه تمنعه أن يفعل، أما الله فلا تأتي قوة قاهرة لتغير ما يريد أن يفعل، ولا يمكن أن يتغير؛ لأن التغير ليس من صفات القديم الأزلي. وحين يؤكد الحق أنه سيتم جمعنا بمشيئته في يوم لا ريب فيه، وأن الله لا يخلف الميعاد، فمن المؤكد أننا سنلتقي. وسنلتقي لماذا؟ لقد قال الراسخون في العلم: عملنا بالمحكم، وآمنا بالمتشابه، ودعوا الله أن يثبت قلوبهم على الهداية رحمة من عنده، وأن يبعد قلوبهم عن الزيغ؛ لأنهم خائفون من اليوم الذي سيجمع الله الناس فيه، إننا سنلتقي للحساب على أفعالنا وإيماننا. وبعد ذلك يقول الحق جل شأنه: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1287 ساعة تسمع وأنت المؤمن، ويسمع معك الكافر، ويسمع معك المنافق: {رَبَّنَآ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1287 إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} ربما فكر الكافر أو المنافق أن هناك شيئا قد ينقذه مما سيحدث في ذلك اليوم، كعزوة الأولاد، أو كثرة مال يشتري نفسه به، أو خلة، أو شفاعة، هنا يقول الحق لهم: لا، إن أولادكم وأموالكم لا تغني عنكم شيئا. وفي اللغة يقال: هذا الشيء لا يغني فلاناً، أي أنه يظل محتاجاً إلى غيره؛ لأن الغِنَى هو ألا تحتاج إلى الغير، فالأموال والأولاد لا تُغني أحداً في يوم القيامة، والمسألة لا عزوة فيها، ولا أنساب بينهم يومئذ والجنة ليست للبيع، فلا أحد يستطيع شراء مكان في الجنة بمال يملكه. وكان الكافرون على أيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولون ذلك القول الشاذ يقولون: مادام الله قد أعطانا أموالاً وأولاداً في الدنيا فلا بد أن يعطينا في الآخرة ما هو أفضل من ذلك. ولذلك يقول الله لهم: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً} إذن فالأمر كله مردود إلى الله. صحيح في هذه الدنيا أن الله قد يخلق الأسباب، والكافر تحكمه الأسباب، وكذلك المؤمن، فإذا ما أخذ الكافر بالأسباب فإنه يأخذ النتيجة، ولكن في الآخرة فالأمر يختلف؛ فلن يملك أحد أسباباً، ولذلك يقول الحق عن اليوم الآخر: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . إن البشر في الدنيا يملكون الأسباب، ويعيشون مختلفين في النعيم على اختلاف أسبابهم، واختلاف كدحهم في الحياة، واختلاف وجود ما يحقق للإنسان المُتع، لكن الأمر في الآخرة ليس فيه كدح ولا أسباب؛ لأن الإنسان المؤمن يعيش بالمُسبب في الآخرة وهو الله جلت قدرته فبمجرد أن يخطر الشيء على بال المؤمن في الجنة فإن الشيء يأتي له. أما الكفار فلا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم، لأنهم انشغلوا في الدنيا بالمال والأولاد وكفروا بالله. {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا يَقُولُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1288 بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11] . إذن فما انشغل به الكفار في الدنيا لن ينفعهم، ويضيف الحق عن الكفار في تذييل الآية التي نحن بصددها: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} إنهم المعَذبون، وسوف يتعذبون في النار. ولنر النكاية الشديدة بهم، إن الذين يُعَذَّبون هم الذي يُعَذَّبُون؛ لأنهم بأنفسهم سيكونون وقود النار. إن المعَذَّب بفتح العين وفتح الذال مع التشديد يكون هو المعَذِّب بفتح العين وكسر الذال مع التشديد - فهذه ثورة الأبعاض. فذرّات الكافر مؤمنة، وذرات العاصي طائعة، والذي جعل هذه الذرات تتجه إلى فعل ما يُغضب الله هو إرادة صاحبها عليها. وضربنا قديما المثل ولله المثل الأعلى وقلنا: هب أن كتيبة لها قائد فالمفروض في الكتيبة أن تسمع أمر القائد، وتقوم بتنفيذ ما أمر به؛ فإذا ما جاءوا للأمر والقائد الأعلى بعد ذلك فإنهم يرفعون أمرهم إليه ويقولون له: بحكم الأمر نفذنا العمل الذي صدر لنا من قائدنا المباشر وكنا غير موافقين على رأيه. وفي الحياة الإيمانية نجد القول الحكيم من الخالق: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] . فكان اللسان ينطق بكلمة الكفر وهو لاعِنٌ لصاحبه. واليد تتقدم إلى المعصية وهي كارهةٌ لصاحبها ولاعِنةٌ له، إن إرادة الله العليا هي التي جعلت للكافر إرادة على يده ولسانه في الدنيا، وينزع الله إرادة الكافر عن جوارحه يوم القيامة فتشهد عليه أنه أجبرها على فعل المعاصي، وتعذب الأبعاض بعضها، وعندما يقول الحق: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} وهنا مسألة يجب أن نلتفت إليها ونأخذها من واقع التاريخ، هذه المسألة هي أن الذين كفروا برسالات الله في الأرض تلقوا بعض العذاب في الدنيا؛ لأن الله لا يدّخر كل العقاب للآخرة وإلا لشقي الناس بالكافرين وبالعاصين، ولذلك فإن الله يُعَجِّلُ بشيء من العقاب للكافرين والعاصين في هذه الدنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1289 ويقول الحق مثالاً على ذلك: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1290 وساعة تسمع «كدأب كذا» فالدأب هو العمل بكدح وبلا انقطاع فنقول: فلان دأبه أن يفعل كذا أي هو معتاد دائماً أن يفعل كذا. أو نقول: ليس لفلان دأب إلا أن يغتاب الناس. فهل معنى ذلك أن كل أفعاله محصورة في اغتياب الناس، أو أنه يقوم بأفعال أخرى؟ إنه يقوم بأفعال أخرى لكن الغالب عليه هو الاغتياب، وهذا هو الدأب. فالدأب هو السعي بكدح وتوالٍ حتى يصبح الفعل بالتوالي عادة. إذن فقوله الحق: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} أي كعادة آل فرعون. وآل فرعون هم قوم جاءوا قبل الرسالة الإسلامية، وقبلهم كان قوم ثمود وعاد وغيرهم. ويلفتنا الحق سبحانه إلى أن ننظر إلى هؤلاء ونرى ما الذي حدث لهم، إنه سبحانه لم يؤخر عقابهم إلى الآخرة؛ لأنه ربما ظن الناس أن الله قد ادخر عذاب الكافرين إلى الآخرة؛ لأنه قال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} [آل عمران: 10] . لا، بل العذاب أيضا في الدنيا مصداقاً لقوله الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1290 {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} [الرعد: 34] . إن العذاب لو تم تأجيله إلى الآخرة لشقي الناس بالأشقياء، لذلك يأتي الله بأمثلة من الحياة ويقول: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} أي كعادة آل فرعون، ولا تصير مسألة عادة إلا بالكدح في العمل، وكان دأب آل فرعون هو التكذيب والطغيان وادّعاء فرعون الألوهية. ويقول سبحانه: {والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب} فصار الدأب منهم، ومما وقع بهم، فإذا كانوا قد اعتادوا الكفر والتكذيب فقد أوقع الله عليهم العذاب. لقد كان دأب آل فرعون هو التكذيب، والخالق سبحانه يجازيهم على ذلك بتعذيبهم، ولتقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر واليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 1 - 14] . فدأبهم التكذيب وجزاء الله لهم على ذلك هو العذاب والعقاب. إذن فقوله الحق: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب} أي أوقع بهم العذاب في الدنيا، وكانت النهاية ما كانت في آل فرعون وثمود ومن قبلهم من القوم الكافرين. وعندما تسمع قول الله: {والله شَدِيدُ العقاب} فالذهن ينصرف إلى أن هناك ذنباً يستحق العقاب. وكل الأمور من المعنويات مأخوذة دائماً من المُحسَّات؛ لأن الأصل في إيجاد أي معلومات معنوية هو المشاهد الحسِّية، وتُنقل الأشياء الحسّية إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1291 المعنويات بعد ذلك. لماذا؟ لأن الشيء الحسِّي مشهود من الجميع، أما الشيء المعنوي فلا يفهمه إلا المتعقلون، والإنسان له أطوار كثيرة. ففي طور الطفولة لا يفهم ولا يعقل الإنسان إلا الأمر المحسوس أمامه. وقلت قديما في معنى كلمة «الغصب» : إنه أخذ وسلب شيء من إنسان صاحب حق بقوة، وهذا أمر معنوي له صورة مشهدية؛ لأن الذي يسلخ الجلد عن الشاة نسميه غاصباً. ولنر كيف يكون أخذ الحق من صاحبه، إنه كالسلخ تماماً، فالكلمة تأتي للإيضاح. وكلمة «ذنب» وكلمة «عقوبة» مترابطتان؛ فكلمة «ذنب» مأخوذة من مادة ذنب؛ لأن المادة كلها تدل على «التالي» والذَنَب يتلو المقدمة في الحيوان. والعقاب هو ما يأتي عقب الشيء. إذن فهناك ذنب وهناك عقاب. لكن ماذا قبل الذنب، وماذا يتلو العقاب؟ لا يوجد ذنب إلا إذا وُجِدَ نص يُجرّم، فلا ذنب إلاّ بنص. فليس كل فعل هو ذنب، بل لابد من وجود نص قبل وقوع الذنب. يجرّم فعله؛ ولذلك أخذ التقنين الوضعي هذا الأمر، فقال: لا يمكن أن يعاقب إنسان إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص، فلا يمكن أن يأتي إنسان فجأة ويقول: هذا العمل جريمة يعاقب عليها. بل لابد من التنبيه والنص من قبل ذلك على تجريم هذا العمل. إنه لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص. فالنص يوضح تجريم فعل نوع ما من العمل، وإن قام إنسان بهذا العمل فإنه يُجّرم، ويكون ذلك هو الذنب، فكأن الذنب جاء تالياً لنص التجريم. والعقاب يأتي عقب الجريمة، وهكذا نجد أن كلا من الذنب والجريمة يأخذان واقع اللفظ ومدلوله ومعناه؛ فالذَّنَبُ هو التالي للشيء. ولذلك يسمون الدلو الذي يملأونه بالماء «ذَنُوبَاً» لأنه هو الذي يتلو الحبل. وأيضا الجزاء في الآخرة: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات: 59] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1292 أي ذَنوباً تتبع، وتتلو جريمتهم. إذن فالنص القرآني في أي ذنب وفي أي عقاب يؤكد لنا القضية القانونية الاصطلاحية الموجودة في كل الدنيا: إنه لا عقوبة دون تجريم. فكان العقابُ بعد الجريمة أي بعد الذنب، والذنب بعض النص، فلا نأتي لواحد بدون نص سابق ونقول له: أنت ارتكبت ذنباً. وهذه تحل إشكالات كثيرة، مثال ذلك: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48] . إن الله يغفر ما دون الشرك بالله، فالشرك بالله قمة الخيانة العظمى؛ وهذا لا غفران فيه وبعد ذلك يغفر لمن يشاء. ويقول الحق في آية أخرى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} [الزمر: 53] . فهناك بعض من الناس يقولون: إن الله قال: إنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، حتى إنهم قالوا: إن ابن عباس ساعة جاءت هذه الآية التي قال فيها الحق: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} قال: «إلا الشرك» وذلك حتى لا تصطدم هذه الآية من الآية الاخرى. والواقع أنه حين يدقق أولو الألباب فلن نجد اصطداما، لأن الذين أسرفوا على أنفسهم. هم من عباد الله الذين آمنوا ولم يشركوا بربهم أحداً، ولكنهم زلُّوا وغووا ووقعوا في المعاصي فهؤلاء يقال عنهم: إنهم مذنبون؛ لأنهم مؤمنون بالله ومعترفون بالذي أنزله، أما المشرك فلم يعترف بالله ولا بما شرع وقنن من أحكام، فما هو عليه لا يسمى ذنبا وإنما هو كفر وشرك. فلا تعارض ولا تصادم في آيات الرحمن. وعندما يقول الحق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1293 {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ والله شَدِيدُ العقاب} [آل عمران: 11] . فهذا القول الحكيم متوازن ومُتّسِق، فالذنب يأتي بعد نص، والعقاب من بعد ذلك. ويقول الحق آمرا رسوله ببلاغ الكافرين: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1294 إنه أمر من الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو المبلغ عن الله، أن يحمل للكافرين خبراً فيه إنذار. من هم هؤلاء الكفار؟ هل هم كفار قريش؟ الأمر جائز. هل هم اليهود؟ الأم جائز. فالبلاغ يشمل كل كافر. والنص القرآني حينما يأتي فهو يأتي على غير عادة الناس في الخطاب، ولأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى وسبحانه منزه عن التشبيه أو المثل أنت تقول لابنك: اذهب إلى عمك، وقل له: إن أبي سيحضر لزيارتك غدا. فماذا يكون كلام الابن للعم؟ إن الابن يذهب للعم ويقول له: إن أبي سيزورك غدا. لكن الآمر وهو الأب يقول: قل لعمك إن أبي سيزورك غدا. فإذا كان الابن دقيق الأمانة فهو يقول: قال أبي: قل لعمك إن أبي سيزورك غدا. وعندما يقول الحق سبحانه {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} . فهذا معناه قمة الأمانة من الرسول المبلغ عن الله، فنَقَل للكافرين النص الذي أمره الله بتبليغه للكافرين. وإلا كان يكفي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1294 للكافرين ويقول لهم: ستُغلبون وتُحشرون. لكن من يدريهم أن هذا الكلام ليس من عند محمد وهو بشر؟ لذلك يبلغهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله أبلغه أن يبلغهم بقوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} . إن الرسول لم يبلغهم بمقول القول: لا، إنما أبلغهم نص البلاغ الذي أبلغه به الله. وساعة يأمر الحق في قرآنه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يبلغ أمرا للكافرين فإن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُخاطب، والكفار مُخاطبون، فعندما يواجههم فإنه يقول لهم: ستُغلبون. . وفي آية أخرى يقول الحق: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] . إن القياس أن يقول: إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف، لكن الحق قال: {إِن يَنتَهُواْ} ، فكأن الله حينما قال كان الكفار غير حاضرين للخطاب ورسول الله هو الحاضر للخطاب، والله يتكلم عن غائبين. ولكن الله سبحانه في هذه الآية التي نحن بصددها يحمل الرسول تمام البلاغ فمرة يكون النقل من الآمر الأول كما صدر منه سبحانه كقوله: {إِن يَنتَهُواْ} ومرة يأمره الآمر الأول أن يبلغ الكلمة التي يكون بها مخاطبا أي لا تقل: سيغلبون وقل: {سَتُغْلَبُونَ} لأنك أنت الذي ستخاطبهم. وهذه الدقة الأدائية لا يمكن إلا أن تكون من قادر حكيم. إنه بلاغ إلى كفار قريش أو إلى مطلق الذين كفروا. والغلب سيكون في الدنيا، والحشر يكون في الآخرة. فإذا ما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينقل النص القرآني {سَتُغْلَبُونَ} فمتى قالها رسول الله؟ لقد قالها والمسلمون قلة لا يستطيعون حماية أنفسهم، ولا يقدرون على شيء. وكل مؤمن يحيا في كنف آخر، أو يهاجر إلى مكان بعيد. فهل يمكن أن يأتي هذا البلاغ إلا ممن يملك مطلق الأسباب؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1295 لقد قالها الرسول مبلغا عن الله، والمسلمون في حالة من الضعف واضحة ومادام قد قالها، فهي حجة عليه، لأنّ مَن أبلغه إياها وهو الله قادر على أن يفعلها. {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} ليس العقاب في الدنيا فقط، ولكن في الآخرة أيضا {وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} هذه المسألة بشارة لرسول الله ولأصحابه وإنذار للكافرين به، ويتم تحقيقها في موقعة بدر. فسيدنا عمر بن الخطاب لما نزل قول الله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] . تساءل عمر بن الخطاب: أي جمع هذا؟ إنه يعلم أن المسلمين ضعاف لا يقدرون على ذلك، وأسباب انتصار المسلمين غير موجودة، ولكن رسول الله لم يكن يكلم المؤمنين بالأسباب، إنما برب الأسباب، فإذا ما تحدى وأنذرهم، مع أنه وصحبه ضعاف أمامهم، فقد جاء الواقع ليثبت صدق الحق في قوله: {سَتُغْلَبُونَ} ويتم انتصار المسلمين بالفعل، ويغلبون الكافرين. ألا يُجعل صدق بلاغ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يحدث في الدنيا دليل صدق على ما يحدث في الآخرة؟ إن تحقيق {سَتُغْلَبُونَ} يؤكد {وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ} . وفي هذه الآية شيئان: الأول؛ بلاغ عن هزيمة الكفار في الدنيا وهو أمر يشهده الناس جميعا، والأمر الآخر هو في الآخرة وقد يُكذبه بعض الناس. وإذا كان الحق قد أنبأ رسوله بأنك يا محمد ستغلب الكافرين وأنت لا تملك أسباب الغَلَبَة عليهم. ومع ذلك يأتي واقع الأحداث فيؤكد أن الكافرين قد تمت هزيمتهم. ومادام قد صدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البلاغ عن الأولى ولم يكن يملك الأسباب فلابد أن يكون صادقا في البلاغ في الثانية وهي البلاغ عن الحشر في نار جهنم. وبعض المفسرين قد قال: إن هذه المقولة لليهود؛ لأن اليهود حينما انتصر المسلمون في بدر زُلزِلوا زِلزَالا شديدا، فلم يكن اليهود على ثقة في أن الإسلام والمسلمين سينتصرون في بدر، فلما انتصر الإسلام في بدر؛ قال بعض اليهود: إن محمداً هو الرسول الذي وَعَدَنا به الله والأوْلَى أن نؤمن به فقال قوم منهم: انتظروا إلى معركة أخرى. أي لا تأخذوها من أول معركة، فانتظروا، وجاءت معركة أحد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1296 وكانت الحرب سجالا. ولنا أن نقول: وما المانع أن تكون الآية لليهود وللمشركين ولمطلق الذين كفروا؟ فاللفظ عام وإن كان قد ورد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال لهم: يا معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش وأسْلِموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل. فماذا قالوا له؟ قالوا له: لا يَغُرنَّك أنك لقيت قوما أغماراً أي قوما من غمار الناس لم يجربوا الأمور لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس، فأنزل الله قوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ. .} إلخ الآية. والمهاد هو ما يُمهّد عادة للطفل حتى ينام عليه نوماً مستقراً أي له قرار، وكلمة {وَبِئْسَ المهاد} تدل على أنهم لا قدرة لهم على تغيير ما هم فيه، كما لا قدرة للطفل على أن يقاوم من يضعه للنوم في أي مكان. ويقول الحق بعد ذلك: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ ... } الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1297 وحين يقول الحق: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} . فمن المخاطب بهذه الآية؟ لاشك أن المخاطب بهذه الآية كل من كانت حياته بعد هذه الواقعة، سواء كان مؤمنا أو كافرا، فالمؤمن تؤكد له أن نصر الله يأتي ولو من غير أسباب، والكافر تأتي له الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1297 بالعبرة في أن الله يخذله ولو بالأسباب، إن الله جعل من تلك الموقعة آية. والآية هي الشيء العجيب أَيْ إن واقعه ونتائجه لا تأتي وَفق المقدمات البشرية. نعم هذا خطاب عام لكل من ينتسب إلى أيِّ فئة من الفئتين المتقاتلين، سواء كانت فئة الإيمان أو فئة الكفر. ففئة الإيمان لكي تفهم أنه ليست الأسباب المادية هي كل شيء في المعركة بين الحق والباطل، لأن لله جنودا لا يرونها. وكذلك يخطئ هذا الخطاب فئة الكافرين فلا يقولون: إن لنا أسبابنا من عدد وعُدَّة قوية، فقد وقعت المعركة بين الحق والباطل من قبل؛ وقد انتصر الحق. وكلمة {فِئَةٌ} إذا سمعتها تصورت جماعة من الناس، ولكن لها خصوصية؛ فقد توجد جماعة ولكن لكل واحد حركة في الحياة. ولكن حين نسمع كلمة {فِئَةٌ} فهي تدل على جماعة، وهي بصدد عمل واحد. ففي غير الحرب كل واحد له حركة قد تختلف عن حركة الآخر. ولكن كلمة {فِئَةٌ} تدل على جماعة من الناس لها حركة واحدة في عمل واحد لغاية واحدة. ولاشك أن الحرب تصور هذه العملية أدق تصوير، بل إن الحرب هي التي تُوَحّد كل فئةٍ في سبيل الحركةِ الواحدة والعمل الواحد للغاية الواحدة؛ لأن كل واحد من أي فئة لا يستطيع أن يحمي نفسه وحده، فكل واحد يفئ ويرجع إلى الجماعة، ولا يستطيع أن ينفصل عن جماعته. ولكن الفرد في حركة الحياة العادية يستطيع أن ينفصل عن جماعته. إذن فكلمة {فِئَةٌ} تدل على جماعة من الناس في عملية واحدة، وتأتي الكلمة دائما في الحرب لتصور كل معسكر يواجه آخر. وحين يقول الحق: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا} أي أن هناك صراعا بين فئتين، ويوضح الحق ماهية كل فئة فيقول: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} . وحين ندقق النظر في النص القرآني، نجد أن الحق لم يورد لنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولم يذكر أنها فئة مؤمنة، وأوضح أن الفئة الأخرى كافرة، وهذا يعني أنّ الفئة التي تقاتل في سبيل الله لابد أن تكون فئة مؤمنة، ولم يورد الحق أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان اكتفاء بأن كفرها لابد أن يقودها إلى أن تقاتل في سبيل الشيطان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1298 لقد حذف الحق من وصف الفئة الأولى ما يدل عليه في وصف الفئة الثانية. وعرفنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله من مقابلها في الآية وهي الفئة الأخرى. فمقابل الكافرة مؤمنة، وعرفنا - أيضاً - أن الفئة الكافرة إنما تقاتل في سبيل الشيطان لمجرد معرفتنا أن الفئة الأولى المؤمنة تقاتل في سبيل الله. ويسمون ذلك في اللغة «احتباك» . وهو أن تحذف من الأول نظير ما أثبت في الثاني، وتحذف من الثاني نظير ما أثبت في الأول، وذلك حتى لا تكرر القول، وحتى توضح الالتحام بين القتال في سبيل الله والإيمان، والقتال في سبيل الشيطان والكفر. إذن فالآية على هذا المعنى توضح لنا الآتي: لقد كان لكم آية، أي أمر عجيب جدا لا يسير ولا يتفق مع منطق الأسباب الواقعية في فئتين، فعندما التقت الفئة المؤمنة في قتال مع الفئة الكافرة، استطاعت الجماعة المؤمنة المحددة بالغاية التي تقاتل من أجلها - وهي القتال في سبيل الله - أن تنتصر على الفئة الكافرة التي تقاتل في سبيل الشيطان. وبعد ذلك يقول الحق: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} فنحن أمام فئتين، فمن الذي يَرى؟ ومن الذي يُرى؟ ومن الرائي ومن المرئي؟ إن كان الرائي هم المؤمنين فالمرئي هم الكافرين. وإن كان الرائي هم الكافرون فالمرئي هم المؤمنون ولنر الأمر على المعنيين: فإن كان الكافرون هم الذين يرون المؤمنين، فإنهم يرونهم مثليهم؛ أي ضعف عددهم، وكان عدد الكافرين يقرب من ألف. إذن فالكافرون يرون المؤمنين ضعف أنفسهم، أي ألفين. وقد يكون المعنى مؤديا إلى أن المؤمنين يرون الكافرين ضعف عددهم الفعلي. وقل يؤدى المعنى الى أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عددهم وكان عدد المؤمنين يقرب من ثلاثمائة وأربعة عشر، وضعف هذا العدد هو ستمائة وثمانية وعشرون مقاتلا. فأن أخذنا معنى «مِّثْلَيْهِمْ» على عدد المؤمنين، فالكافرون يرونهم حوالي ستمائة وثمانية وعشرين مقاتلا، وإن أخذنا معنى «مِّثْلَيْهِمْ» على عدد الكافرين فالكافرون يرون المؤمنين حوالي ألفين. وما الهدف من ذلك؟ إن الحق سبحانه يتكلم عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1303 المواجهة بين الكفر والإيمان حيث ينصر الله الإيمان على الكفر. وبعض من الذين يتصيدون للقرآن يقولون: كيف يقول القرآن: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} وهو يقول في موقع آخر: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر ولكن الله سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} [الأنفال: 43 - 44] . وهذه الآية تثبت كثرة، سواء كثرة المؤمنين أو كثرة الكافرين، والآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية تثبت قلة، والمشككون في القرآن يقولون: كيف يتناول القرآن موقعة واحدة على أمرين مختلفين؟ ونقول لهؤلاء المشككين: أنتم قليلو الفطنة؛ لأن هناك فرقاً بين الشجاعة في الإقبال على المعركة وبين الروح العملية والمعنوية التي تسيطر على المقاتل أثناء المعركة، والحق سبحانه قد تكلم عن الحالين: قلل الحق هؤلاء في أعين هؤلاء، وقلل هؤلاء في أعين هؤلاء، لأن المؤمنين حين يرون الكافرين قليلا فإنهم يتزودون بالجرأة وطاقة الإيمان ليحققوا النصر. والكافرون عندما يرون المؤمنين قلة فإنهم يستهينون بهم ويتراخون عند مواجهتهم. ولكن عندما تلتحم المعركة فما الذي يحدث؟ لقد دخلوا جميعا المعركة على أمل القلة في الأعداد المواجهة، فما الذي يحدث في أعصابهم؟ إن المؤمن يدخل المعركة بالإستعداد المكثف لمواجهة الكفار. وأعصاب الكافر تخور لأن العدد أصبح على غير ما توقع، إذن فيقول الحق: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} [الأنفال: 44] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1304 يصور الحالة قبل المعركة؛ لأن الله لا يريد أن يتهيب طرف فلا تنشأ المعركة. لكن ما إن تبدأ المعركة حتى يقلب الحق الأمور على عكسها، إنه ينقل الشيء من الضد إلى الضد ونقل الشيء من الضد الى الضد إيذان بأن قادرا أعلى يقود المشاعر والأحاسيس، والقدرة العالية تستطيع أن تصنع في المشاعر ما تريد. لقد قلل الحق الأعداد أولا حتى لا يتهيبوا المعركة، وفي وقت المعركة جعلهم الله كثيراً في أعين بعضهم البعض، فترى كل فئةٍ الطرف الآخر كثيرا، فتتفجر طاقات الشجاعة المؤمنة من نفوس المؤمنين فيقبلون على القتال بحماسة، وتخور نفوس الكافرين عندما يواجهون أعدادا أكثر مما يتوقعون. والحق سبحانه وتعالى يقول: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} [آل عمران: 13] إن هذه الأية هي خبر تبشيري لكل مؤمن بالنصر، وهي في الوقت نفسه خبر إنذاري لكل كافر بأن الهزيمة سوف تلحق به إن واجه الجماعة المؤمنة. فإياكم أن تقيموا الأمور بمقاييس الأسباب، فالأسباب المطلوبة منكم هي المقدور عليها للبشر وعليكم أن تتركوا تتمة كل ذلك للقدر، فلا تخور الفئة المؤمنة أمام عدد كثير، ولا تغتروا معشر الكفار بأعدادكم الكثيرة؛ فالسابقة أمامكم تؤكد أن عدداً قليلا من المؤمنين قد غلب عددا كثيرا من الكافرين. ومن معاني الآية - أيضا - أن الكافرين يرون المؤمنين مثلى عدد الكافرين، أي ضعف عددهم. ومن معانيها - ثالثا - أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عدد المؤمنين الفعلي. ومن معاني الآية - رابعا - أن يرى المسلمون الكافرين مثليهم، أي مثل المؤمنين مرتين، أي ستمائة نفر وقليلا، وحينئذ يكون عدد الكافرين في عيون المؤمنين أقل من العدد الفعلي لهؤلاء الكافرين. إذن فما حكاية «مِّثْلَيْهِمْ» هذه؟ لقد وعد الله المؤمنين بنصره حين قال: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1305 مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] . والنسبة هنا أن المؤمن الواحد يخرج إلى عشرة من الكافرين فيهزمهم، ذلك وعد الله، وحين أراد الله التخفيف قال الحق: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66] . لقد خفف الله النسبة، فواحد من المؤمنين يغلب اثنين من الكافرين. فالمؤمنون موعودون من الله بالغلبة حتى وهم ضعاف. والحق يقول في الآية المبشرة للمؤمنين، المنذرة للكافرين، والتي نحن بصددها الآن: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} . ونحن نسمع كلمة «عبرة» كثيرا، والمادة المأخوذة منها تدل على الدخول من مكان إلى مكان، فقال عن ذلك «عُبور» ، ونحن في حياتنا العادية نخصص في الشوارع أماكن لعبور المشاة، أي المسافة التي يمكن للمشاة أن ينفذوا منها من ضفة الشارع إلى الضفة الأخرى من الشارع نفسه. وعبور البحر هو النفاذ من شاطئ إلى شاطئ آخر. إذن فمادة «العبور» تدل على النفاذ من مكان إلى مكان، و «العَبرة» أي الدمعة لأنها تسقط من محلها من العين على الخد. و «العِبارة» أي الجملة التي نتكلم بها، فهي تنتقل من الفم إلى الأذن، وهي عبور أيضا. و «العبير» أي الرائحة الجميلة التي تنتقل من الوردة البعيدة عن الإنسان قليلا لتنفذ إلى أنفه. إذن فمادة «العبور» تدل على «النفاذ» . وحين يقول الحق: {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً} . أي تنقلكم من أمر قد يخيفكم أيها المؤمنون لأنكم قليل، وهم كثير، إنها تنقلكم إلى نصر الله أيها المؤمنون، وتنقلكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1306 أيها الكافرون إلى الهزيمة برغم كثرة عُدتكم وعَددكم. فالعبرة هي حدث ينقلك من شيء إلى شيء مغاير، كالظالم الذي نرى فيه يوما، ونقول إن ذلك عبرة لنا، أي إنها نقلتنا من رؤيته في الطغيان إلى رؤيته في المهانة. وهكذا تكون العبرة هي العظة اللافتة والناقلة من حكم إلى حكم قد يستغربه الذهن، فتذييل هذه الآية الكريمة بهذا المعنى هو إيضاح وبيان كامل، فالحق يقول في بداية هذه الآية: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا} وتنتهي الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} . إذن فالعبرة شيء ينقلنا من أمر إلى أمر قد تستغربه الأسباب وذلك إن كنت متروكا لسياسة نفسك، لكن المؤمن ليس متروكا لسياسة نفسه؛ لأن الله لو أراد أن يعذب الكفار بدون مواجهة المؤمنين وحربهم لعذبهم بدون ذلك، ولكن الله يريد أن يكون عذاب الكافرين بأيدي المؤمنين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] . ولو كان الله يريد أن يعذب الكافرين بغير أيدي المؤمنين لأحدث ظاهرة في الكون تعذبهم، كزلزال يحدث ويدمرهم، ولكن الله يريد أن يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين. {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} ، و «الأيد» هو القوة، إذن فهو يريد منك فقط النواة العملية، ثم بعد ذلك يكملها الله بالنصر، «وأيَّده» أي قواه، ويؤيد الله بنصره من يشاء، وتكون العبرة لأولي الأبصار. وقد يقول قائل: أتكون العبرة لأولي الأبصار؛ أم لأولي البصائر؟ وهنا نقول: إن العبرة هنا لأولى الأبصار لأن الأمر الذي تتحدث عنه الآية هو أمر مشهدي، أمر محسوس، فمن له عينان عليه أن يبصر بهما، فإذا كان التفكير والتدبر ليس أمرا موهوبا لكل مخلوق من البشر، فإن البصر موجود للغالبية من الناس، وكل منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1307 يستطيع أن يفتح عينيه ليرى هذا الأمر المشهدي. وإذا ما نظرنا إلى المعركة بذاتها وجدنا الدليل الكامل على صدق العبارة؛ فالمؤمنون قلة وعددهم معروف محدود، وعتادهم قليل، ولم يخرجوا بقصد حرب، إنما خرجوا لقصد الاستيلاء على العير المحملة بالأرزاق من طعام وكسوة تعويضا عما اغتصبه المشركون من أموالهم في مكة، ولو أنّهم استولوا على العير فقط لما كان النصر عظيما بالدرجة التي كان عليها؛ لأن العِير عادة لا تسير بعتاد ضخم إنما تحفظ بالحراسة فقط. ولكن الله يريد لهم النصر على ذات الشوكة، أي الطائفة القوية المسلحة، لقد وعدهم الله بالنصر على إحدى الطائفتين: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} [الأنفال: 7] . لقد كان وعد الله أن ينصر المؤمنين على إحدى الطائفتين، والأمل البشرى كان يود الانتصار على الطائفة غير ذات الشوكة أي الطائفة غير المسلحة وهي العير، ولكن مثل هذا النصر لا يكون له دَوِيُّ النصر على الطائفة المسلحة، فقد كان من السهل أن يقال: إن محمداً ومن معه تعرضوا لجماعة من التجار لا أسلحة معهم ولا جيش، ولكن الله يريد أن يجعل من هذه المعركة فرقانا وأن يحق الحق. إنكم أيها المؤمنون لم تخرجوا إلاَّ لِقصد العير أي لم يكن استعدادكم كافيا للقتال، أما الكفار فقد جاءوا بالنفير، أي بكل قوتهم فقد ألقت مكة في هذه المعركة بأفلاذ أكبادها. وعندما يأتي النصر من الله للمؤمن في مثل هذه الموقعة فهو نصر حقيقي، ويكون آية غاية في العجب من آيات الله. وتصير عبرة للغير. لذلك نجد العجائب في هذه المعركة - معركة بدر -. الغرائب أنك تجد الأخوين يكون لكل منهما موقف ومجابهة. وتجد الأب والابن لكل منهما موقف ومجابهة برغم عمق الصلة بينهما، فمثلا ابن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وكان هذا الابن لم يسلم بعد، وكان في جانب الكفار، وأبوه الصديق مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1308 وبعد أن أسلم ابن أبي بكر يحكي الابن لأبيه بشيء من الامتنان والبر: لقد تراءيت لي يوم بدر فزويت وجهي عنك. فيرد أبو بكر الرد الإيماني الصدِّيقي: والله لو تراءيت لي أنت لقتلتك. وكلا الموقفين منطقي، لماذا؟ لأن ابن أبي بكر حين يلتقي بأبي بكر، ويرى وجه أبيه، فإنه يقارن بين أبي بكر وبين ماذا؟ إنه يقارن بين أبيه وبين باطل، ويعرف تمام العلم أنه باطل، فيرجح عند ابن أبي بكر أبوه، ولذلك يحافظ على أبيه فلا يلمسه. لكنَّ أبا بكر الصديق حينما يقارن فهو يقارن بين الإيمان بالله وابنه، ومن المؤكد أن الإيمان يزيد عند الصديق أبي بكر، فلو رآه يوم بدر لقتله. ولله حكمة فيمن قُتل على أيدي المؤمنين من مجرمي الحرب من قريش، ولله حكمة فيمن أبقى من الكفار بغير قتل؛ لأن هؤلاء مدخرون لقضية إيمانية كبرى سوف يبلون فيها البلاء الحسن. فلو مات خالد بن الوليد في موقعة من المواقع التي كان فيها في جانب الكفر لحزنا نحن المسلمين؛ لأن الله قد ادخره لمعارك إيمانية يكون فيها سيف الله المسلول، ولو مات عكرمة لفقدت أمة الإسلام مقاتلا عبقريا. لقد حزن المسلمون في موقعة بدر لأنهم لم يقتلوا هؤلاء الفرسان؛ لأنهم لم يعلموا حكمة الله في ادخار هؤلاء المقاتلين؛ لينضموا فيما بعد إلى صفوف الإيمان. والله لم يمكِّن مقاتلي المسلمين يوم بدر من المحاربين الذين كانوا على دين قومهم آنئذٍ إلاّ لأن الله قد ادخرهم لمواقع إيمانية قادمة يقفون فيها، ويحاربون في صفوف المؤمنين وهذا نصر جديد. ونرى أبا عزيز وهو شقيق الصحابي مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليبشر بدين الله، ويعلِّم أهل المدينة، وكان مصعب فتى فريش المدلل صاحب ترف، وأمه صاحبة ثراء، وبعد ذلك رآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يلبس جلد شاة بعد أن كان يلبس الحرير، فيقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «انظروا إلى الإيمان ماذا فعل بصاحبكم» . والتقى مصعب في المعركة مع أخيه أبي عزيز، وأبو عزيز على الكفر، ومصعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1309 مسلم يقف مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحين يرى مصعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أخاه أبا عزيز وهو أسير لصحابي اسمه أبو اليسر، فيقول مصعب: يا أبا اليسر اشدد على أسيرك؛ فإن أمه غنية وذات متاع، وستفديه بمال كثير. فيقول له أخوه أبو عزيز: أهذه وصاتك بأخيك؟ فيقول مصعب مشيراً إلى أبي اليسر: هذا أخي دونك. كانت هذه هي الروح الإيمانية التي تجعل الفئة القليلة تنتصر على أهل الكفر، طاقة إيمانية ضخمة تتغلب على عاطفة الأخوة، وعاطفة الأبوة، وعاطفة البنوة. وقد جعل الله من موقعة بدر آية حتى لا يخور مؤمن وإن قل عدد المؤمنين، أو قلت عُدّتهم، وحتى لا يغتر كافر، وإن كثر عددُ قومه وعتادهم. وقد جعلها الله آية للصدق الإيماني، ولذلك يقال: احرص على الموت توهب لك الحياة. وقد كانت القضية الإيمانية هي التي تملأ نفس المؤمن، إنَّها قضية عميقة متغلغلة في النفوس. ولماذا يتربص الكفار بالمؤمنين؟ إنهم إن تربصوا بهم، فسيدخل المؤمنون الجنة إن قُتِلوا أو ينتصرون على الكفار، وفي ذلك يقول الحق على لسان المؤمنين: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52] . فالظفر هنا بأحد أمرين: إما النصر على الكافرين، وإما الاستشهاد في سبيل الله، ونيل منزلة الشهداء في الجنة وكلاهما جميل. والمؤمنون يتربصون بالكافرين، إما أن يصيب الله الكفار بعذاب من عنده، وإما أن يصيبهم بأيدي المؤمنين. إنها معادلة إيمانية واضحة جلية. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1310 الموضع الذي تأتي فيه هذه الآية الكريمة هو: موقع ذكر المعركة الإسلامية التي جعلها الله آية مستمرة دائمة؛ لتوضح لنا أن المعارك الإيمانية تتطلب الانقطاع إلى الله، وتتطلب خروج الإنسان المؤمن عما ألف من عادة تمنحه كل المتع. والمعارك الإيمانية تجعل المؤمن الصادق يضحي بكثير من ماله في تسليح نفسه، وتسليح غيره أيضا. فمن يقعد عن الحرب إنسان تغلبه شهوات الدنيا، فيأتي الله بهذه الآية بعد ذكر الآية التي ترسم طريق الانتصارات المتجدد لأهل الإيمان؛ وذلك حتى لا تأخذنا شهوات الحياة من متعة القتال في سبيل الله ولإعلاء كلمته فيقول: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات» وكلمة «زُيِّنَ» تعطينا فاصلا بين المتعة التي يحلها الله، والمتعة التي لا يرضاها الله؛ لأن الزينة عادة هي شيء فوق الجوهر. فالمرأة تكون جميلة في ذاتها وبعد ذلك تتزين، فتكون زينتها شيئا فوق جوهر جمالها. فكأن الله يريد أن نأخذ الحياة ولا نرفضها، ولكن لا نأخذها بزينتها وبهرجتها، بل نأخذها بحقيقتها الاستبقائية فيقول: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء» . وما الشهوة؟ الشهوة هي ميل النفس بقوة إلى أي عمل ما. وحين ننظر إلى الآية فإننا نجدها توضح لنا أن الميل إذا كان مما يؤكد حقيقة استبقاء الحياة فهو مطلوب ومقبول، ولكن إن أخذ الإنسان الأمر على أكثر من ذلك فهذا هو الممقوت. وسبق أن ضربنا المثل من قبل بأعنف غرائز الإنسان وهي غريزة الجنس، وأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1311 الحيوان يفضل الإنسان فيها، فالحيوان أخذ العملية الجنسية لاستبقاء النوع بدليل أن الأنثى من الحيوان إذا تم لقاحها من فحل لا تُمكِّن فحلاً اخر منها. والفحل أيضاً اذا ما جاء إلى أنثى وهي حامل فهو لا يُقبل عليها، إذن فالحيوانات قد أخذت غريزة الجنس كاستبقاء للحياة، ولم تأخذها كالإنسان لذة متجددة. ومع ذلك فنحن البشر نظلم الحيوانات، ونقول في وصف شهوة الإنسان: أن عند فلان شهوة بهيمية. ويا ليتها كانت شهوة بهيمية بالفعل؛ لأن البهيمة قد أخذتها على القدر الضروري، لكن نحن فلسفناها، إذن فخروجك بالشيء عما يمكن أن يكون مباحاً ومشروعا يسمى: دناءة شهوة النفس. والحق سبحانة وتعالى يريد أن يضمن للكون بقاءه، والبقاء له نوعان: أن يُبقِي الإنسان حياته بالمطعم والمشرب، وتبقى حياة النوع الإنساني بالتزواج. ولكن إن نظرت إلى المسألة وجدت الخالق حكيما عليما. إنه يعلم أن طفولة أي حيوان بسيطة بالنسبة لأبيه وأمه، مثال ذلك: الحمامة تطعم فرخها إلى أن يستطيع الطيران، ثم لا تعرف أين ذهب فرخها، لكن حصيلة الإلتقاء بين الرجل والمرأة، والتي أراد الله لها أن تنتج الأولاد تحتاج إلى شقاء إلى أن يبلغ الولد، وذلك ليكون هناك تكافؤ وتناسب بين ما يحرص عليه الإنسان من شهوة، وما يتحمل من مشاق ومتاعب في سبيل الاستمتاع بها واستبقائها. فقول الحق سبحانه: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء» فمن المزين؟ إن كان في الأمر الزائد على ضروريات الأمر، فهذا من شغل الشيطان، وإن كان في الأمر الرتيب الذي يضمن استبقاء النوع فهذا من الله. ونجد الحق يضيف «البنين» إلى مجال الشهوات ويقصد بها الذكران، ولم يقل البنات، لماذا؟ لأن البنين هم الذين يُطلبون دائما للعزوة كما يقولون ولا يأتي منهم العار، وكان العرب يئدون البنات ويخافون العار، والمحبوب لدى الرجل في الإنجاب حتى الآن هو إنجاب البنين، حتى الذين يقولون بحقوق المرأة وينادون بها، سواء كان رجلا أو امرأة إن لم يرزقه الله بولد ذكر فإنه أو إنها تريد ولداً ذكراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1312 ويضيف الحق إلى مجال الشهوات: {والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} ، والقناطير هي جمع قنطار، والقنطار هو وحدة وزن، وهذا الوزن حددته كثافة الذهب، إلا أن القنطار قبل أن يكون وزناً كان حجماً، لكنهم رأوا الحجم هذا يزن قدراً كمياً، فانتقلوا من الحجم إلى الوزن. وكان علامة الثراء الواسع في الزمن القديم أن يأتوا بجلد الثور بعد سلخه ويملأوه ذهبا، وملء جلد الثور بالذهب يسمونه قنطاراً، وكانت هذه عملية بدائية. وبعد ذلك أخذوا ملء الجلد ذهباً ووزنوه فصار وزنا. إذن فالأصل فيه أنه كان حجماً، فصار ووزناً. وساعة تسمع {والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} فهو يريد أن يحقق فيها القنطارية، وذلك يعني أن القنطار المقنطر هو القنطار الكامل الوزن، وليس مجرد قنطار تقريباً، كما نقول أيضاً: «دنانير مدنرة» . وعادة نجد في اللغة العربية لفظاً يأتي من جنس اللفظ يضم إليه كي يعطيه قوة، فيقال «ظل ظليل» أي ظل كثيف، ويقال «ليل أليل» أي أن الليل في ظلمة شديدة، وهي مبالغة في كثافة الظلام. والظلام على سبيل المثال يحجب الشمس، وحاجب الشمس عنك قد يكون حجاباً واحداً، وقد يكون الشيء الذي يظلك فوقه شيء آخر يظلله أيضاً فيكون الظل ظليلاً، ولذلك يكون الظل تحت الأشجار جميلاً، لأن ورقة تستر الشمس وورقة أخرى تستر الورقة الأولى، وهكذا، فتصنع تكييفاً طبيعياً للهواء. ولذلك فهم يصنعون الآن خياماً مكيفة الهواء مصنوعة من قماش فوقه قماش آخر، وبينهما مسافة، فيكون هناك قماش يُظلل ظِلاً آخر، فإذا ما وضعوا قطعة ثالثة من القماش تُظل الظلين الأولين، فإن الظل يكون ظليلاً ولذلك قلنا: إن ظل الأشجار هو ظل ظليل، فيه حنان، فكل ورقة تظل الإنسان تكون نفسها مظَّللةَ بورقة أخرى، وتكون أوراق الشجر التي تظلل بعضها بعضا مختلفة الأوضاع، وتعطي الأوراق للنسيم فرصة المرور، أما الخيام فهي تحجب النسيم. والشاعر حين أراد أن يصف الروضة قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1313 تصد الشمس أَنَّى واجهتها ... فتحجبها وتأذن للنسيم إذن فحين وصف الحق القناطير بأنها مقنطرة فذلك يعني القناطير الدقيقة الميزان، وهي قناطير مقنطرة من ماذا؟ {مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة} . وكانت الخيل هي أداة العز وأمارة وعلامة على العظمة، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» قول الحق: {والخيل المسومة} نرى فيهِ أن اللفظ الواحد يشع في مجالات متعددة من المعاني، فمسوَّمة من سامها يَسوُمها، ومعنى ذلك أن لهذه الخيل مراعى تأكل منها كما تريد، وليست خيلاً مربوطة بأكل ما يُقدم لها فقط، ومسوّمة أيضاً تعنى أن لهذا الخيل علامات، فهذا حصان أغرّ، وذلك أدهم وذاك أشقر. ومسوَّمة أيضا، أن تكون مروضة، ومدربة، وتم تعليمها، فالأصل في الخيل أنها لم تكن مُستأنسة بل مُتوحشة، ولذلك لا بد من ترويضها حتى ينتفع بها الإنسان. فكم معنى إذن أعطته لما كلمة «مُسَوَّمَةِ» ؟ سائمة، أي تأكل على قدر ما تشتهي لا على قدر ما نعطيها من طعام. ومُعلَّمة أي فيها علامات كالغّرة والتحجيل، وهذا جواد أدهم، وذلك جواد أشقر، أو أنها معلمة أي مروضة. فماذا تتطلب الحرب؟ . إن الحرب تتطلب الانقطاع عن الأهل، فيجب ألا تكون شهوة النفس حاجزاً، سواء كانت شهوة للنساء، أو كانت شهوة العزوة للبنين ورعايتهم، أو كانت شهوة المال؛ فالمؤمن ينفقه في سبيل الله، والخيل أيضاً يستخدمها الإنسان في القتال لإعلاء كلمة الله. ونلحظ أن هذه الآية - التي تعدّد أنواع الزينة - جاءت بعد الآية التي تتحدث عن الجهاد في سبيل الله والتي يقول الحق تبارك وتعالى فيها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1314 {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} [آل عمران: 13] وذلك ليرشدنا إلى أن الإنسان المؤمن لا يصح أن يضحى بشهوته الحقيقية وهي إدراك الشهادة في سبيل الله أو النصر على العدو بسبب الشهوات الزائلة التي تتمثل في النساء، وفي البنين، وفي القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وفي الخيل المسوَّمة والأنعام وقد قال الله عن الأنعام في سورة الأنعام: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الأنعام: 143 - 144] . حساب ذلك هو إثنان من الضأن، وإثنان من الماعز، وإثنان من الإبل، وإثنان من البقر أي ثمانية أزواج. ولا يمكن حسابها على أنها ستة عشر كما قال البعض قديماً، لا؛ إن الزوج لا يعني اثنين من الشيء، ولكن الزوج واحد، ولكن يُشترط أن يكون مع غيره من جنسه. ومثال آخر هو كلمة «التوأم» ، إن التوأم هو واحدٌ معه غيره، وهما توأمان، وهم توائم إذا كان العدد أكثر من اثنين. والحق يقول في مجال زينة الشهوات: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1315 والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث» وحين تسمع كلمة «الحرث» فافهم أن المراد بها هنا الزرع، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تعلم أن الله حين يُنبت لك أشياء بدون معالجتك فإنه يريد منك أيضاً أن تَسْتنبت أشياء بمعالجتك، وهذا لا يتأتى إلا بعملية الحرث. والحرث هو إهاجة الأرض؛ فالتربة تكون جامدة، فلا بد أن يهيّجها الإنسان بالحرث، أي أن تفك يبوستها - وتَلاَصُق ذراتها لأن تلاَصُقَ ذرات التربة لا يصلح أن يكون بيئة للنبات؛ لأن النبات يحتاج إلى الماء ويحتاج إلى الهواء، ويحتاج من الإنسان أن يُمهد للشعيرات البسيطة أن تخرج، وتجد تربة سهلة تتحرك فيها إلى أن تقوى. إذن فالحرث يتثير الأرض، ويجعلها ليّنة مُتفتتة حتى تستطيع البذرة أن تنمو؛ لأن الله قد أودع في فلقتي كل بذرة مقومات الحياة الى أن يوجب لها جذر يأخذ مقومات الحياة من الأرض، وكلما قوى الجذر في النبات فإن الفلقتين تضمحلان، وتصيران مجرد ورقتين. فأين ذهب حجم الفلقتين؟ لقد قامت الفلقتان بتغذية النبتة إلى أن أستطاعت النبتة أن تتغذى بنفسها من الأرض، ولا يمكن حدوث ذلك إلا إذا كانت الأرض محروثة. ولذلك يقولون: إن الأرض الطينية السوداء تكون صعبة، وغير خصبة، ويقال: إن الأرض الرملية أيضاً غير خصبة، لماذا؟ . لأننا نريد صفتين اثنتين في الأرض: الصفة الأولى أن تكون الأرض صالحة أن يتخللها الماء ليشرب الزرع، والصفة الأخرى ألاّ تُسرب الماء بعيداً، فإذا كانت الأرض طينية فإن جذور الزرع تختنق وتتعفن، وإذا كانت رملية فإن الماء يتسرب بعيداً، لذلك نحتاج في الزراعة الى أرض بين سوداء ورملية، أي أرض صفراء. والله حين يتكلم عن الزرع فإنه يقول: «الحرث» وذلك حتى يلفتنا إلى أن من يريد أن يأخذ زرعاً لا بد أن يجدّ ويحرث الأرض. وهو سبحانه القائل: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 63 - 64] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1316 وعبِّر الحق عن الزرع بالحرث لأنه السبب الذي يُوجِد الزرع. وكل ما تقدم من الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، كل ذلك تكون قيمته عند الإنسان ما يوضحه الحق بقوله: «ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب» . إن كل ذلك هو متاع الحياة الدنيا، والفيصل هو أن الإنسان يخشى أن تفوته النعمة فلا تكون عنده، أو أن يفوتها فيموت. وكل ما يفوتك أو تفوته، فلا تعتز به. وعندما نتأمل الآية في مجموعها نجد أن فيها مفاتيح كل شخصية تريد أن تنحرف عن منهج الله، إنه سبحانه يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} [آل عمران: 14] هكذا نرى المفاتيح التي قد تجذب الإنسان لينحرف عن مراد الله في منهجه، إنه - سبحانه - يطلب من عبده المؤمن أن يبني حركة حياته على مراد الله، فما الذي يجعل المؤمن يترك مراد الله من حكم لينصرف إلى حكم يناقضه؟ . لا شك أنه الهوى، والهوى هو الذي يُميل ويُزيغ القلوب، ولكل هوى مفتاح، ولكل شخصية من المكلفين بمنهج الله مفتاح لهواه، فواحد مفتاحه النساء، وواحد مفتاحه البنون، يحب أن يرعاهم رعاية تفوق دَخْلَه من عمل أو صناعة مثلا فقد يسرق أو يرتشي ليسعد هؤلاء. وأناس مفاتيحهم الشخصية المال، أو في زينة الخيل، والعدة والعتاد فلكل شخصية مفتاح هوى. والذين يدخلون على الناس ليُزيِّنوا لهم غير منهج الله يأتون لهم بالمفتاح الذي يفتح شخصياتهم، فربما كان هناك إنسان لا تُغريه نظرة المرأة أو ملايين الذهب إنما يتملكه حبه لأولاده وهو الهوى الغلاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1317 إذن فكل واحد له مفتاح لشخصيته، والذين يريدون إغراء الناس وغوايتهم يعرفون مفاتيح من يريدون إغراءه وإغواءه. وحين يقول الحق أنَ هذه الأشياء هي المُزَيِّنة للناس. قد يقول قائل: إذا كان الله يريد أن يصرفنا عن هذه الأشياء فلماذا خلقها لنا؟ وعلى هذا القول نرد: إن الحق مادام قد قال: {زُيِّنَ} وبناها - كما يقول النحاة - للمجهول إي لما لم يُسَمَّ فاعله، فمن الذي زيِّن؟ لقد كان الله قادرا أن يقول لنا من الذي زَيَّن تلك الأشياء تحديدا، لكن الحق يريد أن يعلمنا أنه من الممكن أن يكون الشيطان هو الذي يُزيّن لنا هذه الأشياء، ومن الممكن أن يكون منطق المنهج هو الذي يزين، ألم يقل الحق سبحانه دعاء على لسان عباده الصالحين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74] . إذن فما الفيصل في تلك المسألة؟ الفيصل في هذه المسألة أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل نعمة من نعم الحياة عملا يعمله الإنسان فيها، فالمرأة إنما اتَّخَذَت سكنا أي ارتياحا عندها، ارتياحاً يعطيك كل الحنان والعطف، وهو سبحانه القائل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] . إن الحق يريد لنا أن يسكن الرجل إلى حلاله، وتصرف المرأة الحلال عَيْنَيْ زوجها عن أعراض الناس. لكن ماذا في الرجل الذي يُحب الأبناء؟ ألم يقل سيدنا زكريا: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 4 - 6] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1318 لقد طلب زكريا عليه السلام وليَّا يرثه، والأنبياء لا تُورث منهم أموال، إنما يُورِّثون العلم والحكمة، إذن فقد طلب زكريا عليه السلام أن يرث ابنه الحكمة منه ويرث من آل يعقوب وأن يجعله الله رضِيَّا. فلو كان الأنبياء يورِّثون المال، لكان البعض قد فهم أن طلب زكريا للإبن كي يرثه في المال، لكن الحق أراد لأنبيائه ألاّ يُورِّثوا المال، بل يورِّثون العلم بمنهج الله. وقد طلب زكريا الابن لتثبيت منهج الله في الأرض. وكذلك الذي يريد الأموال لينفقها في سبيل الله، وكذلك الذي يريد الخيل ليروضها على الجهاد، وكذلك الذي يريد الحرث ليملأ بطون خلق الله بما يَطعَمُون منه، كل هؤلاء ينالهم المدح والثناء والجزاء الكثير من الله. لذلك يجب أن نعلم أن الحكم يأتي من الله مُحتملا أن تتجه به إلى الخير المراد لله، ومحتملا أن تتجه به إلى الشر المراد لنفسك. وأنت - أيها العبد - حين تنظر إلى أي شهوة من هذه الشهوات فلسوف تجد أنه من الممكن أن توجِّهها وِجهة خير. يقول الحق: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74] . لقد أراد الله للأتقياء والأنبياء أن يكون لهم من الذرية أبناء ليرثوا المنهج السلوكي ويكونوا مثلا طيبة للناس يقتدون بهم. إذن فالمؤمن يحب أن تكون ذريته قدوة سلوكية. والذي يحب الخيل يمكن أن يوجه هذا الحب إلى الخير، ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الشريف: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «مِنْ خير معاش الناس لهم رجل ممسك عِنَانَ فرسه في سبيل الله يطير على مَتنه كلما سمع هِيْعَة أو فَزْعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مَظَانَّة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1319 وقد أمرنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن نُروِّض الخيل، إذن فمن الممكن أن تكون هذه الأشياء مساراً للخير. وإياكم أن تفهموا أن الله يزهدنا فيها أو ينفرنا منها، ولكنه يزهدنا أن نستعمل ما خلقه لنا في غير مراده. ولننظر إلى تعليق الله على الأشياء المُزينة: «ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا» أي أن الذي ينظر الى هذه الاشياء المزينة نظرة تقليدية سطحية سيجدها مجرد متاع، وما عمر هذا المتاع؟ إنه موقوت بالدنيا الفانية. ولننظر إلى الإنسان عندما يُصَعِّدُ في عمله قيمة الخير، وتصعيد قيمة الخير يأتي من تنمية نوعه، أي الزيادة في نوع الخير، ومن استدامته، ومن أن الإنسان لا يترك هذا الخير. إذن فتصعيد الخير يأتي على عدة صور تبدأ من تنمية الخير نفسه. واستدامة الخير فلا ينقطع، وضمان أن يحيا الإنسان للخير ويعيش له، وألاّ يذهب الخير عنه، وأمر رابع هو ألاّ تربط هذا الخير بأغيار، أي أن تربطه بواحد قوى يأتي لك به، فقد يضعف، أو يمرض، أو يغيب، أو يغدر بك. إذن فلا بد من أربعة عناصر: الاول: تصعيد الخير، أي نوع الخير الذي تفعله يكون أرقى من خير آخر، فنعمل دائما على زيادته وتنميته. والثاني: استدامة الخير. والثالث: أن تدوم أنت للخير، وتحرص على أن تعيش له، والأمر الرابع: ألاّ تربط هذا الخير بالأغيار. بل عليك أن تعتمد على الله ثم على نفسك. وكل خير يأتي دون هذا فهو خير غير حقيقي. فإذا نظرت إلى شهوات النساء والمال والبنين والخيل والأنعام والحرث فإنها ستعطيك متاع الدنيا. ولنسلم جدلا أن شيئا لن يسلبك هذه الأشياء وأنت حيّ، وأنها ستظل معك طيلة دنياك. فما قيمة الدنيا وهي مقاسة بآلاف السنين، والإنسان لا يعيش فيها إلا قدرا محددا من الأعوام يقرره الحق سبحانه وتعالى. إذن فالدنيا تقاس بعمر الإنسان فيها لا بعمر ذات الدنيا لغيره، لأن عمر الدنيا لغيرك لا يخصك. هب أن هذه الشهوات من نساء ومال وبنين وخيل وذهب وفضة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1320 وحرث وأنعام وعدة وعتاد قد دامت لك، فما الذي يحدث؟ إن الدنيا محدودة. ولا أحد يستطيع أن يستديم الدنيا، لذلك فلن يستطيع أحد أن يستديم الخير لأن عمره في الدنيا محدود. وحياة الإنسان في الدنيا لم يضع الله لها حداً يبلغه الإنسان. إن الله لم يحدد عمرا يموت فيه الإنسان، ولكنْ لكل إنسان عمْر خاصٌّ محدود بحياته، فعندما يولد أي طفل لا تنزل معه بطاقة تحدد عدد السنوات التي سوف يحياها في الدنيا. وهو سبحانه قد جعل عدد سنوات الحياة مبهما لكل إنسان، ولذلك يقال إن الإبهام هو أعلى درجات البيان، الحق أخفى توقيت الموت وسببه عن الإنسان. متى يأتي؟ في أي زمان وفي أي مكان؟ كل ذلك أخفاه فأصبح على المؤمن أن يكون مترقبا للموت في كل لحظة. إن الإبهام للموت هو البيان الوافي، وما دامت الدنيا مهما طالت فهي محدودة وغير مضمونة للإنسان أن يحياها، ونعيمه فيها على قدر إمكاناته وقدرته، وإن لم تذهب الدنيا من الإنسان فالإنسان نفسه يذهب منها. فإذا ما قارنت كل ذلك باسم الحياة التي نحياها الآن، إنّ اسمها «الدنيا» أي «السفلى» ومقابل «الدنيا» هو «العليا» وهي الحياة في الآخرة. ولماذا هي «عليا» ؟ لأنها ستصعد الخير. فبعد انقضاء هذه الحياة المحدودة يذهب المؤمن إلى الجنة وبها حياة غير محدودة، وهذا أول تصعيد. ويضمن المؤمن أن أكلها دائم لا ينقطع. ويضمن المؤمن أنه خالد في الجنة فلا يموت فيها. ويضمن المؤمن قيمة هذه الجنة؛ لأن الخير إنما يأتي على مقدار معرفة الفاعل للخير. ومعرفة الإنسان للخير جزئية محدودة، ومعرفة الله للخير كمال مطلق. فالمؤمن في الآخرة يتنعم في الخير على مقدار ما علم الله من الخير. إذن فحياتنا هي الدنيا، أي السفلى، وهناك الآخرة العليا. فإذا طلب المنهج منا ألاّ ننخدع بالدنيا، وألاّ ننقاد إلى المتاع فهل هذا لون من تشجيع الحب للنفس أو تشجيع للكراهية للنفس؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1321 إنه منهج سماوي يقود إلى حب النفس؛ لأنه يريد أن يُصَعِّد الخير لكل مؤمن، لقد بيّن المنهج أن في الدنيا ألوانا من المتع هي كذا وكذا وكذا، والدنيا محدودة ولا تدوم لإنسان، ولا يدوم إنسان لها، وإمكانات الإنسان في النعيم الدنيوي محدودة على قدر الإنسان، أما إمكانات النعيم في الآخرة فهي على قدر قدرة الخالق المربي، فمن المنطقي جدا أن يقول الله لنا: {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} . وحسن المآب تعني حسن المرجع. والحق حينما طلب منك أيها المؤمن أن تغض بصرك عما لا يحل لك، فقد يظن الإنسان السطحي أن في ذلك حجراً على حرية العين، ولكن هذا الغض للبصر أمر به - سبحانه - إنما ليملأ العين في الآخرة بما أحل الله، إذن فهذا حب من الله للمخلوق وهذا تصعيد في الخير. ولنفترض أن معك مبلغا قليلا من المال وقابلت فقيرا مسكينا فآثرت أنت هذا الفقير على نفسك، فأنت تفعل ذلك لتنال في الآخرة ثوابا مضاعفا. إذن فقضية الدين هي أنانية عالية سامية، لا أنانية حمقاء. ويوضح الله بعد ذلك حسن المآب بقوله سبحانه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1322 وحين تسمع كلمة «أؤخبركم» فما نسمعه بعد ذلك كلام عادي، أما عندما نسمع «أَؤُنَبِّئُكُمْ» فما نسمعه بعدها هو خبر هائل لا يقال إلا في الأحداث العظام، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1322 فلا يقول أحد لآخر: سأنبئك بأنك ستأكل كذا وكذا في الغداء، ولكن يقال «أنا أنبئك بأنك نلت جائزة كبرى» ، هذا في المستوى البشرى فما بالنا بالله الخالق الأعلى، ولذلك يقول الله الحق: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 1 - 2] . إنه الأمر الذي يقلب كيان هذه الدنيا كلها، فحين يقول الحق: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} فمعنى ذلك أن الله يخبرنا بخبر من هذه الأشياء، ومن ذلك نعرف أن الله قد جعل هذه الأشياء مقياساً، لماذا؟ لأنه مقياس محس، وأوضح لنا كيفية التصعيد فقال: {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ} والمؤمن هو من ينظر بثقة إلى كلمة {عِندَ رَبِّهِمْ} أي الرب المتولى التربية والذي يتعهد المربيَِّ حتى يبلغه درجة الكمال المطلوب منه. والعندية هنا هي عند الرب الأعلى. فماذا أعد المربي الأعلى للمتقين؟ لقد أعد لهم {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ولنر الخيرية في هذه الجنات، وهي تقابلٍ في الدنيا الحرث والزرع، وقد قلنا: إن الحق حين تكلم عن الزرع تكلم واصفاً له ب «الحرث» لنعرف أن الزرع يتطلب منا حركة وعملاً. أما في الآخرة فالجنات جاهزة لا تتطلب من المؤمن حركة أو تعباً، ولا يقف الأمر عند ذلك، بل إن هذه الجنات تجر من تحتها الأنهار وفيها للإنسان المؤمن ما وعده الله به: {خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} إنه الخلود الذي لا يفنى، ولا يتركه الإنسان ولا يترك هو الإنسانِ. والأزواج المطهرة هي وعد من الله للمؤمنين، ومن يحب النساء في الدنيا يعرف أن المرأة في الدنيا يطرأ عليها أشياء قد تنفر، إما خَلْقاً تكوينياً، وإمَّا خُلًُقاً، فهناك وقت لا يحب الرجل أن يقرب فيه المرأة، وقد يكون فيها خصلة من الخصال السيئة فيكره الإنسان جمالها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1323 لذلك فالرجل قد ينخدع بالمنظر الخارجي للمرأة في الدنيا، وقد يقع الإنسان في هوى واحدة فيجد فيها خصلة تجعله يكرهها، أما في الآخرة فالأمر مختلف، إنها {أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} أي مطهرة من كل عيب يعيب نساء الدنيا، فيأخذ المؤمن جمالها، ولا يوجد فيها شرور الدنيا، فقد طهرها الله منها. {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من الذي طهرها؟ إنه هو الله - سبحانه - طهرها خَلْقاً وَخُلُقاً. فالرجل في الدنيا قد يهوى إمرأة، وتستمر نضارتها خمسة عشر عاماً تستميله وتجذبه، ثم تبدأ التجاعيد والترهل والتنافر. أما في الآخرة فالمرأة مطهرة من كل شيء، وتظل على نضارتها وجمالها إلى الأبد، أليس هذا تصعيداً للخير؟ ونلاحظ أن الحق سبحانه ذكر هنا أمرين: الأمر الأول: هو جنات تجري من تحتها الأنهار، ونقارن بينها وبين الحرث في الدنيا. والأمر الآخر: هو الأزواج المطهرة، ونقارن بينها وبين النساء في الدنيا أيضا، ولم يورد الحق أي شيء عن بقية الأشياء، فأين القناطير المقنطرة من الذهب؟ وأين الخيل؟ وأين الأنعام وأين البنون؟ إننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل الأمرين المزينين، واحداً يستهل به الآية، والأمر الآخر يأتي في آخر الآية، ولنقرأ الآية التي فيها التزيين: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} إن البداية هي النساء، ذلك هو القوس الأول، والنهاية هي الحرث وذلك هو القوس الثاني، وبين القوسين بقية الأشياء المزينة، وقد أعطانا الله عوض القوسين، وأوضح لنا إنهما هما الخير الْمُصَعَّد، ولم يورد بقية الأشياء المزينة، وهذا يعني أن نفهم ذلك في ضوء أن الرزق ما به انتُفِعَ، أي أن كل ما ينتفع به الإنسان رزق، الخُلُق الطيب رزق سماع العلم رزق، أدب الإنسان رزق، حلم الإنسان رزق، صدق الإنسان رزق، ولكن الرزق يأتي مرة مباشرا بحيث تنتفع به مباشرة، ومرة أخرى يأتي الرزق لكنه لا ينفع مباشرة، بل قد يكون سببا ووسيلة لما ينفع مباشرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1324 مثال ذلك الخبز، إنه رزق مباشر، والنقود هي رزق، لكنها رزق غير مباشر؛ لأن الإنسان قد يكون جائعاً وعنده جبل من الذهب فلو قال واحد لهذا الإنسان: خذ رغيفا مقابل جبل من الذهب. سيعطي الإنسان الجائع جبل الذهب مقابل الرغيف؛ لأن الإنسان لا يأكل الذهب، وكذلك كوب الماء بالنسبة للعطشان. إذن فهناك رزق لا يطلب لذاته، ولكن يطلبه الإنسان لأنه وسيلة لغيره فالوسيلة لغيره أنت لن تحتاج إليها في الآخرة؛ لأنك ستعيش ببدل الأسباب بقول الحق: «كن» . فالإنسان لن يحتاج في الجنة إلى مال. أو قناطير مقنطرة من الذهب والفضة؛ لأن كل ما تشتهيه النفس ستجده، ولن تحتاج في الآخرة إلى خيل مسومة؛ لأنك لن تجاهد عليها أو تتلذذ وتستأنس بركوبها. وكل ما لا تحتاج إليه في الآخرة من أشياء أعطاها لك الله في الدنيا لتسعى بها في الأسباب، ولم يورده الله في قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله والله بَصِيرٌ بالعباد} لم يوردها في النص الكريم، لأن عطاء الله في الآخرة بالرزق المباشر، أما الأشياء التي يسعى بها الإنسان إلى الرزق المباشر في الدنيا فلم يوردها لعدم الحاجة إليها في الآخرة، فنحن نحب المال، ولماذا؟ لأنه يحقق لنا شراء الأشياء، والخيل المسومة نحبها؛ لأنها تحقق لنا القدرة على القتال والجهاد في سبيل الله. والأنعام؛ لتحقق لنا المتعة. أما الجنة في الآخرة فالمؤمن يجد فيها كل ما تشتهيه الأنفس، وكل ما يخطر ببال من يرزقه الله الجنة سوف يجده؛ فالوسائط لا لزوم لها. لذلك تكلم الحق عن الأشياء المباشرة، فأورد لنا ذكر الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وذكر لنا الأزواج المطهرة. وعندما نتأمل قول الحق: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} قد يقول قائل: ألم يَكن من المنطق أن يخبرنا الحق مباشرة بما يريد أن يخبرنا به، بدلاً من أن يسألنا: أيخبرنا بهذا الخير، أم لا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1325 ونقول: أنت لم تلتفت إلى التشويق بالأسلوب الجميل، وحنان الله على خلقه. إنه سبحانه وتعالى يقول لنا: ألا تريدون أن أقول لكم على أشياء تفضل تلك الأشياء التي تسيركم في الدنيا. فكأن الحق سبحانه وتعالى قد نبه من لم ينتبه. ولم ينتظر الحق أن نقول له: قل لنا يارب. لا، إنه يقول لنا دون طلب منا، ويقال عن هذا الأسلوب في اللغة إنه «استفهام للتقرير» ، فالإنسان حين يسمع: {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} فالذهن ينشغل، فإن لم يسمع النبأ، فلسوف يظل الذهن مشغولاً بالنبأ، ويأتي الجواب على اشتياق فيتمكن من نفس المؤمن. ويأتي النبأ {لِلَّذِينَ اتقوا} ، فعندما نمعن النظر في الشهوات التي تقدمت من نساء وبنين وقناطير مقنطرة من ذهب وفضة وخيل مسومة وأنعام وحرث، ألا يكون من المناسب فيها أن يتقي الإنسان ربه في مجالها؟ إن التقوى لله في هذه الأشياء واجبة، ولذلك قلنا من قبل قضية نرد بها على الذين يريدون أن يجعلوا الحياة زهداً وانحساراً عن الحركة، وأن يوقفوا الحياة على العبادة في أمور الصلاة والصوم، وأن نترك كل شيء. لهؤلاء نقول: لا؛ إن حركتك في الحياة تعينك على التقوى؛ لأننا عرفنا أن معنى التقوى هو أن يجعل الإنسان بينه وبين النار حجاباً، وأن تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية. فإذا ما أخذت نعم الله لتصرفها في ضوء منهج الله فهذا هو حسن استخدام النعم. وقد أوضحت من قبل أن التقوى حين تأتي مرة في قول الحق: {اتقوا الله} وتأتي مرة أخرى {اتقوا النار} فهما ملتقيان؛ فاتقاء النار حتى لا يصاب الإنسان بأذى، وعندما يتقي الإنسان الله فهو يتقي غضب الله؛ لأن غضب الله يورد العذاب، والعذاب من جنود النار. إذن فالذين يتقون الله لا يظنون أنهم زهدوا في هذه الحياة لذات الزهد فيها، ولكن للطمع فيما هو أعلى منها، إنه الطمع في النعيم الأخروي الدائم. ويوضح الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: أنكم لن تتمتعوا في الآخرة لضرورة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1326 الحاجة للمتعة، بحيث إذا ما جاءت النعمة عليكم تفرحون بها، إن الأمر لا يقتصر على ذلك وإنما يتعداه إلى أنكم - أيها المؤمنون - تحبون فقط أن تروا المنعم، فمادام المؤمن الذي يدخل الجنة يجد كل ما يشتهي بل إنه لا يشتهي شيئا حتى يأتيه، ويستمتع على قدر عطاء الله وقدراته. وإذا لم يشته الإنسان ثماراً في الجنة أو نساء، ويصبح مشغولاً برؤية ربه فإن مكانه جنة من الجنان اسمها «عليّون» و «عليّون» هذه ليس فيها شيء مما تسمعه عن الجنة، ليس فيها الا أن تلقى الله. إن الرزق والنعم ليسا من أجل قوام الحياة في الجنة، بل إن الإنسان سيكون له الخلود فيها؛ فالذي يحتاج إليه الإنسان هو رضوان من الله. إن رضواناً من الله أكبر من كل شيء. ولقد نبأنا الله بما في الجنات، ونبأنا بالخير من كل ذلك. لقد نبأنا الله بأن رضوانه الأكبر هو أن يضمن المؤمن أنْ يظفر برؤية ربّه. وهذا ما يقول في الله. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] . إذن فهناك في الجنة مراتب ارتقائية. ويخبرنا الحق من بعد ذلك: {والله بَصِيرٌ بالعباد} أي أن الله سيعطى كل إنسان على قدر موقفه من منهج ربه، فمن أطاع الله رغبة في النعيم بالجنة يأخذ جنة الله، ومن أطاع الله لأن ذات الله أهل لأن تطاع فإن الله يعطيه متعة ولذة النظر إليه - سبحانه - تقول رابعة العدوية في هذا المعنى: كلهم يعبدون من خوف نار ... ويرون النجاة حظا جزيلاً إنِنّي لست مثلهم ولهذا ... لست أبغي بمن أحب بديلا وقالت أيضاً: اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فادخلني فيها، وإن كنت تعلم أني أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، إنما أعبدك لأنك تستحق أن تُعبد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1327 إذن ف {الله بَصِيرٌ بالعباد} أي أنه سيعطي كل عبد على قدر حركته ونيته في الحركة؛ فالذي أحب ما عند الله من النعمة فليأخذ النعمة ويفيضها الله عليه. أما الذي أحب الله وإن سلب منه النعمة، فإن الله يعطيه العطاء الأوفى، وذلك هو مجال مباهاة الله لملائكته. . ومن أقوى دلائل الإيمان وكماله. . إيثار محبة الله ورسوله على كل شيء في الوجود: عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: مّنْ كان الله ورسوله أحبُّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يَقَذف في النار» إن هناك العبد الذي يحب الله لذاته؛ لأن ذاته سبحانه تستحق أن تعبد، فذات الله تستحق العبادة؛ لأنه الوهاب، الذي نظم لنا هذا الكون الجميل. إذن فقوله الحق: {والله بَصِيرٌ بالعباد} يعني أن الله يعلم مقدار ما يستحق كل عابد لربه، وعلى مقدار حركته ونيته في ربه يكون الجزاء، فمن عبد الله للنعمة أعطاه الله النعمة المرجوة في الجنة ليأخذها، ومن أطاع الله لأنه أهل لأن يطاع وإن أخذت - بضم الألف وكسر الخاء - النعمة منه فإن الله يعطيه مكاناً في عليين. ولذلك قيل: إن أشد الناس بلاء هم الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل. لماذا؟ لأن ذلك دليل صدق المحبة. والإنسان عادة يحب من يحسن إليه، ولا يحب من تأتي منه الإساءة إلا إن كانت له منزلة عالية كبيرة. إنه مطمئن إلى حكمته، إنه ابتلاه - وهو يعلم صبره - ليعطيه ثوابا جزيلا وأجرا كبيرا، والحق يقول: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} [الكهف: 110] . لقد قال: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} ولم يقل جنة ربه وهكذا يجب ألا تشغلنا النعمة - الجنة - عن المنعم وهو الله سبحانه وتعالى، وإذا كان الحق قد طلب منا ألا نشرك بعبادة ربنا أحداً فلنعلم أن الجنة أَحَدٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1328 وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1329 إن قولهم: {رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا} هو أول مرتبة للدخول على باب الله، فكأن الإيمان بالله يتطلب رعاية من الذي تلقى التكليف لحركة تفسه، لأن الإيمان له حق يقتضي ذلك، كأن المؤمن يقول: أنا ببشريتي لا أستطيع أن أوفى بحق الإيمان بك، فيارب اغفر لي ما حدث لي فيه من غفلة، أو من زلة، أو من كبر، أو من نزوة نفس. وهذا الدعاء دليل على أنه عرف مطلوب الإيمان كما أوضحه لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بيانه لمعنى الإحسان حين قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . كأن تستحضر الله في كل عمل؛ لأنه يراك. وهل يتأتى لواحد من البشر أن يجترئ على محارم من يراه بعينه؟ حينئذ يستحضر المؤمن ما جاء إلينا من مأثور القول، فكأنه سبحانه وتعالى يوجه إلينا الحديث: يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم. وكنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟ وكأن الحق سبحانه يقول للعبد: هل أنا أقل من عبيدي؟ أتقدر أن تسيء إلى أحد وهو يراك؟ إذن فكيف تجرؤ على الإساءة لخالقك؟ إن قول المؤمنين: {إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا} دليل على أنهم علموا أن الإيمان مطلوباته صعبة. {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1329 فلنر على ماذا رتبوا غفران الذنب؟ لقد رتبوا طلب غفران الذنب على الإيمان. لماذا؟ لإنه مادام الحق سبحانه وتعالى قد شرع التوبة، وشرع المغفرة للذنب، فهذا معناه أنه سبحانه قد علم أزلا أن عباده قد تخونهم نفوسهم، فينحرفون عن منهج الله. ويختم الحق سبحانه الآية بقوله على ألسنة المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ النار} لأنه ساعة أن أعلم أن الحق سبحانه وتعالى ضمن لي بواسع مغفرته أن يستر عليّ الذنب، فإن العبد قد يخجل من ارتكاب الذنب، أو يسرع بالاستغفار. ولماذا لا يكون قوله {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} بمعنى استرها يارب عنا فلا تأتي لنا أبدا؟ وإن جاءت فهي محل الاستغفار والتوبة. فإذا أذنبت ذنبا، واستغفرت ربي، وعلمت أن ربي قد أذن بالمغفرة؛ لأنه قال: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10] . فإن الوجل يمتنع، والخوف يذهب عني، وأقبل على الله بمحبة على تكاليفه وأحمل نفسي على تطبيق منهج الله كله. ولذلك حينما شرع الله الحق سبحانه وتعالى للخلق التوبة كان ذلك رحمة أخرى. وهذه الرحمة الأخرى تتجلى في المقابل والنقيض. هب أن الله لم يشرع التوبة وأذنب واحد ذنبا، وبمجرد أن أذنب ذنبا خرج من رحمة الله فماذا يصيب المجتمع منه؟ إن كل الشرور تصيب المجتمع من هذا الإنسان لأنه فقد الأمل في نفسه، أما حينما يفتح الله له باب التوبة فإن ارتكب العبد ذنبا ساهيا عن دينه، فإن يرجع إلى ربه. وتلك واقعية الدين الإسلامي، فليس الدين مجرد كلام يقال، ولكنه دين يقدر الواقع البشري، فإنه - سبحانه - يعلم أن العباد سيرتكبون الذنوب، فيرسم لهم أيضا طريق الإستغفار. وإذا ما ارتكب العباد ذنوبا، فإن الحق يطلب منهم أن يتوبوا عنها. وأن يستغفروا الله. فإذا ما لذعتهم التوبة حينما يتذكرون الذنب فإن هذه اللذعة كلما لذعتهم أعطاهم الله حسنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1330 كأن غفران الذنب شيء، والوقاية من النار شيء آخر. كيف؟ لأنه ساعة أن يعلم العبد أن الحق سبحانة وتعالى ضمن للعبد مغفرته، وهو الخالق المربي، فإن العبد يذهب إلى الله مستغفرا طامعا في المغفرة والرحمة. إنها دعوة المؤمنين إن كانوا قد نسوا أن يستغفروا لأنفسهم. لماذا؟ لأن الاستغفار من الذنب تكليف من الله. وكما قلنا: إن الإنسان قد ينسى بعضا من التكاليف، لذلك فمن الممكن أن يسهو عن الاستغفار، ولذا يقول الحق على ألسنة عباده المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ النار} . ومعنى التقوى أن تجعل بينك وبين النار وقاية، أو تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية، فإذا ما أخذت النعم من الله لتصرفها في منهج الله تكون حسنة لك، وقلنا: إن «اتقوا الله» و «اتقوا النار» ملتقيتان، لأن معنى «اتقوا النار» كي لا تصيبكم بأذى، «اتقوا الله» تعني أن نضع بيننا وبين غضب الله وقاية، لأن غضب الله سيأتي. وبعد ذلك يقول الحق: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين ... .} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1331 وهذه كلها صفات للذين اتقوا الله، وأعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، والأزواج المطهرة، ورضوان من الله أكبر، وهم صابرون وصادقون وقانتون ومنفقون في سبيل الله، ومستغفرون بالأسحار. وصابرون على ماذا؟ إنهم صابرون على تنفيذ تكاليف الله، لأننا أول ما نسمع عن التكليف فلنعلم أن فيه كلفة ومشقة والتكاليف الشرعية فيها مشقة لأنها قيدت حرية العبد. لقد خلقك الحق خلقا صالحا لأن تفعل كذا أو لا تفعل. فساعة يقول لك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1331 افعل. . فإنه قد سد عليك باب «لا تفعل» وساعة يقول لك الحق: لا تفعل فإنه يكون قد سد عليك باب «افعل» ، وهكذا يكون تقييد حركتك وتقييد المخلوق على هيئة الإختيار فيه مشقة، فإذا ما جاء أمر الله ب «افعل» فقد يكون الفعل في ذاته شاقا، فإن صبرت على مشقة الفعل الذي جاء بوساطة «افعل» فأنت صابر، لأنك صبرت على الطاعة. . وقد تصبر عن المعصية، عندما يلح عليك شيء فيه غضب الله فترفض أن ترتكب الذنب، فتكون قد صبرت عن ارتكاب الذنب. إذن ففي «افعل» صبر على مشقتها، وفي «لا تفعل» صبر عنها، فالصابرون لهم اتجاهان اثنان، لأن التكليف إما أن يكون بافعل، وإما أن يكون بلا تفعل. فساعة يأتي التكليف بافعل فقد تأتي المشقة. . وعندما تنفذ التكليف بافعل فأنت قد صبرت على المشقة. . وعندما يأتي التكليف ب «لا تفعل» كأمر الحق بعدم شرب الخمر، أو «لا تسرق» فأنت قد صبرت عنها. . إذن ف «افعل» ولا «تفعل» قد استوعبت نَوْعَيْ التكليف، وبقيت بعد ذلك أحداث لا تدخل في نطاق افعل ولا تفعل، وهي ما ينزل عليك نزولا قدريا بدون اختيار منك بل هي القهرية والقسرية. فساعة أن يطلب منك أن تفعل، أي إنه قد خلقك صالحا ألا تفعل كما قلنا من قبل. إلاّ إن كنت مجبرا على الفعل فقط. وكذلك إذا قال لك الحق: «لا تفعل» . والشيء القدرى الذي لا صلاحية فيه للاختيار ماذا يفعل فيه المؤمن؟ إنه يصبر على الآلآم والمتاعب لأنه آمن بالله ربا، والرب هو الذي يتولى تربية المربي لبلوغه حد الكمال المنشود له فإذا جاء لك الحق بأمر لا خيار لك فيه، كالمرض أو الكوارث الطارئة، كوقوع حجر من أعلى أو إصابة برصاصة طائشة، فكل ذلك هي أمور لا دخل ل «افعل» ولا «تفعل» فيها. وهناك يكون الصبر على مثل هذه الأمور هو الإيمان بحكمة من أجراها عليك. لأن الذي أجراها رب، وهو الذي خلقني فأنا صنعته. وما رأينا أحدا يفسد صنعته أبدا. فإذا ما جاء أمر على الإنسان بدون اختيار منه، فالذي أجراه له فيه حكمة فإن صبر الإنسان على هذه الآلام فإنه يدخل في باب الصابرين. إذن فالصابرون أنواع هم: صابر على الطاعة ومشاقها، صابر على المعاصي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1332 ومغرياتها، وصابر على الأحداث القدرية التي تنزل عليه بدون اختيار منه. وإذا رأيت إنسانا قد صبر على أمر الطاعة وصبر عن شهوة المعصية وصبر على الأقدار النازلة به، فاعرف حبه لربه ورضاه عنه. ونأتي بعد ذلك لوصف آخر يقول الله فيه: {الصابرين} {والصادقين} . والصدق كما نعلم يقابله الكذب، والصدق كما نعرف حقيقته: يأتي حين توافق النسبة الكلامية التي يتكلم بها الإنسان، النسبة الأخرى الخارجية الواقعة في الكون. فإن قلت: «حصل كذا وكذا» فتلك نسبة كلامية صدرت من متكلم، فإن وافقها الواقع بأنه حصل كذا وكذا فعلا يكون المتكلم صادقا. وإن لم يكن الواقع موافقا لحدوث ما أخبر به يكون المتكلم كاذبا. لماذا؟ لأن كلام المتكلم العاقل لا بد له من نسب ثلاث: الأولى وهي النسبة الذهنية: فقبل أن أتكلم أعرض الأمر على ذهني، وذهني هو الذي يعطي الإشارة للساني ليتكلم، هذه هي النسبة الأولى واسمها «نسبة الذهن» . وقد يعن لي أن تأتي النسبة الذهنية ثم أعدل عنها فلا أتكلم، فتكون النسبة الذهنية قد وُجِدت، والنسبة الكلامية لم توجد. وقد أصر على أن أبرز إشارة ذهني على لساني فأقول النسبة الكلامية. ونأتي بعد النسبة الكلامية لنرى: هل الواقع أن ما حدث وتحدثت به وقع أم لم يقع؟ فإن كان قد وقع، يكون الكلام مني صدقا. وإن لن يكن قد وقع، وكانت النسبة الخارجية على عكس ما أخبرت به. فإننا نقول: «هذا كلام كذب» إذن: فالصدق: هو أن تطابق النسبة الكلامية الواقع. والكذب: هو ألا تطابق النسبة الكلامية الواقع وكثيرا ما يخطىء الناس في فهم الواقع فيجدون تناقضا في بعض الأساليب. مثال ذلك، حينما تعرض بعض المستشرقين لقول الحق سبحانه وتعال: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} [المنافقون: 1] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1333 تلك نسبة كلامية صدرت منهم، فهل هي مطابقة للواقع أم هي مخالفة له؟ إنها مطابقة للواقع. ويؤكد الحق ذلك بقوله: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] . بعد ذلك يقول الحق سبحانة: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] . فقيم كذب المنافقون؟ هل كذبوا في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} ؟ لا. إن الحق لم يكذبهم في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} ؛ لأن الله قد أيد هذه الحقيقة بقوله {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} . ولكن كذبهم الله فيما سها عنه المستشرق الناقد عندما قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} . لقد كذبهم الله في شهادتهم، لا في المشهود به، وهو أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول من الله، إن الله يعلم أن محمدا رسوله المبعوث منه رحمة للعالمين، لكن الكذب كان في شهادتهم هم. إن كلام المنافقين مردود من الله. لماذا؟ لأن الشهادة تعني أن يواطئ اللسان القلب ويوافقه. وقولهم: شهادة لا توافق قلوبهم وتعنى كذبهم. إذن، فالتكذيب هو لشهادتهم، فلو قالوا: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} دون «نشهد» لكان قولهم: قضية «سليمة» . ولذلك كان تكذيب الله لشهادتهم، ومن هنا ندرك السر في قول الله: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} . إن الحق يؤكد الأمر المشهود به وهو بعث محمد رسولا من عند الحق، وبعد ذلك يأتي لنا الحق بشهادته إن المنافقين كاذبون في قولهم: «نشهد» . فالصدق أن تطابق النسبة الكلامية الواقع. والصدق - كما قلنا من قبل - حق، والحق لا يتعدد، وضربت من قبل المثل بأن الإنسان الذي نطلب منه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1334 أن يروي واقعة شهدها بعينيه، وأن يحكيها بصدق لن يتغير كلامه أبدا، مهما تكرر القول؛ أو عدد مرات الشهادة. لكن إن كانت الواقعة كذبا، فالراوي تختلط عليه أكاذيبه، فيروي الواقعة بألوان متعددة لا اتساق فيها، وقد ينسي الراوي الكاذب ماذا قال في المرة الأولى، وهكذا ينكشف سر الكذب. لكن الراوي عن واقع مشهود وبصدق، هو الذي يحكى، وهو الذي لا تختلف رواياته في كل مرة عن سابقتها بل تتطابق. فعندما نقول: «إن زيدا مجتهد» ، فهذا يعني أن اجتهاد زيد قد حدث أولا، ثم يأتي في ذهن من رأى اجتهاد زيد أن يخبر بأمر اجتهاده، ثم يخبر بالكلام عن اجتهاد زيد. إن الأمر الخارج وهو اجتهاد زيد قد حدث أولا، وبعد ذلك تأتي النسبة الذهنية، وبعد ذلك تأتي النسبة الكلامية. ولكن الإنشاء وهو ضد الخبر، هو أن نطلب من واحد أن ينشئ أمرا لا واقع له، كأن نقول لواحد: اجتهد. إننا قبل أن نقول لإنسان ما: «اجتهد» فمعنى ذلك أن الإجتهاد كان أمرا في ذهن القائل، وعندما ينطقها تصبح «نسبة كلامية» . وبعد ذلك يحدث الواقع، بعد النسبة الذهنية، والنسبة كلامية، وهذا هو الإنشاء. إن الإنشاء الطلبي يعني أن تحدث النسبة الخارجية بعد النسبة الكلامية. والصادقون هم الذين أراد الله أن يمدحهم، لماذا؟ وأين هو مجال صدقهم؟ إنهم الذين تتطابق حركتهم مع منهج الله، لأنهم حين قالوا: «لا إله إلا الله» ، وآمنوا به، فهم قد التزموا بكل مطلوبات الإيمان قدر الطاقة. ومعنى «لا إله إلا الله» أي لا معبود إلا الله. ومعنى إلا الله أي أنه لا طاعة إلا لله. والطاعة - كما نعرف - هي امتثال أمر، وامتثال نهي. إذن فمجال «لا إله إلا الله» يشمل أنه لا معبود بحق إلا الله، ولا مُطاع في تكليفه إلا الله، ولا امتثال لأمر أو لنهي إلا للأمر القادم من الله؛ فإن امتثال إنسان الأمر من الله بعد قوله: «لا إله إلا الله» كان هذا الإنسان صادقا في قوله: «لا إله إلا الله» . وهذا هو صدق القمة، أن تكون كل تصرفات قائل: «لا إله إلا الله» متطابقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1335 مع هذا القول. والمؤمن الحق هو من يبني كل تصرفاته موافقة لمنهج الله. هذا هو الإنسان الصادق. أما الذي يقول بلسانه: «لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله» ثم يخالف ربه بعصيانه له، لنا أن نقول له: أنت كاذب في قولك «لا إله إلا الله» لماذا؟ لأنه لم يطابق النسبة التي قالها. إن هذا الإنسان إذا آمن بأي تكليف ثم فعل ما يناقضه قلنا له: أنت منافق، لماذا؟ لأننا عندما تكلمنا في أول سورة البقرة عن المنافقين قلنا: إن المؤمن حين يؤمن بالله يكون صادقا مع نفسه؛ لأنه قال: «لا إله إلا الله» وهو مؤمن بها، والكافر حين ينكر الألوهية يكون صادقا مع نفسه أيضا. أما المنافق فهو لا يصدق مع نفسه، ولا يصدق مع الناس، إنه مذبذب بين هؤلاء وهؤلاء. إن المنافق بلا صدق مع النفس، ولذلك يصفهم الحق: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} [النساء: 143] . إن الكافر له صدق مع النفس فهو لا يقول: «لا إله إلا الله» لأنه لا يعتقدها. أما المنافق فقد قال: «لا إله إلا الله» وهي غير مطابقة لسلوكه، لذلك يكون غير صادق مع نفسه، وغير صادق مع ربه. إذن، فقول الحق: {والصادقين} مقصود به هؤلاء الناس الذين يأتون في كل حركاتهم صادرين عن منهج الله، فلا يؤمنون بقضية، ويفعلون أخرى. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] . أي أنه حين يكون القول شيئا مختلفا عن الفعل، لا تتطابق النسبة. فالصادقون هم الذين يصدقون في سلوكهم مع كلمة التوحيد في كل ما تتطلبه هذه الكلمة من هذه السلسة: «لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله» أي لا مطاع في أمر أو نهي إلا الله، فإن جئت وطاوعت أحدا في غير ما شرع الله يحق للمؤمنين أن يقولوا لك: أنت كاذب في قولك: «لا إله إلا الله» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1336 «فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» . هذا هو سمو الإيمان عند المؤمن، إن المؤمن لا يمكن أن يكذب أو يخالف مقتضيات عقيدته؛ لأن المؤمن في كل تصرفاته خاضع لإيمانه بأنه لا إله إلا الله. ثم يقول الحق: {والقانتين} والقانت: هو العابد بخشوع وباطمئنان وباستدامة. والقانت صادق مع نفسه، لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف عباده تكليفا، فقد يكلفهم بشيء يعز على أفهامهم أن تدرك حكمته. وأقبل القانتون من العباد على هذا التكليف؛ لأن الذي أمرهم به إله قادر، فهم يثقون في حكمته فأدُّوا الأمر الصادر إليهم لأنهم خاضعون لحكمة الله. إنهم منفذون للأمر القادم من الآمر لا لعلة الأمر. وبعد أن يصنعوا ذلك؛ يريهم الله نورانية هذا الحكم بأن يعطيهم فرقانا في أنفسهم: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم} [الأنفال: 29] . فيقول المؤمن منهم لنفسه بعد أن يرى هذا الفرقان: إن الله قد أراد لي بهذا الأمر أن أدرك حلاوة طاعة هذا الأمر، لذلك قال أحد العارفين بالله: إن كنت تريد أن تعلم عن الله حكما كلفك الله به دون أن تعلم علته فاتق الله فيه، وحين تتقي الله في هذا الأمر، فإنك تجد الحكمة مستنيرة في ذهنك، ولذلك يقول الله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1337 {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] . فكأنك قبل التقوى لم يعلمك الله، أما بعد التقوى فإن الله يعلمك، فتقبل على تنفيذ التكليف لتلمس إشارة في نورانية نفسك، وهذا هو الفارق بين الأمر من المساوى، والأمر من الأعلى. وعندما ترتقي كلمة «الأعلى» ، فإنها لا تنطبق إلا على الأعلى المطلق وهو الله، لأنه الأعلى في الحكمة، والأعلى في المنزلة، والأعلى في المكانة، والأعلى في الربوبية. إذن، فالإنسان لا يطلب علة حكم إلا من مساو له، فإن قال لك أحد من البشر: افعل الشيء الفلاني. فإنك تسأله: لماذا؟ فإن أقنعك، فأنت تقوم بالفعل. وتكون قد قمت بتنفيذ هذا الفعل؛ لأن المساوى لك قد أقنعك بالحكمة لا بالطاعة له. ولكن عندما يصدر الأمر من الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى، فإنك أيها العبد المؤمن تنفذ الأمر فورا عشقا في طاعته. والمثال الذي أضربه للتقريب لا للتشبيه، فالله الأعلى، وهو منزه عن كل شبيه، إن الأب يقول للابن في حياتنا اليومية: إن نجحت في المدرسة فسأحضر لك هدية هي الدَّراجة. فهل معنى ذلك أن علة الذهاب إلى المدرسة هي الحصول على الدراجة كهدية؟ لا، ليست هذه هي العلة، إن العلة عند الأب هي أن يتعلم الابن ويتفوق في حياته، ويكبر، وعند ذلك يدرك العلة، ويقول لنفسه: لقد كان أبي على حق. إذا كان هذا يحدث في الحياة بيننا نحن البشر، فكيف لنا بطاعة الأمر الصادر من الله؟ إن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف العبد تكليفاً، فإن العبد قد يجد مشقة في فهم العلة. والعبد المؤمن يعرف أن الرضوخ لتكليف الحق إنما هو خضوع للأمر الأعلى. إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن بمن هو أعلى منه وأعلى من كل كائن، ولا يساويه أحد، إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن أولا بأن الله هو الإله الواحد - سبحانه - له مطلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1338 الحكمة، وله القوة وله كل شيء في الكون، وسبق أن ضربت المثل - ولله المثل الأعلى. إن الإنسان قد يمرض، وصحة الإنسان أثمن شيء عنده، فيفكر في الذهاب إلى طبيب، ويقول له: إنني أتعب من معدتي، أو من قلبي أو من أمعائي. إنه يحدد ما يشكو منه. وعقل الإنسان هو الذي هداه إلى الطبيب الذي يشخص العلة، وبعد ذلك يأخذ المريض من الطبيب ورقة مكتوباً فيها الأدوية اللازمة. إن الإنسان يتناول كل دواء من هذه الأدوية دون أن يسأل الطبيب عن حكمة كل دواء؛ لأنه لو سأل عن ذلك فهذا معناه الدخول في متاهة كيماوية، فإن سأل أي إنسان ذلك المريض: لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فيجيب المريض: لأن الذي كتب لي هذا الدواء هو الطبيب المختص بعلاج المعدة، أو القلب، أو الأمعاء أو أي عضو يشكو منه الإنسان. والطبيب قد يخطىء، إنما حكم الله لا يخطئ أبدا، فهو جل شأنه منزه عن الخطأ تماما. إن الحكمة تكون عند الحق سبحانه وتعالى، وعندما ينفذ المؤمن مطلوب الله فإنه يدرك آثار الحكمة الربانية في نفسه. وكلمة «قانتين» كما عرفنا هي وصف لمن يعيشون القنوت، والقنوت هو عباده مع خضوع، وخشوع واستدامة. لماذا الخضوع، والخشوع؟ لأن الله جل وعلا لم يشرع العبادة لينفذها الإنسان، وينقذ نفسه من عذاب النار، لا؛ إننا نرى كثيرا من الناس - إذا ما لا حظنا واقع الحياة - إذا وجدوا رئيسا قوى الشكيمة وقوانينه صارمة في أن الموظفين تحت يده يجب أن يحضروا صباحا في الميعاد المحدد، وأن ينصرفوا في الميعاد المحدد، ولا يسمح لهم بالاشتغال بغير العمل، فلا يشربون الشاي، ولا يقرأون الصحف ولا يقابلون الأصدقاء، وغير ذلك من الأعمال. ويأتي واحد من الموظفين فيقول عن هذا الرئيس «إنه شديد المراس، ولذلك فليس له عندي إلا أن أحضر في الثامنة إلا خمس دقائق، ولن أنصرف إلا في الثانية وخمس دقائق، ولن أقرأ الصحف ولن أفعل أي شيء مما يمنعه» . إن هذا الموظف يفعل ذلك بجبروت واستعلاء على رئيسه حتى لا يسمح له بنقد أو تجريح، فهذا الموظف ممتثل ولكن باستعلاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1339 إنها طاعة بلا حب، ولكنها باستعلاء. وقد يحاول عبد أن يقول: ماذا يطلب الله مني؟ ألا يطلب منى الصلاة والزكاة وإقامة العبادات؟ سوف أفعل ذلك. لمثل هذا العبد نقول: لا، إن الله يطلب العبادة بحب منك وخشوع واطمئنان، لأن التكليف من الحق صدقة أخرى أجراها الله على العبد. إن الحق سبحانه وتعالى قد كلف العبد بالتكاليف الإيمانية، حتى يكون الإنسان سويا وله قيمة في الحياة. إن معنى «قانت» هو العبد الذي يؤدي عبادة ربه بخشوع، وباطمئنان، وباستدامة. لماذا؟ لأن الذي يقبل على الطاعة ثم ينصرف عنها كأنه قد جرب وده لله فلم يجد الله أهلا للود. أما العبد الطائع فهو لا ينصرف عن العبادة، لأنه ذاق حلاوة استدامة العبادة لله، ومادام قد أدرك حلاوة العبادة فهو يقبل عليها بخشوع، واطمئنان، واستدامة، ويدخل في دائرة القانتين. وبعد «القانتين» يقول الله سبحانه: {والمنفقين} وكلمة أنفق و «نفق» ، مأخوذة من كلمة «نفق الحمار» أي مات، و «ونفقت السوق» أي انتهت بضائعها واشتراها الناس ولم يبق منها شيء. و «نفقة» مأخوذة من هذا المعنى لتشعرنا بأن الإنسان حين ينفق فهو يُميت ما أنفقه من نفسه، فلا يتذكر أنه أنفق على فلان كذا، وعلى علان كذا، أي يعلم يقينا أن ما أنفقه هو رزق من أنفقه عليهم وليس له إلا أجر إيصاله إليهم فلا مَنّ، ولا إذلال. إن الله يريد من كل إنسان يُخرج شيئا من ماله أن ينهى من ذهنه هذا الشيء الذي خرج من المال فلا يذكره ولا يَمُنّ به على أحد. «والنفقة» ، تقتضي وجود منفق، ومنفقا عليه، ومنفقاً به، المنفق كما نعرف هو المؤمن الذي عنده فضل مالٍ، والمنفق عليه هو الفقير، والمنفَق به هو الخيرات. ومن أين تأتي هذه الخيرات؟ إنها تأتي نتيجة الحركة في الحياة، وحركة المتحرك في الحياة تقتضي قدرة، فإذا كان الإنسان عاجزا، ولا يجد القدرة على الحركة، فمن أين يعيش، إن الله لا بد أن يضمن له في حركة القادر ما يعوله. لقد جعل الله القدرة عرضا من أعراض الحياة، فالقادر اليوم قد يصير عاجزا غدا. ومادامت القدرة عرضا من أعراض الحياة، فالقادر الآن عندما يسمع الأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1340 من الله بأن ينفق على غير القادر، فلابد أن يُقدر في نفسه أن قدرته هي عرض من أعراض الحياة، والقادر الآن من الأغيار، لذلك فهو عرضة لأن يصير غدا من العاجزين، ويقول القادر لنفسه: «عندما أصبح عاجزا سوف أجد من يعطيني» . أليس ذلك هو التأمين الحق؟ إنه تأمين المؤمن. إن المؤمن يعطي عند قدرته، وذلك حتى يجنبه الله مشقة السؤال إن جاءت الأغيار، لأن الأغيار إن جاءت سوف يجد من يعطيه. إننا يجب أن نلحظ في الحكم، لا ساعة أن تطالب أنت بأداء مطلوب الحكم، ولكن ساعة أن يؤدي الغير إليك مطلوب الحكم. فالذي يطلب منه أن ينفق، عليه أن يقدر أنه قد يصبح عاجرا، ولنا أن نسأله: لو كنت عاجزا ألم تكن تحب أن يعطيك الناس دون مَنٍّ أو أذى؟ إن هذا هو التأمين الحق، لأن التأمين في يد الله، ومادامت الأغيار عرضة لأن يصير القادر عاجزا ويصير العاجز قادرا، فساعة ينفق المنفق يجب عليه أن يميت أنه أنفق فلا يتذكر وجه من أنفق عليه، ولا يخبر أحدا بما أنفق. عد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الرجل الذي أنفق حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله فقال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» . وبعد ذلك على المؤمن المنفق أن يُقدر ساعة عطائه أنه ادّخر ليأخذ، إما أن يأخذ إن طرأت له الأغيار في الدنيا، وإما أن يأخذ من يد الله في الآخرة أضعافا مضاعفة. إذن، فالمنفق هو الذي يُؤَمِّنُ لغير القادر حركته في الحياة ضمانا لنفسه حين لا يقدر؛ أو استثمارا مضاعفا عند الله، وهؤلاء المنفقون الذين يَسَعُونَ العاجزين بفضل ما لديهم، يظهرون حكمة الله في الوجود، لأن الله ما دام قد خلقنا، وفينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1341 القادر، وفينا العاجز، فقد أراد الله لنا أن نعرف أن القدرة ليست لازمة في الخلق. فإن قدرت الآن فقد تُسلب - بضم التاء - منك هذه القدرة، وما دامت القدرة يتم سلبها، فلابد أن يتمسك المؤمن بالقيوم الذي يقيم القدرة لك أيها المؤمن دائما، وذلك حتى يعرف الواحد منا أنه لم ينفلت من ربه، خلقنا قادرين وانتهت المسألة. لا. إنّ القدرة أغيار تذهب وتجيء. ومادامت الأغيار تذهب وتجيء فلا بد أن يضع المؤمن نصب عينيه عطاء القادر الأعلى. وقلنا سابقا: إن الله جعل المنفقين وصفا من أوصاف الذين اتقوا، والذين أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وذلك حتى يحمى الله الضعيف الذي خلقه الله لحكمة في الوجود. إن الإنفاق ليس أخذا من العبد، إنما هو مناولة، هذه المناولة تتضح في أنه ما كان لك ما يزيد عن حاجتك، إلا بحركتك في الحياة. وهذه الحركة في الحياة تتطلب عقلا يخطط للحركة وجوارح تنفذ المخطط الفكري، ومادة يتم الفعل فيها سواء كانت أرضا تتم زراعتها أو آلة يتم الصنع بها، ولا شيء للإنسان من هذا في الكون. إن المخ الذي يدبر هو عطاء من الله، والطاقة التي تنفذ هي عطاء من الله. ونحن نرى في الحياة إنسان قد نزع الله عنه المخ الذي يفكر ويدبر، ونجد إنسانا آخر قد نزع الله منه الطاقة التي تنفذ، فقد يمنع الله عن عبدٍ المادة التي يتفاعل معها. إذن فلا شيء من هذه الأشياء ذاتي للإنسان، إنها كلها عطاء من الله. فليعمل المؤمن مضاربا عند الله، وليعط المؤمن للعاجز حق الله. إن الله لا يأخذ هذا الحق لنفسه إنما يريده الله لأخيك العاجز، وسوف يطلب الله هذا الحق لك إذا عنَّت لك حاجة بسبب الأغيار. هكذا تكون {والمنفقين} صفة من صفات الذين اتقوا ربهم. والحق سبحانه وتعالى قد جعل في الصبر، صلابة اليقين الإيماني في النفس البشرية. وفي الصدق انسجاما مع واقع لا إله إلا الله، وفي النفقة حماية العاجز الذي لا يقدر. وبعد ذلك يعود إلى نفس المؤمن عودة أخرى فيقول: {والمستغفرين بالأسحار} إننا يجب أن نأخذ هذا الوصف بعد مجيء الأوصاف الأخرى في النفس البشرية. البداية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1342 هي إقرارهم بالإيمان، ودعاؤهم الحق - سبحانه - أن يغفر لهم وقد طلبوا الوقاية من عذاب النار، وصبروا، وصدقوا، وقنتوا في العبادة، وأنفقوا في سبيل الله، إن كل هذه الأوصاف تبرئ ذمتهم من أنهم مقصرون أيضا في حقوق إلههم لذلك فهم يأتون حال السكون بالليل، ويستغفرون الله. إما أن يستغفر العبد لأنه قد فرطت منه هفوة في ذنب، وإما أن يستغفر لأنه لم يَزد فيما يفعله من أمور الطاعة. وكلمة {بالأسحار} توضح لنا لحظات من اليوم يكون الإنسان فيها محل الكسل والراحة، إن الذي سوف يصحو في السحر لا بد أن يكون قد اكتفى من الراحة، ولم يكن قد أخذ منه كد الحياة كل النهار، ثم إن بعضهم يأخذه لهو الحياة ليلا. وهذا هو وجه الخيبة لما يحدث في زماننا. إن كد الحياة - إن أخذ - يأخذ نهارا، وبعد ذلك يأخذنا لهو الحياة ليلا، مما نشاهده من لهو الحديث، ولهو السهرات، وبعد ذلك يأتي الإنسان لينام متأخرا، فكيف نطلب من هذا الإنسان أن يصحو في السحر؟ إن الذي يصحو في السحر هو من أخذ حظه في الراحة، فبعد أن جاء من كد العمل نام نوما هادئا، ويصحو من بعد ذلك في السحر ليذكر ربه، في الوقت الذي نام فيه غيره من الناس، لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى في لحظة سكون الليل يوزع رحمته، وعندما يصحو إنسان في السحر ويدعو الله، ويستغفره فإنه يأخذ من رحمة الله النازلة. وعندما يأخذ هذا العبد من رحمة الله النازلة في ذلك الوقت، فمعنى هذا أنه سيأخذ الكثير من رحمة الله. وإياك أن تقول: لو صحونا جميعا في الأسحار لنفدت الرحمة والعطاء «لا» لأن الله قد قال: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96] . إن قدرته جل وعلا تتسع لعطائنا جميعا دون أن ينقص شيء من عنده. إن كل هذه الأشياء من التقوى، والإقرار بالإيمان، وطلب المغفرة للذنوب، وطلب الوقاية من عذاب النار، والصبر، والصدق، والقنوت، والإنفاق في سبيل الله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1343 والاستغفار بالأسحار، كل ذلك نتيجة للتقوى الأولى. إنها الثمرة من «لا إله إلا الله» . وما دامت هذه هي الثمرة من «لا إله إلا الله» فليعلم كل إنسان، أن الله لم يدعك لتستنبطها أنت من مفقود، بل اعلم أن الله قد شهد أنه لا إله إلا الله، وكفى بالله شهيدا. ولذلك يقول الحق: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة ... } . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1344 ولنأخذ الجملة الأولى من الآية الكريمة بمعناها: لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو، أي أنَّ الحق قد أخبر بما رآه، وشاهده، أو ما يقوم مقام ذلك. إن «شهد» بمعنى علم. إنه الحق الذي نصب الأدلة في الوجود على قيوميته، وعلى أنه إله واحد، أليس في ذلك إقامة للحجة على أنه إله واحد؟ ومن الذي خلق الأدلة وجاء بها؟ إنه الله. ّإذن، فقد شهد الله أنه لا إله إلا هو. وقلنا: إن شهادة الله أنه لا إله إلا هو هي شهادة الذات للذات، وشهادة الذات للذات تعني أنها كلمة مُمَكّنٌ منها. فعندما يقول الحق: {بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] . بالله لو لم يكن قد شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وليس هناك من يعارض مبتغاه، أكان يجازف فيقولها؟ إنه الحق الأعلى الذي شهد أن لا إله إلا هو، فساعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1344 أن يقول: «كن» فإنه قد علم، أنه لا يوجد إله آخر يقول: «لا تكن» . إن الحق لا بد أن يطمئَننا أنه لا إله إلا هو، لذلك فلزم أن يشهد لنفسه أنه مؤمن بأنه لا إله إلا هو ويلقى الأمر، ويلقى الحكم التسخيري، ويعلم أنه لا إله يعارضه. وأليس من مطلوبات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشهد أنه رسول الله؟ لقد صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال في صلاته: «أشهد أن محمدا رسول الله» . ولو لم يشهد بهذه لنفسه فكيف يجازف بالأشياء التي يقولها؟ ولذلك فسيدنا أبو بكر عندما بلغه أمر بعث محمد رسولا، قال ما معناه: أقالها محمد؟ إنه صادق، وما دام قد قالها فهي حق. إن أبا بكر الصديق واثق من الرصيد الذي سبق بعث محمد بالرسالة. ونحن نرى في التاريخ امرأة كان السبب في إسلامها لمحة من سيرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قرأت هذه المرأة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان له حراس من المؤمنين يقومون بحراسته من الكافرين. وبعد ذلك جاء يوم وصرف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هؤلاء الحراس، وقال لهم ما معناه: إن الله عصمني من الناس فاذهبوا أنتم. وقد قرأنا هذه الواقعة كثيرا جدا، ولكن الفتح جاء من الحق لامرأة، فشغلتها هذه المسألة، وتساءلت: ألم يكن هؤلاء الحراس يحرسونه خوفا على حياته؟ فلماذا قال لهم: «لا تحرسوني» لأن الله هو الذي يحرسني؟ فلو أن رسول الله قد غش الدنيا كلها؛ أكان من الممكن أن يغش نفسه في حياته؟ وأجابت المرأة على نفسها: لا يمكن، لا بد أن رسول الله قد وثق تمام الثقة في أن الله قد أبلغه أمر حمايته بدليل أنه قام بصرف الحراس، وإلا فكيف يأمن أن يأتي أحد ليقتله؟ قالت المرأة: والله لو خَدع الناس جميعا ما خَدع نفسه في حياته، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. حدث إسلام هذه المرأة من نفحة يسيرة من سيرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن، {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} هي شهادة الذات للذات، وكفى بالله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1345 شهيدا. وشهدت الملائكة أيضا، والملائكة هم الغيب الخفي عنا، وتتلقى الأوامر من الحق. إن الملائكة لم يروا أحدا آخر يعطي لهم الأوامر، إنه الإله الواحد القادر. وهذه هي شهادة المشهد. ويضاف إلى الملائكة {وَأُوْلُواْ العلم} الأدلة وجلسوا يستنبطون من كون الله أدلة على أنه لا إله إلا الله. إن هذه أعظم شهادة لأعظم مشهود به من أعظم شهود، الله في القمة، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والملائكة وأولوا العلم. ولقد أخذ أولوا العلم منزلة كبيرة لأن الله قد قرنهم بالملائكة. إن الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قد نثر في كونه الآيات العجيبة العديدة والذي يجلس، ويتفكر ويتدبر، ويتفطن وينظر، فإنه يستخرج الأدلة على أنه لا إله إلا هو، وكما قلنا من قبل: إن أبسط الطرق للتدليل على هذه الحقيقة. إن كانت «لا إله إلا الله» صدقا فقد كُفينا، وإن كانت غير صدق فأين الإله الذي أخذ منه الله هذا الكون، ولم يخبرنا ذلك الإله أنه صاحب الكون؟ فإما أن هذا الإله الآخر لم يَدْر، أو أنه قد علم، ولا يستطيع فعل شيء، إذن فلا يصح أن يكون إلها يزاحم الحق الذي أبلغنا أنه لا إله إلا هو. وتظل «لا إله إلا الله» لصاحبها - جل شأنه - «شهد الله أنه لا إله إلا هو» وفي كل حركة من حركات الحياة نجد أن الانفراد بصدور الحركة قد يعطي علوا، وقد يعطي استكبارا. . لذلك نقول: ها هو ذا الخالق الأعلى الذي «لا إله إلا هو» يخبرنا أنه قائم بالقسط. ورغم أنه لا أحد في استطاعته أن يتدارك على الله، إلا أنه يطمئننا أنه قائم بالقسط. ولنلحظ هنا ملحظاً جميلا في الأداء {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} لماذا لم يقل الله إن «الملائكة» و «أولوا العلم» ، الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو «قائمين» بالقسط؟ لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط، والملائكة شهدوا هذه القضية والعلماء شهدوا أيضا بهذه القضية. . لماذا؟ لأن الله لو قال: «قائمين بالقسط» لكان الله مشهودا عليه من هؤلاء، والشهادة هي له وحده أنه قائم بالقسط والعدل. لأنه سبحانه خلق الملائكة بالقسط، فلو كانوا معه في ذلك لما استقام الأمر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1346 وأولوا العلم أيضا مخلوقون بالقسط؛ لأن الله قد وزع حركة الحياة على الناس، فَنَاسٌ يعملون بعقولهم، وآخرون يعملون بقلوبهم، وقوم غيرهم يعملون بجوارحهم، فهذا هو لون من عدل الله، وإلا، فهل يدعي أحد أن إنسانا تتجمع فيه كل المواهب التي تتطلبها الحياة. لا، وهذه من عدالة الرحمن. إن من عدالة الحق أنه وزع المواهب بين البشر، فبدلا من أن يعتمد الإنسان على نفسه في صناعة الملبس والمأكل، والمشرب، جعل الله المهارات موزعة بين البشر. . فأتقنت مجموعة من البشر حرفة الزراعة لإنتاج الطعام الذي يكفيهم، ويسد حاجة غيرهم، وكذلك تبادلوا مع غيرهم المنافع، فالإنسان - بمفرد - لا يستطيع أن يزرع القطن ويجمعه ويغزله وينسجه؛ ليلبس، والإنسان لا يستطيع أن يزرع القمح ويحصده ثم يطحنه ثم يخبزه. إن الله لم يخلق الناس ليقوم كل فرد بإشباع حاجات نفسه المتنوعة، إنما وزع الله المواهب، لتتداخل هذه المواهب، ويتكامل المجتمع البشري، فواحد يزرع الأرض، وثانٍ يغزل القطن، وثالث ينسج القماش، ورابع يصنع الأدوات. وهذا عدل عظيم؛ لأن الطاقة البشرية لا تقوى على أن تقوم بكل متطلبات الحياة، لذلك جعل الحق هذا التنوع في المواهب ليربط الناس بالناس قهرا عن الناس، فلم يجعل لأحد تفضيلا على أحد، فما دام واحد يعرف في مجال، وآخر لا يعرف في هذا المجال، فالذي لا يعرف محتاج للآخر، وهكذا يتبادل الناس المنافع رغما عنهم. ولذلك نجد الكون متكاملا. ولينظر كل منا إلى حياته وليعدد كمْ زاوية من زوايا العلم، وكم زاوية من زوايا القدرات، وكم زاوية من زوايا المواهب تلزم حتى تخدم حركة الحياة؟ إن هذه الزوايا موزعة على الناس جميعا ليخدموا جميعاً حركة الحياة. وهذا قمة العدل. وحتى يوضح لنا الحق قيمة العدل وكيفية العدالة في إقامة المحبة والاحترام بين البشر، فلينظر الواحد منا إلى الإنسان الآخر البعيد عنه، ويتساءل بينه وبين نفسه: أهذا الرجل البعيد عني يعمل من أجلي؟ وتكون الإجابة: نعم. إذن، فعلى الإنسان عندما يرى إنسانا متفوقا في صنعة ما، فليقل: إن تفوقه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1347 صنعته عائد إليّ وتفوقه في موهبته عائد إليّ، وهكذا منع الله بالعدل الحقد والحسد، وجعل الناس متكاتفين قهرا عنهم، لا تفضيلا منهم، إذن، فكل إنسان يسعى بحركة الحياة إنما يقيم نفسه في زاوية من زوايا الحياة، ومن العجيب أن الزاوية التي يُحسنها الإنسان تكون حاجته فيها أقل الحاجات، لذلك نجد المثل الريفي الذي يقول: «باب النجار مخلع» ، وذلك حتى يعلم الإنسان أن موهبة ما تكون عند غيره سوف تنفعه هو، بدليل أن الموهبة التي عندك لم تنتفع أنت بها إلاّ قليلا. وبذلك يشيع في الناس اقتناع بأن موهبة كل فرد فيهم، إنما تعود عليهم جميعا، وبذلك تحل المحبة والاحترام بدلا من الحسد والحقد. وعندما سأل أحد الظرفاء: ولماذا يكون باب النجار هو «المخلع» ؟ قال أحد الظرفاء ردا عليه: لأنه الباب الوحيد الذي لن يأخذ النجار أجرا لإصلاحه، ونلتفت إلى العجائب في الحكمة الشائعة، فنجد أطباء اخصائيين في ألوان من المرض، وصاروا أعلاما في مجالات تخصصاتهم، ويشاء الحق سبحانه وتعالى ألا يصابوا إلا بما برعوا فيه، كأن الذي برعوا فيه لم يفدهم هم بشيء، إنما أفاد الآخرين. ولننظر إلى الآية في مجملها: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} لقد استهلها الله بقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} ثم قال بعد ذلك: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} فكأن الآية تقول لنا: إذا ثبتت شهادة الذات للذات، وشهادة المشهد من الملائكة، وشهادة الاستدلال من العلماء، فإن القاعدة تكون قد استقرت استقرارا نهائيا لا شك فيه، فخذوها مسلمة: «لا إله إلا هو» . وما دام «لا إله إلا هو» فليكن اعتمادك عليه وحده، واعلم أنك إن اعتمدت عليه وحده إلها فأنت قد اعتمدت على عزيز لا يُغْلب على أمره. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1348 واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف» . فلا يستطيع أحد أن يدخل مع الله في جدال. إنما يدخل خلق الله مع خلق الله في خلاف أو نضال، لكن لا أحد يجرؤ على أن يدخل في نضال مع الله لأنه عزيز لا يغلب. فإن آمنت به وحده، فلك الفوز. وكلمة «وحده» قد تبدو في ظاهرها تقليلا للسند الذي تستند إليه في القياس البشرى، فيقال: «أنا لاجئ إلى فلان وحده» وعندما تكون لاجئا إلى عشرين ألا تكون أكثر قوة؟ لكن هنا لا يكون قياس بين اللجوء إلى الله وحده، بقياس اللجوء إلى مخلوق. إنك هنا تلجأ إلى خالق أعلى بيده مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير، فكلمة «وحده» هنا تغنيك وتكفيك عن الكل. اعمل لوجه واحد. يكفك كل الأوجه، واعلم أنه لا يوجد من يغلبه على أمره. وعظمة الحق أنه واحد أحد فرد متفرد صمد، وهو عزيز لا يُغْلب على أمره وهو صاحب كل الحكمة في وضع الأشياء في مواضعها بحيث إذا ما عرفت حكمة مايجريه الله سبحانه وتعالى على خلقه فأنت تتعجب من عظمة قدرة الله، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وما دمت قد وضعت الشيء في موضعه فإنه لا يكون هناك قلقٌ، وما دام الشيء موضوعا في مكانه فهو مستقر، وما دام الشيء مستقراً فإنه لا يتلون وتزداد الثقة فيه، وهذه مأخوذة من «الحَكمة» التي تُوضع في فم الفرس، والتي نسميها «اللجام» وهي كما نعرف تتكون من قطعة من الجلد تدخل على اللسان وفيها قطعة من الحديد، فإن مال إلى غير الاتجاه الذي تريد، يكون من السهل جذبه إلى الاتجاه الصحيح. إن وجود الحكمة يعني وجود شيء يحكمه فلا ينحرف يمينا ولا يسارا، وما دام الله قد شهد أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة وشهد أولوا العلم، وانتهت القضية بعد هذه الشهادات إلى أنه لا إله إلا هو، وأنه العزيز الحكيم، فكل منهج منه يجب أن يُسلم إليه، وأن ينقاد له. وما دام الله قد شهد لنفسه بأنه إله واحد، أي لا يوجد له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1349 شريك ينازعه فيما يريد من خلقه، وليس لله شريك في الخلق، وليس لله شريك في الرزق، وليس له شريك في التشريع. إذن. . فالجهة التي نستمد منها مقومات منهجنا هي جهة واحدة، وكان من الممكن أن تظلم وتجور هذه الجهة الواحدة الخالقة على ما خلقت لأنه ليس لأحد من خلق الله حق على الله، لكن الله سبحانه عادل، إنه سبحانه يطمئننا، فهذه الوحدانية بقدرتها وجبروتها وعلمها وحكمتها عادلة لا تظلم، لأنه قال: مع أني إله واحد، لا يُرد لي حكم ولا أمر فأنا قائم بالقسط. والقيام بالقسط يجب أن نتوقف عنده لنفهمه جيدا، إن الحق يقول عن نفسه: «قائما بالقسط» وكلمة قائم تعني أن الله قد خلقهم الخلق الأول، وهذا الخلق إنما قام على العدل والقسط. وتكليف الحق للخلق قام على العدل والقسط. والعدل والقسط يقتضي ميزانا لا ترجح فيه كفة على كفة، وهذا الميزان ممسوك بيد القدرة القاهرة التي لا توجد قوة أعلى منها تميل في الحكم، والحق سبحانه قائم بالقسط في الخلق، فقبل أن يخلقنا أعدّ لنا ما تتطلبه حياتنا بالقسط أيضا، فلم يجعل أمر الحياة قائما على الأسباب التي يكلفنا بها لنعيش، بل حكم بالقسط، لقد جعل الحق بعضا من الأمور لا دخل لنا نحن العباد فيها، ولم يقض الحق بذلك على حركتنا ولا على حريتنا في الحركة، لذلك خلق لنا أسبابا إن شئنا أن نفعل بها وصلنا إلى المسببات، وإن شئنا ألا نفعل فنترك الأسباب والمسببات. إذن. . فالحق سبحانه لم يحكمنا في قضية الخلق الأولى بشيء واحد، بأن يجبرنا على كل شيء، بل جبرنا بأنه - سبحانه - لم يدخل أسبابنا ولا حركتنا في كثير من الحركات التي تترتب عليها الحياة، فلم يجعل الشمس بأيدينا، ولا القمر، ولا الريح، ولا المطر. كل هذه الأسباب جعلها بيده هو، لماذا؟ لأن هذه الأسباب ستفعل للمخلوق قبل أن تكون له قدرة. هذه الأسباب تفعل للإنسان قبل أن توجد له حياة؛ لتمهد للحياة التي يهبك الله إياها، فلو ترك الله كل هذه الأشياء لأسباب الإنسان لتأخرت هذه الأشياء إلى أن يوجد للإنسان إرادة، وتوجد له قدرة وعلم. لقد جعل الله أسباب الحياة بيده، كالتنفس مثلا، إن التنفس لا يخضع لإرادة القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان - وهو سبحانه الإله القادر - تحرك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1350 التنفس إلى أن توجد له إرادة. ولا توجد الإرادة إلا إن وجُد عند الإنسان علم بأنه يريد إدخال الأوكسجين إلى الرئتين حتى يتغذى الدم والمخ وينقى الدم والجسم من الأشياء التي تضره، هذا يقتضي العلم، فإن كان هذا الأمر يقتضي العلم. فماذا يصنع الطفل الذي ليس له علم؟ كيف يتنفس؟ لذلك فمن رحمة الله وعدالته أن جعل أمر التنفس - على سبيل المثال - بيده هو سبحانه، ولكن الحق سبحانه لم يقض على مخلوقه بأن يجعله في الكون بلا حرية أو اختيار، لا، لقد ترك الحق سبحانه بعضا من الأشياء لحرية الإنسان واختياره. إذن، فالحق لم يلزم العبد تسخيرا، ولم يمنع تخييرا. وذلك هو العدل المطلق. لقد احترم الحق كينونة الإنسان، وحياة الإنسان، ومشيئة الإنسان، واختيار الإنسان، فقال: أنا سأعطيك أسباب الحياة الضرورية ولا أجعل لك دخلا فيها؛ لأنك إن تدخلت فيها أفسدتها، وتأخر وصول خدمتها لك إلى أن تعرف وتعلم، وأنا - الحق - أريدها لك، وأنت أيها الإنسان عاجز قبل أن توجد لك، وأنت قادر بوجودها الذي أمنحه لك؛ لذلك جعلتها بيدي أنا الخالق المأمون على خلقي. ولكن لن أقضي على حريتك، فإن أردت ارتقاءً في الحياة فتحرك في الحياة، إن شئت أيها الإنسان أن تفعل فافعل. وإن شئت أيها الإنسان ألا تفعل فلا تفعل. وهذا مطلق العدل. ثم جاء الحق سبحانه وتعالى وجعل قوله: {قَآئِمَاً بالقسط} مشتملا على التكليف أيضا، أي إن عدالته في التكليف مطلقة. فأناس يقولون: «لا إله» وأناس آخرون عددوا الآلهة، فقام الحق بالقسط بين الأمرين. هو إله موجود يا من تقول: «لا إله» . وهو إله غير متعدد يا من تشرك معه غيره. وهذا قيام بالقسط وجاء الحق سبحانه في الأحكام. ونحن نجد أحكاما شرعية طلبها الحق سبحانه من العبد طلبا باتا، ولم يتركها لاختيار الإنسان ونجد أشياء تركها الحق سبحانه ليجتهد فيها الإنسان، فلم يجعل الحق سبحانه العبد حراً طليقا يعربد في الكون كما يشاء، ولم يجعل الحق سبحانه عبده مقهورا أو مقسورا بحيث لا توجد له إرادة أو اختيار. لقد جعل الله للإنسان مجالا في القسر ومجالا في الاختيار، أوجد في الإنسان القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان - وهو الإله القادر - تحرك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1351 في الحياة وأنا أحمي نتيجة ما تتحرك فيه، ولكن لي في مالك الذي جعلتك فيه خليفة حق عليك أن تعطي بعضا منه لأخيك المحتاج. لقد أعطى الحق للنفس البشرية أن تكد، وأعطى لها أن تكدح، وحفظ لها ما تملك، ولكنه هو الحق لم يُطلق للنفس البشرية عنانها، بل قال: لي حق في ذلك. وهكذا نجده سبحانه قد عدل في هذا الأمر. إذن فقول الحق إنه قائم بالقسط. . نجده واضحا في كل شيء؛ ففي الخلق والرزق والتكليف نجد أنه قائم بالقسط، وما دام هو إلها واحدا وقائما بالقسط، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟ يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ... } . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1352 بعد أن قال لنا: إنه إله واحد، وقائم بالقسط هو نتيجة منطقية لكونه - سبحانه - إلها واحدا فكأن قوله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} هو نتيجة لقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} . لماذا؟ لأنه لا تسليم لأحد إلا الله، وما دام الله إلها واحدا، فلا إله غيره يشاركه، يقول الحق: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1352 وما دام قد ثبت أنه هو الإله الواحد، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟ إذن فقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} هو أمر منطقي جدا يجب أن ينتهي إليه العاقل، ومع ذلك رحمنا الله سبحانه وتعالى فأرسل لنا رسلا لينبهونا إلى القضية السببية، والمسببية، والمقدمة والنتيجة {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} وإذا سألنا: ما هو الدين؟ تكون الإجابة: إن الدين كلمة لها إطلاقات متعددة فهي من «دان» تقول: دنت لفلان: رجعت له وأسلمت نفسي له، وائتمرت بأمره. ويُطلق الدين أيضا على الجزاء، فالحق يقول عن يوم الجزاء: «يوم الدين» وهو يوم الجزاء على الطاعة وعلى المعصية، وعلى أن الإنسان المؤمن قد دان لأمر الله، فكلها تلتقي في قول الحق: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} يُشعرنا بأنه قد توجد أديان يخضع لها الناس، ولكنها ليست أديانا عند الله؛ ألم يقل الحق: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] . إن معنى ذلك أن هناك دينا لغير الله فيه خضوع واستسلام، وفيه تنفيذ لأوامر، ولكن ليس دينا لله، ولا دينا عند الله. إن الدين المعترف به عند الله هو الإسلام. والدين يطلق مرة على الملة ومرة أخرى على الشريعة، فإن أراد المؤمن الأحكام المطلوبة فلك أن تسميها شريعة، وإن أراد المؤمن الطاعة، والخضوع، وما يترتب عليهما من الجزاء فليسمها المؤمن الدين، وإن أراد الإنسان كل ما ينتظم ذلك فليسمها الملة. إذن فقوله سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} تعني أنه لا دين عند الله إلا الإسلام، وكلمة «الإسلام» مأخوذة من مادة «سين» و «لام» و «ميم» . و «السين» و «اللام» و «الميم» لها معنى يدور في كل اشتقاقاتها، وينتهي عند السلامة من الفساد. وينتهي المعنى أيضا إلى الصلح بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وربه، وبين الإنسان والكون، وبين الإنسان وإخوانه، إنه صلاح وعدم فساد، كل مادة السين واللام والميم تدل على ذلك، وما دامت المادة المكونة منها كلمة «إسلام» تدل على ذلك فلماذا لا نتبعها؟ . لقد قلنا سابقا: إن الإنسان لا يخضع لمثيله إلا إذا اقتنع بما يقول، إن الإنسان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1353 يقول لمساويه الذي يأمره: لماذا تريدني أن أنفذ أوامرك؟ إنك لا بد أن تقنعني بالحكمة من ذلك الأمر، لكن عندما يؤمن الإنسان بإله واحد قائم بالقسط، ويصدر من هذا الإله أمر، فعلى الإنسان الطاعة. إذن. . فالإسلام معناه الخضوع، والاستسلام بعزة وفهم، وعزة وتعقل؛ لأن هناك عبودية تَعَقّل عندما يقف الإنسان عند المعنى السطحي، وهناك عزة تعقل عندما يقف الإنسان عند المعنى الذي لا يأتيه الباطل من بين يده أو من خلفه، إن هذا هو عزة العقل فلا يستهويه أي شيء سوى الخضوع للأمر الثابت الذي لا يتناقض أبدا. فما دام الله إلها واحدا قائما بالقسط فإني كعبدٍ من عبيده حين أؤمن به وآخذ عنه، فهذه عزة في الفهم وعزة في التعقل، وعزة في العبودية أيضا، لأنني أعبد الله الذي هو فوق كل المخلوقات والكائنات، ولا أعبد مساويا لي، وإن الذي يعبد مساويا له لا يملك إلا إنفة وحميّة الذليل، وما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام لله فهو خضوع لغير مساو، و «أسلم» أي دخل في السلم، أي دخل في الصلح، وعدم التناقض، وفي الأمان والراحة، أي خلص نفسه من كل شيء إلا وجه الله؛ ولذلك يقول الحق: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] . كأن الله يريد أن يوضح لنا الفرق بين الخاضع لأمر سيد واحد، وبين الخاضع لِسَادَةٍ كثيرين. وضرب الله لنا المثل بالأمر المشهور عندنا، فقال ما معناه: هب أن عبداً له من السادة عشرة، وكل سيّد له منه طلب، فماذا يصنع ذلك العبد؟ وعبد آخر له سيد واحد، هذا العبد يكون مستريحا لأنّ له سيدا واحدا، بينما الآخر المملوك لعشرة تتضارب حياته بتضارب أوامر سادته العشرة. إذن فالعبد المملوك لشركاء تعيس؛ لأن الشركاء غير متفقين، إنهم شركاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1354 متشاكسون، فإذا رآه سيده يفعل أمرا لسيد آخر، أمره بالعكس، وبذلك يتبدد جهد هذا العبد ويكثر تعبه، ولكن الرجل السلم لرجل، هو مستريح، وكذلك التوحيد، لقد جاء الحق سبحانه بمثل من واقعنا ليقرب لنا حلاوة التوحيد. إن العبد المؤمن بإله واحد يحمد الله لأنه خاضع لإله واحد. إذن فما دام الإسلام هو الخضوع والاستسلام ومعناه الدخول في السلم بكسر السين - أو الدخول في السلم - بفتح السين - يقول الحق: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الأنفال: 61] . هذا الخضوع ليس لمساو، بل لأعلى. والأعلى الذي نخضع له هو الذي خلق، وهو الأعلى الذي أمدنا بقيوميته بكل شيء. إذن فإذا أسلم الإنسان، فإن هذا الإسلام له ثمن هو المثوبة من الله. إن من مصلحة الإنسان أن يسلم. {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} وما دام الدين المعترف به عند الله هو الإسلام فهو الدين الذي يترتب عليه الثواب والإسلام هو دين الرسل جميعا، وكلهم قد آمن به؛ فإبراهيم خليل الرحمن قد قال: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم} [البقرة: 128] . ويعقوب عليه السلام يخبر الحق عنه في قوله لبنيه وإجابتهم له: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1355 ويقول - جل شأنه -: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} [الأنعام: 161 - 163] . إذن فالإسلام دين شائع، والمسلمون كلمة شائعة في الأديان، وبذلك لا يقف الإسلام عند رسالة سيدنا محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقط، إنما الإسلام خضوع من مخلوق لإله في منهج جاء به رسل مؤيدون بالمعجزات، إلاّ أن الإسلام بالنسبة لهذه الرسالات كان وصفا، لكن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تميزت بديمومة الوصف لدينها كما كان لأمم الرسل السابقة، وصار الإسلام - أيضا - علما لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأن رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تضمنت منتهى ما يوجد من إسلام في الأرض، فلم يعد هناك مزيد عليها، وانفردت أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن صار الإسلام علما عليها. إذن فالإسلام في الأمم السابقة كان وصفا، وأما بالنسبة لرسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد صار علما لأنه لم يأت بعدها دين، فإسلامها إسلام عالمي، ولذلك فنحن بهذا الدين نقول: «نحن مسلمون» أما أصحاب الديانات الأخرى فهم أيضا مسلمون لكن بالوصف فقط. نحن الذين نتبع الدين الخاتم سمانا الله في كتابه المسلمين فهذا من إعجازات التسمية التي وافق فيها خليل الله إبراهيم عليه السلام مراد ربه: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1356 بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الحج: 78] . لقد صار الإسلام اسما لأمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ولا يُطلق هذا الوصف اسما إلا على من بالغ في التسليم. كيف؟ نحن نعلم أن لفظ الجلالة «الله» علم لواجب الوجود، ونعلم أن «حي» صفة من صفات الله سبحانه وتعالى. ولكن صارت كلمة «حي» اسما من أسماء الله؛ لأن الله حي حياة كاملة أزلية. إذن لا تكون الصفة اسما إلا إذا أخذ الوصف فيها الديمومة والإطلاق. وعلى هذا القياس يكون الرسل السابقون على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والأمم السابقة على أمة الإسلام، كانوا مسلمين، وكانوا أمما مسلمة بالوصف، ولكن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تميزت بالإسلام وصفا وعَلَما، فصار الأمر بالنسبة إليها اسما، ونظرا لأنه لن يأتي شيء بعدها، لذلك صار إسلام أمة رسول الله «علما» . ولقد بشر سيدنا إبراهيم عليه السلام بهذا الأمر: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين} [الحج: 78] إن الحق قد أورد على لسان سيدنا إبراهيم بالوضوح الكامل {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين} ولم يقل الحق: «هو وصفكم بالمسلمين» . لا، إنما قال: {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين} ، لأن الأمم السابقة موصوفة بالإسلام وأما أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهي مسماة بالإسلام. وتجد من إعجازات التسمية، أننا نجد لأتباع الأديان الأخرى أسماء أخرى غير الإسلام، فاليهود يسمون أنفسهم باليهود نسبة ل «يوها» . ويقولون عن أنفسهم: «موسويون» نسبة إلى موسى عليه السلام. والمسيحيون يسمون أنفسهم بذلك نسبة إلى المسيح عيسى ابن مريم. ولم نقل نحن أمة رسول الله عن أنفسنا: «إننا محمديون» لقد قلنا عن أنفسنا: «نحن مسلمون» . ولم يأت على لسان أحد قط إلا هذه التسمية لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وصار اسم الإسلام لنا شرفا. إذن، فقول الله الحق: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} يعني أنه، إن جاز أن يكون لرسول أو لأتباع رسول وصف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1357 الإسلام فقد يجيء رسول بشيء جديد لم يكن عند الأمم السابقة فنزيده نحن بالتسليم، وبزيادتنا - نحن المسلمين - بهذا التسليم خُتِمَ التسليم بنا نحن أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولذا صار الإسلام لا يُطلق إلا علينا. إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الذين أوتوا الكتاب قد اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم. ولماذا اختلفوا؟ جاءت الإجابة من الحق. الأعلى: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} وكلمة الاختلاف هذه توحي أن هناك شيئا متفقا عليه، وما دام الإسلام هو خضوعا لمنهج الله. لأنه إله واحد وقائم بالقسط، فمن أين يوجد الاختلاف؟ وما الذي زاد حتى يوجد اختلاف؟ أبرز إلهٌ آخر يناقض الله في ملكه؟ لا لم يحدث. وما دام الإله واحدا، وما دام المنهج القادم من عنده منهجا واحدا، فمن أين جاء هذا الاختلاف؟ إن الحق يوضح لنا أن الاختلاف قد جاء للذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءهم العلم وتلك هي النكاية، وذلك هو الشر، فلو كانوا قد اختلفوا من قبل أن يأتي إليهم العلم لقلنا: «إنهم معذورون في الاختلاف» . ولكن أن يحدث الاختلاف من بعد أن جاء العلم من الإله الواحد القائم بالقسط فلنا أن نقول لهم: ما الذي جَدَّ لتختلفوا؟ إن الذي جَدَّ هو من عالم الأغيار، وما دام الجديد قد جاء إليهم من عالم الأغيار، فمعنى ذلك أن هوى النفس قد دخل، ونريد أن نعرف أولا معنى الاختلاف، الاختلاف في حقيقته هو ذهاب نفس إلى غير ما ذهبت إليه نفس أخرى. ولماذا حدث الاختلاف هنا رغم أن الإله واحد، وهو قائم بالقسط؟ لا بد لنا أن نستنتج أن شيئا جديدا قد نبت، ما هو هذا الشيء؟ إنه الهوى المختلف، وحينما يقال: «اختلفوا» فنحن نعلم أن جماعة قد ذهبت إلى شيء وجماعة أخرى ذهبت إلى شيء آخر. وقد نستنتج أن طرفا قد ذهب إلى حق، وأن الطرف الآخر قد ذهب إلى باطل، أو أنهم جميعا قد ذهبوا إلى باطل. والذهاب إلى الباطل قد يختلف؛ لأن كل باطل له لون مختلف. هل أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقول: أنا أنزلت الأديان، ومن رحمتي بخلقي تركت بعضا من الناس يحتفظون بالحق في ذاته وإن طرأ عليهم أناس يختلفون معهم. وتجد المثال لذلك في اليهود، عندما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد اختلفوا، وأسلم منهم أناس وآمنوا برسالة النبي الخاتم، بينما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1358 الآخرون لم يسلموا، ومن أسلم هم الذين كانوا على الحق، ومن رحمة الله تعالى أنه جعل الذين علموا برسالة رسول الله أن يعلنوا البشارة في كتبهم ولم يكتموا ذلك العلم بل أعلنوا الإيمان، بينما أصر البعض الآخر على كتمان ما جاءهم من العلم وأصروا على الإنكار. إن الذين أسلموا هم الذين ينطبق عليهم قول الشاعر: إن الذي جعل الحقيقة علقما ... لم يخل من أهل الحقيقة جيلا وإذا كان الله قد عصم الأجيال المتتالية من أمة الإسلام بأن حفظ لنا القرآن. ففي الأديان الأخرى كان هناك أناس من أهل الحقيقة، وأنصفهم الله: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين} [آل عمران: 113 - 114] . لقد أنصفهم الله حق الإنصاف، والذين آمنوا برسول الله من أتباع تلك الديانات قد اهتدوا إلى الحق، واختلفوا مع غيرهم وقول الحق: {أُوتُواْ الكتاب} هذا القول يقتضي أن نقف عند «أُوتُواْ» أي أن شيئا قد جاء إليهم من جهة أخرى. إذن فالكتاب ليس من أفكار البشر؛ لأن المنهج لو كان من أفكار البشر لكان من الممكن أن يختلفوا فيه أو حوله، وبناء «أُوتُواْ» للمفعول يجعلنا نسأل: من الذي آتاهم الكتاب؟ إنه الله سبحانه وتعالى، والحق سبحانه وتعالى لا يأتي بمختلف فيه. وما دام الكتاب من عند الله فلا يمكن أن يوجد فيه خلاف. يقول الحق: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1359 وكأن الله بنبهنا بذلك القول إلى أن كل شيء بنبت من البشر للبشر، فلا بد أن تحدث فيه خلافات. إنما الشيء عندما يأتي من الواحد الأحد لا يمكن أن يحدث فيه خلاف أبدا. لا يمكن أن يحدث خلاف فيما اتحد فيه المصدر والمنبع إلا إن وجدت - بضم الواو وكسر الجيم - أشياء زائدة عن ذلك، وهذه الأشياء الزائدة هي أهواء الذين يقولون: إنهم منسوبون إلى الله. إذن فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الكتاب لم يأت إليهم من بشر مثلهم، إنما من إله واحد قادر، وفي هذا تنبيه لأتباع الديانات السابقة. أي إنكم أيها الأتباع لا تتبعون إلا منهج الله، وحين تتبعون منهج الله الذي جاء به الرسل فأنتم لا تتبعون أحدا من الخلق، لأن أي رسول أرسل إليكم إنما جاء ليبلغكم بمنهج قادم من ربكم، ولم يقل لكم أحد من الرسل إن المنهج قادم من عنده والرسول يحمل نفسه على الطاعة والخضوع للمنهج المنزل عليه قبلكم، وهذه عزة لكم، ولينتبه جميع الخلق أن المنهج الحق دائما قد أخذه الرسل من الله. وحين يقول الحق: «الكتاب» فلنا أن نعرف أن كلمة «الكتاب» قد وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع، إن الحق سبحانه وتعالى يسمي القرآن مرة «قرآنا» لأنه يقرأ، ويسميه الحق أيضا «الكتاب» وذلك دليل على أنه يُكتب، وحين نقول: إن القرآن من «القراءة» فهذا يعني أن نبرز ما في الصدور بالقراءة ولكن ما في الصدور قد تلويه الأهواء؛ لذلك يحرس الحق قرآنه بما في السطور ولذلك فالقرآن مقروء ومكتوب. وعندما يقول الحق «من أهل الكتاب» ، فإن ذلك تنبيه لنا أن الكتاب هو منهج مكتوب، أي لم يتم وضعه في الصدور ونسيته النفوس، لا، إنه منهج مكتوب، هكذا حدد الحق أمر المنهج السابق على القرآن، إنه مكتوب، فإن لعبت أهواء النفوس كما لعبت، فإن ذلك يعني تحريف الكلم عن مواضعه. ولنا أن ننتقل الآن إلى المعرفة «العلم» : ما هو العلم؟ إن العلم هو أن تدرك قضية وهذه القضية واقعة في الوجود تستطيع أن تقيم الدليل عليها، وغير ذلك من القضايا لا يصل إلى مرتبة العلم لأنه لا يستطيع أحد أن يدلل عليه. مثال ذلك: نحن نقول: «الأرض كروية» إن كروية الأرض هي نسبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1360 حدثت، ونقولها ونحن جازمون بها. والسابقون لنا في عصور سابقة قال بعضهم: «إن الأرض مسطحة» ، وحاول أن يجد من الأسباب ما يقيم الدليل على ذلك ولكن الذين أقاموا الدليل على أن الأرض كروية كانوا صادقين بالفعل. وفي العصر الحديث صارت كروية الأرض أمرا مرئيا من سفن الفضاء، وغيرها من الوسائل، ونحن نعرف أنه «ليس مع العين أين» إن الكروية بالنسبة للأرض، هي نسبة، نقولها ونجزم بها، والواقع أنها كذلك، ونستطيع أن نقيم على ذلك الدليل. هذا هو العلم المستوفى، إن فساد الناس أنهم يأتون إلى قضية لن تصل إلى هذه المرتبة ويسمونها «علما» كقولهم: إن الإنسان أصله قرد، لا، إن أحدا لا يستطيع الجزم بذلك، وتلك قضية ليست من العلم، إن كلمة «علم» تُطلق على القضية المجزوم بها؛ وهي واقعة في الوجود، ونستطيع أن ندلل عليها، وإذا كانت القضية مجزوماً بها؛ وواقعة في الوجود، ولكنك لا تستطيع أن تدلل عليها، فماذا تسمي هذه القضية؟ هذا ما يطلق عليه «تقليد» تماما كما يقلد الولد أباه قبل أن ينضج عقله فيقول: «لا إله إلا الله، الله واحد» . ومثلما يأخذ التلميذ عن أستاذه القضية العلمية، ولا يعرف كيفية إقامة الدليل عليها، فهذا نطلق عليه «تقليدا» ، وإلى أن ينضج عقل التلميذ ويحسن استيعابه نقول له: ابحث بحثا آخر لتقيم الدليل. إذن فالتقليد هو قضية مجزوم بها، وواقعة، ولا يوجد عليها دليل. وهكذا نعرف أن «العلم» يمتاز عن التقليد بوجود القدرة على التدليل، لكن إذا ما كانت هناك قضية ومجزوم بها ولكنها ليست واقعة، فماذا نسمي ذلك؟ إن هذا هو الجهل. إن الجهل لا يعني عدم علم الإنسان، ولكن الجهل يعني أن يعلم الإنسان قضية مخالفة للواقع ومناقضة له. أما الذي لا يعلم فهو أميّ يحتاج إلى معرفة الحكم الصحيح، فالجاهل أمره يختلف، إنه يحتاج منا أن نخرج من ذهنه الحكم الباطل؛ ونضع في يقينه الحكم الصحيح، وهكذا تكون عملية إقناع الجاهل بالحكم الصحيح هي عملية مركبة من أمرين، إخراج الباطل من ذهنه، ووضع الحكم الصحيح في يقينه. ولذلك فنحن نجد أن تعب الناس يتأتى من الجهلاء، لا من الأميين؛ لأن الجاهل هو الذي يجزم بقضية مخالفة للواقع ومناقضة له، أما الأميّ فهو لا يعرف، ويحتاج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1361 إلى أن يعرف. وماذا يكون الأمر حين تكون القضية غير مجزوم بها، وتكون نسبة عدم الجزم، مساوية للجزم؟ هنا نقول: إن هذا الأمر هو الشك، وإن رجح أمر الجزم على عدم الجزم فهذا هو الظن، وإن رجح عدم الجزم يكون ذلك هو الوهم. إذن فوسائل إدراك القضايا هي كالآتي: أولا: علم. ثانيا: تقليد. ثالثا: جهل. رابعا: شك. خامسا: ظن. سادسا: وهم. والعلم هو أعلى المستويات في إدراك القضايا. ولذلك نجد أن الحق يحدد لنا على ماذا اختلف الذين أوتوا الكتاب، لقد اختلفوا من بعد ما جاءهم من العلم. ولم يقل الحق: إنهم اختلفوا بعد ما جاءهم التقليد أو الظن، أو الجهل أو الشك، إنما قال الحق: إنهم قد اختلفوا من بعد ما جاءهم الاستيفاء الكامل، وهو العلم. وما دام هناك أمر قد جاء من القائم بالقسط والإله الواحد، فالمسألة القادمة منه وهي الحق قد وصلت إلى مرتبة العلم إذن، ففيم الاختلاف؟ لا بد أن أمراً ما قد جدّ. والذي يجد إنما هو قادم من الأغيار، وهي الأهواء، ولذلك يحدد لنا الحق هذا الأمر بقوله «بَغْياً بَيْنَهُمْ» . ما البغي؟ البغي هو طلب الاستعلاء بغير حق. إذن فطلب الاستعلاء ليس ممقوتا في ذاته؛ لأن طلب الاستعلاء هو قضية الطموح في الكون. وأن يطلب إنسان الرفعة فيجد ويجتهد، ويبذل العرق ليصل إلى مكانة علمية أو غيرها، فهذا حق طبيعي، ونحن نعرف أن العالم قد ارتقى بالطموحات الإنسانية، إن العالم لو اكتفى وثبت عند الذي وصل إليه في جيل ما، فإن العالم يحكم على نفسه بالجمود، ولكن الناس طورت في العالم الذي تحياه بجهد بذله البعض منهم في قضايا نافعة، ثم حاولوا أن يرتقوا بها ونالوا حقهم من التقدير، وارتفعوا بالعلم بجهد حقيقي بذلوه، وبدراسة لما بذله السابقون عليهم. إذن فطلب الاستعلاء في حد ذاته غير ممقوت، بل محمود ما دام قائما على الجهد. ولكن أن يطلب الإنسان الاستعلاء بغير حق، فهذا هو البغي. لقد أثبت الله لنا في هذه الآية، أن كل خلاف بين رجال الدين، أو بين دين ودين، إنما مرجعه إلى نشوء البغي، ونشوء البغي هو طلب رجال الدين الاستعلاء بغير الحق. ومظاهر طلب الاستعلاء بغير حق هو إعطاء الفتاوى التي توافق أمزجة القوم، وتخالف ما أنزله الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1362 إن الواحد من هؤلاء يدعى لنفسه التحضر، ويعطي من الفتاوى ما يناقض الذي أنزله الله، ويدعى أنه يأخذ الدين بروح العصر، ويدعى لنفسه عدم الجمود، ويذهب إلى حد اتهام المتمسكين بدينهم بأنهم متخلفون، والهدف الذي يختبئ في صدر مثل هذا الإنسان هو الاستعلاء في قومه بغير الحق، ويجب أن نفهم أن كل خلاف بين أهل دين واحد، أو بين دين ودين، منبعه قول الحق: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} . وهذا يعني اتباع البعض للهوى النابع من بينهم ولم ينزله الله. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى إمّا أن ينزل الله حكما محكما لا رأى فيه لأحد، ولا يستطيع أحد أن ينقضه، وإما أن ينزل الله حكما قابلا للفهم والاجتهاد. ولم يجعل الله الأحكام كلها من لون واحد، إنما جعل الأحكام على لونين، وذلك حتى يحترم الإنسان ما وهبه الخالق له من عقل، ويجعل له مهمة، فيأتي بقضية ويبحثها ويرجع سببا على سبب. وفي ذلك استخدام من الإنسان لعقله، إنها رحمة من الله حتى لايجمد العقل الإنساني. إذن فإذا رأيت أي خلاف بين رجال الدين أو بين دين ودين فاعلم أن القول الفصل في هذا الأمر هو ما عبر عنه في القرآن: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} فمن البغي يهب الهوى الذي تنشأ منه الأعاصير، إن من يحب الاستعلاء بغير الحق هو الذي يحاول البغي فيدعي لنفسه أنه أرقى في الفكر، أو يستعلى عند من يملكون له أمرا، أو يستعلي عندما يوافق حاكما في رأي من الآراء، ويبرر للحاكم حكما من الأحكام. إن كلمة {بَغْياً بَيْنَهُمْ} يدخل في نطاقها كل موجات الخروج عن منهج الله، والتي نراها في الكون، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أعطانا المناعة ضد الأمراض النفسية الناشئة عن البغي، مثلما يعطي المعاصرون المصل ضد أمراض البدن التي تفتك بالإنسان، وحتى لا تفاجئنا أمراض البغي، نجد الرسول يعطينا المناعة فيقول لنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» ويحذرنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذلك كما في الحديث التالي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1363 فيقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون» . إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحذرنا ليوضح لنا أن أهل البغي لهم لجاج في أن يقولوا ويصدروا الفتاوى، وما معنى الإفتاء الذي يحذرنا منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ هل هو مجرد رأي؟ أم هو رأي يأتي من إنسان معروف عنه أنه مشتغل بعلم الله وبالأحكام؟ إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينبهنا إلى ذلك مناعة لنا. فقد يصبح أصحاب الحق قلة، وليس لهم نصيب في إيصال رأيهم للناس، أو أن الذين يملكون الكلمة الإعلامية ليسوا مع أصحاب الحق بل في جانب رجل يساير الباطل أو الركب. وهنا نرى أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أعطانا المناعة حتى لا ييأس المتمسكون بالحق، فأمر الدين لن يمر رخاء، أو بسلام دائم، بل سنجد قوما يفسرون أحكام الدين بغيا بينهم، ويلوون الأشياء؛ لذلك أوضح لنا أن المؤمن حَكَمٌ في نفسه، ويحذرنا من الذين يفتون بالبغي، إن الإفتاء يحتاجه الناس من الذي يعلم، ولذلك جاءت كلمة «يستفتونك» أكثر من مرة في القرآن الكريم، لأن الذين يطلبون الفتوى هم الذين يحتاجون إلى توضيح لأمر ما؛ لأنهم مشغولون بقضية الإيمان، ولذلك فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحذرنا من الذين يحاولون إلقاء الفتاوى، ويحذر كل مؤمن من أن يستمع لكل فتوى. ويقول الحق: {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله} . إذن فمن هو الذي يكفر بآيات الله؟ وفي أي مجال؟ إن الكفر بآيات الله هنا محدد في الاختلاف، وفي البغي بينهم، أي طلب الاستعلاء بغير حق، وسمى الحق كل ذلك «كفرا» والمراد منه هنا التنبيه لنا ألا نستر أحكام الله بالاختلاف أو البغي، وجاء التحذير في تذييل الآية بقوله: {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} . فإياك أن تستطيل أمر الجزاء وتقول: سأستمتع بنتيجة البغي والاختلاف لخدمة من يهمهم أمر الاختلاف، ويهمهم أمر البغي، لأنك تريد أن تتعجل أشياء تظن أنها نافعة لك، لكن ها هو ذا الحق سبحانه يحذرك أن تستبطئ حسابه، لماذا؟ لأنه من الجائز أن يأتي لك الحساب من الله في الدنيا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1364 وهب أن الله لم يبتل مثل هذا الإنسان ببلاء كبير في الدنيا فإن هذا الإنسان سيكون له الحساب العسير في الآخرة. وقد يقول قائل: إن الحساب في الدنيا قد يؤجله الله إلى الآخرة، والعلامات الصغرى للقيامة نحن في مراحلها، وما زالت العلامات الكبرى ليوم القيامة لم تظهر. لمثل هذا القائل نقول: هناك فرق بين الحدث في ذاته، وبين الحدث فيمن يُجرى عليه الحدث. هناك فرق بين أن تقوم القيامة على الناس جميعا، وبين أن تُختصر حياة الإنسان بحادثة ليست في حسبانه، فقد يفتى الإنسان فتوى اليوم؟ وتأتي له حادثة فورية تنقله فجأة إلى سريع الحساب، فإن استبطأ إنسان الحساب، فعليه أن يعرف أن الآخرة قد تجيء له أسرع من مسائل الدنيا لأن الإنسان لا يملك القدرة على أن ينقل إليه من يريد في أي وقت. وهكذا تكون الآخرة بالنسبة للمستبطئ للحساب أسرع من حساب الدنيا، وكلمة «حساب» كلمة تطمئن المؤمن إلى أن الله قائم بالقسط لا يتخلى حتى عمن كفر به أو عصاه، إن كل إنسان يأخذ ماله ويدفع ما عليه، ويقول الحق من بعد ذلك: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ ... } . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1365 {فَإنْ حَآجُّوكَ} هذا هو القول يدل على أن الحق سبحانه وتعالى يلقى منهجه على الرسول الخاتم، ويعطيه الواقع الذي يحيا فيه، لقد جابه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاثة معسكرات. المعسكر الأول: هم مشركو قريش، وكان كفرهم في القمة. والمعسكر الثاني: هو معسكر اليهود والنصارى ويجمعهم معا لأنهم أهل كتاب. والمعسكر الثالث: هو معسكر المنافقين. والمحاجّة قد أتت من المعسكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1365 الثاني، لأن كفار قريش لم يدعوا أن عندهم دينا قد نزل من السماء، أما أهل الكتاب فهم يدعون أن عندهم دينا منزلا من السماء، وعندما يناطح الشرك دينا فهذا أمر معقول، أما أن يناطح أهل دين نزل من السماء رسولا جاء بدين خاتم من السماء فهذا أمر يستحق أن نتوقف عنده. ومعنى {فَإنْ حَآجُّوكَ} أي أنهم يحاججون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتم إدغام الحرفين المتشابهين وهما حرفا «الجيم» حتى لا تصبح ثقيلة على اللسان. ومعنى المحاجة: أن يدلي كل واحد من الخصمين بحجته. وهذا يعني النقاش، وما دام هناك نقاش بين حق وبين باطل، فإن الله لا يترك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بل يقول له: {فَإنْ حَآجُّوكَ} أي إن ناقشوك في أمر الإسلام الذي جئت به كدين خاتم مناقض لوثنية أو شرك قريش ومناقض لما قام أهل الكتاب بتغييره من مراد الله فقل يا محمد: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} وقد قلنا من قبل: إننا عندما نسمع قول الحق {فَقُلْ} كان من الجائز أن يكتفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمقول القول وضربنا مثلا على ذلك، حين يقول الأب لابنه: اذهب إلى عمك وقل له: كذا وكذا. وساعة أن يذهب الابن إلى العم فيقول له: الأمر كذا، وكذا. إن الابن لا يقول لعمه: قل لعمك كذا وكذا. . لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد حافظ على النص الذي جاءه من ربه لأن النص واضح. {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} فهل هذا رد بالحجة؟ نعم هذا هو الرد، لأن أهل الكتاب وكفار قريش يأتي فيهم القول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9] . ويأتي فيهم القول الحكيم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] . والكون كما نعرف «مكان» و «مكين» فالمكان: هو السماء والأرض. والمكين وهو الإنسان. والمكان مخلوق لله، والمكين مخلوق لله. وكان من المنطق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1366 أن نسلم وجهنا لمن خلق. إذن فقول الحق: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} أي انتبهوا أيها الناس، إنني لم أخرج عن دائرة الإيمان بالإله الواحد، والذي تؤمنون به. إنه هو الذي خلق وهو الذي أوجد الكون. وبعد ذلك إذا كان في الإسلام خضوع، فإن الحق يأتي بأشرف شيء في الإنسان ليجعله مظهر الخضوع. لأن الوجه هو السمة العالية المميزة، وهو الذي يظهر عليه انفعالات الأحداث في الكون من سرور أو حزن، ويظهر عليه أنك قد تكون قد سجدت وأنت كاره للسجود، أو سجدت وأنت مقرب لله سبحانه وتعالى فيمتلئ الوجه بالبشر والبشاشة. وقول الحق: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} . تعني أن الوجه المسلم لله وهو أشرف شيء في الإنسان قد خضع للحق، وكأن القول الكريم لم ينسب الخضوع للبدن ولكن لأشرف شيء في الإنسان وهو الوجه، والوجه يطلق مرة ويراد به الذات كلها، فعندما يقول إنسان: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ} فهو يعني «أسلمت ذاتي» بكل ما أوتيت الذات من جوارح ومن أعضاء. ولنقرأ قول الحق سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] . أي كل شيء هالك إلا ذاته سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود ب {إلا وجهه} وإلا إن أخذنا الوجه على أنه الوجه فقط فقد يقول قائل: أليس لله يد مثلا؟ ونقول إن له يدا في نطاق ليس كمثله شيء، ولذلك فلا يد الله تهلك ولا أي شيء فيه يهلك، ووجهه يعْني ذاته في نطاق ليس كمثله شيء. وأطلق الوجه على الذات، لأن الوجه هو المشخص للذات، فلا يستطيع أحد أن يميز أعضاء بدن عن أعضاء بدن، إنما التمييز يأتي بسمة الوجه، لأنها السمة المميزة، وقول الحق في تلقينه لرسول الله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن} . تدل على أن الرسول قد أسلم وجهه لله؛ لأن الله خاطبه بوساطة الوحي، والوحي يباشره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن حين يقول: {وَمَنِ اتبعن} فقد قام الليل لمن اتبعني، وإن لم يكن مخاطبا من الله مباشرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1367 إذن فلا مجال لأن يقول قائل للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنت أسلمت وجهك لله لأنه خاطبك وحدك، وكأن صاحب هذا القول يريد خطابا لكل مؤمن، قال سبحانه: {وَمَنِ اتبعن} فمن اتبع الرسول فقد آمن بأن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو رسول صدق مبلغ عن الله منهج حق، فلا مجال لطلب البلاغ لكل فرد؛ لأن البلاغ قد وصل إليهم بالإيمان بما أنزله الله على رسوله الكريم ويأمر الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ} . وساعة تقرأ أو تسمع أسلوبا فيه «همزة الاستفهام» فلك أن تعرف أن الاستفهام يطلب منه أن تُعرف الحقيقة، كقول إنسان لآخر: أعندك محمد؟ أو أزارك فلان؟ إن هذا استفهام المراد به فهم الحقيقة، ومرة يريد الاستفهام مجرد الأمر بشيء، كأن يأتيك ضيف وتجلس معه ويدخل عليك والدك فيقول لك: أصنعت قهوة لضيفك؟ إن ذلك توجيه لك إن كنت لم تقم بواجب الضيافة فعليك أن تسرع في القيام بهذا الواجب. وعلى ذلك نفهم قول الحق: {أَأَسْلَمْتُمْ} ولذلك نقرأ قول الحق سبحانه بعد الكلام عن الخمر: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] . إن قول الحق: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} يتضمن استفهاما، والاستفهام هنا يعني الأمر بالانتهاء. وفي مجال الآية التي نتعرض لها بالخواطر نجد قول الحق: {أَأَسْلَمْتُمْ} تعني الدعوة للإسلام، أي «أسلموا» وجاء بعد ذلك قول الحق الكريم: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا} ومعنى «اهتدوا» أنهم عرفوا الطريق الموصل للغاية التي خلق الله من أجلها الإنسان. وهنا يجب أن نعلم أن كلمة «الإسلام» هنا جاءت لتدل على الخضوع والخضوع لا يلمح إلا من خاضع، وعملية الخضوع تعرف بالحركة والسلوك، ولا تعرف فقط بالاعتقاد، ولذلك فالإمام علي كرم الله وجهه الذي أوتي شيئا من نفح النبوة في الأداء الإيماني بالأسلوب البياني الجميل قال الإمام عليّ لإخوانه: سأنسب الإسلام نسبا لم ينسبه قبلى أحد: الإسلام هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار والإقرار هو الأداء، والأداء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1368 هو العمل، والمؤمن يُعرف إيمانه بالعمل. ونحن في حياتنا العادية نسأل: ما نسب فلان؟ أي أننا نسأل «هو ابن مَن» ؟ ومعنى كلمة «نسابة» عند العرب هو الرجل الذي يعرف سلسلة النسب، ومَن ابن مَن، ففلان ابن فلان ابن فلان، ابن فلان. والإمام عليّ كرم الله وجهه، حين ينسب الإسلام ينسبه بالفعل إلى نسب لم ينسبه قبله أحد. وحين ينتهي الإمام عليّ كرم الله وجهه إلى أن نسب الإسلام إلى العمل قال: المؤمن يعرف إيمانه بالعمل، فالدليل الصحيح على إيمان المؤمن هو عمله. ويضيف الإمام عليّ كرم الله وجهه: والكافر يُعرف كفره بالإنكار، وإن المؤمن قد أخذ دينه من ربه، ولم يأخذه برأيه. والسيئة في الإسلام خير من الحسنة في غيره؛ لأن السيئة في الإسلام تغفر، والحسنة في غيره لا تُقبل؛ لأن الكفر يصاحبها بالله هل هناك نسب للإسلام أروع من هذا؟ وهكذا نجد القول الكريم: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا} . والمقابل للإسلام يأتي بعد ذلك: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} إن المقابل هو «تولوا» أي لم يسلموا، إنه الحق ينبه رسوله ألا يحزن وألا يأسف إن تولوا كما جاء في قوله الكريم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] . لماذا؟ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليه البلاغ فقط، وما دام قد جاء في صدر الآية: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن} فإن البلاغ أيضا يشمل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن اتبعه، ولذلك تأتي آية أخرى لتشرح هذه القضية الإيمانية، ولتبقى الرسالة في أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولتخبرنا أيضا لماذا لم يعد هناك داع لوجود أنبياء بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمناء على أن يعدلوا فساد السلوك في الكون، فلم يعد العالم في حاجة إلى أنبياء جدد، ولهذا السبب قال الرسول: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «العلماء ورثة الأنبياء» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1369 إذن {فعليك البلاغ} نأخذ منها الفهم الواضح أن البلاغ لا تنتهي مهمته عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إنما يشمل كل عالم بالبلاغ الذي وصل إلى رسول الله وآمن به، فقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة، ويوضح الحق ذلك في آية أخرى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] . ويقول الحق في آية أخرى: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ ... } [الحج: 78] ومعنى ذلك أنكم تشهدون على الناس أنكم أبلغتموهم رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فمن لم يقم بإبلاغ الناس برسالة رسول الله فهو لم يأخذ ميراث النبوة، وميراث النبوة كما يكون شرف تبليغ، فهو أيضا تجلّد وتحمل، إن ميراث النبوة يكون مرة هو نيل شرف التبليغ لرسالةً رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومرة أخرى يكون ميراث النبوة هو جلادة التحمل، في سبيل أداء الرسالة، وجلادة التحمل هي التي يجب أن يتصف بها أتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكلما ورثناه نحن المسلمين في شرف النبوة فإننا نرثه في جلادة التحمل، وهذا هو معنى القول الحق: {لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [الحج: 78] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1370 فما معنى الأسوة إذن؟ إن الأسوة في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تقتضي أنه ما دام قد تحمل بجلادة بلاغ الناس في رسالته، فعلينا ايضا أن نقتدي به. لقد ناضل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعلى أتباع رسول الله أن يناضلوا في سبيل نشر الدعوة، فإن رأيت أهل الدين في استرخاء وترهل وعدم قدرة على النضال في سبيل البلاغ عن الله فلتعلم أن هؤلاء القوم لن يأخذوا ميراث النبوة. ولذلك إذا رأيت عالما من علماء الإسلام ليس له أعداء فأعلم أنه قد نقص ميراثه من ميراث الأنبياء. لماذا؟ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان له أعداء وكان يواجههم، فساعة أن ترى رجل دين وله أعداء فاعرف أنه قد أخذ حظه من ميراث الأنبياء ولننظر الآن إلى قول الحق سبحانه تذييلا للآية يوضح لنا ما الإسلام: {والله بَصِيرٌ بالعباد} لم يقل الله: إنه عليم بالعباد، لأن «عليم» تكون للأمور العقدية، لقد قال الحق في وصف ذاته هنا: «إنه بصير بالعباد» ، والبصر لايأتي إلا ليدرك حركة وسلوكا. فماذا يرى الله من العباد؟ إنه - سبحانه - يرى العباد المتحركين في الكون، وهل حركة العبد منهم تطابق الإسلام أولا؟ ومتابعة الحركة تحتاج إلى البصر، ولا تحتاج إلى البصر، ولا تحتاج إلى العلم، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟ إذن فقول الحق: {والله بَصِيرٌ بالعباد} نفهم منها أن الإسلام سلوك لا اعتقاد فقط، لأن الذي يُرى هو الفعل لا المعتقدات الداخلية. ومادام الله بصيرا بكل سكنات الإنسان وحركاته فإن الإنسان يستحي أن يراه ربه على غير ما يحب، وأضرب هذا المثل للتقريب لا للتشبيه فالحق سبحانه له المثل الأعلى وليس كمثله شيء، ونحن في حياتنا العادية نجد أن الشاب الذي يدخن يستحي أن يظهر أمام كبار عائلته كمدخن، فيمتنع عن التدخين أثناء تواجده مع الكبار، فما بالنا بالعبد وهو يعتقد أن الله يراه؟ وبعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله ... } . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1371 وقلنا إن الحق حين يقول: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} هم الذين يكفرون بآيات الله على إطلاقها، وهناك فرق بين الكفر بآيات الله وبين الكفر بالله. لماذا؟ لأن الإيمان بالله يتطلب البينات التي تدل على الله، والبينات الدالة على وجود الله موجودة في الكون. إذن فالبينات واضحة، إن الذي يكفر بالله يكون قبل ذلك كافرا بالأدلة التي تدل على وجود الخالق. إن الحق لم يقل هنا: إن الذين يكفرون بالله، وذلك حتى يوضح لنا أنّ الحق غيب، ولكن الآيات البينات ظاهرة في الكون، لذلك قال: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين} . ولنا أن نلاحظ هنا، أن كلمة القتل تأتي دائما للنبيين، أي أنها لا تأتي للذين أخذوا صفة تزيد على مهمة النبي، وهو الرسول، فليس من المعقول أن يرسل الله رسولا ليبلغ منهجا لله، فيُقدر الله خلقه على أن يقتلوا الرسول. ولكن الأنبياء يرسلهم الله ليكونوا أسوة سلوكية للمؤمنين، ولا يأتي الواحد منهم بتشريعات جديدة، أما الرسول فإن الله يبعثه حاملا لمنهج من الله. وليس من المعقول أن يصطفي الله عبدا من عباده ويستخلصه ليبلغ منهجه، ويُمَكّن الله بعد ذلك بعضا من خلقه أن يقتلوا هذا الرسول. إن الخلق لا يقدرون على رسول أرسله الله، لكنهم قد يقدرون على الأنبياء، وكل واحد من الأنبياء هو أسوة سلوكية، ولذلك نجد ان كل نبيّ يتعبد على دين الرسول السابق عليه، فلماذا يقتل الخلق الأسوة السلوكية مادام النبيّ من هؤلاء قد جاء ليكون مجرد أسوة، ولم يأت بدين جديد؟ فلو كان النبي من هؤلاء قد جاء بدين جديد، لقلنا: إن التعصب للدين السابق عليه هو الذي جعلهم يقتلونه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1372 لكن النبيّ أسوة في السلوك، فلماذا القتل؟ إن النبي من هؤلاء يؤدي من العبادة ما يجعل القوم يتنبهون إلى أن السلوك الذي يفعله النبيّ لا يأتي وفق أهوائهم. إن القوم الذين يقتلون النبيين هم القوم الذين لا يوافقون على أن يسلكوا السلوك الإسلامي الذي يعني إخضاع الجوارح، والحركة لمنطق الدين ولمنطق الإسلام، لماذا؟ لأن النبيّ وهو ملتزم بشرع الرسول السابق عليه، حينما يلتزم بدين الله بين جماعة من غير الملتزمين يكون سلوكه قد طعن غير الملتزمين. إن وجود النبيّ الذي يتمسك بشرع الله، ويخضع جوارحه، وسلوكه لمنهج الله بين جماعة تدّعي أنها تدين الله، ولكنها لا تتمسك بمنهج الله تحملهم إلى أن يقولوا: لماذا يفعل النبي هذا السلوك القويم، ولماذا يخضع جوارحه لمنطق الإيمان، ونحن غير ملتزمين مثله؟ وهذا السؤال يثير الغيظ والحقد على النبيّ بين هذه الجماعة عير الملتزمة بدين الله، وإن أعْلنت في ظاهر الأمر التزامها بالدين. إنهم يحقدون على النبيّ لأنه يرتفع بسلوكه المسلم، وهم لا يستطيعون أن يرتفعوا ليكونوا مثله. إن النبيّ بسلوكه الخاضع لمنهج الله يكون أسوة واضحة جلية يظهر بها الفرق بين مجرد إعلان الإيمان بمنهج الله، وبين الالتزام السلوكي بمنهج الله، وتكون أسوة النبيّ مُحقرة لفعلهم. ولذلك حين نجد إنسانا ملتزما بدين الله ومنهجه، فإننا نجد غير الملتزم ينال الملتزم بالسخرية والاستهزاء، لماذا؟ لأن غير الملتزم يمتلئ بالغيظ والحقد على الملتزم القادر على إخضاع نفسه لمنهج الله، ويسأل غير الملتزم نفسه: لماذا يكون هذا الإنسان قادرا على نفسه مخضعا لها لمنهج الله وأنا غير قادر على ذلك؟ إن غير الملتزم يحاول إزاحة الملتزم وإبعاده من أمامه. لماذا؟ لأن غير الملتزم يتضاءل في نظر نفسه ونظر الآخرين إذا ما قارن نفسه بالملتزم بمنهج الله، وعندما يقارن الآخرون بين سلوك الملتزم بمنهج الله وسلوك غير الملتزم بمنهج الله فهم لا يحترمون غير الملتزم فيشعر بالصغار النفسى أمام الملتزم وأمام الناس فيحاول غير الملتزم أن يزيح الملتزم وينحيه عن طريقه، إن غير الملتزمين بمنهج الله يسخرون ويتغامزون على الملتزمين بمنهج الله، كما يقول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1373 {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29 - 33] . ألا توضح لنا تلك الآيات البينات ما يقوله غير الملتزمين في بعض مجتمعاتنا للملتزمين بمنهج الله؟ ألا نسمع قول غير الملتزمين للملتزم بمنهج الله: «خذنا على جناحك» ؟ إن هؤلاء غير الملتزمين ينطبق عليهم قول الحق: {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ} [المطففين: 30 - 32] . إن غير الملتزمين قد يفرح الواحد منهم، لأنه استطاع السخرية من مؤمن ملتزم بالله. وقد يتهم غيرُ الملتزمين إنسانا ملتزما بأن الالتزام ضلال. والحق سبحانه وتعالى يرد على هذا الاتهام بالقول الكريم: {وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 33] . الحق يرد على الساخرين من الملتزمين بمنهج الله، فيضحك الذين آمنوا يوم القيامة من الكفار، ويتساءل الحق بجلال قدرته وتمام جبروته: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34 - 36] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1374 هكذا ينال غير الملتزمين عقابهم، فماذا عن الذين يقتلون النبيين بغير حق؟ إن لنا أن نسأل: لماذا وصف الله قتل النبيين بأنه «بغير حق» ، وهل هناك قتل لنبيّ بحق؟ لا يمكن أن يكون هناك قتل لنبي بحق، وإذا كان الله قد قال: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} هذا القول الكريم قد أتى ليوضح واقعا، إنه سبحانه يقول بعد ذلك في سلسلة أعمال هؤلاء الذين يقتلون النبيين بغير حق: {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} إنهم لم يكتفوا بقتل النبيين، بل يقتلون أيضا من يدافع من المؤمنين عن هذا النبيّ كيف؟ لأنه ساعة يُقتل نبيّ، فالذين التزموا بمنهج النبيّ، وكانوا معه لابد لهم أن يغضبوا ويحزنوا. إن أتباع النبيّ ينفعلون بحدث قتل النبيّ فإن استطاعوا منع ذلك القتل لفعلوا وإن لم يستطع أتباع النبي منع قتل النبيّ فلا أقل من أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، لكن القتلة يتجاوز طغيانهم فلا يقتلون النبيين فقط فإذا قال لهم منكر لتصرفهم: ولماذا تقتلون النبيين؟ فإنهم يقتلونه أيضا، وبالنسبة لرسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونحن نعرف أن أعداءه قد صنعوا معه أشياء أرادوا بها اغتياله، وذلك يدل على غباء الذين فكروا في ذلك الاغتيال. لماذا؟ لأنهم لم ينظروا إلى وضعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم يكن نبيا فقط، ولكنه رسول أيضا. وما دام رسولا فهو أسوة وحامل لمنهج في آن واحد، فلو كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نبيا فقط لكان في استطاعتهم أن يقتلوه كما قتلوا النبيين من قبل، لكنه رسول من عند الله، ولقد رأوه يحمل منهجا جديدا، وهذا المنهج يسفه أحلامهم، ويوضح أكاذيبهم، من تبديلهم للكتب المنزلة عليهم. إذن، كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولا يحمل رسالة ومنهجا، وحينما أرادوا أن يقتلوه كنبيّ، غفلوا عن كونه رسولا. ولذلك قال الحق مطمئنا لنا ومحدثا رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [المائدة: 67] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1375 الرسول الكريم إذن حامل رسالة ومعصوم بالله من أعدائه، والحق سبحانه وتعالى قد حكى عن الذين يقتلون الأنبياء، وأراد أن يطمئن المؤمنين، ويطمئن الرسول على نفسه، وأن يعرف خصوم رسول الله أنه لا سبيل إلى قتله، فيقول الحق: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] . ولماذا يأتي الله ب «من قبل» هذه؟ إنه يوضح لنا وللرسول ولأعداء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن مسألة قتل الأنبياء كان من الممكن حدوثها قبل رسول الله، لكن هذه المسألة صارت منتهية، ولا يجرؤ أحد أن يمارسها مع محمد رسول الله، وبذلك طمأن الحق المؤمنين، وطمأن رسول الله بأن أحدا لن يناله بأذى، ولذلك قال الحق: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] . وأيأس الحق الذين يريدون قتل رسول الله فقد قال لهم: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ} [البقرة: 91] . ولو أن المسألة مسألة نبوة، ورسالة رسول الله غير داخلة في مواجيدهم، وكان إنكارهم لرسالته عنادا، لكانوا قد قالوا: «إن مسألة قتل الأنبياء لا تتوقف عند» من قبل «لأننا سنجعلها» من بعد «أيضا، لكانوا قد كتلوا قواهم وقتلوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن الله سبحانه أيأسهم وقنطهم من ذلك، وذلك من مناط قدرة الله. وإذا كان الحق سبحانه وتعالى يحكي عن أمر في قتل الأنبياء، وقتل الذين يأمرون بالقسط، أكان ذلك معاصر لقول الرسول هذا؟ أو كان هذا الكلام لمن؟ إنه موجه لبعض من أهل الكتاب، إنه موجه لمن آمنوا باتباع الذين قتلوا النبيين من قبل، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط، لقد آمنوا كإيمان السابقين لهم من قتلة الأنبياء، وقتلهم للذين يأمرون بالقسط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1376 وهذا تقريع لهؤلاء الذين اتبعوا في الإيمان قوما قتلوا الأنبياء من قبل، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط، إنه تقريع وتساؤل. كيف تؤمنون كإيمان الذين قتلوا الأنبياء؟ وكيف تتبعون من فعل مثل ذلك؟ وقد قص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أن بني إسرائيل قد قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا دفعة واحدة، فقام مائة وسبعون من أتباع الأنبياء لينكروا عليهم ذلك، فقتلوهم، وهذا هو معنى هذه الآية الكريمة: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] لماذا يبشرهم الحق بعذاب أليم؟ أليس معنى التبشير هو إخبار بما يسر في أمد يمكن أن يؤتى فيه الفعل الذي يسر؟ إن التبشير دائما يكون للفعل الذي يسر، كتبشير الحق للمؤمنين بالجنة، ومعنى التبشير بالجنة أن الله يخبر المؤمن بأمر يُسر له المؤمن، ويعطي الحقّ الفرصة للمؤمن لينفذ منهج الله ليأخذ الجائزة والبشارة. لماذا يكون الحديث بالبشارة موجها لأبناء الذين فعلوا ذلك؟ لأننا نعرف أن الذين قتلوا النبيين وقتلوا الذين أمروا بالقسط من الناس لم يكونوا معاصرين لنزول هذا الآية، إن المعاصرين من أهل الكتاب لنزول هذه الآية هم أبناء الذين قتلوا الأنبياء وقتلوا الذين أمروا بالقسط، ويبشرهم الحق بالعذاب الأليم؛ لأنهم ربما رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان صوابا. فإن كانوا قد رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان صوابا فلهم أيضا البشارة بالعذاب. وتتسع دائرة العذاب لهم أيضا ولكن لماذا يكون العذاب بشارة لهم، رغم أن البشارة غالبا ما تكون إخبارا بالخير، وعملية العذاب الأليم ليست خيرا؟ إن علينا أن نعرف أنه ساعة نسمع كلمة «أبشر» فإن النفس تتفتح لاستقبال خبر يسر وعندما تستعد النفس بالسرور وانبساط الأسارير إلى أن تسمع شيئا حسنا يأتي قول: أبشر بعذاب أليم، ماذا يحدث؟ الذي يحدث هو انقباض مفاجئ أليم ابتداء مطمع «فبشرهم» وانتهاء مُيْئِس (بعذاب أليم) وهنا يكون الإحساس بالمصيبة أشد، لأن الحق لو أنذرهم وأوعدهم من أول الأمر بدون أن يقول: « الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1377 فبشرهم» لكان وقوع الخبر المؤلم هينا. لكن الحق يريد للخبر أن يقع وقوعاً صاعقا، ومثال لذلك قول الحق: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29] . إنهم يستغيثون في الآخرة، ويغاثون بالفعل، ولكن بماذا يغيثهم الله؟ إنه يغيثهم بماء كالمهل يشوي الوجوه. إننا ساعة أن نسمع «يغاثوا» قد نظن أن هناك فرجا قادما، ولكن الذي يأتي هو ماء كالمهل يشوي الوجوه. وهكذا تكون البشارة بالنسبة لمن قتلوا الأنبياء أو لأتباع القتلة الذين آمنوا بمثل ما آمن به هؤلاء القتلة. {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وكلمة «عذاب» تعني إيلام حيّ يحس بالألم. والعذاب هو للحيّ الذي يظل متألما، أما القتل فهو ينهي النفس الواعية وهذا ليس بعذاب، بل العذاب أن يبقى الشخص حيَّا حتى يتألم ويشعر بالعذاب، وقول الحق: {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يلفتنا إلى قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 56] . أي أن الحق يديم عليهم الحياة ليديم عليهم التعذيب. وبعد ذلك يقول الحق: {أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ... } . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1378 إنهم الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا النبيين بغير حق، وقتلوا الذين أمروا بالقسط بين الناس، هؤلاء لهم العذاب، ولهم أيضا حبط العمل في الدنيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1378 والآخرة، وكذلك من نهج نهجهم، ومعنى «حبطت» أي لا ثمرة مرجوة من العمل، إن كل عمل يعمله العاقل لا بد أن يكون لهدف يقصده، فأي عمل لا يكون له مقصد يكون كضربة المجنون ليس لها هدف. إن العاقل قبل أن يفعل أي عمل ينبغي أن يعرف الغاية منه، وما الذي يحققه من النفع؟ وهل هذا النفع الذي سوف يحققه هو خير النفع وأدومه، أو هو أقل من ذلك؟ وعلى ضوء هذه المقاييس يحدد العاقل عمله، وحينما يقول الحق: {أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة} فهو سبحانه يريد أن يخبرنا أن إنسانا قد يفعل عملا هو في ظاهره خير، فإياك أن تغتر أيها المؤمن بأنه عَمِلَ خيرا. لماذا؟ لأن عمل الخير لا يحسب للإنسان إلا بنية إيمانه بمن يجازى فالإنسان إن عمل عملا قد تصلح به دنياه فهو عمل حسن، فلماذا يكون عمل هؤلاء حابطا في الدنيا، وفي الآخرة؟ إنه حابط بموازين الإيمان ويكون العمل حابطا لأنه لم يصدر من مؤمن، لأن ذلك الإنسان قد عمل العمل ثقة بنتيجة العمل، لا ثقة بالأمر الأعلى. إن الإنسان المؤمن حين يقوم بالعمل يقوم بالعمل ثقة في الأمر الأعلى. وبعض من الناس في عصرنا يأخذون على الإسلام أنه لا يجازي الجزاء الحسن للكفرة الذين قاموا بأعمال مفيدة للبشرية. يقوم الواحد منهم: هل يعقل أحد أن «باستير» الذي اكتشف الميكروبات، والعالم الآخر الذي اكتشف الأشعة، وكل هؤلاء العلماء يذهبون إلى النار؟ ولهؤلاء نقول: نعم، إن الحق بعدالته أراد ذلك، ولنتقاض نحن وأنتم إلى أعراف الناس. إن الذي يطلب أجرا على عمل يطلبه ممن؟ إنه يطلب الأجر ممن عمل له. فهل كان الله في بال هؤلاء العلماء وهم يفعلون هذه الأعمال؟ إن بالهم كان مشغولا بالإنسانية، وقد أعطتهم الإنسانية التخليد، وغير ذلك من مكاسب الدنيا، وينطبق عليهم قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن أول الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال؛ فاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جرىء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلّم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن، ليقال: هو قارئ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1379 فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار» . إذن فإذا كان الجزاء من الله، فلنا أن نسأل: هل كان الله في بال هؤلاء العلماء حينما أنتجوا مخترعاتهم؟ لم يكن في بالهم الله. والذي يطلب أجرا، فهو يطلبه ممن عمل له. ولم يُضع الله ثمرة عملهم، بل درت عليهم أعمالهم الذكر والجاه والرفعة. لم يضع الله أجر من أحسن عملا. {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] . وقد قلت لكم قديما: تذكروا المفاجأة التي تحدث لمن عمل عملا هو في ظاهره خير، ولكن لم يكن ربه في باله، هذا ينطبق عليه قول الحق: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] . إنه يفاجأ بوجود الله، ولم يكن هذا الإله في باله ساعة أن قام بهذا العمل الذي هو في ظاهره خير، كأن الله يقول لصاحب مثل هذا العمل: أنا لم أكن في بالك ساعة أن قمت بهذا العمل، فخذ جزاءك ممن كان في بالك. {أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} إن أعمالهم حبطت في الدنيا، لأنهم قد يعملون عملا يراد به الكيد للإسلام، لذلك لا يمكنهم الله من ذلك، بل يخذلهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1380 جميعا. وانتصر دين الله رغم قلة العُدّة. وليس لهؤلاء ناصرون. أي ليس لهم من يأتي ويراهم مهزومين أمام خصم لهم وينجدهم إنهم لن يجدوا ناصرا إذا هزمهم الله، فليس مع الله أحد غيره. وبعد ذلك يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1381 ونعرف أننا ساعة نسمع قول الحق: {أَلَمْ تَرَ} . فهنا همزة استفهام، وهنا أداة نفي هي «لم» ، وهنا «تر» ومعناها أن يستخدم الإنسان آلة الإبصار وهي العين. فإذا ما قال الله لرسوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} . إن هذه دعوة لأمر واضح. لكن في بعض الأحيان تأتي {أَلَمْ تَرَ} في حادث كان زمانه قبل بعثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يره رسول الله كقول الحق: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] . إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم ير أصحاب الفيل، إذن فساعة تسمع {أَلَمْ تَرَ} إن كان حدثها من المعاصر، فمن الممكن أن تكون رؤية، والرؤية تؤدي إلى علم يقين، لأنها رؤية لمشهود وإن جاءت {أَلَمْ تَرَ} في أمر قد حدث من قبل، أو أمر لما يحدث بعد فهي تعني «ألم تعلم» ؛ لأن الرؤية سيدة الأدلة، فكأن الله سبحانه وتعالى ساعة يقول لرسوله في حدث لم يشهده الرسول: ألم تر؟ فهذا معناه: ألم تعلم؟ وقد يقول قائل: ولماذا لم يأت ب «تعلم» وجاء ب «تر» ؟ لأن سيادة الأدلة هو الدليل المرئي، فكأن الله يريد أن يخبرنا ب {أَلَمْ تَرَ} أن نأخذ المعلومة من الله على أنها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1381 مرئية، وليكن ربك أوثق عندك من عينك، إنك قد لا ترى بالفعل هذا الأمر الذي يخبرك به الله، ولكن لأن القائل هو الله، ولا توجد قدرة تُخرج ما يقوله الله على غير ما يقوله الله. لذلك فقد قلنا ساعة يعبر الله عن الأمر المستقبل الذي سيأتي بعد، فإنه قد يعبر عنه بالماضي، فالحق قد قال: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1] . فهل ينسجم قوله: {أتى أَمْرُ الله} مع {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} ؟ إن الأمر الذي يخبرنا به الله قد أتى، فكيف يمكن عدم استعجاله؟ إن «أتى» معناها أن الأمر قد حصل قبل أن يتكلم. يجب علينا إذن أن نعرف أن الذي قال: «أتى» قادر على الإتيان به، فكأنه أمر واقع، إنها مسألة لا تحتاج إلى جدال؛ لأنه لا توجد قوة تستطيع أن نتازع الله لتبرز أمرا أراده في غير مراده. فكأن قوله الحق: {أَلَمْ تَرَ} إن كانت تحكى عن حدث فات زمنه فالذي يأتي منها هو العلم، لأنه إخبار الله، وإن كانت تحكى عن حدث معاصر فالذي يأتي منه أيضا هو العلم؛ لأنه صادر عن رؤية ومشاهدة. وعندما يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} . «وأوتوا» تلفتنا إلى قوم قد نزل إليهم منهج من أعلى. ولذلك يأتي في القرآن ذكر المنهج ب «نزل» و «أنزل» ، وذلك حتى نشعر بعلو المكانة التي نزل منها المنهج. وما هو النصيب؟ إننا نسمي النصيب «الحظ» ، أو خارج القسمة، كأن يكون عندنا عشرون دينارا، ونقسمهما على أربعة فيكون لكل واحد خمسة، هذه الخمسة الدنانير هي التي تسمى «نصيبا» أو «حظا» ، والنصيب: «حظ» أو «قسمة» يضاف لمن أخذه. إذن، فلماذا يقول الحق: {الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} إنها لفتة جميلة، فالكتاب كله لم يبق لهم، إنما الذي وصل وانتهى إليهم جزء بسيط من الكتاب، فكأن هذه الكلمة تنبه الرسول والسامعين له أن يعذروا هؤلاء القوم حيث لم يصلهم من الكتاب إلا جزء يسير منه، إن نصيبا من الكتاب فقط هو الذي وصلهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1382 ويشرح الحق ذلك في آيات أخرى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} [المائدة: 13] . إن الجزء المنسي من الكتاب لم يأخذه المعاصرون لرسول الله. وقلنا أيضا: إن الحق قد أوضح أن بعضهم كتم بعضا من الكتاب. {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] . وما دام هناك من كتم بعضا من الكتاب فمعنى ذلك كتمانه عن المعاصرين له، وهناك أناس منهم مخدوعون، فشيء من الكتاب قد نسى، وبالتالي مسح من الذاكرة، وهناك شيء من الكتاب قد كتم، فصار معلوما عند البعض، وغير معلوم عند البعض الآخر، وحتى الذي لم يكتموه، جاء فيه القول الحكيم: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] . إذن فالكتاب الذي أنزل إليهم من الله قد تعرض لأكثر من عدوان منهم، ولم يبق إلا حظ من الكتاب، وهذا الحظ من الكتاب هو الذي يجادل القرآن به هؤلاء الناس، إن القرآن لا يجادلهم فيما تبدل عندهم بفعل أحبارهم ورهبانهم السابقين، ولكنه يجادلهم بالنصيب الذي أوتوه. يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1383 لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} . وعن أي كتاب لله تتحدث هذه الآية؟ هل تتحدث عن القرآن؟ لو كان الحديث عن القرآن فلا بد أنه حُكِّمَ في أمر بينهم وبين رسول الله، لكن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب قد اختلفوا فيما بينهم، ولماذا يختلفون فيما بينهم؟ السبب هو أيضا لون من البغي فيما بينهم. وإذا كان الكتاب هو القرآن، أليس القرآن مصدقا لما معهم؟ إذن فعندما يدعون ليتم التصديق على ما جاء في كتبهم، فالدعوة هنا لأن يسود حكم القرآن. وما معنى {يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله} ، إن الداعي هو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهم المدعون، وما دام الحق قد قال: {أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} فهل كان خلافهم في النصيب الذي بين أيديهم أم النصيب المحذوف؟ إنه خلاف بينهم في النصيب الذي بين أيديهم، ليكون ذلك حجة على أنهم غير مأمونين حتى على ما وصل إليهم وما هو مكتوب عندهم. وعندما تكلم العلماء عن هذه المسألة أوردوا لذلك الأمر حادثة. لقد اختلفوا في أمر سيدنا إبراهيم وقالوا: إن سيدنا إبراهيم يهودي وقال بعضهم: إنه نصراني. وجاء القرآن حاسما: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [آل عمران: 67] . لماذا. . لأن كلمة يهودي ونصراني قد جاءت بعد إبراهيم، وكان لا بد لهم أن يخرجوا من قلة الفطنة وأن يرتبوا الأحداث حسب زمنها، إذن ففي إي أمر اختلفوا؟ هل اختلفوا في أمر النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ هل اختلفوا في حكم موجود عندهم في التوراة؟ لقد كانت الدعوة موجهة إليهم في ماذا؟ إنهم {يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وذلك يدل على أن كلمة: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] . هي حالة شائعة بينهم، لماذا؟ لأن العلماء حينما ذكروا الحادثة التي دعوا للحكم فيها بكتاب الله، قال العلماء: إن اثنين من يهود خيبر - امرأة - خيبرية ورجل من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1384 خيبر، قد زنيا، وكان الاثنان من أشراف القوم، ويريد الذي يحكمون في هذا الأمر بكتاب التوراة ألا يبرزوا حكم الله الذي جاء بالتوراة، وهو الرجم، فاحتالوا حيلة، وهي أن يذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولماذا يذهبوا في هذه الجزئية إلى رسول الله عليه وسلم؟ إننا نأخذ مجرد الذهاب إلى رسول الله ارتضاء لحكمه. لكن لماذا لم يرتضوا من البداية بكل ما جاء به رسول الله؟ لقد أرادوا أن يذهبوا لعلهم يجدون نفعا في مسألة يبغونها، أما في غير ذلك فهم لا يذهبون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إن مجرد ذهابهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعطينا فكرة عنهم، لقد كانوا يريدون حكما مخففا غير الرجم. إن الزاني وهو من خيبر والخيبرية الزانية أرادا أن يستنقذا أنفسهما من حكم التوراة بالرجم، إنهما من أشراف خيبر، ولأن اليهود قد صنعوا لأنفسهم في ذلك الوقت سلطة زمنية، فذهب الزاني والزانية ومعهما الأحبار الذين الذين يريدون أن يلووا حكم الله السابق نزوله في التوارة وهو الرجم. وعندما دخلوا على رسول الله كان هناك واحد اسمه «النعمان بن أوفى» ، وواحد اسمه «بحرى بن عمرو» فقالوا: يارسول اقض بين هؤلاء، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما معناه: أوَ ليس عندكم حكم؟ وأضاف رسول الله ما معناه: أنا احتكم إلى التوراة وهي كتابكم، فماذا قالوا:؟ قالوا: أنصفتنا. وكان رسول الله قد بين لهم حكم الإسلام في الزنا بأنه الرجم، وجيء بالجزء الباقي عندهم من التوراة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي يتضمن الحكم الملزم دليلا على أن الله أطلعه على أشياء لم تكن في بال أحد. فدعا بقسم من التوراة، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما معناه: أيكم أعلم بالتوراة؟ فقالوا شخص اسمه عبد الله بن صورية فأحضروه، وأعطاه التوراة، وقال: اقرأ مجلس عبد الله بن صورية يقرأ، فلما مر على آية الرجم وضع كفه عليها ليخفيها، وقرأ غيرها وكان عبد الله بن سلام حاضرا، فقال: يا رسول الله أما رأيته قد ستر بكفه آية وقرأ ما بعدها؟ وزحزح ابن سلام كف الرجل، وقرأ هو فإذا هي آيةُ الرجم. هذه المسألة تعطينا أن الحكم في القرآن الكريم هو الحكم في التوراة في أمر الزنا، وتعطينا أيضا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفاض الله عليه من إلهاماته فجاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1385 بالجزء من التوراة الذي يحمل هذا النص. وجاء بعد ذلك جندي من جنود الله هو عبد الله بن سلام وكان يهوديا قد أسلم ليظهر به رغبة القوم في التزييف والتزوير. وإسلام عبد الله بن سلام له قصة عجيبة، فبعد أن اختمر الإيمان في قلبه، جاء إلى رسول الله قائلا: لقد شرح الله صدري إلى الإسلام ونطق بكلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ولكني أحب قبل أن أعلن إسلامي أن تحضر رؤساء اليهود لتسألهم رأيهم في شخصى، لأن اليهود «قوم بهت» فيهم افتراء وفيهم الكذب وفيهم التضليل، فلما سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رؤساء اليهود عن رأيهم في عبد الله بن سلام قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا. . إلخ. وأفاضوا في صفات المدح والإطراء والتقدير. فقال عبد الله بن سلام أمامهم: الآن أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فانقلب رؤساء اليهود، وقالوا في عبد الله بن سلام: عكس ما قالوه أولا، قالوا: إنه خبيثنا وابن خبيثنا. . إلخ. لقد غيروا المديح إلى ذم. فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله أما قلت لك: إنهم قوم بهت؟ والله لقد أردت أن أعلمك برأيهم في قبل أن أسلم. ذلك هو عبد الله بن سلام الذي زحزح كف عبد الله بن صورية عن النص الذي فيه آية الرجم في التوراة، وفي ذلك جاء القول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} إنهم الذين أعرض فريق منهم عن قبول الحق. ما سبب هذا الإعراض؟ أهو قضية عامة؟ أو أنّ سبب هذا الإعراض هو السلطة الزمنية التي أراد اليهود أن يتخذوها لأنفسهم؟ ومعنى السلطة الزمنية أن يجيء أشخاص فيأخذوا من قداسة الدين ما يفيض عليهم هم قداسة، ويستمتعوا بهذه القداسة ثم يستخدموها في غير قضية الدين، هذا هو معنى السلطة الزمنية. وقلنا سابقا: إن كل تحوير في منهج الله سببه البغي، والمفروض أن أهل الكتاب من أصحاب التوراة كانوا يستفتحون على العرب ويقولون: سيأتي نبي من العرب نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فلما جاءهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما عرفوه سابقا في كتبهم كفروا به، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في مثل هذه القضية موضحا موقفهم من قضية الإيمان العليا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1386 {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] . فكأن من عنده علم بالكتاب كان مفروضا فيه أن يشهد لصالح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإلا فلا يقول الله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} لن يقول الحق ذلك إلا إذا كان عند علماء أهل الكتاب ما يتفق مع ما جاء به الله في صدق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البلاغ عنه، وكان السبب في محاولة بعض اليهود لإنكار رسالة رسول الله هو السلطة الزمنية، وأرادوا أن ييسروا لأتباعهم أمور الدين. إن كل دعي - أي مزيف - في مبدأ من المبادئ يحاول أن يأخذ لنفسه سلطة زمنية، فيأتي إلى تكاليف، الدين التي قد يكون فيها مشقة على النفس، ويحاول أن يخفف من هذه التكاليف، أو يأتي بدين فيه تخفيف مخل بالعبادات، فإذا نظرنا إلى مسيلمة الكذاب نجده قد خفف الصلاة حتى يُرغب في دينه من تشق عليه الصلاة، وينضم إلى دين مسيلمة، وحذف مسيلمة جزءا من الزكاة، وهذا يعطي فرصة التحلل من تكاليف الدين، ولذلك فالذي أفسد الأديان السابقة على الإسلام أن بعضا من رجال الدين فيها كلما رأوا قوما على دين فيه تيسيرات أخذوا من هذه التيسيرات ووضعوها في الدين؛ لأن تكاليف الدين شاقة ولا يحمل إنسان نفسه عليها إلا من آمن بها إيمان صدق وإيمان حق، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في عمدة العبادات وهي الصلاة: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] . ويقول في موقع آخر في القرآن الكريم عن الصلاة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى} [طه: 132] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1387 إن الحق عليم حكيم بمن خلق وهو الإنسان، ويعلم أن الضعف قد يصيب روح الإنسان فلا يصطبر على الصلاة، أو يراها تكليفا صعبا، لكن الذي يقيم الصلاة ويحافظ عليها فهو الخاشع لربه. ولذلك فإننا نجد أن كل منحرف يأتي ويحاول أن يخفف من تكاليف الدين، ويحاول أن يحلل أشياء محرمة في الدين، ولم نر منحرفا يزيد في الأشياء المحرمة. إن المنحرفين يريدون إنقاص الأمور الحرام. إذا سألنا هؤلاء المنحرفين: لماذا تفعلون ذلك؟ فإننا نجد أنهم يفعلون ذلك لجذب الناس إلى أمور محرمة يحللها هؤلاء المنحرفون. ولذلك أراد أراد بعض اليهود أن يسهلوا على أتباعهم الدين، وقال بعض من أحبارهم: لا تخافوا من أمر يوم القيامة. وجاء القول الحق يحكي عنهم وكأنهم حاولوا أن يفهموا الأمر بأن الله يحلل لهم أمورا لا، إن الله لم يحلل إلا الحلال، ولم يحرم إلا الحرام. وإذا كان الحق قد قال: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ والله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ العليم الحكيم} [التحريم: 2] . فهذا القول الحكيم جاء في مناسبة محددة وينطبق فقط في مجال ما حلل الله فلا تحرمه، أما ما حرم الله فلا تقربه، لقد أرادوا أن يبيحوا للأتباع ارتكاب الآثام، لأن النار لن تصيبهم إلا أيام معدودة، وإذا دققنا التأمل في القول الحق الذي جاء على لسانهم، فإننا نجد الآتي: إننا نعرف أن لكل حدث زمان، ولكل حدث قوة يحدث عليها، فمن ناحية الزمان. قال هؤلاء المزوّرون لأحكام الله عن يوم القيامة إنها أيام معدودة، فلا خلود في النار، وحتى لو كان العذاب شديدا فإنه أيام معدودة، فالإنسان يستطيع أن يتحمل، ومن ناحية قوة الحدث أرادوا أن يخففوا منه، فقالوا: إنه عذاب ليس بشديد إنما هو مجرد مس. إنهم يحاولون إغراء الناس لإفسادهم وقال هؤلاء الأحبار: نحن أبناء الله وأحباءه أرأيتم أحدا يعذب أبناءه وأحباءه؟ لقد أعطى الله يعقوب النبوة، ولا يمكن أن يعاقب ذريته أبدا، إلا بمقدار تحلة القسم. {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] . إن أيوب عليه السلام قد حلف أن يضرب امرأته إذا برئ من مرضه مائة سوط، وأراد الله أن يحله في هذا القسم فأمره أن يأخذ حزمة من حشيش أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1388 عشب فيها مائة عود ويضربها بها ضربة خفيفة ليبرّ في قسمه، وكان ذلك رحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته وقت المرض، وكان أيوب عبدا شاكراً لله، كأن الضربة الواحدة هي مائة ضربة، وهذا تحليل للقسم، وقال بعض من بني إسرائيل: إن ذرية بني يعقوب لن تُعذب من الله إلا بمقدار تحلة القسم، وكل ذلك ليزينوا للناس بقاءهم على هذا الدين الذي سوف تكون الآخرة فيه بعذابها مجرد مس من النار، وأيام معدودة، بادعاء أن بني يعقوب هم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله قد أعطى وعداً ليعقوب بأنه لن يعذب أبناءه إلا بمقدار تحلة القسم، وهذا بطبيعة الحال هو تزييف لدين الله ومنهجه لقد تولوا عن منهج الله، وأعرضوا عنه بعصيان، يوضح لنا هذا المعنى القول الكريم: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1389 لقد تولوا وهم معرضون عن حكم الله لقد ظنوا أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات. ولنا أن نعرف معنى «غرهم» ولنا أن نسأل ما الغرور؟ إن الغرور هو الأطماع فيما لا يصح ولا يحصل، فعندما تقول لواحد والعياذ بالله: «أنت مغرور» فأنت تقصد أنه يسلك سبيلا لا يوصله إلى الهدف المنشود. إذن فالغرور هو الإطماع فيما لا يصح ولا يحصل، ولذلك يسمى الله الشيطان «الغرور» . {ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير} [فاطر: 5 - 6] . إنه الشيطان الذي يزين للناس بعض الأمور ويحث الخلق ليطمعوا في حدوثها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1389 وعندما تحدث فإن هذه الأمور لا صواب فيها، فهي مما زينه الشيطان، لذلك فحصيلتها لا تتناسب مع الطمع فيها. والحق سبحانه يقول عن الدنيا: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} [الحديد: 20] . ويقال عن الرجل الذي ليس له تجربة: إنه «غِرٌّ» فيأتي بأشياء بدون تجربة؛ فلا ينتفع منها، ولا تصح. إذن، فكل مادة «الغرور» مأخوذة من إطماع فيما لا يصح ولا يحصل. لذلك سمى الله الشيطان «الغرور» لأنه يطمعنا نحن البشر بأشياء لا تصح ولا تحدث، ولهذا سوف يأتي الشيطان يوم القيامة ليتبرأ من الذين اتبعوه ويتهمهم بالبلاهة: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ من قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] . ما معنى {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} ؟ السلطان أي القوة التي تقنع الإنسان بعمل فعل ما، وهو إما أن يكون سلطان الحجة فيقنعك بفعل ما، فتفعله، وإما أن يكون سلطان القوة، فيرغمك أن تفعل، السلطان - إذن - نوعان: سلطان حجة، وسلطان قوة، والفرق بين سلطان الحجة وسلطان القوة القاهرة على الفعل، هو أن سلطان الحجة يقنعك أن تفعل وأنت مقتنع، أما سلطان القوة القاهرة فهو لا يُقنع الإنسان، ولكنه يُرغم الإنسان على فعل ما، ولذلك فالشيطان يعلن لأتباعه يوم القيامة: لم يكن لي سلطان عليكم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1390 لا حجة عندي لأقنعكم بعمل المعاصي، ولا عندي قوة ترغمكم على الفعل، لكنكم أنتم كنتم على حرف إتيان المعاصي ودعوتكم فاستجبتم لي. ويضيف الشيطان مخاطبا أتباعه: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] . أي أن الشيطان يؤكد أنه لن يفزع لأحد من الذين اتبعوه لينجده، إن كلمة «يصرخ» تعني أن هناك مَنْ يفزع لأحد تلبية لنداء أو استغاثة. الشيطان إذن لن ينجد أحدا من عذاب الله، ولن ينجد أحد الشيطان من عذاب الله، وهكذا ذهب بعض من أهل الكتاب إلى الغرور في دين الله، فافتروا أقوالا على الله، لم تصدر عنه، وصدقوا افتراءاتهم، ويا ليت غرورهم لم يكن في الدين لأن الغرور في غير الدين تكون المصيبة فيه سهلة لكن الغرور في الدين هو المصيبة الكبرى، لماذا؟ لأن الغرور في أي أمر يخضع لقانون واضح، وهو أن ميعاد كل حدث موقوت بماهيته، لكن الغرور في امر الدين مختلف لماذا؟ لأن حدث الدين غير موقوت بماهية الزمان، إنه مستمر، لأن منهج قيم صدر من الحق إلى الخلق، إن الغرور في أي جزئية من جزئيات الدنيا، فإن فشلت فالفشل يقف عند هذه الجزئية وحدها، ولا يتعدى الفشل إلى بقية الزمن، لكن الغرور في الدين يجعل العمر كُله يضيع، لأن الإنسان لم يتبع المنهج الحق بل يمتد الضياع والعذاب إلى العمر الثاني وهو الحياة في الآخرة يقول الحق: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24] . والإفتراء هو تعمد الكذب، إن الحق سبحانه يوضح لهم المعنى فيقول: إن حصل ذلك منكم وأعرضتم عن حكم الله الذي دعيتم إليه في كتاب الله، وعللتم ذلك بأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، وادعيتم كذبا أن الأيام المعدودات هي أيام عبادتكم للعجل، وادعيتم أنكم أبناء الله وأحباءه، إن ذلك كله غرور وافتراءات، ويا ليتهم كانوا يعلمون صدق هذه الافتراءات، لكنهم هم الذين قالوها ويعرفون أنها كذب، فإذا جاز ذلك لهم في هذه الدنيا فكيف يكون موقفهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1391 وحالهم عندما يجمعهم الله في يوم لا ريب فيه؟ وفي هذا يقول الحق: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ... .} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1392 إن كذبهم سينكشف في هذا اليوم، فالفاضحة قد جاءت، والفاضحة هي القيامة، إنها تفضح كل كذاب وكل غشاش وكل داعية بغير الحق. إن الحق يتساءل: كيف يصنعون ذلك كله في الحياة التي جعلنا لهم فيها اختيارا، فيفعلون ما يريدون، ولا يفعلون ما لا يريدون، يحدث منهم كل ذلك وهم يعلمون أن الحق قد جعل الثواب لمن اتبع تكاليف الله، وجعل العقاب لمن يخرج عن مراد الله، كيف يتصرفون عندما يسلب الحق منهم الاختيار ويجئ يوم القيامة. لقد كانوا في الدنيا يملكون عطاء الله من قدرة الاختيار بين البديلات، وركز الله لهم في بنائهم أن كل جوارحهم خاضعة لارادتهم كبشر من خلق الله، فمنهم من يستطيع ان يستخدم جوارحه فيما يرضى الله، وفيهم من يستخدم جوارحه المسخرة له - بفضل الله - فيما لا يرضى الله، إن الجوارح كما نعلم جميعا خاضعة لإرادة الإنسان، وإرادة الإنسان هي التي تختار بين البديلات، لكن ماذا يفعل هؤلاء يوم القيامة؟ إن الجوارح التي كانت تطيع الخارجين عن منهج الله في الفعل لا تطيعهم في هذا اليوم العظيم؛ لأن الطاعة اختيار أن تفعل وتطيع، والجوارح يوم القيامة لا تكون مقهورة لإرادة الإنسان، إن الجوارح يوم القيامة تنحل عنها صفة القهر والتسخير لمراد الإنسان، وتصير الجوارح على طبيعتها: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} [النور: 24 - 25] . إن اللسان كان أداة إعلان الكفر، وهو يوم القيامة يشهد على الكافر، واليد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1392 كانت أداة معصية الله، وهي يوم القيامة تشهد على صاحبها، والجلود تشهد أيضا، لقد كانت الجوارح خاضعة لإرادة أصحابها، وتفعل ما يريدونها أن تفعل، ولكنها كانت تفعل الفعل العاصي لله وهي كارهة لهذا الفعل؛ لذلك يقول الحق: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 25] . كيف يكون حالهم يوم يجمعهم الله للجزاء في يوم لا ريب فيه ولا شك في مجيئه. . وهذا اليوم قادم لا محالة لقيام الأدلة على وجوده، رغم خصومتهم لله فإن الله العادل الحق لا يظلمهم بل سيأخذهم بمقاييس العدل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1393 وساعة تسمع كلمة «ملك» ، فلنا أن نعرف أن هناك كلمة هي «مُلك» بضم الميم، وكلمة أخرى هي «مِلك» بكسر الميم. إن كلمة «مِلك» تعني أن للإنسان ملكية بعض من الأشياء، كملكية إنسان لملابسه وكتبه وأشيائه، لكن الذي يملك مالك هذا الملك فهذا تسميه «مُلك» ، فإذا كانت هذه الملكية في الأمر الظاهر لنا، فإننا نسميه «عالم الملك» ، وهو العالم المُشاهد، وإذا كانت هذه الملكية في الأمر الخفي فإننا نسميه «عالم الملكوت» . إذن، فنحن هنا أمام «مِلك» ، و «مُلك» و «ملكوت» . ولذلك فعندما تجلى الحق سبحانه وتعالى على سيدنا إبراهيم خليل الرحمن وكشف له ما خفي عن العيون وما ظهر، قال سبحانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1393 {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] . أي أن الله سبحانه وتعالى أراد لسيدنا إبراهيم أن يشاهد الملكوت في السماوات والأرض، أي كل الأشياء الظاهرة والخافية المخفية عن عيون العباد. وهكذا نرى مراحل الحيازة كالآتي: ملك، أي أن يملك الإنسان شيئا ما، وهذا نسميه مالكا للأشياء فهو مالك لاشيائه، ومالك لمتاعه أما الذي يملك الانسان الذي يملك الاشياء فإننا نسميه «مُلك» ، أي أنه يملك من يملك الأشياء، والظاهرة في الأولى نسميها «مِلْك» فكل إنسان له ملكية بعض من الاشياء، وبعد ذلك تنحاز الى الأقل، اي ان تنسب ملكية أصحاب الأملاك إلى ملك واحد. فالملكية بالنسبة للإنسان تتلخص في أن يملك الإنسان شيئا فيصير مالكا، وإنسان آخر يوليه الله على جماعة من البشر فيصير مَلِكاً، هذا في المجال البشرى. أما في المجال الإلهي، فإننا نُصعد لنرى من يملك كل مالك وملك، إنه الله سبحانه وتعالى. ولا يظن أحد أن هناك إنسانا قد ملك شيئا؛ أو جاها في هذه الدنيا بغير مراد الله فيه فكل إنسان يملك بما يريده الله له من رسالة فإذا انحرف العباد فلا بد أن يولى الله عليهم ملكا ظالما، لماذا؟ لأن الأخيار قد لا يحسنون تربية الناس. {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] . وكأن الحق سبحانه يقول: يأيها الخيِّر - بتشديد الياء - ضع قدما على قدم ولا تلوث يدك بأن تنتقم من الظالم، فسوف أضع ولاية ظالم أكبر على هذا الظالم الصغير، إنني أربأ بك أن تفعل ذلك، وسأنتقم لك، وأنت أيها الخيِّر منزه عندي عن ارتكاب المظالم ولذلك نجد قول الحق: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1394 ونحن جميعا نعرف القول الشائع: «الله يسلط الظالمين على الظالمين» . ولو أن الذين ظلموا مُكِّن منهم من ظلموهم ما صنعوا فيهم ما يصنعه الظالمون في بعضهم بعضا. إن الحق يسلط الظالمين على الظالمين، وينجى أهل الخير من موقف الانتقام ممن ظلموهم. إذن فنحن في هذه الحياة نجد «مالك» و «ملك» وهناك فوق كل ذلك «مالك الملك» ، ولم يقل الله: إنه «ملك الملك» ؛ لأننا إذا دققنا جيدا في أمر الملكية فإننا لن نجد مالكا إلا الله. {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} إنه المتصرف في ملكه، وإياكم أن تظنوا أن أحدا قد حكم في خلق الله بدون مراد الله، ولكن الناس حين تخرج عن طاعة الله فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم، ولذلك فالحق سبحانه يقول في حديثه القدسي: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يطوى الله - عَزَّ وَجَلَّ - السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» . إياك أيها المؤمن أن تظن أن أحدا قد أخذ الملك غضبا من الله. إنما الملك يريده الله لمن يؤدب به العباد. وإن ظلم الملك في التأديب فإن الله يبعث له من يظلمه، ومن رأى ظلم هذا الملك أو ذاك الحاكم فمن الجائز أن يريه الله هذا الملك أو ذلك الحاكم مظلوما. إنه القول الحكيم يؤكد لنا أنه سبحانه وتعالى مالك الملك وحده. إن الحق سبحانه يأمر رسوله الكريم: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} إن كلمة «اللهم» وحدها فيها عجب من العجائب اللغوية، إن القرآن قد نزل باللسان العربي وأمة العرب فصيحة اللسان والبيان والبلاغة، وشاء الحق أن يكون للفظ الجلالة «الله» خصوصية فريدة في اللغة العربية. إن اللغة العربية تضع قاعدة واضحة وهي ألا يُنادي ما فيه، أداة التعريف، مثل «الرجل» ب «يا» فلا يقال: «يا رجل» بل يقال: «يأيها الرجل» لكن اللغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1395 التي يسرها الله لعباده تخص لفظ الجلالة بالتقديس، فيكون من حق العباد أن يقولوا: «يا الله» . وهذا اللفظ بجلاله له تميز حتى في نطقه. ولنا أن نلحظ أن العرب من كفار قريش وهم أهل فصاحة لم يفطنوا إلى ذلك، فكأن الله يرغم حتى الكافرين بأن يجعل للفظ الجلالة تميزا حتى في أفواه الكافرين فيقولون مع المؤمنين: «يا الله» . أما بقية الأسماء التي تسبقها أداة التعريف فلا يمكن أن تقول: «يا الرجل» أو «يا العباس» لكن لا بد أن تقول «يأيها الرجل» ، أو «يأيها العباس» ، ولا تقول حتى في نداء النبي: «يا النبي» ، وإنما تقول: «يأيها النبي» . لكن عند التوجه بالنداء إلى الله فإننا نقول: «يا الله» ، إنها خصوصية يلفتنا لها الحق سبحانه بأنه وحده المخصوص بها، وأيضا ما رأينا في لغة العرب عَلَماً دخلت عليه «التاء» كحرف القسم إلا الله، فإننا نقول «تالله» ، ولم نجد أبدا من يقول «تزيد» أو «تعمرو» . إننا لا نجد التاء كحرف قسم إلا في لفظ الجلاله، ولا نجد أيضا علما من الأعلام في اللغة العربية تحذف منه «يا» في النداء وتستبدل بالميم إلا في لفظ الجلالة فنقول: «اللهم» كل ذلك ليدل على أن اللفظ في ذاته له خصوصية المسمى. «قل اللهم» وكأن حذف حرف النداء هنا يُعلمنا أن الله هو وحده المستدعى بدون حرف نداء. «اللهم» وفي بعض الألسنة يجمعون الياء والميم، مثل قول الشاعر: إني إذا ما حادث ألمَّا ... أقول ياللهم يا اللهمَّا إنها خصوصية لصاحب الخصوصية الأعلى. {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} وقد يسأل إنسان لماذا لم يقل الحق: «ملك الملك» ؟ هنا لا بد أن نعرف أنه سيأتي يوم لا تكون فيه أي ملكية لأي أحد إلا الله، وهو المالك الوحيد، فهو سبحانه يقول: {رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1396 التلاق يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 15 - 16] . إن قول الحق هنا: «مالك الملك» توضح لنا أن ملكية الله وهي الدائمة والقادرة واضحة، وجلية، ومؤكدة، ولو قال الله في وصف ذاته: «ملك الملك» لكان معنى ذلك أن هناك بشرا يملكون بجانب الله، لا، إنه الحق وحده مالك الملك. وما دام الله هو مالك الملك، فإنه يهبه لمن يشاء، وينزعه ممن يشاء. وهنا نلاحظ أن قول الحق: إنه مالك الملك يعطي الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء تأتي بعد عملية المحاجّة، وبعد أن تهرب بعض من أهل الكتاب من تطبيق حكم الله بعد أن دعوا إليه، فتولى فريق منهم وأعرض عن حكم الله، وعللوا ذلك بادعاء أنهم أبناء الله وأحباؤه وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات. كل هذه خيارات من لطف الله وضعها أمام هؤلاء العباد، خيارات بين اتباع حكم الله أو اتباع حكم الهوى، لكنهم لم يختاروا إلا الاختيار السيء، حكم الهوى. ولذلك يأتي الله بخبر اليوم الذي سوف يجيء، ولن يكون لأحد أي قدرة، أو اختيار. إن حق الاختيار موجود لنا في هذه الدنيا، وعلينا أن نحسن الاختيار في ضوء منهج الله. ولنتأمل هذا المثل الذي حدثتنا عنه السيرة النبوية الطاهرة، حينما جاءت غزوة الأحزاب التي اجتمع فيها كل خصوم الدعوة، واشتغل اليهود بالدس والوقيعة، وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحفر بمشورة سلمان الفارسي خندقا حول المدينة المنورة. ومعنى «الخندق» ، أي مساحة من الأرض يتم حفرها بما يعوق التقدم. وكان المقاتلون يعرفون أن الفرس يستطيع أن يقفز مسافة ما من الأمتار. لقد حاول المؤمنون أثناء حفر الخندق أن يكون اتساع أكبر من قدرة الخيل، ولننظر إلى دقة الإدارة عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إن سلمان الفارسي قد اقترح أن يتم حفر الخندق، وفيما يبدو أنه قد أخذ الفكرة من بيئته وقبل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الفكرة وأقرها، وفعلها المسلمون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1397 إذن فليس كل ما فعله الكفار كان مرفوضا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل تطبيق كل الأعمال النافعة، سواء أكان قد فعلها الكفار من قبل أم لا، ورأى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن عملية الحفر مرهقة بسبب جمود الأرض وصخريتها في بعض المواقع، لذلك وضع حصة قدرها أربعون ذراعا لكل عشرة من الصحابة، وبذلك وزع الرسول الكريم العمل والمسئولية، ولم يترك الأمر لكل جماعة خشية أن يتواكلوا على غيرهم. وتوزيع المسئولية يعني أن كل جماعة تعرف القدر الواضح من العمل الذي تشارك به مع بقية الجماعات وقد يسأل سائل: ولماذا لم يوزع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التكليف لكل واحد بمفرده؟ ونقول: إنها حكمة الإدارة والحزم هي التي جعلت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعرف على حقيقة واضحة، وهي أن الذين يحفرون من الصحابة ليسوا متساوون في القدرة والمجهود، لذلك أراد لكل ضعيف أن يكون مسنودا بتسعة من الصحابة. إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يجعل الأمر مشاعا، بل كان هناك تحديد للمسئولية، لكنه لم يجعل المسئولية مشخصة تشخيصا أوليا ومحددا بكل فرد، وذلك حتى يساعد الأقوياء الضعيف من بينهم. لقد ستر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الضعيف بقوة إخوانه، وساعة أن يوجد ضعيف بين عشرة من الإخوان يحملون عنه ويحفرون، فإن موقفه من أصحابه يكون المحبة والألفة، ويكون القوي قد أفاض على الضعيف. وكان عمرو بن عوف ضمن عشرة منهم سلمان الفارسي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فلما جاءوا ليحفروا صادفتهم منطقة يقال عنها: «الكئود» ، ومعنى «الكئود» هي المنطقة التي تكون صلبة أثناء الحفر، فالحافر إذا ما حفر الأرض قد يجد الأرض سهلة ويواصل الحفر، أما إذا صادفته قطعة صلبة في الأرض فإنه لا يقدر عليها بمعوله لأنها صخرية صماء، فيقال له: «أكدى الحافر» . وعندما صادف عمرو بن عوف وسلمان الفارسي والمغيرة وغيرهم هذه الصخرة الكئود، قالوا لسلمان: «اذهب فارفع أمرنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» . ومن هذا نتعلم درسا وهو أن المُكلّفَ مِنْ قِبَل مَنْ يكلفه بأمر إذا وجد شيئا يعوقه عن أداء المهمة فلا بد أن يعود إلى من كلفه بها. وذهب سلمان إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحضر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1398 مع سلمان إلى الموقع وأخذ المعول وجاء على الصخرة الكئود وضربها، فحدث شرر أضاء من فرط قوة الاصطدام بين الحديد والصخرة، فهتف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الله أكبر فُتِحَتْ قصور بصرى بالشام، ثم ضرب ضربة أخرى، وقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الله أكبر فُتِحَتْ قصور الحمراء بالروم. وضرب ضربة ثالثة وقال: الله أكبر فُتِحَتْ قصور صنعاء في اليمن، فكأنه حين ضرب الضربة أوضح الله له معالم الأماكن التي سوف يدخلها الإسلام فاتحا ومنتصرا، فلما بلغ ذلك القول أعداء رسول الله صلى الله عليه قال الأعداء للصحابة: يمنيكم محمد بفتح قصور صنعاء في اليمين، والحمراء في الروم، وفتح قصور بصرى، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا لنا للقتال فأنزل الله قوله: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ ... } . إن المسألة ليست عزما من هؤلاء المؤمنين، إنما هي نية على قدر الوسع، فإن فعلت أي فعل على النية بقدر الوسع فانتظر المدد من الممد الأعلى سبحانه وتعالى. إن الله سبحانه هو الذي يعطي الملك، وهو الإله الحق الذي ينزع ملك الكفر في كسرى والروم وصنعاء، ويعطي سبحانه الملك لمحمد رسول الله وأصحابه، وينزعه من قريش، وينزع الملك من يهود المدينة حيث كانوا يريدون الملك. إن قول الحق: {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} تجعلنا نتساءل: ما النزع؟ إنه القلع بشدة، لأن الملك عادة ما يكون متمسكا بكرسي الملك، متشبثا به، لماذا؟ لأن بعضا ممن يجلسون على كراسي السلطان ينظرون إليه كمغنم بلا تبعات فلا عرق ولا سهر ولا مشقة أو حرص على حقوق الناس، إنهم يتناسون سؤال النفس «وماذا فعلت للناس» ؟ إن الواحد من هؤلاء لا يلتفت إلى ضرورة رعاية حق الله في الخلق فيسهر على مصالح الناس ويتعب ويكد ويشقى ويحرص على حقوق الناس. إننا ساعة نرى حاكما متكالبا على الحكم، فلنعلم أن الحكم عنده مغنم، لا مغرم. ولنر ماذا قال سيدنا عمر بن الخطاب عندما قالوا له: إن فقدناك - لا نفقدك - نولى عبد الله بن عمر، وهو رجل قرقره الورع. . فقال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: بحسب آل الخطاب أن يُسأل منهم عن أمة محمد رجل واحد، لماذا؟ لأن الحكم في الإسلام مشقة وتعب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1399 لقد جاء الحق بالقول الحكيم: {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} وذلك لينبهنا إلى هؤلاء المتشبثين بكراسي الحكم وينزعهم الله منها، إن المؤمن عندما ينظر إلى الدول في عنفوانها وحضاراتها وقوتها ونجد أن الملك فيها يسلب من الملك فيها على أهون سبب. لماذا؟ إنها إرادة الخالق الأعلى، فعندما يريد فلا راد لقضائه. إن الحق إما أن يأخذ الحكم من مثل هذا النوع من الحكام، وإما أن يأخذه هو من الحكم، ونحن نرى كل ملك وهو يوطن نفسه توطينا في الحكم، بحيث يصعب على من يريد أن يخلعه منه أن يخلعه بسهولة، لكن الله يقتلع هذا الملك حين يريد سبحانه. وبعد ذلك يقول الحق: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} لأن ظواهر الكون لا تقتصر على من يملك فقط، ولكن كل ملك حوله أناس هم «ملوك ظل» . ومعنى «ملوك الظل» أي هؤلاء الذين يتمتعون بنفوذ الملوك وإن لم يكونوا ظاهرين أمام الناس، ومن هؤلاء يأتي معظم الشر. إنهم يستظلون ويستترون بسلطان الملك، ويفعلون ما يشاءون، أو يفعل الآخرون لهم ما يأمرون به، وحين يُنزع الملك فلا شك أن المغلوب بالظالمين يعزه الله، وأما الظالمون لأنفسهم فيذلهم الله؛ لذلك كان لا بد أن يجيء بعد {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} هذا القول الحق: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} . لماذا؟ لأن كل ملك يعيش حوله من يتمتع بجاهه ونفوذه، فإذا ما انتهى سلطان هذا الملك، ظهر هؤلاء المستمعون على السطح. وهذا نشاهده كل يوم وكل عصر. {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير} . ونلاحظ هنا: أن إيتاء الملك في أعراف الناس خير. ونزع الملك في أعراف الناس شر. ولهؤلاء نقول: إن نزع الملك شر على من خُلِعَ منه، ولكنه خير لمن أوتي الملك. وقد يكون خيرا لمن نزع منه الملك أيضا. لأن الله حين ينزع منه الملك، أو ينزعه من الملك يخفف عليه مؤونة ظلمه فلو كان ذلك الملك المخلوع عاقلا، لتقبل ذلك وقال: إن الله يريد أن يخلصني لنفسه لعلى أتوب. . إذن فلو نظرت إلى الجزئيات في الأشخاص، ونظرت إلى الكليات في العموم لوجدت أن ما يجري في كون الله من إيتاء الملك وما يتبعه من إعزاز، ثم نزع الملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1400 وما يتبعه من إذلال، كل ذلك ظاهرة خير في الوجود، لذلك قال الحق هنا: {بِيَدِكَ الخير} ولو دقق كل منا النظر إلى مجريات الأمور، لوجد أن: الله هو الذي يؤتي، والله هو الذي ينزع، والله هو الذي يعز، والله هو الذي يذل، ولا بد أن يكون في كل ذلك صور للخير في الوجود، فيقول: {بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . إن إيتاء الملك عملية تحتاج إلى تحضير بشرى وبأسباب بشرية، وأحيانا يكون الوصول إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية، أو السياسية، وكذلك نزع الملك يحتاج إلى نفس الجهد. إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا المعنى فيقول: ليس ذلك بأمر صعب على قدرتي اللانهائية، لأنني لا أتناول الأفعال بعلاج، أو بعمل، إنما أنا أقول: «كن» فتنفعل الأشياء لإرادتي، ويأتي الحق بعد ذلك ليدلل بنواميس الكون وآيات الله في الوجود على صدق قضية {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقول وقوله الحق: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1401 إن الحق يقول لنا: عندكم ظاهرة تختلف عليكم، وهي الليل والنهار، وظاهرة أخرى، هي الحياة والموت. إن ظاهرة الليل والنهار كلنا نعرفها لأنها آية من الآيات العجيبة، والحق يقول عنها: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} إن الحق لم يصنع النهار بكمية محدودة من الوقت متشابهة في كل مرة، لا، إنه سبحانه شاء لليل أن ينقص أحيانا عن النهار خمس ساعات، وأحيانا يزيد النهار على الليل خمس ساعات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1401 ولنا أن نتساءل. . هل تنقص الخمس الساعات من الليل أو النهار مرة واحدة وفجأة هل يفاجئنا النهار بعد أن يكون اثنتي عشرة ساعة ليصبح سبع عشرة ساعة؟ هل يكون الليل مفاجئاً لنا في الطول أو القصر؟ لا، إن المسألة تأتي تباعا، بالدورة، بحيث لا تحس ذلك، إن هناك نوعا من الحركة اسمها الحركة الترسية. إننا عندما ننظر إلى الساعة في كل الزمن؟ لا، إن كل ترس له زمن يتوقف فيه، وعندما يتوقف فإننا ندفع به ليعيد دورته، ويعمل، وإذا دققنا النظر في عقرب الدقائق فإننا نستطيع أن نلحظ ذلك. إذن هناك فترة توقف وسكون بين انتقال عقرب الدقائق من دقيقة إلى أخرى، وهذا اللون من الحركة نسميه «حركة ترسية» ، وهناك حركة أخرى ثانية نسميها «حركة انسيابية» ، بحيث يكون كل جزء من الزمن له حركة، كما يحدث الأمر في ظاهرة النمو بالنسبة للإنسان والنبات والحيوان. إن الطفل الوليد لا يكبر من الصباح إلى المساء بشكل جزئي، أو محسوس، إنه يكبر بالفعل دون أن نلحظ ذلك، وقد يزيد بمقدار ملليمتر في الطول، وهذا الملليمتر شائع في كل ذرات الثواني من النهار، إن الطفل لا يظل على وزنه وطوله أربعا وعشرين ساعة من النهار، ثم يكبر فجأة عند انتهاء اليوم، لا، إن نمو الطفل كل يوم يتم بطريقة تشيع فيها قدرة النمو في كل ذرات الثواني من النهار، وهذه العملية تحتاج إلى الدقة المتناهية في توزيع جزيئات الحدث على جزيئات الزمان، وهذه هي العظمة للقدرة الخالقة التي يظل الإنسان عاجزا عنها إلى الأبد. وقد قلت لكم مرة: إن الواحد منكم إن نظر إلى ابنه الوليد، وظل ناظراً له طوال العمر فلن يلحظ الإنسان منكم كبر ابنه على الإطلاق، لكن عندما يغيب الإنسان عن ابنه شهرا أو شهورا، ثم يعود، هنا يرى في ابنه مجموع نمو الشهور التي غاب فيها عنه وقد أصبح واضحا. ولو زرع الإنسان نباتا ما، وجلس ينظر إلى هذا النبات، فهو لن يرى أبدا نمو هذا النبات لماذا؟ لأن الجزئيات تكبر دون قدرة على أن يلمس الإنسان طريقة نموها. ولنا أن نعرف أن كل ما يكبر إنما يصغر أيضا، ولا توجد عند الإنسان قدرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1402 للملاحظة المباشرة لذلك، وفي الحياة أمثلة أخرى، نأخذ منها هذا المثل، فعندما قام العلماء بتصوير الأرض من الأقمار الصناعية، كانت الصور الأولى لمدينة نيويورك هي صورة لنقطة بسيطة، وعندما قام العلماء بتكبير هذه الصورة ظهرت الجزئيات، كالشوارع وغيرها، أين كانت الشوارع في هذه النقطة الصغيرة؟ لقد صغرت الشوارع أثناء التصوير بصورة تستحيل معها على آلات الإدراك عند الإنسان أن تراها، ولذلك فلا بد من التكبير لهذه الصورة حتى يمكن للإنسان أن يراها، ونحن نرى الشيء البعيد صغيرا، ولكما قربناه كبر في نظرنا. إذن فقول الله: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} هو لفت للانتباه البشرى إلى أن الليل والنهار لا يفصل بينهما حد قاطع بنسبة متساوية لكل منهما، لا، إنه الحق بقدرته يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل. إن معنى «تُولج» هو «تُدخل» ، ومثال ذلك أن يؤذن المؤذن لصلاة المغرب في يوم ما عند الساعة الخامسة، ويؤذن المؤذن لصلاة المغرب في أيام أخرى في الساعة السابعة. إن ذلك لا يحدث فجأة، ولا يقفز المغرب من الخامسة إلى السابعة، إنما يحدث ذلك بانسيابية، ورتابة. ومن ذلك نتلقى الدرس والمثل. إنك أيها العبد إن رأيت ملكا قائما على حضارة مؤصلة، فاعلم أن هناك عوامل دقيقة لا تراها بالعين تنخر في هذا الملك إلى أن يأتي يوم ينتهي فيه هذا الملك. وهكذا تنهار الحضارات بعد أن تبلغ أوج الارتقاءات، ويصل الناس فيها إلى استعدادات ضخمة وإمكانات هائلة، وذلك لأن عوامل الانهيار تنخر داخل هذه الحضارات. إن الحق بلفتنا إلى جلال قدرته وعظمة دقة صنعه، بمثل الليل والنهار: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} . ثم يأتي لنا الحق الأعلى بمثل آخر، فيقول: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} ، إنها القدرة المطلقة بدون أسباب. والوقفة هنا تجعلنا نرى كيف اهتدينا بما أفاض الله على بعض خلقه من اكتشاف لبعض أسراره في كونه، لقد وصل العلم لمعرفة أن لكل شيء حياة خاصة، فنرى أن ورقة النبات تحدث فيها تفاعلات ولها حياة خاصة، ونرى أن الذرة فيها تفاعلات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1403 ولها حياة خاصة، والتفاعل معناه الحركة، والحياة كما تعرف مظهرها الحركة، وغاية ما هناك أنه يوجد فرق في رؤية الحياة عند العامة، ورؤية الحياة عند الخاصة. إن الإنسان العامى لا يعرف أن النطفة فيها حياة، وأن الحبة فيها حياة، ولا يعرف ذلك إلا الخاصة من أهل العلم. إن العامة من الناس لا يعرفون أن الحبة توجد لها حياة مرئية، ويكمن فيها نمو غير ظاهر، ولا يعرف العامة أن هناك فرقا بين شيء حي، وشيء قابل لأن يحيا. ومثال ذلك نواة البلح التي نأخذها ونزرعها لتخرج منها النخلة، إنها كنواة تظل مجرد نواة إلى أن يأخذها الإنسان، ويضعها في بيئتها؛ لتخرج منها النخلة. إذن فالنواة قابلة للحياة، وعندما ننظر إلى ذرات التراب فإننا لا نستطيع أن نضعها في بيئة لنصنع منها شيئا، ورغم ذلك فإن لذرة التراب حركة. ويقول العلماء: إن الحركة الموجودة في ذرات رأس عيدان علبة كبريت واحدة تكفي لإدارة قطار كهربائي بإمكانه أن يلف حول الكرة الأرضية عددا من السنوات. إن هذه أمور يعرفها الخاصة، ولا يعرفها العامة. فإن نظرنا إلى العامة عندما يسمعون القول الحق: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} كانوا يقولون: إن المثل على ذلك نواة البلح، وكانوا يعرفون أن النخلة تنمو من النواة. ولكن الخاصة بحثوا واكتشفوا أن في داخل النواة حياة وعرفوا كيفية النمو. . وعرف العلماء أن لكل شيء في الوجود حياة مناسبة لمهمته. . فليست الحياة هي الحركة الظاهرة والنمو الواضح أمام العين فقط، لا، بل إن هناك حياة في كل شيء. إن العامة يمكنهم أن يجدوا المثال الواضح على أن الحق يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، أما الخاصة فيعرفون قدرة الله عن طريق معرفتهم أن كل شيء فيه حياة، فالتراب الذي نضع فيه البذر لو أخذنا بعضا منه في مكان معزول، فلن يخرج منه شيء، هذا التراب هو ما يصفه العلماء بوصف «الميت في الدرجة الأولى» وأما النواة التي يمكن أن تأخذها وتضعها في هذا التراب، فيصفها العلماء بأنها «الميت من الدرجة الثانية» . وعندما ننقل الميت في الدرجة الأولى ليكون وسطا بيئيا للميت في الدرجة الثانية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1404 تظهر لنا نتائج تدلل على حياة كل من التراب والنواة معا، وقد مس القرآن ذلك مسا دقيقا، لأن القرآن حين يخاطب بأشياء قد تقف فيها العقول فإنه يتناولها التناول الذي تتقبلها به كل العقول، فعقل الصفوة يتقبلها وعقل العامة يتقبلها أيضا، لأن القرآن عندما يلمس أي أمر إنما يلمسه بلفظ جامع راق يتقبله الجميع، ثم يكتشف العقل البشري نفاصيل جديدة في هذا الأمر. إن القرآن على سبيل المثال لم يقل لنا: إن الذرة فيها حركة وحياة وفيها شحنات من لون معين من الطاقة، ولكن القرآن تناول الذرة وغيرها من الأشياء بالبيان الإلهي القادر، وخصوصا أن هذه الأشياء لم يترتب عليها خلاف في الحكم أو المنهج. فلو عرف الإنسان وقت نزول القرآن أن الذرة بها حياة فماذا الذي يزيد من الأحكام؟ ولو أن أحدا أثبت أن الذرة ليس بها حياة فما الذي ينقص من أحكام المنهج الإيماني؟ لم يكن الأمر من ناحية الأحكام ليزيد أو لينقص، وعندما نأخذ القرآن مأخذ الواعين به، ونفهم معطيات الألفاظ فإننا نجد أن كلمة «الحياة» لها ضد هو «الموت» ، وقد ترك الحق سبحانه كلمة «الموت» في بعض المواقع من الكتاب الكريم وأورد لنا كلمة أخرى هي «الهلاك» قال الحق سبحانه: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] . إن «الهلاك» هنا هو مقابل الحياة، لماذا لم يورد الحق كلمة «الموت» هنا؟ لانه الخالق الأعلم بعباده، يعلم أن العباد قد يختلفون في مسألة «الموت» فبعض منهم يقول تعريفا للميت: إنه الذي لا توجد به حركة أو حس أو نمو، ولكن هذا الميت له حياة مناسبة له، كحياة الذرة أو حياة حبة الرمل، أو حياة أي شيء ميت، وهكذا عرفنا من الآية السابقة أن الحياة يقابلها الهلاك. ويقول الحق سبحانه عن الآخرة ليوضح لنا ما الذي سوف يحدث يوم القيامة: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1405 لقد استثنى الحق الوجه أو الذات الإلهية، وكل ما عداها هالك. وما دام كل شيء هالك فمعنى ذلك أن كل شيء كان حيا وإن لم ندرك له حياة. اذن فالحياة الحقيقية توجد في كل شيء بما يناسبه، مرة تدركها أنت، ومرة لا تدركها. إذن فقوله الكريم: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} يجوز أن تأخذه مرة بالعرف العام، أو تأخذه بالعرف الخاص، أي عرف العلماء، وما دام ذلك أمرا ظاهرا في الوجود كولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل، أي أن الحق يدخل النهار في الليل، ويدخل الليل في النهار. وفي اللغة يسمون بطانة الرجل - أي خاصة أصدقائه - «الوليجة» لماذا؟ لأنها تتداخل فيه، لأنك إن أردت أن تعرف سر واحد من البشر فاجلس مع صديق له أو عددٍ من أصدقائه الذين يتداخلون معه. لذلك جاء أمر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل بالوضوح الكامل، وجاءت مسألة الحياة والموت بألفاظ يمكن أن يفهمها كل من العامة والخاصة. وإذا كانت تلك الظواهر هي بعض من قدرات الله فمن إذن يستكثر على الله قدرته في أنه يؤتي الملك من يشاء، ويعز من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويذل من يشاء؟ لقد جاء الدليل من الآيات الكونية، ونراه كل يوم رأي العين. {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك. . تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . إنك أنت يا الله، الذي أجريت في كونك كل هذه المسائل وهي كلها أمور من الخير، وإن بدا للبعض أن الخير فيها غير ظاهر. إن الإنسان عندما يرى في ابنه شيئا يحتاج إلى علاج فإنه يسرع به إلى الطبيب ويرجوه أن يقوم بكل ما يلزم لشفاء الابن، حتى ولو كان الأمر يتطلب التدخل الجراحي. إن الأب هنا يفعل الخير للابن، والابن قد يتألم من العلاج، فإذا كان هذا أمر المخلوق في علاقته بالمخلوق، فما بالنا بالخالق الأكرم الذي يجري في ملكه ما يشاء، إيتاء ملك أو نزعه، وإعزازا أو إذلالا، فكل ذلك لا بد أن يكون من الخير، وآيات الله تشهد بأن الله على كل شيء قدير لذلك يأتي بعد الآية السابقة قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1406 {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] فإذا كان هناك إنسان لم يفطن أبدا لمسألة إيلاج الليل في النهار أو إخراج الحي من الميت، فإنه لا بد أن يلتفت إلى رزقه، فكل واحد منا يتصل برزقه قهرا عنه، ولذلك جاء الحق سبحانه بهذا الأمر الواضح: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وساعة تسمع كلمة «حساب» فإنك تعرف أن الحساب هو كما قلنا سابقا: يبين لك مالك وما عليك. وعندما نتأمل قول الحق: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . فإننا نعلم أن «الحساب» يقتضي «محاسبا» - بكسر السين ويقتضي «محاسبا» - بفتح السين ويقتضي «محاسبا عليه» ، إن الحساب يقتضي تلك العناصر السابقة. فعندما يقول الحق: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فلنا أن نقول: ممن؟ ولمن؟ من أين يأتي الرزق؟ وإلى أين؟ إنه يأتي من الله، ويذهب إلى ما يقدره الله لأن الله هو الرزّاق، وهو الحق وحده، وهو الذي لا يستطيع ولا يجرؤ أحد على حسابه، فهو سبحانه الذي يحاسبنا جميعا، لا شريك له، وهو الفعال لما يريد. إن الحساب يجريه الله على الناس، وهو سبحانه لا يعطي الناس فقط على قدر حركتهم في الوجود، بل يرزقهم أحيانا بما هو فوق حركتهم. وقد يرزقك الله من شيء لم يكن محسوبا عندك؛ لأن معنى الحساب هو ذلك الأمر التقديري الذي يخطط له الإنسان، كالفلاح الذي يحسب عندما يزرع الفدان ويتوقع منه نتاجا يساوي كذا إردبا أو قنطارا، أو الصانع الذي يقدر لنفسه دخلا محددا من صنعته. هذا هو الحساب، لكن الإنسان قد يلتفت فيجد أن عطاء الله له من غير حساب. وقد يحسب الإنسان مرة ولا يأتي له الرزق. مثال ذلك: قالوا: إن دولة أعلنت أنها زرعت قمحا يكفي الدنيا كلها، ولكن عندما نضج المحصول هبت عاصفة أهلكت الزرع، وأكلت هذه الدولة قمحها من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1407 الخارج. فمن قالوا عن أنفسهم: إنهم سيطعمون الناس أطعمهم الناس. أليس ذلك مصداقا لقول الحق: «من غير حساب» ؟ إنه الحق سبحانه لا يحسب حركتك إيها الإنسان ليعطيك قدرها، ولكنه قد يعطيك أحيانا فوق حركتك. ونحن نرى إخوتنا الذين أفاض الله عليهم بثروة البترول، لقد تفجر البترول من تحت أرجلهم دون جهد منهم إنه الله يريد أن يلفت الناس إلى قدرته جل وعلا، وأن الأرزاق في يده هو. وننظر إلى الناس الذين يشيرون إلى منطقة البترول فيتهمون أهلها بالكسل، ونجد ان الحق سبحانه وتعالى قد سخر لهم غير الكسالى ليخدموهم، وعندما أفاء على المنطقة العربية بالبترول احتاجت لهم الدول التي تقول عن نفسها: أنها متقدمة، إنه رزق بغير حساب. إن هذه اللفتات إنما تؤكد للمؤمن طلاقة القدرة، إن الحق قد خلق الأسباب، ولم يترك الأسباب تتحكم وحدها، وقد يترك الحق الأسباب للإنسان ليعمل بها، وقد لا يعطيه منها، ويعطي الحق الإنسان من جهة أخرى لم يحسب لها حسابا. والإنسان الذي يتأمل تقدير أموره أو أمور من يعرف يجد أن تلك القضية منتشرة في كل الخلق، إنه سبحانه يرزق بغير حساب، ولا يقول: «لقد فعلت على قدر يساوي كذا» ، والحق سبحانه يعطي بغير حساب من الإنسان، لأن الموازنة التي قد يقوم بها الإنسان قد يأتي لها من الأسباب ما يخرقها. إذن {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} تعني قدرة الحق المطلقة على الرزق بغير حساب ولا توجد سلطة أعلى منه تقول له: لماذا فعلت؟ أو ماذا أعطيت؟ أو من غير حساب منه سبحانه لخلقه، فيأتي الرزق على ما هو فوق أسباب الخلق، أو من غير حساب للناس المرزوقين فيأتي رزقهم من حيث لم يقدروا، فإذا كانت كل هذه الأمور لله، وهو مالك الملك ويعطي من يشاء، ويعز من يشاء، ويولج الليل في النهار، ويرزق من يشاء بغير حساب، أليس من الحمق أن يذهب إنسان ليوالي من لا سلطان له ويترك هذا السلطان، إن من يوالي غير الله هو الذي استبد به الغباء. ولنفطن لتلك القضية الإيمانية: إي فما دامت كل الأمور عندي فإياكم أن توالوا خصومى، لأنني أنا الذي بيده كل شيء، هاهوذا القول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1408 قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] . إنه الحق يأمرنا ألا نوالي إلا الله، فإن كنت تجري حسابا لكل شيء وبتقدير مؤمن فلا توال إلا صاحب هذه الأشياء، وإياك أن تعمد إلى عدو لهذه القوة القاهرة القادرة المستبده في كل امور الكون ونواميسه، إياك أن تعمد الى أعداء الله لتتخذ منهم أولياء؛ لأنك لو فعلت تكون غير صائب التفكير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1409 أنت لا تتخذ الكافر وليا إلا إن بانت لك مظاهر القوة فيه، ومظاهر الضعف فيك، إنك عندما تتأمل معنى كلمة «ولي» . تجد أن معناها «معين» وحين تقول: «الله هو الولي» فإننا نستخدم الكلمة هنا على إطلاقها، إن كلمة الولي تضاف إلى الله على إطلاقها، وتضاف بالنسبية والمحدودية لخلق الله، فالحق يقول: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1409 إن الله ولي على إطلاقه، والحق يقول: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] . إن المفرد لأولياء الله هو «ولي الله» ، فالمؤمن ولي الله، والحق يقول: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} [الكهف: 44] . هكذا نلاحظ أن الولاية قد تضاف مرة إلى الله، ومرة إلى خلق الله. إن الله ولي المؤمن، وهذا أمر مفهوم، وقد نتساءل: كيف يكون المؤمن ولي الله؟ إنا نستطيع أن نفهم هذا المعنى كما يلي: إن الله هو المعين للعباد المؤمنين فيكون الله ولي الذين آمنوا، أي معينهم ومقويهم. وأولياء الله، هم الذين ينصرون الله، فينصرهم الله، وهو - سبحانه - الحق الذي قال: {ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] . ألم يكن الله قادرا أن ينتقم من الكفار مرة واحدة وينتهي من أمرهم؟ ولكن الحق سبحانه قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] . إن الحق لو قاتلهم فإن قتاله لهم سيكون أمرا خفيا، وقد يقولون: إن هذه مسائل كونية في الوجود، لذلك يأتي بالقتال للمؤمنين الذين استضعفهم الكافرون. إذن مرة تُطلق «الولي» ويراد بها «المعين» . ومرة أخرى تُطلق كلمة «الولي» ويراد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1410 بها «المعان» . لأنك إن كنت أنت ولي الله، والله وليك فإنه الحق سبحانه «معين» لك وأنت «معان» . إن الحق سبحانه يريد لمنهجه ان يسود بإيمان خلقه به، وإلا لكان الحق سبحانه وتعالى قد استخدم طلاقة قدرته على إرغام الناس على أن يكونوا طائعين، فلا أحد بقادر على أن يخرج عن قدرة الله، والإنسان عليه أن يفكر تفكيرا واضحا، ويعرف أن حياته بين قوسين: بين قوس ميلاده وقوس وفاته ولا يتحكم الإنسان في واحد من القوسين، فلماذا يحاول التحكم في المسافة بين القوسين؟ إذن القواميس الكونية بيد الله وتسير كالساعة، إنه سبحانه يقول: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] . إن شيئا لم يخرج عن مراد الخالق الأعظم. إنما الحق سبحانه وتعالى أخذ هذه المسائل في حركة السماوات والأرض بقوة قهره وقدرة جبروته، فلا شيء يخرج من يده، أما بالنسبة للعباد فهو سبحانه يريد ان يأخذ قوما بحب قلوبهم. إن الإيمان طريق متروك لاختيار الإنسان، صحيح أن الحق قادر على أن يأتي بالناس مؤمنين، ولكنه يريد أن يرى من يجيء إليه وهو مختار ألا يجيء. إن تسخير الأشياء يظهر لنا صفة القدرة الكاملة لله، واختيارات الإنسان هي التي تظهر صفة المحبوبية لله، والله يريد لنا أن نرى قدرته، ويريد منا أن نتجه إليه بالمحبوبية لذلك يقول الحق: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} لماذا؟ لأن الكافرين وإن تظاهروا أنهم أولياء لك أيها المؤمن، فهم يحاولون أن يجعلوك تستنيم لهم، وتطمئن إليهم وربما تسللوا بلطف ودقة، فدخلوا عليك مدخل المودة، وهم ليسوا صادقين في ذلك، لأنهم ما داموا كافرين، فليس هناك التقاء في الأصل بين الإيمان والكفر؛ لذلك يقول الحق: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} . إن من يتخذ هؤلاء أولياء له، فليس له نصيب من نصرة الله، لماذا؟ لأنه اعتقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1411 إن هؤلاء الكافرين قادرون على فعل شيء له. لذلك يحذرنا الله ويزيد المعنى وضوحا أي: إياكم أن تغتروا بقوة الكافرين وتتخذوا منهم أولياء. ولا تقل أيها المؤمن: «ماذا أفعل؟» لأن الله لا يريد منك إلا أن تبذل ما تستطيع من جهد، ولذلك قال سبحانه: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60] . إن الحق لم يقل: «أعدوا لهم ما تغلبونهم به» ، ولكنه قال: {أَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم} . إن على المؤمن أن يعمل ما في استطاعته، وأن يدع الباقي لله، ولذلك فهناك قضية قد يقف فيها العقل، ولكن الله يطمئننا؛ أي: لا تخافوا ولا تظنوا أن أعدادهم الكبيرة قادرة على أن تهزمكم، ولا تسأل: «ماذا أفعل يا الله» ؟ لقد علمنا الحق ألا نقول ذلك، وعلمنا ما يحمينا من هذا الموقف لذلك قال: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] . إذن فساعة يلقي الله في قلوب الذين كفروا الرعب فماذا يصنعون مهما كان عددهم أو عدتهم؟ أليس في ذلك نهاية للمسألة؟ إن الرعب هو جندي ضمن جنود الله، ولذلك فعلى المؤمن ألا يوالي الكافرين من دون المؤمنين، لماذا؟ حتى لا ينطبق عليه القول الحق: «وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ» ويضع الحق بعد ذلك الاستثناء: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير} . إن الحق سبحانه وتعالى يعطي المنهج للإنسان وهو من خلقه سبحان، ويعرف كل غرائزه، وانفعالاته، وفكره، وفي أنه قد تأتي له ظروف أقوى من طاقته، لذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1412 يعامل الحق الإنسان على أنه مخلوق محدود القدرات؛ وفي موضع آخر جاء الحق باستثناء آخر فقال: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} [الأنفال: 16] . إن الحق يقول في هذا الموضع من سورة آل عمران: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ، إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} . «وتقاة» مأخوذة من «الوقاية» . إنهم قد يكونون أقوياء للغاية، وقد لا يملك المؤمن بغلبه الظن في أن ينتصر عليهم؛ وهم الكافرون، فلا مانع من أن يتقي المؤمن شرهم. إن التقية رخصة من الله، روى: أن مسيلمة الكذاب جاء برجلين من المسلمين وقال لواحد منهما: «أتشهد أن محمدا رسول الله» ؟ قال المؤمن «نعم» : قال مسيلمة: «وتشهد أني رسول الله؟» قال المؤمن: «نعم» . وأحضر مسيلمة المسلم الآخر وقال له: «أتشهد أن محمداً رسول الله؟» قال المؤمن: «نعم» . قال مسيلمة: «أتشهد أني رسول الله؟» قال المؤمن الثاني: «إني أصم» كيف رد عليه المؤمن بدعوى الصمم؟ لقد علم مسيلمة أنه يدعي الصمم، لذلك أخذه وقلته، فرفع الأمر إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فماذا قال؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أما المقتول. . فقد صدع بالحق فهنيئا له، وأما الآخر فقد أخذ برخصة الله» . فالتقية رخصة، والإفصاح بالحق فضيلة. . وعمار بن ياسر أخذ بالرخصة وبلال بن رباح تمسك بالقرعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1413 ولننظر إلى حكمة التشريع في هذا الأمر. إن كل مبدأ من مبادئ الخير جاء ليواجه ظاهرة من ظواهر الشر في الوجود، وهذا المبدأ يحتاج إلى منهج يأتي من حكيم أعلى منه، ويريد صلابة يقين، وقوة عزيمة، كما يريد تحمل منهج، فالتحمل إنما يكون من أجل أن يبقى المنهج للناس، والعزيمة من أجل أن يواجه المؤمن الخصوم، فلو لم يشرع الله التقية بقوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] . لكنا حقيقة سنحقق الفدائية التي تفدي مناهج الحق بالتضحية بالحياة رخيصة في سبيل الله، ولكن هب ان كل مؤمن وقف هذا الموقف فمن يحمل علم الله إلى الآخرين؟ لذلك يشرع الحق سبحانه وتعالى التقية من أجل أن يبقى من يحمل المنهج، إنه يقرر لنا الفداء للعقيدة، ويشرع لنا التقية من أجل بقاء العقيدة. لقد جاء الحق بالأمرين: أمر الوقوف في وجه الباطل بالاستشهاد في سبيل الحق، وأمر التقية حماية لبعض الخلق حتى لا يضيع المنهج الحق لو جاء جبار، واستأصل المؤمنين جميعا، لذلك يشرع الحق ما يبقى للفداء قوما، ويبقى للبقاء قوما ليحملوا منهج الله، هل عرفنا الآن لماذا جاءت التقية؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد منهجا يعمر الأرض، ويورث للأجيال المتتالية، فلو أن الحق لم يشرع التقية بقوله: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] . لثبتت الفدائية في العقيدة، ولو ثبتت الفدائية وحدها لكان أمر المنهج عرضه لأن يزول، ولا يرثه قوم آخرون، لذلك شرع الله التقية ليظل أناس حول شمعة الإيمان، يحتفظون بضوئها؛ لعل واحدا يأخذ بقبسها، فيضيء بها نورا وهاجا. ولذلك، فلا ولاية من مؤمن لقوم كافرين إلا أن يتقى منهم تقاة، لماذا؟ لأن الله يحذرنا نفسه بقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1414 فإياك أن تقبل على السلوك الذي يضعه أمامك الكفار بانشراح صدر وتقول: أنا أقوم بالتقية، بل لا بد أن تكون المسألة واضحة في نفسك، وأن تعرف لماذا فعلت التقية، هل فعلتها لتبقى منهج الخير في الوجود، أو لغير ذلك؟ هل فعلتها حتى لا تجعل جنود الخير كلهم إلى فناء أو غير ذلك؟ إنك إن فعلت التقية بوعي واستبقيت نفسك لمهمة استبقاء المنهج الإيماني، فأنت أهل الإيمان، وعليك أن تعرف جيدا أن الحق قد قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير} . إنه الحق يقول للمؤمنين: إياكم أن تخلعوا على التقية أمرا هو مرغوب لنفوسكم، لماذا؟ لأن الحق قد حددها: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] . فلا غاية إلا الله، فإياكم أن تغشوا أنفسكم؛ لأنه لا غاية عند غيره؛ فالغاية كلها عنده وبعد ذلك يقول الحق: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1415 لأن الإنسان قد يقوم بالتقية كظاهرة شكلية، أما المؤمن فلا يفعل ذلك أبدا. لماذا؟ لأن التحذير واضح في هذه الآية. هنا قد يقول قائل: إن إخفاء ما في الصدر هو الذي يعلمه الله أما إبداء ما في الصدر فإنه قد علمه أحد غير الله، فلماذا جاء هذا القول؟ لقد جاء هذا القول الحكيم، لأنه قد يطرأ على بالك أن الله غيب فهو يعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1415 الغيب فقط ولا يعلم المشهد. لكن الله لا يحجبه مكان عن مكان أو زمان عن زمان. فإياك أن تعتقد ان الله غيب فلا يعرف إلا الغيب. إن الحق يعلم الغيب ويعلم ما برز إلى الوجود. وبعد ذلك يقول الحق: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1416 إن العمل في ذاته ظاهرة تحدث وتنتهي، فكيف يأتي الإنسان يوم القيامة، ويجد عمله؟ إنه لا شك سوف يجد جزاء عمله، إننا حتى الآن نقول ذلك، لكن حين يفتح الله على بعض العقول فتكتشف أسرارا من أسرار الكون فقد يكون تفسير هذه الآية فوق ما نقول، إنهم الآن يستطيعون تصوير شريط لعمل ما وبعد مدة يقول الإنسان للآخر: انظر ماذا فعلت وماذا قلت إن العمل المسجل بالشريط يكون حاضرا ومصورا، فإذا كنا نحن البشر نستطيع أن نفعل ذلك بوسائلنا فماذا عن وسائل الحق سبحانه وتعالى؟ لا بد أنها تفوقنا قدرة، إنه الحق يعلم كل شيء، في الصدر، أو في السماوات أو في الأرض: إن الحكم الإلهي يشمل الكون كله مصداقا لقول الحق: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1416 ويختم الحق هذه الآية بقوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إنه القادر الذي يعلم عنا الغفلة، فينبهنا دائما إلى كمال قدرته، كما قال في آية قبلها: {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ونحن مخلوقون لله، وهو القادر الأعلى، القادر على كل شيء ويأتي لكل منا بكتاب حسابه يوم الحساب: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] . إذن فمن تقف في عقله هذه المسألة، فليقل: {مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} يعني أنه يجد جزاء عمله. أما ما عملته النفس من السوء فهي تود أن يكون بينه وبينها أمد بعيد، أي غاية بعيدة، ويقول الإنسان لنفسه: «يا ليتها ما جاءت» . والحق سبحانه يقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُوفٌ بالعباد} إن الحق سبحانه يكرر التحذير لنستحضر قوته المطلقة، ولكنه أيضا رءوف بنا رحيم ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1417 ولنا أن نعرف أن كل «قل» إنما جاءت في القرآن كدليل على أن ما سيأتي من بعدها هو بلاغ من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ربه، بلاغ للأمر وللمأمور به، إن البعض ممن في قلوبهم زيغ يقولون: كان من الممكن أن يقول الرسول: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} لهؤلاء نقول: لو فعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك لكان قد أدى «المأمور به» ولم يؤد الأمر بتمامه. لماذا؟ لأن الأمر في «قل» . . والمأمور به {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} وكأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل بلاغ عن الله بدأ ب «قل» إنما يبلغ «الأمر» ويبلغ «المأمور به» مما يدل على أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1417 مبلغ عن الله في كل ما بلغه من الله. إن الذين يقولون: يحب أن تحذف «قل» من القرآن، وبدلا من أن نقول: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} فلننطقها: «الله أحد» . لهؤلاء نقول: إنكم تريدون أن يكون الرسول قد أدى «المأمور به» ولم يؤد «الأمر» . إن الحق يقول: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} هذه الآية تدل على ماذا؟ إنهم لا بد قد ادعوا أنهم يحبون الله، ولكنهم لم يتبعوا الله فيما جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكأنهم جعلوا الحب لله شيئا، واتباع التكليف شيئا آخر، والله سبحانه وتعالى له على خلقه إيجاد، وإمداد، وتلك نعمة، ولله على خلقه فضل التكليف؛ لأن التكليف إن عاد على المُكَلّف «بفتح الكاف وتشديد اللام» ولم يعد منه شيء على المُكَلِّف بكسر الكاف فهذه نعمة من المكلِّف. إن الحق سبحانه لا يحتاج إلى أحد ولا من أحد. إن الحق سبحانه عندما كلفنا إنما يريد لنا أن نتبع قانون صيانة حياة الإنسان. وقد ضربنا المثل - ولله المثل الاعلى، بالآلة المصنوعة بأيدي البشر، إن المهندس الذي صممها يضع لها قانون صيانة ما، ويضع قائمة تعليمات عن كيفية استعمالها؛ وهي تتلخص في «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» ، ويختار لهذه الآلة مكانا محددا، وأسلوبا منظما للاستخدام. إذن فوضع قائمة بالقوانين الخاصة بصيانه واستعمال آلة ما وطبعها في كراسة صغيرة، هي لفائدة المنتفع بالصنعة. هذا في مجال الصنعة البشرية فما بالنا بصنعة الله عَزَّ وَجَلَّ؟ إن لله إيجادا للإنسان، ولله إمدادا للإنسان، ولله تكليفا للإنسان، والحق قد جعل التكليف في خدمة الإيجاد والإمداد. إن الحق لو لم يعطنا نظام حركة الحياة في «افعل» و «لا تفعل» لفسد علينا الإيجاد والإمداد، إن من تمام نعمة الحق على الخلق أن أوجد التكليف، وإن كان العبد قد عرف قدر الله فأحبه للإيجاد والإمداد فليعرف العبد فضل ربه عليه أيضا من ناحية قبول التكليف، وأن يحب العبد ربه لأنه كلفة بالتكاليف الإيمانية. إنك قد تحب الله، ولكن عليك أن تلاحظ الفرق بين أن تحب أنت الله، وأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1418 يحبك الله. إن التكليف قد يبدو شاقا عليك فتهمل التكليف؛ لذلك نقول لك: لا يكفي أن تحب الله لنعمة إيجاده وإمداده؛ لأنك بذلك تكون أهملت نعمة تكلفيه التي تعود عليك بالخير، إن نعمة التكليف تعود عليك بكل الخير عندما تؤديها أيها الإنسان، فلا تهملها، ومن الجائز أن تجد عبادا يحبون الله لأنه أوجدهم وأمدهم بكل أسباب الحياة، ولكن حب الله لعبده يتوقف على أن يعرف العبد نعمته - سبحانه - في التكليف، إن الله يحب العبد الذي يعرف قيمة النعمة في التكليف. ونحن في مجالنا البشري نرى إنسانا يحب إنسان آخر، لا يبادله العاطفة، والمتنبي قال: أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون حبيبا غير محبوب إن المتنبي يستعيذ أن يحب واحدا لا يبادله الحب. فكأن الذين يدعون أنهم يحبون الله، لأنهم عبيد إحسانه إيجادا وإمدادا، ثم بعد ذلك يستنكفون، أولا يقدرون على حمل نفوسهم على أداء التكليف لهؤلاء نقول: أنتم قد منعتم شطر الحب لله، لأن الله لن يكلفكم لصالحه ولكنه كلفكم لصالحكم؛ لأن التكليف لا يقل عن الإيجاد والإمداد. لماذا؟ لأن التكليف فيه صلاح الإيجاد والإمداد، والحب - كما نعرف - هو ودادة القلب وعندما تقيس ودادة القلب بالنسبة لله، فإننا نرى آثارها، وعملها، من عفو، ورحمة، ورضا. وعندما تقيس ودادة القلب من العبد إلى الله فإنها تكون في الطاعة. إن الحب الذي هو ودادة القلب يقدر عليه كل إنسان، ولكن الحق يطلب من ودادة القلب ودادة القالب، وعلى الإنسان أن يبحث عن تكاليف الله ليقوم بها، طاعة منه وحبا لله، ليتلقى محبة الله له بآثارها، من عفو، ورحمة، ورضا. والحب المطلوب شرعا يختلف عن الحب بمفهومه الضيق، أقول ذلك لنعلم جميعا، أنه الحق سبحانه قائم بالقسط، فلا يكلف شططا ولا يكلف فوق الوسع أو فوق الطاقة. إن الحب المراد لله في التكليف هو الحب العقلي، ولا بد أن نفرق بين الحب العقلي والحب العاطفي، العاطفي لا يفنن له. لا أقول لك: «عليك أن تحب فلانا حبا عاطفيا» لأن ذلك الحب العاطفي لا قانون له. إن الإنسان يحب ابنه حتى ولو كان قليل الذكاء أو صاحب عاهة، يحبه بعاطفته، ويكره قليل الذكاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1419 بعقله. والإنسان حينما يرى ابن جاره أو حتى ابن عدوه، وهو متفوق، فإنه يحب ابن الجار أو ابن العدو بعقله، لكنه لا يحب ابن الجار أو العدو بعاطفته، ودليل ذلك أن الإنسان عندما توجد لديه أشياء جميلة فإنه يعطيها لابنه لا لابن الجيران، هناك - إذن - فرق بن حب العقل، وحب العاطفة. والتكليف دائما يقع في إطار المقدور عليه وهو حب العقل، ومع حب العقل قد يسأل الإنسان نفسه: ماذا تكون حياتي وكيف. . لو لم أعتنق هذا الدين؟ وماذا تكون الدنيا وكيف، لولا رحمة الله بنا عندما أكرمنا بهذا الدين؟ وأرسل لنا هذا الرسول الكريم؟ إن هذا حديث العقل وحب العقل. وقد يتسامى الحب فيصير بالعاطفة أيضا، لكن المكلف به هو حب العقل، وليس الحب العاطفي، ولذلك يجب أن نفطن إلى ما روى عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حينما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» . وقف سيدنا عمر عند هذه النقطة فقال: أمعقول أن يكون الحب لك أكثر من النفس؟ إنني أحبك أكثر من مالي، أو من ولدي، إنما من نفسي؟ ففي النفس منها شيء. وهكذا نرى صدق الأداء الإيماني من عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكررها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثانيا، وثالثا، فعرف سيدنا عمر أنه قد أصبحت تكليفا وعرف أنها لا بد أن تكون من الحب المقدور عليه، وهو حب العقل، وليس حب العاطفة. وهنا قال عمر: «الآن يارسول الله؟» فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الآن يا عمر، أي كمل إيمانك الآن، أي أن سيدنا عمر قد فهم المراد بهذا الحب وهو الحب العقلي. ونريد هنا أن نضرب مثلا حتى لا تقف هذه المسألة عقبة في القلوب أو العقول - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1420 نقول - ولله المثل الأعلى: إن الإنسان ينظر إلى الدواء المر طعما ويسأل نفسه هل أحبه أو لا؟ إن الإنسان يحب هذا الدواء بعقله، لا بعاطفته. إذن فحب العقل هو ودادة من تعلم أنه صالح لك ونافع لديك وإن كانت نفسك تعافه، وعندما تتضح لك حدود نفع بالشيء فأنت تحبه بعاطفتك إذاً فالمطلوب للتكليف الإيماني» الحب العقلي «، وبعد ذلك يتسامى ليكون» حبا عاطفيا «وهكذا يكون قول الحق: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} وهذا الحب ليس دعوى. إن الإنسان منا عندما يدعى أنه يحب إنسانا آخر، فكل ما يتصل به يكون محبوبا، ألم يقل الشاعر:» وكل ما يفعل المحبوب محبوب «؟ فإن كنتم تحبون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فاتبعوه بتنفيذ التكاليف الإيمانية، ولنلتفت إلى الفرق بين» اتبعني «و» استمع لي «. إن الاتباع لا يكون إلا في السلوك، فإن كانت تحب رسول الله فعليك أن ترى ماذا كان يفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأن تفعل مثله، أما إذا كنت تدعى هذا الحب، ولا تفعل مثلما فعل رسول الله صلى فهذا عدم صدق في الحب، إن دليل صدقكم في الحب المدعى منكم أن تتبعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإن اتبعنا رسول الله نكون قد أخذنا التكليف من الله على أنه نعمة، ونقلبها من الله مع ما فيها من مشقة علينا، فيحبنا الله؛ لأننا آثرنا تكليفه على المشقة في التكليف. إن فهم هذه الآية يقتضي أن نعرف أن الحق ينبهنا فكأنه يقول لنا: أنتم أحببتم الله للإيجاد والإمداد، وبعد ذلك وقفتم في التكليف لأنه ثقيل عليكم، وهنا نقول: «انظروا إلى التكليف أهو لصالح من كلف أم هو لصالح من تلقى التكليف؟» . إنه لصالح المكلَّف أي الذي تلقى التكاليف. وهكذا يجب أن نضم التكليف للنعم، فتصبح النعم هي «نعم الإيجاد» ، و «الإمداد» ، و «التكليف» ، فإن أحببت الله للإيجاد والإمداد، فهذا يقتضي أن تحبه أيضا للتكليف، ودليل صدق الحب هو قيام العبد بالتكليف، وما دمت أنت قد عبرت عن صدق عواطفك بحبك لله، فلا بد أن يحبك الله، وكل منا يعرف أن حبه لله لا يقدم ولا يؤخر، لكن حب الله لك يقدم ويؤخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1421 إن قول الحق سبحانه وتعالى فيما يعلّمه لرسول الله ليقول لهم: {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} أي أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المرسل من عند الله جاء بكل ما أنزله الله ولم يكتم شيئا مما أُمِرَ بتبليغه، فلا يستقيم أن يضع أحد تفريقا بين رسول الله وبين الله، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبلغ عن الله كل ما أنزل عليه. وبعد ذلك يقول الحق: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} إن مسألة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} هذه تتضمن ما تسميه القوانين البشرية بالأثر الرجعي، فمن لم يكن في باله هذا الأمر؛ وهو حب الله، واتباع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فعليه أن يعرف أن عليه مسئولية أن يبدأ في هذه المسألة فورا ويتبع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وينفذ التكليف الإيماني، وسيغفر له الله ما قد سبق، وأي ذنوب يغفرها الله هنا؟ إنها الذنوب التي فر منها بعض العباد عن اتباع الرسول، فجاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحكم فيها. وهكذا نعرف ونتيقن أن عدالة الله أنه سبحانه لن يعاقب أحدا على ذنب سابق ما دام قد قبل العبد أن ينفذ التكليف الإيماني، إن الذين أبلغهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يجب عليهم أن يفطنوا بعقولهم إلى ما أعلنه الرسول لهم، إن هذا الأمر لا يكون حجة إلا بعد أن صار بلاغا، وقد جاء البلاغ، ولذلك يغفر الله الذنوب السابقة على البلاغ، وبعد ذلك يقول الحق: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إننا نعلم أن المغفرة من الله والرحمة منه أيضا، وبعد ذلك يقول الحق: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1422 وقد قلت من قبل في مسألة الأمر بالطاعة، إنها جاءت في القرآن الكريم على ثلاثة ألوان: فمرة يقول الحق: {أَطِيعُواْ الله والرسول} . كما جاء بهذه الآية التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1422 نحن بصدد تناولها بخواطرنا الإيمانية. ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه لم يكرر أمر الطاعة، بل جعل الأمر واحدا، هو «أطيعوا» ، فإذا سألنا من المطاع؟ تكون الإجابة. الله والرسول معا. إذن فقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلاغا عن الله {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} يعني أن طاعة المؤمنين للرسول من طاعة الله. إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يأمرنا بطاعته، ولكنه يأمرنا بطاعة الله، ولذلك لم يكرر الحق أمر الطاعة، إنّ الحق هنا يوحد أمر الطاعة فيجعلها لله وللرسول معا، إنه يعطف على المطاع الأول وهو الله بمطاع ثانٍ هو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق في كتابه العزيز: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} [النور: 54] . إن الحق يورد أمر الطاعة ثلاث مرات، فمرة يكون أمر الطاعة لله، ومرة ثانية يكون أمر الطاعة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومرة ثالثة يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] . فما مسألة هذه الأوامر بالطاعة؟ إنها طاعة بألوان التكليف وأنواعها، إن الأحكام المطلوب من المؤمنين أن يطيعوا فيها، مرة يكون الأمر من الله قد جاء بها وأن يكون الرسول قد أكدها بقوله وسلوكه، إن المؤمن حين يطيع في هذا الأمر الواحد، فهو يطيع الله والرسول معاً، ومرة يأتي حكم من الله إجمالا، ويأتي الرسول ليفصله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1423 {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] . إن الواحد منا لم يكن يعرف كم صلاة في اليوم، ولا عدد الركعات في كل صلاة، ولا نعرف كيفيتها لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد فصل لنا الأمر في كل صلاة، إذن، فالمؤمن يطيع الله في الإجمال، ويطيع الرسول في التفصيل. إن علينا أن نلتفت إلى أن هنا طاعتين: الأولى: طاعة الله، والثانية: طاعة الرسول، أما في الأمر المتحد، فتكون الطاعة لله والرسول؛ لأنه أمر واحد. وأما الأمر الذي جاء من الله فيه تكليف إجمالي فقد ترك الله للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيانه، فالمؤمن يطيع الله في الأمر الإجمالي كأمر الصلاة، وإقامتها، ويطيع الرسول في تفصيل أمر الصلاة؛ وكيفيتها، وأحيانا يجيء الحكم بالتفويض الأعلى من الله للرسول، فيقول الله لرسوله ما معناه إنك أنت الذي تقرر في هذه الأمور، كما قال الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . لقد ترك الحق سبحانه للرسول أن يصدر التشريعات اللازمة «لاستقامة حياة المؤمنين» لقد أعطاه الحق سبحانه التفويض العام، وما دام سبحانه قد أعطى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التفويض العام فإن طاعة المؤمن تكون للرسول فيما يقوله الرسول وإن لم يقل الله به. إننا على سبيل المثال لا نجد في القرآن دليلا على أن صلاة الفجر ركعتان، لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي فصل لنا الصلاة فعرفنا أن الفجر ركعتان، والظهر أربع ركعات، والعصر مثل الظهر، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع ركعات. إن الدليل هو تفصيل الرسول، وقول الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1424 إنه دليل من القرآن الكريم. هكذا نعرف أن الأمر بالطاعة جاء بالقرآن على ألوان ثلاثة: اللون الأول: إن اتحد المطاع «الله والرسول» إن عطف الرسول هنا يكون على لفظ الجلالة الأعلى. اللون الثاني: هو طاعة الله في الأمر الإجمالي وطاعة الرسول في تفصيل هذا الأمر، فإن الحق يقول {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} اللون الثالث: وهو الذي لم يكن لله فيه حكم، ولكنه بالتفويض العام للرسول، بحكم قوله الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} هذه طاعة للرسول، ثم يأتي في أمر طاعة أولى الأمر فيقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] . إن الحق لم يورد طاعة أولي الأمر مندمجة في طاعة الله والرسول، لتكون طاعة واحدة. لا. إن الحق أورد طاعة أولي الأمر في الآية التي يفرق فيها بين طاعة الله وطاعة الرسول، ثم من بطن طاعة الرسول تكون طاعة أولي الأمر. لماذا؟ لأنه لا توجد طاعة ذاتية لأولي الأمر؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له الطاعة الذاتية. أما طاعة أولي الأمر فهي مستمدة من طاعة أولي الأمر لله ورسوله، ولا طاعة لأولي الأمر فيما لم يكن فيه طاعة لله وللرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إن الحق يقول: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} . إن الله يبلغ الرسول أن يبلغ هؤلاء الذين قالوا: إنهم يحبون الله، بالشروط التي يمكن أن يبادل بها الحق عباده الحب، وذلك حتى تتحقق الفائدة للبشر، لأن محبة الله تفوق ما يقدمه البشر من حب. إن اتباع الرسول وتنفيذ التكليف بالطاعة لله والرسول. ذلك هو أسلوب تعبير العباد عن حبهم لله وللرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أما إن تولوا، أي لم يستمعوا إليك يا محمد، ولم يتبعوك، فإن موقفهم - والعياذ بالله - ينتقل إلى الكفر؛ لأن الحق يقول عن الذين يتولون عن الله والرسول: {فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} . وليس هناك تفظيع أكثر من هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1425 إن كلمة «تولوا» توحي بأن الذين استمعوا إلى أوامر الحق قد نفروا وأعرضوا، فهم لم يأخذوا حكم الله، ثم منعهم الكسل من تنفيذه. لا. إنهم أعرضوا عن حكم الله - والعياذ بالله - ولذلك فقد قلت وما زلت أقول: فليحذر الذين يخالفون عن أوامر الله ألا يفرقوا بين أمر متقبل على أنه الحكم الحق وبين حمل النفس على اتباع الحكم وتنفيذه. إياك أيها المسلم أن تنكر حكما لا تستطيع أن تحمل نفسك عليه أو لا تقدر عليه. إنك إن أنكرت تنقل نفسك من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر والعياذ بالله. ولكن عليك أن تؤمن بالحكم، وقل: «إنه حكم الله وهو صواب ولكني لا أستطيع أن أقدر على نفسي» إن ذلك يجعل عدم تنفيذ الحكم معصية فقط. ويأتي الحق - سبحانه - بعد أن بيّن لنا أصول العقائد في قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] . وبعد أن بشر الحق المؤمنين بأنه سبحانه وتعالى يعطيهم الملك الإيماني وأنه الإله القادر، وطلاقة قدرته تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، وبعد أن رسم سبحانه طريق محبته، فإن كنتم قد أحببتم الله للإيجاد والإمداد، وتريدون أن يحبكم فعليكم بطاعة الله والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تنفيذ التكاليف. وبعد أن وضع الله سبحانه وتعالى المبادئ الإيمانية عقدية وتشريعية، بعد هذا وذاك يعطي لنا نماذج تطبيقية من سلوك الخلق، ذلك أن هناك فرقا بين أن توضع نظريات ويأتي الأمر للتطبيق فلا تجد من يطبق، إن الحق لم يكلف شططا ولا عبثا، إن الله يقول لنا: أنا كلفت بالتكاليف الإيمانية ومن الخلق أمثالكم من استطاع أن يسير عليها وأن ينفذها، لذلك يعرض الحق لنا النماذج التي توضح ذلك. لقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبعوثا إلى أمة أمية، وكان الإسلام جديدا عليهم، ولذلك يعرض الحق نماذج قديمة، وهذه النماذج تؤكد لنا أننا في دين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1426 الإسلام لا نجد تعصبا، لأن الدين الذي جاء من الله على آدم عليه السلام هو الدين الذي جاء به إبراهيم عليه السلام من عند الله وهو الدين الذي نزل إلى آل عمران وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام. إن الحق يعطي صفات التكريم لأهل أديان منسوبين إلى ما أنزله الله عليهم من منهج. وجاء الإسلام لينسخ بعضا مما جاء في تلك الرسالات السابقة ويضعها في منهج واحد باق إلى يوم القيامة، هو منهج الإسلام، إنه مطلق العظمة. ها هو ذا الحق يقول: {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1427 إنها عدالة القرآن الكريم، إنه الحق العادل الذي ينزل على الرسول بلاغا يذكر الأبناء بطهارة أصول الآباء، ومن الخسارة أن يصير الأبناء إلى ما هم عليه. {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ} وكلمة {اصطفى} تدل على اختيار مُرضٍ. ولنا أن نسأل: هل اصطفى الحق هؤلاء الرسل، آدم ونوحاً، وآل إبراهيم، وآل عمران فكانوا طائعين، أم علم الحق أزلا أنهم يكونون طائعين فاصطفاهم؟ إن الحق علمه أزلى، وعلمه ليس مرتبا على كل شيء. وساعة أن تأتي أنت بقانونك البشرى وتتفرس في إنسان ما، وتوليه أمرا، وينجح فيه، هنا تهنئ نفسك بأن فراستك كانت في محلها، بعلم الله واقتداره؟ إن الذين اصطفاهم الله هم الذين علم الله أزلا أنهم سيكونون طائعين، وقد يقول قائل: إنهم طائعون لله بالاصطفاء، لمثل هذا القائل نرد: إنهم طائعون بالنفس العامة ويكونون في مزيد من الطاعة بعد أن يأخذوا التكليف بالنفس الخاصة، إنهم طائعون من قبل أن يأخذوا أمور التكليف، ولو تركهم الحق للأمور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1427 العقلية لاهتدوا إلى طاعته، وعندما جاءهم الأمر التكليفي ويصطفيهم الله يكونون رسلا وحملة منهج سماوي. عندما يسمع الإنسان قول الحق: {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ} فقد يتساءل عن معناها، ذلك أن من اصطفاء الله لآدم تأتي إلى الذهن بمعنى «خصه» بنفسه أو أخذه صفوة من غيره، فكيف كان اصطفاء آدم، ولم يكن هناك أحد من قبله، أو معه لأنه الخلق الأول؟ إننا يمكن أن نعرف بالعقل العادي أن اصطفاء الله لنوح عليه السلام؛ كان اصطفاء من بشر موجودين، وكذلك اصطفاء إبراهيم خليل الرحمن وبقية الأنبياء. إذن، فكيف كان اصطفاء آدم؟ إن معنى {اصطفىءَادَمَ} - كما قلنا - تعني أن الله قد اختاره أو أن «المصطفى عليه» يأتي منه ومن ذريته. نعم وقد جاء المصطفى عليه من ذريته، وهذا المعنى يصلح، والمعنى السابق عليه يصلح أيضا. إن الحق يقول: {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً} ونحن نعلم أن سيدنا نوحاً عليه السلام واجه جماعة من الكافرين به، فأغرقهم الله في الطوفان، ونجا نوح ومن معه بأمر الله. {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] . إن الذين بقوا من بعد نوح عليه السلام كانوا مؤمنين، ثم تعرضوا للأغيار. وجاءت هذه الأغيار في أعقابهم، فنشأ كفر وإيمان، لماذا؟ لأن آدم عليه السلام حين خلقه الله وضع له التجربة التكليفية في الجنة، كان من الواجب أن ينقل ما علمه له الله لأبنائه. لقد نقل آدم لهم مسائل صيانة مادتهم وعلمهم كيف يأكلون، وكيف يشربون، وغير ذلك. وكان يجب أن تكون معهم القيم. إن آدم عليه السلام قد أدى ذلك، وعلم أبناءه كيفية صيانة مادتهم وعلمهم القيم أيضا، ولكن بمرور الزمان، ظل بعض من أبناء آدم يتخففون من التكاليف حتى اندثرت وذهبت. ومن رحمة الله بخلقه يجدد سبحانه وتعالى الرسالة ببعث رسول جديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1428 والرسالة الجديدة تعطي ما كان موجودا أولا، فيما يتعلق بالعقائد والأخبار، والأشياء التي لا تتغير، وتأتي الرسالة الجديدة بالأحكام المناسبة لزمن الرسالة. فإذا ما أمكن للبشر أن يعدلوا من سياسة البشر، يظل الأمر كما هو، فإن ارتكب واحد منكرا وضرب قومه على يده، استقام أمر الرسالة وبقيت هذه الأمة على الخير. لماذا؟ لأن مصافى اليقين في النفس الإنسانية موجودة، ونحن نراها ونلمسها. إن هناك واحدا تجد مصافي اليقين في ذاته، وقد لا يقدر على نفسه، فيرتكب المعصية، وتلومه نفسه، فيرجع عن المعصية. ومرة أخرى نجد إنسانا آخر لا يجد في نفسه مصافى اليقين، ولكنها موجودة في غيره، فنجد من يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، فإذا امتنعت المصافي الذاتية للإيمان، وكذلك امتنعت المصافي الإيمانية في المجتمع، فلا أمل هنالك، لذلك يجب أن يأتي رسول جديد، وينبه الناس بمعجزة ما. لقد شاءت إرادة الحق سبحانه ألا يأتي رسول آخر بعد سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي ذلك شهادة لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن الله أمنها على منهج الله، فإذا مُنِعت من أي نفس مصافيها الذاتية فستبقى مصافيها الاجتماعية، ولا بد أن يكون في أمة محمد ذلك؛ لأن امتناع ذلك كان يستدعي وجود نبيّ جديد. إن الله أمن أمة محمد على منهجه، ولذلك لم يأت نبيّ بعد سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد أمن الحق أمة محمد فلم يمنع فيها أبدا المصافي الذاتية أو الاجتماعية، ولذلك يأتي القول الحق: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله} [آل عمران: 110] . إن هذا توجيه لنا من الحق لنعرف أن المصافي الاجتماعية ستظل موجودة في أمة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إذن فبعد حدوث الغفلة من بعد نوح عليه السلام جاء الله باصطفاءات أخرى رحمة منه بالعالمين، ويقول الحق: {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين} . ونحن نقول على إبراهيم عليه السلام: «أبو الأنبياء» وأورد الحق نبأ بعض من أبناء آل إبراهيم، وهم آل عمران وأعطاهم ميزة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1429 وكلمة «عمران» هذه حين ترد في الإسلام فلنا أن نعرف أن هناك اثنين لهما الاسم نفسه، هناك «عمران» والد موسى وهارون عليهما السلام. وهناك «عمران» آخر. إن عمران والد موسى وهارون كان اسم أبيه «يصهر» وجده اسمه «فاهاث» ومن بعده «لاوى» ومن بعده «يعقوب» ، ومن بعده «إسحق» ، وبعده «إبراهيم» ، أما عمران الآخر، فهو والد مريم عليها السلام. وقد حدث إشكال عند عدد من الدارسين هو «أي العمرانين يقصده الله هنا؟» والذي زاد من حيرة هؤلاء العلماء هو وجود أخت لموسى وهارون عليهما السلام اسمها مريم، وكانت ابنة عمران والد موسى وهارون فكلتاهما اسمها مريم بنت عمران. وكانوا في ذلك الزمن يتفاءلون باسم «مريم» لأن معناه «العابدة» ، ولما اختلفوا لم يفطنوا إلى أن القرآن قد أبان وأوضح المعنى، وكان يجب أن يفهموا أن المقصود هنا ليس عمران والد موسى وهارون عليهما السلام، بل عمران والد مريم، ومنها عيسى عليه السلام، وعمران والد مريم هو ابن ماثان، وهو من نسل سليمان، وسليمان من داود، وداود من أوشى، وأوشى من يهوذا، ويهوذا من يعقوب، ويعقوب من إسحق. وكنا قديما أيام طلب العلم نضع لها ضبطا بالحرف، فنقول «عمعم سدئيّا» ومعناها. . عيسى ابن مريم، ومريم بنت عمران، وعمران ابن ماثان، وماثان من سليمان، من داود من أوشى وأوشى من يهوذا ويهوذا من يعقوب ويعقوب من إسحاق. لقد التبس الأمر على الكثير وقالوا: أي العمرانين الذي يقول الله في حقه هذا القول الكريم؟ ولهؤلاء نقول: إن مجيء اسم مريم عليها السلام من بعد ذلك يعني أنه عمران والد مريم، وأيضا يجب أن نفطن إلى أن الحق قد قال عن مريم: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1430 وزكريا عليه السلام هو ابن آذن، وآذن كان معاصرا لماثان. إن المراد هنا هو عمران والد مريم. هكذا حددنا أي العمرانين يقصد الحق بقوله: {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين} . وعندما تقول: اصطفيت كذا على كذا، فمعنى ذلك أنه كان من الممكن أن تصطفى واحدا من مجموعة على الآخرين، ولذلك نفهم المقصود ب «على العالمين» أي على عالمي زمانهم، إنهم قوم موجودون وقد اصطفى منهم واحدا، أما الذي سيولد من بعد ذلك فلا اصطفاء عليه، فلا اصطفاء على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق بعد ذلك: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1431 وحين يقول: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} فلنا أن نسأل: هل المقصود بذلك الأنساب أم الدين والقيم؟ ولنا أن نلتفت أن الحق قد علمنا في مسألة إبراهيم عليه السلام أن الأنساب بالدم واللحم عند الأنبياء لا اعتبار لها، وإنما الأنساب المعترف بها بالنسبة للأنبياء هي أنساب القيم والدين. وكنا قد عرضنا من قبل لما قاله الحق: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] . فردها الله عليه قائلا: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1431 لماذا؟ لأن الإمام هو المقتدى في الهدايات. إذن فالمسألة ليست وراثة بالدم. وهكذا علم سيدنا إبراهيم ذلك بأن النسب للأنبياء ليس بوراثة الدم، إذن فنحن نفهم قول الحق: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} على أنها ذرية في توارثها للقيم. ونحن نسمع في القرآن: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] . إن هذا النفاق ليس أمرا يتعلق بالنسب وإنما يتعلق بالقيم، إنها كلها أمور قيمية، وحين يقال: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي أن الله يعرف الأقوال وكذلك الأفعال والخبايا. وبعد ذلك يقول الحق: {إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1432 وعندما تقرأ «إذ» فلتعلم أنها ظرف ويُقدر لها في اللغة «اذكر» ، ويقال «إذ جئتك» أي «اذكر أني جئتك» . وعندما يقول الحق: {إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ} فبعض الناس من أهل الفتح والفهم يرون أن الحق سبحانه سميع عليم وقت أن قالت امرأة عمران: «رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي» ، وهم يحاولون أن يربطوا هذه الآية بما جاء قبلها، بأن الله سميع وعليم. ونقف عند قول امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} . إننا عندما نسمع كلمة «مُحَرَّراً» فمعناها أنه غير مملوك لأحد فإذا قلنا: «حررت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1432 العبد» يعني ينصرف دون قيد عليه. أو «حررت الكتاب» أصلحت ما فيه. إن تحرير أي أمر، هو إصلاح ما فيه من فساد أو إطلاقه من أي ارتباط أو قيد. أما قولها: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} هو مناجاة لله، فما الدافع إلى هذه المناجاة لله؟ إن امرأة عمران موجودة في بيئة ترى الناس تعتز بأولادها، وأولاد الناس - كما نعلم - يحكمون حركة الناس، والناس تحكم حركة أولادهم، ويكد الناس من أجل أن يكون الأبناء عزوة، وقرة عين، ويتقدم المجتمع بذلك التواصل المادي، ولم تعجب امرأة عمران بذلك، لقد أرادت ما في بطنها محررا من كل ذلك، إنها تريده محررا منها، وهي محررة منه. وهذا يعني أنها ترغب في أن يكون ما في بطنها غير مرتبط بشيء أو بحب أو برعاية. لماذا؟ لأن الإنسان مهما وصل إلى مرتبة اليقين، فإن المسائل التي تتصل بالناس وبه، تمر عليه، وتشغله، لذلك أرادت امرأة عمران أن يكون ما في بطنها محررا من كل ذلك، وقد يقال: إن امرأة عمران إنما تتحكم بهذا النذر في ذات إنسانية كذاتها، ونرد على ذلك بما يلي: لقد كانوا قديما عندما ينذرون ابنا للبيت المقدس فهذا النذر يستمر ما دامت لهم الولاية عليه، ويظل كما أرادوا إلى أن يبلغ سن الرشد، وعند بلوغ سن الرشد فإن للابن أن يختار بين أن يظل كما أراد والداه أو أن يحيا حياته كما يريد. إن بلوغ سن الرشد هو اعتراف بذاتية الإنسان في اتخاذ القرار المناسب لحياته. كانت امرأة عمران لا تريد مما في بطنها أن يكون قرة عين، أو أن يكون معها، إنها تريده محررا لخدمة البيت المقدس، وكان يستلزم ذلك في التصور البشري أن يكون المولود ذكرا؛ لأن الذي كان يقوم بخدمة البيت هم الذكران. ونحن نعرف أن كلمة «الولد» يطلق أيضا على البنت، ولكن الاستعمال الشائع، هو أن يطلق الناس كلمة «ولد» على الذكر. لكن معنى الولد لغويا هو المولود سواء أكان ذكرا أم أنثى. وعندما نسمع كلمة «نذر» فلنفهم أنها أمر أريد به الطاعة فوق تكليف المكلف من جنس ما كلّفه به الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1433 إن الله قد فرض علينا خمس صلوات، فإذا نذر إنسان أن يصلي عددا من الركعات فوق ذلك، فإن الإنسان يكون قد ألزم نفسه بأمر أكثر مما ألزمه به الله، وهو من جنس ما كلف الله وهو الصلاة. والله قد فرض صيام شهر رمضان، فإذا ما نذر إنسان أن يصوم يومي الاثنين والخميس أو صيام شهرين فالإنسان حر، ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض الله من تكاليف، وهو الصيام. والله فرض زكاة قدرها باثنين ونصف بالمائة، ولكن الإنسان قد ينذر فوق ذلك، كمقدار عشرة بالمائة أو حتى خمسين بالمائة. إن الإنسان حر، ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض الله من تكاليف، إن النذر هو زيادة عما كلف المكلف من جنس ما كلف سبحانه. وكلمة «نذرت» من ضمن معانيها هو أن امرأة عمران سيدة تقية وورعة ولم تكن مجبرة على النذر، ولكنها فعلت ذلك، وهو أمر زائد من أجل خدمة بيت الله. والنذر كما نعلم يعبر عن عشق العبد لتكاليف الله، فيلزم نفسه بالكثير من بعضها. ودعت امرأة عمران الله من بعد ذلك بقبول ذلك النذر فقالت: «فتقبل مني» . «والتقبل» هو أخذ الشيء برضا، لأنك قد تأخذ بكره، أو تأخذ على مضض، أما أن «تتقبل» فذلك يعني الأخذ بقبول وبرضا. واستجابة لهذا الدعاء جاء قول الحق: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران: 37] . ونلاحظ أن امرأة عمران قالت في أول ما قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} ، ولم تقل: «يا الله» وهذا لنعلم أن الرب هو المتولى التربية، فساعة ينادي «ربي» فالمفهوم فيها التربية. وساعة يُنادي ب «الله» فالمفهوم فيها التكليف. إن «الله» نداء للمعبود الذي يطاع فيما يكلف به، أما «رب» فهو المتولي التربية. قالت امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} . هذا هو الدعاء، وهكذا كانت الاستجابة: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1434 بِقَبُولٍ حَسَنٍ} وبعد ذلك تكلم الحق عن الأشياء التي تكون من جهة التربية. {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً. . وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} . كل ذلك متعلق بالتربية وبالربوبية، فساعة نادت امرأة عمران عرفت كيف تنادي ونذرت ما في بطنها. وبعد ذلك جاء الجواب من جنس ما دعت بقمة القبول وهو الأخذ برضا. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} . فالحسن هنا هو زيادة في الرضا، لأن كلمة «قبول» تعطينا معنى الأخذ بالرضا، وكلمة «حسن» توضح أن هناك زيادة في الرضا، وذلك مما يدل على أن الله قد أخذ ما قدمته امرأة عمران برضا، وبشيء حسن، وهذا دليل على أن الناس ستلمح في تربيتها شيئا فوق الرضا، إنه ليس قبولا عاديا، إنه قبول حسن. {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} . مما يدل على أن امرأة عمران كانت تقصد حين نذرت ما في بطنها، ألا تربي ما في بطنها إلى العمر الذي يستطيع فيه المولود أن يخدم في بيت الله. ولكنها نذرت ما في بطنها من اللحظة الأولى للميلاد. إنها لن تتنعم بالمولود، ولذلك قال الحق: {وكفلها زكريا} ، وزكريا هو زوج خالة السيدة مريم. وبعد دعاء امرأة عمران، يجيء القول الحكيم: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1435 لقد جاء هذا القول منها، لأنها كانت قد قالت إنها نذرت ما في بطنها محررا لخدمة البيت، وقولها: «محررا» تعني أنها أرادت ذكرا لخدمة البيت، لكن المولود جاء أنثى. فكأنها قد قالت: ان لم أُمَكّنْ من الوفاء بالنذر، فلأن قدرك سبق، لقد جاءت المولودة أنثى. لكن الحق يقول بعد ذلك: {والله أَعْلَمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1435 بِمَا وَضَعَتْ} . وهذا يعني أنها لا تريد إخبار الله، ولكنها تريد أن تظهر التحسر، لأن الغاية من نذرها لم تتحقق وبعد ذلك يقول الحق: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} . فهل هذا من كلامها، أم من كلام الله؟ قد قالت: {إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} وقال الله: {وليس الذكر كالأنثى} . إن الحق يقول لها: لا تظني أن الذكر الذي كنت تتمنينه سيصل إلى مرتبة هذه الأنثى، إن هذه الأنثى لها شأن عظيم. أو أن القول من تمام كلامها: {إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} ويكون قول الحق: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} هو جملة اعتراضية ويكون تمام كلامها {وليس الذكر كالأنثى} . أي أنها قالت: يارب إن الذكر ليس كالأنثى، إنها لا تصلح لخدمة البيت. وليأخذ المؤمن المعنى الذي يحبه، وسنجد أن المعنى الأول فيه إشراق أكثر، إنه تصور أن الحق قد قال: أنت تريدين ذكرا بمفهومك في الوفاء بالنذر، وليكون في خدمة البيت، ولقد وهبت لك المولود أنثى، ولكني سأعطي فيها آية أكبر من خدمة البيت، وأنا أريد بالآية التي سأعطيها لهذه الأنثى مساندة عقائد، لا مجرد خدمة رقعة تقام فيها شعائر. إنني سأجعل من هذه الآية مواصلة لمسيرة العقائد في الدنيا إلى أن تقوم الساعة. ولأنني أنا الخالق، سأوجد في هذه الأنثى آية لا توجد في غيرها، وهي آية تثبت طلاقة قدرة الحق، ولقد قلت من قبل: إن طلاقة القدرة تختلف عن القدرة العادية، إن القدرة تخلق بأسباب، ولكن من أين الأسباب؟ إن الحق هو خالق الأسباب أيضا. إذن فما دام الخالق للأسباب أراد خلقا بالأسباب فهذه إرادته. ولذلك أعطانا الحق القدرة على رؤية طلاقة قدرته؛ لأنها عقائد إيمانية، يجب أن تظل في بؤرة الشعور الإيماني، وعلى بال المؤمن دائما. لقد خلق الله بعضا من الخلق بالأسباب كما خلقنا نحن، وجمهرة الخلق عن طريق التناسل بين أب وأم، أما خلق الحق لآدم عليه السلام فقد خلقه بلا أسباب. ونحن نعلم أن الشيء الدائر بين اثنين له قسمة عقلية ومنطقية، فما دام هناك أب وأم، ذكر وأنثى، فسيجيء منهما تكاثر. . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1436 إن الحق يقول: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] . وعندما يجتمع الزوجان، فهذه هي الصورة الكاملة، وهذه الأولى في القسمة المنطقية والتصور العقلي، وإما أن ينعدم الزوجان فهذه هي الثانية في القسمة المنطقية والتصور العقلي. أو أن ينعدم الزوج الأول ويبقى الطرف الثاني، وهذه هي الثالثة في القسمة المنطقية والتصور العقلي، أو أن ينعدم الزوج الثاني ويبقى الطرف الأول، وهذه هي الرابعة في القسمة المنطقية والتصور العقلي. تلك إذن أربعة تصورات للقسمة العقلية. وجميعنا جاء من اجتماع العنصرين، الرجل والمرأة. أما آدم فقد خلقه الله بطلاقة قدرته ليكون السبب. وكذلك تم خلق حواء من آدم. وأخرج الحق من لقاء آدم وحواء نسلا. وهناك أنثى وهي مريم ويأتي منها المسيح عيسى ابن مريم بلا ذكر. وهذه هي الآية في العالمين، وتثبت قمة عقدية. فلا يقولن أحد: ذكراً، أو أنثى، لأن نية امرأة عمران في الطاعة أن يكون المولود ذكرا، وشاء قدر ربكم أن يكون أسمى من تقدير امرأة عمران في الطاعة، لذلك قال: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} . أي أن الذكر لن يصل إلى مرتبة هذه الأنثى. وقالت امرأة عمران: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} . إن امرأة عمران قالت ما يدل على شعورها، فحينما فات المولودة بأنوثتها أن تكون في خدمة بيت الله فقد تمنت امرأة عمران أن تكون المولودة طائعة، عابدة، فسمتها «مريم» لأن مريم في لغتهم - كما قلنا - معناها «العابدة» . وأول ما يعترض العبودية هو الشيطان. إنه هو الذي يجعل الإنسان يتمرد على العبودية. إن الإنسان يريد أن يصير عابدا، فيجيء الشيطان ليزين له المعصية. وأرادت إمرأة عمران أن تحمي ابنتها من نزغ الشيطان لأنها عرفت بتجربتها أن المعاصي كلها تأتي من نزغ الشيطان، وقد سمتها «مريم» حتى تصبح «عابدة لله» ، ولأن إمرأة عمران كانت تمتلك عقلية إيمانية حاضرة وتحمل المنهج التعبدي كله لذلك قالت: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1437 إن المستعاذ به هو الله، والمستعاذ منه هو الشيطان، وحينما يدخل الشيطان مع خلق الله في تزيين المعاصي، فهو يدخل مع المخلوق في عراك، ولكن الشيطان لا يستطيع أن يدخل مع ربه في عراك، ولذلك يقال عن الشيطان إنه إذا سمع ذكر الله فإنه يخنس أي يتراجع، ووصفه القرآن الكريم بأنه «الخنَّاس» ، إن الشيطان إنما ينفرد بالإنسان حين يكون الإنسان بعيدا عن الله، ولذلك فالحق يُعَلِّمُ الإنسان: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] . إن الشيطان يرتعد فرقا ورعشة من الإستعاذة بالله. وعندما يتكرر ارتعاد الشيطان بهذه الكلمة؛ فإنه يعرف أن هذا الإنسان العابد لن يحيد عن طاعة الله إلى المعاصي. وقد علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كيف يجيء الرجل امرأته، ومجيء الأهل هو مظنة لمولود قد يجيء، فيقول العبد: «اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني» (من دعاء الرسول) . إن من يقول هذا القول قبل أن يحدث التخلق «فلن يكون للشيطان ولاية أو قدرة على المولود الذي يأتي بإذن الله. ولذلك قالت إمرأة عمران: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} . والذرية قد يفهمها الناس على أنها النسل المتكاثر، ولكن كلمة» ذرية «تطلق على الواحد وعلى الاثنين، وعلى الثلاثة أو أكثر. والذرية هنا بالنسبة لمريم عليها السلام هي عيسى عليه السلام، وتنتهي المسألة. وبعد دعاء إمرأة عمران {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} يجيء القول الحق: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1438 وقد عرفنا القبول الحسن والإنبات الحسن، أما قوله الحق: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} فهذا يعني أن المسألة جاءت من أعلى، إنه الرب الذي تقبل بقبول حسن، وهو الذي أنبتها نباتا حسنا. إذن، فرعاية زكريا لها إنما جاءت بأمر من الله. والدليل على ما حدث عند كفالة مريم. لقد اجتمع كبار القوم رغبة في كفالتها وأجروا بينهم قرعة من أجل ذلك. وساعة تجد قرعة، أو إسهاما. فالناس تكون قد خرجت من مراداتها المختلفة إلى مراد الله. فعندما نختلف على شيء فإننا نجري قرعة، ويخصص سهم لكل مشترك فيها، ونرى بعد ذلك من الذي يخرج سهمه، ويلجأ الناس لهذا الأمر؛ ليمنعوا هوى البشر عن التدخل في الاختيار، ويصبح الأمر خارجا عن مراد البشر إلى مراد الله سبحانه وتعالى، وهذا ما حدث عند كفالة زكريا لمريم. ولذلك فالحق يقول لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . إذن فالكفالة لمريم أخذت لها ضجة، وهذا دليل على أنهم اتفقوا على إجراء قرعة بالنسبة لكفالتها، ولا يمكن أن يكونوا قد ذهبوا إلى هذه القرعة إلا إذا كان قد حدث تنازع بينهم، عن أيهم يكفل مريم، ومن فضل الله أن زكريا عليه السلام كان متزوجا من «إشاع» «أخت» «حنة» وهي أم مريم، فهو زوج خالتها. وكلمة «أقلامهم» قال فيها المفسرون: إنها القداح التي كانوا يصنعونها قديما، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة، فرموها في البحر، فمن طفا قلمه لم يأخذ رعاية مريم، ومن غرق قلمه في البحر فهو الذي فاز بكفالة مريم. إذن فهم قد خرجوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1439 عن مراداتهم إلى مراد الله. والخروج عن المرادات، والخروج عن الأهواء بجسم ليس له اختيار - كقداح القرعة - لا يوجد في النفس غضاضة. لكن لو كان هناك من سيأخذ رعاية مريم بالقوة والغضب فلا بد أن يجد نفوس الآخرين وقد امتلأت بالمرارة أو الغصب. ولذلك فقد كان سائدا في ذلك العصر عملية إجراء السهام إذا ما خافوا أن يقع الظلم على أحد أو أن يساء الظن بأحد، وهناك قصة سيدنا يونس عندما قاربت السفينة على الغرق، وكان لا بد لإنقاذها أن ينزل واحد إلى البحر، وجاء القول الحكيم: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 139 - 144] . كان لا بد أن ينزل واحد من تلك السفينة، لذلك تم إجراء قرعة بالسهام حتى لا تقوم معركة بين الموجودين على ظهر السفينة، وحتى لا تكون الغلبة للأقوياء، ولكن القرعة حمت الناس من ظلم بعضهم بعضا. قالوا: لنجر قرعة السهام، فمن يخرج سهمه فهو الذي يلقى به، وكان على يونس عليه السلام أن ينزل إلى اليم فيلتقمه الحوت. ولأنه من المسبحين فإن الله ينقذه. لقد قبل يونس عليه السلام اختيار الله ولم ينس تسبيح الله فكان في ذلك الإنقاذ له. وهكذا نقرأ قول الله لنفهم أن كفالة زكريا كانت باختيار الله. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} . وكلمة «كفلها» أي تولى كل مهمة تربيتها، هذه هي الكفالة، ونحن نعرف أن الكفيل في عرفنا هو الضامن، والضامن هو من يسد القرض عندما يعجز الإنسان عن السداد، وقوله الحق: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} يعطينا المعنى الواضح بأن زكريا عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1440 السلام هو الذي قام برعاية شئون مريم. ويتابع الحق الكريم قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} إنه لم يدخل مرة واحدة، بل دخل عليها المحراب مرات متعددة. وكان زكريا عليه السلام كلما دخل على مريم يجد عندها الرزق، ولذلك كان لا بد أن يتساءل عن مصدر هذا الرزق، ولا بد أن يكون تساؤله معبرا عن الدهشة، لذلك يجيء القول الحق على لسان زكريا: {أنى لَكِ هذا} . وساعة أن تسمع {أنى لَكِ هذا؟} فهذا يدل على أنه قام بعمل محابس على المكان الذي توجد به مريم، وإلا لظن أن هناك أحدا قد دخل على مريم، وكما يقولون: فإن زكريا كان يقفل على مريم الأبواب. وإلا لو كانت الأبواب غير مغلقة لظن أن هناك من دخل وأحضر لها تلك الألوان المتعددة من الرزق. والرزق هو ما ينتفع به - بالبناء للمجهول - وعندما يقول زكريا عليه السلام: {أنى لَكِ هذا} . فلنا أن نتذكر ما قلناه سابقا من أن أي إنسان وكله الله على جماعة ويرى عندهم ما هو أزيد من الطاقة أو حدود الداخل، فلا بد أن يسأل كُلاًّ منهم: من أين لك هذا؟ ذلك أن فساد البيوت والمجتمعات إنما يأتي من عدم الإهتمام بالسؤال وضرورة الحصول على إجابة على السؤال المحدد: من أين لك هذا؟ إن الذي يدخل بيته ويجد ابنته ترتدي فستانا مرتفع الثمن ويفوق طاقة الأسرة، أو يجد ابنه قد اشترى شيئا ليس في طاقة الأسرة أن تشتريه، هنا يجب أن يتوقف الأب أو الولي ليسأل: من أين لك هذا؟ إن في ذلك حماية لأخلاق الأسرة من الإنهيار أو التحلل. فلو فطن كل واحد أن يسأل أهله ومن يدخلون في كفالته - «من أين لك هذا؟» لعرف كل تفاصيل حركتهم، لكن لو ترك الحبل على الغارب لفسد الأمر. وقول زكريا: «أنّى لك هذا؟» هو سؤال محدد عن مصدر هذا الرزق، ولننظر إلى إجابتها: {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} ثم لا تدع البديهة الإيمانية عند سيدنا زكريا دون أن تذكره أنها لا تنسى حقيقة واضحة في بؤرة شعور كل مؤمن: {إِنَّ الله يَرْزُقُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1441 مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وأثارت هذه المسألة في نفس زكريا نوازع شتى؛ إنها مسألة غير عادية، لقد أخبرته مريم أن الرزق الذي عندها هو من عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب، إنه الإله هو القادر على أن يقول: «كن» فيكون. وهنا ذكر زكريا نفسه، وكأن نفسه قد حدثته: «إذا كانت للقدرة طلاقة في أن تفعل بلا أسباب، وتعطي من غير حساب، فأنا أريد ولدا يخلفني، رغم أنني على كبر ورغم بلوغي من السن عتيّا، وامرأتي عاقر. إن مسألة الرزق الذي وجده زكريا كلما دخل على مريم هي التي نبهت زكريا إلى ما يتمنى ويرغب. ونحن نعلم أن المعلومات التي تمر على خاطر النفس البشرية كثيرة، ولكن لا يستقر في بؤرة الشعور. ومعلومات في حاشية الشعور يتم استدعاؤها عند اللزوم، فلما وجد زكريا الرزق المنوع عند مريم وقالت له عن مصدره: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . هنا تساءل زكريا: كيف فاتني هذا الأمر؟ ولذلك يقول الحق عن زكريا: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1442 إنها ساعة أن قالت له: إن الرزق من عند الله، وأنه الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب، هنا أيقظت فيه القضية الإيمانية فجاءت أمنيته إلى بؤرة الشعور، فقال زكريا لنفسه: فلنطلب من ربنا أن يرزقنا ما نرجوه لأنفسنا، وما دام قد قال هذا القول فلا بد أنه قد صدق مريم في قضيتها، بأن هذا الرزق الذي يأتيها هو من عند الله، ودليل آخر في التصديق هو أنه لا بد وقد رأى أن الألوان المتعددة من الرزق التي توجد عند مريم ليست في بيئته، أو ليست في أوانها؛ وكل ذلك في المحراب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1442 ونحن نعرف أن المحراب كلمة يراد بها بيت العبادة. يقول الحق: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] . أو «المحراب» وهو مكان الإمام في المسجد، أو هو حجرة يصعد إليها بسلم، كالمبلغات التي تقام في بعض المساجد. وما دامت مريم قد أخبرت زكريا وهي في المحراب بأن الرزق من عند الله، وأيقظت بذلك تلك القضية الإيمانية في بؤرة شعوره، فماذا يكون تصرفه؟ هنا دعا زكريا أثناء وجوده في المحراب. {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء} إنه هنا يطلب الولد. ولكن لا بد لنا أن نلاحظ ما يلي: - هل كان طلبه للولد لما يطلبه الناس العاديون من أن يكون زينة للحياة أو «عزوة» أو ذكرا؟ لا، إنه يطلب الذرية الطيبة، وذكر زكريا الذرية الطيبة تفيد معرفته أن هنالك ذرية غير طيبة. وفي قول زكريا الذي أورده الحق: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] . أي أن يكون دعاء لإرث النبوة وإرث المناهج وإرث القيم، هكذا طلب زكريا الولد. لقد طلبه لمهام كبيرة، وقول زكريا: «رب هب» تعني أنه استعطاء شيء بلا مقابل، إنه يعترف. أنا ليس لي المؤهلات التي تجعل لي ولدا؛ لأني كبير السن وامرأتي عاقر، إذن فعطاؤك يارب لي هو هبة وليس حقا، وحتى الذي يملك الاستعداد لا يكون هذا الأمر حقا له، فلا بد أن يعرف أن عطاء الله له يظل هبة، فإياك أن تظن أن اكتمال الأسباب والشباب هي التي تعطي الذرية، إن الحق سبحانه ينبهنا ألاّ نقع في خديعة وغش أنفسنا بالأسباب. {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1443 لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50] . إن في ذلك لفتا واضحا وتحذيراً محدداً ألا نفتتن بالأسباب، إذن فلكل عطاء من الله هو هبة، والأسباب لا تعطي أحدا ما يريد. إن زكريا يقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ} وساعة أن تقول من: «لدنك» فهو يعني «هب لي من وراء أسبابك» . لماذا؟ لأن الكل من الله. ولكن هناك فرقا بين عطاء الله بسبب، كأن يذهب إنسان ليتعلم العلم ويمكث عشرين عاما ليتعلم، وهناك إنسان يفيض الله عليه بموهبة ما، ولذلك يقول أهل الإشراقات: إنه علم لدنى، أي من غير تعب، وساعة أن نسمع «من لدن» أي انعزلت الأسباب، كان دعاء زكريا هو {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ} وكلمة «هب» توضح ما جاء في سورة مريم من قول زكريا: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} [مريم: 8] . إن «هب» هي التي توضح لنا هذه المعاني؛ هذا كان دعاء زكريا: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء} فهل المراد أن يسمع الله الدعاء؟ أم أن يجيب الله الدعاء؟ إنه يضع كل أمله في الله، وكأنه يقول: إنك يارب من فور أن تسمعني ستجيبني إلى طلبي بطلاقة قدرتك. لماذا؟ لأنك يارب تعلم صدق نيتي في أنني أريد الغلام لا لشيء من أمور كقرة العين، والذكر، والعز، وغيرها، إنما أريد الولد ليكون وارثا لي في حمل منهجك في الأرض، وبعد ذلك يقول الحق: {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1444 هل كل الملائكة اجتمعوا أو نادوا زكريا؟ لا، لأن جبريل عليه السلام الذي ناداه. ولماذا جاء القول الحق هنا بأن الملائكة هي التي نادته؟ لقد جاء هذا القول الحق لنفطن إلى شيء هو، أن الصوت في الحدث - كالإنسان - له جهة يأتي منها، أما الصوت القادم من الملأ الأعلى فلا يعرف الإنسان من أين يأتيه، إن الإنسان يسمعه وكأنه يأتي من كل الجهات، وكأن هناك ملكا في كل مكان. والعصر الحديث الذي نعيشه قد ارتقى في الصوتيات ووصل لدرجة أن الإنسان أصبح قادرا على جعل المؤثر الصوتي يحيط بالإنسان من جهات متعددة، إذن فقوله الحق: {فَنَادَتْهُ الملائكة} فهذا يعني أن الصوت قد جاء لزكريا من جميع الجهات. {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين} [آل عمران: 39] لقد نادته الملائكة في أورع لقاءاته مع ربه أو هو حينما دعا أخذ ما علمه الله للأنبياء إذا حزبهم أمر قاموا إلى الصلاة. أليس طلبه من الله؟ إذن فليقف بين يدي الله. وليجربها كل واحد منا عندما يصعب عليك أي شيء، وتتأزم الأمور، وتمتنع الأسباب، فليقم ويتوضأ وضوءا جديدا ويبدأه بالنية حتى ولو كان متوضئا. وليقف بين يدي الله، وليقل - إنه أمر يارب عزّ عليّ في أسبابك، وليصل بخشوع، وأنا أجزم بأن الإنسان ما إن يسلم من هذه الصلاة إلاّ ويكون الفرج قد جاء. ألم نتلق عن رسول الله هذا السلوك البديع؟ إنه كلما حزبه أمر قام إلى الصلاة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1445 ومعنى حزبه أمر، أي أن أسبابه ضاقت، لذلك يذهب إلى الصلاة لخالق الأسباب، إنها ذهاب إلى المسبب. وبدلا من أن تلف وتدور حول نفسك، اذهب إلى الله من أقصر الطرق وهو الصلاة، لماذا تتعب نفسك أيها العبد ولك رب حكيم؟ وقديما قلنا: إن من له أب لا يحمل هما، والذي له رب أليس أولى بالإطمئنان؟ إن زكريا قد دعا الله في الأمر الذي حزبه، وبمجرد أن دعا في الأمر الذي حزبه، قام إلى الصلاة، فنادته الملائكة، وهو قائم يصلي، إن الملائكة لم تنتظر إلى أن ينتهي من صلاته، {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} . والبشارة هي إخبار بخير زمنه لم يأت، فإذا كانت البشارة بخير زمنه لم يأت فلنر من الذي يخبر بالبشارة؟ أمن يقدر على إيجاده أم من لا يقدر؟ فإذا كان الله هو الذي يبشر، فهو الذي يقدر، لذلك فالمبشر به قادم لا محالة، {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى} لقد قال له الله: سأعطيك. وزيادة على العطاء سماه الله ب {يحيى} وفوق كل ذلك: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله} . ولننظر إلى دقة الحق حين يقول: {بيحيى مُصَدِّقاً} . هذا دليل على أنه سيعيش بمنهج الله وما يعرفه من الطاعات سيسير في هذا الطريق وهو مصدق، وهو سيأتي بكلمة من الله، أو هو يأتي ليصدق بكلمة من الله، لأن سيدنا يحيى هو أول من آمن برسالة عيسى عليه السلام. وهو موصوف بالقول الحق: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين} . أي ممنوعا عن كل ما حُرم عليه، أو ممنوعا عن قمة الغرائز وهي الشهوة، وهو نبيّ، أي قدوة في اتباع الرسول الذي يجيء في عصره، لقد دعا زكريا، وقام ليصلي، وتلقى البشارة بيحيى، وهنا ارتجت الأمور على بشرية زكريا، ويصوره الحق بقوله: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1446 إن زكريا - وهو الطالب - يصيبه التعجب من الاستجابة فيتساءل. كيف يكون ذلك؟ والحق يورد ذلك ليعلمنا أن النفس البشرية دائما تكون في دائرات التلوين، وليست في دائرات التمكين، وذلك ليعطي الله لخلقه الذين لا يهتدون إلى الصراط المستقيم الأسوة في أنه إذا ما حدث له ابتلاء فعليه الرجوع إلى الله، فيقول زكريا: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} . إن بلوغ الكبر ليس دليلا على أنه عاجز عن الإنجاب لأنه يكون كبير العمر، وقادرا على إخصاب امرأة، ذلك أن الإخصاب بالنسبة لبعض الرجال ليس أمرا عسيرا مهما بلغ من العمر إن لم يكن عاقرا، ولكن المرأة هي العنصر المهم، فإن كانت عاقرا، فذلك قمة العجز في الأسباب. ولو أن زكريا قال فقط: {وامرأتي عَاقِرٌ} لكان أمرا غير مستحب بالنسبة لزوجته، ولكان معنى ذلك أنه نسب لنفسه الصلاحية وهي غير القادرة. إنه أدب النبوة وهو أدب عال؛ لذلك أوردها من أولها: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} ولنر دقة القول في: {بَلَغَنِي الكبر} ‘ إنه لم يقل: «بلغت الكبر» بل يقول: إن الكبر هو الذي جاءني ولم أجيء أنا إلى الكبر؛ لأن بلوغ الشيء يعني أن هناك إحساسا ورغبة في أن تذهب إليه، وذكر زكريا {وامرأتي عَاقِرٌ} هو تضخيم لطلاقة القدرة عند من يستمع للقصة، لقد أورد كل الخوالج البشرية، وبعد ذلك يأتي القول الفصل: {قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} إنها طلاقة القدرة التي فوق الأسباب لأنها خالقة الأسباب. ويقول زكريا: {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1447 إن زكريا يطلب علامة على أن القول قد انتقل إلى فعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1447 {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 8 - 9] . لقد كان هذا القول تأكيدا لا شك فيه، فبمجرد أن قال الرب فقد انتهى الأمر. فماذا يريد زكريا من بعد ذلك؟ إنه يطلب آية، أي علامة على أن يحيى قد تم إيجاده في رحم أمه، وما دامت المرأة قد كبرت فهي قد انقطع عنها الحيض، ولا بد أنه عرف الآية لأنه يعرف مسبقا أنها عاقر. لكن زكريا لم يرغب أن يفوت على نفسه لحظة من لحظات هبات الله عليه، وما دام الحمل قد حدث فهنا كانت استغاثة زكريا، لا تتركني يارب إلى أن أفهم بالعلامات الظاهرة المحسة، لأنني أريد أن أعيش من أول نعمتك علىّ في إطار الشكر لك على النعمة، فبمجرد أن يحدث الإخصاب لا بد أن أحيا في نطاق الشكر؛ لأن النعمة قد تأتي وأنا غير شاكر. إنه يطلب آية ليعيش في نطاق الشكر، إنه لم يطلب آية لأنه يشك - معاذ الله - في قدرة الله، ولكن لأنه لا يريد أن يفوت على نفسه لحظة النعمة من أول وجودها إلا ومعها الشكر عليها، والذي يعطينا هذا المعنى هو القول الحق: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار} . لا بد أن معناها أنه يرغب في الكلام فلا يستطيع. إن هناك فارقا بين أن يقدر على الكلام ولا يتكلم، وبين ألا يقدر على الكلام. وما دامت الآية هبة من الله. فالحق هو الذي قال له: سأمنعك من أن تتكلم، فساعة أن تجد نفسك غير قادر على الكلام فاعرف أنها العلامة، وستعرف أن تتكلم مع الناس رمزا، أي بالإشارة، وحتى تعرف أن الآية قادمة من الله، وأن الله علم عن عبده أنه لا يريد أن تمر عليه لحظة مع نعمة الله بدون شكر الله عليها، فإننا نعلم أن الله سينطقه. . {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار} . لقد أراد زكريا أن يعيش من أول لحظة مع نعمة المنعم شكرا، وجعل كل وقته ذكرا، فلم ينشغل بالناس أو بكلام الناس، وذكر الرب كثيرا هو ما علمه - سبحانه - عن زكريا عندما طلب الآية ليصحبها دائما بشكر الله عليها، إن قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1448 {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً} تفيد أن زكريا قادر على الذكر وغير قادر على كلام الناس، لذلك لا يريد الله أن يشغله بكلام الناس، وكأن الله يريد أن يقول له: ما دمت قد أردت أن تعيش مع النعمة شكرا فسأجعلك غير قادر على الكلام مع الناس لكنك قادر على الذكر. والذكر مطلقا هو ذكر الله بآلائه وعظمته وقدرته وصفات الكمال له، والتسبيح هو التنزيه لله، لأن ما فعله الله لا يمكن أن يحدث من سواه، فسبحان الله، معناها تنزيه لله، لأنه القادر على أن يفعل ما لا تفعله الأسباب ولا يقدر أحد أن يصنعه. . إنه يريد أن يشكر الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب. تلك اللفتة. . التي جاءت من قبل من مريم لزكريا. وزكريا كما نعلم هو الكفيل لها، فكونها تنطق بهذه العبارة دلالة على أن الله مهد لها بالرزق، يجيئها من غير زكريا، بأنها ستأتي بشيء من غير أسباب. وكأن التجربة قد أراد الله أن تكون من ذاتها لذاتها؛ لأنها ستتعرض لشيء يتعلق بعرض المرأة، فلا بد أن تعلم مسبقا أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وبدون أسباب. فإن جاءت بولد بدون سبب من أبوة فلتعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فلما سمع زكريا منها ذلك قال: ما دام الله يرزق من غير حساب ويأتي بالأشياء بلا أسباب فأنا قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتي عاقر، فلماذا لا أطلب من ربي أن يهبني غلاما؟ إذن فمقولة مريم: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قد لفتت زكريا، ونبهت إيمانا موجودا في أعماقه وحاشية شعوره، ولا نقول أوجدت إيمانا جديدا لزكريا بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، ولكنها أخرجت القضية الإيمانية من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، فقال زكريا: ما دام الأمر كذلك فأنا أسأل الله أن يهبني غلاما. . وقول زكريا: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} دل على أنه وزوجته لا يملكان اكتساب الأبوة والأمومة ولذلك طلب الهبة من الله. والهبة شيء بدون مقابل. فلما سأل الله ذلك استجاب الله له، وقال له سبحانه: سأهبك غلاما بدون أسباب من خصوبتك في التلقيح أو خصوبة الزوجة في الحمل، وما دامت المسألة ستكون بلا أسباب وأنا - الخالق - سأتولى الإيجاب ب «كن» ولمعنى سام شريف سأمنحكم شيئا آخر تقومون به أنتم معشر الآباء والأمهات - عادة - إنه تسمية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1449 المولود، فأفاض الحق عليهم نعمة أخرى وهي تسمية المولود بعد أن وهبه لهما. . هنا وقفة عند الهبة بالاسم. {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين} [آل عمران: 39] . حين يولد للناس ولد فهم يسمونه، فالتسمية أمر شائع في عادات الناس. ولكن من يهمهم أمر الوليد حينما يقبلون على تسميته؛ فهم يحاولون أن يتفاءلوا؛ فيسموه اسما يرجون أن يتحقق في المسمى، فيسمونه «سعيدا» أملا في أن يكون سعيدا، أو يسمونه «فضلا» أو يسمونه «كريما» . إنهم يأتون بالاسم الذي يحبون أن يجدوا وليدهم على صفته وذلك هو الأمل منهم ولكن أتأتي المقادير على وفق الآمال؟ قد يسمونه سعيدا، ولا يكون سعيدا. ويسمونه فضلا، ولا يكون فضلا. ويسمونه عزا، ولا يكون عزا. ولكن ماذا يحدث حين يسمى الله سبحانه وتعالى؟ لا بد أن يختلف الموقف تماما، فإذا قال اسمه {يحيى} دل على أنه سيعيش. وقديما قال الشاعر حينما تفاءل بتسمية ابنه يحيى: فسميته يحيا ليحيا ... فلم يكن لرد قضاء الله فيه سبيل كان الشاعر قد سمى ابنه يحيى أملا أن يحيا، ولكن الله لم يرد ذلك، فمات الابن. لماذا؟ لأن المسمىِّ من البشر ليس هو الذي يُحْيِي، إن المسمى إنسان قدرته عاجزة، ولكن «المحيى» له طلاقة القدرة، فحين يسمى من له طلاقة القدرة على إرادة أن يحيا فلا بد من أن يحيا حياة متميزة؟ وحتى لا تفهم أن الحياة التي أشار الله إليها بقوله: «اسمه يحيى» بأنها الحياة المعروفة للبشر عادة - لأن الرجل حينما يسمى ابنه «يحيى» يأمل أن يحيا الابن متوسط الأعمار، كما يحيا الناس ستين عاما، أو سبعين، أو أي عدد من السنوات مكتوبة له في الأزل. لكن الله حينما يسمى «يحيى» فانه لا يأخذ «يحيى» على قدر ما يأخذه الناس، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1450 بل لا بد أن يعطيه أطول من حدود أعمار الناس، ويهيء له الحق من خصومه ومن أعدائه من يقتله ليكون شهيدا، وهو بالشهادة يصير حيا، فكأنه يحيا دائما، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. وهكذا أراد الله ليحيى عليه السلام أن يحيا كحياة الناس، ويحيا أطول من حياة الناس إلى أن تقوم الساعة، وأيضا نأخذ ملحظا في أن زكريا حينما بُشِّر بأن الله سيهبه غلاما ويسميه يحيى، نجده قد استقبلها بالعجب. كيف يستقبل زكريا مسألة الرزق بالولد متعجبا مع أنه رآها في الرزق الذي كان يجده عند مريم؟ {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . ولنا أن نقول: أكنت تحب أن يمر مثل هذا الأمر الخارق للعادة والخارق للناموس على سيدنا زكريا كأنه أمر عادي لا يندهش له ولا يتعجب؟ لا، لا بد أن يندهش ويتعجب لذلك قال: {رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} . فكأن الدهشة لفتته إلى أنه ستأتي آية عجيبة، ولو لم تكن تلك الدهشة لكانت المسألة رتيبة وكأنها أمر عادي. إذن، فهو يلفتنا إلى الأمر العجيب الذي خصه الله به. وأيضا جاءت المسألة على خلاف ناموس التكاثر والإنجاب والنسل: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} . إن المسألة كلها تفضل وهبة من الله. فلما جاءته البشارة، لم يقل الله له: إنني سأهبك الغلام واسمه يحيى من امرأتك هذه، أو وأنت على حالتك هذه. فيتشكك ويتردد ويقول: أترى يأتي الغلام الذي اسمه «يحيى» منى وأنا على هذه الحالة، امرأتي عاقر وأنا قد بلغت هذا الكبر، أو ربما ردنا الله شبابا حتى نستطيع الإنجاب، أو تأتي امرأة أخرى فأتزوجها وأنجب. إذن فالعجب في الهيئة التي سيصير عليها الإنجاب فقوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقد بلغني الكبر وامرأتي عَاقِراً} هذا التساؤل من زكريا يهدف به إلى معرفة الهيئة أو الحالة التي سيأتي بها الإنجاب، لأن الإنجاب يأتي على حالات متعددة. فلما أكد الله ذلك قال: «كذلك» ماذا تعني كذلك؟ إنها تعني أن الإنجاب سيأتي منك ومن زوجك وأنتما على حالكما، أنت قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتك عاقر. لأن العجيبة تتحقق بذلك، أكان من المعقول أن يردهما الله شبابا حتى يساعداه أن يهبهما الولد؟ لا. لذلك قال الحق: {كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} . أي كما أنتما، وعلى حالتكما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1451 لقد جعل الحق الآية ألا يكلم زكريا الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة، وقد يكون عدم الكلام في نظر الناس مرضا لا، إنه ليس كذلك، لأن الحق يقول له: {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار} إن الحق يجعل زكريا قادرا على التسبيح، وغير قادر على الكلام. وهذه قدرة أخرى من طلاقة قدرة الله، إنه اللسان الواحد، غير القادر على الكلام، ولو حاول أن يتكلم لما استطاع، ولكن هذا اللسان نفسه - أيضا - يصبح قادرا فقط على التسبيح، وذكر الله بالعشيّ والإبكار، ذكر الله باللسان وسيسمعه الناس، وذلك بيان لطلاقة القدرة. وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى مسألة أخرى تتعلق بمريم، لأن مريم هي الأصل في الكلام، فالرزق الذي كان يأتيها من الله بغير حساب هو الذي نبه سيدنا زكريا إلى طلب الولد، وجاء الحق لنا بقصة زكريا والولد، ثم عاد إلى قصة مريم: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1452 {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة} المراد بها جبريل عليه السلام، والسبب في أن الحق يورد ذلك ب {قَالَتِ الملائكة} لأن كلام المتكلم - أي الإنسان - له - كما قلنا - زاوية انطلاق يأتي من جهتها الصوت. وتستطيع أن تتأكد من ذلك عندما يجيء لك صوت، فأنت تجد ميل أذنك لجهة مصدر الصوت، فإن جاء الصوت من ناحية أذنك اليمنى فأنت تلتفت وتميل إلى يمينك، وإذا جاءك الصوت من شمالك تلتفت إلى الشمال. لكن المتكلم هنا هو جبريل عليه السلام، ويأتي صوته من كل جهة حتى يصير الأمر عجيبا، لهذا جاء الكلام منسوبا إلى الملائكة. فماذا قال جبريل؟ قال جبريل مبلغا عن رب العزة: {يامريم إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين} وما الاصطفاء؟ إن الاصطفاء اختيار واجتباء، وهو مأخوذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1452 من الصفو أو الصافي، أي الشيء الخالص من الكدر. وعادة تؤخذ المعاني من المحسات، وعندما تقول الماء الصافي أي الماء غير المكدر، أو كما يقول الحق: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15] . وعندما يقول الحق: {إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين} نحن هنا أمام اصطفاءين، الاصطفاء الأول ورد دون أن تسبقه كلمة «على» والإصطفاء الثاني تسبقه كلمة «على» والمقصود بالإصطفاء الأول هو إبلاغ مريم أن الله ميزها بالإيمان، والصلاح والخلق الطيب، ولكن هذا الاصطفاء الأول جاء مجردا عن «على» أي أن هذا الاصطفاء الأول لا يمنع أن يوجد معها في مجال هذا الإصطفاء آخرون، بدليل قول الحق: {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين} [آل عمران: 33] . ثم أورد الحق سبحانه أنه طهرها، وجاء من بعد ذلك بالاصطفاء الثاني المسبوق ب «على» فقال {واصطفاك على نِسَآءِ العالمين} إذن فهذا خروج للرجال عن دائرة هذا الاصطفاء، ولن يكون مجال الاصطفاء موضوعا يتعلق بالرجولة؛ فهي مصطفاة على نساء العالمين، فكأنه لا توجد أنثى في العالمين تشاركها هذا الاصطفاء. لماذا؟ لأنها الوحيدة التي ستلد دون ذكر، وهذه مسألة لن يشاركها فيها أحد. وقوله الحق: {واصطفاك على نِسَآءِ العالمين} هذا القول يجب أن ينبه في نفسها سؤالا هو: ما الذي تمتاز هي به عن نساء العالمين؟ إن الذهن ينشغل بهذا الأمر، وينشغل على أمر من وظيفة الأنثى، ولنضم هذه إلى قول الحق على لسانها: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ونجد أن هذه كلها إيناسات للحدث الذي سيأتي من بعد ذلك، وهو حدث يتعلق بعرضها وعفافها، فلا بد أن يمهد الله له تمهيدا مناسبا حتى تتأكد من أن هذه المسألة ليس فيها شيء يخدش الكرامة. {واصطفاك على نِسَآءِ العالمين} ولنا أن نسأل: ما نتيجة الاصطفاء؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1453 لقد عرفنا أن الاصطفاء هو الاجتباء والآختيار، ويقتضي «مصطفِى» بفتح الفاء. ويقتضي «مصطفِى» بكسر الفاء. والمصطفى هو الله، لكن ما علة الاصطفاء؟ إن الذي يصطفيه الله إنما يصطفيه لمهمة، وتكون مهمة صعبة. إذن هو يصطفيه حتى يشيع اصطفاؤه في الناس. كأن الله قد خصه بالاصطفاء من أجل الناس ومصلحتهم، سواء أكان هذا الاصطفاء لمكان أم لإنسان أم لزمان ليشيع صفاؤه في كل ما اصطفى عليه. لقد اصطفى الله الكعبة من أجل ماذا؟ حتى يتجه كل إنسان إلى الكعبة. إذن فقد اصطفاها من أجل البشر وليشيع اصطفاؤها في كل مكان آخر، ولذلك قال الحق عن الكعبة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] . وإذا اصطفى الحق سبحانه زمانا، كاصطفائه لرمضان، فلماذا اصطفاه؟ ليشيع صفاؤه، وصفاء ما أنزل فيه في كل زمان. إذن فاصطفاء الحق للشخص أو للمكان أو للزمان هو لمصلحة بقية الناس أو الأمكنة أو الأزمنة، لماذا؟ لأن أحدا من الخلق ليس ابنا لله، وليس هناك مكان أولى بمكان عند الله. ولكن الله يصطفي زمانا على زمان، ومكانا على مكان، وإنسانا على إنسان ليشيع اصطفاء المُصطفى في كل ما اصطُفِىَ عليه. إذن فهل يجب على الناس أن يفرحوا بالمصطفى، أو لا يفرحوا به؟ إن عليهم أن يفرحوا به؛ لأنه جاء لمصلحتهم، والحق سبحانه يقول: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1454 فكأن ما تقدم من حيثيات الاصطفاء الأول، والاصطفاء الثاني، يستحق منها القنوت، أي العبادة الخالصة الخاضعة الخاشعة. وقد يقول قائل: ولماذا يصطفى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1454 الله واحدا، ليشيع اصطفاؤه في الناس؟ لأن الاصطفاء من الحق لا بد أن يبرئه من كل ما يمكن أن يقع فيه نظيره من الاختيارات غير المرضية، والحق سبحانه يريده نموذجاً لا يقع منه الا الخير، والمثال الكامل على ذلك اصطفاء الحق سبحانه لرسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أول الأمر وجعله لا يفعل إلا السلوك الطيب من أول الأمر، وذلك حتى يعطينا الرسول القدوة الإيمانية في ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة المحمدية. والحق يقول لمريم على لسان الملائكة: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ} إنه أمر بالعبادة الخاشعة المستديمة لربها، وكلمة {لِرَبِّكِ} تعني التربية، فكأن الاصطفاءات هي من نعم الله عليك يا مريم، وتستحق منك القنوت {واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} و {واسجدي} أي بَالِغِي في الخشوع، والخضوع، بوضع الجبهة التي هي أشرف شيء في الإنسان على الأرض، لأن السجود هو أعلى مرتبة من الخضوع. لكن أيعفيها هذا اللون من الخضوع مما يكون من الركوع لله مع الناس؟ لا، إنه الأمر الحق يصدر لمريم {واركعي مَعَ الراكعين} ولا يعفيك من الركوع أنك فعلت الأمر الأعلى منه في الخضوع وهو السجود، بل عليك أن تركعي مع الراكعين، فلا يحق لك يا مريم أن تقولي: «لقد أمرني الله بأمر» أعلى ولم أنفذ الأمر الأدنى « إن الحق يأمرها أن تكون أيضا في ركب الراكعين مثلما نقرأ قوله الحق عن الكفار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} [المدثر: 42 - 43] . إنهم كفار، فكيف يصلون؟ إنه اعتراف منهم بأنهم كفار، ولم يكونوا مسلوكين في سلك من يصل، واعتراف بانهم لم يكونوا مسلمين أو مؤمنين بالله. وهنا يسأل سائل كريم: لماذا قال سبحانه وتعالى في خطابه لمريم: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} ولم يقل الحق:» مع الراكعات «؟ هذا هو السؤال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1455 وإجابة على هذا السؤال نحب أن نمهد تمهيدا بسيطا إلى فلسفة الأسماء في وضعها على مسمياتها. إن الأسماء ألفاظ من اللغة تعين مسماها. والمسميات مختلفة، فمنها الجماد، ومنها النبات ومنها الحيوان، ومنها الأسماء التي تدل على عالم الغيب كالجن، والملائكة، وكل ما غيب الله. هذه الأسماء تدل على معانيها. وهدى الله سبحانه البشر إليها بما علم آدم من الأسماء، فكيف كان باستطاعة آدم التعبير عن معطيات الأسماء بمسمياتها؟ إذن لا بد أن يوجد لكل شيء اسم حتى نستطيع حين نتفاهم على الشيء أو الكائن بأن نذكر لفظا واحدا موجزاً يشير إليه. ولو لم يكن يذكر هذا فكيف كان باستطاعة إنسان أن يتكلم مع إنسان آخر عن الجبل مثلا؟ . أكان على المتكلم أن يأخذ السامع إلى الجبل ويشير إليه؟ أم يكفي أن يقول له لفظ «جبل» حتى يستحضر السامع في ذهنه صورة لهذا المسمى؟ إذن. . ففلسفة تعليم الحق للأسماء لنا أزاحت عنا عبئا كبيرا من صعوبة التفاهم. ولولا ذلك لما استطعنا أن نتفاهم على شيء إلا إذا واجهنا الشيء وأشرنا إليه. فكلمة «جبل» وكلمة «صخر» وغيرها من الكلمات هي أسماء لمسميات. . وعندما أتكلم على سبيل المثال عن أمريكا فإنني لن آخذ السامع إليها وأشير إليه قائلا «إن هذه هي أمريكا» ، لكن كلمة واحدة هي «أمريكا» تعطي السامع معنى للمسمى، فتلحق الأحكام على مسمياتها. وما دامت المسألة هكذا فلا بد من وجود أسماء لمسميات، هذه الأسماء علمها الله للإنسان حتى يتفاهم بها والإنسان أصله من آدم. وكلمة «آدم» حينما تتكلم بها تجدها في النحو مذكرة، والمذكر يقابله المؤنث. وقد خلق الحق الأعلى: الذكورة والأنوثة؛ لأن من تزاوجهما سيخرج النسل. إذن فكان لا بد من التمييز بين النوعين للجنس الواحد. فالذكر والأنثى، هما بنو آدم، ومنها ينشأ التكاثر، لكن العجيب أن الله حين سمى آدم ونطقناه اسما مذكرا وسمى «حواء» ونطقناه اسما مؤنثا، وجعل سبحانه الاسم الأصيل الذي وجِدَ منه الخلق هو «نفس» . لقد قال الحق: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1456 كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] . لقد سمى الحق آدم بكلمة نفس، وهي مؤنثة، إذن فليس معنى التأنيث أنه أقل من معنى التذكير، ولكن «التذكير» هو فقط علامة لتضع الأشياء في مسمياتها الحقيقية وكذلك التأنيث. إن الحق سبحانه يطلق على كل إنسان منا «نفس» وهي كلمة مؤنثة، وحينما تكلم الحق سبحانه كلاما آخر عن الخلق قال: {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] . وكلمة «ناس» تعني مجموع الإنسان. وهكذا نعرف أن كلمة: «إنسان» تُطلق مرة على المذكر، ومرة أخرى على المؤنث. إذن فالحق قد أورد مرة لفظا مذكرا، ومرة أخرى أطلق لفظا مؤنثا، وذلك حتى لا نقول: أن المذكر أفضل وأحسن من المؤنث، ولكن ذلك وسيلة للتفاهم فقط، ولذلك يؤكد لنا الحق سبحانه أنه قد وضع الأسماء لمسمياتها لنتعارف بها. {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا} [الحجرات: 13] . ومعنى «لنتعارف» أي أن يكون لكل منا اسمٌ يعرف به عند الآخرين. وفي حياتنا العادية - ولله المثل الأعلى - نجد رجلا عنده أولاد كثيرون، لذلك يُطلق على كل ابن اسما ليعرفه المجتمع به، والعجيب في هذه الآية الكريمة: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا} . أننا نجد كلمة «شعوبا» مذكرة وكلمة «قبائل» مؤنثة. إذن فلا تمايز بالأحسن، ولكن الكلمات هنا مسميات للتعارف. والحق الأعلى يقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1457 {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1 - 3] . إذن فما وضع النساء اللائي آمنّ؟ إنهن يدخلن ضمن {الذين آمَنُواْ} . ولماذا أدخل الله المؤنث في الذكر؟ لأن المذكر هو الأصل، والمؤنث جاء منه فرعا. إذن فالمؤنث هو الذي يدخل مع المذكر في الأمور المشتركة في الجنس. {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] . وهذا يعني أن «المؤنث» عليه أن يدخل في تكليف العبودية لله. والمعنى العام يحدد أن المطلوب منه العبادة هو الإنسان كجنس. وبنوعية الذكر والأنثى. وفي الأمر الخاص بالمرأة، ويحدد الله المرأة بذاتيتها. فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36] . لماذا؟ إن المسألة هنا تشمل النوعين من الجنس الواحد: الرجل والمرأة، زوج وزوجة، فمثلا نجد زوجا يريد تطليق زوجته، فيأتي الحق بتفصيل يوضح ذلك. وإذا كان هناك أمر خاص بالمرأة فالحق سبحانه وتعالى يحدد الأمر فها هوذا قوله الحكيم: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1458 الجاهلية الأولى وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 32 - 33] . إن كل ما جاء في الآية السابقة يحدد المهام بالنسبة لنساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالخطاب الموجه يحدد الأمر بدقة «لستن» و «اتقيتن» ، و «لا تخضعن» ، و «قرن» ، و «لا تبرجن» . الحديث في هذه الآية الكريمة يتعلق بالمرأة لذلك يأتي لها بضميرها مؤنثا. ولكن إذا جاء أمر يتعلق بالإنسان بوجه عام فإن الحق يأتي بالأمر شاملا للرجل والمرأة ويكون مذكرا، ولذلك فعندما قالت النساء لماذا يكون الرجل أحسن من المرأة، جاء قول الحق: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35] . هكذا حسم الحق الأمر. قال سبحانه تأكيدا لذلك؛ {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 124] . إن الذكر والأنثى هنا يدخلان في وصف واحد هو {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إذن فعندما يأتي الأمر في المعنى العام الذي يُطلب من الرجل والمرأة فهو يُضمر المرأة في الرجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1459 لأنها مبنية على الستر والحجاب، مطمورة فيه. داخله معه. . فإذا قال الحق سبحانه لمريم: {واركعي مَعَ الراكعين} فالركوع ليس خاصا بالمرأة حتى يقول «مع الراكعات» ولكنه أمر عام يشمل الرجل والمرأة، لذلك جاء الأمر لمريم بأن تركع مع الراكعين، وبعد ذلك يقول الحق: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1460 وقد قلنا من قبل: إن كلمة «نبأ» ، لا تأتي إلاّ في الخبر العظيم. والغيب هو ما غاب عن الحس. وهناك «غياب عن الحس» من الممكن أن يدركه مثلك. وهناك غياب عن الحس لا يدركه مثلك. وقلنا من قبل: إن حجب الغيب ثلاثة: مرة يكون الحجاب في الزمن ماضيا، ومرة مستقبلا، ومرة ثالثة يكون الحجاب في المكان. لماذا؟ لأن ظروف الأحداث زمان ومكان. فإذا أنبأني منبئ بخبر مضى زمنه فهذا اختراق للحجاب الزمن الماضي، فالحدث يكون قد وقع من سنوات وصار ماضيا وإذا أخبرني به الآن فهذا يعني أنه اخترق حجاب الزمن الماضي، وإذا قال لي عن أمر سيحدث بعد سنتين من الآن فهذا اختراق حجاب الزمن المستقبل، وهب أنه أخبرك بنبأ معاصر لزمنك الآن نقول: هنا يوجد حجاب المكان، فعندما أكون معكم الآن لا أعرف ما الحادث في مدينة أخرى غير التي نحن بها، ورغم أن الزمن واحد. لذلك فعلينا أن نعرف، أنه مرة يكون الحجاب زمان. . أي قد يكون الزمن ماضيا، أو يكون الزمن مستقبلا، وقد يكون حجاب مكان. فإذا كان الله ينبئ رسوله بهذا النبأ فوسائل علم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاث؛ لأن وسيلة العلم بالنبأ أحد ثلاثة أمور: مشاهدة؛ أو سماع؛ أو قراءة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1460 والوسيلة الأولى وهي مشاهدة النبأ يشترط أن يوجد في زمن هذا النبأ، والنبأ الذي أخبر الله به رسوله حدث من قبل بعث الرسول بما لا يقل عن ستة قرون. إذن فالمشاهدة كوسيلة علم بهذا النبأ لا تصلح، لأن النبأ قد حدث في الماضي. قد يقول قائل: لعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قرأها، أو سمعها وبإقرار خصوم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه ليس بقارئ، فامتنعت هذه الوسيلة أيضا، وبإقرار خصومة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه لم يجلس إلى معلم فلم يستمع من معلم. إذن فلم يكن من سبيل لمعرفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذا النبأ إلا بالوحي، لذلك قال الحق سبحانه: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] وقلنا قديما إن الوحي، هو إعلام بخفاء؛ لأن الإعلام العادي هو أن يقول إنسان لإنسان خبراً ما، أو يقرأ الإنسان الخبر، أما الإعلام بخفاء فاسمه «وحي» . والوحي يقتضي «موحي» وهو الله، «وموحى إليه» وهو الرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، و «موحى به» وهو القرآن الكريم. وإذا نظرنا إلى الإعلام بخفاء لوجدنا له وسائل كثيرة. إن الله يوحي. لكن الموحي إليه يختلف. الله سبحانه وتعالى يوحي للأرض: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 1 - 5] . إنه إعلام بخفاء، لأن أحدا منا لم يسمع الله وهو يوحي للأرض، والحق سبحانه يوحي للنحل، ويوحي للملائكة، ويوحي للأنبياء، وهناك وحي من غير الله، كوحي الشياطين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1461 {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الانعام: 121] . وهناك وحي من البشر للبشر: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] . لكن الوحي إذا أُطلق، ينصرف إلى الوحي من الله إلى من اختاره لرسالة، وما عدا ذلك من أنواع الوحي يسمونه «وحيا لغويا» إنما الوحي الاصطلاحي وحي من الله لرسول، إذن فوحى الله للأرض ليس وحيا اصطلاحيا، ووحى الله للنحل ليس وحيا اصطلاحيا، ووحي الله لأم موسى ليس وحيا اصطلاحيا، ووحي الله للحواريين ليس وحيا اصطلاحيا، إن الحق سبحانه يقول: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] . إن هذا لون من الوحي غير اصطلاحي، بل هو وحي لغوي، أي أعلمهم بخفاء. لكن الوحي الحقيقي أن يُعلم الله من اختاره لرسالة، وهذا هو الوحي الذي جاء للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. يقول الحق: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} . هكذا يخبرنا الحق ان الرسول تلقى هذا النبأ بالوحي، فلم يقرأه، ولم يشاهده، ونحن نعرف أن خصوم رسول الله شهدوا انه لم يقرأ ولم يستمع من معلم. وهكذا يخبرنا الحق أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن موجودا مع قوم مريم حين ألقوا أقلامهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1462 والقلم يُطلق على القلم الذي نكتب به، أو يطلق القلم على القداح التي كانوا يقترعون بها إذا اختلفوا على شيء. وكانوا عندما يختلفون يحضرون قداحا، ليعفروا من يظفر بالشيء المختلف عليه ونسميها نحن القرعة، والقرعة يقومون بإجرائها لإخراج الهوى من قسمة شائعة بين أفراد، وذلك حتى لا يميل الهوى إلى هذا أو إلى ذاك مفضلا له على الآخرين، ولذلك فنحن أيضا نجري القرعة فنضع لكل واحد ورقة. إذن فلا هوى لأحد في إجراء قسمة عن طريق القرعة، وبذلك نكون قد تركنا المسألة إلى قدر الله لأن الورقة لا هوى لها، ولما اختلف قوم مريم على كفالتها، واختصموا حول مَن الذي له الحق في أن يكفلها. هنا أرادوا أن يعزلوا الهوى عن هذه المسألة، وأرادوا أن تكون قدرية، ويكون القول فيها عن طريق قدح لا هوى له. وهذا القدح سيجري على وفق المقادير. أما «أقلامهم» فقد تكون هي القداح التي يقتسمون بها القرعة، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة تبركا. وتساؤل البعض، ما المقصود بقول الحق: «إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ» وأين تم إلقاء هذه الأقلام؟ قيل: إنها ألقيت في البحر وإذا ألقيت الأقلام في البحر فمن الذي يتميز في ذلك؟ قيل: إنه إذا ما أطل قلم بسنه إلى أعلى فصاحبه الفائز، أو إذا غرقت كل الأقلام وطفا قلم واحد يكون صاحبه هو الفائز. ولا بد أنهم اتفقوا على علامة أو سمة ما تميز القلم الذي كان لصاحبه فضل كفالة مريم. {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} . وكلمة {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} تدل على حرارة المنافسة بين القوم شوقا إلى كفالة مريم، لدرجة أن أمر كفالتها دخل في خصومة، وحتى تنتهي الخصومة لجئوا إلى الاقتراع بالأقلام. وننتقل الآن إلى مرحلة أخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1463 لقد كانت المرحلة الأولى بالنسبة لإعداد مريم هي قوله الحق على لسانها: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . وبذاك تعرفت على طلاقة قدرة الله، والمرحلة الثانية هي سماعها لحكاية زكريا ويحيى وتأكيد الحق لها أنه اصطفاها على نساء العالمين، وفي ذلك أمر يتعلق بالنساء، وكان ذلك إيناساً من الحق لها، وتدخل مريم إلى مرحلة جديدة. {إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} [آل عمران: 45] . والبشارة لا تكون إلا بخبر عظيم مفرح، وقد يتساءل البعض؟ ماذا يقصد الحق بقوله: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} ؟ والإجابة هي: أن الحق سبحانه وتعالى يزاول سلطانه في ملكه بالكلمة، لا بالعلاج، فالحق سبحانه علمنا ذلك بقوله: {الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] . وهذا القول هو مجرد إيضاح لنا وتقريب لأنه لا يوجد عندنا أقصر في الأمر من كلمة «كن» إن قدرته قادرة بطلاقتها أن تسبق نطقنا بالكاف وهي الحرف الأول من «كن» ، ولكن الحق يوضح لنا بأقصر أمر على طريقة البشر، إن الحق سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا فإنه يقول له كن فيكون، وذلك إيضاح أن مجرد الإرادة الإلهية لأمر ما تجعله ينشأ على الفور، و «كن» هي مجرد إظهار الأمر للخلق، هكذا نفهم معنى بشارة الحق لمريم ب {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} ويقول الحق: {اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ} . إنها ثلاثة أسماء، «المسيح» ، «عيسى» ، «ابن مريم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1464 ما معنى المسيح؟ قد يكون المسموح من الذنوب، أو أن تكون من آياته أن يمسح على المريض فيبرأ، أو المسيح المبارك. . أما عيسى. فهذا هو الاسم، والمسيح هو اللقب، وابن مريم هي الكنية. . ونحن نعرف أن العََلمَ في اللغة العربية يأتي على ثلاثة أنواع: اسم أو لقب أو كنية. وابن مالك يقول: «واسما أتى وكنية ولقبا» إن العَلَم على الشخص له ثلاث حالات. إما اسم وهو ما يطلق على المسمى أولا. والاسم الثاني الذي أطلقناه عليه. إن كان يشعر برفعة صاحبه أو بضِعَته نسميه لقبا. أما ما كان فيه أب أو أم فيقال له: «كنية» وجاءت الثلاثة في عيسى {اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ} . «المسيح» هو اللقب، «عيسى» هو الاسم «و» ابن مريم «وهو الكنية. ومجيء عيسى باللقب والاسم والكنية ستكون لها حكمة تظهر لنا من بعد ذلك. ويقول عنه الحق: {وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة} . ونحن في حياتنا نستعمل كلمة فلان وجيه من وجهاء القوم، والوجيه هو الذي لا يرده مسئول للكرامة في وجهه، ونحن نسمع في حياتنا اليومية. فلان لا يصح أن نسبب له الخجل برفض أي طلب له. وكما يقول العامة: (هو الوجه ده حد يكسفه) إذن فالوجيه هو الذي يأخذ سمة وتميزا بحيث يستحي الناس أن يردوه إذا كان طالبا، وهناك إنسان آخر قد يسألك أو يسأل الناس، فلا يبالي به أحد، إنه يريق ماء وجهه وتنتهي المسألة. إذن فقوله الحق في وصف عيسى بن مريم: {وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة} أي أن أحدا لا يرده إن سأله. لكرم وجهه، فالإنسان يخجل أن يرد صاحب مثل هذه الكرامة، لذلك نجد أن السائل قد يقول: أعطني لوجه الله. أي أنه يقول لك: لا تنظر إلى وجهي، ولكن انظر إلى وجه الله؛ لأن الله هو الذي جاء بي إلى الدنيا وخلقني، وما دام قد جاء بي الخالق إلى الدنيا فهو المتكفل برزقي، فأنت حينما تعين على رزق من استدعاه الله إلى الوجود تكون قد أعطيت لوجه الله، إنه الخالق الذي يرزق كل مخلوق له حتى الكافر. إذن فعطاء الإنسان للسائل ليس عطاء لوجه السائل، ولكنه عطاء لوجه الله. والحق يقول عن عيسى بن مريم: {وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة} وعرفنا كيف يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1465 الإنسان وجيها في الدنيا، فلماذا نص الحق على وجاهة عيسى في الآخرة؟ وخصوصا أن كل وجوه المؤمنين ستكون ناضرة، لقد نص الحق على وجاهة عيسى في الآخرة لأنه سوف يُسأل سؤالا يتعلق بالقمة الإيمانية: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 116] . إياك أن تظن أن هذا السؤال هو تقريع من الله لعيسى بن مريم. لا إن الحق يريد أن يقرّع من قالوا هذا الكلام. ولذلك يقول عنه الحق: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33] . لأن ميلاده كان له ضجة، وبعض بني إسرائيل اتهموا والعياذ بالله أمه مريم البتول، و «يوم الممات» ، كلنا نعرف حكاية الصلب وكان لها ضجة. إنه لم يصلب ولكن صلب من خانه ووشي به فألقى الله شبه عيسى عليه فقتلوه. ويوم البعث حيا يوم يسأله الله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] . إنه عيسى ابن مريم الذي أنعم الله عليه بالسلام في هذه المواقف الثلاثة. ويتابع الحق فيصف عيسى ابن مريم بقوله: {وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين} إن كلمة «من المقربين» تدل على تعالى الحق في عظمته، فحين يفتن بعض البشر في واحد منهم قد يغضب بعضهم من الشخص الذي فتن الآخرون فيه مع أنه ليس له ذنب في ذلك. والحق سبحانه يعلمنا أن للمغالي جزاءه ولكن المغالَى فيه تنجيه رحمة الغفار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1466 إن الحق يعلمنا أن فتنة بعض الناس بعيسى ابن مريم عليه السلام لا تؤثر في مكانة عيسى عليه السلام عند الحق، إنه مقرب من الله، ولا تؤثر فتنة الآخرين في مكانته عند الله، ويقول الحق: {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1467 الكلام: معناه اللفظ الذي ينقل فكر الناطق إلى السامع، وقول الحق: {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد} ، معناه أن المواجه لعيسى عليه السلام في المهد هم الناس و «المهد» هو ما أعد كفراش للوليد. ولقد أورد الحق {المهد وَكَهْلاً} رمزية لشئ، وهي أن عيسى ابن مريم من الأغيار، يطرأ عليه مرة أن يكون في المهد، ويطرأ عليه مرة أخرى أن يكون كهلا، وما دام في عالم الأغيار فلا يصح أن يفتتن به أحد ليقول إنه «إله» أو «ابن إله» . ونفهم أيضا من {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد} سر وجود آية المعجزة التي وهبها له الله وهو طفل في المهد. لأن المسألة تعلقت بعِرض أمه وكرامتها وعفتها، فكان من الواجب أن تأتي آية لتمحو عجبا من الناس حين يرونها تلد بدون أب لهذا الوليد أو زواج لها. وهذه المسألة لم نجد لها وجودا. مع أنها مسألة كان يجب أن تقال لأنهم يمجدون نبيهم، وكان من الواجب ألا يغفلوا عن هذه العجيبة، إن كلام طفل في المهد لما كان أمرا عجيبا كان لا بد أنّه سيكون محل حفظ وتداول بين الناس، ولن يكتفي الناس برواية واقعة كلامه في المهد فقط، بل سيحفظون ما قاله، ويرددون قوله. والكلمة التي قالها عيسى عليه السلام في المهد لا تسعف من يصف عيسى عليه السلام بوصف يناقض بشريته؛ لأن الكلمة التي نطق بها أول ما نطق: إني عبد الله، فأخفوا هم هذه المسألة كلها لأن هذه الكلمة تنقض القضية التي يريدون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1467 أن يضعوا فيها عيسى عليه السلام، إن الحق يقول: {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً} . ونعرف أن الكلام في المهد أي وهو طفل و «كهلا» أي بعد الثلاثين من العمر أي في العقد الرابع. والبعض قد قال: إن الكهولة. . بعد الأربعين من العمر. وهو قد حدثت له في روايتهم حكاية الصلب قبل أن يكون كهلا، فإذا كان قد تكلم في المهد فيبقى أن يتكلم وهو كهل، وقالوا إن حادثة الصلب أو عدم الصلب، أو الاختفاء عن حس البشر قد حدثت قبل أن يكون كهلا، إذن فلا بد أن يأتي وقت يتكلم فيه عيسى بن مريم عندما يصير كهلا، وأيضاً قوله الحق: {وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً} أي انه تكلم في المهد طفلاً ويتكلم كهلا أي ناضج التكوين، وبذلك نعرف أن عيسى بن مريم فيه أغيار وفيه أحوال، فإذا كنتم تقولون إنه إله فهل الألوهية في المهد هي الألوهية في الكهولة؟ إن كانت الألوهية في المهد فقط فهي ناقصة لأنه لم يستمر في المهد، وحدثت له أغيار، وما دام قد حدثت له أغيار فهو محدث، وما دام محدثا فلا يكون إلها، وبعد ذلك يقول الحق عن عيسى ابن مريم: {وَمِنَ الصالحين} ما حكايتها؟ إن العجيبة التي قال عنها الله: إنه يكلم الناس في المهد لم تكن باختياره، وكلامه وهو كهل سيكون بالوحي، أي ليس له اختيار فيه أيضا، {وَمِنَ الصالحين} مقصود بها عمله، أي الحركة السلوكية. لماذا؟ لأنه لا يكفي أن يكون مبلغا، ولا يكفي أن يكون حامل آية، بل لا بد أن يؤدي السلوك الإيماني. ويقول الحق على لسان مريم البتول: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1468 ونريد أن نقف وقفة ذهنية تدبرية عند قولها: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} فلو أنها سكتت عند قولها: {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} لكان أمرا معقولا في تساؤلها، ولكن إضافتها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} تثير سؤالا، من أين أتت بهذا القول {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ؟ هل قال لها أحد: إنك ستلدين ولدا من غير أب؟ إن الملائكة لم تخبرها بذلك، لذلك انصرف ذهنها إلى مسألة المس. إنها فطرة وفطنة المهيأة والمعدة للتلقي عن الله، عندما قال لها: «المسيح عيسى ابن مريم» . قالت لنفسها: إن نسبته بأمر الله هي لي، فلا أب له، لقد قال الحق: إنه «ابن مريم» ولذلك جاء قولها: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ذلك أنه لا يمكن أن ينسب الطفل للأم مع وجود الأب. هكذا نرى فطنة التلقي عن الله في مريم البتول. لقد مر بها خوف عندما عرفت أن عيسى منسوب إليها وقالت لنفسها، إن الحمل بعيسى لن يكون بوساطة أب، وكيف يكون الحمل دون أن يمسسني بشر. وقال الخالق الأكرم: {كَذَلِكَ} أي لن يمسك بشر، ولم يقل لها: لقد نسبناه لك لأنك منذورة لخدمة البيت، ولكن الحق قال: {كَذَلِكَ} تأكيدا لما فهمته عن إنجاب عيسى دون أن يمسسها بشر. وتتجلى طلاقة القدرة في قوله سبحانه: {الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} . إنها طلاقة القدرة، وطلاقة القدرة في الإنسال أو الإنجاب أو في عدم التكثير بالنسبة للإنسان وطلاقة القدرة لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، ولو كانت طلاقة القدرة في الخلق لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، إنه الحق الأعلى القادر على أن يخلق دون ذكورة أو أنوثة، كخلقه لآدم عليه السلام، ويخلق الحق سبحانه بواحد منهما، كخلقه سبحانه لحواء وخلق عيسى عليه السلام، ويخلق الخالق الأعلى الذكورة والأنوثة يمكن أن يُحقق الخلق، فقد توجد الذكورة والأنوثة ولا يوجد إنجاب، ها هو ذا القول الحق: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1469 إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50] . هذه هي إرادة الحق، إذن فلا تقل: إن اكتمال عنصري الذكورة والأنوثة هو الذي يحدث الخلق، لأن الخلق يحدث بإرادة الحق {كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فأنتم أيها المحدثون تفعلون بالأسباب. لكن الذي خلقكم وخلق الأسباب لكم هو الذي بيده أن يوجد بلا أسباب، لأنه أنشأ العالم أول ما أنشأ بدون أسباب. ويقول الحق سبحانه عن عيسى عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب والحكمة ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1470 وساعة نسمع {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} فنحن نفهم أن المقصود بها الكتاب المنزل، ولكن ما دام الحق قد أتبع ذلك بقوله: {التوراة والإنجيل} فلا بد لنا أن نسأل. إذن ما المقصود بالكتاب؟ هل كان المقصود بذلك الكتاب الكتب المتقدمة، كالزبور، والصحف الأولى، كصحف إبراهيم عليه السلام؟ إن ذلك قد يكون صحيحا، ومعنى {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} أن الحق قد علمه ما نزل قبله من زبور داود، ومن صحف إبراهيم، وبعد ذلك توراة موسى الذي جاء عيسى مكملا لها. وبعض العلماء قد قال: أُثِرَ عن عيسى عليه السلام أن تسعة أعشار جمال الخط كان في يده. وبذلك يمكن أن نفهم {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} أي القدرة على الكتابة. وما المقصود بقوله: إن عيسى عليه السلام تلقى عن الله بالإضافة إلى {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} أنه تعلم أيضا {الحكمة والتوراة والإنجيل} وكلمة الحكمة عادة تأتي بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1470 كتاب منزل، مثال ذلك قوله الحق: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} [الأحزاب: 34] . كتاب الله المقصود هنا هو القرآن الكريم، والحكمة هي كلام الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. فالرسول له كلام يتلقاه ويبلغه، ويعطيه الحق أيضا أن يقول الحكمة، أما التوراة التي علمها الله لعيسى عليه السلام فقد علمها له الله، لأننا كما نعلم أن مهمة عيسى عليه السلام جاءت لتكمل التوراة، ويكمل ما أنقصه اليهود من التوراة، فالتوراة أصل من أصول التشريع لعصره والمجتمع المبعوث إليه فهو بالنص القرآني: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1471 إن كلمة رسول تحتاج إلى علامة، فليس لأي أحد أن يقول: «أنا رسول من عند الله» بل لا بد أن يقدم بين يدي دعواه معجزة تثبت أنه رسول من الله. والأية كما نعرف هي الأمر العجيب الذي خرج عن القوانين والنواميس لتثبت صدق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1471 الرسول في البلاغ، وما دامت المعجزة خارجة عن نواميس البشر، فالمخالف نقول له: أنت حين تكذب أن حامل المعجزة رسول، فكيف تعلل أنه جاء بمعجزة خرجت عن الناموس؟ إذن فالمعجزة تلزم المنكر الذي يتحدى وتفحمه، لأنه لا يستطيع أن يأتي بمثلها، ولذلك قلنا: إن من لزوم التحدي ألا يتحدى الله حين يعطي رسولا معجزة إلا بشيء نبغ فيه القوم المبعوث إليهم ذلك الرسول؛ لأن الحق لو جاء لهم بشيء لم يدرسوه ولم يعرفوه، فالرد منهم يكون للرسول بقولهم: إن هذا أمر لم نروّض أنفسنا ولم ندربها عليه، ولو روّضنا أنفسنا عليه لا ستطعنا أن نفعل مثله، وأنت قد جئت لنا بشيء لم نعود أنفسنا عليه، لذلك يرسل الحق الرسول - أي رسول - بمعجزة من جنس ما ينبغ فيه القوم المرسل إليهم. . مثال ذلك، موسى عليه السلام، أرسله الله إلى قوم كانوا نابغين في السحر، فكانت معجزته تقرب من السحر. وإياك أن تقول إن معجزة موسى كانت سحرا؛ لأن موسى عليه السلام لم ينزل بسحر ولكن بمعجزة. كانوا هم يخيلون للناس أشياء ليست واقعا لذلك تجد القرآن يعطيك الفارق بين ما يكون عليه ما يأتي به الله على يد رسول من الرسل من معجزة وسحر القوم، فيقول القرآن: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 17 - 20] . كأن الحق يقول لموسى عليه السلام: إن حدود علمك بما في يدك أنها عصا تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك، أما علمي أنا فهو علم آخر. لذلك يأمره أن يلقى العصا، فلما ألقاها وجدها حية تسعى، فأوجس في نفسه خيفة. . إن «أوجس في نفسه خيفة» هي التي فرقت بين سحر القوم ومعجزة موسى عليه السلام «. لماذا؟ لأن الساحر يلقى العصا فيراها الناس حية وهو يراها عصا لأنّ الساحر لو رآها حية لخاف مثل الناس، لقد خاف موسى عليه السلام لأنها تغيرت وصارت حية فعلا، ولذلك قال له الله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1472 {قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21] . فلو كانت من جنس السحر لما أوجس في نفسه خيفة لأنه سوف يراها عصا وإن رآها غيره حية، وهذا هو الفارق. وقوم عيسى أيضا كانوا مشهورين بالحكمة والطب، إذن فستجيء الآيات من جنس الحكمة والطب، ثم تتسامى المعجزة، لأن الذي يطبب جسما ويداويه لا يستطيع أن يعيد الميت إلى الحياة، لأن الإنسان إذا ما مات فقد خرج الميت عن دائرة علاج الطبيب. ولذلك رقّى الله آية عيسى، إنه يشفي المرضى، ويحيى الموتى أيضا، وهذا ترق في الإعجاز. قال عيسى: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله} . إن كلمة «أخلق» تحتاج إلى وقفة وكذلك «الطين» و «الهيئة» و «الطير» . «أخلق» مأخوذة من الخلق، والخلق هو إيجاد شيء على تقدير، فأنت تتخيله وتقدره في ذهنك أولا ثم تأتي به على هذه الحالة. فإن كان قد أتى على غير تقديرك فليس خلقا، إنما هو شيء جزافى جاء على غير علم وتقدير، وإنّ من يأخذ قطعة من الطين ويصنع منها أي شيء فهذا ليس خلقا. إن الخلق هو المطلوب على تقدير. مثال ذلك الكوب أو الكأس البلور الذي نشرب فيه حينما صنعه الصانع. هل كانت هناك شجرة تخرج أكوابا، أم أن الصانع أخذ الرمال وصهرها ووضع عليها مواد كيماوية تخليها من الشوائب، ثم قام بتشكيلها على هيئة الكوب؟ إذن فالكوب لم تكن موجودة، ووجدت على تقدير أن تكون شكل الكوب، فهي خلق أُوجد على تقدير. فماذا عن خلق الله؟ إنه يخلق على تقدير، وفرق بين صنعة البشر حين يخلق، وبين صنعة الله حين يخلق. إن صنعة البشر حين تخلق، إنما تخلق من موجود، وحين يخلق الله فهو يخلق من معدوم، وهذا هو أول فرق، إنه سبحانه يخلق من عدم، أما الإنسان فيضع الأشياء بنظام يحدث فيها تفاعلات أرادها الله فتوجد، فلا يوجد من يستطيع - على سبيل المثال - من يصنع كوبا من غير المادة التي خلقها الله. إن هذا أول فرق بين خلق الله، وخلق الإنسان، فخلق الله يكون من عدم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1473 وخلق الإنسان من موجود، وإن كان الإثنان على تقدير. وأيضا يعطي الله لخلقه سرا لا يستطيع البشر إعطاءه لصنعته، فالله يعطيه سر الحياة والحياة فيها نمو، وفيها تكاثر، لكن البشر يصنعون الكوب مثلا، فتظل كوبا، ولا يوجد تكاثر بين كوب ذكر وكوب أنثى. إن الإنسان يوجد صنعته فتظل على حالتها، ولا يستطيع أن يصنعها صغيرة ثم تكبر، لكن صنعة الله هي صنعة القادر الذي يهب الحياة، فتكبر مخلوقاته وتتطور وتمر بمراحل، وتعطي مثلها. إذن، فالخلق إيجاد على تقدير، هذا الإيجاد يوجد معدوما، والمعدوم موجودة مادته، هذا في خلق الإنسان، أما في خلق الله، فالله يخلق من معدوم لا توجد له مادة. والله يخلق من الشيء ذكرا وأنثى ويعطيهما القدرة على التناسل، فها هو ذا قول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 12 - 14] . ولم يمنع الحق خَلْقَه أن يخلقوا أشياء، ولكن خلق الله أحسن، لماذا؟ لأنه يخلق من عدم، والبشر يخلقون من موجود. وهو الحق يخلق ويوجد في مخلوقاته حياة وتكاثرا، والبشر يخلقون بلا نمو ولا حياة، إنه الحق أحسن الخالقين، إذن قول عيسى عليه السلام: {أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ «الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله} . يعني أن كل إنسان يستطيع أن يصنع تمثالا كهيئة الطير. لكن الله أوجد معجزة عيسى وجعله يخلق من الطين كهيئة الطير، وينفخ فيه، وقد تسأل، في ماذا ينفخ؟ أينفخ في الطير، أم في الطين، أم في الهيئة؟ إن قلنا: أن النفخ في الطين بعد ما صار طيرا. يكون النفخ في الطين، كالنفخ في الطير، وجاءت في آية أخرى أنها نفخ في الهيئة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1474 {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} [المائدة: 110] . إن» النفخ فيه «، تكون للطين أو الطير. و» النفخ فيها «تكون للهيئة، وهناك آية بالنسبة للسيدة مريم البتول: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12] . إن النفخ هنا في الفرج، وآية أخرى بالنسبة للسيدة مريم البتول: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] . مرة يقول:» نفخنا فيه «أي في الفرج، ومرة يقول:» نفخنا فيها «أي فيها هي، والقولان متساويان، وهنا في هذه الآية، نجد أن الإعجاز ليس في أن عيسى صنع من الطين كهيئة الطير، لأن أي إنسان يستطيع أن يفعل ذلك، فكأنه حينما قال: {أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله} . كأنه صار طيرا من النفخة، أما عن أمر صناعة طير من الطين فأي إنسان يمكن أن يفعلها، لكن عيسى عليه السلام يفعل ذلك بإذن الله، ولا بد أن يجيء الأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1475 مختلفا، و» بإذن الله «هنا تضم صناعة الطير، والنفخ فيه. إن عيسى لم يكن ليجترئ ويصنع ذلك كله إلا بإذن الله، وجاءت كلمة» بإذن الله «من عيسى وعلى لسانه كاعتراف منه بأن ذلك ليس من صناعته، وكأنه يقول لقومه: إن كنتم فتنتم بهذه. فكان يجب أن تفتنوا بإبراهيم من باب أولى، حينما قطَّع الطير وجعل على كل جبل جزءا منهن ثم دعاهن. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] . إذن كان من الأولى الفتنة بما أعطاه الله إبراهيم عليه السلام من معجزة، فإن كانت الفتنة من ناحية الإحياء لكان ما صنعه إبراهيم عليه السلام أولى بها، وإن كانت الفتنة من ناحية أنه جاء إلى الدنيا بدون أب لكانت الفتنة أكثر في خلق آدم، لأن الله خلقه بلا أب أو أم. إذن فالفتنة لا أصل لها ولا منطق يبررها. . ويتابع الحق سبحانه على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام {وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله} . لماذا تعرض عيسى ابن مريم لهذين المرضين؟ لأنها كانت الأمراض المستعصية في ذلك العصر، والأكمه هو الذي ولد أعمى أي لم يحدث له العمى من بعد ميلاده. والبرص، هو ابيضاض بقعة في الجلد وإن كان صاحبها آدم أو أسود. وبعد ذلك تنتشر بقع متناثرة في كافة الجسم بلون أبيض، مما يدل على أن لون الجلد له كيماويات في الجسم تغذى هذا اللون، فإن مُنعت الكيماويات في الجسم صار أبرص. وتبين صدق هذا في أن العلم المعاصر قد عرف أن الملونات للجلد هي غدد خاصة توجد في الجسم، واسمها الغدد الملونة، فإن امتنعت الغدد الملونة من إعطاء الألوان، جاء البرص والعياذ بالله. وهو مرض صعب، لم يكن باستطاعتهم أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1476 يداووه، فعندما جاء عيسى ابن مريم أعطاه الله الآية من جنس ما نبغوا فيه وهو الطب. وجاء لهم بآية هي إبراء ما كانوا عاجزين عنه. وبعض القوم الذين يحاولون أن يقربوا بين المعجزة وعقول الناس. يقولون: إن هذه المعجزة إنما هي سبق زمني، بمعنى أنه من الممكن أن يتوصل الإنسان إلى أن يكتشف علاجا لهذه الأمراض، لكن لهؤلاء نقول: لا، إن المعجزة تظل معجزة إلى أن تقوم الساعة. كيف؟ لنأخذ مثالا من طب العيون، وعندما قالوا إن هناك علاجاً للعمى. «سنقوم بتركيب قرنية» أو أن نأخذ مثالا من طب الجلد لو قالوا: «سنداوي البرص» واكتشفوا ألوانا مختلفة من العلاج تحاول أن تجعل الجلد على لون واحد، لكنه لا يستعيد لونه الأصلي. ولذلك قال البعض: «إن معجزة عيسى كانت مجرد سبق زمني» . لهؤلاء نقول: لا، لنأخذ كل أمر بأدواته. إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يبرئ بالكلمة والدعوة ومهما تقدم العلم فلن يستطيع العلم أن يبرئ المرض بالكلمة والدعوة، إنما سيأخذون أشياء ويقومون بتحليل تلك الأشياء، وخلط الكيماويات وإجراء الجراحات، لذلك تظل المعجزة التي جاء بها عيسى ابن مريم عليه السلام معجزة؛ لأنه كان يبرئ بالكلمة والدعوة. ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم: {وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ} . ومسألة إحياء الموتى لم يأخذها عيسى هكذا على إطلاقها فيحيي كل ميت، إنما قام بها وفي وحدات تثبت صدق الآية ولا تعمم مدلول المعجزة كسام بن نوح مثلا، و «عازر» إنها أشياء لمجرد إثبات المعجزة، ولكنها ليست مطلقة، ذلك أنه نبي ورسول من الله فلا يمكن أن يصادم قدر الله في الآجال. ولذلك قالوا إنه عندما أحيا سام بن نوح، أحياه حتى نطق بكلمة، ثم عاد سام إلى الموت من بعد ذلك ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] . لماذا؟ لأن كل إنسان يعلم جزئية من أحداثه الحياتية الخاصة، يكون هذا العلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1477 خاصا به، وكل إنسان - مثلا - يأكل طعامه بألوان مختلفة يعرفها هو، ولا يعرفها الآخرون. إن الأمر الأول كخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، هي أمور عامة للكل. أما الإنباء بألوان الطعام التي يأكلها كل إنسان فهي خاصية أحداث، لأن كل واحد يأكل أكلا معينا فيقول له عيسى ابن مريم ماذا أكل. وليس من المعقول أن يكون عيسى ابن مريم قد دخل كل بيت أو جاءت له أخبار عن كل بيت. وكذلك أمر الادخار. وذلك حتى تنتفي شبهة أنه كان يشم رائحة الإنسان فيعرف لون الطعام الذي يأكله، لذلك كان الإخبار بما يدخر كل واحد في بيته، فهذه مسألة توضح بالجلاء التام أنها آية من إخبار من يعلم مغيبات الأمور. {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49] . إن هذه آية عجيبة تثبت أن هناك قوة أعلى قاهرة هي قوة الله الحق هي التي تعطيه هذه الأشياء، فإن كنتم مؤمنين بوجود قوة أعلى فعليكم تصديق الرسالة التي جاء بها عيسى ابن مريم، لأن معنى (رسول) أنه مخلوق اصطفاه الله وأرسله سبحانه إلى الأدنى منه، فالذي يؤمن الآية هو الذي يؤمن بوجود إله أعلى قادر ومن يريد أن يتثب - مع إيمانه بالله - من الآية التي بعثها الله مع عيسى ابن مريم، فالآية واضحة. بالله فلن تفيده الآية في الإيمان. ويقول الحق متابعا على لسان عيسى ابن مريم: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1478 وقد قلنا: إن «مصدقا» تعني أن ما جاء به عيسى بن مريم مطابق لما جاء في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1478 التوراة. وقلنا: إن «ما بين يدي» الإنسان هو الذي سبقه، أي الذي جاء من قبله وصار أمامه. وما دام عيسى ابن مريم جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة في زمانه، وكانت التوراة موجودة، فلماذا جاءت رسالته إذن؟ لكن القول الحق يتضمن هذا المعنى: إن عيسى سيأتي بأحكام جديدة، ويتضح ذلك في قوله الحق سبحانه على لسان عبده عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} إذن فليس المهم هو التصديق فقط، ذلك أن عيسى جاء ليحل بعضا من الذي حرمته التوراة. وقد يقول قائل: إذا كانت الكتب السماوية تأتي مصدقة بعضها بعضا فما فائدة توالي نزول الكتب السماوية؟ والإجابة هي: أن فائدة الكتب السماوية اللاحقة أنها تذكر من سها عن الكتب السابقة، هذا في المرتبة الأولى، وثانيا: تأتي الكتب السماوية بأشياء، وأحكام تناسب التوقيتات الزمنية التي تنزل فيها هذه الكتب. هذه هي فوائد الكتب السماوية التي توالت نزولا من الحق على رسله، إنها تذكر من عقل وتُعَدلّ في بعض الأحكام. ومن الطبيعي أننا جميعا نفهم أن العقائد لا تبديل فيها، وكذلك الأخبار والقصص، لكن التبديل يشمل بعضا من الأحكام. ولهذا جاء القول الحق على لسان عبده عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ونحن نعرف أن القوم الذي أرسل الله عيسى ابن مريم لهم هم بنو إسرائيل، والتحريم والتحليل يكون بحكمة من الله. إن لله حكمة فيما يحلل وحكمة فيما يحرم، إنما إياك أن تفهم أن كل شيء يحرمه الله يكون ضارا؛ قد يحرم الله أشياء لتأديب الخلق، فيأمر بالتحريم، ولا يصح أن تسأل عن الضرر فيها، وقد يعيش المؤمن دنياه ولم يثبت له ضرر بعض ما حرم الله. فإن تساءل أحد: لماذا حرم الله ذلك؟ تقول له: من الذي قال لك إن الله حين يحرم فهو يحرم الشيء الضار فقط؟ إنه الحق سبحانه يحرم الضار ويحرم بعضا مما هو غير ضار، ولذلك قال الحق: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1479 {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً} [النساء: 160] . وتفصيل ذلك في آية أخرى: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146] . إذن التحرير ليس ضروريا أن يكون لما فيه الضرر، ولهذا جاء قول الحق على لسان عبده ورسوله إلى بني إسرائيل عيسى ابن مريم: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} لقد جاء عيسى ابن مريم ليُحل لهم بأمر من الله ما كان قد حرمه الله عليهم من قبل. وبعد ذلك يقول الحق على لسان عبده ورسوله عيسى ابن مريم: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} ومجموعة هذه الأوامر التي تقدمت هي آية أي شيء عجيب، بلغت القوم الذين أرسل الله عيسى إليهم، إنه كرسول وكبشر لا يستطيع أن يجيء بالآية المعجزة بمفرده بل لا بد أن يكون مبعوثا من الله. فيجب أن يلتفتوا إلى أن الله الذي أرسله، وله طلاقة القدرة في خرق النواميس هو سبحانه الذي أجرى على يدي عيسى هذه الأمور، ويأمرهم عيسى ابن مريم بتقوى الله نتيجة لذلك، ويدعو القوم لطاعته في تطبيق منهج الله. وبعد ذلك يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1480 إذن اجتمع الرسول والمرسل إليهم في أنهم جميعا مربوبون إلى إله واحد، هو الذي يتولَّى تربيتهم والتربية تقتضي إيجادا من عدم، وتقتضي إمدادا من عدم، وتقتضي رعاية قيومية، وعيسى ابن مريم يقر بعبوديته لله وكأنه يقول: وأنا لم أصنع ذلك لأكون سيدا عليكم، ولكن أنا وأنتم مشتركون في العبودية لله. {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} . ومعنى {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} أي أنه صراط غير ملتويا لأن الطريق إذ إلتوى؛ انحرف عن الهدف، وحتى تعرف أن الكل يسير على طريق مستقيم واحد، فلتعلم أنك إذا نظرت على سبيل المثال إلى الدائرة، فستجد أن لها محيطا، ولها مركزا، ومركز الدائرة هو الذي نضع فيه «سن الفرجار» حتى نرسم الدائرة، وبعد ذلك تصل من المركز إلى المحيط بأنصاف أقطار، وكلما بعدنا عن المركز زاد الفرق، وكلما تقرب من المركز تتلاشى الفروق. فإذا ما كان الخلق جميعا يلتقون عند المركز الواحد فهذا يعني الاتفاق، لكن الاختلاف يحدث بين البشر كلما بعدوا عن المركز ولذلك لا تجد للناس أهواء ولا نجد الناس شيعا إلا إذا ابتعدوا عن المركز الجامع لهم والمركز الجامع لهم هو العبودية للإله الواحد، وما دامت عبوديته لإله واحد ففي هذا جمع للناس بلا هوى أو تفرق. إنه حتى في الأمر الحسي وهو الدائرة المرسومة، نجد أن الأقطار المأخوذة من المحيط وتمر بمركز الدائرة، سنجد أنه في مسافة ما قبل المركز تتداخل الأقطار إلى أن تصير عند نقطة المركز شيئا واحدا لا انفصال بينها أبدا. وهكذا الناس إذا التقوا جميعا عند مركز عبوديتهم للإله الواحد، فإذا ما اختلفوا، بعدوا عن العبودية للإله الواحد بمقدار ذلك الاختلاف. ولذلك دعا المسيح عيسى ابن مريم الناس لعبادة الله {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1481 هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} ذلك هو منطق عيسى. كان منطقه الأول حينما كان في المهد {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم: 30] . إن قضية عبوديته لله قد حُسمت من البداية، وهي قضية القمة، إنه عبد الله والقضية الثانية هي قضية الرسالة ونقل مراد الله وتكليفه إلى خلق الله حتى يبنوا حركة حياتهم على مقتضى ما أنزل الله عليهم، ومن الطبيعي أن أي رسول عندما يأتي بمنهج من عند الله، فالهدف أن يحمل الناس جميعا على سلوك هذا المنهج، ويحدد حركة حياتهم ب «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» وعندما يسمع الواحد من الناس الأمر ب «افعل» فقد يجد في التكليف مشقة، لماذا؟ لأنها تلزمه بعمل قد يثقل عليه، و «لا تفعل كذا» فيها مشقة؛ لأنها تبعده عن عمل كان يحبه. والمرء في الأحداث بين اثنين: عمل يشق عليه فيحب أن يجتنبه، وعمل يستهويه فيحب أن يقترب منه، والمنهج جاء من السماء ليقول للإنسان «افعل» ولا «تفعل» إذن فهناك مشقة في أن يحمل الإنسان نفسه على أن يقوم بعمل ما من أعمال التكليف، ومشقة أخرى في أن يبتعد عن عمل نهى عنه التكليف. ومعظم الناس لا تلتفت إلى الغاية الأصيلة؛ ولا يفهمونها حق الفهم، فيأتي أنصار الشر؛ ولا يعجبهم حمل نفوسهم على مرادات خالقهم. إن أفكار الشر تلح على صاحبها فيتمرد على التكليف الإيماني، وأفكار الشر تحاول الاقتراب بصاحبها من فعل الأمور التي حرمها التكليف. ولذلك ينقسم الناس لأنهم لم يحددوا هدفهم في الوجود. إن كل حركة في الوجود يمكننا أن نعرف أنها حركة إيمانية في صالح انسجام الإنسان مع الكون، أو هي حركة غير إيمانية تفسد انسجام الإنسان مع فطرته ومع الكون، فإذا كانت الحركة تصل بالإنسان إلى هدفه الإيماني. فستكون حركة طيبة وحسنة بالنسبة للمؤمن، وإذا كانت تبعده عن هدفه تكون حركة سيئة وباطلة، وهكذا نرى أن الهدف هو الذي يحدد الحركة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1482 إن التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة له هدف بأن يتخرج في مهنة ما، وما دام ذلك هو هدفه فنحن نقيس حركة سلوكه، هل هي حركة تقربه إلى الهدف أن تبعد به عنه؟ فإن كان مجتهدا. فاجتهاده حركة تقرب له الهدف، وإن كان كسولا، خاملا فإنه يبتعد بنفسه عن الهدف. إذن يجب أن نحدد الهدف حتى نعرف هل يكون هذا العمل صالحا. أو غير صالح. وآفة الناس أنهم عندما يحددون أهدافهم يقعون في اعتبار ما ليس بالهدف هدفا وغاية. وما دام هناك من يعتبر غير الهدف هدفا فلا بد من حدوث اضطراب وضلال، فالذي يعتبر أن الحياة هي الهدف، فهو يريد أن يحقق لنفسه أكبر قدر من اللذة فيها. أما الذي يعرف أن الهدف ليس هو الحياة، إنما الحياة مرحلة، نسأله. . ما الهدف إذن، فيقول: إنه لقاء الله والآخرة. هذا المؤمن سيكون عمله من أجل هذا الهدف. لكن الضال الذي يرى الدنيا وحدها هدفه ولا يؤمن بالجنة أو النار، هو غارق في ضلاله ويقبل على ما تشتهيه نفسه، ويبتعد عما يتعبه وإن كانت فيه سعادته. ولكن المؤمن يعرف أن الهدف ليس هو الدنيا، وأن الهدف في مجال آخر، لذلك يسعى في تطبيق التكاليف الإيمانية ليصل إلى الهدف، وهو الجنة. إذن ما يفسد سلوك الناس هو جهلهم بالهدف، وحين يوجد الهدف، فالإنسان يحاول أن يعرف العمل الذي يقربه من الهدف فيفعله، فهذا هو الخير. أما الذي يبعده عن الهدف ويفعل عكس الموصل إليه فهذا هو الشر. وإذا كان الأمر كذلك والمسألة هي في تحديد الهدف يجب أن تعلم أن الناس يستقبلون الكثير من الأحداث بما يناقض معرفة الهدف، وما دام الهدف هو أن تذهب إلى الآخرة لتلقى الله فلماذا يغرق في الحزن إنسان لأن له حبيبا قد انتقل إلى رحمة الله؟ هذا الإنسان يمكننا أن نسأله، لماذا تحزن وقد قصر الله عليه خطواته إلى الهدف؟ لا بد أنك حزين على نفسك لأنك مستوحش له، ولأنك كنت تأنس به، أما حزنك من أجله هو، فلا حزن، لأنه اقترب من الهدف ووصل إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1483 وفي حياتنا اليومية عندما يكون هدف جماعة أن تصل إلى الإسكندرية من القاهرة، نجد إنسانا ما يذهب إلى الإسكندرية ما شيا، لأنه لا يجد نقودا أو وسيلة توصله، وتجد آخر يذهب إليها راكبا حمارا، وثالثا يذهب إليها راكبا حصانا، ورابعا يصل إليها راكبا «أتوبيسا» ، وخامسا يصل إليها بركوب الطائرة، وسادسا يصل إليها بصاروخ، وكل ما حدث هو أن كل واحد في هذه الجماعة قد اقترب من الهدف بالوسيلة التي توافرت له، وهكذا نجد إنسانا يذهب إلى الله ماشيا في سبعين عاما، وآخر يستدعيه الله فورا، فلماذا تحزن عليه؟ إن لنا أن نحزن على الإنسان الذي لم يكن موفقا في خدمة الهدف، أما الموفق في خدمة الهدف فلنا أن نفرح له، ونقول: إن الله قد قصر عليه المسافة، وأغلبنا إن كان عنده ولد حبيب إلى قلبه وصغير ويفقده فهو يغرق في الحزن قائلا «إنه لم ير الدنيا» لهذا الإنسان نقول: يا رجل إن الله جعل ابنك يقفز الخطايا ويتجاوزها وأخذه إلى الغاية، فما الذي يحزنك؟ إن علينا أن نحسن استقبال ما يقضي به الله في خلقه، ونعرف أنه حكيم وأنه رحيم وأن كل شيء منه يجب ألا نفهمه خارجا عن الحكمة. وبعد تلك الآيات الكريمة التي تحدث فيها الحق عن مريم وعيسى عليه السلام. . قال الحق سبحانه: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1484 لقد ذكر عيسى ابن مريم القضية الجامعة المانعة أولا حين قال: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1484 وأوضح عيسى ابن مريم بما لا يقبل الجدل: «أنا معكم سواء في مربوبيتنا إلى إله واحد، وأنا لم أجيء لأعلمّكم لأني تميزت عنكم بشيء. فيما يتعلق بالعبادة نحن سواء، فالله رب لي ورب لكم، والصراط المستقيم هو عبادة الله الحق. ونحن ساعة نسمع» الصراط المستقيم «فإننا نتخيل على الفور الطرق الموصلة إلى الغاية، ونعرف جميعا أنه لا يوجد طريق في الحياة مصنوع لذات الطريق، إنما الطريق يصنع ليوصل إلى غاية. وساعة تسمع» صراط «فإننا نفهم على الفور الغاية التي نريد أن نصل إليها. والحق سبحانه يقول: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] . وما دام هناك طريق لغاية ما فلا بد أن نحدد الغاية أولا، وتحديد الغاية إنما يهدف إلى إيضاح السبيل أمام الإنسان ليسلك الطريق الموصل إلى تلك الغاية. وهكذا يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} . والعبادة هي إطاعة العابد لأمر المعبود، وهكذا يجب أن نفطن إلى أن العبادة لا تقتصر على إقامة الأركان التعبدية في الدين من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، إن هذه هي أركان الإسلام ولا يستقيم أن ينفصل الإنسان المسلم عن ربه بين أوقات الأركان التعبدية، إن الأركان التعبدية لازمة، لأنها تشحن الطاقة الإيمانية للنفس حتى تقبل على العمل الخاص بعمارة الدنيا، ويجب أن نفطن إلى أن العبادة في الدنيا هي كل حركة تؤدي إلى إسعاد الناس وعمارة الكون. ويجب أن نعرف أن الأركان التعبدية هي تقسيم اصطلاحي وضعه العلماء في الفقه كباب العبادات وباب المعاملات، لكن علينا أن نعرف أن كل شيء يأمر به الله اسمه» عبادة «. إذن فالعبادة منها ما يصل العبد بالمعبود ليأخذ الشحنة الإيمانية من خالقه، خالق الكون، ومنها ما يتصل بعمارة الكون. ولذلك قلنا: إنك حينما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1485 تتقبل من الله أمرا بعبادة ما، فأنت تتلقاه وأنت موصول بأسباب الله بحثا عن الرزق وغير ذلك من أمور الحياة، والمثل الواضح لذلك هو قول الحق: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] . إن هذا الأمر بالصلاة الجامعة يوم الجمعة يخرج بالإنسان من أمر البيع، وهذا الأمر بالصلاة لم يأخذ الإنسان من فراغ، إنما أخذ الإنسان من عمل، هو البيع. . ولو نظرنا إلى دقة الأداء في البيع لوجدناها قمة الأخذ المباشر للرزق. إن كلام الله يصل في دقته إلى ما لا يصل إليه كلام بشر، فلم يقل الله مثلا «اتركوا الصنعة» «اتركوا الحرث» ولكن الحق جاء بالبيع هنا لأنه قمة النفعية العاجلة. إن الذي يحرث ويزرع ينتظر وقتا قد يطول حتى تنضج الثمار، لكن الذي يبيع شيئا، فإنه ينال المنفعة فوراً، لقد جاء الأمر بترك هذه الثمرة العاجلة لأداء صلاة الجمعة، ويتضمن هذا الأمر ترك كل الأمور التي قد تأتي ثمراتها من بعد ذلك لأداء الصلاة. إن البيع هو التعبير الدقيق لأن المتكلم هو الله، والحق لم يتكلم هنا مثلا عن الشراء، لأن الشاري قد يشتري وهو كاره، لكن البائع يملأه السرور وهو يبيع فقد يذهب رجل لشراء أشياء لبيته فيسمع الأذان فيسرع إلى الصلاة ويقول لأهله من بعد ذلك: لقد ذهبت إلى الشراء، لكن المؤذن قد أذن لصلاة الجمعة، ذلك أن الإنسان يجب ألا يدفع نقودا، لكن البائع يستفيد بقمة الفائدة. لذلك يخرجنا الحق من قمة «كل الأعمال ونهاية كل الأعمال وهي مبادلة السلع بأثمانها» . لكن ماذا بعد انقضاء الصلاة؟ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1486 لقد أخرجنا من الصلاة إلى الحياة نبتغي من فضل الله، ولذلك يكون الإنتشار في الأرض والبحث عن الرزق عبادة. ولننظر إلى الدقة في قوله الحق: {فانتشروا فِي الأرض} إن الانتشار يعني أن ينساح البشر لينتظموا في كل حركات الحياة، وبذلك تعمر كل حركة فيها. إن كل حركة في الحياة هي عبادة، وهكذا نستوعب قوله الحق على لسان عيسى ابن مريم: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ومن بعد ذلك يقول الحق: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} لقد حسم عيسى ابن مريم أمر العقيدة حينما قال: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} إن في ذلك تحذيرا من أن يقول أتباع عيسى أي شيء آخر عن عيسى غير أنه عبد الله خاضع لله، مأمور بالطاعة والعبادة لله. ووضع أمامهم المنهج، فقال: {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} . وقول الحق: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} يدل على أن كل صاحب فكرة، وكل صاحب مهمة، وكل صاحب هدف لا بد أن يكون يقظ الأحاسيس، لأن صاحب الفكرة وخاصة الدينية يخرج الناس من الظلمات إلى النور. وقد يقول قائل: لماذا يعيش الناس في الظلام ولا يتجهون إلى النور من أول الأمر؟ وتكون الإجابة: إن هناك أناسا يستفيدون من وجود جموع الناس في الظلمات، لذلك يكون بينهم أناس ظالمون وأناس مظلومون، والظالم الذي يأخذ - اغتصابا - خيرَ الآخرين ويعربد في الكون يخاف من رجل الدعوة الذي ينهاه عن الظلم، ويدعوه إلى الهداية إلى منطق العقل، ومثل هذا الظالم عندما يسمع كلمة المنطق والدعوة إلى الإيمان لا يحب أن تُنطق هذه الكلمة، إنه يكره الكلمة والقائل لها. إن الداعية مأمور من الله بأن يكون يقظا لأنه إن اهتدى بكلماته أناس وسعدوا بها، فإنّه يغضب أناساً آخرين، ذلك أن المجتمع الفاسد يوجد به المستفيدون من الفساد، فالداعية عليه أن يعرف يقظة الحس، ويقظة الحس معناها الالتفاف إلى الأحاسيس الخفية الموجودة عند كل إنسان، ونحن نسمى الأشياء الظاهرة منها الحواس الخمس، اللمس، والرؤية، والسمع، والتذوق، والشم. إن رجل الدعوة مأمور بأن تعمل كل حواسه حتى يعرف من الذي يجبن ويرتجف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1487 لحظة أن تأتي دعوة الخير، ومن الذي يطمئن ويحسن الراحة لدعوة الخير. إن رجل الدعوة مأمور بدقة اليقظة والإحساس ليميز بين الذي تتغير سحنته لحظة دعوة الخير، ومن الذي يستبشر ويفرح. وعندما أعلن عيسى ابن مريم منهج الحق، وجد أنصار الظلم وأنصار البغي، وأنصار الظلمات غير معجبين بالمنهج الواضح للإيمان بالله، لذلك أحس منهم الكفر لقد كان مليئا باليقظة والانتباه. إنه يعلم أنه قد جاء برسالة من الله؛ ليخرج أناساً من مفسدة إلى مصلحة. وعندما أحس منهم الكفر، أراد أن ينتدب جماعة ليعينوه على أمر الدعوة. {قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله} ؟ إن الدعوة تحتاج إلى معركة، والمعركة تحتاج إلى تضحية. والتضحية تكون بالنفس والنفيس، لذلك لا بد أن يستثير ويحرك من يجد في نفسه العون على هذه المسألة. وهو لم يناد أفرادا محددين، إنما طرح الدعوة ليأتي الأنصار الذين يستشرفون في أنفسهم القدرة على حمل لواء الدعوة، ولتكون التضحية بإقبال نفس لا استجابة لداع. {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله} وكلمة «أنصار» هي جمع «نصير» . والنصير هو المعين لك بقوة على بُغْيَتِك. وعندما سأل عيسى: {مَنْ أنصاري إِلَى الله؟} كانت إلى في السؤال تفيد الغاية، وهي الله، أي من ينصرني نصرا تصير غايته إلى الله وحده لا إلى هؤلاء البشر؟ إنه لا يسأل عن أناس يدخلون في لواء الدعوة من أجل الغنيمة أو يدخلون من أجل الجاه أو غير ذلك إنه يسأل عن أهل العزم ليكون كل منهم متجها بطاقته إلى نصرة الله وحده. ومثال ذلك ما دار بين رسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين رجال من المدينة في أثناء مبايعتهم له في العقبة فقد قال لهم رسول الله «:» أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون فيه نساءكم وأبناءكم «فأخذ الداء بن معرور بيده ثم قال:» نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مِما نمنع منه أزرنا «فبايعوا رسول الله على ذلك فقام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين اليهود حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعنَا» ؟ فتبسم رسول الله ثم قال: «بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1488 أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم «. أقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنكم ستمتلكون الأرض وستسودون الدنيا، أو ستنتصرون على أعدائكم؟ لا. بل قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنا منكم وأنتم مِنِّي. لماذا؟ لأنه لو قال لهم ستنتصرون على أعدائكم، فقد يدخلون المعركة، ويموت واحد منهم؛ ولا يرى النصر، لكن الأمر الذي سيراه كل المؤمنين أن رسول الله منهم وأنهم من رسول الله وما داموا كذلك فسيدخلون معه الجنة وهي الغاية الأصيلة. وعندما سأل عيسى ابن مريم {مَنْ أنصاري إِلَى الله} فكأنه كان يسأل: من يعينني معونة غايتها الله؟ ولماذا نأخذ هذا المعنى؟ تكون الإجابة: أنا آخذ المعنى على قدر ذهني؛ لأن مرادات الله في كلماته لا تتناهى كمالاً، وقد يأتي غيري ويأخذ منها معنى آخر. ومعنى «النصير» : هو «من ينصر بجهد وقوة» . وننظر النصر في الإيمان كيف يأتي؟ إن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن النصر في الإيمان قال: {ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] . إذن فالنصر منا لله بأن نُطبق دينه، وهذا مراد الله، ولذلك يأتي النصر مرة من المؤمن لربه، ومرة من الرب لمربوبه، وقد يكون مراد عيسى - عليه السلام - من الذي ينصرني كي ينضم إلى الله في النصر؟ ونحن هنا أمام معسكرين معسكر الإيمان، ومعسكر الكفر. لقد سأل عيسى {مَنْ أنصاري إِلَى الله} أي أنه يسأل عن الذين بإمكانهم أن ينضموا إلى غاية هي الله ونتفهم نحن هذا المعنى على ضوء ما قاله الحق: {ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] . ونعرف أيضا أن هناك نصراً من المؤمن لله، وهناك نصر من الله للمؤمن. وهكذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1489 يكون سؤال عيسى ابن مريم {مَنْ أنصاري إِلَى الله} ؟ فقد أفاد المعنيين معاً. وكانت الإجابة: {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . والحواريون مأخوذة من الحور، وهو شدة البياض وهم جماعة أشرقت في وجوههم سيماء الإيمان فكأنها مشرقة بالنور. ونور الوجه لا يقصد به البشرة البيضاء، ولكن نور الوجه في المؤمن يكون بإشراقة الإيمان في النفس، ولذلك يصف الحق المؤمنين برسالة رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29] . فحتى لو كان المؤمن أسود اللون فإن له سمة على وجهه. كيف ولماذا؟ لأن الإنسان مكون من أجهزة، ومكون من ذرات، وكل جهاز في الإنسان له مطلوب محدد وساعة أن تتجه كل الأجهزة إلى ما أراده الله، فإن الذي يحدث للإنسان هو انسجام كل أجهزته، وما دامت الأجهزة منسجمة فإن النفس تكون مرتاحة، ولكن عندما تتضارب مطلوبات الأجهزة، تكون السحنة مكفهرة. عندما قال عيسى: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} سمع الاستجابة من الحواريين، والحواريون قوم لهم إشراقات انسجام النفس مع الإيمان، أو هم قوم بيض المعاني أي أن معانيهم بيضاء ومشرقة. والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سمى بعضا من صحابته حواري رسول الله وهم الذين جعلهم رسول الله معه طوال الوقت. وحين قال الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} كان ذلك يعني أن كل إنسان منهم يريد نصرة الله. فينضم إلى الله ناصرا للمنهج وهذا يتطلب أن يعرف كل منهم المنهج. ونحن نعرف مقومات النصرة لله. إنه الإيمان: وما الإيمان؟ إنه اطمئنان القلب إلى قضية ما، هذا هو الإيمان في عمومه. فلو لم أكن مؤمنا بأن الطريق الذي أسير فيه موصلٌ إلى غاية مطلوبة لي لما سرت فيه. مثال ذلك المسافر من القاهرة إلى دمياط لو لم يعتقد صحة الطريق لما سلك هذا الطريق، وإن لم اعتقد أنني إن لم أذاكر دروسي سوف أرسب لما ذاكرت. إذن فكل أمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1490 في الدنيا يتم بناؤه على الإيمان، لكن إذا أطلق الإيمان بالمعنى الخاص، فهو اطمئنان القلب إلى قمة القضايا، وهي الإيمان بالله، لذلك فأسلحة النصر إلى الله هي: إسلام كل جوارح الإنسان إلى الله. ولذلك قال الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . لماذا يشهد الرسول لهم؟ لأن المفروض في الرسول أن يبلغ القوم عن الله، فيشهد عليهم كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الحج: 78] . ولنا أن نلحظ أن الحق أورد على لسانهم - الحواريين - الإيمان أولا، لأنه أمر غيبي عقدي في القلب، وجاء من بعد ذلك على لسان الحواريين طلب الشهادة بالإسلام؛ لأن الإسلام خضوع لمطلوبات الإيمان وأحكامه. إن قولهم: {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} هو أيضا طلب منهم يسألونه لعيسى ابن مريم أن يبلغهم كل مطلوبات الإسلام قل لنا افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا إنهم قالوا: «آمنا» وما داموا قد أعلنوا الإيمان بالله، فهم آمنوا بمن بلغهم عن الله، والمطلوب من عيسى ابن مريم أن يشهد بأنهم مسلمون، ولا تتم الشهادة إلا بعد أن يبلغهم كل الأحكام وقد بلغهم ذلك وعملوا به وقالوا من بعد ذلك: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1491 فهل يكون إعلانهم للإيمان، يعني إيمانهم بتشريعات رسالة سابقة، لا، إن الإيمان هنا مقصود به ما جاء به عيسى من عند الله؛ لأن كل رسول جاء بشيء من الله، فوراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1491 مجيء رسول جديد أمر يريد الله إبلاغه للناس، ونحن نعلم أن العقائد لا تغيير فيها؛ وكذلك الأخبار؛ وكذلك القصص، ولكن الأحكام هي التي تتغير. فكأن إعلان الحواريين هو إعلان بالإيمان بما جاء سابقا على عيسى ابن مريم من عقائد وبما جاء به عيسى ابن مريم من أحكام وتشريعات. وقولهم: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ} كلمة {بِمَآ أَنزَلَتَ} تدل على منهج منزل من أعلى إلى أدنى، ونحن حين نأخذ التشريع فنحن نأخذه من أعلى. ولذلك قلنا سابقا: إن الله حينما ينادي من آمن به ليتبع مناهج الإيمان يقول: «تعالوا» أي ارتفعوا إلى مستوى التلقي من الإله وخذوا منه المنهج ولا تظلوا في حضيض الأرض، أي لا تتبعوا أهواء بعضكم وآراء بعضكم أو تشريع بعضكم، وما دام المؤمن يريد العلو في الإيمان، فليذهب بسلوكه في الأرض إلى منهج السماء. وقولهم: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول} . إن المتبع عادة يقتنع بمن اتبعه أولا، حتى يكون الاتباع صادرا من قيم النفس لا من الإرغام قهرا أو قسرا، فنحن قد نجد إنسانا يرغم إنسانا آخر على السير معه، وهنا لا يقال عن المُرغَم: إنه «اتبع» إنما الذي يتبع، أي الذي يسير في نفس طريق صاحبه يكون ذلك بمحض إرادته ومحض اختياره. فلو سار شخص في طريق شخص آخر بالقهر أو القسر لكان ذلك الاتباع بالقالب، لا بالقلب. ولذلك فمن الممكن لمتجبر أن يمسك سوطا ويقهر مستضعفا على السير معه، وفي ذلك إخضاع لقالب المستضعف، لكنه لم يخضع قلبه، فالإكراه يخضع القالب لكنه لا يخضع القلب. {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] . إن الحق يخبر رسوله أن أحدا من العباد. لا يستعصي على خالقه، وأنه سبحانه القادر على الإحياء والإماتة، ولو أراد الله أن ينزل آية تخضع أعناق كل العباد لَفَعَل، لكن الحق لا يريد أعناق الناس، ولكنه يطلب القلوب التي تأتي طواعية وبالاختيار، وأن يأتي العبد إلى الإيمان وهو قادر ألا يجيء. هذه هي العظمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1492 الإيمانية. وقال الحواريون بعد إعلانهم الإيمان بما جاء به عيسى: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} إنه الطلب الإيماني العالي الواعي، الفاهم. إنهم يحملون أمانة التبليغ عن الرسول، ويشهدون كما يشهد الرسل لأممهم، ويطلبون أن يكتبهم الله مع الذين يشهدون أن الرسل يبلغون رسالات الله وأنهم يحملونها من بعدهم؛ ولذلك قلنا عن أمة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: إنها الأمة التي حملها الله مهمة وصل بلاغ الرسالة المحمدية إلى أن تقوم الساعة. لماذا؟ ها هو ذا القول الحق: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الحج: 78] . ولذلك فلن يأتي أنبياء أو رسل من بعد أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد ائتمن الله أمة محمد؛ بعد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لذلك فلا نبوة من بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وبعد ذلك يخبرنا الحق: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1493 إن الأشياء التي يدركها العقل هي مسميات ولها أسماء وتكون أولا بالحس؛ لأن الحس هو أول مصاحب للإنسان لإدراك الأشياء، وبعد ذلك تأتي المعاني عندما نكبر ونعرف الحقائق. إن البداية دائما تكون هي الأمور المحسة، ولذلك يقول الله عن المنهج الإيماني: إنه طريق مستقيم، أي أن نعرف الغاية والطريق الموصل إليها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1493 وكلمة «الطريق المستقيم» من الأمور المحسة والتي يتعرف الناس عليها بالتطبيق لقواعد المنهج. إن كلمة «مكر» ، مأخوذة من الشجر، فساعة أن ترى الشجرة التي لا تلتف أغصانها على بعضها فإن الإنسان يستطيع أن يحكم أن ورقة ما، هي من فرع ما، ولكنْ هناك نوع من الأشجار تكون فروعه ملفوفة على بعضها بحيث لا يستطيع الإنسان أن يعرف أي ورقة من أي فرع هي، ومن هذا المعنى أخذنا كلمة «المكر» فالرجل الذي يلف ويدور، هو الذي يمكر، فالذي يلف على إنسان من أجل أن يستخلص منه حقيقة ما، والذي يحتال من أجل إبراز حقيقة، فإن كان ذلك بغير قصد الضرر نسميه حيلة، وإن كان بقصد الضرر فهذا هو المكر السيء. ولذلك فالحق يقول: {وَمَكْرَ السيىء وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] . ومعنى ذلك أن هناك مكراً غير سيء، أي أن المكر الذي لا يقصد منه إيقاع الضرر بأحد، فإننا نسميه مكرَ خير، أما المكر الذي يقصد منه إيقاع الضرر فهو «المكر السيء» . ولنا أن نسأل: ما الذي يدفع إنسانا ما إلى المكر؟ إن الذي يمكر يداري نواياه، فقد يظهر لك الحب بينما هو مبغض، ويريد أن يزين لك عملا ليمكر بك، فيحاول مثلا أن يصحبك إلى مكان بعيد غير مأهول بالناس ويريد أن يوقع بك أبلغ الضرر، وقد يكون القتل. إذن، فمن أسس المكر التبييت، والتبييت يحتاج إلى حنكة وخبرة، لأن الذي يحاول التبييت قد يجد قبالته من يلتقط خبايا التبييت بالحدس والتخمين، وما دام المكر يحتاج إلى التبييت، فإن ذلك علامة على الضعف في البشر لأن القوي لا يمكر ولا يكيد ولكن يواجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1494 إن القوي لحظة أن يمسك بخصم ضعيف، فمن الممكن أن يطلقه، لأن القوي مطمئن إلى أن قوته تستطيع أن تؤذي هذا الضعيف. لكن الضعيف حين يملك قويا، فإنه يعتبر الأمر فرصة لم تتكرر، ولذلك فالشاعر يقول: وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت ... كذلك قدرة الضعفاء إن الضعيف هو الذي يمكر ويبيت. والذي يمكر قد يضع في اعتباره أن خصمه أقوى منه حيلة وأرجح عقلا، وقد ينكل به كثيرا، لذلك يخفى الماكر أمر مكره أو تبييته. فإذا ما أراد خصوم المنهج الإيماني أن يمكروا، فعلى من يمكرون؟ إن الرسول لا يكون في المعركة بمفرده ولكن معه الله. {يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] . فالله يعلم ما يبيت أي إنسان، ولذلك فعندما يريد الله أن يبرز شيئا ويوجده فلن يستطيع أحد أن يواجه إرادة الله وأمره، إذن فمكر الله لا قبل لأحد لمواجهته. {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] وساعة تجد صفة تستبعد أن يوصف بها الله فاعلم أنما جاءت للمشاكلة فقط وليست من أسماء الله الحسنى، إن المؤمنين بإمكانهم أن يقولوا للكافرين: إنكم إن أردتم أن تبيتوا لنا، فإن الله قادر على أن يقلب المكر عليكم، أما أسماء الله وصفاته فهي توقيفية، نزل بها جبريل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن إذا وجد فعل لله لا يصح أن نشتق نحن منه وصفا ونجعله اسما لله، {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} ، فليس من أسماء الله مخادع، أو ماكر، إياك أن تقول ذلك، لأن أسماء الله وصفاته توقيفية، وجاء القول هنا بمكر الله كمقابل لفعل من البشر، ليدلهم على أنهم لا يستطيعون أن يخدعوا الله، ولا يستطيعون أن يمكروا بالله، لأن الله إذا أراد أن يمكر بهم، فهم لا يستطيعون مواجهة ذلك. إن الحق يقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1495 {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} . إذن فهناك «مكر خير» . . وذلك دليل على أن هناك من يصنع المكر ليؤدي إلى الخير. ولماذا تأتي هذه الآية هنا؟ لأن هناك معركة سيدخلها عيسى ابن مريم عليه السلام، وعيسى عليه السلام لم يجيء ليقاتل بالسيف ليحمي العقيدة، إنما جاء واعظا ليدل الناس على العقيدة، إن النصرة لا تكون بالسيف فقط، ولكن بالحجة. ونحن نعرف أن السماء كانت لا تطلب من أي رسول أن يحارب في سبيل العقيدة لأن السماء هي التي كانت تتولى التأديب. {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] . ولم يجيء قتال إلا حينما طلب بنو إسرائيل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [البقرة: 246] . ولكن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي التي أذن الله لها أن تحمل السيف لتؤدب به الذين يحولون دون بلوغ العقيدة الصحيحة للناس. إن السيف لم يأت ليفرض العقيدة، إنما ليحمي الاختيار في النفس الإيمانية، فبدلا من أن يترك الناس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1496 مقهورين على اعتناق عقيدة خاطئة فالمسلمون يرفعون السيف في وجه الظالم القاهر لعباد الله. وعباد الله لهم أن يختاروا عقيدتهم. ولذلك فعندما يقول اعداء الإسلام: «أن الإسلام انتشر بالسيف» . نرد عليهم: إن الله قد بدأ الإسلام بضعف حتى يسقط هذا الاتهام، لقد كان المسلمون الأوائل ضعفاء لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فيتجه بعضهم إلى الحبشة، ويهاجرون بحثا عن الحماية، فلو كان الإسلام قد انتشر بالسيف فلنا أن نسأل: من الذي حمل أول سيف ليكره أول مؤمن؟ إن المؤمنين رضوا الإسلام دينا وهم في غاية الضعف ومنتهاه. إن الإسلام قد بدأ واستمر وما زال يحيا بقوة الإيمان. إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء في أمة أمية، ومن قبيلة لها شوكتها، وشاء الحق ألا ينصر الله دينه بإسلام أقوياء قريش أولا، بل آمن بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الضعفاء وخاض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رحلة الدعوة الإيمانية مدة ثلاثة عشر عاما، دعوة للإيمان بالله، ثم هاجر رسول الله إلى المدينة، إلى أن صار كل المسلمين وحدة إيمانية قوية، وارتفع السيف لا ليفرض العقيدة، ولكن ليحمي حرية اختيار الناس للعقيدة الصحيحة. ولو أن الإسلام انتشر بالسيف. فكيف نفسر وجود أبناء لديانات أخرى في البلاد المسلمة؟ لقد أتاح الإسلام فرصة اختيار العقيدة لكل إنسان. إذن فكل مسلم يمثل وحدة إيمانية مستقلة، وواجب كل مسلم أن يعرف أن الإسلام قد انتشر بالأسوة الحسنة، وأنه كمؤمن بالله وبدين الله، قد اصطفاه الله ليطبق السلوك الإيماني، فقد مكن الله للإسلام في الأرض بالسلوك والقدوة. إن كل مسلم عليه واجب ألا يترك في سلوكه ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام إلى الإسلام، ذلك أن اختلال توازن سلوك المسلم بالنسبة لمنهج الله هو ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام، ولذلك فالمفكرون في الأديان الأخرى حينما يذهبون إلى الإسلام، ويقتنعون به، إنما يقتنعون بالإسلام لأنه منهج حق. إنهم يمحصونه بالعقل، ويهتدون إليه بالفطرة الإيمانية. أما الذين يريدون الطعن في الإسلام، فهم ينظرون إلى سلوك بعض من المسلمين، فيجدون فيه من الثغرات ما يتهمون به الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1497 إن المفكرين المنصفين يفرقون دائما بين العقيدة، ومتبع العقيدة، ولذلك فأغلب المفكرين الذين يتبعون هذا الاتجاه، يلجأون إلى الإسلام ويؤمنون به. ولكن الذين يذهبون إلى الإسلام من جهة أتباعه، فإن صادفوا تابعا للإسلام ملتزما دعاهم ذلك إلى أن يؤمنوا بالإسلام، ولذلك كانت الجمهرة الكثيرة الوفيرة في البلاد الإسلامية المعاصرة في بلاد لم يدخلها فتح إسلامي، وإنما دخلتها الأسوة الإسلامية في أفراد تابعين ملتزمين، فراق الناس ما عليه هؤلاء المسلمون من حياة ورعة، ومن تصرفات مستقيمة جميلة، ومن أسلوب تعامل سمح أمين، نزيه، نظيف، كل ذلك لفت جمهرة الناس إلى الإسلام، وجعلهم يتساءلون: ما الذي جعلكم على هذا السلوك الطيب؟ قالوا: لأننا مسلمون. وتساءل الناس في تلك المجتمعات: وما معنى الإسلام؟ وبدأ المسلمون يشرحون لهم الإسلام. إذن، فالذي لفت إلى الإسلام هو السلوك المنهجي الملتزم، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى حين يعرض منهج الدعوة الناجحة يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} [فصلت: 33] . والدعوة إلى الله تكون باللسان والعمل الصالح، ليدل المؤمن على أن ما يدعو إليه غيره قد وجده مفيدا فالتزمه هو، فالعمل الصالح هو شهادة للدعوة باللسان، ولا يكتفي المؤمن بذلك، إنما يعلن ويقول: {إِنَّنِي مِنَ المسلمين} يقول ذلك لمن؟ يقوله لمن يرونه على السلوك السمح الرضى الطيب. إنها لفتة من ذاته إلى دينه. إن هذا يفسر لنا كيف انتشر الإسلام بوساطة جماعة من التجار الذين كانوا يذهبون إلى كثير من البلاد، وتعاملوا مع الناس بأدب الإسلام، وبوقار الإسلام، وبورع الإسلام، فصار سلوكهم الملتزم لافتا، وعندما يسألهم القوم عن السر في سلوكهم الملتزم، ويقول الإنسان منهم: أنا لم أجيء بذلك من عندي ولكن من اتباعي لدين الله الإسلام. ومثال ذلك في السلوك الأسوة: المسلمون الأوائل من صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد كان صحابته رضوان الله عليهم يخافون عليه من خصومه، فكانوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1498 يتناوبون حراسته، ومعنى تناوب الحراس أنهم أرادوا أن يكونوا المصد للأخطار يتداولون ذلك فيما بينهم. وأراد الحق سبحانه أن يهاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى المدينة خفية، ونام علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه مكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد أراد علي - كرم الله وجهه - أن يكون هو المصد، فإذا جاء خطر فإنه هو الذي يصده. لا شك أنه كان يفعل ذلك لأنه واثق أن بقاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خير للإسلام حتى ولو افتداه بروحه. هذا هو التسامى العالي من صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. كان الواحد منهم يحب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن الأسوة بالرسول واتباع دين الله إنّما يعود ذلك عليه بالخير العميم. وعندما يموت واحد منهم في سبيل المحافظة على من أرسله الله رسولا ليبلغ دعوته فقد نال الشهادة في سبيل الله. هذا هو أبو بكر الصديق رضوان الله عليه مع رسول الله في الغار. ألم يجد الصديق شقوقا فيمزع من ثيابه ليسد الشقوق؟ ألم يضع قدمه في شق لأنه يخشى أن تجيء حشرة من الحشرات قد تؤذي حضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ لقد أراد أن يحافظ على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى ولو افتداه، وهذه شهادة بأن صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آمنوا بأن بقاء الرسول خير لهم وللإيمان ولنفوسهم من بقائهم هم أنفسهم. وهكذا أراد الله نصرة رسوله على الكفار، عندما مكروا وبيتوا أن يقتلوه قبل الهجرة، وهكذا أراد الله نصر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد الهجرة عندما واجه أعداء الإسلام في القتال، لقد مكروا، ولكن الله خير الماكرين. وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول بهذا النصر من الله: لن تستطيعوا أن تقاوموا محمدا لا بالمواجة ولا بالتبييت. وها هو ذا تابع من أتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يهاجر علنا، ويقول: من أراد أن تثكله أمه، أو ترمل زوجته، أو ييتم ولدُه، فليلقني وراء هذا الوادي. بينما هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خفية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1499 لماذا؟ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسوة للضعيف. إن القوى يستطيع حماية نفسه ويخرج إلى الهجرة مجاهرا. أما الضعيف فلا بد أن يهاجر خفية؛ لذلك فالأسوة للضعيف كانت في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد مكر أعداء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن الله مكر بهم. {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} [إبراهيم: 46] . إن مكرهم رغم عنفه وشدته والذي قد يؤدي إلى زوال الجبال، هذا المكر يبور عند مواجهته لمكر الله الذي يحمى رسله وعباده الصالحين. لقد جاء مكر بني إسرائيل وأنزل فيه الله قوله الحكيم: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} . لأنهم أرادوا أن يتخلصوا من سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام. فقال الحق سبحانه: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1500 لقد جاء الحق سبحانه بعد عرضه لمسألة المكر بهذا القول الحكيم، وذلك دليل على أن عيسى عليه السلام أحس من بني إسرائيل الكفر، والتبييت، ومؤامرة للقتل فطمأن الله عيسى إلى نهاية المعركة. {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} . إنها أربعة مواقف، أرادها الله لعيسى ابن مريم عليه السلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1500 ونريد أن نقف الآن عند كلمة قول الحق: {مُتَوَفِّيكَ} . نحن غالبا ما نأخذ معنى بعض الألفاظ من الغالب الشائع، ثم تموت المعاني الأخرى في اللفظ ويروج المعنى الشائع فنفهم المقصد من اللفظ. إن كلمة «التوفي» نفهمها على أنها الموت، ولكن علينا هنا أن نرجع إلى أصل استعمال اللفظة، فإنه قد يغلب معنى على لفظ، وهذا اللفظ موضوع لمعان متعددة، فيأخذه واحد ليجعله خاصا بواحد من هذه. إن كلمة «التوفي» قد يأخذها واحدا لمعنى «الوفاة» وهو الموت. ولكن، ألم يكن ربك الذي قال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ؟ وهو القائل في القرآن الكريم: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60] . إذن {يَتَوَفَّاكُم} هنا بأي معنى؟ إنها بمعنى ينيمكم. فالنوم معنى من معاني التوفي. ألم يقل الحق في كتابه أيضا الذي قال فيه: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} . {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] . لقد سمى الحق النوم موتا أيضا. هذا من ناحية منطق القرآن، إن منطق القرآن الكريم بين لنا أن كلمة «التوفي» ليس معناها هو الموت فقط ولكن لها معان أخرى، إلا أنه غلب اللفظ عند المستعملين للغة على معنى فاستقل اللفظ عندهم بهذا المعنى، فإذا ما أطلق اللفظ عند هؤلاء لا ينصرف إلا لهذا المعنى، ولهؤلاء نقول: لا، لا بد أن ندقق جيدا في اللفظ ولماذا جاء؟ وقد يقول قائل: ولماذا يختار الله اللفظ هكذا؟ والإجابة هي: لأن الأشياء التي قد يقف فيها العقل لا تؤثر في الأحكام المطلوبة ويأتي فيها الله بأسلوب يحتمل هذا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1501 ويحتمل ذلك، حتى لا يقف أحد في أمر لا يستأهل وقفة. فالذي يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رفعه الله إلى السماء ما الذي زاد عليه نت أحكام دينه؟ والذي لا يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رُفع، ما الذي نقص عليه من أحكام دينه، إن هذه القضية لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين، لكن العقل قد يقف فيها؟ فيقول قائل: كيف يصعد إلى السماء؟ ويقول آخر: لقد توفاه الله. وليعتقدها أي إنسان كما يريد لأنها لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين. إذن، فالأشياء التي لا تؤثر في الحكم المطلوب من الخلق يأتي بها الله بكلام يحتمل الفهم على أكثر من وجه حتى لا يترك العقل في حيرة أمام مسألة لا تضر ولا تنفع. وعرفنا الآن أن «توفى» تأتي من الوفاة بمعنى النوم من قوله سبحانه: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60] . ومن قوله سبحانه وتعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] . إن الحق سبحانه قد سمى النوم موتا لأن النوم غيب عن حس الحياة. واللغة العربية توضح ذلك، فأنت تقول - على سبيل المثال - لمن أقرضته مبلغا من المال، ويطلب منك أن تتنازل عن بعضه لا، لا بد أن أستوفي مالي، وعندما يعطيك كل مالك، تقول له: استوفيت مالي تماما، فتوفيته، أي أنك أخذته بتمامه. إذن، فمعنى {مُتَوَفِّيكَ} قد يكون هو أخذك الشيء تاما. أقول ذلك حتى نعرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1502 الفرق بين الموت والقتل، كلاهما يلتقي في أنه سلب للحياة، وكلمة «سلب الحياة» قد تكون مرة بنقض البنية، كضرب واحد لآخر على جمجمته فيقتله، هذا لون من سلب الحياة، ولكن بنقض البنية. أما الموت فلا يكون بنقض البنية، إنما يأخذ الله الروح، وتبقى البنية كما هي، ولذلك فرق الله في قرآنه الحكيم بين «موت» و «قتل» وإن اتحدا معا في إزهاق الحياة. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} [آل عمران: 144] . إن الموت والقتل يؤدي كل منهما إلى انتهاء الحياة، لكن القتل ينهي الحياة بنقض البنية، ولذلك يقدر بعض البشر على البشر فيقتلون بعضهم بعضا. لكن لا أحد يستطيع أن يقول: «أنا أريد أن يموت فلان» ، فالموت هو ما يجريه الله على عباده من سلب للحياة بنزع الروح. إن البشر يقدرون على البينة بالقتل، والبينة ليست هي التي تنزع الروح، ولكن الروح تحل في المادة فتحيا، وعندما ينزعها الله من المادة تموت وترم أي تصير رمة. إذن، فالقتل إنما هو إخلال بالمواصفات الخاصة التي أرادها الله لوجود الروح في المادة، كسلامة المخ أو القلب. فإذا اختل شيء من هذه المواصفات الخاصة الأساسية فالروح تقول: «أنا لا أسكن هنا» . إن الروح إذا ما انتزعت، فلأنها لا تريد أن تنتزع. . لأي سبب ولكن البنية لا تصلح لسكنها. ونضرب المثل ولله المثل الأعلى. إن الكهرباء التي في المنزل يتم تركيبها، وتعرف وجود الكهرباء بالمصباح الذي يصدر منه الضوء. إن المصباح لم يأت بالنور، لأن النور لا يظهر إلا في بنية بهذه المواصفات بدليل أن المصباح عندما ينكسر تظل الكهرباء موجودة، ولكن الضوء يذهب. وكذلك الروح بالنسبة للجسد. إن الروح لا توجد إلا في جسد له مواصفات خاصة. وأهم هذه المواصفات الخاصة أن تكون خلايا البنية مناسبة، فإن توقف القلب، فمن الممكن تدليكه قبل مرور سبع ثوان على التوقف، لكن إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1503 فسدت خلايا المخ، فكل شيء ينتهي لأن المواصفات اختلت. إذن، فالروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات خاصة، والقتل وسيلة أساسية لهدم البنية؛ وإذهاب الحياة، لكن الموت هو إزهاق الحياة بغير هدم البنية، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى. ولكن خلق الله يقدرون على البينة، لأنها مادة ولذلك يستطيعون تخريبها. إذن، «فمتوفيك» تعني مرة تمام الشيء، «كاستيفاء المال» وتعني مرة «النوم» . وحين يقول الحق: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ماذا يعني ذلك؟ إنه سبحانه يريد أن يقول: أريدك تماما، أي أن خلقي لا يقدرون على هدم بنيتك، إني طالبك إلى تاما، لأنك في الأرض عرضة لأغيار البشر من البشر، لكني سآتي بك في مكان تكون خالصا لي وحدى، لقد أخذتك من البشر تامّاً، ومعنى «تاما» ، أي أن الروح في جسدك بكل مواصفاته، فالذين يقدرون عليه من هدم المادة لم يتمكنوا منه. إذن، فقول الحق: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} هذا القول الحكيم يأتي مستقيما مع قول الحق: {مُتَوَفِّيكَ} . وقد يقول قائل: لماذا نأخذ الوفاة بهذا المعنى؟ نقول: إن الحق بجلال قدرته كان قادرا على أن يقول: إني رافعك إليّ ثم أتوفاك بعد ذلك. ونقول أيضا: من الذي قال: إن «الواو» تقتضي الترتيب في الحدث؟ ألم يقل الحق سبحانه: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] . هل جاء العذاب قبل النذر أو بعدها؟ إن العذاب إنما يكون من بعد النذر. إن «الواو» تفيد الجمع للحدثين فقط. ألم يقل الله في كتابه أيضا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب: 7] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1504 إن «الواو» لا تقتضي ترتيب الأحداث، فعلى فرض أنك قد أخذت {مُتَوَفِّيكَ} أي «مميتك» ، فمن الذي قال: إن «الواو» تقتضي الترتيب في الحدث؟ بمعنى أن الحق يتوفى عيسى ثم يرفعه. فإذا قال قائل: ولماذا جاءت {مُتَوَفِّيكَ} أولا؟ نرد على ذلك: لأن البعض قد يظن أن الرفع تبرئة من الموت. ولكن عيسى سيموت قطعا، فالموت ضربة لازب. ومسألة يمر بها كل البشر. هذا الكلام من ناحية النص القرآني. فإذا ما ذهبنا إلى الحديث وجدنا أن الله فوّض رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليشرح ويبين، ألم يقل الحق: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] . فالحديث كما رواه البخاري ومسلم: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم) ؟ . إي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين لنا أن ابن مريم سينزل مرة أخرى. ولنقف الآن وقفة عقلية لنواجه العقلانيين الذين يحاولون إشاعة التعب في الدنيا فنقول: يا عقلانيون أقبلتم في بداية عيسى أن يوجد من غير أب على غير طريقة الخلق في الإيجاد والميلاد؟ سيقولون نعم. هنا نقول: إذا كنتم قد قبلتم بداية مولده بشيء عجيب خارق للنواميس فكيف تقفون في نهاية حياته إن كانت خارقة للنواميس؟ . إن الذي جعلكم تقبلون العجيبة الأولى يمهد لكم أن تقبلوا العجيبة الثانية. إن الحق سبحانه يقول: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} [آل عمران: 55] . إنه سبحانه يبلغ عيسى إنني سأخذك تاما غير مقدور عليك من البشر ومطهرك من خبث هؤلاء الكافرين ونجاستهم، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. وكلمة «اتبع» تدل على أن هناك «مُتَّبعاً» يتلو مُتّبعا. أي أن المتبِّع هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1505 الذي يأتي بعد، فمن الذي جاء من بعد عيسى بمنهج من السماء؟ إنه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولكن على أي منهج يكون الذين اتبعوك؟ أعلى المنهج الذي جاؤا به أم المنهج الذي بلغته أنت يا عيسى؟ إن الذي يتبعك على غير المنهج الذي قلته لن يكون تبعا لك، ولكن الذي يأتي ليصحح الوضع على المنهج الصحيح فهو الذي اتبعك. وقد جاء محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليصحح الوضع ويبلغ المنهج كما أراده الله. {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} فإن أخذنا المعنى بهذا؛ فإن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي التي اتبعت منهج الله الذي جاء به الرسل جميعا، ونزل به عيسى أيضا، وأن أمة محمد قد صححت كثيرا من القضايا التي انحرف بها القوم. نقول ليس المراد هنا من «فوق» الغلبة والنصر، ولكننا نريد من «فوق» الحجة والبرهان. وذلك إنما يحدث في حالة وجود قوم منصفين عقلاء يزنون الأمور بحججها وأدلتها وهم لن يجدوا إلا قضية الإسلام وعقيدة الإسلام. إذن، فالفوقية هي فوقية ظهور دليل وقوة برهان. ولذلك قال الحق سبحانه: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة: 33] . وفي موقع آخر من القرآن الكريم، يؤكد الحق ظهور الإسلام على كافة الأديان وهو الشاهد على ذلك: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً} [الفتح: 28] . ومعنى ذلك أن الله قد أراد للإسلام أن يظهر على كل الأديان. وقد يقول قائل: إن في العالم أديانا كثيرة، ولم يظهر عليها الإسلام، والموجودون من المسلمين في العالم الآن مليار وأضعاف ذلك من البشر على ديانات أخرى. نقول لمثل هذا القائل: إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1506 الله أراد للإسلام أن يظهره إظهار حجة، لا من قِبَلِكم أنتم فقط ولكن من قِبلهم هم كذلك، والناس دائما حين يجتمعون ليشرعوا القوانين وليحددوا مصالح بعضهم بعضا، يلجأون أخيرا إلى الإسلام. فلننظر إلى من يشرع من جنس تشريع الأرض ولنسأل أرأيت تشريعا ارضيا ظل على حاله؟ لا، إن التشريع الأرضي يتم تعديله دائما. لماذا لأن الذي وضع التشريع الأول لم يكن له من العلم ما يدله على مقتضيات الأمور التي تَجدّ، فلما جَدّت أمور في الحياة لم تكن في ذهن من شرع أولا، احتاج الناس إلى تعديل التشريع. ولنمسك بأي قانون بشرى معدل في أي قضية من قضايا الكون، ولننظر إلى أي اتجاه يسير؟ إنه دائما يتجه إلى الإسلام، وإن لم يلتق مع الإسلام فإنه يقرب من الإسلام. وعندما قامت في أوروبا ضجة على الطلاق في الإسلام، ما الذي حدث؟ جاء التشريع بالطلاق في إيطاليا تحت سمع وبصر الفاتيكان. هل شرعوا الطلاق لأن الإسلام أباح الطلاق؟ لا. إنما شرعوه لأن أمور الحياة أخضعتهم إلى ضرورة تشريع الطلاق، فكأنهم أقاموا الدليل بخضوعهم لأمور الحياة على أن ما جاء به الإسلام قبل التجربة كان حقا. بدليل أن أوربا لجأت إلى تشريع الطلاق لا كمسلمين ولكن لأن مصالح حياتهم لا تتأتى إلا به. وهل هناك ظهور وغلبة أكثر من الدليل الذي يأتي من الخصم؟ تلك هي الغلبة. لقد وصلوا إلى تشريع الطلاق، رغم كراهيتهم للإسلام كدليل على صدق ما جاء به الإسلام. وفي الربا، الذي يريد البعض هنا أن يحلله، تجد أوربا تحاول التخلص منه، لأنهم توصلوا بالتجربة إلى أن المال لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى الصفر أي؟ أنهم عرفوا أن إلغاء الربا ضروري حتى يؤدي المال وظيفته الحقيقية في الحياة، والذي ألجأهم إلى الوصول إلى هذه الحقيقة هو أن فساد الحياة سببه الربا، فأرادوا أن يمنعوا الربا. لقد وصلوا إلى ما بدأ به الإسلام من أربعة عشر قرنا. أتريد غلبة، وتريد فوقا، وتريد ظهورا، أكثر من هذا بالنسبة لدين الله؟ إذن، ففهم الخصوم ما يصلح أمر الحياة اضطرهم إلى الأخذ بمبادئ الإسلام ونتابع بالتأمل قول الحق: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} ، أي أن الحق جاعل الذين ساروا على المنهج الأصيل القادم من الله فوق الذين كفروا. فالذين يقولون فيك يا عيسى ابن مريم ما لا يقال من ألوهية، هل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1507 اتبعوك؟ لا. . لم يتبعوك. إن الذي يتبع عيسى هو الذي يأتي على المنهج القادم من الله. إن عيسى ابن مريم رسول إلى بني إسرائيل. وديانات السماء لا تأتي لعصبيات الجنس أو القومية أو الأوطان أو غير ذلك، ولكن المنهج هو الذي يربط الناس بعضهم ببعض، ولذلك جاء لنا الحق بقصة سيدنا نوح لنتعرف على هذه المعاني. لقد وعد الله سيدنا نوحا أن ينجي له أهله. وعندما دعا نوح عليه السلام ابنه ليركب معه: ولكن ابن نوح رفض، فقال نوح عليه السلام لله: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45] . فهل الأهلية بالنسبة للأنبياء هي التي قالها نوح هل أهلية الدم؟ لا، لأن الحق قال: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46] . لماذا؟ لأن أهل النبوة هم المؤمنون بها فالذين اتبعوا المنهج الذي جاء به المسيح من عند الله ليس من يطلق على نفسه النسب للمسيح، ومن يطلق على نفسه أنه يهودي إن هذه أسماء فقط. إن المتبع الحق هو من يتبع المنهج المنزل من عند الله. إن الأنبياء ميراثهم المنهج والعلم. ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سلمان وهو فارسي لا يجتمع مع رسول الله في أرومة عربية: «سلمان منا آل البيت» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1508 وهكذا انتسب سلمان إلى آل البيت بحكم إيمانه، وبنص حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن: «وجاعل الذي اتبعوك فوق الذي كفروا إلى يوم القيامة» ، أي أن الحق سبحانه قد جعل الفوقية للذين يتبعون المنهج الحق القادم من عند الله. والذي يصوب منهج عيسى هو محمد رسول الله هل تكون الفوقية هي فوقية مساحة جغرافية؟ لأن رقعة من الأرض التي تتبع الديانات الأخرى غير الإسلام أكبر مساحة من رقعة أرض المؤمنين بالإسلام؟ لا. . فالفوقية تكون فوقية دليل. وقد يقول قائل: إن الدليل لا يلزم. نرد قائلين: كيف لا يلزم الدليل؟ ونحن نرى الذين لا يؤمنون به يدللون عليه. كيف يدللون عليه؟ إنهم يسيرون فيما يقننون من قوانين البشر إلى ما سبق إليه تقنين السماء. وما دام هنا في هذه الآية كلمة «فوق» وكلمة «كفروا» وهناك أتباع إذن، فهناك قضية وخصومة، وهناك حق، وهناك باطل، وهناك هدى، وهناك ضلال. فلا بد من الفصل في هذه القضية. ويأتي الفصل ساعة ألا يوجد للإنسان تصرف إرادى لا على ذات نفسه ولا على سواه. إن الظالمين يستطيعون التصرف في الأرض، لكن عندما يكون المرجع إلى الله فالله يقول: أنا ملكتكم وأنتم عصاة لي في كثير من الأسباب، لكن هناك وقت تزول فيه ملكيتكم للأسباب. إذن. . فالظالم قد يتحكم على الأرض وكذلك الباطل لأن الله أوجد لنا جميعا إرادات ومرادات اختيارية. لكن في يوم القيامة فلا إرادات إلا إرادة الله: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . إذن فالحكم قادم بدون منازع. . والذي يدل على ذلك قوله الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1509 وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} [البقرة: 166 - 167] . إن الذي اتبع واحدا على ضلال يأتي يوم القيامة ليجد أن صاحب الضلال يتبرأ منه، فيقول المتبعون سائلين الله: يارب ارجعنا إلى الدنيا لننتقم ممن خدعونا، هذا من ناحية علاقة البشر بالبشر. أما من ناحية الجسد الواحد نفسه، فسوف نجد شهادة الجلود والألسنة والأيدي، بعد أن تسقط عنها إرادة الإنسان ويسقط تسخير الحق لهذه الجوارح والحواس لخدمة الإنسان، تقول الجوارح والحواس: لقد كانت لصاحبي إرادة ترغمني على أن أفعل ما لا أحب، لكن ها هو ذا يوم القيامة، فلا قهر ولا إرغام ولا تسخير لأن الملك كله لله. . لذلك تشهد الألسنة والجلود ولهذا يقول الحق: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . إن الحق يحكم فيما كانوا فيه يختلفون لتكون ثمرة الحكم هي ماذا؟ هل هناك تكليف بعد ذلك؟ لا. . لكن ثمرة الحكم هي الجزاء. ففي الآخرة لا عمل هنالك، والحكم فيها للجزاء، وكما قلنا: مادام هناك متبعون وكافرون، وجماعة فوق جماعة، وإلى الله مرجعهم، فلا بد لنا أن نرى ما هو الحكم الذي سوف يكون؟ ها هو ذا القول الحكيم: {فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1510 لماذا لم يأت الله بالحكم على المؤمنين أولا؟ لأن المؤمنين يؤمنون بذلك تماما، إنهم بإيمانهم يعرفون ذلك ويعونه. ولننتبه هنا إلى أن الحكم لا يشمل العذاب في الآخرة فقط ولكنه يشتمل على العذاب في الدنيا أيضا، فعذاب الدنيا سيكون قبل الحكم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1510 وكأن الحق يقول لنا: لا تعتقدون أن تعذيبي إياهم في الدنيا يعفيهم من تعذيبي إياهم في الآخرة لأن التعذيب في الدنيا فقط قد يصيب من آمن بي. أما من كفر بي، فإني أعذبه في الدنيا وأعذبه في الآخرة إنني لا أؤجل العذاب للكافرين إلى الآخرة فقط ولكن سأضم عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة. إن الحصيلة بعد كل شيء هي أن يعذب الكافر في الدنيا وفي الآخرة. ويقول الحق عن هذا العذاب: إنه عذاب شديد؛ لأن الحدث حين يقع لا بد أن تلحظ فيه القوة التي تناسب من أحدث. ولنضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى: إن الطفل قد يكسر شيئا في حدود قوته كطفل، والشاب قد يكسر شيئا مناسبا لقوته. إذن فالحديث يجب أن نأخذه قياسا بالنسبة لفاعله؛ فإذا كان الفاعل هو الله، فهل لأحد طاقة على عذاب الله؟ لا أحد يتصور ذلك، وليس لأحد من هؤلاء من ناصر، لأن الذي يهزمه الله ويعذبه لا ناصر له، وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل: {وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1511 أي فما دام الذين كفروا سينالون العذاب الشديد من الله، فالذين آمنوا سينالون النعيم المقيم بإذن الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1511 يقول الحق تبارك وتعالى: {ذلك} إشارة لما سبق من الأحداث، في شأن امرأة عمران، ومريم، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكان لكل واحد من هؤلاء قضية عجيبة يخرق فيها ناموس الكون، وكلها آيات، أي عجائب. وقد نقلت إلينا هذه العجائب من واقع ما رآه الذين عاصروا تلك الأحداث، وجاء الخبر اليقين بتلك العجائب في قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الحق الموصوف من الله بأنه {الذكر الحكيم} فاطمئنوا - أيها المؤمنين - إلى أن ما وصلكم عن طريق القرآن، إنما حكى واقعا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما جاء به من أخبار عن تلك الآيات هو ما يطابق الواقع الذي عاصره الناس وحكوه. وبعد ذلك يعرض الحق لنا سبحانه قضية سيدنا عيسى عليه السلام، وهي قضية يجب أن نتنبه إليها تنبها جديدا فنعرض وجهة نظر الذين يضعونه في غير الموضع الذي أراده الله، كما نعرض وجهة نظر الذين يضعونه في الموضع الذي يريده الله، فالمسألة ليست انتصارا منا في الدنيا على فريق يقول: كذا، لأنها مسألة لها عاقبة تأتي في الآخرة ويحاسبنا عليها الحق تعالى، لذلك كان من المهم جدا أن نصفيها تصفية يتضح فيها الحق، حتى لا يظلم أحد نفسه. لقد جاء عيسى عليه السلام على دين اليهودية، أي طرأ على دين اليهودية ونحن نعلم أن دين اليهودية قد تم تحريفه من اليهود تحريفا جعله ينحاز إلى الأمور المادية الصرفة، دون أدنى اعتبار للأمور الروحية والإيمان بالغيب، فهم ماديون، وتتمثل ماديتهم في أنهم قالوا لموسى عليه السلام ما حكاه القرآن الكريم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1512 {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 55] . إنهم لم يلتفتوا إلى أن بعضا من كمال وجلال الله غيبٌ؛ لأنه لو كان مشهودا محسا، لحدد - بضم الحاء وكسر الدال - وحُيِّزَ، وما دام قد حُدِدَ وحُيِّزَ في تصورهم فذلك يعني أنه سبحانه قد يوجد في مكان ولا يوجد في مكان آخر، والحق سبحانه منزه عن مثل ذلك لأنه موجود في كل الوجود، ولا نراه بالعين، لكن نرى آثار أعماله وجميل صنعه في كل الكون. إذن فكون الله غيبا هو من تمام الجلال والكمال فيه. لكن اليهود قد صوروا الأشياء كلها على أنها حسية، حتى أمور اقتيات حياتهم وهي الطعام، لقد أرادها الله لهم غيبا حتى يريحهم في التيه، فأرسل عليهم المنّ والسلوى، كرزق من الغيب الذي يأتي إليهم، لم يستنبتوه. ولم يستوردوه، ولم يعرفوا كنهه، ولم يجتهدوا في استخراجه، إنه رزق من الغيب، ومع ذلك تمردوا على هذا الرزق القادم لهم من الغيب وقالوا كما أخبر الله عنهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] . إنهم يريدون أن يكون طعامهم كما ألفوا، وأن يروا هذا الطعام كأمر مادي من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1513 أمور الحياة؛ لذلك تشككوا في رزق الغيب، وهو المن والسلوى، وقالوا: «من يدرينا أن المن قد لا يأتي، وأن السلوى قد لا تنزل علينا» فلم تكن لهم ثقة في رزق وُهب لهم من الغيب؛ لأنهم تناولوا كل أمورهم بمادية صرفة. وما دامت كل أمورهم مادية فهم في حاجة إلى هزة عنيفة تهز أوصال ماديتهم هذه؛ لتُخرجهم إلى معنى يؤمنون فيه بالغيب. ونحن نعلم أن الفكر المادي لا يرى الحياة إلا أسبابا ومسببات، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع منهم ذلك الفكر المادي، لذلك جاء بعيسى عليه السلام على غير طريق الناموس الذي يأتي عليه البشر، فجعله من امرأة دون أب، حتى يزلزل قواعد المادية عند اليهود. لكن الفتنة جاءت في قومه، فقالوا ببنوته للإله، وسبحانه منزه عن أن يكون له ولد. ولنا أن نسأل ما الشبهة التي جعلتهم يقولون بهذه البنوة؟ قالوا: إن الأمومة موجودة والذكورة ممتنعة، والشبهة إنما جاءت من أن الله نفخ فيه الروح، فالله هو الأب. نقول لهم: لو أن الأمر كذلك لوجب أن تفتنوا في آدم أولى من أن تفتنوا في عيسى؛ لأن عيسى عليه السلام كان في خلقه أمومة، أما آدم فلا أمومة ولا أبوة، فتكون الفتنة في آدم عليه السلام أكبر، وإن قلتم: «إن الحق قال: إنه نفخ فيه من روحه» ، فلكم أن تعرفوا قول الله في آدم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28 - 29] . إذن فالنفخ هنا في آدم موجود، فلماذا سكتم عن هذه الحكاية منذ آدم وحتى مجيء عيسى عليه السلام، وهكذا يتم دحض تلك الحجة ونهايتها، وبعد ذلك نأتي إلى قضية أخرى، وهي توفيه أو وفاته، إلى القضيتين معا - توفيه ووفاته - حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1514 نُبَيِّن الرأيين معا: وهنا نتساءل: لماذا فتنتم في ذلك؟ يقولون: لقد أحيا عيسى الموتى، ونقول لهم: ألم تأخذوا تاريخ إبراهيم عليه السلام حينما قال الله له: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] . إذن فمجال الفتنة في إبراهيم عليه السلام كبير، وكذلك، ألم يجيء موسى عليه السلام بآية هي العصا؟ إنه لم يجيء ميتا كانت فيه حياة، إنما أجرى الله على يديه خلق الحياة فيما لم تثبت له حياة، فأصبحت العصا - وهي جماد - حية تسعى لماذا إذن لم تفتنوا في عصا موسى عليه السلام؟ وهكذا نعرف انه لا يصح أن يفتن أحد في المعجزة التي جاءت بعيسى عليه السلام، أو في إحيائه الموتى بإذن الله، وأتباع عيسى عليه السلام يتفقون معنا أن الله سبحانه وتعالى غيب، ولكنهم يختلفون معنا فيقولون: إن الله أراد أن يؤنس البشر بصورة يتجلى لهم فيها بشرا فجاء بعيسى عليه السلام ليتحقق لهم ذلك الأنس. ونقول لهم: سنبحث هذه المسألة بدون حساسية، وبدون عصبية، بل بالعقل، ونسأل «هل خلق الله عيسى ليعطي صورة للإله؟ إن عيسى كان طفلا، ثم كبر من بعد ذلك، فأي صورة من صورة المرحلية كانت تمثل الله؟ إن كانت صورة طفل فهل هي صورة الله؟ وإن كانت صورة كهل فهل هي صورة الله؟ إن لله صورة واحدة لا نراها ولا نعرف كنهها فهو سبحانه» ليس كمثله شيء «، فأية صورة من الصور التي تقولون: إنها صورة الله؟ وإن كان الله على كل هذه الصور فمعنى ذلك أن لله أغيارا وهو سبحانه منزه عن ذلك، ولو كان على صورة واحدة لقلنا: إنه الثبات والأمر كذلك فهو - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1515 سبحانه - الحق الذي لا يتغير إنهم يقولون: إن الله أراد أن يجعل صورته في بشر ليؤنس الناس بالإله، فتمثل في عيسى. ولنا أن نسأل: كم استغرق وجود عيسى على الأرض؟ والإجابة: ثلاثين عاما أو يزيد قليلا. وهكذا تكون فترة معرفة الناس بالصورة الإلهية محدودة بهذه السنوات الثلاثين طبقا لتصوركم. ولا بد ان نسأل» ما عمر الخلق البشرى كله؟ «إن عمر البشرية هو ملايين السنين. فهل ترك الله خلقه السابقين الأولين بدون أن يبدي لهم صورته، ثم ترك خلقه الآخرين الذين قدموا إلى الحياة بعد وفاة عيسى - أي تمام مهمته - ورفعه، بدون أن يعطيهم صورة له؟ إن هذا تصور لإله ظالم، وسبحانه وتعالى منزه عن الشرك والظلم. فلا يعقل أن يضن بصورته فلا يبقيها إلا ثلاثين عاما؟ إن هذا القول لا يقبله عقل يثق في عدالة الله المطلقة. ثم إنهم يقولون: إن عيسى عليه السلام قد صلب، وهم معذورون والحق سبحانه وتعالى قد عذرهم في ذلك فأورد التأريخ الحق العادل، حين يقول: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} [النساء: 157] . لقد جعل الله لهم عذرا في أن يقولوا: إنه قتل أو صلب؛ لأنه شبه لهم وكان من المعقول أن يلتمسوا من الإسلام حلا لهذه المشكلة، لأن الإسلام جاء ليقول: «لا، لقد شبه لكم، فما قتلوه وما صلبوه؛ لأن هذا الفعل - القتل أو الصلب - ينقض فكرتهم عن أنه إله أو ابن إله. لأن المصلوب لو كان إلها أو ابن إله، لكانت لديه القدرة التي تغلب الصالب، فكيف يعقل الإنسان أن ينقلب الإله - أو ابن الإله - مقدورا عليه من مخلوق؟ والإسلام عندما يقول: إن عيسى ابن مريم لم يصلب فقد كرمه الله. وهكذا ترى أن الإسلام قد جاء ليصفى العقائد كلها من عيوب التحريف التي قام بها المتبعون لتلك الأديان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1516 وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعرض علينا قضية جدلية حدثت في أيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى يخرج الناس - مسلمين ونصارى ويهودا - من هذه البلبلة، وأن يتم ذلك في مودة، لأنهم كلهم مؤمنون بالعبودية لمعبود واحد. فقد جاء وفد من نصارى نجران إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة، والتقوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان لهؤلاء القوم جدل مع اليهود، ولهم جدل مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كما كان لليهود والنصارى معا جدل مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والجدل بين اليهود والنصارى مصدره أن لليهود والنصارى قولا متضاربا في بعضهم بعضا يرويه لنا الحق: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] . فاليهود يقولون:» كان إبراهيم يهوديا «والنصارى يقولون لا، كان» إبراهيم نصرانيا «وأما الجدل بين النصارى وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فسببه أنهم قد أرادوا ان يتكلموا في مسألة عيسى وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يصفى القضية تصفية نهائية حتى لا تظل معلقة تلوكها الألسنة وتجعلها مثارا للفتن. فلما اجتمع نصارى نجران تحت لواء رؤسائهم، ومن هؤلاء الرؤساء من اسمه السيد، ومنهم من يسمى العاقب صاحب المشورة، ومعهم قسيس، فقال لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ماذا تقولون في عيسى؟ قالوا: إنه ابن الله. وقال لهم الرسول: إن عيسى عليه السلام قال:» إني عبد الله «وهو عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ إن كنت قد رأيت مثل ذلك فأخبرنا به. وهنا نزلت الآية الكريمة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1517 {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1518 لقد جاء القول الفصل بالحجة الأقوى، فإذا كان عيسى عليه السلام قد جاء بدون أب، فإن آدم عليه السلام قد جاء بدون أب، وبدون أم، وقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: تعلمون أني رسول الله وأنني نبي هذه الأمة، فقالوا: أنظرنا غدا نتكلم في هذه المسائل، ودعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الإيمان فقالوا: لا. وعندما يعرض الحق سبحانه صراع قضية حق مع قضية باطل فهو يقول: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] . أي إن طرفا واحدا على الهدى، والطرف الآخر على ضلال مبين، لماذا؟ لأن القضيتين متناقضتان، ولا يمكن أن يجتمعا، ودعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن يجتمع بهم في مكان ظاهر، ويدعو الطرفان الأبناء والنساء، ويبتهل الجميع إلى الله الحق أن تُسْتَنْزلَ لعنة الله على الكاذبين، وفي هذا جاء القول الكريم: {الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1518 لقد جاء الحق البيّن والقول الفصل من الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا مجال للشك أو المراء، ومن يرد أن يحتكم إلى أحدٍ فليقبل الاحتكام إلى الإله العادل الذي لن يحكم بالباطل أبدا، فهو سبحانه الحق، ويجيء هذا القول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين} . إن الطرفين مدعوان ليوجها الدعوة لأبنائهم ونسائهم، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مدعو لدعوة أبنائه ونسائه، ومن له الولاية عليهم، وبحضوره هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهم مدعون لدعوة أبنائهم ونسائهم وأنفسهم للابتهال. وقد يسأل سائل: ولماذا تكون الدعوة للأبناء والنساء؟ والإجابة هي: أن الأبناء والنساء هم القرابة القريبة التي تهم كل إنسان، وإن لم يكن رسولا، إنهم بضعة من نفسه وأهله. فكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مأمور بأن يقول لهم: «هاتوا أحبابكم من الأبناء والنساء لأنهم أعزة الأهل وألصقهم بالقلوب وادخلوا معنا في مباهلة» «والمباهلة» : هي التضرع في الدعاء لاستنزال اللعنة على الكاذب، فالبهلة - بضم الباء - هي اللعنة، وعندما يقول الطرفان: «يارب لتنزل لعنتك على الكذاب منا» فهذا دعاء يحمل مطلق العدالة، فالإله الذي يستطيع أن ينزل اللعنة هو الإله الحق. وهو سينزل اللعنة على من يشركون به، ولو كانت اللعنة تنزل من الآلهة المتعددة فسوف تنزل اللعنة على أتباع الإله الواحد. ولهذا كانت الدعوة إلى المباهلة والبهلة - كما قلنا - وهي ضراعة إلى القوة القاهرة التي تتصرف في الأمر لتنهى الخلاف، ثم صار المراد بالمباهلة هنا مطلق الدعاء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1519 فنحن نقول: «نبتهل إلى الله» ، أي ندعو الله. إذن فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاءهم بالأمر المنزل من عند الله الحق بدعوة الأبناء والنساء والأنفس، لكنهم قالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنْظِرْنا إلى غد ونأتي إليك» . ثم أرسلوا في الصباح واحدا منهم ليرى ماذا فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ وهل هو مستعد لهذا الأمر حقيقة، أو هو مجرد قول منه أراد به التهديد فقط؟ ووجد رسولهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جاء ومعه الحسين والحسن وفاطمة وعلي بن أبي طالب، لذلك قالوا: «لا لن نستطيع المباهلة» ، والله ما باهل قوم نبيا إلا أخذوا، وحاولوا ترضية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقالوا: «لنظل على ديننا ويظل محمد وأتباعه على دينه» لقد ظنوا ان الدعوة إلى المباهلة هي مجرد تهديد لن ينفذه الرسول، لكن صاحب اليقين الصادق جاء ومعه أهله استعدادا للمباهلة، ولن يُقبل على مثل هذا الموقف الا من عنده عميق الإيمان واليقين، أما الذي لا يملك يقيناً فلن يقبل على المباهلة بل لا بد ان يرجع عنها. وقد رجعوا عن المباهلة، وقالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لنتفق معا ألا تغزونا أو تخيفنا على أن نرسل لك الجزية في رجب وفي صفر وهي من الخيل وغير ذلك! لقد فروا من المباهلة لمعرفتهم أنهم في شك من أمرهم، أما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان على يقين بما أنزل الله عليه وكان العرب إذا خرجوا إلى الحرب يأخذون نساءهم معهم، لذلك حتى يخجل الرجل من الفرار، وحتى لا يترك أولاده ونساءه لكيلا يذلوا من بعد موته، فإن قُتِلَ قُتلوا معه هم أيضا. إذن إن أردنا نحن الآن أن ننهي الجدل في مسألة عيسى عليه السلام فلنسمع قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} إنه الحق القادم من الربوبية فلا تكن أيها السامع من الشاكين في هذه المسألة. ومن أراد أن يأتي بحجة مضادة للحجة القادمة من الله فلنا أن نحسمها بأن نقول: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين} . ولن يجرؤ واحد منهم على ذلك. لماذا؟ لأن السابقين عليهم قد فروا من المباهلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1520 ولأن الله - سبحانه - يريد ان يزيد المؤمنين إيمانا واطمئنانا إلى أن ما ينزله على رسوله هو الحق قال - جل شأنه -: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1521 وقوله الحق: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} يلفتنا إلى أن ما يرويه الحق لنا هو الحق المطلق، وليس مجرد حكاية أو قصة، أو مزج خيال بواقع، كما يحدث في العصر الحديث، عندما أُخذت كلمة القصة في العرف الأدبي الحديث - القادم من حضارة الغرب - إن القصة بشكلها الحديث المعروف إنما يلعب فيها الخيال دورا كبيرا، لكن لو عرفنا ان كلمة «قصة» مشتقة من قص الأثر لبحث أهل الأدب فيما يكتبون من روايات وخيالات عن كلمة أخرى غير «قصة» ، فالقصص هو تتبع ما حدث بالفعل لا تبديل فيه ولا أخيلة. وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} فإذا جاء القصص من الإله الواحد فلنطمئن إلى أنه لا يوجد إله آخر سيأتي بقصص أخرى، ولأن الله الواحد هو {العزيز الحكيم} أي الغالب على أمره، ومع أنه غالب على أمره فهو حكيم في تصرفه. لكن هل اتعظ القوم الذين جادلوا؟ لا، إن الحق يقول: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1521 إن قوله {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يدل على أن الله قد علم أزلا أنهم لن يقبلوا المباهلة، وهكذا حكموا على أنفسهم بأنهم المفسدون، فصدق الحق سبحانه في قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} ومع ذلك فقد أمر الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدعوهم إلى الدين الكامل لأنهم مؤمنون بالإله، وبالسماء، وبالكتاب، لذلك يقول الحق: {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1522 إنها دعوة إلى كلمة مستوية لا التواء فيها {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} وهذا أمر لا جدال فيه، ثم {وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} أي لا ندخل معه من لا يقدر على الارتفاع إلى جلال كماله، فالعقول السليمة ترفض كلمة «الشرك» ؛ لأن الشرك يكون على ماذا؟ هل الشرك على خلق الكون؟ إن كل مخلوق أشركوه في الألوهية إنما جاء من بعد أن خلق الله الكون. أو يكون الشرك على إدارة هذا الكون؟ إذا كان هذا هو السبب في الشرك فهو أتفه من أن يكون سببا لأن الحق سبحانه قادر على إدارة هذا الكون، وأنزل منهجا إذا ما اتبعه الإنسان صار الكون منسجما، إذن فأي شرك لا لزوم له. وإن كان - والعياذ بالله - له شريك وتمتع إله ما بقدرات خاصة فهذه القدرات تنقص من قدرات الإله الثاني. وهذا عجز في قدرة هؤلاء الآلهة، ولهذا يحسم الحق هذا الأمر بقوله الكريم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1522 {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] . إذن فمسألة الشركاء هذه ليست مقبولة، وبعد ذلك يقول الحق: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} . أي ألا نأخذ من بعضنا كهنوتا وكهنة، يضع الواحد منهم الحلال لنا أو الحرام علينا، فالتحليل والتحريم إنما يأتي من الله، وليس لمخلوق أن يحلل أو يحرم. ثم يقول الحق: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ: اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي إن من لا يقبل عبادة الإله الواحد الذي لا شريك له ولا أرباب تحلل أو تحرم، إنما يريد أربابا وشركاء، وهذا معناه أن قلبه غير مستعد لتقبل قضية الإيمان؛ لأن قضية الإيمان تتميز بأن مصدرا واحدا هو الذي له مطلق القدرة، وهو مصدر الأمر في الحركة وهو الواحد الأحد، فلا تتضارب الحركات في الكون. إن حركاتنا كلها وهي الخاضعة لمنهج الله ب «افعل» و «لا تفعل» فلو أن هناك إلها قال: «افعل» وإلها آخر قال: «لا تفعل» ، لكان معنى ذلك والعياذ بالله أن هؤلاء الآله أغيار لها أهواء. والحق سبحانه يحسم هذا بقوله: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71] . وهكذا كانت دعوة الله على لسان رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ، إنها آية تحمل دعوة مستوية بلا نتوءات، فلا عبادة إلا لله، ونحن لا نأخذ «افعل» و «لا تفعل» إلا من الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا كهنوتا أو مصدرا للتحليل أو التحريم، فإن رفضوا وتولوا، فليقل المؤمنون: {اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1523 لا يوجد إلا إله واحد، ولا شركاء له، وبعضنا لا يتخذ بعضا أربابا، وتلك شهادة بأن الإسلام إنما جاء بالأمرالمستوى الذي لا عوج ولا نتوء فيه ونحن متبعون ما جاء به. وبعد ذلك يقول الحق: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1524 إن الحق يسألهم: لماذا يكون جدالكم في إبراهيم خليل الله؟ إن اليهود منكم ينسبون أنفسهم إلى موسى، والنصارى منكم ينسبون أنفسهم إلى عيسى، وإبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا كما يدعي اليهود، فاليهودية قد جاءت من بعد إبراهيم والنصارى لا يمكنهم الادعاء بأن إبراهيم كان نصرانيا، لأن النصرانية قد جاءت من بعد إبراهيم عليه السلام، فلم المحاجة إذن؟ لقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم فكيف يكون تابعا للتوراة والإنجيل؟ وبعد ذلك يقول الحق: {هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1524 أي لقد جادلتم فيما بقي عندكم من التوراة وتريدون أن تأخذوا الجدل على أنه باب مفتوح، تجادلوا في كل شيء، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه الخالق الرحمن علام الغيوب. ويوضح الحق هذا الأمر فيقول: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1525 وبذلك يتأكد أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا، لأن اليهودية جاءت من بعده. ولم يكن إبراهيم نصرانيا، لأن النصرانية جاءت من بعده، لكنه وهو خليل الرحمن {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} ونحن نفهم أن كلمة {حَنِيفاً} تعني الدين الصافي القادم من الله، والكلمة مأخوذة من المحسات، فالحنف هو ميل في الساقين من أسفل، أي اعوجاج في الرجلين، ثم نقل الحنف إلى كل أمر غير مستوٍ. وهنا يتساءل الإنسان، هل كان إبراهيم عليه السلام في العوج أو في الاستقامة؟ وكيف يكون حنيفا، والحنف عوج؟ وهنا نقول: إن إبراهيم عليه السلام كان على الاستقامة، ولكنه جاء على وثنية واعوجاج طاغ فالعالم كان معوجا. وجاء إبراهيم ليخرج عن هذا العوج، وما دام منحرفا عن العوج فهو مستقيم، لماذا؟ لأن الرسل لا يأتون إلا على فساد عقدي وتشريعي طاغ. والحق سبحانه وتعالى ساعة ينزل منهجه يجعل في كل نفس خلية إيمانية. والخلية الإيمانية تستيقظ مرة، فتلتزم، وتغفل مرة، فتنحرف، ثم يأتي الاستيقاظ بعد الانحراف، فيكون الانتباه، وهكذا توجد النفس اللوامة، تلك النفس التي تهمس للإنسان عند الفعل الخاطئ: أن الله لم يأمر بذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1525 ويعود الإنسان إلى منهج الله تائبا ومستغفرا، فإن لم توجد النفس اللوامة صارت النفس أمارة بالسوء، وهي التي تتجه دائما إلى الانحراف، وحول النفس الواحدة توجد نفوس متعددة تحاول أن تقاوم وتقوّم المعوج، وهي نفوس من البيئة والمجتمع، فمرة يكون الاعتدال والاتجاه إلى الصواب بعد الخطأ قادما من ذات الإنسان أي من النفس اللوامة، ومرة لا توجد النفس اللوامة، بل توجد النفس الأمارة بالسوء، لكن المجتمع الذي حول هذا الإنسان لا يخلو من أن يكون فيه خلية من الخير تهديه إلى الصواب، أما إذا كانت كل الخلايا في المجتمع قد أصبحت أمارة بالسوء فمن الذي يعدلها ويصوبها؟ هنا لابد أن يأتي الله برسول جديد، لأن الإنسان يفتقد الردع من ذاتية النفس بخلاياها الإيمانية، ويفتقد الردع من المجتمع الموجود لخلوه كذلك من تلك الخلايا الطيبة، وهكذا يطم الظلام ويعم، فيرسل الله رسولا ليعيد شعلة الإيمان في النفوس. والله سبحانه وتعالى قد ضمن لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يأتي لها نبي بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولهذا فمن الضروري أن يوجد فيها الخير ويبقى، فالخير يبقى في الذات المسلمة، فإذا كانت الغفلة فالنفس اللوامة تصوب، وإن كانت هناك نفس أمارة بالسوء فهناك قوم كثيرون مطمئنون يهدون النفس الأمارة إلى الصواب. وهكذا لن تخلو أمة محمد في أي عصر من العصور من الخير، أما الأمم الأخرى السابقة فأمرها مختلف؛ فإن الله يرسل لهم الرسل عندما تنطفئ كل شموع الخير في النفوس، ويعم ظلام الفساد فتتدخل السماء، وحين تتدخل السماء يقال: إن السماء قد تدخلت على عوج لتعدله وتقومه. إذن فإبراهيم عليه السلام جاء حنيفا، أي مائلا عن المائل، وما دام مائلا عن المائل فهو مستقيم، فالحنيفية السمحة هي الاستقامة. وهكذا نفهم قول الحق: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} . إن إبراهيم هو أبو الأنبياء، ولم تكن اليهودية قد حٌرفت وبدلت، وكذلك النصرانية لكان من المقبول أن يكون اليهود والنصارى على ملة إبراهيم؛ لأن الأديان لا تختلف في أصولها، ولكن قد تختلف في بعض التشريعات المناسبة للعصور، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1526 ولذلك فسيدنا إبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا باعتبار التحريف الذي حدث منهم، أي لا يكون موافقا لهم في عقيدتهم، وكذلك لا يمكن أن يكون نصرانيا للأسباب نفسها، لكنه {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي أنه مائل عن طريق الاعوجاج. قد يقول قائل: ولماذا لم يقل الله: «إن إبراهيم كان مستقيما» ولماذا جاء بكلمة «حنيفا» التي تدل على العوج؟ ونقول: لو قال: «مستقيما» لظن بعض الناس أنه كان على طريقة أهل زمانه وقد كانوا في عوج وضلال ولهذا يصف الحق إبراهيم بأنه {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً} وكلمة {مُّسْلِماً} تقتضي «مسلما إليه» وهو الله، أي أنه أسلم زمامه إلى الله، ومُسْلَماً فيه وهو الإيمان بالمنهج. وعندما أسلم إبراهيم زمامه إلى الله فقد اسلم في كل ما ورد ب «افعل ولا تفعل» وإذا ما طبقنا هذا الاشتقاق على موكب الأنبياء والرسل فسنجد أن آدم عليه السلام كان مسلما، ونوحا عليه السلام كان مسلما، وكل الأنبياء الذين سبقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا مسلمين. كان كل نبي ورسول من موكب الرسل يلقى زمامه في كل شيء إلى مٌسْلَم إليه؛ وهو الله، ويطبق المنهج الذي نزل إليه، وبذلك كان الإسلام وصفا لكل الأنبياء والمؤمنين بكتب سابقة، إلى أن نزل المنهج الكامل الذي اختتمت به رسالة السماء على محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ب «افعل ولا تفعل» ولم يعد هناك أمر جديد يأتي، ولن يشرع أحد إسلاما لله غير ما نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد اكتملت الغاية من الإسلام، ونزل المنهج بتمامه من الله. واستقر الإسلام كعقيدة مصفاة، وصار الإسلام علما على الأمة المسلمة، أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي التي لا يُستدرك عليها لأنها أمة أسلمت لله في كل ما ورد ونزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لذلك قال الحق: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1527 ولنا أن نلحظ أن كل رسول من الرسل السابقين على سيدنا رسول الله إنما نزل لأمة محددة، فموسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل، وكذلك عيسى عليه السلام، قال تعالى: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ} أي رسولا مسلما في حدود تطبيق المنهج الذي جاء به ونزل إلى هؤلاء الرسل، فلما تغير بعض من التشريع وتمت تصفية المنهج الإيماني بالرسالة الخاتمة، وهي رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي عامة لكل البشر فقد آمن بعض من أهل تلك الأمم برسالته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، كما آمن بها من أرسل فيهم سيدنا رسول الله، واستمر موكب الإيمان بالدين الخاتم إلى أن وصل إلينا. وهكذا صارت أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي خاتمة الأمم الإسلامية؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو خاتم الأنبياء والمرسلين. عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» . وحين يقولون: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أو نصرانيا. إنما أوردوا ذلك لأن إبراهيم عليه السلام فيه أبوة الأنبياء. وهم قد أرادوا أن يستحضروا أصل الخلية الإيمانية في محاولة لأن ينسبوها إلى أنفسهم وكأنهم تناسلوا ان المسألة الإيمانية ليست بالجنس أو الوطن أو الدم، أو أي انتماء آخر غير الانتماء لمنهج الله الواحد، ولذلك فأولى الناس بإبراهيم ليسوا من جاءوا من ذريته، بل إن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه، ونبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد اتبع إبراهيم عليه السلام، لذلك فلا علاقة لإبراهيم بمن جاء من نسله، ممن حرفوا المنهج ولم يواصلوا الإيمان، لقد حسم الله هذه القضية مع إبراهيم عندما قال سبحانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1528 {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] . لقد امتحن الحق إبراهيم بكلمات هي الأوامر والنواهي، فأتمها إبراهيم عليه السلام تماما على أقصى ما يكون من الالتزام، ولم يكن مجرد إتمام يتظاهر بالشكلية، إنما كان إتماما بالشكل والمضمون معا. والمثال على تمام الأوامر والنواهي بالشكل فقط هو رؤيتنا لمن يتلقى الأمر من الله بأن يصلى خمسة فروض، فيصلي هذه الفروض الخمسة كإجراء شكلي، لكن هناك إنسانا آخر يصلي هذه الفروض الخمسة بحقها في الكمال مضمونا وشكلا، إنه يتم الأوامر الإلهية إتمام يرضى عنه الله. ولقد أدى إبراهيم عليه السلام الابتلاءات التي جاءت بالكلمات التكليفية من الله على أكمل وجه. ألم يأمر الله إبراهيم عليه السلام على أن يرفع القواعد من البيت؟ أما كان يكفي إبراهيم عليه السلام لينفذ الأمر برفع بناء الكعبة إلى أقصى ما تطوله يداه؟ إنه لو فعل ذلك لكان قد أدى الأمر، لكن إبراهيم عليه السلام أراد أن يوفي الأمر بإقامة القواعد من البيت تمام الوفاء، فبنى الكعبة بما تطوله يداه، وبما تطوله الحيلة أيضا، فجاء إبراهيم عليه السلام بحجر ليقف من فوقه، ويزيد من طول جدار الكعبة مقدار الحجر، لقد أراد ان يوفي البناء بطاقته في اليدين وبحيلته الابتكارية أيضا، فلم يكن معروفا في ذلك الزمان «السقالات» وغير ذلك من الأدوات التي تساعد الإنسان على الارتفاع عن الأرض إلى أقصى ما يستطيع. ولو أن إبراهيم عليه السلام قد رفع القواعد من البناء على مقدار ما تطوله يداه؛ لكان قد أدى تكليف الله، لكنه أراد الأداء بإمكاناته الذاتية الواقعية، وأضاف إلى ذلك حيلة من ابتكاره، لذلك جاء بالحجر الذي يقف عليه ليزيد من جدار الكعبة، وهذا ما نعرفه عندما نزور البيت الحرام ب «مقام إبراهيم» فلما أتم إبراهيم الكلمات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1529 هذا الإتمام قال الحق سبحانه لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] . إي إنك يا إبراهيم مأمون على أن تكون إماما للناس في دينهم لأنك أديت «افعل ولا تفعل» بتمام وإتقان. ولنر غيرة إبراهيم عليه السلام على منهج ربه، إنه لم يرد أن يستمر المنهج في حياته فقط، ولكنه طلب من الله أن يظل المنهج والإمامة في ذريته، فقال الحق سبحانه على لسان إبراهيم طالبا استمرار الأمانة في ذريته: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] . إن سيدنا إبراهيم قد امتلأ بالغيرة على المنهج وخاف عليه حتى من بعد موته، لكن الحق سبحانه وتعالى يُعلم الخلق جميعهم من خلال إبراهيم فيقول سبحانه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] . أي أن المسألة ليست وراثة، لأنه سيأتي من ذريتك من يكون ظالماً لنفسه ويعدل في المنهج بما يناسب هواه، وهو بذلك لا تتوافر فيه صفات الإمامة. إن الحق يعلمنا قواعد إرث النبوة، إن تلك القواعد تقضي أن يرث الأنبياء من هو قادر على تطبيق المنهج بتمامه دون تحريف، والمثال على ذلك ما علمه لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال لسلمان الفارسي: «سلمان منا آل البيت» . إن سيد الخلق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقل لسلمان الفارسي «أنت من العرب» لا. بل نسبه لآل البيت، أي نسبه إلى إرث النبوة بما يتطلبه هذا الإرث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1530 من تطبيق المنهج بتمامه، لقد علم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما علّمه الحق سبحانه لسيدنا إبراهيم عليه السلام عن إرث النبوة، فليس هذا الإرث بالدم، إنما بتطبيق المنهج نصا وروحا، كما تعلم سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مما علّمه له الحق عن نوح عليه السلام، لقد وعد الحق نوحا بأن ينجيه وأهله من الطوفان. ويرى نوح عليه السلام ابنه مشرفا على الغرق، فيتساءل «ألم يعدني الله ان ينجي أهلي؟» فينادي نوح عليه السلام ربَّه، بما أورده القرآن الكريم حين قال: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45] فيقول الحق ردا على طلب نوح نجاة ابنه: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46] . ولننظر إلى التعليل القرآني لانتفاء الأهلية عن ابن نوح عليه السلام {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ؟ لماذا؟ {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} . إن الحق لم يقل «إنه عامل غير صالح» - الذاتية ممنوعة - لأن الفعل هو الذي يحاسب به الله؛ فالإيمان ليس نسبا، ولا انتماء لبلد ما، أو انتماء لقوم ما، إنه العمل، فمن يعمل بشرع أي رسول يكون من أهل هذا الرسول، إنَّ النسبة للأنبياء لا تأتي للذات التي تنحدر من نسب النبي، بل يكون الانتساب للأنبياء بالعمل الذي تصنعه الذات. وفي موقع آخر يعلمنا الحق عن سيدنا إبراهيم موقفا يصور رحمة الخالق بكل خلقه من آمن منهم ومن كفر. لقد طلب إبراهيم عليه السلام سعة الرزق لأهل بيته الذين جعل إقامتهم بمكة، كما جاء في الكتاب الكريم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1531 {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [البقرة: 126] . فهل استجاب الحق لدعوة إبراهيم برزق الذين آمنوا فقط من أهل مكة؟ لا، بل رَزَقَ المؤمن والكافر. وعلّم إبراهيم ذلك حينما قال له: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} [البقرة: 126] . إن الرزق المادي مكفول من الحق لكل الخلق، مؤمنهم وكافرهم، والاقتيات المادي مكفول من قبل الله لأنه هو الذي استدعى المؤمن والكافر إلى هذه الدنيا. أما رزق المنهج فإمر مختلف، إن اتباع المنهج يقتضي التسليم بما جاء به دون تجريف. وهذا المنهج لم يتبعه أحد ممن جاءوا بعد إبراهيم عليه السلام إلا القليل، فمن آمن برسالة موسى عليه السلام دون تحريف هم قلة. ثم جاء عيسى عليه السلام برسالة تبعد بني إسرائيل عن المادية الصرفة إلى الإيمان بالغيب، لكن رسالة عيسى عليه السلام تم تحريفها أيضا، وعلى ذلك فأولى الناس بإبراهيم عليه السلام هم الذين اتبعوا المنهج الخاتم الصحيح والمصفى لكل ما سبق من رسالات، وهؤلاء هم الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه السلام، والله ولي المؤمنين جميعا من آمن منهم برسالة إبراهيم خليل الرحمن، إيمانا صحيحا كاملا، ومن آمن برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1532 إن المعنى «ودت» هو «تمنت» و «أحبت» . ولماذا أحبوا أن يُضلوا المؤمنين؟ لأن المنحرف حين يرى المستقيم، يعرف أنه كمنحرف لم ينجح في أن يضبط حركته على مقتضى التكليف الإيماني ل «افعل» و «لا تفعل» ، أما الملتزم المؤمن فقد استطاع أن يضبط نفسه، وساعة يرى غير الملتزم إنسانا آخر ملتزما، فإنه يحتقر نفسه ويقول بينه وبين نفسه حسدا للمؤمن: لماذا وكيف استطاع هذا الملتزم أن يقدر على نفسه؟ ويحاول المنحرف أن يأخذ الملتزم إلى جانب الانحراف، وعندما لا يستطيع جذب الملتزم إلى الانحراف فهو يسخر منه، ويهزأ به، ويحاول أن يحتال عليه ليأخذه إلى جانب الانحراف. ألم يقل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29 - 33] . وهذا ما يحدث الآن عندما يرى أهل الانحراف إنسانا مؤمنا ذا استقامة، فيسخرون منه بكلمات كالتي تسمعها «خذنا على جناحك» أو يحاول النيل من إيمانه وعندما يعود أهل الانحراف إلى أهلهم فهم يروون بتندر كيف سخروا من المؤمنين، وكأنهم يحققون السعادة لهؤلاء الأهل بحكايات السخرية من الإنسان المؤمن، ويطمئن الحق المؤمنين بأن لهم يوما يضحكون فيه من هؤلاء الكفار: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} [المطففين: 34 - 35] . ويسأل الحق أهل الإيمان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1533 {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36] . أي قد عرفتم كيف اجازي بالعقاب أهل الكفر. لذلك فأولى الناس بإبراهيم هم المؤمنين برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. ولا يفتأ بعض من أهل الكفر من محاولة جذب المؤمنين إلى الضلال. إنهم يحبون ذلك ويتمنونه، ولكن ليس كل ما يوده الإنسان يحدث، فالتمنى هو أن يطلب الإنسان أمرا مستحيلا أو عسير المنال، هم يحبون ذلك ولكن لن يصلوا إلى ما يريدون، يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} . إنهم يتمنون إضلال المؤمنين، لكن هل يستطيعون الوصول إلى ذلك؟ لا: والمثال على ذلك هو ما يفعله بعض أهل الكتاب من اليهود عندما ذهبوا إلى معاذ بن جبل وإلى حذيفة الصحابيين الجليلين، وذهبوا أيضا إلى عمار الصحابي الجليل وحاولوا فتنة معاذ وحذيفة وعمار لكنهم لم يستطعوا. وعلينا أن نعرف أن «الضلال» يأتي على معان متعددة، فقد يأتي الضلال مرة بمعنى الذهاب والفناء في الشيء، مثل قوله الحق: {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10] . لقد تساءل المشركون «أبعد أن نذوب في الأرض وتتفكك عناصرنا الأولية نعود ثانية، ونُبعث من جديد؟» . وقد يأتي الضلال مرة أخرى بمعنى عدم اهتداء الإنسان إلى وجه الحق، كما قال الحق وصفا لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما رفض عبادة الأصنام وظل يبحث عن المنهج الحق. {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1534 أي أنك يا محمد لم يعجبك منهج قريش في عبادة الأصنام، وظللت تبحث عن المنهج الحق، إلى أن هداك الله فأنزل إليك هذا المنهج القويم. لقد كنت ضالا تبحث عن الهداية، فجاءتك النعمة الكاملة من الله. وهناك لون آخر من الضلال، وهو أن يتعرف الإنسان على المنهج الحق، لكنه ينحرف عنه ويتجه بعيدا عن هذا المنهج مثل قول الحق: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} . ونتساءل: كيف يحدث إضلال النفس؟ وتكون الإجابة هي: أن الضال الذي يعرف المنهج وينكره إنما يرتكب إثما، ويزداد هذا الإثم جُرماً بمحاولة الضال إضلال غيره، فهو لم يكتف بضلال ذاته بل يزداد ضلالا بمحاولته إضلال غيره. وهذا القول الكريم قد حل لنا إشكالا في فهم قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} [فاطر: 18] . وفي فهم قوله - جل شأنه -: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] . وهكذا نعرف أن الوزر في آية فاطر هو وزر الضلال في الذات والأوزار في سورة النحل هي لإضلال غيرهم فهولاء الضالون لا يكتفون بضلال أنفسهم، بل يزيدون من ضلال انفسهم اوزاراً بإضلال غيرهم فهم بذلك يزدادون ضلالا مضافا إلى أنهم يحملون أوزارهم كاملة. {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1535 إنهم لا يشعرون بالكارثة التي سوف تأتي من هذا الضلال المركب الذي سينالون عليه العقاب. ولو أنهم تعمقوا قليلا في الفهم لتوقفوا عن إضلال غيرهم، ولو بحثوا عن اليقين الحق لتوقفوا عن ضلال أنفسهم. ومن بعد ذلك يقول الحق: {ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1536 إن الحق يسألهم على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم تكفرون بآيات الله العجيبة وأنتم تشهدون؟ وهنا قد يسأل سائل هل شهد أهل الكتاب الآيات العجيبة في زمن رسول الله؟ والإجابة هي: ألم يستفتح اليهود على من يقاتلونهم بمجيء نبي قادم؟ إنهم كانوا يدعون الله قائلين: إنا نسألك بحق النبي الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم فكانوا يُنصرون على أعدائهم فلما بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كفروا به بغيا وحسداً قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89] . لقد كفروا من أجل السلطة الزمنية. فقد كانوا يريدون الملك والحكم. وهذا عبد الله بن سلام الذي كان يهوديّاً فأسلم قد قال عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1536 إذن فمعرفتهم بنعت رسول الله ووصفه موجودة في آيات التوراة ولقد شهدوا الآيات البينات، لكنهم أنكروا الآيات طمعا في السلطة الزمنية حتى ولو تطلب ذلك أن يُحرِّف بعضهم منهج الله سبحانه وتعالي ويحوّلوا هذا التحريف إلى سلطة زمنية فاسدة كهؤلاء الذين باعوا صكوك الغفران ولذلك قال الحق عن هؤلاء الذين يحرفون منهج الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] . إن العذاب هو مصير هؤلاء الدين يحرفون كلام الله ومنهجه. ويقول الحق سبحانه: {ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1537 ومعنى «تلبس» هو إدخال شيء في شيء، فنحن عندما نرتدي ملابسنا، إنما ندخل أجسامنا في الملابس، وبهذا يختلف منظر اللابس والملبوس. وفي مجال الدعوة إلى الله نجد دائما الحق وهو يواجه الباطل، إنهم يخلطون الحق بالباطل فهذه الآية تتحدث عن محاولة من بعض أهل الكتاب لإلباس الحق بالباطل، وقد حدث ذلك عندما حرفوا التوراة والإنجيل وأدخلوا فيها ما لم يأت به موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام، وكانت هذه هي محاولة ضمن محاولات أخرى لإلباس الحق بالباطل، ثم جاءت أكبر المحاولات لإلباس الحق بالباطل وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1537 إنكارهم للبشارة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، رغم أنها وردت في كتبهم السماوية. لقد أعلنوا الإيمان بموسى أو عيسى، ولم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد أنكروا بشارة موسى وعيسى برسالة محمد الخاتمة، وكان ذلك قمة إلباس الحق بالباطل، لأنهم أعلنوا الإيمان برسولين ثم أنكروا الإيمان بالنبي الخاتم وذلك لأنهم كانوا يعلمون أن الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله هو الدين الحق، وكانوا إذا ما خلوا إلى أنفسهم عرفوا ذلك ولكنهم يجحدونه. {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] . ومع ذلك فهم يحاولون العثور على حيلة ليبتعد بها الناس عن تلك الرسالة الخاتمة، تماديا منهم في الكفر، ونزل قول الحق: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1538 لقد أراد بعض من أهل الكتاب أن يشككوا المسلمين في أمر المنهج، لذلك اصطنعوا تلك الحيلة، فالمؤمنون من العرب وقريش في ذلك الزمن كانوا أميين وكانوا يعرفون أن أهل الكتاب على علم بمناهج السماء، ولم يكن القرآن كله قد نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإذا ما آمن بعض منهم برسالة رسول الله وجه النهار وكفروا به آخر النهار فهذا خلط للحق بالباطل. وفي هذا خداع للمؤمنين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1538 ولنا أن نعرف أن {وَجْهَ النهار} مقصود به ساعات الصباح والظهر، فالوجه هو أول ما يواجه في أي أمر، ونحن نأخذ ذلك في أمثلة حياتنا اليومية، فنقول عن بائع الفاكهة: «لقد صنع وجها للفاكهة» ، أي أنه قد وضع أنضج الثمار في واجهة العربة، وأخفى خلف الثمار الصالحة الناضجة ثمارا أخرى فاسدة. وعندما يفعل التاجر مثل هذا الفعل فمقصده الغش والخداع، لأن الإنسان إذا ما اشترى أي مقدار من هذه الفاكهة فسيجد ربع ما اشترى هو من واجه الفاكهة، والباقي من الثمار الفاسدة. وكذلك حاول بعض من أهل الكتاب أن يخدعوا المؤمنين بإعلان الإيمان أول النهار ثم إعلان الكفر آخر النهار، والهدف بطبيعة الحال هو إشاعة الشك وزراعة البلبلة في نفوس المؤمنين بخصوص هذا الدين، فقد يقول بعض من الأميين: «لقد اختبر أهل الكتاب هذا الدين الجديد وهم أهل علم بمناهج السماء ولم يجدوه مطابقا لمناهج السماء» . أو أن الآية قد نزلت في مسألة تحويل القبلة إلى الكعبة، فإذا كان الحق سبحانه قد أمر سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فالكافرون من أهل الكتاب أرادوا نقض ذلك، وقالوا: «فلنسمع أول النهار كلام محمد ونتوجه في الصلاة إلى الكعبة ثم نصلي آخر النهار ونجعل قبلتنا بيت المقدس» . وكأن الحق قد أراد بذلك أن يكشف لنا أن كل أساليب الكفر هي من تمام قلة الفطنة وعدم القدرة على حسن التدبر، لقد أرادوا إشعال الحرب النفسية ضد المسلمين، لعل بعضا من المسلمين يتشككون في أمر الدين الجديد، لكنهم دون أن يلحظوا أنهم قد فضحوا أنفسهم، واعترفوا دون قصد منهم بأن الذين آمنوا بالقرآن هم المؤمنون حقا بينما هم قد أخذوا لأنفسهم موقف الكفر الذي هو نقيض للإيمان، قال سبحانه حكاية عنهم: {آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ} فهم قد ارتضوا لأنفسهم الكفر. لقد أعلن هؤلاء المشككون التصديق بالإسلام؛ وذلك ليعرف الناس عنهم ذلك، ولكونهم أهل كتاب فهم قادرون على الحكم عليه، فإذا ما رجعوا عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1539 الإسلام من بعد معرفته، فسيقولون: إن رجوعنا ليس بسبب الجهل أو التعصب، إنما بسبب اختبارنا لهذا الدين، فلم نجده مناسبا ولا متوافقا مع ما نزل على رسولنا. وهذا من أساليب الحرب النفسية. والحق سبحانه وتعالى يكشف ذلك المكر والخداع للذين حاولوا أن يكتموا خداعهم ولعبتهم الماكرة، والتي أرادوا بها التشكيك والخداع. فَيُنزل على رسوله هذا القول الحق: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1540 إن الحق سبحانه يكشف للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وللمؤمنين به من الأميين لعبة إيمان بعض من أهل الكتاب بالإسلام وجه النهار والكفر به آخر النهار، لقد طالب المتآمرون بعضهم بعضا أن يظل الأمر سرا حتى لا يفقد المكر هدفه وهو بلبلة المسلمين من الأميين، ولذلك قال هؤلاء المتآمرون بعضهم لبعض: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} أي لا تكشفوا سر هذه الخدعة إلا لمن هو على شاكلتكم، لكن الحق يكشف هذا الأمر كله بنزول هذه الآية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبلاغه إياها للمؤمنين، وبذلك فسد أمر تلك البلبلة، وارتدت الحرب النفسية إلى صدور من أشعلوها، ويستمر القول الكريم في كشف خديعة هؤلاء البعض من أهل الكتاب فيقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1540 إن الحق سبحانه يكشف فعل الماكرين من أهل الكتاب الذين أرادوا إعلان الإيمان أول النهار كلون من «هدى النفس» لكنه من صميم الضلال والإضلال وذريعة له، ولم يكن هدى من الله؛ لأن هدى الله إنما يوصل الإنسان إلى الغاية التي يريدها الله، وهؤلاء البعض من أهل الكتاب أرادوا بالخديعة أن يجعلوا سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون أتباع يؤمنون بالإسلام؛ لقد تواصي هؤلاء القوم من أهل الكتاب بأن يكتموا اتفاقهم على تمثيل الادعاء بالإيمان وجه النهار والكفر به في آخره، وألا يعلنوا ذلك إلا لأهل ديانتهم حتى لا يفقد المكر هدفه، وهو بلبلة المسلمين. لقد أخذهم الخوف؛ لأن الناس إن أخذوا بدين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأوتوا مثلما أوتي أهل الكتاب من معرفة بالمنهج، بل إن المنهج الذي جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو المنهج الخاتم، وأهل المكر من أهل الكتاب إنما أرادوا أن يحرموا الناس من الإيمان، أو أنهم خافوا أن يدخل المسلمون معهم في المحاجة في أمر الإيمان، وكان كل ذلك من قلة الفطنة التي تصل إلى حد الغباء. لماذا؟ لأنهم توهموا أن الله لا يعرف باطن ما كتموا وظاهر ما فعلوا، إنهم تناسوا أن الحق يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتطابق ذلك مع سابق فعلهم عندما خرجوا من مصر، وذهبوا إلى التيه أثناء عبور الصحراء، وادعوا أن الله قال لموسى عليه السلام: «علموا بيوتكم أيها الإسرائيليون، لأني سأنزل وأبطش بالبلاد كلها» . وكأنهم لو لم يضعوا العلامات على البيوت فلن يعرفها الله، إنه كلام خائب للغاية بل هو منتهى الخيبة والضلال، ويبلغ الحق رسوله الكريم: {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . وما دام الفضل بيد الله فلن تستطيعوا يا أهل المكر بالمسلمين أن تأخذوا أناسا كما تودون، وبعد ذلك تريدون أن تخدعوهم؛ لأن الفضل حين يؤتيه الله لمن آمن به فلن ينزعه إلا الله. فالحيلة لن تنزع فضل الإيمان بالله مادام قد أعطاه الله، والله واسع بمعنى أنه قادر على إعطاء الفضل لكل الخلق، ولن ينقص ذلك من فضله شيئا، والحق سبحانه عليم بمن يستحق هذا الفضل لأن قلبه مشغول بربه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1541 وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1542 إن أحدا ليس له حق على الله؛ فكل لحظة من لحظات الحياة هي فضل من الله، وهو سبحانه يعطي رحمته بالإيمان بمنهجه لمن يشاء وهو صاحب الفضل المطلق. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1542 إنه مطلق الإنصاف الإلهي، فإذا كان الحق قد كشف للرسول بعضا من مكر أهل الكتاب فذلك لا يعني أن هناك حملة على أهل الكتاب وكأنهم كلهم أهل سوء، لا، بل منهم مَنْ يتميز بالأمانة، وهذا القول إنما يؤكد إنصاف الإله المنصف العدل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1542 إن الحق سبحانه يخاطب النفوس التي يعلمها، فهو يعلم أن دعوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قد نزلت رحمة للناس أجمعين، ويخاطب بها العالم كله بما فيه من أهل الكتاب، وهم الذين يعرفون الآيات والعلامات التي تدل على مجيء رسالة سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومنهم أناس قد جعلوا دعوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بؤرة شعورهم ليدرسوها ويؤمنوا بها. ولو أن الله قد جعل الحملة على كل أهل الكتاب، لقال الذين كفروا في الإيمان برسول الله: «كنا نفكر في أن نؤمن، ونحن نريد أن ننفذ تعاليم الله لنا لكن محمدا يشن حملة على كل أهل الكتاب ونحن منهم» . فساعة يقول الله إن بعضا من أهل الكتاب يتميزون بالأمانة فإن من تراوده فكرة الإسلام يقولون: إن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يتكلم إلا عن نور من ربه، لكن لو عمم القرآن الحكم على الكل، لتساءل الذين ينشغلون برغبة الإيمان بما جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لماذا يعم الحكم الجميع ونحن نسير في الطريق إلى الإيمان؟» . ولهذا يضع الحق القول الفصل في أن منهم أناساً يتجهون إلى الإيمان: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] . وفي هذا ما يطمئن الذي شغلوا أنفسهم بدراسة هذا الدين والتفكير في أن يؤمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لو كان القرآن قد نزل بلعنتهم جميعا لقال الذين يفكرون منهم في الإيمان «نحن لسنا كذلك ولا نستحق اللعنة، فلماذا يأتي محمد بلعنتنا؟» . لذلك نرى القول بأن {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} العدل المطلق في الإنصاف: وقد قال بعض المفسرين: إن القرآن يقصد هنا من {أَهْلِ الكتاب} النصارى؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1543 لأن منهم أصحاب ضمير حي، ونحن نعرف أن المقصود بأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وفي هذا التفسير إنصاف للنصارى فصفة الخير لهم لا ينكرها الله، بل يشيعها في قرآنه الذي يُتلى إلى يوم الدين، وذلك ليصدق أيضا أهل الكتاب أيَّ أمر سيء تنزل فيه آيات من القرآن، لأن القرآن منصف مطلق الإنصاف. فما دام قد قال خصلة الخير فيهم فلا بد أن يكون صادقا عندما يقول الأمور السيئة التي اتصفوا بها. وعندما يقول الحق سبحانه: «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك» فالقنطار هنا للمبالغة في القدر الكبير من المال، وكلمة الأمانة حينما نستعرضها في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ نجد أنها مرة تتعدى بالباء، كمثل هذه الآية {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} ومرة تتعدى ب «على» : {قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] وقوله الحق {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 64] . إن مادة الأمانة تأتي متعدية مرة بالباء، ومرة متعدية ب «على» . وكل حرف من هذين الحرفين له حكمة، فالمتكلم هو الله. إن الأمانة هي شيء يأتمن فيه مؤتمِن على مؤتمَن ولا حجة لصاحب الشيء المؤتَمَن عليه إلا ذمة المؤتمَن فإن كانت العلاقة بينهما محكومة بإيصال أو عقد، أو شهود فهذه ليست أمانة إنما الأمانة هي ما يعطيها انسان لاخر فيما بينهما، وبعد ذلك فالمؤتمن بعد ذلك إما أن يُقِرّبها وإمّا لا يقِرّبها. وقلنا سابقا: إن على المؤمن الحق أن يحتاط للأمانة، لأن هناك وقتاً تتحمل فيه الأمانة، وهناك وقت آخر تؤدي فيه الأمانة إن طلبها صاحبها. ومثال تحمل الأمانة كأن يعرض عليك إنسان مبلغا من المال، ويقول: «احفظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1544 هذا المبلغ أمانة عندك» فتقول له: نعم سأفعل. وتأخذ المبلغ، إن هذا الفعل يسمى «التحمل» ، وعندما يأتي صاحب المال ليطلبه فهذا اسمه «الأداء» والكل يضمنون أنفسهم وقت التحمل، وقد تكون النية هكذا بالفعل، ولكن المؤمن الحق لا يأمن ظروف الأغيار، فمن المتحمل أنه عندما يأتي صاحب المال ليطلبه من المؤتمَن يجد المؤمن نفسه وقد انشغل بالأغيار، فقد تكون ظروف الحياة قد داهمته مما دفعه ليتصرف في الأمانة أو أن تكون نفسه قد تحركت، وقالت له: وماذا يحدث لو تصرفت في الأمانة؟ إن المؤمن الحق لا يضمن نفسه وقت الأداء، وإن ضمن نفسه وقت التحمل. إذن يجب أن نلحظ في الأمانة ملحوظتين هما «الأداء» و «التحمل» . والذي يأخذون الأمانة وفي نيتهم أن يؤدوها ضمنوا أنفسهم وقت التحمل، لكنهم لا يضمنون أنفسهم وقت الأداء لذلك فالمؤمن المحتاط يقول لنفسه: ولماذا أعرض نفسي لذلك، فقد يأتي وقت الأداء فلا أستطيع ردّها لصاحبها. لذلك يقول لصاحب الأمانة: أرجوك ابتعد عني فأنا لن أحمل هذه الأمانة. إنه خائف من وقت الأداء وذلك ما حدث في أمانة التكليف والاختيار والتي قال عنها الحق سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] . إن السماء والأرض والجبال طلبوا ألا يكون لهم اختيار وأن يظلوا مقهورين؛ لأنهم لا يضمنون لحظة الأداء، أما الإنسان فلأنه ظلوم جهول فقد قال: «لا، إنني عاقل وسأرتب الأمور» فالإنسان ظلوم لنفسه، وجهول لأنه لم يعرف ماذا يفعل وقت الأداء. لذلك نرى هنا القول الحق: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} ونجد الأمانة متعدية بالباء، فمعنى الباء - في اللغة - الإلصاق، أي التصق القنطار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1545 بأمانته، فأصبح هناك ارتباط وامتزاج، وإياك ساعة الأداء أن تفصل الأمانة عن القنطار، فساعة يغريك قنطار الذهب ببريقه فعليك أن تلصق الأمانة بالقنطار، وإياك أن يغريك قنطار فتترك أمانتك لأنك إن نظرت إلى القنطار دون أن تنظر إلى الأمانة فهذه هي الخيبة. أما استعمال «على» مع الأمانة، ف «على» في اللغة تأتي للاستعلاء والتمكن، أي اجعل الأمانة مستعلية على القنطار، وبذلك تصير أمانتك فوق القنطار، فساعة تحدثك نفسك بأن تأخذ القنطار لأنه يدير لك حركة حياتك، ولأنه يخرجك إلى دنيا عريضة مغرية فتذكر عز الأمانة، ولهذا نجد الفقهاء قد قالوا بقطع يد السارق في ربع دينار، وجعلوا دية قطع يد إنسان لم يسرق خمسمائة دينار وتساؤل البعض قائلا: يد بخمس مئين عسجد وديت ... مابالها قطعت في ربع دينار فقال فقيه ردا على ذلك المعترض: عز الأمانة أغلاها، وأرخصها ذل ... الخيانة، فافهم حكمة الباري إذن قول الحق سبحانه وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} هذا القول جاء بالباء ليلصق الأمانة بما اؤتمن عليه ولا يفصل بينهما أبدا لأنه لو فصل الأمانة وعِزَّها عن القنطار ربما سولت له نفسه أن يأخذ القنطار ويترك الأمانة. وكذلك عندما تأتي الأمانة متعدية بعلى، تكون الأمانة فوق الشيء المؤتمن عليه، فالأمانة يجب أن تكون مستعلية على الشيء مهما غلت قيمته، ويقول الحق من بعد ذلك: {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} أي أن تكون دائم السؤال عن دينارك الذي ائتمنت عليه ذلك الإنسان، وأن تلح في طلب دينارك. ومن بعد ذلك يقول الحق: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} وقد قام بعض من بني إسرائيل على عهد رسول الله، يخديعة الأميين من العرب المؤمنين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1546 فأنكروا حقوقهم. والمقصود بالأميين هنا المؤمنون الذين لم يكونوا من أهل الكتاب، أو هم المنسوبون إلى الأم كما قال الحق: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . أو أن يكون المقصود «بالأميين» أهل مكة، فقد كانوا يسمونهم كذلك لأنهم منسوبون إلى أم القرى «مكة المكرمة» . من أين جاء أهل الكتاب إذن بهذا الأسلوب المزدوج في معاملة الناس؟ ومن الذي وضع هذا المنهج الذي يقضي بخديعة المؤمنين الأميين؟ وهل الفضائل ومنازل الخلق تختلف في المعاملة من إنسان إلى آخر؟ وهل يقضي الخلق القويم أن يأخذ إنسان الأمانة وينكرها إذا كانت لرجل أمي؟ ويرد الأمانة ويعترف بها إن كانت ليهودي؟ هل يصح أن يقرض إنسان أمواله بالربا لغير اليهود، ويقرض اليهود دون ربا؟ إذن تكون هذه المعاملات مجحفة، هنا فضيلة، وهناك لا فضيلة، لا، إن القضية يجب أن تكون مستوية ومكتملة في كل وقت وكل زمان ولكل إنسان، ولا ينبغي أن تتنوع. من أين إذن جاءوا بهذا القول وهم أهل كتاب؟ إن هذا ضد منهج الكتاب الذي أنزله الله عليهم بل هو من التحريف والتحوير لقد خدعوا أنفسهم وألصقوا بالتشريع ما ليس فيه، فالكتاب السماوي الذي نزل عليهم ليس به تصنيف البشر صنفين: صنف هم أهل الكتاب ولهم معاملة خاصة، وصنف هم الأميون ولهم معاملة أخرى، وكان عليهم ان يتعلموا من عدالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في معاملتهم. لقد أرخ لهم رسول الله بالنص المنزل عليه من الله التأريخ الصادق والعادل، في هذا القول الكريم الذي نتناوله بالخواطر إنما يسجل تاريخ اليهودية مع الإسلام. وهذا التأريخ لم يصدر فيه الله حكما واحدا يشملهم جميعا، بل أنصف أصحاب الحق منهم، وإن كانوا على دين اليهودية، وبذلك استقر في أذهان المنصفين منهم أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1547 الإسلام قد جاء بكل الحق، فلو كان الإسلام قد أصدر حكما واحدا ضد كل اليهود سواء من وقف منهم ضد دعوة رسول الله أو المنصف منهم الذي تراوده فكرة الإيمان بالإسلام، لو كان مثل ذلك الحكم العام الشامل قد صدر لقال المنصفون من اليهود: نحن نفكر في أن نؤمن بالإسلام فكيف يهاجمنا الإسلام هذه المهاجمة؟ لكن الإسلام جاء لينصف فيعطي كل ذي حق حقه. وهؤلاء هم الذين يؤرخ الله لهم بالقول: {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} وتلك شهادة على صدق اليقين من هؤلاء، أما الذين طغت عليهم المادة فهؤلاء هم الذين جاء فيهم القول الحكيم: {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} وهذا هو التأريخ الصادق لمن طغت عليهم المادة فلا يرد الإنسان منهم ما عليه إلا بعد الملاحقة والمطاردة، وهكذا يبلغنا القرآن التاريخ بصدق. والعلة في أن الذي يؤتمن على قنطار ويؤديه هو إنسان ملتزم أمامه إله موصوف باسم الحق، ولا يريد الله من عباده إلا أن يواجهوا حركة حياتهم بالحق. وأكرر هنا مرة أخرى، إن كلمة «الأمانة» ترد في القرآن الكريم مرة وهي متعدية ب «على» ، ومرة أخرى وهي متعدية بالباء، لأن الباء تأتي في اللغة لإلصاق شيء بشيء آخر، فكأنك إذا اؤتمنت أيها المسلم فلا بد أن تلتصق بالأمانة حتى تؤديها، وكذلك جاءت الأمانة متعدية ب «على» ، أي أنك أيها المؤمن إذا اؤتمنت فعليك أن تستعلي على الشيء الذي اؤتمنت عليه. فإذا ما اؤتمنت على مائة جنيه مثلا فلا تنظر إلى ما يعود عليك من نفع إذا ما تصرفت في هذا المبلغ، بل يجب أن تستعلي على تلك المنفعة. فإياك أن تغش نفسك أيها المؤمن بفائدة ونفاسة الشيء الذي تختلسه من الأمانة، بل قارن هذا الشيء بالأمانة فستجد أن كفة الأمانة هي الراجحة. والذين استباحوا خيانة الأمانة من أهل الكتاب، إنما عميت بصيرتهم عن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد نال الشهرة بالأمانة سواء قبل الرسالة أو بعدها. وعميت أبصارهم، إن الدين الحق لا يفرق في أداء الأمانة بين صنف من البشر، وصنف آخر؛ فالدين الحق يضم تشريعا من إله خلق الجميع وهكذا نجد أن تشريعهم بالتفرقة في أداء الأمانة هو تشريع من عند أنفسهم، وليس من الرب المتولي شئون خلقه جميعا، ويدحض الحق القضية التي حكموا بوساطتها أن يعاملوا الأميين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1548 معاملة تختلف عن معاملتهم لأهل الكتاب، فقال سبحانه: {ويَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . يعلمون ماذا؟ يعلمون ان قولهم كذب، فهم يعرفون الحكم الصحيح وينحرفون عنه، وياليتهم قالوا: إن ذلك الحكم من عند أنفسهم، لكنهم ينسبون ذلك إلى تعاليم دينهم، وتعاليم الدين - كما قلنا - مأخوذة من الله، وهم بذلك - والعياذ بالله - يفترون على الله كذبا بأنه خلق خلقا ثم صنفهم صنفين: صنفاً تؤدى الأمانة له، وصنفاً لا تؤدى الأمانة له، وهكذا كذبوا على الله وعلموا أنهم كاذبون، وهذا هو الافتراء. وهم أيضا يعلمون العقوبة التي تلحق من يكذب على الله ورغم ذلك كذبوا. لقد حذف الحق في هذه الآية المفعول به فلم يقل: «يعملون كذا» . الحق حين يحذف «المفعول» فهو يريد أن يعمم الفهم ويريد أن يعمم الحركة، إنه سبحانه يريد أن يبلغنا بأن هؤلاء يعلمون أن قولهم هذا كذب، ويعلمون عقوبة ذلك الكذب. . وساعة تأتي قضية منفية ثم يأتي بعدها كلمة «بلى» فإنها تنقض القضية التي سبقتها ومعنى ذلك أنها تُثْبِت ضدها. لقد قالوا: «ليس علينا في الأميين سبيل» وهذه قضية منفية ب «ليس» ، والحق يقول في الآية التالية: {بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1549 إن قول الحق في بداية هذه الآية {بلى} إنما جاء لينقض القضية السابقة التي ادعاها أهل الكتاب، وكأن الحق يقول: أيْ عليكم في الأميين سبيل؛ لأن المشرع هو الله، والناس بالنسبة له سبحانه سواء. وبعد ذلك يأتي قول الحق بقضية عامة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1549 {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] ما العهد هنا؟ وأي عهد؟ إنه العهد الإيماني الذي ارتضيناه لأنفسنا بأننا آمنا بالله وساعة تؤمن بالإله فمعنى إيمانك به هو حيثية قبولك لكل حكم يصدر منه سبحانه، وأن تلتزم بما يطلبه منك. وإن لم تلتزم بما يطلبه منك كان إيمانك بلا قيمة؛ لأن فائدة الإيمان هو الالتزام. ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى حينما يريد تشريع حكم لمن آمن به ينادي أولا يأيها الذين آمنوا كتب عليكم كذا، إن الحق سبحانه لا ينادي في التكليف كل الناس، إنما ينادي من آمن وكأن سبحانه يقول: «يا من آمن بي إلها، اسمع مني الحكم الذي أريده منك. أنا لا أطلب ممن لم يؤمن بي حكما، إنما أطلب ممن آمن» . وهنا يقول الحق: {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وقد يفهم البعض هذا القول بأن من أوفى بعهده الإيماني واتقى الله في أن يجعل كل حركاته مطابقة ل «افعل ولا تفعل» فإن الله يحبه. هذا هو المعنى الذي قد يُفهم للوهلة الأولى، لكن الله لم يقل ذلك، إن «الحب» لا يرجع إلى الذات بل يرجع إلى العمل، لقد قال الحق: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . إن الإنسان قد يخطئ ويقول: «لقد أحبني الله، وسأفعل من بعد ذلك ما يحلو لي» ونحن نذكر صاحب هذا القول بأن الله يحب العمل الصالح الذي يؤديه العبد بنية خالصة لله وليس للذات أي قيمة، لذلك قال: {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . إن الذي أوفى بعهده واتقى سيحب الله فيه التقوى، وإياك أن تفهم أن الحب من الله للعبد سيصبح حبا ذاتيا، لكنه حب لوجود الوصف فيه، فاحرص على أن يكون الوصف لك دائما، لتظل في محبوبية الله. ولذلك نقول: إن الحق سبحانه وتعالى أوضح لنا أن الذات تتناسل من ذات، والذوات عند الله متناسلة من أصل واحد. فالجنس ليس له قيمة، إنما القيمة للعمل الصالح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1550 وقد ضربنا المثل قديما، وقلنا: إن الحق سبحانه وتعالى حينما وعد نوحا عليه السلام بأن ينجيه من الغرق هو وأهله، ثم فوجئ نوح بأن ابنه من المغرقين، قال سبحانه حكاية عما حدث: {قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين} [هود: 43] . ماذا فعل نوح عليه السلام؟ لقد نادى ربه طالبا نجاة ابنه: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45] ويعلمنا الله من خلال رده على نوح، أن أهل الأنبياء ليسوا من جاءوا من نسلهم، إنما أهل الأنبياء هم من جاءوا على منهجهم، لذلك قال الحق لنوح عن ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] . لماذا يكون ابن نوح ليس من أهل نوح؟ ذلك لأن أهل النبوة هم الذين يتبعون منهج النبوة، ولذلك لم يقل الحق لنوح عن ابنه: «إنه عامل غير صالح» لكن الحق سبحانه قال عن ابن نوح: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} . . لقد نسب الحق الأمر إلى العمل. إذن فالحكمة هي أن الله سبحانه وتعالى في أسلوبه القرآني يوضح لنا أن الله لا يحب شخصا لذاته، إنما لعمله وصفاته فلم يقل: «من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحبه» ، لأن «الهاء» هنا ترجع إلى الذات، إن في ذلك إيضاحاً كامل البيان بأن الله يحب عمل العبد لا ذات العبد، فإن حرص العبد على محبوبية الله فذلك يتطلب من العبد أن يظل متبعا لمنهج الله، وبعد ذلك يقول الحق: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1551 {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1552 وساعة نسمع كلمة «شراء وبيع» فلا بد أن نتوقف عندها؛ لنفهم معناها بدقة. ونحن في الريف نرى المقايضات أو المبادلات في الرزق الذي له نفع مباشر، كأن يبادل طرف طرفا آخر، قمحا بقماش، فهذه سلعة يتم مبادلتها بسلعة أخرى، وعلى ذلك فليس هناك شارٍ وبائع، لأن كل من الطرفين قد اشترى وباع. وهنا نسأل: متى يصبح الأمر إذن شراء وبيعا؟ إن الشراء والبيع يحدث عندما نستبدل رزقا مباشرا برزق غير مباشر، ومثال ذلك عندما يشتري الإنسان رغيف خبز بخمسة قروش، إن هذا هو الشراء والبيع، لأن الخمسة قروش هي رزق غير مباشر النفعية؛ لأن النقود لا تشبعك ولا ترويك من عطشك ولا تسترك. والرغيف هو رزق مباشر النفعية لأنه يشبعك ويدفع عنك الجوع وعندما يحب الإنسان أن يشتري شيئا فإن الذي يدفعه في الشراء يسمى ثمنا. إذن فكيف يشتري الثمن؟ إن الحق يوضح لنا أن الأثمان لا تكون مشتراة أبدا، إنها مُشترى بها، ولذلك تكون أول خيبة في صفقة الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا، إنهم اشتروا الثمن، بينما الثمن لا يُشترى، فالذي يشتري هو السلعة. ويا ليت الثمن الذي اشتروه ثمن له قيمة، لكنه ثمن قليل، ومن هنا جاء تحريم الربا لأن المرابي يعطي الشخص مائة، ويريد أن يسترده مائة وعشرة، ويكون المرابي في هذه المسألة قد جعل النقود سلعة، وهكذا تكون الصفقة خائبة من بدايتها. إذن فأول خيبة في نفوس الناس الذين يستبدلون الهدى ويأخذون بدلا منه الضلالة، إنهم خاسرون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1552 {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] . والحق سبحانه يقول هنا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} . ونعرف أن «الباء» دائما تدخل على المتروك، أي أنهم تركوا عهد الله والأيمان التي حلفوا بها على التصديق بالرسول، وعلى نصرته إذا جاءهم، أنهم اشتروا ذلك بثمن قليل، كيف يحدث ذلك؟ لهذه المسألة واقعة حال، وإن كان المراد عموم الموضوع لا خصوص السبب، فلا يقولن أحد: إن هذه الآية نزلت في الأمر الفلاني فلا شأن لي بها، لا فكل من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا تنطبق عليه هذه الآية. وواقعة الحال التي نزلت فيها الآية هي أن جماعة في عهد جدب ومجاعة دخلت على كعب بن الأشرف اليهودي يطلبون منه الميرة - أي الطعام والكسوة - فقال لهم: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله؟ قالوا نعم، قال: إنني هممت أن أطعمكم وأن أكسوكم ولكن الله حرمكم خيرا كثيرا وتساءلوا: لماذا حرمنا الله خير الكثير؟ وجاءتهم الإجابة لقد أعلنتم الإيمان بمحمد فلما وجدوا أنفسهم في هذا الموقف، قالوا لكعب بن الأشرف: دعنا فترة لأنه ربما غلبتنا شبهة، فلنراجع فيها أنفسنا. وعندما مرت الفترة، فضلوا الطعام والكسوة على الإيمان، وقالوا لكعب بن الأشرف: لقد قرأنا في كتبنا الموجودة لدينا خطأ، ومحمد ليس رسولا. فأعطاهم كعب القوت والكسوة. وهؤلاء هم الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وهو الطعام والكسوة. وكل من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا، فهو يطمس حكما من أحكام الله من أجل أن يتظاهر أمام الناس أنه عصري، أو أنه مساير لروح الزمان، أو يزين لأولياء الأمر فعلا من الأفعال لا يرضى عنه الله. إذن فالذي يفعل مثل ذلك إنما يشتري بآيات الله ثمنا قليلا، وكل من يجعل آية من آيات الله عرضة للبيع من أجل أن يأخذ عنها ثمنا قليلا، وكل من يجعل آية من آيات الله عرضة للبيع من أجل أن يأخذ عنها ثمنا يُعتبر داخلا في هذا النص {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} . والمقصود هنا بعهد الله، إما أن يكون عهد الفطرة أو العهد الذي أخذه الله على أهل الكتاب بأنهم إن أدركوا بعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا بد أن يعلنوا الإيمان به هو العهد الذي جاء به القول الحق: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1553 مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] . إذن فعندما جاءت صفة تكذيبهم لما أعلنوه من إيمان سابق مقابل الميرة والكسوة، وكان ذلك خيبة كبرى فهم قد اشتروا الثمن، والثمن مع ذلك قليل، ولذلك يقول عنهم الحق: {أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] وكلمة {أولئك} تدل على أن الصلة وهي {يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} تُلِحق بهم كل من يتصف بهذه الصفات وتجعل له المصير نفسه. فهذه الآية وإن نزلت في هؤلاء الأشخاص الذين جرت منهم حادثة شراء الطعام والكسوة مقابل النكوص عن الإيمان برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنها تشمل كل متصف بهذه الصفة وكل من كان على هذا اللون في أي عصر، وفي أي دين من الأديان، ويصفهم الحق سبحانه ب {أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ} . وكلمة {خَلاَقَ} وكلمة «خُلق» وكلمة «خليقة» وكلمة «خلق» كلها تدور حول معنى يكاد يكون متقاربا، فالخلق - بضم الخاء واللام - أن توجد صفة في الإنسان تغلب عليه حتى تصير ملكة. فيقال: «فلان عنده خلق الصدق» أو «فلان خلقه الكرم» ومعناه: أن فلانا الأول صار الصدق عنده ملكة ولا يتعب نفسه في أن يكون صادقا بل صار الصدق أمرا طبيعيا فيه، وكذلك وصف فلان الثاني بالكرم أي أن الكرم صار ملكة وسجية عنده. وهذه الملكة في الأمور المعنوية تساوي الآلية في الأمور الحسية؛ لأننا نعرف أن كل فعل من الأفعال يحتاج إلى دربة ليكون الإنسان متميزا في أدائه، وعلى سبيل المثال، العامل الذي ينسج على آلة يحتاج إلى أن يتدرب على تحريك مكوك الخيط، وأن يتعلم كيف يحرك المكوك بين خيوط النسيج، وبعد ذلك يختلف الخيطان معا لتمسك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1554 بهما حركة المكوك الثانية في ارتدادها، وبذلك يتم النسيج، وحين يتدرب إنسان على هذا العمل فهو يحتاج إلى وقت طويل، ليصل إلى كفاءة الحركة. في بداية التدريب يكون الأمر صعبا، ويستطيع النساج بعد أن يتقن التدريب أن يجلس أمام آلة النسيج ويداه تحرك المكوك بآلية. لقد صارت المسألة بالنسبة إلى النساج المتدرب آلية. وسبق أن ضربت المثل بالإنسان الذي يتعلم قيادة السيارة، فالمدرب يعلمه كيف يدير المفتاح، وكيف ينتظر لتسخين المحرك، وكيف يفك مكبح السيارة، ثم كيف يحرك عصا التحكم في اندفاع السيارة، وكيف يوازن بين الضغط على بدال الوقود والضغط على بدال التحكم الفاصل، وكيف يوازن بين سير السيارة بتخفيض السرعة بلمسات خفيفة لبدال المكبح. وقد يخطئ الإنسان في بداية التعلم ويرتبك، ولكنه بعد تمام التدريب فإنه يعمل بآلية وبدون تفكير، إنه عمل آلي لا يحتاج إلى تفكير، وضربت في السابق مثالا بالصبي الذي يتعلم حياكة الملابس، إنه يأخذ وقتا ليضع الخيط في سم الإبرة، وتقع منه الأخطاء في قياس المسافات المختلفة بين الغرز، لكنه من بعد ذلك يتدرب على فعل هذه الأعمال التي كانت صعبة، ويؤديها بآلية، والعمل الآلي في الأمور المحسة، يقابل الملكة في الأمور المعنوية، فيقال: «إن الصدق عند فلان ملكة» إي أنه إنسان لا يرهُقه أن يكون صادقا. ونحن أثناء تعليم أبنائنا للنحو - مثلا - نقول لهم: «إن حكم الفاعل الرفع والمفعول به منصوب» وعندما ينطق الابن عبارة ما، فإنه يحاول تطبيق القاعدة أثناء القراءة، وقد ينساها، أو يتلجلج، وعندما يتذكرها فإنه ينطق الكلمات برسمها الصوتي الصحيح، وبعد أن يتم التدريب على القاعدة ويقرأ الابن، فإن أخطاءه تتلاشى، وبذلك يصير النحو ملكة عنده. وكذلك الخلق، إن الخلق صفة ترسخ في النفس، فتصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة، فيقال: «الصدق له خلق» ، و «الكرم له خلق» ، و «الشجاعة له خلق» إنها الصفات التي ترسخ في النفس فتصدر عنها الأفعال في يسر وسهولة. والحق سبحانه يقول: {أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة} وقد فسر البعض حرمان أولئك من الخلق بأن هذا الصنف من الناس لا نصيب لهم من الخلق، لأن الخلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1555 صفة راسخة في الإنسان، والحق يحدد الزمن بأنه {فِي الآخرة} . والآخرة هي الوقت الذي لا يمكن التدارك فيه، فالآخرة هي يوم التقييم الصحيح والنهائي. إن الإنسان قد لا يكون له نصيب السلوك القويم فيعدل سلوكه حتى يكتسب هذا السلوك القويم في الدنيا لكن الإنسان لا يستطيع في الآخرة أن يجد مجالا للاستدراك، وهذه هي الخيبة القوية. فالإنسان في الدنيا، قد يقوم بعمل ما ولا يكون له نصيب من أجره أو قد لا نرى نحن الجزاء والنصيب الذي يعطيه له الله ولكن الله يعوضه في الآخرة عن هذا العمل الذي لم يكن له نصيب منه في الدنيا أما من لا خلاق له في الآخرة فكيف يتم التعويض؟ إنّ ذلك أمر مستحيل؟ ويضيف الحق {ولاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد يقول قائل: ألم يقل القرآن الكريم في موقع آخر، إن الله يقول للكافرين: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] . فلماذا يقول الحق لهم مرة: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} ، ومرة أخرى يقول الحق: {لاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} ؟ . ونجيب على مثل هذا القول: إن الحق لا يكلمهم كلاما ينفعهم، أو أنه سبحانه يكلمهم بواسطة ملائكته، ولكن كيف لا ينظر إليهم الله؟ وساعة نجد أمرا يوجد في الناس وله نظير منسوب لله سبحانه وتعالى ويقوله سبحانه عن نفسه، فلا بد أن نأخذ هذا الأمر في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . إننا في مجالنا البشرى نقول: «فلان لا ينظر إلى فلان» أي أنه لا يوجه عيونه إليه، ويحول حدقتيه عنه، لكن لا يمكن قياس ذلك على الله، لأن الله منزه عن التشبيه ففي الوضع البشرى نجد إنسانا يحب صديقا له فيقبل عليه بالوجه والنظر فيقال: «فتى هو قيد العين» أي أنه شاب عندما تنظر إليه العين فهو يقيد العين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1556 فلا تذهب عنه إلى مكان آخر؛ ففي هذا الشاب محاسن تجعل العين لا تذهب بعيدا عنه. وهكذا نأخذ إقبال العين بالنظر على المنظور أو على المرئي كسمة للاهتمام به، وهذا صحيح في الوضع البشرى. لكن إذا ما جاء ذلك بالنسبة لله، هنا نأخذ المسألة في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وهكذا نفهم عدم نظر الله إلى {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} بأن الله يهملهم، ولا يهتم بهم «لا ينالهم الله برحمته» ، فالحق سبحانه منزه عن كل تشبيه، وهكذا الأمر في عدم نظر الحق إليهم، نأخذ الأمر أيضا في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إن ولي الأمر من البشر عندما يرغب في عقاب أحد رعاياه، لا ينظر إليه ويهمله، فما بالنا بإهمال الحق سبحانه وتعالى؟! إنه إبعاد لهم عن رحمة الله ورضوانه. ويضيف الحق سبحانه {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والتزكية تأتي بمعنى التطهير، أو بمعنى الثناء أو النماء والزيادة فنقول: «فلان زكى فلانا» أي أثنى عليه ويقال أيضا: «فلان زكى فلانا» أي طهره، ومن هذا تكون «الزكاة» التي هي تطهير ونماء. وعندما يخبرنا الحق سبحانه أنه لا يكلم ذلك الصنف من البشر ولا ينظر إليهم ولا يطهرهم من أوزارهم، فهذا مقدمة لما أعده لهم بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فلا بد أن نأخذ قوة الحدث بفاعل الحدث. وفي حياتنا العادية عندما يقال: «صفع الطفل فلانا الرجل» نفهم بطبيعة الحال أن صفعة الطفل تختلف في قوتها عن صفعة الشاب، وكذلك صفعة الشاب تختلف عن صفعة بطل في الملاكمة. إذن فالحدث يختلف باختلاف فاعله قوة وضعفا على المفعول به الذي هو مناط الحدث، فإذا كان فاعل العذاب هو الله فلا بد أن يكون عذابا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1557 أليما؛ ولا حدود لألمه، أنجانا الله وإياكم منه. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1558 أي أنهم يلوون ألسنتهم بالكلام الصادر من الله ليحرفوه عن معانيه، أو يَلْوُون ألسنتهم عندما يريدون التعبير عن المعاني. و «اللي» هو الفتل، فنحن عندما نفتل حبلا، ونحاول أن نجدل بين فرعين اثنين من الخيوط، ثم نفتلهم معا لنصنع حبلا، والهدف من الفتل هو أن نضع قوة من شعيرات الخيوط، فهذه الشعيرات لها قوة محدودة، وعندما نفتل هذه الخيوط فإننا نزيد من قوة الخيوط بجدلها معا. إذن فالفتل المراد به الوصول إلى قوة، وهكذا نرى أنهم يلوون ألسنتهم بكلام يدعون أنه من المنهج المنزل من عند الله، وهذا الكلام ليس من المنهج ولم ينزل من عند الله إنّهم يفعلون ذلك لتقوية مركزهم والتنقيص من مكانة الإسلام والطعن في الرسول كما قالوا من قبل: «راعنا» ، لذلك قال الحق مخاطبا المؤمنين: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا واسمعوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] . إن الحق يوضح لنا ألا نعطي لهم فرصة لتحريف كلام الله، فهو سبحانه القائل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1558 {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 46] . لقد فضحهم - الحق سبحانه - لنا، وهم يحرفون الكلام عن موضعه، فقد قال الحق هذا القول بمعنى: أن الذي تسمعه لا يضرك لقد سجل الله عليهم أنهم قالوا سمعنا وعصينا كما قاموا بتحريف الكلمة وقالوا: «اسمع غير مسمع» أي «لا سمعت أبدا» ، تماما كما أخذوا من قبل قول الله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [الأعراف: 161] . وحرفوا هذا القول: «وَقُولُواْ حِنطَّةٌ» ، وهم قد فعلوا ذلك حتى نحسب هذا التحريف من الكتاب، وما هو من الكتاب، أي أنهم يفتلون بعضا من المعاني المستنبطة من الكلمات حتى يوهموا المؤمنين بأن هذه المعاني غير المرادة وغير الصحيحة هي معان مرادة لله، وصحيحة المعنى، إنهم يدعون على المنهج المنزل من السماء ما ليس فيه، ولذلك قال سبحانه: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} إنهم عندما يلوون ألسنتهم بالكتاب يحرفونه رغبة في التلبيس والتدليس عليكم لتظنوا أنه من الكتاب المنزل من عند الله على رسولهم، إنهم لو فعلوا ذلك فحسب لجاز أن يتوبوا ويرجعوا إلى ربهم ويندموا على ما فعلوا. أما قولهم بعد ذلك: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ} فهو دليل على أنهم أحدثوا في الكتاب شيئا وأصروا عليه فجاءوا بقولهم: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ} لينفوا عن أنفسهم شبهة أن يُدعى عليهم أنهم حرفوا الكتاب، ولو لم يكونوا قد حرفوا الكتاب أكانت تخطر ببالهم، هذه؟ إن أمرهم جاء من باب (يكاد المريب أن يقول خذوني) إنهم بهذا القول يحتالون على إخفاء أمر حدث منهم. إن الحق - سبحانه - يؤكد أن الخيانة تلاحقهم فيقول: (وما هو من عند الله) ، فهذه الآية الكريمة تفضحهم وتكشف تحريفهم لكتاب الله، يقول سبحانه: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1559 إنهم يعرفون أن ما يقولونه هو الكذب، والكذب كما عرفنا هو أن تكون النسبة الكلامية غير مطابقة للواقع، فالنسب في الأحداث تأتي على ثلاث حالات: نسبة واقعة. نسبة يفكر فيها وهي نسبة ذهنية. نسبة ينطق بها. فعندما نعرف إنسانا اسمه محمد، وهو مجتهد بالفعل فهذه نسبة واقعة وإذا خطر ببالك أن تخبر صديقا لك باجتهاد محمد فهذا الخاطر نسبة ذهنية. وساعة تنطق بهذا الخبر لصديق لك صارت النسبة كلامية. والصدق هو أن تكون النسبة الكلامية لها واقع متسق معها كأن يقول: «محمد مجتهد» ويكون هناك بالفعل من اسمه محمد وهو مجتهد بالفعل، وبهذا تكون أنت الناطق بخبر اجتهاد محمدٍ إنسانا صادقا، أما إن لم يكن هناك من اسمه محمد ومجتهد فالنسبة الكلامية لا تتفق مع النسبة الواقعية، لذلك يصير الخبر كاذبا. والعلماء يفرقون بين الصدق والكذب بهذا المعيار. فالصدق: هو مطابقة الكلام للواقع، والكذب: هو عدم مطابقة الكلام للواقع. وحاول بعض من الذين يحبون التشكيك أن يقفوا عند سورة المنافقين التي يقول فيها الحق: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] . لقد قال المنافقون: نشهد إنك لرسول الله، وسيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو رسول من عند الله بالفعل، والحق سبحانه يقول: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} فهل علمهم كعلم الله؟ لا، لأن الله سبحانه قال: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} ، فكيف يصفهم الحق بأنهم كاذبون مع أنهم شهدوا بما شهد هو به؟ إن الحق لا يكذبهم في أن محمدا رسول الله فهذه قضية صادقة، ولكنه سبحانه قد كذبهم في قضية قالوها وهي: {نَشْهَدُ} ، لأن قولهم: {نَشْهَدُ} تعني أن يوافق الكلام المنطوق ما يعتقدونه في قلوبهم، وقولهم: {نَشْهَدُ} هو قول لا يتفق مع ما في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1560 قلوبهم، ولذلك صاروا كذابين، فلسان كل منهم لا يوافق ما في قلبه. إذن فقوله الحق: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، أي إنهم يقولون كلاما ليس له نسبة خارجية تطابقه، وهم يعلمون أنه كذب، حتى لا نقول: إنهم نطقوا بذلك غفلة، لقد تعمدوا الكذب، وهم يعرفون أنهم يقولون الكذب. والدقة تقتضي أننا يجب أن نفرق بين صدق الخبر، وصدق المخبر. صدق الخبر هو أن يطابق الواقع لكن أحيانا يكون المخبر صادقا، والخبر في ذاته كذب، كأن يقول واحد: «إن فلانا يستذكر طول الليل» لأنه شاهد حجرة فلان مضاءة وأنه يفتح كتابا، بينما يكون هذا الفلان غارقا في قراءة رواية ما، إن المخبر الصادق في هذه الحالة، لكن الخبر كاذب. ولكن في مجال الآية نحن نجد أنهم كاذبون عن عمد، فللسان هو وسيلة بيان ما في النفس: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1561 ونحن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين ينزل منهجه، فهو ينزله في كتاب، ويقتضي ذلك أن يصطفي سبحانه إنسانا للرسالة، أي أن الرسول يجيء بمنهج ويطبقه على نفسه ويبلغه للناس، الرسول مصطفى من الله ويختلف في مهمته عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1561 النبي، فالنبي أيضا مصطفى ليطبق المنهج، وهكذا حتى لا يسمع الناس المنهج ككلام فقط ولكن يرونه تطبيقا أيضا، إذن فالرسول واسطة تبليغية ونموذج سلوكي والنبي ليس واسطة تبليغية، بل هو نموذج سلوكي فقط. إن الحق سبحانه وتعالى يرسل النبي ويرسل الرسول، ولذلك تأتي الآية: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] . هكذا نعرف أن الرسول والنبي كليهما مرسل من عند الله، الرسول مرسل للبلاغ والأسوة، والنبي مرسل للأسوة فقط، لأن هناك بعضا من الأزمنة يكون المنهج موجودا، ولكن حمل النفس على المنهج، هو المفتقد، ومثال ذلك عصرنا الحاضر ان المنهج موجود وكلنا نعلم ما الحلال وما الحرام، لكن خيبة هذا الزمان تأتي من ناحية عدم حمل أنفسنا على المنهج، لذلك فنحن نحتاج إلى أسوة سلوكية، هكذا عرفنا الكتاب، والنبوة، فما هو الحكم إذن؟ لقد جاء الحق بكلمة: «الحكم» هنا ليدلنا على أنه ليس من الضروري أن توجد الحكمة الإيمانية في الرسول أو النبي فقط، بل قد تكون الحكمة من نصيب إنسان من الرعية الإيمانية، وتكون القضية الإيمانية ناضجة في ذهنه، فيقولها لأن الحكمة تقتضي هذا. ألم يذكر الله لنا وصية لقمان لابنه؟ إن وصية لقمان لابنه هي المنهج الديني، وعلى ذلك فمن الممكن أن يأتي إنسان دون رسالة أو نبوة، ولكن المنهج الإيماني ينقدح في ذهنه، فيعظ به ويطبقه، وهذا إيذان من الله على أن المنهج يمكن لأي عقل حين يستقبله أن يقتنع به، فيعمل به ويبلغه. ولابد لنا أن نؤكد أن من يهبه الله الحكمة في الدعوة لمنهج الله وتطبيق هذا المنهج، لن يضيف للمنهج شيئا، وبحكم صدقة مع الله فهو لن يدعي أنه مبعوث من الله للناس، إنه يكتفي بالدعوة لله وبأن، يكون أسوة حسنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1562 لكن لماذا جاءت هذه الآية؟ لقد جاءت هذه الآية بعد جدال نصارى نجران مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة، وأثناء الجدال انضمت إليهم جماعة من اليهود، وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: - بماذا تؤمن وتأمر؟ فأبلغهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأوامر المنهج ونواهيه، وأصول العبادة، ولأن تلك الجماعة كانوا من أهل الكتاب، بعضهم من نصارى نجران والبعض الآخر من يهود المدينة، وكانوا يزيفون أوامر تعبدية ليست من عند الله، ويريدون من الناس طاعة هذه الأوامر، لذلك لم يفطنوا إلى الفارق بين منهج رسول الله صلى الله عليه السلام وأوامره، وبين ما زيفوه هم من أوامر، فمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطلب من الناس عبادة الله على ضوء المنهج الذي أنزله عليه الحق سبحانه، أما هم فيطلبون طاعة الناس في أوامر من تزييفهم. والطاعة - كما نعلم - هي لله وحده في أصول كل الأديان، فإذا ما جاء إنسان بأمر ليس من الله، وطلب من الناس أن يطيعوه فيه، فهذا معناه أن ذلك الإنسان يطلب أن يعبده الناس - والعياذ بالله - لأن طاعة البشر في غير أوامر الله هي شرك بالله. ولهذا تشابهت المواقف على هذا البعض من أهل الكتاب، وظنوا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطلب منهم طاعتهم لأوامره هو، كما كانوا يطلبون من الناس بعد تحريفهم للمنهج وقالوا: أتريد أن نعبدك ونتخذك إلها؟ إنهم لم يفطنوا إلى الفارق بين الرسول الأمين على منهج الله، وبين رؤسائهم الذين خالفوا الأحكام واستبدلوها بغيرها، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يطلب منهم طاعته لذاته هو، ولكنه قد طلب منهم الطاعة للمنهج الذي جاء به رسولا وقدوة، واستنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قالوه. وأنزل الله سبحانه قوله الحق: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله} [آل عمران: 79] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1563 لقد بلغت بهم الغفلة والشرك أنهم ظنوا أن الله لم يختر رسولا أمينا على المنهج، وظنوا بالله ظن السوء، أو أنهم ظنوا أن الرسول سيحرف المنهج كما حرفوه هم، فتحولوا عن عبادة الله إلى عبادة من بعثه الله رسولا، ولذلك جاء القول الفصل {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله} . وقد ينصرف المعنى أيضا إلى أن بعض صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يُجِلُّونَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وكل مؤمن مطلوب منه أن يُجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن يعظمه، ومن فرط حب بعض الصحابة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا له: أنسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، ألا نسجد لك؟ إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يطلب السجود له من أحد، والحق سبحانه هو الذي كلف عباده المؤمنين بتكريم رسوله فقال: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . إن المطلوب هو التعظيم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لا أن نعطي له أشياء لا تكون إلا لله. إن تعظيم المسلمين لرسول الله وتكريمهم له هو أن نجعل دعاءه مختلفاً عن دعاء بعضنا بعضا. والحق في هذه الآية التي نحن في مجال الخواطر عنها وحولها يقول: {ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} . إن «لكن» هنا للاستدراك، مثلما قلنا من قبل: إن «بلى» تنقض القضية التي قبلها وتثبت بعدها قضية مخالفة لها. إن الحق يستدرك هنا لنفهم أنه ليس لأحد من البشر أن يقول: «كونوا عبادا لي» بعد أن أعطاه الله الكتاب والحكم والنبوة، والقضية التي يتم الاستدراك من أجلها وإثباتها هي: {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} وكلمة «رباني» ، وكلمة «رب» ، وكلمة «ربيون» ، وكلمة «ربان» ، وكل المادة المكونة من «الراء» و «الباء» تدل على التربية، والولاية، وتعهد المربي، وتدور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1564 حول هذا المعنى. أليس ربان السفينة هو الذي يقود السفينة؟ وكلمة «الرب» توضح المتولي للتربية، إذن فما معنى كلمة «رباني» ؟ إنك إذا أردت أن تنسب إلى «رب» تقول: «ربّي» . وإذا أردنا المبالغة في النسبة نضيف لها ألفا ونونا فنقول: «رباني» ولذلك نجد في التعبيرات المعاصرة من يريدون أن ينسبوا أمرا إلى العلم فيقولون: «علماني» وفي ذلك مبالغة في النسبة إلى العلم. والفرق بين «علمي» و «علماني» هو أن العلماني يزعم لنفسه أن كل أموره تمشي على العلم المادي، ونجد أن في «علماني» ألفاً ونوناً زائدين لتأكيد النسبة إلى العلم. وقد يقول قائل: ولماذا نؤكد الانتساب إلى الله بكلمة «رباني» ؟ ونقول: لأن الكلمة مأخوذة من كلمة رب، وتؤدي إلى معان: منها أن كل ما عنده من حصيلة البلاغ لا بد أن يكون صادرا ومنسوبا إلى الرب؛ لأنه لم يأت بشيء من عنده، أي أنه يأخذ من الله ولا يأخذ من أحد آخر أبدا؛ فهو رباني الأخذ. وتؤدي الكلمة إلى معنى آخر: إنه حين يقول ويتكلم فإنه يكون متصفا بخلق أنزله رب يربي الناس ليبلغوا الغاية المقصودة منهم، فهو عندما ينقل ما عنده للناس يكون مربيا، ويدبر الأمر للفلاح والصلاح. يقول الحق - سبحانه -: {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} إن العلم هو تلقي النص المنهجي. والدراسة هي البحث الفكري في النص المنهجي. لذلك فنحن في الريف نقول: «ندرس القمح» أي أننا ندرس القمح بألة حادة كالنورج حتى تنفصل حبوب القمح عن «التبن» وتكون نتيجة الدراس هي استخلاص النافع. . إذن ففيه فرق بين «تعلمون» أي تعلمون غيركم المنهج الصادر من الله وذلك خاضع لتلقي النص، وبين {مَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} أي تعملون أفكاركم في الفهم عن النص. إن الفهم عن النص يحتاج إلى مدارسة، ومعنى المدارسة هو أخذ وعطاء، ويقال: «دارسه» أي أن واحد قد قام بتبادل التدريس مع آخر، ويقال أيضا: «تدارسنا» أي أنني قلت ما عندي وأنت قد قلت ما عندك حتى يمكن أن نستخلص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1565 ونستنبط الحكم الذي يوجد في النص. وقد يأتي النص محكما، وقد يأتي النص محتملا لأكثر من معنى. وما دمت قد تعلمت، فلا بد أنك تعرفت على النصوص المحكمة للمنهج. وما دمت قد تدارست، فلا بد أنك قد فهمت من النصوص المحتملة حين مدارستك لأهل الذكر حُسْن استقبال المنهج؛ لذلك يجب أن تكون ربانياً في الأمرين معاً. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1566 أي أنه ليس لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يأمر الناس باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا. إن من اختصه الله بعلم وكتاب ونبوة لا يمكن أن يقول: اعبدوني، أو اعبدوا الملائكة، أو اعبدوا الأنبياء. لماذا؟ ويجيب الحق سبحانه: {أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} . وقوله الحق: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} تدل على أن واقعة القضية وما معها كانت مع مسلمين كأنهم عندما جاءوا وأرادوا أن يعظموا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: نحن نريد أن نعطيك وضعا في التعظيم أكثر من أي كائن ونريد أن نسجد لك. فَوَضَّح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم: أنَّ السجود لا يكون إلا لله. إذن فالذين تكلموا مسلمون، وكانوا يقصدون بذلك تعظيم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولو أن رسول الله وافقهم لكان معنى ذلك انه يخرجهم عن الإسلام، ولا يتصور أن يصدر هذا عن سيدنا وحبيبنا المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو عن غيره من الأنبياء عليهم السلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1566 والحق سبحانه يقول: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1567 هذه الآية تجعلنا نتعرف على أسباب بعث الحق لموكب الرسل، ونعرف جميعا أن المنهج الأول قد أنزله الله على آدم عليه السلام متضمنا كل ما يجعل الحياة تسير إلى انسجام، وبلّغ آدم أولاده هذا المنهج كما علمهم أمور حياتهم، تماما مثلما يعلم الأب أبناءه ما يخدم أمور حياتهم، كما يقوم بإبلاغ الأبناء مطلوب الدين، والأبناء يبلغون أبناءهم، وتتواصل البلاغ من جيل إلى جيل كي يكتمل وصول المنهج للذرية، ولكن مع توالي الزمن وتتابعه نجد أن بعضا من مطلوبات الدين يتم نسيانها. إن هذا دليل على أن الناس قد غفلت عن المنهج وهكذا نرى أن الغفلة عن المنهج إنما تتم على مراحل، فبعد بلاغ المنهج نجد إنسانا يغفل عن جزئية، ما في هذا المنهج، وتنبهه نفسه وتلومه على تركه لتلك الجزئية، ونسمي صاحب هذا الموقف بصاحب النفس اللوامة، إنه يفعل السيئة لكن نفسه تعود إلى اليقظة لمنهج الله؛ لأنه يتمتع بوجود خلية المناعة الإيمانية فيه، وهناك إنسان آخر يستمرئ المخالفة للمنهج وتلح عليه نفسه بالمخالفة؛ إنه صاحب النفس الأمارة بالسوء، وتتوالى به دواعي ارتكاب السيئات، ومثل هذا الإنسان يحتاج إلى غيره من خارج نفسه ليلفته إلى الخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1567 وماذا يحدث للمجتمع إذا صار افراده جميعا من أصحاب النفس الأمارة بالسوء؟ إن معنى ذلك أن الفساد قد طم، ولا بد من مجيء رسول؛ لأن مراد الحق سبحانه هو هداية الناس، لقد خلقنا سبحانه وله كل صفات الكمال، ولم يضف خلقُنا إليه شيئا. وها هو ذا الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار، إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لم أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا إلى صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياه، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» . إن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا وهو من الأزل إلى الأبد، في تمام صفات الكمال ولم يضف له هذا الخلق شيئا، وهو القائل: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} [الذاريات: 57 - 58] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1568 إذن فعندما يشرع لنا الحق أمراً فهو يشرعه لمصلحتنا؛ إنه سبحانه يحب لصنعته أن تظفر بسعادة المنهج؛ لذلك أنزل المنهج «بافعل ولا تفعل» وحين يقول المنهج: «افعل ولا تفعل» فهو لا يريد أن يحدد حرية الحركة على الخلق الا بما يحميهم، إنه يحدد حرية هنا ليحمي حرية هناك. فعندما حرم الله السرقة - على سبيل المثال - فالأمر شامل لكل البشر، فلا يسرق أحدا أحدا. إن الحق سبحانه حين منع يدَ واحدٍ من السرقة، كان في ذلك منع لملايين الأيدي أن تسرق من هذا الإنسان، وفي هذا حماية لكل البشر من أن يسرق إنسان إنسانا آخر، وفي ذلك كسب لكل إنسان، فساعة تأخذ التشريع لا تأخذه على أنه مطلوب منك، ولكن خذه على أنه مطلوب منك ومطلوب لك أيضا. ومثال آخر، لقد حرم المنهج على العبد المؤمن أن يمد عينيه إلى محارم غيره، ولم يكن هذا التحريم لعبد واحد، إنما لكل إنسان مؤمن، وبذلك لا تمتد أي عين إلى محارم هذا العبد، لقد جاء الأمر لك بغض البصر عن محارم غيرك وأنت واحد، وكففنا من أجلك ملايين الأبصار كيلا تمتد إلى محارمك. إذن فكل عبد مؤمن يكسب حياة مطمئنة من وجود التشريع، وكل التشريعات إنما جاءت لصالحنا جميعا، ولذلك كان الحق رحيما بنا لأن رَكْبَ الرسل قد تواصل واستمر في الكون منذ آدم، وإلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمنهج الذي جاء به كل هؤلاء الرسل لا تناقض فيه أبدا، لأن في هذا المنهج مصلحة للخلق، لذلك فلا يمكن أن يكون موكب رسول قد أتى، ليناقض موكب رسول آخر. لكن ما الذي يأتي بالتناقض بين الأديان والمشرع واحد؟ وكل الناس عيال له؟ إننا نبرئ الرسل من التناقض، وإن حاول البعض أن يصوروا الأمر كذلك فلنعلم أن أتباع الرسل هم الذين يريدون لأنفسهم سلطة زمنية يتحكمون بها في الدنيا، فالذين كانت لهم سلطة زمنية في دين كاليهودية أو النصرانية فعلوا ذلك. وعندما جاءت النصرانية على اليهودية قال أحبار اليهود: نحن لا نريد النصرانية لماذا؟ لأن السلطة الزمنية كانت في أيديهم، ولو أن هؤلاء الأحبار ظلوا باقين على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1569 ما أنزله الله عليهم من منهج لقَبَّلُوا يدي أي رسول قادم شاكرين له مقدَمَة ومجيئه وقالوا له: ساعدنا على أن نعمق فهمنا لمنهج الله. . إذن فالخلاف لا يحدث إلا حين توجد أهواء لها سلطات زمنية، وموكب الرسالات من يوم أن خلق الله الإنسان هو منهج متساند لا متعاند. وحينما يأتي رسول ليجد أناسا غير مؤمنين بإله فالمشكلة تكون سهلة، لأنه سيلفتهم إلى إله واحد، وبالمنهج الذي يريده الله، لكن المشكلة تكون كبيرة مع الجماعة التي لها رسول وهم منسوبون إلى السماء فإذا ما جاء رسول من الله فهو يجيء وهؤلاء الأتباع قد أخذوا من ادعائهم بالانتساب لرسالة رسول سابق سلطة زمنية كما حدث مع اليهود والنصارى، فتعصبوا للدين الذي كانوا عليه متناسين أن كبارهم قد حرفوا المنهج لحساب السلطة الزمنية. وقد استمر موكب الرسل إلى الخلق ليحمي الله الخلق من سيادة الانحراف واصطفى الله أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الله قد ضمن بقاء الخير في هذه الأمة، فإذا رأيت أناسا بالغوا في الإلحاد فثق أن هناك أناسا زادهم الله في المدد حتى يحدث التوازن؛ لأن الحق هو القائل: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولئك هُمُ المفلحون} [آل عمران: 104] . وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1570 إذن فإن امتنع الوازع النفسي في النفس اللوامة عند فرد من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسوف يأتي أناس مسلمون ينبهونه إلى المنهج، والحق سبحانه وتعالى لا يعصم الناس من أن يخطئوا فهو القائل: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1 - 3] . إن الحق جاء بكلمة «وتواصوا» ، ولم يأتِ بكلمة «وصوا» وذلك لنفهم أن التوصية أمر متبادل بين الجميع، فساعة يوجد إنسان في لحظة ضعف أمام المنهج توجد لحظة قوة عند غيره فيوصيه. وترد هذه المسألة أيضا إلى الموصى، فقد تأتي له لحظة ضعف أمام المنهج؛ فيجد من يوصيه وهكذا نرى أنه لا يوجد أناس مخصوصون ليوصوا، وآخرون مهمتهم تلقى التوصية، إنما الأمر متبادل بينهم، وهذا هو التكافل الإيماني، والإنسان قد يضعف في مسألة من المسائل فيأتي أخ مؤمن يقول له: ابتعد عن هذا الضعف، إن هذه المسألة تحدث بالتناوب لمقاومة لحظات الأغيار في النفس البشرية؛ لأن لحظات الأغيار لا تجعل الإنسان يثبت على حال، فإذا ما رأينا إنسانا قد ضعف أمام التزام ما فعلينا أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر، وأنت أيضا حين تضعف ستجد من أخوتك الإيمانية مَنْ يوصيك. هذا هو الحال في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أما الأمم السابقة عليها فقد كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، ولذلك كان لا بد أن تتدخل السماء وتأتي برسول جديد ومعه معجزة جديدة تلفت العقول لفتا قسريا إلى أن هناك أشياء تأتي بها المعجزة، وهي خرق ناموس الكون، وفي ذلك لفت من الله للناس إلى مناطق القدرة. وأخذ الله الميثاق على الأنبياء بأن يبلغ كل نبي قومه هذا البلاغ، انتظروا أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1571 ترسل إليكم السماء رسلا، وساعة يجيء الرسول المبلغ عن الله منهجه فكونوا معه، وأيدوه. كان الرسل عليهم جميعا السلام مأمورين أن يضعوا في المنهج. وصلبه أن السماء حينما تتدخل وتأتي برسول جديد فلا بد أن يتبعه أقوامهم، وألا يتعصبوا ضد الرسول القادم، بل يسلمون معه ويرحبون به؛ لأن الرسول إنما يجيء ليعاون الناس على المنهج الصحيح، لكن الأتباع الذين يعشقون السلطة الزمنية تعمدوا التحريف، ومن أجل أن يحمي الحقُّ خلقه من هذا المرض أنزل الميثاق الذي أخذه على النبيين، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] قد يقول قائل: إن هذا القول يصلح عندما يأتي رسول معاصر لرسول مثلما عاصر شعيب سيدنا موسى عليه السلام، وكما عاصر لوط سيدنا إبراهيم عليه السلام، ونقول: هذا يحدث - أيضا - وإن لم تتعاصر الرسل، فالحق سبحانه قد أراد لكل رسول أن يعطي لقومه البلاغ الواضح، وإن لم يتعاصر الرسولان فلا بد أن يعطي الرسول مناعة ضد التعصب، فما داموا قد آمنوا بالرسول واتبعوه فعليهم حسنَ استقبال الرسول القادم من بعد رسولهم، وكان على كل رسول أن يبلغ قومه: كونوا في انتظار أن تتدخل السماء في أي وقت، فإذا تدخلت السماء في أي وقت من الأوقات، وجاءت برسول مصدق لما معكم فإياكم أن تقفوا منه موقف المضارّة، وإياكم أن تقفوا منه موقف العداوة، بل عليكم أن «تنصروه» وهذا قول واضح وجلى ولا لبس فيه. {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1572 ونقول في شرح معنى: {رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} . إن الدين يأتي بقضايا متفق عليها؛ لأن العقائد واحدة، والأخبار واحدة، والقصص واحد، لكن الذي يختلف هو الحكم التشريعي الذي قد يناسب زمنا ولا يناسب زمنا آخر، فإذا جاء الرسول بكتاب مصدق لما معكم في الأمور الدائرة في منهج العقائد، أو منهج القصص فلا بد لكم أن تصدقوه. لكن اليهود لم يفعلوا ذلك؛ لأن الرسول جاء ليعيد هداية الجماعة التي آمنت بالرسل والتي تؤمن بإله، وكان مجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمنهج الواضح العقيدة والأخبار الصحيحة غير المحرفة والقصص التي تدعم المنهج كما جاء بالتشريع المناسب وكان مجيء النبي الخاتم مزلزلا لمن استمرءوا السلطة الزمنية، فمنهم من أصر على اتباع رسولهم فقط وبالمنهج الذي تم تحريفه ورفضوا اتباع الرسول الجديد، ومنهم جماعة أخرى آمنت، بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكانت هناك جماعة ثالثة تؤمن برسول آخر، والخيبة تأتي نتيجة للتعصب، ولذلك كانت دعوة الإسلام هي لتصفية العقائد، ودعوة لكل متبع لأي رسالة سابقة أن يدرس ويناقش، هل الدين الخاتم قد جاء بما يختلف عن الأديان السابقة في العقائد؟ أو جاء مصدقاً لها؟ لقد جاء الدين الخاتم مصدقا لما سبقه في العقائد والأخبار والقصص وإن اختلف في التشريعات التي تناسب زمنا ولا تناسب زمنا آخر، فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يعصم البشرية من العصبية الهوجاء، والعصبية العمياء التي تنشأ من اتباع رسول لتقف سدا حائلا أمام رسول آخر؛ فالله حين أرسل كل رسول قد أعطاه الأخبار والحقائق وأنه سبحانه قد أخذ الميثاق على كل نبي أرسله بأن يكون على استعداد هو والمؤمنون معه لتصديق كل رسول يأتي معاصرا ومصدقا لما معهم، وأن يؤمنوا به، وأن يبلغ كل رسول أمته بضرورة هذا الإيمان. لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد من الركب الإيماني المتمثل في مواكب الرسل ألا يكون بعضهم لبعض عدوّا، بل عليهم أن يواجهوا أعداء قضية الدين كلها. فالذي يجعل الإلحاد متفشيا في هذا العصر هو أن المنسوبين إلى الأديان السماوية مختلفون، وربما كانت العداوة بينهم وبين بعضهم أقوى من العداوة بينهم وبين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1573 الملحدين والمنكرين لله، وهذا الاختلاف يعطي المجال للملحدين فيقولون: لو كانت هذه الأديان حقا لا تفقوا وما اختلفوا، فما معنى أن يقول أتباع كل رسول إنهم يتبعون رسولا قادما من السماء؟ إن الملحدين يجدون من اختلاف أتباع الديانات السماوية فرصة ليبذروا في الناس بذور الإلحاد، ولا يجدون تكتلا ولا قوة إيمانية لمن يؤمن بالسماء أو بمنهج السماء لكن الحق سبحانه يقول: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} وهذا يعني أنه سبحانه قد أخذ الميثاق على كل نبي ساعة أرسله أنه قد آتاه الكتاب والحكمة، وإنه إذا جاءكم رسول مصدق لهذا الكتاب وتلك الحكمة فعليكم الإيمان به، ولا يكفي إعلان الإيمان فقط، بل لا بد أن يكون النبي ومن معه في نصرة الرسول الجديد نقول: ولو عمل أتباع كل نبيّ بهذا العهد والميثاق لما كان لهؤلاء الملحدين حجة ويضيف سبحانه: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا} والإقرار سيد الأدلة كما يقولون؛ والإصر هو العهد الشديد، ولذلك يقال: «آصره المودة» أي الرابطة الشديدة المعقودة. قال الموكب الإيماني للأنبياء موجهين إقرارهم لله تعالى {أَقْرَرْنَا} ، فقال الحق سبحانه: {فاشهدوا} . والشهادة دائما تقتضي شاهدا ومشهودا عليه ومشهودا به. وما دام الحق سبحانه هو الذي يقول للنبيين الذين أخذوا منه العهد والميثاق الحق: {فاشهدوا} ، إذن فهم في موقف الشاهد، وما المشهود عليه؟ وما المشهود به؟ هل يشهدون على أنفسهم؟ أو يشهد كل نبي على الأنبياء الآخرين؟ أو يشهد أنه قد بلغ أمته هذا القرار الإلهي؟ إن الرسول يشهد على أمته، وأن الأنبياء يشهد بعضهم لبعض. إذن قد يكون الشاهد نبيا، والمشهود له نبي آخر، والمشهود به أن يؤمنوا بالرسول القادم وينصروه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1574 وقد يكون الشاهد النبي، والمشهود عليه هي أمته بأنه قد بلغها ضرورة الإيمان بالرسول القادم بمنهج السماء؛ لأن الأمة ما دامت قد آمنت برسول فعليهم مؤازرة هذا الرسول، ومؤازرة مَنْ يأتي من بعده، وذلك حتى لا يتبدد ركب الإيمان ؤمام باطل الإلحاد: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] ولنرتب الشهادات التي وردت في هذه الآية الكريمة: الأنبياء يشهد بعضهم على بعض، أو الأنبياء يشهدون على أممهم، ثم شهادة الله على الأنبياء. وما دام الأمر قد جاء بهذا التوثيق فعلينا أن ننبه أنه إذا ما وجدنا دينا سابقا يتعصب أمام دين لاحق، بعد أن يأتي هذا الدين بالمعجزة الدالة على صدق بلاغ ذلك الرسول عن الله فلنعلم أنهم خانوا هذه القضية. وسبب ذلك يرجع إلى أن الله يريد أن يحتفظ للدعوة إلى الإيمان، بانسجام تام، فلا يتعصب رسول لنفسه ولا لقوميته ولا لبيئته، ولا يتعصب أهل رسول لملتهم أو نحلتهم؛ لأنهم جميعا مبلغون عن إله واحد لمنهج واحد، فيجب أن يظل المنهج مترابطا فلا يتعصب كل قوم لنبيهم أو دينهم، وهذا ليكون موكب الرسالات موكبا متلاحما متساندا متعاضدا، فلا حجة من بعد ذلك لنبي، ولا لتابع نبي أن يصادم دعوة أي رسول يأتي، ما دام مصدقا لما بين يديه. لقد أعلمنا الحق أنه قد عرض شهادة الأنبياء على بعضهم، وشهادة الأنبياء على أممهم، وشهادة الله سبحانه على الجميع، وذلك أوثق العهود وآكدها. ولذلك يزداد موكب الإيمان تآزرا وتلاحما، فلا يأتي مؤمن برسالة من السماء ليصادم مؤمنا آخر برسالة من السماء. . ولندع المصادمة لمن لا يؤمنون برسالة السماء، وحين يتكاتف المؤمنون برسالة السماء يستطيعون الوقوف أمام هؤلاء الملاحدة، وبعد هذا البيان الواضح يقول الحق: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1575 {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1576 معنى «تولى» هي مقابل «أقبل» . و «أقبل» تعني أنه جاء بوجه عليك. و «تولى» أعرض كما نقول نحن في تعبيراتنا الشائعة: «أعطاني ظهره» . ومعنى هذا أنه لم يأبه لي، ولم يقبل علي. إذن فالمراد مِنْ أَخْذ العهدِ أن يُقْبَل الناسُ على ذلك الدين، فالذي يُعرض ويعطي الإيمان الجديد ظهره يتوعده الله ويصفه بقوله: {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون} بعد ماذا؟ إنه التولي بعد أخذ العهد والميثاق على النبيين، وشهادة الأمم بعضها على بعضها، وشهادة الله على الجميع، إذن فلا عذر لأحد. فمن أعطى ظهره للنبي الجديد، فماذا يكون وعيد الله له؟ إن الحق يصفهم بقوله: {فأولئك هُمُ الفاسقون} أي أن الوعيد هو أن الله يحاسبه حساب الفاسقين، والفسق - كما نعلم - هو الخروج عن منهج الطاعة. والمعاني - كما تعرف - أخذت وضعها من المحسوسات. لأن الأصل في الوعي البشرى هو الشيء المحس أولا، ثم تأتي المعنويات لتأخذ من ألفاظ المحسوسات. والفسق في أصل اللغة هو خروج الرطبة عن قشرتها؛ فالبلح حين يرطب، يكون حجم كل ثمرة قد تناقص عن قشرتها. وحينما يتناقص الحجم الطبيعي عن القشرة تصبح القشرة فضفاضة عليه، وتصبح أي حركة عليه هي فرصة لانفلات الرطبة من قشرتها. ويقال: «فسقت الرطبة» أي خرجت عن قشرتها. وأَخَذَ الدينُ هذا التعبير وجعله وصفاً لمن يخرج عن منهج الله، فكأن منهج الله يحيط بالإنسان في كل تصرفاته، فإذا ما خرج الإنسان عن منهج الله، كان مثل الرطبة التي خرجت عن قشرتها. ونحن أمام فسق من نوع أكبر، فهناك فسق صغير، وهناك فسق كبير. وهنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1576 نسأل أيكون الفسق هنا مجرد خروج عن منهج طاعة الرسول؟ لكن هذا الخروج يوصف به كل عاصٍ، أي أن صاحبه مؤمن بمنهج وفسق جزئيا، إننا نقول عن كل عاصٍ: «إنه فسق» أي أنه مؤمن بمنهج وخرج عن جزئية من هذا المنهج، أما الفسق الذي يتحدث عنه الحق هنا فهو فسق القمة؛ لأنه فسق عن ركب الإيمان كله، فإذا كان الله قد أخذ العهد، وشهد الأنبياء على أممهم، وشهدت الأمم بعضها على بعض، وشهد الله على الجميع، أبعد ذلك تكون هناك فرصة لأن يتولى الإنسان ويعرض؟ ثم لماذا يتولى ويعرض؟ إنه يفعل ذلك لأنه يريد منهجا غير هذا المنهج الذي أنزله الله، فلو كان قد اقتنع بمنهج الله لأقبل على هذا المنهج، أما الذي لم يقتنع فإنه يعرض عن المنهج ويطلب منهجا غيره فأي منهج تريد يا من لا ترضى هذه الشهادة ولا هذا التوثيق؟ خصوصا وأنت تعلم أنه لا يوجد منهج صحيح إلا هذا المنهج، فليس هناك إله آخر يرسل مناهج أخرى. وهكذا نعرف أنه لا يأتي منهج غير منهج الله، إلا منهج من البشر لبعضهم بعضا، ولنا أن نقول لمن يتبع منهجا غير منهج الله: من الذي جعل إنسانا أولى بأن يتبعه إنسان؟ إن التابع لا بد أن يبحث عمن يتبعه، ولا بد أن يكون الذي يتبعه أعلى منه، لكن أن يتبع إنسان إنسانا آخر في منهج من عنده، فهذا لا يليق، وهو فسق عن منهج الله؛ لأن المساوي لا يتبع مساوياً له أبدا، ومن فضل الله سبحانه أنه جعل المنهج من عنده للناس جميعا حتى لا يتبع إنسان إنسانا آخر. لماذا؟ حتى لا يكون هوى إنسان مسيطرا على مقدرات إنسان آخر، والحق سبحانه لا هوى له. إن كل إنسان يجب أن يكون هواه تابعا لله الذي خلق كل البشر. وما دام ليس هناك إله آخر فما المنهج الذي يرتضيه الإنسان لنفسه؟ إن المنهج الذي يرتضيه الإنسان لنفسه لو لم يتبع منهج الله هو منهج من وضع البشر، والمنهج الذي يضعه البشر ينبع دائما من الهوى، وما دامت الأهواء قد وجدت، فكل مشرِّع من البشر له هوى، وهذا يؤدي إلى فساد الكون. قال تعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1577 بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71] . فإذا كانوا لا يرضون منهج الله، فأي فسق هم فيه؟ إنه فسق عظيم؛ لأن الله قد أخذ عليهم العهد وعلى أنبيائهم ووثق هذا العهد، أفغير الله يبغون؟ نعم، إنهم يبغون غير الله ومن هو ذلك الغير؟ أهو إله آخر؟ لا، فليس مع الله إله آخر، بل هم قد جعلوا الخلق مقابل الخالق، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1578 إنهم ما داموا غير مؤمنين برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي أرسله الله نبيا ورسولا فإن ذلك يكشف رغبتهم في أنهم يريدون منهجا غير منهج الله، وليس أمامهم إذن إلا مناهج البشر النابعة من الأهواء، والتي تقود حتما إلى الضلال، إن الحق سبحانه وتعالى يريد لخلقه أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم، إنه الحق سبحانه وتعالى قد أوضح لنا في منهجه، وقال لنا هذا المنهج: أنتم مستخلفون في الكون، وأنتم أيها الخلفاء في الأرض سادة هذا الكون، سادة يخدمكم الكون كله، وانظروا إلى أجناس الوجود تجدوها في خدمتكم، الحيوان أقل منكم بالفكر. والنبات أقل من الحيوان بالحس. والجماد أقل من النبات. إذن فأجناس الكون من حيوان ونبات وجماد ترضخ لإرادتك أيها الإنسان، فالنبات يخدم الحيوان والحيوان يخدمك أيها الإنسان، والجماد يخدم الجميع، والعناصر التي نأخذها نحن البشر من الجماد يستفيد منها أيضا النبات والحيوان. إذن فكل جنس في الوجود تراه بعينيك إنما يخدم الأجناس التي تعلوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1578 والجماد يخدم النبات. والجماد والنبات يخدمان الحيوان. والجماد والنبات والحيوان في خدمة الإنسان وأنت أيها الإنسان تخدم من؟ كان من واجب عقلك أيها الإنسان أن تفكر فيمن ترتبط به ارتباطا يناسب سيادتك على الأجناس الأخرى كان لا بد أن تبحث عمن اعطاك السيادة على الأجناس الأخرى. هل أنت أيها الإنسان قد سخرت هذه الأجناس بقدرتك وقوتك؟ لا؛ فلست تملك قدرة ذاتية تتيح لك ذلك؟ أما كان يجب عليك أن تفكر ما هي القوة التي سخرت لك ما لا تقدر عليه، فخدمتك حين لا توجد لك قدرة، وخدمتك وأنت نائم تغط في نوم عميق؟ أما كان يجب أن تفكر هذا الفكر؟ إنك أيها الإنسان يجب أن تكون منطقيا مع نفسك، وأن تبحث لك عن سيد يناسب سيادتك على غيرك. والكون لا يوجد فيه سيد عليك؛ لأن الكون محس، فإن جاءك من يحدثك بأن غيبا هو الإله يطلب أن تكون في خدمته فيجب أن تقول: «إن هذا كلامي منطقي بالنسبة لوضعي في الكون» وبعد ذلك انظر إلى الكون، فأنت في الكون لست وحدك بل هناك أجناس أخرى، وكل جنس من الأجناس له قانونه وله مهمته، للحيوان مهمة، وللنبات مهمة، وللجماد مهمة. فهل وجدت جنسا من الأجناس تمرد على مهمته؟ لا. إن الحصان مثلا، تستخدمه كمطية عليها وسادة من حرير وجلد ولها لجام من فضة لتركبه، وتجد هذه المطية في يوم آخر تحمل سماد الأرض من روث الحيوان وما تأبت، لقد أدت الخدمة لك راكبا، وأدت الخدمة لك ناقلا، وما تمردت عليك أبدا. كل الأجناس - إذن - تؤدي مهمتها كما ينبغي، فاستقام الأمر فيها، وما دام الأمر قد استقام فيها، فبأي شيء استقام؟ إن الله هو الذي خلقها ذللها، قال لها: «كوني في خدمة الإنسان مؤمنا كان أو كافرا» وفي هذا الأمر عدالة الربوبية، فلا تتأخر أو تشذ عن حركتها في خدمة الإنسان. أرأى أحدكم الشمس مرة قالت: لم يعد الخلق يعجبونني، ولن أشرق عليهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1579 وسأحتجب اليوم؟! أتمرد الهواء وقال: لا، إن الخلق لم تعد تستحق تنفس الهواء، لذلك لن أمكنهم من الانتفاع بي. أرأينا المطر امتنع؟ هل استنبت الإنسان أرضا صالحة للزراعة واستعصت عليه؟ لا. . فكل شيء في الوجود يؤدي مهمته تسخيرا وتذليلا. لذلك يقول الحق: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [يس: 72 - 73] . والحق سبحانه وتعالى يطلق بعضا من الحيوان فلا يذلل، ولا يستأنس، وذلك حتى تعلم أيها الإنسان أنك لم تستأنس الجمل بقدرتك فإن كانت لك قدرة مطلقة على الكون فاستأنس بعض ثعابين هذا العالم أو استأنس الأسد. وأنت أيها الإنسان ترى في هذا الكون بعضا من الحيوانات والمخلوقات شاردة مثل الثعابين والحيوانات المتوحشة. بغير استئناس ليدلنا الحق على أن هذا الذي يخدمك لو لم يذلله الله لك لما استطعت أنت بقدرتك أن تذلله، إنه تذليل وتسخير وخضوع لهذه المخلوقات منحه الله تعالى لك أيها الإنسان تفضلا منه - سبحانه - مع عجزك وضعفك. ولم نجد شيئا نافعا قد عصى الإنسان في الكون، لأن كل الخلق مسخر من الله لخدمة الإنسان كافرا كان أو مؤمنا، وهذا هو عطاء الربوبية، لأن عطاء الربوبية يشمل الخلق جميعا، فالخالق الأكرم هو رب الناس كلهم ويتولى تربيتهم جميعا، ولذلك تستجيب الأجناس من غير الإنسان للإنسان سواء أكان مؤمنا أم كافرا. فإن أحسن الكافر استخدام الأسباب فإن الأسباب تعطيه ولا تعطي المؤمن الذي لا يستخدم الأسباب، أو لا يُحسن استخدامها فهذا هو عطاء الربوبية، والربوبية للجميع. أما عطاء الألوهية فهو «افعل ولا تفعل» وهو عطاء للمؤمنين فقط. فإذا كانت هذه هي صورة الكون وهو يؤدي مهمته بلا شذوذ فيه، ومنسجم في ذاته انسحاما عجيبا فلنا أن نسأل «من أين جاء الخلل في الكون؟» إن الخلل قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1580 جاء منك أيها الإنسان. ولهذا فنحن لا نجد فسادا في الكون إلا وللإنسان مدخل فيه، أما مالا مدخل للإنسان فيه فلا فساد فيه أبدا. أرأيت أحدا قد اشتكى من أن الهواء قصر؟ لا. لماذا لأن أحدا لا دخل له بمسألة الهواء هذه أبدا، صحيح أننا نتدخل في الهواء بتلويثه بالعادم والفضلات، وصحيح أيضا أن الحق يٌكرم الخلق باكتشافات قد تصلح من هذا الفساد إذن، فحين يتدخل الإنسان فإن الشيء قد يفسد. لكن هل معنى ذلك ألا نتدخل؟ هل نقف من الكون مكتوفي الأيدي؟ لا، بل يجب أن نتدخل في الكون، ولكن بمنهج الله. إنك إن تدخلت في الكون بمنهج الله، فكل شيء يسير الكون الذي لا منهج له إلا الخضوع والتسخير، فكما أدت الشمس مهمتها والجماد مهمته، والحيوان مهمته، وأنت أيها الإنسان مطلوب منك أن تؤدي مهمتك، وهي أن تطيع الله، تلك الطاعة التي تتلخص مطلوباته منك في: «افعل كذا ولا تفعل كذا» فإن انتظمت مع المنهج ب «افعل» و «لا تفعل» تكن قد انسجمت مع الكون. إن الله سبحانه يزيّل هذه القضية ويختمها باستفهام تنقطع وتنفطر له قلوب المؤمنين: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] إن كل شيء في السماوات وفي الأرض قد أسلم لله طوعا أو كرها. وإذا ما تساءلنا، وما معنى «طوعا؟» فالإجابة هي طاعة التسخير، كما قالت السماوات والأرض في النص القرآني الحكيم: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1581 أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] . فكل ما لا تكليف له جاء طائعا مسخرا، وما معنى: «كرها» ؟ إن بعضا من العلماء قد قال: إن «طوعا» تشمل أجناس الملائكة، والجماد، والنبات، والحيوان، فكل منهم يؤدي مهمته بخضوع ولا يعترض أحد منهم ولا يملك أحدهم قدرة على العصيان، وأما عن «كرها» فقد فهم بعض العلماء أنهم الناس الذين يخدمون الناس بالقوة كالعبيد مثلا، ولهؤلاء نقول: لا يصح ولا يستقيم أن نعطي خصوم الإسلام فرصة ليقولوا إن الإسلام قد أكره أحداً من البشر أن يخدم أحدا كرها؛ لأن الحق سبحانه قال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] . فما دام الله لم يكره أحداً على الإيمان به فكيف يكره إنسانا ليخدم إنسانا آخر؟! ولهذا فإننا يجب أن نفهم كرها على وضعها الحقيقي، والحق سبحانه أبلغنا أن هذا الكون كله مسخر له، لأنه سبحانه هو الذي خلقه ولا إله غيره وهذه مسألة مسلم بها، فالكون كله لله، وهو المدبر والقاهر له، قال الحق: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] . ومادام هو الواحد وهو الخالق فلن يتمرد أحد على مراده، وكان يجب أن يفهم الإنسان مهمته على أنه هو الوحيد الذي كلفه الله؛ لأن بقية الأجناس لا اختيار لها وهي غير مكلفة كما كلف الله الإنسان ب «افعل» و «لا تفعل» إذن فالتكليف فرع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1582 الإختيار؛ فالمنهج يقول لك: «افعل كذا ولا تفعل كذا» لأن الذي وضعه يعلم أنه قد خلقك صالحا لأن تفعل ما يأمرك به، وصالحا لأن تفعل ما لا يأمرك به. إن اليد - مثلا - مخلوقة لتتحرك حسب إرادة صاحبها، بدليل أن الإرادة إن شُلت وانقطع الخيط الموصل للإرادة الآمرة إلى الجارحة الفاعلة عندئذ يحاول الإنسان المصاب بذلك - والعياذ بالله - أن يرفع يده فلا يستطيع، فاليد مسخرة لإرادة الإنسان، وإرادتك أيها الإنسان عندما تسير في ضوء منهج الله فإنك توجهها في ضوء «افعل» و «لا تفعل» . وعندما يقال لك مثلا: «لا تضرب بها أحداً» فمعنى ذلك أن اليد صالحة لأن تضرب، وعندما يقال لك: «خذ بيد العاثر» فيدك قادرة على أن تأخذ بيد العاثر، فأنت مخلوق على هيئة الطواعية من جوارحك لإرادتك. ويأتي المنهج ليقول لك: «نفذ الإرادة في كذا ولا تنفذ الإرادة في كذا» . . إذن فالإنسان عندما يتبع المنهج فهو يتفق مع الأشياء المسخرة تمام الاتفاق، ويؤدي كل شيء على خير أداء، لكن متى يختلف الإنسان عن الانسجام عندما لا يطبق المنهج، فيشذ عن الركب في الكون كله، ولتقرأ قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [الحج: 18] . إنها الأجناس كلها ساجدة، الشمس ساجدة، القمر ساجد، والنجوم، والجبال، كل هذه الجمادات ساجدة، وكذلك الشجر والنبات ساجد لله، والحيوان والدواب ساجدة لله، وكثير من الناس سجود، لكن في مقابل هذا الكثير الساجد من البشر، هناك كثير غير ساجد لذلك حق عليه العذاب، ولو أن الإنسان قد أخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1583 منهج الله فنفذه لصار كبقية الأجناس، لكن الإنسان اختلف، وقال: «أنا سوف آخذ اختيار تحمل الأمانة، لأني عالم وعاقل» كما جاء في القول الحق: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] . فلو أخذ الإنسان منهج الله في «افعل» و «لا تفعل» ، لانسجم الإنسان مع الوجود كله وحين ينسجم الإنسان مع الوجود كله فلن تأتي منه مخالفة أبدا كما لا تأتي مخالفة في الوجود من غير الإنسان، وعند ذلك يصبح الكون مثاليا في الانسجام. ونحن نعرف أن الطموحات العلمية حين تعمل وتُشغل العقل في أمر ما فإنها تريد الخير، ولكنها تعلم شيئا، ويغيب عنها شيء آخر، ولو أخذوا عن الله العليم بكل شيء لصارت الدنيا إلى انسجامها. إن المخترعين الذين صمموا المحركات التي تتحرك بسائل البنزين قاموا بتسهيل الحركة على الإنسانية، ولكن العادم والمخلفات الناتجة من البنزين صنعت ضررا بالكون، ودليل ذلك ان العلماء الآن يبحثون عن أساليب لمقاومة تلوث البيئة. وعندما كان الوقود هو الحطب لم يكن هناك تلوث للبيئة، لماذا؟ لأن كل عنصر كان يؤدي مهمته، فجزء من احتراق الحطب كان يتحول إلى كربون، وجزء آخر يتحول إلى غازات، وتنصرف كل الأشياء إلى مساراتها. إن هذا يدلنا على أن الإنسان قد دخل إلى المخترعات المعاصرة بنصف علم. لقد قدّر الإنسان انه يريد تخفيف الحركة، وينقل الأثقال ويختصر المسافات، لكنه لم ينظر إلى البيئة وتلوثها، فنشأ عادم يفسد البيئة، لكن لو كان عند الإنسان القدرة الشاملة على العلم لكان ساعة اختراع هذه المحركات قد بحث عن وضع معادلة لتعدل من فساد العادم. ولننظر إلى عظمة الحق، إنه يترك للعقل البشري أن يتقدم، ولكن العقل البشري قاصر وينسى من الأشياء ما ينتج عنه الضرر أخيرا. إن الذين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1584 اخترعوا المبيدات الحشرية كانوا يظنون أنهم قاموا بفتح جديد في الكون، وتشاء إرادة الحق ان يقوم بتحريم هذه المبيدات القوم أنفسهم الذين اخترعوها؛ لأنهم وجدوا منها الضرر، لذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 103 - 105] . إنك أن أردت أن تكمل صنعتك فابحث عن الحسن في ضوء منهج الله، والحق سبحانه يضرب لنا المثل الواضح. إننا نعرف أن عادم صناعتنا ضار كعادم المصانع والسيارات وغيرها، لكن عادم خلق الله في الحيوان نافع، فالإنسان يأخذ روث الحيوان ويصنع منه السماد ليزيد من خصوبة الأرض، والعجيب أن فضلات الحيوان التي تعطي خصوبة للأرض لا نجد فيها شيئا يقزز، ولا نجد لها الرائحة التي توجد في فضلات الإنسان، لماذا؟ لأن الحيوان يأكل على قدر حاجته، إن الحيوان قد يجد أمامه أصنافا كثيرة، مثل الحشيش اليابس، وإذا شبع الحيوان امتنع عن الطعام، ولذلك لا يُخرج فضلات كريهة الرائحة، لكن الإنسان ينوع ويلون ويأكل فوق طاقته ويحث شهيته على الانطلاق والانفلات، إن الحيوان لا اختيار له، ومحكوم بالغريزة ويجد أمامه هذا الذي يؤكل وذلك الذي لا يؤكل فيختار بغريزته المناسب له، وإذا امتلأت البطن لا يأكل؛ لأنه محكوم بالغريزة والتسخير المطلق، لكن الإنسان يتمتع بالاختيار، فأفسد عليه هذا الاختيار وأبعده عن منهج الله وجعله بما لديه من قدرة يتجاوز الاكتفاء بحدود الشبع. وهكذا نرى بوضوح أن الكون كله أسلم لله طوعا في المسخرات. وإياك أن تفهم أن هناك إسلاما بالقهر والإكراه. وبعض العلماء قد فاتهم ذلك وهم يعطون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1585 لخصوم الإسلام حجة الإسلام حجة فيقولون: «إن دينكم انتشر بإكراه السيف» ولذلك نقول لهم: لا، إن أحدا لم يسلم كرها أبدا؛ لأن السيف إنما رفع لشيء واحد هو حماية حرية الاختيار. إن السيف قد رُفع ليمنع الإكراه، وليمنع تسلط بعض الناس بقوتهم ليجبروا الناس على عقائدهم فقال لهم السيف: «قفوا عند حدكم، ودعوا الناس أحرارا في اختيار ما يعتقدون» ، ودليل ذلك أن البلاد التي فتحها الإسلام تجد فيها غير المسلمين، ولو كان الأمر فتحا بالسيف لما وجدنا ديانات أخرى. غير الإسلام، نجدهم أيضا يتشدقون بذلك ويزيدون «إنكم تفرضون جزية» . ونقول لهم: أنتم تردون على أنفسكم، نحن لم نفرض جزية على المؤمن ولكن الكافر تركناه على كفره، والجزية يدفعها الكافر ليدافع عنه المؤمنون لو أصاب البلاد مكروه. إذن فكيف نفهم قوله الحق بأن هناك من أسلم كرها؟ نحن نفهمها كالآتي: إن الإنسان هو الذي انقسمت عنده المسائل، وفيه أمور تدخل في فعله ومراداته، وفيه أمور تجدث قهرا عنه، وتحدث له بلا إرادة ولا اختيار، فالإنسان يكون مختارا في الفعل الذي يقع منه، أما الفعل الذي يقع عليه أو فيه فلا دخل له فيه بالاختيار؛ إن أحدا منا لا يختار يوم ميلاده، أو يوم وفاته أو يوم إصابته بالمرض، والإنسان الذكي هو الذي يعرف ذلك ونقول للإنسان الذي لا يعرف أو يتجاهل ذلك: أيها الإنسان دعك من الغباء؛ إن هناك زوايا من حياتك أنت مجبر فيها على أن تكون مسلما لله كرها إنك تسلم لله دون إرادتك في كثير من الأمور التي تقع عليك، ولا تستطيع لها دفعا، فلماذا تقف في الإسلام عند زاوية الاختيار؟ إن المسخرات كلها مسلمة لله، والإنسان فيما يقع فيه أو عليه من أمور لا يستطيع دفعها. هو تسليم لله كرها من الإنسان، وهكذا نرى أن قيادة التسخير فيما ليس لك دخل فيه أيها الإنسان هي مسلمة لله، مثلك في ذلك مثل كل الكائنات، أفلا يجب عليك أن تسلم بكل زوايا حياتك؟ فلو كان هناك إنسان كافر بكل ما فيه من أبعاض فعلى هذا الكافر ألا يسلم بأي شيء من جوارحه؛ هل يستطيع أن يمنعها من أن تؤدي عملها؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1586 ولنر ما سيحدث له لا بد أن يتوقف عن التنفس؛ لأن التنفس يحدث رغما عنه، لا بد أن يوقف دقات قلبه؛ لأنها تدق رغما عنه. وما دام هناك من يستمرئ الكفر فليحاول أن يجعل كل ما فيه كافرا، ولن يستطيع؛ بل سيجد أنه يحب أمورا ولا تأتي له، ويكره أمورا وتنزل به، ولم يفلت أحد من الإسلام لله، لأن الله قد اختار لكل إنسان يوم الميلاد ويوم الموت، واختار الله للإنسان أن تجري الأحداث فوقه ولا يستطيع دفعها، ويصبح خاضعا رغم أنفه، لذلك قال الحق: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} . إذن ولنأخذ «طوعا» لغير الإنسان، وللمؤمن الذين نفذ تعاليم المنهج، ولنأخذ «كرها» في المسائل التي لا دخل لاختيار الإنسان فيها وتقع عليه وهو يكرهها، ولا يستطيع دفعها، لأن الذي يجريها عليه هو الخالق الفعال لما يريد، وما دامت هناك زاوية من حياتك أيها الإنسان أنت مكره فيها فلماذا تمردت في المسألة الاختيارية؟ كان يجب أن يأخذ الكافر هذه النقطة ويقول للكفر: «لا» ، ويتجه إلى الإيمان؛ لأن المؤمن يأخذ هذه النقطة ويقول: أنا أريد أن أنسجم مع الكون كله حتى لا تطغى ملكة على ملكة، ولا تطغى إرادة على إرادة أخرى، وهذه رحمة من الله بالخلق. وحين يسلم الإنسان منهجه لله فإنه يفعل ما يطلبه المنهج ولا يفعل ما يحرمه المنهج ومن يريد أن يقف في «افعل» و «لا تفعل» ، ونقول له: إذا فعلت ما الذي يستفيده الله منك؟ وإذا لم تفعل ما الذي يضر الله منك؟ لا شيء، إن عليك أن تفكر جيدا فالأمر إنما يُرَدّ أو يتمرد عليه إن كان للآمر فيه مصلحة، وحيث إنه لا مصلحة للحق سبحانه وتعالى في مراداته من الخلق إلا إصلاح الخلق ذاته، إذن فمنهج الحق هو لمصلحة الإنسان، وأول ما يصاب به من يقف في منهج الله أنه يصبح ضد نفسه، ولا ينسجم مع الكون، فإن كان هناك من يريد ألا يسلم، فليجرب نفسه بألا يسلم في المقهورات التي هو مقهور عليها، وهذا أمر مستحيل. ولنقرأ الموقف القرآني بدقة، لنرى أنه الحق بعد القسم وبعد العهد وبعد الإشهاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1587 عليه، قال لنا: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} . إن من يبغي غير دين الله ليس منطقيا مع نفسه أو مع الكون؛ لأن الكون كله لله بما فيه ومن فيه من السماوات والأرض، وكذلك الإنسان الذي ارتضى منهج الله، وأيضا أسلم الكافر لله فيما ليس له فيه اختيار. «وأسلم» في هذا السياق القرآني الكريم تعني أنه خضع وسُخر، وقُهر على أن ينفذ، ولكن الحق سبحانه أورد عن السماء والأرض قال: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] . إن المألوف أن ترضخ السماء والأرض لأمر الله، وعندما «قالتا أتينا طائعين» فقد كسبت السماء والأرض الإسلام لله، فإلى الله كل مرجع فالإنسان - مؤمنا كان أو كافرا - سيعود إلى الله حتما. وكلمة «يرجعون» التي تأتي في تذييل الآية يمكننا أن نراها في مواقع أخرى من القرآن مرة تأتي مبنية للمفعول وننطقها «يُرجعون» بمعنى أنهم مقهورون على الرجوع إلى الله، ونجدها في مواقع أخرى في القرآن كفعل مبنى للفاعل فننطقها {يُرْجَعُونَ} ، أي أنهم يريدون الإسراع في العودة إلى الله، وفي هذه الآية نفهم أن الذين يبغون غير دين الله لا يرغبون أن يعودوا إلى الله لذلك يتم إرجاعهم بالقهر، فسبحانه وتعالى يقول: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] . ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1588 عندما ننظر إلى هذه الآية بخواطرنا فإننا نجد أن الحق يمزج الرسول والمؤمنين به والمرسل إليهم في الإيمان به، ويتحدث إلى الرسول والمؤمنين كوحدة إيمانية، إن قول الحق: «قل» هو خطاب لمفرد هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمقول: {آمَنَّا} دليل على انسجام الرسول مع الأمة المؤمنة به، فكأن الأمة الإسلامية قد انصهرت في «قل» ، وكأن الرسول موجود في {آمَنَّا} ، وبذلك يتحقق الامتزاج والانسجام بين الرسول وبين المؤمنين به، ويصير خطاب الحق إليهم هو خطاب لوحدة إيمانية واحدة لا انفصام فيها. وقد جاء الحق بهذا الأسلوب ليوضح لنا أن الرسول لم يأت ليتعالى على أمته، بل جاء ليحمل أعْباءَ هذه الأمة، ولذلك قلنا من قبل: إن للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إيمانين، لقد آمن بالله، وأمن للمؤمنين، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيشفع لنا، لأنه قد أدى مُؤدى يسع أمته كلها، لقد أتم البلاغ وخضع للتكليف بما يسع أمته كلها، ولذلك يقول الحق: {قُلْ آمَنَّا} ، كان القياس أن يقول: «قل آمنت» ، أو أن يقول: {قولوا آمَنَّا} . لكن الحق في قرآنه الكريم يضع كل كلمة في موضعها، فتصبح الكلمة جاذبة لمعناها، ويصبح كل معنى عاشقا لكلمته، وقد قال الحق هنا: {قُلْ آمَنَّا} ليتضح لنا أن محمدا رسول ممتزج في أمته، وأمة الإسلام في طواعية لرسولها، والأمر يأتي لرسول الله من الحق سبحانه، والتنفيذ لهذا الأمر يكون من الجميع، وفي هذا إشعار للخصوم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيكون ذا عصبية إيمانية قوية، فلو قال: «قل آمنت» لكان معنى ذلك أن الرسول لن يملك إلا إيمانه فقط، لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آمن به قومه، وكثير غيرهم وجاء على يديه فتح مكة كما قال الحق: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً} [النصر: 1 - 2] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1589 وعندما نقرأ قوله الحق: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} فلنا أن نلتفت إلى أن العلماء لهم وقفة في مسألة الإنزال، فمرة يقول الحق: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] . ومرة أخرى يقول الحق: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] . وهكذا نجد أن «الإنزال» يأتي مرة متعديا ب «إلى» ، ويأتي مرة مرة أخرى متعديا «بعلى» . وقال بعض من العلماء: إن الكلام حينما يكون موجها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالحق يقول: «أنزل عليك» ، وكأن هؤلاء العلماء - دون قصد منهم - يفصلون بين بلاغ الله للرسول عن البلاغ إلى أمة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يلتفتوا إلى أن الغاية من إنزال المنهج على الرسول هو هداية الأمة. ونحن نقول: إن علينا ألا نأخذ الأمر بسطحية من أسلوب ظهر لنا؛ ذلك أن هناك أسلوبا خفيَّا، وهو أن «إلى» و «على» إنما تفيدان أن المنهج نزل للأمة والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فمرة يأتي الحق بالنزول متعديا ب «إلى» والخطاب موجه للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كقوله الحق: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [المائدة: 83] . ومرة يأتي الحق بالنزول متعديا ب «على» والخطاب موجه للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1590 كقوله الحق: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] . ومرة ثالثة يأتي الحق بالإنزال في حديث إلى المؤمنين: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء: 140] . إنه كتاب منزل من السماء وملحوظ فيه العلو، والغاية من النزول هو مصلحة الأمة، فالإتيان ب (على) يْفيد العلو، ولمصلحة الأمة، «العلية» هنا لتزيد مقام المنهج بالنسبة للمؤمنين فهو قد نزل لمصلحتهم. إذن فالنزول يقتضي «علِّية» ، وهو من حيث العلو يأتي ب «على» ، ومن حيث الغاية يأتي ب «إلى» ، فهو منهج نزل من الحق الأعلى ونزل إلى الرسول وعلى الرسول ليبلغه إلى المؤمنين لمصلحتهم. ولذلك قلنا: إننا إذا رأينا حكما يقيد من حرية الفرد فلا يصح أن نفهم أن الله قد قصد هذا الفرد ليقيد حريته، إنما جاء مثل هذا القيد لقيد الملايين من أجل حرية الفرد، مثال ذلك ساعة يحرم المنهج السرقة على الإنسان، فهو أمر لكل إنسان من الملايين وهو لمصلحة كل إنسان، فالقرآن قد نزل لمصلحتك، ومصلحة المؤمنين جميعا. وعندما نقرأ قوله الحق: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . فهذا القول يوضح أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1591 إنما جاء بمنهج يضم صحيح العقائد والقصص والأخبار، وهو يوافق ما جاء في موكب الرسالات من يوم أن خلق الله الأرض وأرسل الرسل. وقد أخذ الله العهد على الأمم والأنبياء من قبل، بأنه إذا جاء رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به، وكذلك أخذ الله على رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يؤمن بالرسل السابقين، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يأت ليهدم أديانا، ولكن ليكمل أديانا، وهكذا نرى النص القرآني الجليل: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3] . كأن الأديان السابقة بكل ما جاء فيها من صحيح العقائد، والقصص، والأخبار موجودة في الإسلام، وفوق كل ذلك جاء الإسلام بشرائع تناسب كل زمان ومكان، ولذلك قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديثه الشريف: «إنما مثلى ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بني بنيانا فأحسنه وأجمله وأكمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويقولون ما رأينا أحسن من هذا لولا موضع هذه اللبنة فكنت أنا اللبنة» . إذن فزمام كل الأمر انتهى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد أخذ الله العهد على غيره أن يصدقوه عندما يجيء، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آمن وصدق بمن سبق من الرسل، ولم يجيء من بعده شيء يطلب من رسول الله ولا من أمته أن يصدقوه، وقال الحق تذييلا لهذه الآية الكريمة: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . أي أنه لا يوجد لأتباع أي رسول من الرسل السابقين ما يعطيهم سلطة زمنية، بل المسألة كلها تبدأ من الله، وتنتهي إلى الله. وتلك هي القضية النهائية في موكب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1592 الرسالات. وما دام الإسلام هو ذلك الانقياد الذي يختاره الإنسان لنفسه ليكون منسجما مع نفسه في الإسلام لله، ويكّون انسجاما مع الكون الآخر وما يحتويه من حيوان ونبات وجماد وغيرها في أنه أسلم خضوعا لله، وبذلك يصبح الكون بما فيه الإنسان المؤمن المسلم لله كله مسخَّراً لله سبحانه وتعالى. وما دام الكون بالإنسان قد صار مسخرا لله فلا تضاد في حركة لِتعاند حركة أخرى؛ لأن الذي يهيمن هذه الهيمْنة هو الذي وضع لكل إنسان في مجال حركته في الحياة قانونا يعصمه من أن يصطدم بغيره، وإذا كان البشر قد استطاعوا أن يضعوا لأنفسهم معايير تمنع التصادم في الحركة، ذلك التصادم الذي يؤدي إلى كوارث ومصائب. مثال ذلك، للنظر إلى السكك الحديدية، ألا يوجد موظف اسمه «المحولجي» ؟ ومعنى هذه الوظيفة هو أن القائم بها يقوم بتحويل القاطرة القادمة من طريق معين إلى مسار محدد حتى لا تدهم قاطرة أخرى جاءت من الطريق نفسه. إن ذلك من فعل الإنسان فيما صنع من قطارات ومواصلات، لقد صنع أيضا وسائل تمنع تصادمها، فما بالنا بالحق - وله المثل الأعلى - وهو الذي خلق الإنسان؟ إنه سبحانه قد وضع المنهج حتى لا تصطدم حركة في الوجود بحركة أخرى. ولننظر إلى الأشياء التي جاءت بقانون التسخير، والأشياء التي دخلت في ظل الاختيار. أسمعنا أن جملين سارا في طريقين متعارضين واصطدم الجمل بجمل؟ لم يحدث ذلك أبدا، فالجمل يفادي نفسه وما يحمل من الجمل الآخر وما يحمله، لكننا نسمع عن تصادم سيارة مع سيارة، ذلك أن السيارة لا تسير بذاتها بل تسير بقيادة إنسان مختار، وهو الذي يصدم وهو الذي قد تأتي منه في غفلته الكوارث. إذن فتصادم حركة بحركة إنما ينشأ في الأمور الاختيارية، أو غفلة إنسان عن مهمته، كغفلة «المحولجي» عن عمله في تنظيم مرور القطارات، لكن تصادم حركة في الوجود بحركة أخرى في الوجود هو أمر مستحيل، ولا يحدث أبدا، لأن الأمر الذي ما زال في يد المهيمن الأعلى، مهيمن الأرض والسماء، وهو الله الذي يسير الكون منسجما ويعرفنا بصفاته فيقول: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} ومعناه: أني أنا القائم بأسبابكم ومدبر أمركم ولا أنام أو تأخذنا سنة أو غفلةاي فناموا أنتم فقد سخرت الوجود كله من أجلكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1593 وما دام الأمر في الإسلام هكذا، والوجود ينسجم مع نفسه، فلماذا تشذ أنت أيها الإنسان عن الوجود؟ ولماذا تشِّذُ عن ملكات نفسك؟ لماذا لا تكون منسجما مع الكون؟ إنك إن انسجمت مع نفسك ومع الكون صرت الإنسان السعيد. وفي عصرنا الحديث نرى ارتقاء العالم ماديا بصورة عالية، بحيث يقع الحدث في أمريكا مثلا فنراه على شاشة التلفزيون فورا، ويركب الإنسان مركبا صاروخيا إلى الفضاء ولكن هل استراح العالم؟ لا، لقد ازداد العالم عناء، وكأنه يكد ذهنه ويرهق العلماء في معاملهم لابتكار أشياء تعطي للعالم مزيدا من القلق والاضطراب وتتصادم وتتعارض. وبذلك صار الكون لا يفرغ أبدا من حرب باردة أو ساخنة. كل ذلك إنما ينشأ من إدارة أمور العالم بأهواء البشر، فلسنا جميعا مردودون إلى منهج واحد يأمرنا فنأتمر، وينهانا فننتهي، بل كل إنسان يتبع في عمله هواه، لذلك نرى القلق والاضطراب، ونرى الصرخات تملأ الدنيا من أهوال ومصائب، منها مثلا المخدرات هو إنسان غير راضٍ عن واقع حياته، فلا يريد مواجهة حياته، إنما يحاول الهرب منها بالإدمان، ونقول لمثل هذا الإنسان: ليس هذا حلا للمشكلة؛ لأن الإنسان عندما تأتيه مشكلة فهو يحتاج عقلا على عقله ليواجه هذه المشكلة، وأنت بهذا الإدمان إنما تُضَيِّع عقلك، رغم أنك مطالب بأن تأتي بعقل آخر بجانب عقلك لتحل مشكلتك، فالهرب من المشكلة لا يحلها، إنما الهروب غباء وقلة فطنة فالمشكلة زادت تعقيدا ونقول للمجتمعات التي تشكو من مثل هذه البلايا لو أخذتم شرائعكم من منهج الله لكان ذلك حماية لكم من مثل تلك الكوارث. وهكذا نرى أن كل الابتكارات تُوجه دائما إلى الشر أولا، فإذا لم يوجد لها ميدان شر فإننا نوجهها إلى الخير، ويا ليته خير خالص لوجه الله، لا، إنه خير مجنح ومنحرف عن الخير لأن الذي لا يملك هذا اللون من الاختراعات كالشعوب النامية والعالم الثالث قد جعله المخترعون بوساطة هذه الاكتشافات والاختراعات مستعبدا ومقهورا لهم؛ إنهم جعلوا تقدمهم استعبادا وإذلالا لغيرهم وإن تظاهروا بغير ذلك. لماذا يحدث كل ذلك؟ لأننا لم نكن منطقيين - كما يجب - مع أنفسنا ولا مع واقع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1594 الأمور النهوضية التي نحن فيها فالطموحات العلمية التي لا حد لها لا يصح أن تسبب لنا كل هذا التعب، بل كان المفروض بعد الوصول إلى تحقيق هذه الطموحات ان نستريح، ولكن لِمَ لم يحدث هذا؟ لأن زمامنا نحن البشر بيد أهوائنا، والأهواء ليست هي اليد الأمينة، إن اليد الأمينة هي شرع الله الذي لم يشرع إلا لمصلحة من خلق، وما دام الإسلام يرسم طريق الأمان مع الخالق والنفس والكون الذي نحياه، بما فيه من الأجناس الأخرى، إذن فالدين عند الله هو الإسلام، وهذه هي النتيجة الحتمية لذلك يقول الحق سبحانه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ويتبعها الحق سبحانه بقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1595 إن الغاية التي تسعد العالم كله هي دين الإسلام، ومن يرد دينا غير ذلك فلن يقبله الله منه. فإن كان هناك من لا يعجبه تقنين السماء ويقول مندهشا: إن في هذا التقنين قسوة؛ إنك تُقطع يد إنسان وتشوهه نرد على مثل هذا القائل: إن سيارة تصدم سيارة تشوه عشرات من البشر داخل السيارتين، أو قطار يصاب بكارثة فيشوه مئات من البشر. ونحن عندما نبحث عن عدد الأيدي التي تم قطعها في تاريخ الإسلام كله، فلن نجدها إلا أقل كثيرا من عدد المشوهين بالحوادث، وأي ادعاء بالمحافظة على جمال الإنسان مسألة تثير السخرية؛ لأن تقنين قطع يد السارق استقامت به الحياة، بينما الحروب الناتجة عن الهوى شوهت وأفنت المئات والآلاف، إن مثل هذا القول سفسطة، هل معنى تشريع العقوبة أن يحدث الذنب؟ لا، إن تشريع العقوبة يعني تحذير الإنسان من أن يرتكب الذنب. وعندما نقول لإنسان: «إن قتلت نفسا فسيتولى ولي الأمر قتلك» أليس في ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1595 حفاظ على حياته وحياة الآخرين؟ وحين يحافظ التشريع على حياة فرد واحد فهو يحافظ في الوقت نفسه على حياة كل إنسان، يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] . وهكذا يصبح هذا التقنين سليما غاية السلامة، إذن فقول الحق سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} يدلنا على أن الذي يشرع تشريعا يناقض ما شرعه الله فكأنه خطأ الله فيما شرع، وكأنه قد قال لله: أنا أكثر حنانا على الخلق منك أيها الإله؛ لأنه قد فاتتك هذه المسألة. وفي هذا القول فسق عن شرع الله، وعلى الإنسان أن يلتزم الأدب مع خالقه. وليرد كل شيء إلى الله المربي، وحين ترد أيها الإنسان كل شيء إلى ربك فأنت تستريح وتريح، اللهم إلا أن يكون لك مصلحة في الانحراف. فإن كان لك مصلحة في الانحراف فأنت تريد غير ما أراد الله، أما إذا أردت مصلحة الناس فقد شرع الحق ما فيه مصلحة كل الناس؛ لذلك قال الحق: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} . وقد يقول قائل في قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} إن هذه العبارة لا تكفي في منحى اطمئنانا إلى جزاء العمل الذي أتقرب به إلى الله، فالله قد يقبل وقد لا يقبل فهو - سبحانه - لا أحد يكرهه على شيء، ونقول له: إنك ستأتي إلى ربك رضيت أو أبيت فما حاجتك إلى هذا القول؟ لو كنت تستطيع، فكن عاقلا ولا تتمرد على أمر ربك، ويقول الحق: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} . والخاسر: مأخوذة من «الخسر» ، و «الخسر» هو ذهاب رأس المال وضياعه، والآخرة حياة ليس بعدها حياة، ومن الغباء أن يقول قائل: «سوف أتعذب قليلا ثم تنتهي المسألة» لا، إن المسألة لا تنتهي؛ لأن الآخرة حياة دائمة ولا حياة بعدها. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1596 {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَق ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1597 إننا نرى هنا الأسلوب البديع؛ إن الحق سبحانه يدعونا أن نتعجب من قوم كفروا بعد الإيمان، إنهم لو لم يعلنوا الإيمان من قبل لقلنا: إنهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان، لكن الذي آمن وذاق حلاوة الإيمان كيف يقبل على نفسه أن يذهب إلى الكفر؟ إنه التمرد المركب. وقد يتساءل إنسان قائلا: مادام الله لم يهدهم، فما ذنبهم؟ نقول له: يجب أن تتذكر ما نكرره دائما، لتتضح القضية في الذهن لأنها قضية شائعة وخاصة عند غير الملتزمين، الذين يقول الواحد منهم: إن الله لم يرد هدايتي، فماذا أفعل أنا؟ إن ذلك استدلال لتبرير الانحراف ومثل هذا القول لا يصدر إلا من المسرف على نفسه، ولا يأتي هذا القول أبدا من طائع لله، إن الذي يقول: «إن المعصية إنما أرادها الله مني، فما ذنبي؟» يجب أن يعرف أن الطاعة من الله، فلماذا لم يقل: «إن الطاعة من الله فلماذا يثيبنا عليها؟ لماذا تغفل أيها العاصي عن ذكر ثواب الطاعة، وتقف عند المعصية وتقول:» إن الله قد كتب على المعصية فلماذا يعذبني؟ «كان يجب أن نقول أيضا:» ما دام قد كتب علي الطاعة فلماذا يعطيني عليها ثوابا؟ «. إننا نقول لمن يبرر لنفسه الانحراف: إنك تريد أن تأخذ من الطاعة ثوابها، وتريد أن تهرب من عقاب المعصية. وأنت تحتاج إلى أن تفهم الأمر على حقيقته، لقد قلت من قبل: إن» الهداية «تأتي بمعنيين» هَدَى «أي دل على الطريق الموصلة للغاية المرجوة ولم يصنع شيئا أكثر من ذلك والمثال هو إشارات المرور الصماء؛ إن كل إشارة توضح طريقا معينا وتهدي إليه، وإشارة أخرى توضح طريقا آخر وتهدي إليه. ولا يوجد أحد عند هذه الإشارة يأخذ بيد إنسان ويقول له: أنا سآخذ بيدك وأصلح العربة عندما تقف منك، أو أركب معك لأوصلك إلى غايتك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1597 إن هذه الإشارة هي هداية فقط، إي أنها دلالة على الطريق الموصلة إلى الغاية المرجوة والله سبحانه وتعالى قد هدى الناس جميعا المؤمن منهم والكافر أيضا، أي دلّهم سبحانه على الطريق الموصل للغاية. وانقسم الناس بعد ذلك إلى قسمين: قسم قبِل هذا المنهج وارتضاه وسار كما يريد الله، وساعة أن راح هذا المؤمن إلى جناب الله وآمن به، فكأن الحق يقول له: إنك آمنت بي وبمنهجي، لذلك ستكون لك جائزة أخرى، وهي أن أعينك وأخفف عليك الأمور، وهذه هي الهداية الثانية التي يعطيها الله جائزة لمن آمن به وارتضى منهجه وتعني» المعونة «، إن الله يعطي عبده المؤمن حلاوة الطاعة، ويجعله مقبلا عليها بنشاط. إذن فالهداية تكون مرة «دلالة» وتكون مرة ثانية «معونة» إنني أكرر هذا القول حتى يتضح الأمر في أذهاننا جميعا، ولنذكره دائما، ونقول: مَن يعين الإنسان؟ إن الذي يعينه هو من آمن به، أما من كفر بالله، فلا يعينه الله. وسبق أن قلت مثلا - وما زلت أضربه -: إن إنسانا ما يسير في طريق ثم التبس عليه الطريق الموصل للغاية كالمسافر إلى الإسكندرية مثلا، وبعد ذلك وجد شرطيا واقفا فسأله: أين الطريق إلى الإسكندرية؟ فيشير الشرطي إلى الطريق الموصل إلى الإسكندرية قائلا للسائل: هذا هو الطريق الصحيح إلى الإسكندرية. إن الشرطي هنا قد دل هذا الإنسان، لكن عندما يقول السائل للشرطي: «الحمد لله أنني وجدتك هنا لأنك يسرت لي السبيل» فهذا القول يأسر قلب الشرطي، فيزيد من إرشاداته للسائل ويوضح له بالتفصيل الدقيق كيف يصل إلى الطريق، وينبهه إلى أي عقبة قد تعترضه، وإن زاد السائل في شكره للشرطي، فإن ذلك يأسر وجدان الشرطي أكثر، ويتطوع ليركب مع السائل ليوصله إلى الطريق، شارحا له ما يجب أن يتجنبه من عقبات، وبذلك يكون الشرطي قد قدم كل المعونة لمن شكره. لكن لنفترض أن رجلا آخر سأل الشرطي عن الطريق، فكذب الرجل الشرطي، وفي مثل هذا الموقف يتجاهل الشرطي مثل هذا الرجل، وقد ضربت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1598 هذا المثل للتقريب لا للتشبيه. إن الحق يدل أولا بهداية الدلالة، وقد هدى الله الناس جميعا، أي دلهم على المنهج، فمن ذهب إلى رحابه وآمن به، أعطاه الله هداية ثانية، وهي هداية المعونة والتيسير. {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] . إن الحق يعطيهم حلاوة الهداية وهي التقوى، كأن الحق يقول للعبد المؤمن: ما دمت قد أقبلت عليَِّ بالإيمان فلك حلاوة الإيمان، أما الذي يكفر، والذي يظلم نفسه بالشرك، فالحق يمنع عنه هداية المعونة؛ لأنه قد رأى هداية الدلالة ولم يؤمن بها. إذن فالاستفهام في قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} هو تساؤل يراد به الإنكار والاستبعاد لا عن الهداية الأولى وهي هداية الدلالة، ولكنه عن هداية المعونة، أي: كيف أعين من كفر بي؟ والمقصود بهذا القول هو بعض من أهل الكتاب الذي جاءهم نعت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كتبهم حتى إن عبد الله بن سلام وهو منهم، يقول: لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، ومصداق ذلك ما يقوله الحق سبحانه وتعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 157] . والتعبير القرآني الدقيق لم يقل: يجدون وصفة مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل إنما يقول الحق: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1599 {الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] . كأن الذي يقرأ التوراة والإنجيل يمكنه أن يرى صورة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من دقة الوصف، لقد عرفته التوراة وعرفه الإنجيل معرفة مفصلة وشاملة، مع نطق وقول يؤكد ذلك وهناك فرق بين أن «تعرف» وبين أن «تقول» ؛ فقد يعرف الإنسان ويكتم ما عرف، ولكنهم عرفوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واعترفوا بذلك، فقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا، قال الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89] . لقد أخذوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل مجيئه نصرة على الكافرين، فقالوا: سيأتي نبي ونتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فماذا فعلوا؟ إن الحق يجيب: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89] . إذن هم آمنوا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قبل مجيئه، فلما جاء كفروا به. انظر إلى العدالة من الحق سبحانه وتعالى، حين يريد أن يدلهم على موقف الصدق والحق والكرامة الإيمانية. {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] . إن الذين عندهم علم الكتاب هم اليهود والنصارى، هؤلاء يشهدون أن محمدا رسول الله، وإن القرآن بعدالته ينصف التوراة والإنجيل وهي الكتب التي بين أيديهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1600 {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ} لقد آمنوا به رسولا من منطوق كتبهم، ثم أعلنوها حينما قالوا: «يأتي نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم» . فإذا كانوا قد صنعوا ذلك، فكيف يهديهم الله؟ إنهم ليس لديهم الاستعداد للهداية، ولم يقبلوا على الله بشيء من الحب، لذلك فهو سبحانه لا يعينهم على الهداية ولو أقبلوا على الله لأعانهم قال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] . وهؤلاء لم يهتدوا، فلذلك تركهم الله بدون هداية المعونة، وهذا يوضح لنا معنى القول الحق: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء: 88] . إن الذين لم يهتدوا بهداية الدلالة فلم يؤمنوا يضلهم الله أي يتركهم في غيهم وكفرهم، أي أنه ما دام هناك من لم يؤمن بالله فهل يمسك الله بيده ليهديه هداية المعونة؟ لا؛ لأنه إذا لم يؤمن بالأصل وهو هداية الدلالة، فكيف يمنحه الله هداية المعونة؟ وما دام لم يؤمن بالله أكان يصدق التيسيرات التي يمنحها الله له؟ لا. إنه لا يصدقها، ويجب أن تعلم أن هداية الدلالة هداية عامة لكل مخاطب خطابا تكليفيا، وهو الإنسان على إطلاقه، أما هداية المعونة فهي لمن أقبل مؤمنا بالله وكأن الحق يقول له: «أنت آمنت بدلالتي فخذ معونتي» أو «أنت أهل لمعونتي» أو «ستجد التيسير في كل الأمور» ، أما الذي كفر فلا يهديه الله.. إن الحق سبحانه لا يعين الكافر؛ لأن المعونة تقتضي ابتداء فعلاً من المُعان، والكافر لم يفعل ما يمكن أن ينال به هذه المعونة، فهو لم يؤمن، لذلك يكون القول الفصل: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} ويكون القول الحق {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} ويكون القول الحق {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} . إن هؤلاء هم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1601 الظالمون الذين ارتكبوا الظلم الأصيل وهو الشرك بالله كما قال الحق: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . والحق عندما يتركهم فإنه يزيدهم ضلالا، ويختم على قلوبهم، فلا يعرفون طريقا إلى الإيمان: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَآءَهُمُ البينات والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [آل عمران: 86] . لقد جاءهم الرسول بالآيات الدالة على صدق رسالته، ولكنهم ظلموا أنفسهم الظلم الكبير العظيم، وهو الشرك بالله، ولكن هل هذه الآية قد نزلت في أهل الكتاب الذين كان عندهم نعت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإشارات وبشارات به؟ أو نزلت من أجل شيء آخر هو أن أناسا آمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم كفروا به؟ إن القول الحق يتناول الفئتين، وينطبق عليهم، سواء أكانوا من أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسل من قبل ولم يؤمنوا برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أم من الذين آمنوا برسالة رسول الله ثم كفروا به، كما حدث من بعضهم في عهد الرسول، مثال ذلك طعمة بن أبيرق، وابن الأسلت والحارث بن سويد، هؤلاء أعلنوا الإيمان واتجهوا إلى مكة ومكثوا فيها، تاب منهم واحد وأخذ له أخوه ضمانا عند رسول الله، والباقون لم يتوبوا. إن القول الحق يتناول الفئتين، وينطبق عليهم جميعا قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1602 البينات والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [آل عمران: 86] ويفصل لنا الحق سبحانه جزاء هؤلاء بقوله الحكيم: {أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1603 واللعنة هي الطرد من الرحمة، والله يعلم كل ملعون منهم، وما داموا قد طُرِدوا من رحمة الله فالملائكة وهم المؤمنون بالله إيمان المشهد يرددون اللعنة، والمؤمنون من خلق الله يرددون اللعنة، وكذلك يلعنهم جميع الناس، وكيف يلعنهم كل الناس سواء أكانوا مؤمنين أم كفارا؟ كيف يلعنهم الكافرون؟ إن الكافر عندما يرى إنسانا يرتكب معصية ما فإنه ينزله من نظره ويحتقره وإن لم يكن مؤمنا. وهَب أن كافرا وجد إنسانا يخرج على المنهج ويفعل معصية ويرتكب جُرماً ألا يلعن الكافر مثل ذلك الإنسان؟ إنه يلعنه لأن الفطرة المركوزة التي فطر الله الناس عليها ترفض ذلك ولا ترتضيه. وهكذا شاء الحق أن يجعلهم ككفار يتلاعنون فيما بينهم، ونجد أن جميع الناس يلعنونهم كذلك؛ لأنهم قد خرجوا عن منهج الله بالكفر بعد الإيمان، وجرهم ذلك إلى اقتراف الآثام، وهكذا تصبح الملاعنة من الجميع، وهم مع ذلك خالدون في اللعنة قال تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1603 {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1604 ومعنى {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} أي أن العذاب يظل دائما أبدا وقد يظن بعض الناس أن الكافر ما دام سيدخل النار ويحترق فسوف ينتهي أمره. لا إنه يغفل قضية ويذكر قضية، إنه يتناسى قول الحق: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 56] . إنهم سيذوقون العذاب بأمر من الحق دائما وأبدا، وقد يقول بعضهم: إن العلم قد توصل إلى أن الإنسان تقل حساسيته للألم الناتج من الضرب بالسوط بعد العشرين سوطا الأولى، وهو بذلك ينسى أن العذاب في الآخرة على نمط آخر، إن الله يخلق للمعذب إحساسا جديدا ليظل مستشعرا دائما العذاب، قال الحق: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي أن عذابهم مؤكد ولا يتركهم الحق ليستريحوا من عذابهم. وبعد ذلك يقول تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1604 والحق سبحانه وتعالى هو الخالق للخلق كلهم، يحب أن يكونوا على ما يود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1604 ويحب؛ لأنهم صنعة الله فهو سبحانه وتعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين وقد أمر عباده أن يتوبوا إليه توبة نصوحاً أي توبة صادقة خالصة لا رجوع فيها هذه التوبة تتسم بالاقلاع عن الذنب والندم على ما فات والعزم على عدم العودة للذنب مرة أخرى ورد المظالم لأصحابها إن كانت هناك مظالم. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» . وهكذا أوجد الحق تشريع التوبة بهدف إصلاح الكون؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة لمن أذنب فإن من غفل عن منهج الله ولو مرة واحدة قد يصير في نظر نفسه ضائعا فاسداً مرتكبا لكل الحماقات، فكأن الله بتشريع التوبة قد ضمن لصاحب الإسراف على نفسه في ذنب أن يعود إلى الله، كما يرحم المجتمع من شرور إنسان فاسد، إذن فتشريع التوبة إنما جاء لصالح الكون، ولصالح الإنسان لينعم بمحبة الله، لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 89] . فبرغم كفرهم السابق إلا أن الله برحمته لا يدخلهم في الوعيد؛ لأنهم مطالبون بالتوبة والإصلاح، ومعنى كلمة «أصلح» أنه زاد شيئا صالحا على صلاحه. والكون ليس فيه شيء فاسد. اللهم إلا ما ينشأ عن فعل اختياري من الإنسان وعلى التائب أن يزيد الصلاح في الكون، وهكذا نضمن ألا يجيء التائب إلى الشيء فيفسده؛ لأن من يريد أن يزيد الصالح صلاحا، لن يفسد الشيء الصالح. وربما كان هؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم في لحظة من لحظات غفلة وعيهم الإيماني ساعة يذكرون الذنب أو الجريرة التي اقترفوها بالنسبة لدينهم، يحاولون أن يجدّوا ويسارعوا في أمر صالح حتى يَجْبُر الله كسر معصيتهم السابقة بطاعتهم اللاحقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1605 ولذلك تجد كثيرا من الناس الذين يتحمسون للإصلاح وللخير، هم أناس قد تكون فيهم زاوية من زوايا الإسراف على نفوسهم في شيء، وبعد ذلك يتجهون لعمل الخيرات في مجالات كثيرة جدا، كأن الله يقول لكل منهم: أنت اختلست من محارمي شيئا وأنا سآخذك إلى حلائلي، إنه الحق يجعل من معصية الفرد السابقة سياطا دائمة تلهب ضميره فيتجه إلى الخير، فيتصدق على الفقراء، وربما كان أهل الطاعة الرتيبة ليس في حياتهم مثل هذه السياط. ولكن الذين أسرفوا على أنفسهم هم الذين تلهبهم تلك السياط، فساعة يرى الواحد منكم إنسانا قد أسرف على نفسه فليدع الله له بالهداية، واعلم تمام العلم أن الله سيُسَخِّر منه ما يفعل به الخير؛ لأن أحدا لن يسرق الكون من خالقه أبدا. وهذا ينطبق على من قال عنهم الله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ} (وأصلحوا) أي عملوا صلاحات كثيرة لأن حرارة إسرافهم على نفوسهم تلهب ظهورهم دائما، فهم يريدون أن يصنعوا دائما أشياء لاحقة تستر انحرافاتهم السابقة وتذهبها. وبعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1606 هذه الآية تحدث عن أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم، وازدادوا كفرا، هؤلاء لا تقبل توبتهم وهم الضالون، وقد جاءت مقابلة للآية السابقة، أناس تابوا وأناس لم يتوبوا. لكن كيف يزداد الكفر؟ إنه قد كفر في ذاته، وبعد ذلك كان عائقا لغيره عن أن يؤمن، وهو لا يكتفي بخيبته، بل يحاول أن ينشر خيبته على الآخرين، وفي ذلك ازدياد في الكفر والعياذ بالله، وهذا القول قد نزل في بعض من اليهود الذين آمنوا بالبشارات التي تنبأت بمقدم عيسى عليه السلام، فلما جاء عيسى كفروا به، ولما جاء محمد ازدادوا كفرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1606 لقد كفروا بعيسى أولا، ثم ازدادوا كفرا بمحمد وادعوا انهم أبناء الله وأحباؤه، وهؤلاء ليسوا من الذين تابوا. أو أنهم أعلنوا التوبة باللسان، ولم يتوبوا التوبة النصوح، «والراجع في توبته كالمستهزئ بربه» . وقانا الله وإياكم هذا المنقلب. وبعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1607 لقد كفروا، ولقد يقدر الله لهم أن يتوبوا، فماتوا على الكفر، ويريد الله أن يعطينا حكما خاصا بعملهم في الدنيا، وحكما خاصا بما يتلقونه من عذاب في الآخرة، والحكم الخاص بعملهم في الدنيا سببه أن لهم اختيارا، والحكم الخاص بما يتلقونه في الآخرة من عقاب لأنه لا خيار لهم، وهنا للعلماء وقفة، فهل ملء الأرض ذهبا أنهم أنفقوا في حياتهم ملء الأرض ذهبا؟ نقول له: لا ينفعك هذا الإنفاق في أعمال الخير لأن أعمالك حابطة. هب أن كافرا مات على الكفر وقد أنفق في الخير ملء الأرض ذهبا، نقول له: هذا الإنفاق لا ينفع، مع الخيانة العظمى وهي الكفر، فما دام غير مؤمن بإله، فهو قد أنفق هذا المال من أجل الناس، وصار منفقا على من لا يقدر على أن يجازيه بالخير في الآخرة، لذلك فليس له عند الله شيء، فالذي يعمل عملا، عليه ان يطلب أجرا ممن عمل له، فهل كان الله في بال ذلك الكافر؟ لا؛ لأنه مات على الكفر، لذلك لو أنفق ملء الأرض ذهبا فلن يقبل منه. لقد صنع ذلك الخير وفي باله الناس، والناس يعطونه حقه من الثناء، سواء كان مخترعا أو محسنا أو غير ذلك، إنه ينال أجره من الإنسانية، وينطبق عليه قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: « الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1607 وفعلت ليقال وقد قيل» . كأن الله يقول له: لم أكن في بالك فلماذا تطلب مني أجرا في الآخرة، لم يكن في بالك أن الملك لي، قال سبحانه: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . وبعض الناس يقول: كيف لا ينال ثواب الآخرة من ملئوا الدنيا بالاكتشافات والابتكارات وخففوا بها آلام الإنسانية؟ ونقول: لقد أعطتهم الإنسانية وخلدت ذكراهم، وأقامت لهم التماثيل والمؤلفات والأعياد والجوائز، لقد عملوا للناس فأعطاهم الناس، فلا بخس في حقوقهم، ذلك أنهم لم يعملوا وفي بالهم الله، وقد صور الحق موقفهم التصوير الرائع فيقول جل شأنه: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] . إنه سراب ناتج عن تخيل الماء في الصحراء يتوهمه السائر العطشان في الصحراء نتيجة انعكاسات الضوء، فيظل السائر متجها إلى وهم الماء، إنه يصنع الأمل لنفسه، فإذا جاءه لم يجده شيئا، ويفاجأ بوجود الله، فيندم ويتلقى العذاب، وكذلك لن يقبل منه ملء الأرض ذهبا لو أنفقه في أي خير في الدنيا، وبعد ذلك لن يقبل الله منه ملء الأرض ذهبا، لو افتدى به نفسه في الآخرة، إن كان سيجد ملء الأرض ذهباً وعلى فرض أنه قد وجد ملء الأرض ذهبا، فهل يجد من يقبل ذلك منه؟ لا، إنّه في الحقيقة لن يجد الذهب؛ لأنه في الآخرة لم يعد يملك شيئا: يقول الحق: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1608 {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . ويقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سواء العذاب يَوْمَ القيامة وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] . {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي إن لهؤلاء عذابا أليما؛ لأن كل حدث من الأحداث إنما يأخذ قوته من قوة فاعله، فإذا كان الحدث التعذيبي منسوبا إلى الله وله مطلق القوة والقدرة، لذلك فالعذاب لن يطاق. ولن يجد الظالم من يدرأ عنه هذا العذاب. لأنه لن يجد ناصرا له، ولن يجد شفيعا فلن يأتي أحد ويقول: إن فلانا يتعذب فهيا بنا ننصره، لا يأتي أحد لينصره. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1609 وتؤدي كل مادة الباء والراء المضعفة إلى معنى «السعة» ، ف «البَرّ» أي الواسع والبَرّ أي الأرض المتسعة ومقابله «البحر» وإن قال قائل: «إن البحر أوسع من البر، لأن حجم القارات ليس في حجم البحار والمحيطات التي تفصل بينها:» نقول لمثل هذا القائل «لا، إن حركتك في البر - الأرض - موسعة، وحركتك في البحر مضيقة؛ لأنك لا تتحرك في البحر إلا على شكل خاص، إما أن تتحرك بسفينة أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1609 حتى على لوح من الخشب، أما حركتك في البر - الأرض - فأنت تمشي أو تركب، تذهب أو تجيء، فمجالك في البر متسع عن مجالك في البحر. و» البِرّ «هو التقوى، والطاعة، أو هو» الجنة «وكلها معان ملتقية، لأنها تؤدي إلى السعة، فالطاعة تؤدي إلى السعة، وكذلك التقوى، وكذلك الجنة، كلها ملتقية؛ لأن كلها سعة، فأحدهم أخذ معنى الكلمة من مرحلتها الأولى أي بالسبب وهو الطاعة، وبعضهم أخذها من المرحلة الأخيرة أي بالمسبب وهو الجنة، وقد يسأل سائل، لماذا أراد الله أن يجيء بحديث عن النفقة بعد الحديث عن تعذيب الكفار؟ ونقول: إن الحق حين يتكلم عمن يصيبه العذاب الأليم لأنه كفر ومات كافرا، وماله من ناصرين فإن المقابل يأتي إلى الذهن، وهو من آمن وعمل صالحاً، ومات على إيمانه، فله عكس العذاب الأليم وهو النعيم، وسيجد من يأخذ بيده، بينما الكافر لن يجد ناصرين له. إن المؤمن سيجد جزاء الله على الطاعة وهي البر؛ لأن البر هو كل خير، وإن جاء اطلاقه فإنه ينصرف إلى الجزاء من الله وقمته هو الجنة. وهكذا نرى المقابل لمعاملة الحق للكفار وهو معاملة الحق للمؤمنين، لقد جاء هذا القول في القرآن وهو كلام الله المعجز، وحين يخاطب سبحانه المكلفين بالمنهج. فهو يخاطب بكلامه ملكات إنسانية خلقها هو، إذن فلا بد أن يغذي هذا الكلام كل الملكات المخلوقة لله، فلو كان الخالق للملكات غير المتكلم لكان من الممكن ألا ينسجم الكلام مع الملكات، ولكن الكلام هنا لله الذي خلق، لذلك لا بد أن تنسجم الملكات مع كلام الله. وفي النفس الإنسانية ملكات متعددة، وهذه الملكات المتعددة متشابكة تشابكا دقيقا فتستطيع حين تخاطب ملكة سمعية أن تحرك مواجيد وجدانية، فإن لم يكن العالم بالملكات عليما بها لما أمكن أن يجيء المنطق موافقا لملكة سمعية، وموافقا لملكات وجدانية قد تتأتى بها طبيعة تداعى المعاني. و» تداعى المعاني «هو الخاصية الموجودة في الإنسان، ومعنى» تداعى المعاني «أن الإنسان يستقبل معنى من المعاني فيشير ذلك المعنى إلى معان خبيئة يستدعيها لتحضر في الذهن، فمثلا حين ترى إنسانا تعرفه. فإن تداعى المعاني يعطيك تاريخك معه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1610 وتاريخه معك، ويصور بخاطرك أيضا صورا عن أهله وأصدقائه، ومعارفه، ويأتي لك تداعى المعاني بالأحداث التي كانت بينك وبينه أو شاهدتها أنت وهذا هو ما نسميه «تداعى المعاني» أي أن المعنى يدعو المعنى. وحين يخاطب الله سبحانه وتعالى الإنسان، فإنه يخاطب كل ملكة فيه في آن واحد، حتى لا تأخذ ملكة غذاءها، دون ملكة أخرى لا تجد لها غذاء إن كلام الله جاء مستوفيا وكافيا لكل الملكات، ومثال ذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يمنع المشركين من أن يطوفوا بالبيت، وكان المشركون قبل تحريم الله لطوافهم، يطوفون بالبيت، ويأتون من أماكن سحيقة بعيدة ليطوفوا في موسم الحج، وكانوا يأتون بأموالهم لينفقوها على أهل مكة، ويشتروا كل شيء يلزمهم منها، فموسم الحج كان موسما اقتصاديا. وحين يريد الله أن يمنع المشركين من الحج فهو يخاطب المسلمين المقيمين بمكة حتى يحولوا بين المشركين وبين الطواف، وهو سبحانه قد علم - وهو العليم - بما خلق من ملكات، يعلم سبحانه أن ملكة أخرى ستتدخل في هذا الوقت، فيقول: {ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] . وعندما ينزل هذا الحكم فلا بد أن تتحرك ملكات في النفس الإنسانية، والحق قد علم أزلا أن ملكة النفعية الاقتصادية عند أهل مكة ستتحرك عند سماع هذا الحكم، بمعنى أن بعضا من المسلمين المقيمين بمكة وقت نزول هذا الحكم قد يقولون: «وإذا كنا نمنع المشركين الذين يفدون علينا بالأموال ليشتروا بضائعنا وموسمهم الاقتصادي هو الذي يعولنا طيلة العام فماذا نصنع إذن؟ إن الله يعلم أنه عند نزول حكم بتحريم البيت على المشركين أن يقربوه فلا بد أن تتحرك في النفس الإنسانية تلك الملكية النفعية، فيقول - سبحانه - عقب ذلك مباشرة: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28] . الخوف من العيلة، أي الخوف من الفقر، وتلك هي عظيمة الكلام الإلهي لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1611 رَبّاً يتكلم إن الإنسان حينما يتكلم قد تفوته معان كثيرة، وبعد ذلك قد تحدث ضجة وبلبلة وثورة بين الناس، لكن الحق الأعلى عندما يقول: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} ويتبع ذلك فورا بقوله المطمئن: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} وقد فعل وجبي الحق وجلب إلى البيت الحرام ثمرات كل شيء، وكأنه يقول لنا: لا تعتقدوا أن هذه الثمرات قادمة عن طريق التطوع ولكنها رزق من لدنا، كما جاء في قوله الحق: {وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 57] . أي أنه ليست هناك حرية لأحد أن يعطي أهل البيت الحرام أو لا يعطي، إنها جباية، لطمأنة الملكية التفعية في النفس، وهو سبحانه يعطي الأمان الاقتصادي الذي يترتب عليه قوام الحياة، وعندما نمعن النظر في آيات القرآن نجد أن هناك آية قد تتقدم وآية قد تتأخر، وآية قد تأتي في الوسط، ونجد أن الآية الوسطى، مرتبطة بتداعي المعاني بالآية التي قبلها، ومرتبطة بتداعي المعاني بالآية التي بعدها، ولذلك لترتوي وتتغذى كل ملكات الإنسان فلا يأتي أمر يوحي بأن هناك ما ينقص النفس البشرية، لنتأمل مثالا لذلك وهو قول الحق: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} [المجادلة: 8] . إن المشركين لم يقولوا لأحد: «إنما قالوا لأنفسهم» ، ويكشفهم الحق سبحانه العليم في أخفى خباياهم، ويُظهر ما في أنفسهم، وهو العليم بكل خفايا عباده والكاشف لكل الملكات النفسية في خلقه. وحين يقول الحق سبحانه: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} . فإن الآية تحريض على الإنفاق، وجاءت بعد آية تفيد أن هناك إنفاقا لا يقبله الله في قوله سبحانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1612 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران: 91] . إذن فهناك لون من النفقة يرفضه الله، وتداعى المعاني في النفس الإنسانية قد يجعل الإنسان يسأل «ما هي إذن النفقة المقبولة؟» لذلك كان لا بد وأن يأتي قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فإذا كانت هناك نفقة مردودة فهناك أيضا نفقة مقبولة، وهكذا نرى الآية التي تحرص على الإنفاق منسجمة مع ما قبلها. {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} ، قد يسأل سائل، ولماذا لا ينال الإنسان البر إلا بعد ان ينفق مما يحب؟ وله أن يعرف أن طبيعة النفس الإنسانية هي «الشح» ولهذا جاء في القرآن الكريم: {فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} [التغابن: 16] . وشح النفس يأتي لأن الإنسان لا يأمن أبدا أن يأتيه العجز من بعد القدرة، لذلك فإنه يحاول إن كان يملك شيئا أن يؤمن العجز المتوهم، فيحافظ على ما عنده من حاجات، ومن هنا جاءت الحيازة والملكية ولم تنشأ هذه الأشياء من أول الخلق، وإنما نشأت من يوم أن ضاقت الأمكنة المُعْطية دون الحاجات، فحين تكون الأمكنة المعطية تسع الحاجات فلا داعي لهذا العجز المتوهم. لنفترض أن رجلا اشترى صندوقا من البرتقال، ودخل منزله وعندما يحتاج ابن هذا الرجل لبرتقالة أو اثنتين فإنه يأخذ ما يريد، لكن لو أحضر الرجل قليلا من البرتقال فإن زوج الرجل تكون حريصة على أن تقسم البرتقال بين الأولاد حتى لا تترك كل ابن على سجيته بما قد يحرم الآخرين. وهكذا كان الأمر في بدء استخلاف الله للإنسان في الأرض، فمن أراد الأرض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1613 اخذ، ومن أراد أكل الثمار فهي أمامه، وعندما قلت مُعطيات الحاجات وذلك بضيق الأمكنة المعطية بدأت في الظهور الرغبة في الملكية، وامتياز الأشياء، والحق سبحانه يلفتنا في هذه المسألة وكأنه يقول لنا: إن النفقة لو نظرت إليها نظرة واقعية حقيقية لوجدت أنك أيها العبد مضارب لله في خير الله. ومعنى «مضارب» أي أنك تعمل عند الله بالعقل الذي خلقه لك، وتخطط به، وتعمل عند الله بالطاقة التي خلقها الله، والمادة التي خلقها الله لك تنفعل معها فماذا لك أنت؟ إن كل شيء لله، وأنت مجرد مضارب لا تملك شيئا وما دمت مضاربا أيها العبد، فإعط لله حقه، وحق الله لا يأخذه هو؛ فهو أغنى الأغنياء، إن حق الله يأخذه أخوك غير القادر الذي لا يستطيع أن يتفاعل مع المادة، ولا تظن أيها العبد أن الله حين طلب منك النفقة مما تحب أنه - جل شأنه - قد استكثر عليك ما طلب منك أن تنفقه، إنه ساعة يأخذ منك لأخيك وأنت قادر، إنما يطمئنك أنك إن عجزت فسيأخذ لك من القادرين ذلك هو التأمين في يد الله. إن الحق يريد أن يحببنا في أن ننفق، لكن الإنسان يحاول أن ينفق مما لا يحب، فيهدي الإنسان الثوب الذي لم يعد صالحا للاستعمال يعطيه لفقير، أو يعطي الحذاء المستهلك لواحد محتاج. لكن الله يأمرنا بأن ننفق مما نحب لذلك انفعل صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما سمعوا هذا النص: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} هذا أبو طلحة حينما يسمعها يقول: يا رسول الله، إن أحب مالي إليّ هو «بيرحاء» فأنا أخرجه في سبيل الله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اجعله في أقاربك، فجعله في أقاربه، وهذا زيد بن حارثة يسمع الآية الكريمة فينفعل بها كذلك، وكان عنده فرس اسمه «سَبَل» وكان يحبه، فيقول: يا رسول الله أنت تعلم حبي لفرسي، وأنا أجعله في سبيل الله فأخذه منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجاء بأسامة بن زيد وأركبه الفرس قال زيد: «فوجدت في نفس» أي أنه حزن، وقال زيد: يا رسول الله أنا أردت أن أجعل الفرس في سبيل الله وأنت تعطي الفرس لا بني ليركبه. فقال رسول الله لزيد: «أمَا إنّ الله قبله منك» . وبعد ذلك ينفعل سيدنا أبو ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكان عنده إبل، والإبل لها فحل يلقح إناث الإبل، وكان هذا الفحل أحب مال أبي ذر إليه وجاء ضيف إلى أبي ذر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1614 فقال له: إني مشغول، فاخرج إلى إبلي فاختر خيرها لنذبحه لضيافتك. فخرج الضيف، ثم عاد وفي يده ناقة مهزولة، فلما رآها أبو ذر قال: خنتني، قلت لك هات خير الإبل، قال الضيف: يا أبا ذر لقد رأيت خيرها فحلا لك وقدرت يوم حاجتكم إليه. فقال أبو ذر: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي. إن الصحابي الجليل أبا ذر يعرف أن يوم أن يوضع في الحفرة هو اليوم الجليل الذي يستحق من المرء أن يستعد له. وسيدنا ابن عمر كان عنده جارية جميلة من فارس، وكان يحبها، فلما سمع الآية، قال: ليس عندي أحب إليّ من هذه الجارية، وأعتقها، وكان من الممكن أن يتزوجها بعد أن أعتقها لكنه قال: لولا أن ذلك يقدح في عتقها لتزوجتها. وسيدنا أبو ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يعطينا في مسألة الإنفاق درسا من أروع الدروس المستوعبة للملكة النفسية، فيقول: في المال شركاء ثلاثة: القَدَر لا يستأمرك أن يذهب بخيره وشره من هلك أو موت. أي أن القدر لا يستأذن عبدا في أن يذهب بالمال حيث يريد، فتأتي أي مصيبة فتأخذ المال إلى هلك أو موت. هذا هو الشريك الأول في المال، إنه القَدَر. والشريك الثاني في المال يوضحه لنا أبو ذر فيقول: إنّه الوارث، ينتظرك إلى أن تضع رأسك، ثم يستاقها وأنت قد سلبت بالموت كل ما تملك في الدنيا وأصبحت من غير أهلها. إن الوارث يقول لنفسه: «فلأستمتع بما ترك لي» ، وهذا هو الشريك الثاني في المال. ويوضح لنا أبو ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الشريك الثالث في المال فيقول: والثالث أنت، فإن استطعت ألا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن أعجزها، أي إياك أن يغلبك على المال القدر أو الوارث، ينبغي عليك أن تغلب بإنفاق المال في سبيل الله وإلا أخذه منك باقي الشركاء. إذن لقد انفعل صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالآية حينما نزلت حتى عدا الخير المحبوب منهم إلى غيرهم، وكان جزاء ذلك الجنة. لقد عرفوا قول الحق: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} أي الجنة المترتبة على الطاعة أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1615 التقوى، أو سعة البركة أو سعة القوة، وكلها معان ملتقية، ولذلك يقول الله في الحديث القدسي: «قد كان العباد يكافِئون في الدنيا بالمعروف وأنا اليوم أكافئ بالجنة» . إن الحق سبحانه الذي يعطي البر ثمنا لنفقة مما تحب يعلم هل أنفقت مما تحب فعلا أو تيممت الخبيث لتنفق منه، فإياك أيها المؤمن أن تخدع نفسك في هذا الأمر، لأن الذي البر ثمنا لنفقه مما تحب يعلم خبايا النفس، لذلك يقول سبحانه: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} . وعلم الله شامل، إنه يعلم ما في نيتك، وكيف أنفقت. ولقد بين الحق سبحانه النفقة المرفوضة حتى ولو كانت ملء الأرض ذهبا، ثم أوضح لنا أن هناك نفقة مقبولة وجزاؤها الجنة، وبذلك نرى التقابل بين النفقتين ولماذا جاء هذا الحديث؟ لقد كذب بعض أهل الكتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مستهل أمر الدعوة وكذبوا البشارة به، والنعت والبشارة جاءا في التوراة والإنجيل، وأنكروا الأوصاف التي ذُكِرت في كتبهم. حدث ذلك مع أنهم قد تورطوا من قبل في إعلان البشارة به {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} . لقد أراد الله أن يفضحهم في التوراة التي يعتقدون أنها كتابهم وقد حرفوا بعض أحكام الله، وظنوا أن هذه التحريفات ستظل مستورة، لذلك جاء لهم بأحداث ولم ينتبهوا إليها لتقوم الحجة على أنهم قاموا بتحريف التوراة مثلما قلنا من قبل عن الخيبرية التي ارتكبت فاحشة الزنا، وأراد رؤساء اليهود أن يخففوا العقوبة عنها، لأن العقوبة الواردة في التوراة على جريمة الزني هي الرجم وقال هؤلاء الرؤساء: «نذهب إلى محمد، لعل لديه حكما مخففا» فلما ذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وضح لهم أنه الرجم. فقالوا: لا، إنك لم تنصف في حكمك. فبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم إنه يرضى بحكم التوراة التي عندكم وجيء بالتوراة وأمرهم الرسول أن يقرأوا فلما جاءوا إلى آية الرجم أرادوا أن يغفلوها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1616 فقال ابن سلام: إنهم يا رسول الله قد وثبوا وأغفلوا الآية. وهكذا انتبه الجميع إلى أن رؤساء اليهود أرادوا ان يتخطوا حكما لله موجودا عندهم وأرادوا أن ينكروه، كما فعلوا وأحدثوا في وصف النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ومحوا هذا الوصف، ولم يتركوا له أثرا، لكن الله انساهم بعض الأشياء لتكون بينة وآية على رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وعندما أحل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الإبل وألبانها، قالوا: هذه محرمة من أيام إبراهيم ومن قبله من أيام نوح، ولا يمكن أن نقبل تحليلها، فوضح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم أنها ليست محرمة، الله أحلها. وكان يجب أن يفهموا أن الإبل وألبانها حتى وإن كانت محرمة من قبل إلا أن رسولا قد جاء من عند الله بتشريع له أن ينسخ ما قبله مع أنّ الإبل وألبانها لم تكن محرمة، لذلك أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يحتكم إلى التوراة. وهذه هي العظمة النورانية المحمدية، فلا يمكن أن يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «نحتكم إلى التوراة» إلا وهو واثق أن التوراة إنما تأتي بالحكم الذي يؤيد ما يقول، مع أنه لا يقرأ ولا يكتب. ويحضرون التوراة، فيجدون الكلام مطابقا لما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لذلك قال الله: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1617 وحين يحرم نبي الله يعقوب - إسرائيل - طعاما ما، فهو حر؛ فقد يحرم على نفسه طعاما كنذر، أو كوسيلة علاج أو زهادة، لكن الله لم يحرم عليه شيئا، وما تحتجون به أيها اليهود إنما هو خصوصية لسيدنا يعقوب {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1617 إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ} فلماذا تقولون: إن الإبل وألبانها كانت محرمة؟ لقد فعلوا ذلك لأنهم أرادوا أن يستروا على أنفسهم نقيصة لا يحبون أن يُفضحوا بها، وتلك هي النقيصة التي كشفها القرآن بالقول الكريم: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146] إذن فهناك أشياء قد حُرمت على اليهود لأنهم ظلموا، وهذه الآية الكريمة هي التي أوضحت أن الحق قد حرم عليهم هذه الأطعمة لظلمهم. ومعنى: {كُلَّ ذِي ظُفُر} أي القدم التي تكون اصابعها مندمجة ومتصلة، فليست الأصابع منفصلة، ونجدها في الإبل والنعام والأوز، والبط، وهذه كلها تسمى ذوات الظفر {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يعني الشحم الذي على الظهر. أما «الحوايا» فهي الدهون التي في الأمعاء الغليظة {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} . أي الشحم الذي يختلط بالعظم إن التحريم هنا لم يكن لأن هذه الأشياء ضارة، ولكن التحريم إنما كان عقابا لهم على ظلمهم لأنفسهم وبغيهم على غيرهم. وأقول ذلك حتى لا يقول كل راغب في الانفلات من حكم الله ما الضرر في تحريم الأمر الفلاني؟ إن محاولة البحث عن الضرر فيما حرمه الله هي رغبة في الانفلات عن حكم الله. فالتحريم قد يأتي أدبا وتأديبا، ونحن على المستوى البشرى - ولله المثل الأعلى - يمنع الإنسان منا «المصروف» عن ابنه تأديبا، أو يمنع عنه الحلوى، لأن الابن خرج عن طاعة أمه، إذن كان التحريم جزاءً لهم وعقابا قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1618 الله كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 160 - 161] وذلك هو الجزاء الذي أراده الله عليهم. إن التشريع السماوي حينما يأتي لظالم يخرج عن منهج الله فكأنه يقول له ما هو القصد من خروجه عن منهج الله؟ لماذا يظلم؟ لماذا يأخذ الربا؟ لماذا يصد عن سبيل الله؟ لماذا يأكل أموال الناس بالباطل؟ إن الظالم يفعل ذلك حتى يمتع نفسه بشيء أكثر من حقه، لذلك يأتي التشريع السماوي ليفوت عليه حظ المتعة، وكان هذا الحظ من المتعة حقا وحلاًّ له، لكن التشريع يحرمه. ومثال ذلك القاتل يحرم من ميراث من يقتله؟ لأن القاتل استعجل ما أخره الله وأراد أن يجعل لنفسه المتعة بالميراث، فارتكب جريمة قتل، لذلك يأتي التشريع ليحرمة من الميراث. كأن التشريع يقول له: «ما دامت نيتك هكذا فأنت محروم من الميراث» والتشريع حين وضع ذلك إنما حمى كل مورث وإلا لكان كل مورث عرضة لتعدى ورثته عليه بالقتل لينتقل إليهم ما يملك، فقال: لا. نحرمة من الميراث وكذلك هنا نجد الظلم بأنواعه المختلفة، الظلم بإنكار الحق والصد عن سبيل الله، وأخذ الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، وما دام اليهود قد أدخلوا على أنفسهم أشياء ليست لهم فالتشريع يسلب منهم أشياء كانت حقا لهم. وكان اليهود في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرغبون ألا يُشاع عنهم هذا الأمر فقالوا: إن هذا الطعام محرم على بني إسرائيل. وبعد ذلك وجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن هذا اللون من الطعام حلال في التوراة، فكشف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الأمر الذي فضحهم. ولماذا تجيء هذه الآية بعد قوله الحق في الآية السابقة: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} ؟ ونحن نعرف أن آية {لَن تَنَالُواْ البر} قد جاءت بعد آية توضح النفقة غير المقبولة من الله. ولنذكر ما قلناه أولا، عن تداعي المعاني في الملكات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1619 الإنسانية: إن في النفس الإنسانية ملكة تستقبل، فتتحرك ملكة أخرى، وحين يقول الحق: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} فالذين يسمعون هذا سينفعلون انفعالات مختلفة، فالشبعان من الناس لن يلتفت إلى هذه المسألة بانتباه بالغ، ومن عنده بعض الطعام فإن نفسه قد تتحرك إلى ألوان أخرى من الطعام، أما من ليس عنده طعام فلسوف يلتفت بانتباه شديد ليتعرف على الحلال من الطعام والحرام منه. إذن فقبل أن يأتي الله بالحكم الذي يحلل ويحرم، هذا الحكم الذي يثير عند الجائع شجن الافتقار وشجن ذكر الطعام الذي يسيل له لعابه، إن الحق قبل أن يحرك معدما على غير موجود معه، فإنه يحرك معطيا على موجود معه، لذلك فقبل أن يأتي الحق سبحانه ويذكر الطعام، وقبل أن يُقلب الأمر على النفس الإنسانية التي لا تجد طعاما، نجد الرسول قد نطق قبلها بما أنزله عليه الحق {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} . فبتداعي المعاني في النفس الإنسانية يكون - سبحانه - قد حرك ملكة واجدة ومالكة قبل أن يحرك ملكة معدمة. وهكذا يكون التوازن الذي أراده الله في الكون المخلوق له. إنه رب يحكم كونه، فلا ينسى شيئا ويذكر شيئا. {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى،} إن كل شيء في علمه كما قَدّره وهو الخلاق القدير العليم، وهو لا يذكر بعضا من الخلق، وينسى بعضا آخر، فهو قد كتب العدم لحكمة، وأعطى النعمة لحكمة. لقد جعل الفقير عبرة، ولكنه لم يتركه، وذلك حتى يرى كل إنسان أن القدرة على الكسب ليست إلا عرضا زائلا، فمن الممكن أن يصبح القادر الآن عاجزا بعد دقائق أو ساعات، ومن الممكن أن يصبح القوي ضعيفا، فإذا ما علم القوى أو القادر ذلك فإنه يتحرك إلى إعطاء الآخرين؛ حتى يضمن لنفسه التأمين الإلهي لو صار ضعيفا، فيعطيه الأقوياء، فعندما يأمر الله الأقوياء بأن يعطوا وينفقوا فإن عليهم إن يستجيبوا؛ لأن الواحد منهم لو صار ضعيفا فسوف يأخذ. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} هذا القول قد خدم قضية سبقتها، وهي أنه لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به، ما دام كافرا، إنها نفقة مرفوضة لا اعتبار لها، إنها هدر. ويأتي من بعد ذلك بتحديد النفقة التي ليست هدرا، ثم يفضح اليهود بقضية توجد عندهم في التوراة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1620 ولكنهم كذبوها، وهي قضية تتعرض للطعام، وما دامت القضية تتعرض للطعام فهناك الكثير من الملكات التي يمكن أن تتحرك، فملكات الواجد حين تتحرك فحركتها تكون بأسلوب غير الأسلوب الذي تتحرك به ملكات المعدم. فقيل أن يُحَرِك وجدان المعدم إلى أنه معدم، حتى لا يتلقى ذلك بحسرة، فإنه سبحانه يكون قد عمل رصيدا لهذا المعدم، فيرقق قلب الواجد أولا {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} وبعد ذلك يأتي قوله الحق سبحانه: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] ومعنى كلمة «حل» هو «حلال» ، ويقابلها «حرام» وحل هي مصدر، وما دامت مصدرا فلا نقول «هذان حلالان» بل نقول: «هذان حل» ، ونقول: «هؤلاء حل» وإن شئت فاقرأ قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] «لا هن» هذه لجماعة النساء، والحل مفرد، وعندما يقول الحق سبحانه: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ} فهذا يعني أنه قد حرم بعضا من الطعام على نفسه فهو حر في أن يأخذ أو يترك، أوأنه قد حرمه على نفسه فوافقة الله؛ لأن الناذر حين ينذر شيئا لم يفرضه الله عليه فهو قد ألزم نفسه بالنذر أمام الله. إن الزمن الذي حرم فيه إسرائيل على نفسه بعضا من الأطعمة هو {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} أي أن هذا التحريم لم يحرمه الله، ويأتي الأمر لرسوله الكريم أن يخاطب بني إسرائيل: {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} إنه قد كشف سترهم، وعلموا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أن النص الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1621 يؤيد صدقه موجود في التوراة، ولهذا لم يأت اليهود بالتوراة، وذلك لعلمهم أن فيها نصا صريحا يصدق ما جاء به رسول الله، ولا يحتمل اللجاجة، أو المجادلة، وما داموا لم يحضروا التوراة فهذا يعني أنهم غير صادقين. ويقول الحق: {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1622 إن في هذا القول التحذير الواضح ألا يختلق أحد على الله شيئا لم ينزل به رسول أو كتاب فمن يفتري الكذب على الله لا يظلم إلا نفسه. ويقول الحق بعد ذلك: {قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1622 يأمر الحق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول: {قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} . ونعرف أن ملة إبراهيم هي التي سمّت كل المؤمنين بالله المسلمين، والدعوة إلى الإيمان بملة إبراهيم هي لإيضاح أن جوهر الإيمان لا يحتمل الخلاف، فركب الإيمان والرسل والأنبياء هو ركب واحد، وكلمة «اتبعوا» تعني أن هناك مقدما كما أن هناك تابعا. و «الملة» تشمل المعتقدات والتشريعات العامة، كما أن الشريعة تشمل الأحكام، والدين يكون لبيان العقائد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1622 وقد عرفنا من قبل أن كلمة {حَنِيفاً} تعني الذي يسير على خط مستقيم، ويتبع منهجا قويما ومستويا ونحن نسمى ملتنا «الحنيفية السمحاء» ومع ذلك فالحنف هل ميل في الساقين، اليمين مقوسة إلى اليمين، واليسار مقوسة إلى اليسار، فكيف إذن نقول عن الدين الحق الهادي لمنهج الله وشريعته: إنه حنيف؟ لقد قلنا: إن السماء لا تتدخل بإرسال الرسل إلا حين يعم الفساد، وما دام الفساد قد عم فإن الذي يميل منحرفا عن الفساد هو الذي اهتدى إلى الصراط المستقيم، فالحنيف معناه مائل عن الفساد، فالمائل عن المعوج معتدل، {قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} . {صَدَقَ الله} نعم؛ لأن الصدق هو أن يطابق القول ما وقع فعلا، وحين يتكلم الحق وهو العليم أزلا فما الذي يحدث؟ لا بد أن يوافق الواقع ما يقوله سبحانه وتعالى فليس من المعقول أن يتكلم الله كلاما يأتي على لسان رسول، أو على لسان أتباع الرسول، وبعد ذلك يأتي واقع الحياة فينقض قول الحق ويخالفه، إن الحق العليم أزلا يُنزل من الكلام ما هو في صالح الدعوة إلى منهجه. إذن فحين يطلق الله قضية من قضايا الإيمان فإنه - سبحانه - عليم أزلا أنها سوف تحدث على وفق ما قال، إن كان الظرف الذي قيلت فيه لا يشجع على استيعابها وفهمها. إن المؤمنين كانوا في أول الأمر مضطهدين، ومرهقين وإن لم يكن للواحد منهم عشيرة تحميه فإنه يهاجر عن البلاد، وإن لم يستطع الهجرة فإنه يُعَذب ويضطهد. وفي هذه الفترة الشديدة القاسية وفي قمة اضطهاد المؤمنين ينزل القول الحق: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] وعندما يسمع سيدنا عمر عليه رضوان الله هذا القول يتساءل: أي جمع هذا؟ إن الواقع لا يساعد على هذا، ثم جاءت بدر، وهزم المؤمنون الجمعَ وولوا الدبر وهذا دليل على أن الله قد أطلق قضية وضمن أنها ستحدث كما قال وكما أخبر، وهذا مطلق الصدق. إن الإنسان يمكنه أن يستبعد الصدق لو أن الذي قال غير الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1623 خلق، لكن الذي قال ذلك هو الذي خلق ويخلق ويعلم، فمن أين يأتي التناقض؟ وهذا معنى القول الكريم: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] إنه قول حق جاء من عند العليم أزلا، ومن العجيب أن أهل الكتاب من يهود ونصارى يتمسحون في سيدنا إبراهيم، فقال بعضهم: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا، وبعضهم قال: إن إبراهيم كان نصرانيا. وكان يجب أن يفهموا أن اليهودية والنصرانية إنما جاءتا من بعد إبراهيم، فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا وهذه الملل قد جاءت من بعده؟ لذلك جاء القرآن الكريم قائلا: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65] وقد أوضح الحق بعد ذلك دين إبراهيم عليه السلام: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [آل عمران: 67] فكيف يمكن أن يختلقوا على إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ إنه كلام لا يصدر إلا عن قلة فطنة وغفلة بالغة. وعندما يقول الحق عن إبراهيم: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} فهل أهل الكتاب مشركون؟ نعم؛ لأنهم حين يؤمنون بالبنوة لعزير، ويؤمنون بالنبوة لعيسى فهذا إشراك بالله، وأيضا كان العرب عبدة الأصنام يقولون: إنهم على ملة إبراهيم؛ لأن شعائر الحج جاء بها إبراهيم عليه السلام، ولهذا ينزه الحق سبحانه سيدنا إبراهيم عن ذلك، ويقول: {قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} وذلك يدل على أن ملة إبراهيم وما جاء به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1624 موافقة لملة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما جاء به، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام. ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1625 لقد عرفنا من قبل كيف كان تداعى المعاني سببا في إرواء الحق لكل ملكات الإنسانية، وقبل هذه الآية التي تتحدث عن بناء البيت الحرام بمكة المكرمة كان هناك حديث عن سيدنا إبراهيم عليه السلام حين قال الحق: {قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [آل عمران: 95] وإبراهيم عليه السلام هو أول الأنبياء صلة بالبيت الحرام، وكان رفع قواعد البيت الحرام على يده بعد أن طمر وستر بالطوفان في عهد نوح عليه السلام، فحين يأتي الكلام في رسالة سيدنا إبراهيم عليه السلام فلا بد أن تأتي أكبر حادثة في تاريخ سيدنا إبراهيم، وهي حادثة بناء البيت الحرام، كما أن الحق سبحانه حينما تكلم عن المحاجاة بين المسلمين وعلى رأسهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي يده القرآن، وبين أهل الكتاب وفي أيديهم التوراة المحرفة والإنجيل المحرف أراد سبحانه أن يردنا إلى شيء واحد هو ملة إبراهيم الذي سمانا مسلمين. ومعنى ذلك أن الله يريد منا أن تسيطر قيم السماء على حركة أهل الأرض؛ لأن حركة أهل الأرض إن اتبعت الأهواء تصادمت الحركات، وما دامت الحركات قد تصادمت فإن ما ينتج عنها هو ضياع مجهود الحركة الإنسانية، ويصير هذا المجهود مبددا. ولكن الإنسان الذي يحمل القيم التي تتركز عقيدة في قلبه - بعد أن يبحثها بفكره - هذا الإنسان له قالب تنفذ به تشريعات الله، ولولا وجود القالب هذا لما استطاع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1625 الإنسان أن يطبق تشريعات الله، ولَمَا استطاع أن يؤدي هذه التشريعات، ولما استطاع أن يطيع الله بجوارحه؛ فالإنسان بغير قالب لا يستطيع أن يؤدي الحركة المطلوبة. إذن فلا بد للقالب الإنساني - البدن - في التشريع من عملية أخرى وهي أن ينصب القالب ويكون له عمل حين يتوجه إلى بيت واحد لله، وبذلك يصبح للقالب نصيب في العبادة أيضا. ولهذا كان لا بد أن يوجد للقالب - أيضا - مُتّجَهٌ وهذا المُتجه يحكم القالب نفسه، فكان المؤمن المسلم محكوماً قلبا وقالبا، فحين نأتي للصلاة لنكون في حضرة الله نتحرى أن يكون قالبنا متجها إلى المكان الذي أمرنا الله أن نتوجه إليه، لماذا؟ لأن الحق سبحان وتعالى ساعة يعطي رحمته وبركته وتنزلاته وإشراقاته يريد أن يكون الجسم في وضع مؤهل لاستقبال هذه التجليات؛ ولذلك كان لا بد أن يكون لله بيت يتجه إليه الجميع حتى يعطي للتدين وحدة، فكما أعطى الحق لموكب الرسالات وحدة، فإنه يعطي أيضا وحدة في القالب الإنساني والمتجَه، وكل مكان يعبد الله فيه بالنسبة للإسلام يُعتبر مسجدا، وقد يسر الله الأمر على أمة سيدنا محمد، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «جعلت لي أرض مسجداً وطهورا» . وكان لقاء الله وعبادته في الديانات السابقة يقتضي مكانا محددا ولكن قد وسع رحمته على أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إن تراب الأرض طهور، إننا عندما نفتقد الماء الطهور فإن التراب الذي قد يبدو للوهلة السطحية أنه سبب في عدم النظافة قد جعله الله لنا طهورا. إن الإنسان يمكنه أن يتيمم ويتطهر بالتراب، وكأن الله قد أراد أن يكون لقاء كل فرد من أمة محمد به ميسرا تيسيرا كبيرا. وكل مكان نعبد فيه الله ويسجد فيه المسلم لله يصير مسجدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1626 لكن هناك فارقا بين أي مكان نعبد الله فيه والمسجد، فنحن نرى العامل يعبد الله في المصنع والتلميذ يعبد الله في الفصل، والفلاح يعبد الله ويؤدي الفروض في الحقل، ويمكن للسائر في الشارع أن يؤدي صلاته في أي مكان، وأن يزاول عمله بعد ذلك، ولكن حين يُحَيِّز الإنسان مكانا ليكون بيتا لله، فمحظور أن يزاول فيه نشاطا آخر من نشاطات الحياة؛ إنه مكان مُحيز. إن العبادة كلها مقبولة، ولكن هناك فارقا بين مكان تعمل فيه ومكان تخصصه ليصير مسجدا. فالمسجد هو مكان لا يزاول فيه إلا لقاء الله، لذلك أراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا نستغل هذا الحيز في أي أمر يتعلق بدنيانا، وقد أوضح لنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن الذي يعقد صفقة في المسجد لم يبارك الله فيها، والذي ينشد فيه شيئا ضالا له لن يجده. فقد دعا الرسول ألا يرد الله عليه ضالته. إن أمور الدنيا يكفيها أن تأخذ من الإنسان كل يوم ثلاثا وعشرين ساعة، فليخصص الإنسان المؤمن ساعة لله وحده، وليخلع كل أغراض الحياة الدنيا كما يخلع النعال على باب المسجد. فليس من حسن الأدب واللياقة أن ينشغل الإنسان بأي شيء غير لقاء الله في الوقت المخصص للقاء الله، وفي المكان المخصص لهذا اللقاء. فساعة تدخل المسجد ينبغي أن تمنع نفسك من أن يتكلم معك أحد في فضول الكلام ولغوه، وأن تنوي الاعتكاف لتستفيد من وجودك في المسجد. وساعة أن نخصص حيزا ما ليكون مسجدا، فكيف يكون الاتجاه داخل المسجد؟ أيترك الأمر لكل واحد أن يختار له متجها؟ لا، إن المؤمن ملتزم بالاتجاه إلى مكان واحد، هذا المكان الواحد هو بيت لله باختيار الله بينما المساجد الأخرى هي بيوت لله باختيار خلق الله، فبيوت الله باختيار خلق الله متجهها جميعا هو بيت الله الحرام. وحين تنظر هذه النظرة ستجد العالم متواجها؛ لأن كل عابد سيكون اتجاهه إلى بيت الله مع بقية العابدين لله، فيلتف المؤمنون كلهم حول بيت الله، ويتواجهون، إن وجوهنا كلها تُقابل بعضها بعضا، ولكن ما ضرورة الاتجاه للكعبة؟ والحق سبحانه يقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1627 {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115] نقول: إن هذه الآية تؤيد ما نقوله، فما دام لله المشرق والمغرب، فهذا هو المعنى العام، فالناس أول ما عرفوا الكون تعرفوا على المشرق والمغرب ثم الشمال والجنوب أيضا، وبعد أن توصل العلم إلى تحديد الجهات الفرعية بجانب الجهات الأصلية الأربع المعروفة عرفنا «الشمال الشرقي» و «الشمال الغربي» و «الجنوب الشرقي» و «الجنوب الغربي» . إذن فكل المتجهات لله، والاتجاه للكعبة يحقق هذا القول الكريم. وعندما يتجه إنسان إلى الكعبة فقد يكون الشرق خلفه، ويكون الغرب أمامه، ويتجه إليها إنسان آخر إلى الكعبة، فيتقابل وجهه مع وجه المتجه للكعبة، وثالث يتجه إلى الكعبة، فيكون في زاوية أخرى ناظرا إليها، وهكذا يلتف البشر من الشرق والغرب والشمال والجنوب وكل الجهات الفرعية حول الكعبة. إذن فقول الحق: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} أي جميع الخلق متجه إلى الكعبة، وبذلك لا تكون هناك جهة أولى بالله من جهة أخرى. وأنا لا أريد أن أدخل في متاهة أنّ الكعبة مركز الأرض وأن الأرض خلقت منها؛ لأن الشيء إذا كان مكورا فأي نقطة فيه تكون مركزا للجميع، لذلك فلنترك مثل هذا الكلام، لكن ألا يكفي أن يرجحها أن الله قد اختارها؟ إن ذلك يكفي وزيادة، وبذلك ينتهي الأمر، إنها كذلك؛ لأنها بيت الله باختيار الله، وهذا يكفي. لقد علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الأشياء التي تقف فيها العقول وليست من صلب العقائد أو الدين لا يصح أن تكون محل خلاف أو جدل. ويقول سيدنا علي كرم الله وجهه عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: سأله رجل، «أذلك أول بيت لله؟» فوضح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن قبله بيوتا، ولكن هو أول بيت وُضِع للناس. هذا إيضاح ان الله قد جعل الكعبة هي أول بيت له يتعبد فيه جنس البشر، وذلك لقول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} . ولكن إن كانت هناك اجناس سابقة على الجنس البشري فمن المؤكد انه كانت هناك لله بيوت لا نعرفها. وما آدم في منطق العقل واحد ... ولكنه عند القياس أوادم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1628 ولذلك فوجود البيت الحرام كبيت لله لا يصطدم مع منطق الناس الذين لا يملكون إلا الثقافة الدينية الضحلة، فساعة أن يسمع الواحد منهم، أن هناك اكتشافا لحفريات من كذا مليون سنة فهو يتساءل قائلا: كيف وآدم لم يمر عليه ملايين السنين؟ لنفترض أن هناك خمسة أجيال لإدريس عليه السلام وثلاثة اجيال لنوح عليه السلام، وأحد عشر جيلاً لابراهيم عليه السلام وثلاثين جيلا لمحمد عليه السلام، وهكذا يكون الوجود البشري محددا بآلاف السنوات لا ملايينها. لهذا الإنسان نقول: وهل قال لك أحد: إن آدم أول من عَمَرَ الأرض؟ إن الدين لم يقل ذلك، لكن الدين قال: إن آدم هو أول هذا الجنس البشري، ولكنه ليس أول من سكن الأرض، لذلك فليقل العلماء: إن عمر هذه الأرض ملايين السنين ولنسمع جميعا قول الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] إذن فلا مجال لهذا البحث، لذلك قال النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا، بل قبله بيوت» . والحق سبحانه وتعالى يقول ما يوضح أن الجن قد سكنوا الأرض قبلنا: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] ألم يقل الحق سبحانه إن الإنسان خليفة، وردّت عليه الملائكة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1629 إن الذين قالوا ذلك ليسوا من البشر، إذن فكلام الله يؤكد أن الكعبة هي أول بيت وُضع للناس، أي للجنس البشري، ولذلك فلا داعي أن نتكلم في الأشياء التي يقف فيها العقل حتى لا ندخل في متاهة. ولو كان الله قد أراد أن يعلمنا أن الكعبة هي أول بيت في الأرض لقال لنا: «إن أول بيت وضع في الأرض» ، ولم يكن قد حدد الجنس الذي وضع البيت من أجله، لكن الحق سبحانه قال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} ، ولذلك بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن قبله بيوتا، ولكنه أول بيت وضع للناس. إنه جواب يتسع لكل ما يأتي به العلم. وحين ننظر إلى القول الحق: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} ما معنى «أول» ؟ إنه الابتداء، وهل كل ابتداء له انتهاء؟ لا، إن هناك أمورا لها «أول» وليس لها «آخر» ومثال ذلك العدد «واحد» وما بعده ليس له آخر، فآخر ما بعد العدد واحد هو ما يمكن الإنسان أن يحسبه عجزا في التقديرات الدشليونية، ولكن ما بعد الدشليون هناك أعداد أخرى، وكان الإنسان قديما يقف عند الألف، ثم يقول عن المليون «ألف ألف» ، وكذلك الجنة لها أول وليس لها آخر. إذن فأول بيت وضعه الله للناس هو الكعبة. وعندما نرى كلمة «وُضع» نجدها فعلا، ونرى انه قد وُضِع للناس. وما دام هذا البيت قد وضع للناس لذلك فمن اللازم حين تأتي كلمة «ناس» أن يكون هناك «بيت» و «آدم» من الناس، ووالد كل الناس، وكان له بيت وضع له. وحين يقال: إن البيت قد تم بناؤه قبل آدم فإننا نقول: نعم، لأن آدم من الناس، والله يقول: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس} فلماذا نحرم آدم من أن يكون له بيت عند الله؟ إذن فالبيت موجو من قبل آدم. وبعض الناس تظن أن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى البيت، ولأصحاب هذا الظن نقول: لنفهم القرآن معا، إن مثل هذا القول يناقض القرآن؛ لأن القرآن قد قال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس} وذلك إيضاح أن إبراهيم كان من قبله أناس سابقون له، فكيف لا يكون للناس من قبل إبراهيم بيت؟ ولا يكون للناس من بعد إبراهيم بيت؟ إن الذين كانوا يعيشون قبل مجيء إبراهيم عليه السلام لهم الحقوق نفسها عند الله التي وضعها الله لمن بعد إبراهيم، فلا بد أن الله قد جعل بيته لهم، والنص القرآني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1630 {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس} مؤكد ذلك، وما دام قد جاء الفعل مَبْنِيَاَ للمفعول فواضعه غير الناس، ف «وُضِع» هو فعل مبني على مالم يسم فاعله، فمن الذي وضعه؟ هل هم الملائكة؟ قد يصح ذلك وهو أن يكون الملائكة قد تلقوا الأمر من الله بمزاولة هذا البناء ولكن الحق يقول عن هذا البيت إنه: «هدى للعالمين» وهذا يعني أن البيت هدى للملائكة؛ لأنهم عالم، وهذا يعني أن البيت قد وضعه الله من قبل ذلك، إن أحداَ لا يقدر أن يجعل الكون على قدر العقل البشرى، إن على العقل البشري أن يكون في ركاب الكون، وإياك أن تجعل الكون في ركاب عقلك. أما مسألة أن إبراهيم قد بني الكعبة أولاً فهذا عدم فهم للنص القرآني القائل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} [البقرة: 127] فما هو الرفع؟ إنه إيجاد البُعد الثالث وهو الارتفاع، فالطول والعرض موجودان إذن فهذا دليل على وجود البيت قبل أن يقيم إبراهيم عليه السلام ارتفاع البيت. وهكذا نستنتج أن الذي كان مطموسا هو القاعدة والارتفاع، مع وجود الطول والعرض اللذين يحددان المكان، أما البناء فهو الذي يحدد «المكين» وعندما انهدم البيت الحرام كان الناس يتجهون إلى المكان نفسه. ونحن عندما نصلي في الدور الثالث في الحرم، فإننا نتجه إلى الهواء الموجود من فوق الكعبة، ولو حفرنا نفقا تحت الأرض بألف متر، وأردنا أن نصلي فإننا سنتجه إلى جذر الكعبة، وهكذا نعرف أن جو الكعبة كعبة. إذن فعمل إبراهيم عليه السلام كان في إيجاد المكين لا المكان، ولنقرأ بالفهم الإيماني ما حدث لإبراهيم عليه السلام. لقد أخذ إبراهيم هاجر وابنها إسماعيل، وخرج بهما ليضعهما في هذا المكان. «وهاجر» تعرف أن مكونات الحياة هي المياه والهواء والقوت، وهذا المكان لا توجد به حتى المياه، لذلك قالت هاجر سائلة إبراهيم عليه السلام: كيف تتركنا هنا؟ هل أنزلتنا هنا برأيك أم بتوجيه من الله؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1631 فقال لها إبراهيم عليه السلام: إنه توجيه من الله، لذلك قالت: «لقد اطمأننت، والله لا يضيعنا أبدا» . لم تقلق هاجر لأن إبراهيم اتجه إلى ما أمره الله، وهذا هو الإيمان في قمته، ولو لم يكن الإيمان على هذه الدرجة الرفيعة فأي قلب لأم تترك أب الطفل يذهب بعيدا عنها وتعيش مع ابنها في هذا المكان الذي لا يوجد به طعام أو فيه ماء، فهي لا تؤمن بإبراهيم، ولكنها تؤمن برب إبراهيم وعندما تقرأ القرآن الكريم تجد القول الحق على لسان إبراهيم: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] هكذا نعرف أنه ساعة إسكان إبراهيم لذريته كان هناك بيت وأن هذا البيت محرم، وعندما نقرأ عن رفع البيت الحرام نجد أن إبراهيم عليه السلام لم يرفع قواعد البيت بمفرده بل شاركه ابنه إسماعيل عليه السلام. {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} [البقرة: 127] هكذا نعلم أن إسماعيل عليه السلام كان قد نضج بصورة تسمح له أن يساعد والده خليل الرحمن في إقامة قواعد البيت الحرام، وهذا يدلنا على أن إسماعيل نشأ طفلا في هذا المكان عندما أسكنه والده إبراهيم عند البيت المحرم، هكذا نتيقن أن البيت المحرم كان موجودا من قبل إبراهيم عليه السلام، وعندما ندقق النظر في معنى كلمة «بكة» التي وردت في هذا القول الكريم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} فإننا نعرف أن هناك اسما لمكان البيت الحرام هو «بكة» وهناك اسم آخر هو مكة، وبعض العلماء يقول: إن «الميم» و «الباء» يتعاونان، ونلحظ ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1632 في الإنسان «الأخنف» أو المصاب بزكام، إنه ينطق «الميم» كأنها «باء» . والميم و «الباء» حرفان قريبان في النطق، والألفاظ منهما تأتي قريبة المعنى من بعضها. ولننظر إلى اشتقاق «مكة» واشتقاق «بكة» . إننا نقرأ «بكّ المكان» أي ازدحم المكان، وهكذا نعرف من قوله الحق: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} أي أنه مكان الازدحام الذي يأتي إليه كل الناس وكل الوفود لتزور بيت الله الحرام، ولا أدل على ازدحام البيت الحرام من أن الرجال والنساء يختلط بعضهم ببعض، والإنسان يطوف بالبيت الحرام، ولا يدري أنه يسير وقد يلمس امرأة أثناء الطواف. و «بكة» هي المكان الذي فيه الطواف والكعبة، أي هي اسم مكان البيت الحرام، «ومكة» اسم البلد كلها الذي يوجد به البيت الحرام. و «مكة» مأخوذة من ماذا؟ إن «مكة» مأخوذة من «مك الفصيل الضرع» أو «امتك الفصيل الضرع» ، أي امتص كل ما فيه من لبن، والفصيل كما نعرف هو صغير الإبل أو صغير البقر. وما دام الفصيل قد امتص كل ما في الضرع من لبن فمعنى هذا أنه جائع، ومكة كما نعرف ليس فيها مياه، والناس تجهد وتبالغ في أن تمتص المياه القليلة عندما تجدها في مكة. وفي كلمة «مباركا» نجد أنها مأخوذة من «الباء والراء والكاف» والمادة كلها تدور حول شيء اسمه الثبات، فهل هو الثبات الجامد، أم الثبات المعطي النامي الذي مهما أخذت منه فإنه ينمو أيضا؟ إننا في حياتنا اليومية نقول: «إن هذا المال فيه بركة مهما صرفت منه فإنه لا ينتهي» ، أي أنه ثابت لا يضيع، ويعطي ولا ينفد. وكلمة «بِرْكة» في حياتنا تعني أنها تَجَمعُ الماء تأخذ منها مهما تأخذ فيأتي إليها ماء آخر. وكلمة «تبارك الله» تعني «ثبت الحق» ولم يزل أزلا ولا يزال هو واحداً أحداً، إنه الثبوت المطلق. وهكذا نجد أن الثبات يأتي في معنى البيت الحرام. إن البيت الحرام مبارك أبدا «كيف» ؟ أليست تضاعف فيه الحسنة؟ وهل هناك بركة أحسن من هذه؟ وهل هناك بركة أفضل من أنه بيت تُجبى إليه ثمرات كل شيء ولا تنقطع؟ فقديما كان الذاهب إلى البيت الحرام يأخذ معه حتى الكفن، ويأخذ الإبرة والخيط، والملح، والآن فإن الزائر لبيت الله الحرام يذهب ليأتي بكماليات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1633 الحياة من هناك. ويقول سبحانه عن هذا البيت الحرام المبارك: إنه {هُدًى لِّلْعَالَمِينَ} . ما هو الهدى؟ قلنا: إن الهدى هو الدلالة الموصلة للغاية، ومن يَزُرْ البيت الحرام يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فهل اهتدى للجنة أم لا؟ إنه يعرف بزيارة البيت الحرام الطريق إلى الجنة. وحينما ننظر إلى هذه المسألة نجد أن الحق سبحانه وتعالى عندما تكلم عن البيت لم يتكلم إلا عن آية واحدة فيه هي مقام إبراهيم مع أن فيه آيات كثيرة. قال الحق: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1634 إننا نجد أن صيغة الجمع موجودة في قوله الحق: {فِيهِ آيَاتٌ} و {بَيِّنَاتٌ} وهي وصف الجميع. وبعد ذلك قال الحق: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} إنه سبحانه لم يذكر إلا مقام إبراهيم بعد الآيات، والمقام آية واحدة، وهذا يدل على أن مقام إبراهيم فيه الآيات البينات، ونحن نقرأ {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} بفتح الميم الأولى في كلمة «مقام» ولا ننطقها «مقام» بضم الميم الأولى لأن المقام بضم الميم تعني مكان إقامة إبراهيم، أما مقام بفتح الميم فمكان القيام، لماذا كان قيام إبراهيم عليه السلام؟ لقد كان إبراهيم يقوم ليرفع قواعد البيت الحرام، وكان إبراهيم يقوم على «حجر» . وعندما ننظر إلى مقام إبراهيم فإنك تجد فيه كل الآيات البينات؛ لأن الله طلب من إبراهيم عليه السلام أن يرفع قواعد البيت، وكان يكفيه حين يرفع قواعد البيت أن يعطيه الارتفاع الذي يؤديه طول يديه، وبذلك يكون إبراهيم عليه السلام قد أدى مطلوب الله - كما قلنا من قبل - لكن إبراهيم عليه السلام تعود مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1634 الله أن يؤدي كل تكليفات الله بعشق وحب وإكمال وإتمام، فقال إبراهيم في نفسه: «ولماذا لا أرفع البيت أكثر مما تطول يداي؟» ولم تكن هناك في ذلك الزمن القديم فكرة «السقالات» ، ولم يكن مع إبراهيم عليه السلام إلا ابنه إسماعيل. وأحضر إبراهيم عليه السلام حجرا، ووقف عليه؛ ليرفع القواعد قدر الحجر. إذن فإبراهيم خليل الرحمن أراد أن ينفذ أمر الله بالرفع للقواعد لا بقدر الاستطالة البدنية فقط، ولكن بقدر الاحتيال على أن يرفع القواعد فوق ما يطلبه الله، وهذا معنى قول الله عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] أي أنه أدى مطلوب الله أداء كاملا، ولا أدل على هذا الأداء الكامل من أنه أتى بحجر ليقف عليه ليزيد من ارتفاع البيت قدر هذا الحجر. ونعرف أن الذي ساعده وشاركه في رفع القواعد هو ابنه إسماعيل. ومن أكرمه الله برؤية مقام إبراهيم يجد أن الحجر يسع وقوف إنسان واحد، وهكذا نفهم أن إسماعيل كان يساعد ويناول والده الأحجار، أما مكان الأقدام الموجودة في هذا الحجر، فهذا يعني أن إبراهيم عندما كان يقف ويحمل حجرا من المفروض أن يحمله اثنان فإن هذا يتطلب ثبات القدمين في مكان آمن حتى لا يقع. فهل يا ترى أن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته ساعة رأى إبراهيم يحتال هذه الحيلة قال لخليله: سأكفيك مؤنة ذلك. وجعل الحق القدمين تغوصان في الحجر غوصا يسندهما حتى لا تقعا. والذي لا يتسع ذهنه إلى أن الله ألاَنَ لإبراهيم الحجر، نقول له: إن إبراهيم قد احتال، وخاف أن تزل قدمه، فنحت مكانا في الحجر على قدر قدمه حتى تثبت قدمه حين يحمل ويرفع الحجر، وهذه آيات بينات. فخذ ما يتسع ذهنك وفهمك له، إن الله أعان إبراهيم لأنه فكر أن يبني القواعد ويرفعها أكثر مما تطول يداه، وقد مكّن الله له في ذلك وأعانه عليه، ونحن نعلم أن الهداية تكون هداية الدلالة وهداية المعونة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1635 {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} ، والآيات هي الأمور العجيبة، وعندما تراها فإنك لا تستطيع أن تنكرها. ودخول البيت يعني الأمن للإنسان الذي يدخله، ونحن نعلم أن البيت قد تم بناؤه في هذا المكان. وهذا المكان تجتمع فيه القبائل، وبين بعض هذه القبائل ثارات ودماء وحروب، لذلك يبيّن الله الوضع الذي بمقتضاه تحقن الدماء {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} لماذا؟ لأنه بيت الرب ولا يصح أن يدخل واحد بيت الرب ويُعاقب حتى ولو كان قد أجرم جرما يوجب الله عليه الحد فيه. ولذلك قال سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب - والده لم أتعرض له. ولكن يُضَيّق الخناق على المجرم حتى يخرج. وهذا الأمن محدد بأي أمر اقترفه في دنياه، أما من دخله كان آمنا يوم القيامة فالحكم فيه شيء آخر، إنها درجة عالية من فضل الله، والآيات البينات الواضحة في البيت الحرام يراها من زار البيت الحرام، وليحقق الله أمل كل راغب في زيارة البيت الحرام، وأن يكرر الزيارة لمن ذهب وأراد أن يعود للزيارة مرة أخرى. فساعة تدخل البيت الحرام فأنت هنا تتجه إلى مكان في البيت والمقابل لك في الكرة الأرضية يتجه إلى المكان المقابل، إلى أن تصير الاتجاهات مشتملة على الكعبة كلها. ونحن عندما نكون في الكعبة فإننا نوجه وجوهنا إلى المبنى لأننا نراها، ونحن نوجه الوجوه إلى المبنى المقطوع بأنه منها، والحطيم، وهو القوس المبنى حول حجر إسماعيل، هو من الكعبة أيضا، ولكن النفقة قصرت، فجعلوه ليحدد مكان الكعبة، فظل هكذا، فإذا غاب الإنسان عن الكعبة واتجه إليها فإنه يكفي أن يتجه إلى جهتها. ولذلك نجد الصفوف في الصلاة حول الكعبة تتخذ شكل الدائرة؛ لأن الذين يصلون في داخل الحرم يشاهدونها، أما الذين يصلون خارجها فيكفي أن يتجهوا إلى جهتها ولو طال الصف إلى ألف متر، لذلك فالصف للمصلين خارج الحرم يكون معتدلا، أما في داخل الحرم فالصفوف تأخذ شكل الدائرة لأن أقضى بُعد في الكعبة هو اثنا عشر مترا وربع المتر، ونجد من الآيات العجيبة أنك إذا ما نظرت إلى الحجر الأسود تجد الناس تتهافت على تقبيله، والحجر يمثل أدنى أجناس الكون، ونعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1636 جميعا أن الإنسان مستخلف كسيد في الكون، ومن بعده الحيوان أقل منه في الفكر ومسخر، ومن بعد الحيوان يكون جنس النبات، ومن بعد ذلك يأتي جنس الجماد ومنه الحجر. إننا نرى هذا الإنسان السيد في الكون لا يقبل الله منه النسك القبول التام الحسن إلا إذا قبل الحجر، أو حياه، وهكذا ينقل الحق أعلى الأجناس إلى أدناها. والناس تزدحم حول الحجر، ومن لم يقبل الحجر يحس أنه افتقد شيئا كثيرا، وهكذا ترى استطراقا وسلوكا من الخلق إلى باب الله، فالإنسان المتكبر الذي يتوهم أنه سيد على غيره، يأتي إليه أمر في النسك بتقبيل الحجر أو تحيته بالسلام، وهذا الإنسان برغم أن الحق - سبحانه - يقبل منه أن يحيي الحجر الأسود بالسلام ولم يفرض عليه أن يقبّله ولكنه مع ذلك يحاول أن يقبل الحجر، وهو أدنى الأجناس، لأن الله قد عظمه، وهذا أول كسر لأنف غرور الإنسان، وحتى لا يظن ظان أنها حجرية أو وثنية، يأتي الأمر من الحق برجم حجر آخر. إذن فالحجرية لا ملحظ لها هنا، فنحن نجد حجرا يُقدس، وحجرا آخر يُرجم. نجد حجرا يقبله الإنسان ويعظمه وحجرا آخر يزدريه ويحقره. وذلك يدل على رضوخنا لإرادة الآمر سبحانه وتعالى فقط، فعندما يأمرنا بأن نعظم حجرا فالمؤمن يؤدي حق التعظيم بالسمع والطاعة، وعندما يأمرنا سبحانه برجم حجر آخر، فالمؤمن يرجم هذا الحجر بالسمع والطاعة لله أيضا، فالذاتية الحجرية لا دخل لها على الإطلاق. وبعض من أصحاب الظن السيء قالوا: إن الإسلام قد استبقى بعض الوثنية. ولهؤلاء نقول: ولماذا تذكرون تعظيم الحجر الأسود، ولم تذكروا رجم إبليس وهو ثلاثة أحجار؟ لقد عظم المؤمن المؤدي للنسك حجرا واحدا ورجم ثلاثة أحجار، إن المؤمن إنما يطيع أمر الله، فليست للحجر أي ذاتية في النسك أو العبادة. لقد رفعنا الحق من حضيض عبادة الأصنام التي هي عين الكفر، لكنه قال لنا: «قبلوا الحجر الأسود» فقد قبلنا الحجر احتراما لأمر الآمر، وذلك هو منتهى اليقين. لقد نقلنا الحق من مساو إلى مساو، من عبادة الحجر إلى تعظيم وتقديس حجر مثله، لكن الأصنام كانت منتهى الشرك، وتقبيل الحجر الأسود منتهى اليقين. أليست هذه آيات بينات؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1637 وزمزم التي توجد في حضن الكعبة، أليست آيات بينات؟ إن «هاجر» تترك الكعبة وتروح إلى «الصفا» وتصعد إلى «المروة» بعد أن تضع «إسماعيل» بجانب الكعبة، وتدور بحثا عن المياه. وسعت هاجر سبعة أشواط لعلها ترى طيرا أو تجد إنسانا يعرف طريق المياه لان ابنها يحتاج إلى الشرب، ولو أنها وجدت على الصفا أو المروة مياها في أول سعيها أكانت تجد تصديقا لقولها لإبراهيم عندما جاء بها للإقامة في هذا المكان «إن الله لا يضيعنا» إنها سعت. وكأن الله يقول لها ولكل إنسان: عليك بالسعي، ولكن لن أعطيك من السعي، إنما أعطيك الماء تحت رجل إسماعيل. إذن فصدقت في قولها: لن يضيعنا الله، لقد جعلها الحق سبحانه تسعى سبعة أشواط، ولا يمكن لامرأة في مثل عمرها أن تقدر على أكثر من ذلك، وهذا يعلمنا أن الإنسان عليه أن يباشر الأسباب، ولكن القلب عليه أن يتعلق بمسبب الأسباب، وهو الله سبحانه، وفي هذا ما يعدل سلوك الناس جميعا. فساعة يرى الإنسان أن البئر مكان قدم إسماعيل وعلى البعد تكون الصفا والمروة، وتسعى بينهما، وبعد ذلك تجد زمزم مكان ضربة قدم إسماعيل، أليس في هذا آيات بينات تهدى الإنسان أن يباشر الأسباب ويأخذ بها، ويتعلق القلب بمسبب الأسباب؟ إن هذا يعطي المؤمن إيمانية التوكل، وهي تختلف عن الكسل و «بلادة التواكل» فإيمانية التوكل هي أن الجوارح تعمل، والقلوب تتوكل، أما الكسل عن الأخذ بالأسباب مع الادعاء بالتوكل فهذه بلادة، ومثل هذا الكسول المتواكل عندما يأتي الأكل أمامه يأكل بنهم وشره، ولو كان صادقا لترك اللقمة تقفز إلى فمه، ولماذا يمضغها إذن؟ لماذا يختار التواكل والكسل، وعدم العمل، ثم يمد يده ليأكل؟ إن هذه هي «صفات التواكل» . إننا نأخذ من سعي «هاجر» وتفجر الماء عبرة، هي الأخذ بأسباب الله، وبعد ذلك فإننا نجد كل إنسان في البيت الحرام مشغولا بنفسه مع ربه، ومن فرط انشغاله يكون غافلا عمّن يكون معه، ولو كان أحب إنسان له فإنه لا يدري به. وساعة تدخل وتنظر إلى الكعبة ينفض من عقلك كل فكر في أي شيء من الأشياء، لا تذكر أولادك أو مالك، لكنك بعد أن تفرغ من المناسك تعود للتفكير في أولادك وعملك، وإلا لو ظل حبك وشوقك وتعلقك ومواجيدك بهذه البقعة لضاق المكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1638 بالناس جميعا. بعد ذلك يقول الحق سبحانه عن البيت الحرام: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} . وهنا يجب أن نفهم أن هناك فارقا بين أن يكون «الخبر» تاريخا للواقع، وبين أن يكون «الخبر» خبرا تكليفيا فلو كان {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} تاريخا للواقع لتم نقض ذلك بأشياء كثيرة، فقد وجد فيه قوم ولم يأّمَنوا. ونحن نعرف حادث الاعتداء الأخير الذي حاوله جهيمان منذ سنوات قال الناس: إن جهيمان عندما اعتدى على الناس، لم يستطع حجيج بيت الرحمن أن يكونوا آمنين في البيت وتساءل بعضهم، فكيف قال الحق: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} ؟ بل قال بعض أهل الانحراف: إذن مسألة دخول جهيمان إلى البيت الحرام تجعل {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} ليست صادقة! ولهؤلاء نقول: إن هناك فرقا بين إخبار الحق بواقع قد حدث، وبين إخبار بتكليف. إن الإخبار بالواقع كان معناه ألا يدخل أحد البيت الحرام ويهيجه أو يهاجمه أحد أبدا، ولكن الإخبار التكليفي معناه: أن يخبر الله بخبر ويقصد به تكليف خلقه به، والتكليف كما نعرف عرضة لأن يطاع، وعرضة لأن يعصى، فإذا قال الله سبحانه: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فهذا معناه: يأيها المؤمنون، من دخل البيت الحرام فأمنوه. ونضرب المثل - ولله المثل الأعلى - تقول أنت لولدك: يا بني هذا بيت يفتح للضيوف من دخله يكرم. أهذا يدل على إنجاز الإكرام لكل من دخل هذا البيت وحصوله له بالفعل وأن هذا لا يتخلف أبداً أم أنك قلت الخبر وتريد لولدك أن ينفذه؟ إن هذا خبر يحمل أمرا لابنك هو ضرورة إكرام من يدخل هذا البيت، وتلك الوصية عرضة لتطاع وعرضة لأن تخالف، لذلك فنحن نفهم من قول الحق: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} على أساس أنها أمر تكليفي، عرضة للطاعة وللعصيان، ومثال آخر على ذلك هو قول الله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26] بعض الناس يقول: نجد واقع الحياة غير ذلك، حيث نجد امرأة طيبة تقع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1639 في عصمة رجل غير طيب وتتزوجه. ونجد رجلا طيبا يقع مع امرأة غير طيبة ويتزوجها، فكيف يقول الله ذلك؟ ونحن نرد على أصحاب هذا القول: إن الله لم يقل ذلك تأريخا للواقع. ولكنه أمر تكليفي. أَيْ افعلوا ذلك، وحكمي وتكليفي أن يكون الطيبات للطيبين والطيبون يكونون للطيبات. فإذا امتثل الخلق أمر الحق فعليهم أن يفعلوا ذلك، وإن لم يمتثل بعض الخلق لأمر الحق فإن الواقع بنبيء بحدوث وجود طيبين لغير طيبات أو العكس. إذن فقول الحق: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} هو خبر يراد به أمر تكليفي، فمن أراد أن يكون صادقا فيما كلفه الله به فليُؤَمن مَن دخل البيت الحرام. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97] وحين تسمع «ل» و «على» ، فافهم أن الفائدة تقع على ما دخلت عليه «اللام» ، والتبعة تقع على ما دخلت عليه «على» . فحين نقول:: «لفلان عَلَى فلان كذا» فالنفعية لِفلان الأول والتبعة على فلان الثاني. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} . فعلى هذا فالنفعية هنا تكون لله، والتبعة هنا تكون على الناس، لكن لو فطنا إلى سر العبارة لوجدنا أن الله لا ينتفع بشيء من تكليفه لنا، فالحج لله، ولكنه يعود إليك، فما لله عاد إليك، وما عليك عاد لك. وكل تكليف عليك فأثره لك، فإياك أن تفهم من ذلك القول الكريم: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} أن اللام الأولى للنفعية، وإياك أن تفهم أن «على» هي للتبعة، نعم إن الحج لله، ولكن الفائدة لا تعود إلا عليك، وهو تكليف عليك، وفائدته تعود عليك، فالحق سبحانه وتعالى منزه عن أن يُفيد من حكم من أحكامه، وهو سبحانه حين ينزل حكما تكليفيا فعلى العبد المؤمن أن يعرف أن فائدة الحكم عائدة عليه وعلى حياته، ولله يكون القصد والحج، لا لشيء سواه. ولماذا يقول الحق: إن على العبد المؤمن أن يحج البيت الحرام؟ لأنه الخالق وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1640 خبير وعليم بأن التكليف شاق على النفس، ولكن على المؤمن المكلف حين يجد تكليفا شاقا عليه أن ينظر إلى الفائدة العائدة من هذا الحكم، فإن نظر إلى الفائدة من الحكم وجد أنها تعود عليه، ولذلك يسهل على العبد المؤمن أمر الطاعة. والذي لا يقبل على الطاعة ويهمل الجزاء عليها ويغفل عنه. تكون الطاعة شاقة عليه. والذي يقبل على المعصية ويهمل الجزاء عليها تكون المعصية هينة عليه. ولكن الطائع لو استحضر غاية الطاعة لعلم أنها له لا عليه. ولو أن العاصي استحضر العذاب على المعصية لعلم أنها عليه لا له؛ فالعاصي قد يحقق لنفسه شهوة، لكنها شهوة عاجلة، أمدها قصير، ولو استحضر العاصي العقوبة على المعصية وقت عملها ما أقدم على معصيته أبدا. ولكن الذين يرتكبون المعصية ينظرون إلى الشهوة الطارئة، ويعزلون جزاء المعصية عنها، ولو أنصفوا أنفسهم، لا يستحضروا العقاب على المعصية في وقت الرغبة في ارتكابها. وحين يستحضرون جزاء المعصية مع المعصية فإن شهوة المعصية تنتهي منهم، وأضرب هذا المثل دائما عن أعنف غرائز الإنسان وهي غريزة الجنس. هب أن هناك واحدا رأى فتاة جميلة ثم أراد أن ينالها نقول لهذا المتشرد جنسيا: استحضر العذاب على هذا العمل، وإن أخذت هذه الفتاة فتعال لنريك بعينيك ما أعده الله لك حين تتمتع بهذه الفتاة خارجا عن شرع الله، وأوقد له فرنا مسجوراً ومحمّياً، وقُل له: في مثل هذا ستدخل بل وأشد منه إن نلت من الفتاة. أيقبل هذا المتشرد على ارتكاب تلك المعصية؟ لا؛ فشهوة المعصية تضيع عندما يستحضر العذاب عليها. إن الحق سبحانه يقول: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} والسبيل هو الطريق الموصل للغاية، والطريق الموصل للغاية عادة ما يكون مطروقا، وعندما يتجه الإنسان لأداء فريضة الحج فهو طارق للطريق، أي سيسير عليه، هكذا تعرف أن هناك ثلاثة أشياء: طارق، وهو من كتب الله عليه الحج وهو المكلف. وسبيل مطروق. وغاية، وهي حج البيت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1641 وما دام الطارق سيسلك طريقا فلا بد أن يكون عنده قدرة على أن يسلك هذا الطريق فكيف تتأتى هذه القدرة؟ إن أول شيء في القدرة هو الزاد، وثاني شيء في القدرة هو المطية التي يركبها، وهكذا نتبين أننا نحتاج إلى زاد وراحلة لطارق الحج. والسبيل الذي يطرقه، أيكون محفوفا بالمخاطر؟ لا، بل يُفترض أن يكون السبيل آمنا. إذن فالاستطاعة تلزمها ثلاث حاجات، هي: الزاد، والراحلة، وأمن الطريق. والزاد عادة يخص الإنسان نفسه، ولكن ماذا يكون الحال إن كان الإنسان يعول أسرة وصغارا؟ إذا كان الإنسان على هذا الحال فمن الاستطاعة أن يكون قد ترك زادا لمن يعولهم إلى أن يعود. وعلينا أن ننتبه إلى أن الله قال في كل تكليف: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ} . ولكنه سبحانه جاء في فريضة الحج بالقول الواضح، بأن الحج لله على الناس وليس لمن أسلموا فقط، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد دعا أهل الكتاب الذين كانوا يتمحكون في إبراهيم عليه السلام أن يحجوا البيت الحرام، فامتنعوا عن الحج، ولو كان الحج للمسلمين المؤمنين برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما عرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على اليهود والنصارى أن يحجوا ليكون ذلك جمعاً لهم على أن يتجه الخلق جميعا إلى بيت الله ويعبدوا إلها واحداً هو ربّ هذا البيت، ولكنهم امتنعوا عن الحج. ولذلك يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيمن لم يحج بدون مرض حابس، أو سلطان جائر، أو فقر وعوز، يقول في الحديث الشريف: عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا، وذلك أن الله تعالى يقول: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} » . ولذلك نجد التكليف بالحج قد اتبع مباشرة بقول الحق: {وَمَن كَفَرَ} فهل يقع من لا يحج بدون مانع قاهر في الكفر؟ هنا يقف العلماء وقفة. العلماء يقولون: نعم إنه يدخل في الكفر، لماذا؟ لأن الكفر عند العلماء نوعان كفر بالله، أو كفر بنعمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1642 الله، ومثال ذلك قوله - جل شأنه -: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] أو هو الكفر، كأن يموت الإنسان يهوديا أو نصرانيا، وهنا نقول: انتبه، لا تأخذ الحكم من زاوية وتترك الزاوية الأخرى. إن المسألة التكليفية يوضحها الحق بقوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} . فهل تعارضون في هذا التكليف؟ أو تؤمنون به ولكن لا تنفذونه؟ إن القضية التكليفية الإيمانية هي {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} فهل أنت مؤمن بها أو لا؟ سنجد الإجابة من كل المؤمنين ب «نعم» . ولكن الموقف يختلف مِنْ مؤمن إلى آخر؛ فنحن نجد مؤمنا يحرص على أداء الحكم من الله، وهو الطائع، ونجد مؤمنا آخر قد لا يحرص على أداء الحكم فيصبح عاصيا. ونجد في هذا الموقف أن الكفر نوعان، هناك من يكفر بحكم الحج، أي من كفر في الاعتقاد بأن لله على الناس حج البيت، وهذا كافر حقا، لكنْ هناك نوع آخر وهو الذي يرتكب معصية الكفران بالنعمة؛ لأن الله أعطاه الاستطاعة من زاد، ومن راحلة، ومن أمن طريق، ومن قدرة على زاد يكفي من يعولهم إلى أن يعود، وهنا كان يجب على مثل هذا الإنسان أن يسعى إلى الحج. لذلك قال بعض العارفين لو أن أحدهم أُخْبِر بأن له ميراثا بمكة لذهب إليه حبواً. إذن فقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} هي قضية إيمانية، فمن اعتقدها يبرأ من الكفر، ومن خالفها وأنكرها فهو في الكفر. ومن قام بالحج فهو طائع، ومن لم يفعل وهو مؤمن بالحج فهو عاصٍ. ولننظر إلى دقة الأداء القرآني حين يقول الحق: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1643 العالمين} . قد يقول قائل: ولماذا لم يقل الله: ومن كفر فإن الله غني عنه؟ وقال: {فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} ؟ ونقول: إنّ الله غنيٌّ عن كل مخلوقاته، وإيّاك أن تفهم أن الذي لم يكفر وآمن، وأدى ما عليه من تكليف، أنه عمل منفعة لله؛ إن الله غني عن الذي أَدّى وعن الذي لم يؤد، إياك أن تظن أن من أدّى قد صنع لله معروفا، أو قدم لله يدا؛ {فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} عمن لا يفعل، وعمن يفعل. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1644 وحين تسمع «قل» فهي أمر من الله لرسوله كما قلنا من قبل؛ إنك إذا كلفت إنسانا أن يقول جملة لمن ترسله إليه فهل هذا الإنسان يأتي بالأمر «قل» أو يؤدي الجملة؟ إنه يؤدي الجملة، ومثال ذلك حين تقول لابنك مثلا: «قل لعمك: إن أبي سيأتيك غدا» فابنك يذهب إلى عمه قائلا: «أبي يأتيك غدا» . وقد يقول قائل: ألم يكن يكفي أن يقول الله للرسول: «قل يا محمد» فيبلغنا رسول الله يا أهل الكتاب لم تكفرون؟ كان ذلك يكفي، ولكن الرسول مبلغ الأمر نفسه من الله، فكأنه قال ما تلقاه من الله، والذي تلقاه الرسول من الله هو: {قُلْ ياأهل الكتاب} وهذا يدل على أن الرسول يبلغ حرفيا ما سمعه عن الله وهناك آيات كثيرة في القرآن تبدأ بقول الحق: {ياأهل الكتاب} ولا يأتي فيها قول الحق: «قل» . وهناك آيات تأتي مسبوقة ب «قل» «ما الفرق بين الاثنين» ؟ نحن نجد أن الحق مرة يتلطف مع خلقه، فيجعلهم أهلا لخطابه، فيقول: {ياأهل الكتاب} إنه خطاب من الله لهم مباشرة. ومرة يقول لرسوله: قل لهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1644 يا محمد لأنهم لم يتساموا إلى مرتبة أن يُخاطبوا من الله مباشرة: فإذا ما وجدنا خطابا من الحق للخلق، مرة مسبوقا ب «قل» ومرة أخرى غير مسبوق فلْتعلم أن الحق سبحانه حين يخاطب خلقه الذين خلقهم يتلطف معهم مرة، ويجعلهم أهلا لأن يخاطبهم، ومرة حين يجد منهم اللجاج فإنه يبلغ رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قل لهم. والمثال على ذلك - ولله المثل الأعلى - في حياتنا، نجد الواحد منا يقول لمن بجانبه: قل لصاحب الصوت العالي أن يصمت. إن هذا القائل قد تَعَالَى عن أن يخاطب هذا الإنسان صاحب الصوت المرتفع فيطلب ممن يجلس بجانبه أن يأمر صاحب الصوت العالي بالسكوت. وحين يجيء الخطاب لأهل الكتاب فنحن نعرف أنهم اليهود أصحاب التوراة، والنصارى أصحاب الإنجيل، وهؤلاء هم من يقول عنهم الحق: {ياأهل الكتاب} . ولم يقل أحد لنا: «يا أهل القرآن» لماذا؟ لأن الحق حين يقول لهم: {ياأهل الكتاب} فنحن نعرف أن الكتاب يُطلق على كل مكتوب، وكفرهم يعارض ما علم الله أنه موجود في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لأنه هو الذي أنزل الكتاب، ويعلم أن ما في الكتاب يدعو إلى الإيمان، ولا يدعو إلى الكفر. وما دام هو الحق الذي نَزَّل الكتاب، وهو الشاهد، فيصبح من الحمق من أهل الكتاب أن يوقعوا أنفسهم في فخ الكفر؛ لأنهم بذلك يكذبون على الله: والله - سبحانه - يسجل عليهم أنهم خالفوا ما هو مكتوب ومنزل عليهم في كتابهم. إنهم - أهل الكتاب - إن استطاعوا تعمية أهل الأرض فلن يستطيعوا ذلك بالنسبة لخالق الأرض والسماء. والحق حين يقول: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} فهل نفهم من ذلك أن كفرهم بآيات الله هو سترهم آيات الله سترا أوليا أو أنهم آمنوا بها، ثم كفروا بها؟ لنرى ماذا حدث منهم، لقد كانت البشارات به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكتوبة في التوراة، ومكتوبة في الإنجيل وهم قد آمنوا بها قبل أن يجيء سيدنا رسول الله، فلما جاء رسول الله بالفعل كفروا بها. وفي هذا جاء القول الحكيم: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1645 عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89] لماذا كفروا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ لأنه زحزح عنهم السلطة الزمنية، فلم تعد لهم السلطة الزمنية التي كانوا يبيعون فيها الجنة ويبيعون فيها رضوان الله ويعملون ما يحقق لهم مصالحهم دون التفات لأحكام الله. وسبق أن قلت: إن قريشا قد امتنعت عن قول: «لا إله إلا الله» وهذا الامتناع دليل على أنها فهمت المراد من «لا إله إلا الله» ، فلو كانت مجرد كلمة تقال لقالوها، لكنهم عرفوا وفهموا أنه لا معبود ولا مطاع ولا مشرع، ولا مكلف إلا الله. إن الحق يقول لأهل الكتاب: {قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1646 هب أنكم خبتم في ذواتكم، وحملتم وزر ضلالكم؛ فلماذا تحملون وزر إضلالكم للناس؟ . كان يكفي أن تحملوا وزر ضلالكم أنتم، لا أن تحملوا أيضا وزر إضلالكم للناس؟ إن الحق - سبحانه - قال: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1646 إنه سبحانه قال ذلك مع أنه قد قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18] إن الذي لا يحمل وزرا مع وزره هو الضال الذي لم يُضِل غيره، فهذا يتحمل إثمه فقط. أما الذي يحمل وزر نفسه، ووزر غيره فهو الضال المضل لغيره، وهنا يسألهم الحق سبحانه وتعالى على لسان رسوله: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ} . كأنه يقول لهم ماذا تريدون من الدين الذي يربط العبد بربه؟ . إنكم لا تريدونه دينا قيما إنكم تريدون دينا معوجا، والمعوج عن الاستقامة إنما يكون معوجا لِغرض؛ لأن المعوج يطيل المسافة. إنّ الذي يسير في طريق مستقيم ما الذي يدعوه إلى أن ينحرف عن الطريق المستقيم ليطيل على نفسه السبيل؟ . إن كان يريد الغاية مباشرة فإنه يفضل الطريق المستقيم. أما الذي ينحرف عن الطريق المستقيم فهو لا ينبغي الغاية المنشودة، بل يطيل على نفسه المسافة، وقد لا يصل إلى الغاية. والحق يقول: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً} وساعة تسمع «عوجا» فإننا قد نسمعها مرة «عوج» بفتح العين. ومرة نسمعها «عوج» بكسر العين. حين نسمعها «عوج» بفتح العين، فالعَوَج هو للشيء الذي له قيام، كالحائط أو الرمح، أما «العِوج» بكسر العين فهو في المعاني والقيم، لذلك يقول لهم الحق عن انحرافهم في المعاني والقيم: {تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ} . إن الحق يبلغهم: أنتم تبغون الدين عوجا برغم أنكم شهداء على أن ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الحق، إنه جاء مبلغا بالصدق، وكنتم تبشرون برسالة محمد، وكنتم تستفتحون على الذين أشركوا من أهل مكة وتقولون: سيأتي نبي نتبعه ثم نقتلكم معه قتل عاد وإرم. وأنتم - يا أهل الكتاب - شهود على صدق هذا الرسول. لقد ارتكبوا سلسلة من المعاصي؛ هم ضلوا وجهدوا أن يُضلوا غيرهم. ويا ليت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1647 ذلك يتم عن جهل، ولكنه أمر كان يتم بقصد وعن علم. وبلغت المسألة منهم مبلغ أنهم شهود على الحق. وبرغم ذلك أصروا على الضلال والإضلال. ومعنى «الشهود» ، أنهم عرفوا ما قالوا ورأوه رأي العين، فالشهود هو رؤية لشيء تشهده، وليس شيئا سمعته، لذلك يذكرهم الحق سبحانه بقوله: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . إنَّ الرسالة التي جاء بها محمد مبلغا واضحة، وهذا مذكور في كتبكم السماوية. فما الذي يجعلكم - يا أهل الكتاب - لا تلتزمون طريق الحق وأنتم شهود؟ لا بد أنكم قد مستكم شبهة إن الله يغفل عن ذلك، فقال لهم لا: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . وبعد ذلك يأتي قول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1648 معنى ذلك أن الله نبّه الفئة المؤمنة إلى أن الذين يكفرون بآيات الله لن يهدأ بالهم ما دمتم أنتم - أيها المؤمنون - على الجادة، وما دمتم مستقيمين، ولن يهدأ للكافرين بآيات الله بال إلا أن يشككوا المؤمنين في دينهم، وأن يبغوها عوجا، وأن يكفروهم من بعد إسلامهم. وهذه قضية يجب أن ينتبه لها الذين آمنوا؛ لأن الذين يبغون الأمر عوجا قد ضلوا وأضلوا، وهم يشهدون على هذا، ويعلمون أنّ الله غير غافل عما يعملون، فماذا يكون موقف الطائفة المؤمنة؟ إن الحق سبحانه يوضحه بقوله: {ياأيها الذين آمنوا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1648 إن أهل الكتاب يحاولون أن يصدوا المؤمنين عن سبيل الله، وليس المقصود بالصد، أن هناك من يمنع المؤمنين من الإيمان، لا، بل هي محاولة من أهل الكتاب لإقناع المؤمنين بالرجوع والارتداد عن الإيمان الذي اعتنقوه؛ فالمؤمنون هم الطائفة التي تلتزم بالتكليف من الله، لذلك يحذرهم الحق سبحانه بقوله: {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب، يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} الحق يحدد قسما من الذين أوتوا الكتاب، وذلك تأريخ بنزاهة وصدق وحق ودون تحامل. كأن الحق سبحانه يبلغنا أن هناك فريقا من أهل الكتاب سيسلكون الطريق السوي، ويجيئون إلى المسلمين أرسالا وجماعات وأفرادا مع الإسلام؛ فالحق لا يتكلم عن كل الذين أوتوا الكتاب. لذلك يقول الحق {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} إن الحق يؤرخ وهو يحمى الحقيقة، ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1649 إنه استعظام وتعجيب من أن يأتي الكفر مرة أخرى من المؤمنين وهم في نعيم المعرفة بالله، فآيات الله تُتلى عليهم، ورسول الله حق ومعهم وفيهم. ويقول الحق سبحانه للمؤمنين: {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} إنّ لذلك قصة؛ فقد كان اليهود في المدينة يملكون السلطة الاقتصادية؛ لأنهم يجيدون التعامل في المال، وكل من يريد مالا يذهب إليهم ليقترض منهم بالربا. وكان لليهود أيضا التفوق والتميز العلمي؛ لأنهم يعلمون الكتاب، بينما كان غالبية أهل مكة والمدينة من الأميين الذين لا يعرفون كتابا سماويا. وكذلك كان هناك تميز آخر لليهود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1649 هو خبرتهم بالحرب؛ فلهم قلاع وحصون. هكذا كان لليهود ثلاثة أسباب للتميز: المال يحقق الزعامة الاقتصادية، والعلم. . بالكتاب وهو تفوق علمي، ثم خبرتهم بفنون الحرب، وكانوا فوق ذلك يحاولون إيجاد الخلاف بين الناس وتعميقه. مثل محاولتهم إثارة العداوات بين الأوس والخزرج. والمتاجرة بذلك حتى تظل الحروب قائمة، وبذلك يضمنون رواج تجارة الأسلحة التي يصنعونها ويمدون بها كل فريق من المتحاربين. ولما جاء الاسلام وحّد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين الأوس والخزرج وبذلك ضاع منهم التفوق الاقتصادي. وجاء الاسلام بدين وكتاب مهيمن على الكتب، فضاعت من اليهود المنزلة العلمية. وكذلك ضاعت من اليهود المنزلة الحربية؛ فقد رأوا قلة من المؤمنين هزموا الكفار وأنزلوا بهم هزيمة نكراء في بدر، وهكذا ضاع كل سلطان لليهود في المدينة، لذلك أرادوا أن يعيدوا الأمر إلى ما كان عليه قبل أن يجيء الإسلام، فقالوا فلنؤجج ونشعل ما بين الأوس والخزرج من العداوات ونهيجها، وقال شخص اسمه «شأس بن قيس» وقد رأى نور الإيمان يعلو وجوه الأوس والخزرج ويشملهم الانسجام الإيماني. وتوجد بينهم المودة وابتسامات الصفاء، هيَّج ذلك شأس بن قيس وقال: «والله لا بد أن نعيدها جذعة ونرجعهم إلى ما كانوا عليه من أحقاد وعداوات، فلا استقرار لنا ما دامو قد اجتمعوا» . فأرسل فتى من اليهود وجلس بين الأوس والخزرج، ثم تطرق الحديث منه إلى يوم يسمى يوم «بعاث» ، وهو اسم يوم من أيام العرب قبل الإسلام، وكان بين الأوس والخزرج، وكان النصر فيه للأوس على الخزرج، وجلس الفتى اليهودي يذكر ويأتي بالشعر الذي قيل في هذا اليوم فهيّج حمية الأوس والخزرج وحدث النزاع، وحصل التفاخر واستيقظ التباغض، وقالوا: «السلاح. . السلاح» وهكذا نجحت المكيدة، ونمى الخبر إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعه صحابته، حتى انتهَوْا إلى اجتماع الأوس والخزرج، فوجدوا الحال على أشد درجات الهياج، نزاع، وتباغض، وسلاح محمول، فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أبِدَعْوى الجاهلية وأنا بين أظهركم!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1650 أي كان من الواجب أن تخجلوا من أنفسكم؛ لأن رسول الله بينكم، وأضاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لقد أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألف بين قلوبكم، فماذا كانت مواقع كلمات الرسول في نفوس القوم؟ لقد دفعتهم كلماته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى إلقاء السلاح، وبكوا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم. وعندما نتأمل ما فعله هؤلاء القوم من اليهود لإشعال الفتنة بين الأوس والخزرج نجد أنهم قد أدركوا طبيعة النزاع القديم بين الأوس والخزرج فأرادوا أن يهيجوا تلك العداوات والأحقاد القديمة، وكذلك نجد أن تهييج المشاعر بين الأوس والخزرج جعل للانفلات بابا فكاد القتال يشتعل، وعندما تكلم فيهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هدأت المواجيد، وألقوا السلاح، وندموا على ما فعلوا. وإذا أردنا أن نرى الأمر بعمق التصور لِمَا حدث فإننا نجد أن إدراك العداوة بين الأوس والخزرج من اليهود هو الذي دفع اليهود لتحريك هذا الإدراك الخاطئ وإحياء الثارات القديمة، ثم كان انفعال الأوس والخزرج بتلك الثارات القديمة قد فتح الباب لحمل السلاح للاقتتال. وهكذا نجد أن الإدراك للشيء، يمر بثلاث مراتب: أولا: الإحساس بالشيء، ثانيا: انفعال النفس له، ثالثا؛ النزوع السلوكي، وعندما تحدث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أدرك الأوس والخزرج الأمر بطريقة عكسية فألقوا السلاح، وهدأت مواجيد البغضاء، وتركوا الإدراكات الخاطئة. لقد ذكرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بثلاثة أشياء هي: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وقد أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية. وألف بين قلوبكم» . وقد استقبلوا ذلك بإلقاء السلاح أولا، ثم البكاء ثانيا، وهو أمر حركته المواجيد فيهم ثم تعانقوا أي صححوا الإدراكات ثالثا، وهكذا حدث النزوع بالعكس. ولما حدث ذلك أصاب اليهود الغيظ والخيبة والنكد. وقال المؤرخ لهذه القصة: فما كان يوم في الإسلام أسوأ أولا وأحسن آخراً إلاّ ذلك اليوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1651 لقد بدأ اليوم بعبوس، وانتهى بإشراق الطمأنينة، وبعد ذلك وُجدت الخلية التي تكوّن المناعة في نفوس المؤمنين، بعد أن قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك القول: «أبِدَعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذا أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم» . لقد صار هذا القول الكريم مستحضرا عند كل نزع لشيطان، أو كيد لعدو. لقد جعل الحق المناعة ضد فعل الكيد، ونزغ الشيطان عند المؤمنين من الأوس والخزرج، وهكذا نرى أن الله يسخر الكافر حتى في رفعة شأن الإيمان، فلو لم تحدث هذه المسألة ويأتي الرسول صلى الله عليه بمنطقه المؤثر وهو بين القوم ليقول ذلك القول لما أصبح لدى المسلمين هذه المناعة من الارتفاع عن البغضاء فيما بينهم، ولو كان أحد من أتباع الرسول قد قال مثل هذه الكلمة فقد كان من المحتمل أن يحدث هذا الأثر، لكن عندما قالها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد أوجدت المناعة لغيرها من الأحداث التي يأتي وقد لا يكون الرسول موجودا. ولذلك فأنت أيها المؤمن إن نظرت إلى الكافرين. فإنك تجد عقولهم خائبة. لقد نشروا الإسلام - دون إرادتهم - بمواقفهم الحمقاء، فمثلا حين قالوا: سيأتي نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، فما الذي حدث؟ إن الأنصار ساعة أن سمعوا بالدين الجديد قال بعضهم لبعض: اسمعوا يا قوم، إنه الدين الذي بشرتكم به يهود، فقبل أن يسبقونا إليه هيا بنا نسبق نحن اليهود إليه. لقد كان استعلاء اليهود وتفاخرهم على الأوس والخزرج دافعا للأوس والخزرج على الدخول في الإسلام، وهكذا يجعل الحق سبحانه وتعالى كفر الكافر مؤثرا في تثبيت إيمان المؤمن. وحين يقول الحق سبحانه: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} نفهم انه استعظام وتعجيب يأتي من الحق. فساعة تسمع: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} فذلك أمر عجيب، لأنه من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1652 المستبعد أن يكفر المؤمنون وكتاب الله يتلى عليهم، ورسول الله فيهم. ويجيء من بعد ذلك الدعوة إلى الاعتصام بالله، ومعنى الاعتصام: التمسك، ولا يتأتي إلا في علو، فيقال: «اعتصمت بحبل الإيمان» لأن للإنسان ثقلا ذاتيا، هذا الثقل الذاتي إن لم يرفعه سواه، فإنه يقع بالإنسان. وهذا لا ينشأ إلا إذا كان الإنسان معلقا في الجو ويمسك بحبل ولا يوجد من يدفعه إلى أسفل، بل الإنسان بثقله الخاص يهبط إلى الأرض. فمن يعتصم بالله ويمسك بحبل الإيمان فإنه يمنع نفسه من الهُوِيِّ والسقوط. وهنا نشعر أن الاعتصام بالله هو أن نتبع ما تُلِيَ علينا من الآيات، وما سنه لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن فباب الاعتصام هو كتاب الله وسنة رسوله، وكذلك كان وجود الرسول بين أظهرهم هو الأمر الضروري، لأنهم كانوا منغمسين في حمأة الجاهلية، فلا بد أن توجد إشراقة الرسول بينهم حتى تضيء لهم، فيروا أن الله قد أخرجهم من الظلمات إلى النور. ولم يقبض الحق رسوله إلا بعد أن أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا. قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي» . هكذا نرى أن وجود آيات الله، وسنة رسول الله هي العاصم الذي يهدي إلى صراط مستقيم. والهدى كما نعرف هو ما يوصل إلى الغاية المرجوة، فهب أن غايتك أن تذهب إلى مكان معين فالذي يوصلك إلى ذلك المكان هو هدى، وكل ما يدل إنسانا على الموصل للغاية اسمه هدى. والحق سبحانه وتعالى خلق الخلق جميعا، وجعل بعض الخلق مقهورا، وبعض الخلق مخيرا. والمقهور من خلق الله هو كافة المخلوقات في الكون ما عدا الإنسان إلا في بعض أموره فإنه مقهور فيها أيضا ولذلك قلنا: إن كل ما عدا الإنسان من خلق الله يؤدي مهمته كما طُلبت منه، فما امتنعت الشمس أن تشرق على الناس يوما، ولا امتنعت الريح أن تهب، ولا امتنعت السماء عن أن تمطر، ولم تقل الأرض للإنسان إنك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1653 تعصي الله فلا أنبت لك، ولا جاء إنسان ليركب الدابة المسخرة فقالت: لا؛ إنك عاصٍ، ولذلك سأحرن فلا أمكنك من ركوب ظهري. هكذا نرى أن كل شيء ما عدا الإنسان مسخر مقهور للغاية المرجوة منه، وهو خدمة ذلك الإنسان. والإنسان وحده هو الذي له اختيار. . ولذلك يجب أن نتنبه دائما إلى أن الله قد جعل للخلق تسخيرا وتسييرا، وجعل الإجماع في كل الأجناس، ولكن الانقسام جاء عند الإنسان فقال الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [الحج: 18] إن الجمادات الساجدة المسخرة هي: «الشمس والقمر والنجوم» ، والنبات الساجد المسخر هو «الشجر» وكذلك «الدواب» فهي ضمن الكائنات التي عليها حكم الحق بالإجماع، بأنها كلها تسجد خاضعة مسخرة. أما الأنسان فقد قال الحق عنه: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} . إذن فالانقسام جاء عند من؟ لقد جاء الانقسام عند الإنسان. لماذا؟ لأن الله خلق الإنسان مختارا. ألم يكن من الممكن أن يخلق الإنسان مسخرا كبقية الكائنات؟ أليس التسخير دليلاً على قدرة المسخر، وأن شيئا من خلقه لن يخرج من قدرته هذا صحيح، لكن الحق سبحانه كما أراد أن يثبت القدرة والقهر بالتسخير، أراد أن يثبت المحبوبية بالاختيار. فمن كان مختارا أن يؤمن أو يعصي، ثم اختار أن يؤمن، فهذا الاختيار إنما يثبت به الإنسان المحبوبية لله. هكذا صنف الله الخلق بين قسم قهري يثبت القدرة، وقسم اختياري يثبت المحبوبية، ولهذا أراد الله للإنسان أن يكون مختارا أن يفعل أو لا يفعل. فلماذا - إذن - لا يفعل الإنسان كل أفعاله وهي منسجمة مع الإيمان؟ لأن للشهوة بريقا سطحيا، وهذا البريق السطحي يجذب الإنسان كما تجذب النارُ الفَرَاش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1654 عندما يوقد الإنسان ناراً ما في الخلاء فضوؤها يجذب الفَرَاش، ويحترق الفَراش بنيران الضوء؛ فقد جذبه النور وأغراه، ولكنه لم يعرف أن مصرعه في تلك النار. والحكمة العربية تقول: «رب نفس عشقت مصرعها» كذلك في الشهوات، تتزين الشهوة للإنسان، فتجذبه إليها فيكون فيها مصرع الإنسان. لكن ما الحماية للإنسان من ذلك؟ إن الحماية هي في منهج الله «افعل» . و «لا تفعل» فمن يرد أن ينقذ نفسه من كيد الشيطان وكيد النفس فعليه أن يخضع لمنهج الله في «افعل» و «لا تفعل» . وقد قلت قديما: إنه من الحمق أن يصنع صانع صنعةً ما، ثم ينسى أن يضع لها قانون الصيانة. والإنسان في حدود صناعته لا ينسى ذلك، فما بالنا بالحق سبحانه بطلاقة قدرته؟ إن الخالق سبحانه وتعالى قد صنع الإنسان، ووضع الحق سبحانه وتعالى قانون صيانة صنعته في الإنسان فقال جل وعلا: افعل كذا ولا تفعل كذا، فمن أراد أن يعتصم بالحبل المتين فلا يأتي له نزغ شيطان أو كيد عدو ولا هوى نفس. فليعتصم بمنهج الله؛ لأن الله هو الذي خلقه وهو الذي وضع منهجه كقانون لصيانة صنعته، وهو قانون الموجز في «افعل ولا تفعل» . ويقول الحق: {وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وكلمة الاعتصام أروع ما تكون عندما يكون الإنسان في الهواء معلقا في الفراغ، وهو في أثناء وجوده في الفراغ فإن ثقله الذاتي هو الذين يوقعه ويسقطه، لكن عندما يتمسك الإنسان بمنهج الله فإنه ينقذ نفسه من السقوط والهوى (بضم الهاء وكسر الواو) ومهمة الشيطان أن يزيّن المعصية بالبريق، فتندفع شهوات النفس هائجة إلى المعصية ولذلك يأتي الشيطان يوم القيامة ويأخذ الحجة علينا. يقول الحق: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1655 أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] والسلطان كما نعرف نوعان: النوع الأول هو أن يقهر الشيطانُ الإنسانَ، والشيطان لا قدرة له على ذلك. والنوع الثاني هو أن يقنع الشيطان الإنسان بأن يفعل ذلك الخطأ. ما الفرق بين الإقناع والقهر في هذا المجال؟ إن القهر هو أن يجبر الشيطان الإنسان على أن يفعل شيئا لا يريده الإنسان. أما الإقناع فهو أن يزين الشيطان الأمر للإنسان فيفعله الإنسان بالاختيار ويعلن الشيطان يوم القيامة: لم يكن لي سلطان أقهرك به أيها الإنسان حتى تعصي الله، لقد زينت لك المعصية أيها الإنسان فاستجبت لي. إن الشيطان يوم القيامة يقول: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} ما معنى «مصرخكم» ؟ إنها مشتقة من «أصرخ» ، أي سمع صراخك فأغاثك وأنجدك، فمصرخ: مغيث ومنجد، والشيطان يعلن أنه لن يستطيع نجدة الإنسان، ولا الإنسان بمستطيع أن ينجد الشيطان. إذن، فثقل النفس البشرية هو ما يوقع الإنسان في الهاوية دون أن يلقيه أحد فيها، ولا إنقاذ للإنسان من الهاوية إلا بالاعتصام بحبل الله. كأن منهج الله هو الحبل الممدود إلينا، فمن يعتصم به ينجو من الهاوية. وما دمنا نعتصم بحبل الله وهو القرآن المنزل من خالقنا والسنة النبوية المطهرة، وسبحانه يعلم كيد النفس لصاحبها - فلا بد أن يهدينا الله إلى الصراط المستقيم. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1656 {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1657 إن الله قد أعطى المؤمنين المناعة أولا بألا يسمعوا كلام أعداء الدين. وحين نسمع كلمة «اتقوا» فلنفهم أن هناك أشياء تسبب لك التعب والأذى، فعليك أن تجعل بينك وبينها وقاية، ولذلك قال الحق: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] إنه الحق يطلب من الإنسان أن يجعل بينه وبين النار وقاية وحجابا يقيه منها. والحق سبحانه وتعالى حين يقول على سبيل المثال: {واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} [المائدة: 4] إي اجعل بينك وبين الله حجابا يقيك من غضبه. وقد يقول قائل: كيف يكون ذلك وأنا كمؤمن أريد أن إعيش في معية الله؟ نقول: إنك تجعل الوقاية لنفسك من صفات جلال الله، وأنت تستظل بصفات الجمال، فالمؤمن الحق هو من يجعل لنفسه وقاية من صفات جلال الله، وهي القهر والجبروت وغيرها، وكذلك النار إنّها من جنود صفات الجلال. فحين يقول الحق: {اتقوا النار} أو {اتقوا الله} فالمعنى واحد. وعندما يسمع إنسان قول الحق سبحانه: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} ماذا تعني (حق تقاته) ؟ إن كلمة «حق» - كما نعرف - تعني الشيء الثابت الذي لا يزول ولا يتزحزح، أي لا ينتهي ولا يتذبذب، هذا هو الحق. إذن ما حق التقي؟ هو أن يكون إيمانك أيها المؤمن إيمانا راسخا لا يغادرك ولا تتذبذب معه، واتقاء الله حق تقاته هو اتباع منهجه، فيطاع الله باتباع المنهج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1657 فلا يعصي، ويُذكر فلا ينسى، ويُشكر ولا يُكفر. وطريق الطاعة يوجد في اتباع المنهج ب «افعل» و «لا تفعل» ويذكر ولا ينسى؛ لأن العبد قد يطيع الله، وينفذ منهج الله، ولكن النعم التي خلقها الله قد تشغل العبد عن الله، والمنهج يدعوك أن تتذكر في كل نعمة من أنعم بها، وإياك أن تنسيك النعمة المنعم. ويشكر العبد الله ولا يكفر بالنعم التي وهبها له الله. وما دمت أيها العبد تستقبل كل نعمة وتردها إلى الله وتقول: «ما شاء الله، لا قوة إلا بالله» ولا تكفر بالنعم أي أنك تؤدي حق النعمة، وكل نعمة يؤدي العبد حقها تعني أنها نعمة شكر العبد ربه عليها، ولم يكفر بها. وقيل في معنى: {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي أَنه لا تأخذك في الله لومة لائم، أو أن تقول الحق ولو على نفسك. هذا ما يقال عنه «حق التقى» ، أي التقى الحق الذي يعتبر تقى بحق وصدق. وقال العلماء: إن هذه الآية عندما نزلت وسمعها الصحابة، استضعف الصحابة نفوسهم أمام مطلوبها، فقال بعضهم: من يقدر على حق التقى؟ ويقال: إن الله أنزل بعد ذلك: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] فهل معنى هذا أن الله كلف الناس أولا ما لا يستطيعون، ثم قال من بعد ذلك: {فاتقوا الله مَا استطعتم} ؟ لا، إنه الحق سبحانه لا يكلف إلا بما في الوسع، والناس قد تخطئ الفهم لقوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} فيقول العبد: أنا غير مستطيع أن أقوم بذلك التكليف، ويظن هذا العبد أن التكليف يسقط عنه. لا، إن هذا فهم خاطئ؛ إن قوله الحق: {فاتقوا الله مَا استطعتم} أي إنك تتقي الله بما كان في استطاعتك من الوسع، فما باستطاعتك أن تقوم به عليك أن تقوم به. فلا يهرب أحد إلى المعنى المناقض ويقول: أنا غير مستطيع؛ لأن الله يعلم حدود استطاعتك. وساعة تكون غير مستطيع فهو - سبحانه - الذي يخفف. . إنك لا تخفف أنت على نفسك أيها العبد، فالخالق الحق هو الذي يعلم إذا كان الأمر خارجا عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1658 استطاعتك أو لا، وساعة يكون الأمر خارجاً عن استطاعتك فالله هو الذي يخفف عنك. ولذلك فعلى الإنسان ألا يستخدم القول الحق: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] في غير موضعه؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يقدر الوسع، ثم يبني التكليف على الوسع. بل عليك أن تفهم أيها الإنسان أن الله هو الذي خلق النفس، وهو الذي أنزل التكليف لوسع النفس، وما دام الخالق للنفس هو الله فهو العليم بوسع النفس حينما قرر لها المنهج. إنه سبحانه الذي كلف، وهو العليم بأن النفس قد وسعت، ولذلك فهو لا يكلف نفسا إلا وسعها. فإن كان سبحانه قد كلف فأعلم أيها العبد أنه سبحانه قد كلف بما في وسعك، وعندما يحدث للإنسان ما يشق عليه أو يمنعه من أداء ما كلف به تامّاً فهو - سبحانه - يضع لنا التخفيف وينزل لنا الرخص. مثال ذلك: المريض أو الذي على سفر، له رخصة الإفطار في رمضان، والمسافر له أن يقصر الصلاة. إذن فالله سبحانه هو الذي علم حدود وسع النفس التي خلقها، ولذلك لا تقدر وسعك أولا ثم تقدر التكليف عليه، ولكن قدّر التكليف أولا، وقل: ما دام الحق قد كلف فذلك في الوسع. وفي تذييل الآية الكريمة بقوله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} نجد أنفسنا أمام نهي عن فعل وهو: عدم الموت إلا والإنسان مسلم. كيف ذلك؟ أيقول لك أحد: لا تمت؟ إن ذلك الأمر ليس لك فيه اختيار؛ لأنه أمر نازل عليك. فإذا قيل لك: لا تمت، فإنك تتعجب؛ لأن أحدا لا يملك ذلك، ولكن إذا قيل لك: لا تمت إلا وأنت مسلم، فأنت تفكر، وتصل بالتفكير إلى أن الفعل المنهي عنه: لا تمت ليس في قدرة الإنسان؛ ولكن الحال الذي يقع عليه الفعل وهو: إلا وأنت مسلم، في قدرة الإنسان؛ لذلك تقول لنفسك: إن الموت يأتي بغير عمل مني، ولكن كلمة: إلا وأنت مسلم، فهي باستطاعتي، لأن الإسلام يكون باختياري. صحيح أنك لا تعرف متى يقع عليك الموت؟ ولذلك تحتاط والاحتياط يكون بأن تظل مسلما حتى يصادفك الموت في أي لحظة وأنت مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1659 إذن. . فقول الله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} هو نهي عن الفعل الأول وهو ليس باختيارنا. والحال الذي لنا فيه اختيار هو {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} فكيف نوفق بين الأمرين؟ إن الموت لا اختيار لأحد منا متى يقع عليه، ولذلك نأتي إلى الأمر الذي لنا فيه اختيار، وهو أن نحرص على أن نكون مسلمين، ويظل كل منا متمسكا بأهداب الإسلام، فإن صادف الموت في أي لحظة يكون مسلما وكأن الحق سبحانه يقول لنا: تمسكوا بإسلامكم؛ لأنكم لا تدرون متى يقع عليكم الموت. وإخفاء الموت عن الإنسان ليس إبهاما كما يظن البعض، لا؛ إنه منتهي البيان الواسع؛ لأن إخفاء الموت، وميعاده عن الإنسان زمنا وحالا، وسنا وسببا، كل ذلك يوضح الموت أوضح بيان. لماذا؟ لأن الله حين استأثر بعلم الموت فالإنسان منا يترقب الموت في أي لحظة وما دام الإنسان مترقبا للموت في أي لحظة فهذا بيان واسع بل هو أوسع بيان. ويقول الحق بعد ذلك: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1660 جاء هذا القول الكريم لينبه كل المؤمنين، من خلال التنبيه للأوس والخزرج، وكأنه يقول: اعلموا أن التفاخر قبل الإسلام كان وبأشياء ليست من الإسلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1660 في شيء. لكن حين يجيء الإسلام فالتفاخر يكون بالإسلام وحده فإذا ما تغاضى إنسان بما قبل الإسلام بقوله: منا كذا. . ومنا كذا. فهنا يأتي الردّ: لا؛ إن ذلك قبل الإسلام. وقد حدث أن قال الأوس من بعد الإسلام: «منا خزيمة» فقال واحد من الخزرج: ومنا أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت فقال واحد من الأوس: منا حنظلة ابن الراهب وحنظلة هذا هو غسيل الملائكة، وخزيمة بن ثابت صحابي جليل جعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شهادته بشهادتين؛ لأن خزيمة صاحب إيمان نوراني. ونورانية اليقين هدته إلى الحكم الصواب؛ «فقد اشترى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرسا من أعرابي وذهب ليحضر له الثمن، ولكن الأعرابي أنكر البيع لأن بعض الناس زاده في ثمن الفرس دون علم أن الرسول قد اشتراه فنادى الأعرابي الرسول وقال له إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته. فقال النبي للرجل:» ألست قد ابتعته منك «. فقال الرجل هات شاهدا يشهد بذلك. لقد انتهز الرجل فرصة أن النبي ابتاع منه دون وجود أحد في هذا الوقت، وكان سيدنا خزيمة جالسا لحظة مطالبته للنبي بشاهد. فقال سيدنا خزيمة: أنا أشهد يا رسول الله أنك قد بايعته. ولأن الرجل كاذب، قال لنفسه: لعل خزيمة رآنا وأنا أبيع الفرس للنبّي فسكت الرجل وانصرف، وبعد أن انصرف الرجل نادى الرسول خزيمة. وقال له:» يا خزيمة بم تشهد ولم تكن معنا؟ «فقال: أنا أصدقك في خبر السماء ولا أصدقك بما تقول؟ أعلم أنك لا تقول إلا حقاً قد آمناك على أفضل من ذلك، على ديننا. فعلم الرسول أن لخزيمة نورانية التصديق وحسن الاستنباط، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» من شهد له خزيمة فحسبه «» . فالأمر الذي يحتاج شاهدين تكفي فيه شهادة خزيمة، وبذلك أعطى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الوسام لخزيمة وجعل شهادته شهادة رجلين، ولنر كيف جمع الله بين الأوس والخزرج في جمع القرآن، قال زيد بن ثابت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1661 فآليت على نفسي ألاّ أكتب آية إلاّ إذا وجدتها مكتوبة وشهد عليها اثنان، إلاّ آخر التوبة فوجدتها مكتوبة ولم يشهد عليها إلاّ خزيمة، وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قال في خزيمة: «من شهد له خزيمة فحسبه» ولنا أن نعرف أن زيد بن ثابت من الخزرج وأن خزيمة من الأوس. لقد جمعهما الله في جمع القرآن، فنفع الأوسي الخزرجي، وذلك ليدلنا الحق سبحانه دلالة جديدة، وهي أن التفاخر قبل الإسلام كان بغير الإسلام، لكن ساعة يجيء الإسلام فأي واحد من أي جنس ما دام قد أحسن الإسلام، فله أن يفخر به، فإياك يا أوسيّ أن تقول: «منا خزيمة» ؛ فالخزرجي له الفخر بخزيمة أيضا، وليس للخزرجي أن يقول: «منا زيد بن ثابت» فللأوسي أيضا أن يفخر به، لأن كُلاًّ منهما قد جمعه الله بالآخر في القرآن، والإسلام، وهكذا يكون الاعتصام بحبل الله. يقول الحق سبحانه وتعالى: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} إنّ الحرب ظلت مستعرة بين الأوس والخزرج مائة وعشرين عاما مع أن أصل القبيلتين واحد، هما أخوان لأب وأم وعندما جاء الإسلام ألف الله بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا. وهذا يدلنا على أن كل نزغةِ جارحةٍ من الجوارح لا بد أن يكون وراءها هبة قلب وثورته وهياجه، فاليد لا تصفع أحدا من فراغ، ولكن الصفعة توجد في القلب أولا {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} ، إن الحق سبحانه يقول: {وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} والشفا هي الحافة. ومرة يقال: «شفا» ومرة يقال: «شفة» . لقد كانوا على حافة النار، ومن كان على الحافة فهو يوشك أن يقع، فكأن الله يقول: لقد تداركتم بالإسلام، ولولا الإسلام لهويتم في النار. ويقول سبحانه: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وهكذا نرى نعمة الإسلام في الدنيا، فقدرة الإيمان على إنقاذ الإنسان من النار لا تحتاج إلى انتظار بل يستطيع المؤمن أن يراها في الدنيا. ولقد كان العرب قبل الإسلام مؤرقين بالاختلافات، وموزعين بالعصبية، وكل يوم في شقاق. ولما جاء الإسلام صاروا إخوانا، وهذه نعمة عاجلة في الدنيا والدنيا كما نعرف ليست دار جزاء، فما بالك بما يكون في الآخرة وهي دار الجزاء والبقاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1662 وقوله الحق: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} المقصود به أن تظلوا على هدايتكم. لقد خاطبهم الحق: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} وساعة يطلب التشريع منك ما أنت عليه، فاعلم أن التشريع يريد منك استدامته، فعندما يقول الحق (يا أيها الذين آمنوا) أي مع الإيمان الذي معكم قبل كلامي، جددوا إيمانا بعد كلامي ليستمر لكم الإيمان دائما. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1663 وكلمة «أمة» تطلق مرة، ويراد بها الجماعة التي تنتسب إلى جنس، كأمة العرب، أو أمة الفرس، أو أمة الروم، ومرة تطلق كلمة «أمة» ويراد بها الملة أي الدين، ومرة ثالثة تطلق كلمة «أمة» ويراد بها الفترة الزمنية كقول الحق: {وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف: 45] إن الرجل الذي فسر له سيدنا يوسف الرؤيا تذكر سيدَنا يوسف بعد أمة أي بعد فترة من الزمن، ومرة تطلق كلمة «أمة» على الرجل الجامع لصفات الخير. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120] لأن خصال الخير ليس من الضروري أن تجتمع في واحد، ولكنها قد تجتمع في عدد من الأفراد فيكون هناك فلان المتميز بالصفة الطيبة، وغيره متصف بصفة أخرى طيبة، وثالث فيه صفة طيبة ثالثة، ومن مجموع الأمة تظهر صورة الكمال، لكن إبراهيم عليه السلام اجتمعت فيه كل خصال الخير المكتمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1663 وساعة أن تأتي لإنسان ونَقول له: ليكن منك شجاع فما ذلك؟ إن معناه، أن يجرد الإنسان من نفسه ويخرج منها شخصا شجاعا، وذلك بتدريبها وتعويدها على ذلك حتى يكون الإنسان شجاعا، أو تقول لآخر: ليكن منك كريم، أي أخرج من نفسك رجلا كريما. وقوله الحق سبحانه: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} . هذا القول يعني ان يكون منكم أيها المخاطبون أمة تدعو إلى الخير، ومعناه أيضا أن تكونوا جميعا أمة تدعو إلى الخير، وبعض العلماء يرى أن هذا القول يعني: أن تكون منكم جماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ولكنّ هناك فهما أعمق من هذا، وهو أن هذه الآية تأمر بأن تكون كل جماعة المسلمين أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، إي أن هذه الآية تطالب كُلَّ أمة المسلمين بذلك، فلا تختص جماعة منها فقط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل الواجب أن تكون أمة المسلمين كلها آمرة بالمعروف، وناهية عن المنكر، فمن يعرف حكما من الأحكام عليه أن يأمر به. وهناك من العلماء من قال: إن الذي يأتي المنكر له حكم آخر أيضا وهو أن ينهي غيره عن المنكر، أي أن الإنسان المؤمن مطالب بأمرين: الأول: ألاّ يصنع المنكر، والثاني: أن ينهي عن المنكر. ولذلك إن جاء نصح من إنسان ينهاك عن المنكر، وهو قد فعله، فلا تقل له: أصلح نفسك واتبع أنت ما تنصح به أولا، لا تقل له ذلك حتى لا يقول لك ما قاله الشاعر: خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي ... واجن الثمار وخل العود للنار لكن الأجدر بمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون أول العاملين بقوله حتى لا يدخل في زمرة من قال الله فيهم: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1664 إذن فقوله الحق: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} أي جردوا من أنفسكم أمة مجتمعة على أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، واستمعوا إلى قوله تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1 - 3] إن السورة الكريمة توضح العقيدة ومطلوبها وهو الإيمان والعمل الصالح. وبعد ذلك قال الحق: «وتواصوا» ولم يقل «ووصوا» ما معنى «وتواصوا» ؟ أي أن يعرف كل مؤمن انه من الأغيار، وكذلك أخوه المؤمن، وقد يضعف أحَدهما أمام معصية فيصنعها، لكن الآخر غير ضعيف أمام تلك المعصية، لذلك يكون على غير الضعيف توصية الضعيف، وعلى الضعيف أيضا ضرورة الانتباه حتى يتواصى مع غيره. فالإسلام لم يجعل جماعة يوصون غيرهم، وجماعة أخرى تتلقى الوصاية، بل كلنا موص - بكسر الصاد - حينما نجد مَنْ من يضعف أمام معصية. وكلنا موصىً، - بفتح الصاد - حين يكون ضعيفا أمام المعصية؛ فالتواصي يقتضي التفاعل بين جانبين. . فمرة تكون موصيا، ومرة تكون موصىً، وكذلك التواصي بالصبر. فساعة تحدث كارثة لواحد من المسلمين يأتي أخوه ليصبره، وكذلك إن حدثت كارثة للأخ المسلم يصبره أخوه المسلم، فعندما يحتاج مسلم في وقت ما إلى أن يُصَبَّر، يجد من إخوته من يصبره فالأمة كلها مطالبة: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} . هكذا نفهم معنى قول الحق: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولئك هُمُ المفلحون} . والدعوة إلى الخير يفسرها الحق بأن يأمر الإنسان بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر. ويقول الحق: {وأولئك هُمُ المفلحون} أن كلمة {المفلحون} هي كلمة معها دليلها، فالمفلح هو الذي أخذ الصفقة الرابحة. والكلمة مأخوذة، من فلح الأرض. فالذي يفلح الأرض ويحرثها ثم يزرعها يجد الثمرة تجيئه في النهاية، وقد جاء الحق بالمسألة المعنوية من أمر محس. وبعد ذلك يريد الحق أن يعطينا شيئا آخر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1665 فيقول: إياك أن تظن أن المشقة التي تصيبك حين تفعل خيرا لا تعود عليك بالراحة، أو أن النقص الذي تفعل به الخير لا يعود عليك بالكمال، فمثلا الإنسان الذي فلح الأرض وأخرج «كيلة» من القمح وبذرها فيها. هذا الإنسان قد تكون له زوجة حمقاء تقول له: إننا لا نملك إلا أربع «كيلات» من القمح فكيف تأخذ «كيلة» لترميها في الأرض، إن هذه المرأة لا تعرف أن «الكيلة» التي أخذها الزوج هي التي ستأتي بعدد من الأرادب من القمح. فإياك أن تفهم أن الإسلام يأخذ منك شيئا إلا وهو يريد أن يعطيك أشياء. إن الفلاح الذي يشقى بالحرث وبالري، وتراه وقد علا جبهته العرق وتراب الأرض وتغوص أقدامه في الطين والمياه، إنك تراه يوم الحصاد وهو فرح مسرور بغلته. أما غيره الذي لم يشُّقَ بالحرث ولم تعل جبهته حبات العرق، فيأتي في هذا اليوم وهو حزين ونادم. فإياك أن تنظر إلى تكاليف الدين على أنها أمور تحرمك النفع، إنّها أمور تربّب لك النفع أي تكثر لك النفع. وإياك أن تظن أن حكما من أحكام الله قد جاء ليجور على حريتك بل جاء ليمنع عنك اعتداء الآخرين. وقلنا من قبل: إن الشرع حين كلف كل إنسان ألا يسرق مال أحد، فهو تقييد من أجل حفظ أموال الملايين، وهو أمر ضمني لكل الناس ألاَّ يسرقوا شيئا من هذا الإنسان، وهنا نجد الأمان ينتشر بالإيمان بين الجميع. ولو نظرت إلى ما منع الدين الناس أن يمارسوه معك لعرفت قيمة التكاليف الإيمانية. إن التكليف حين يأمر ألا يمد أحد عيونه إلى محارم جاره، هذا التكليف صادر للناس جميعا حتى يحمي الله لك محارمك من عيون الناس، لقد قََيَّد التكليف حرية الآخرين من أجلك وهم كثيرون، وقيد حريتك من أجل الآخرين وأنت واحد. إذن فيجب أن نذكر أن كل تكليف يعطي صلاحا وفلاحا، فالأرض تأخذ الحبة وتعطيك سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فلا تنظر إلى ما أخذه التكليف من حريتك، لأنه أخذ لك من حريات الآخرين أيضا. ولا تقل: إن التكليف قد نقص حركتي لنفسي، لأنه سيعطيك ثمرات أكثر مما أفقدك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1666 ويقول الحق من بعد ذلك: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1667 وهذا القول الحكيم ينهي عن اتباع الهوى الذي يؤدي إلى الفرقة. برغم وضوح آيات الحق سبحانه لهم، لأن لهؤلاء الذين يتبعون الهوى من بعد وضوح قضية الحق سيصليهم الله النار، ولهم عظيم العذاب. وبعد ذلك يقول الحق: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1667 وهنا يجب أن نعلم أن الاسوداد والابيضاض هما من آثار اختلاف البيئات في الدنيا، فالشخص الأسود يزيد الله في تكوينه عن الشخص الأبيض بما يناسب البيئة، لأن المادة الملونة للبشرة في جسده موجودة بقوة، لتعطيه اللون المناسب لمعايشة ظروف البيئة، أما أبيض البشرة فلا يملك جسده القدر الكافي من المادة الملونة، لأن بيئته لا تحتاج مثل هذه المادة الملونة. إذن فالسواد في الدنيا لصالح المسود، أما في هذه الآية، فهي تتحدث عما سوف نراه في الآخرة حيث يكون السواد والبياض مختلفين، تماما كما تتبدل الأرض غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1667 الأرض والسموات، غير السموات وكذلك يتبدل أمر السواد والبياض، إنه لن يكون سواداً أو بياضا من أجل البيئات. ولذلك ستتعجب يوم القيامة؛ لأنك قد ترى إنسان كان أسود في الدنيا، وتجده أبيض في الآخرة، وتجد إنسانا آخر كان لونه أبيض في الدنيا ثم صار أسود في الآخرة. فلا يظن ظان أن الإنسان الأسود في الدنيا مكروه من الله، لا، إن الله يعطي كل واحد ما يناسبه، بدليل أن الله قد أمده باللون الذي يقويه على البيئة التي يحيا فيها. وفي مجالنا البشرى، نحن نعطي المصل لأي إنسان مسافر إلى مكان ما، حتى نحميه من شر مرض في المكان الذي يذهب إليه، كذلك خَلْقُ الله في الأرض فقد أعطى سبحانه لكل إنسان في تكوينه المناعة التي تحفظه؛ فالله لا يكره السواد لأنه حماية للإنسان من البيئة. وهذه المسألة ستتبدل يوم القيامة كما تتبدل الأرض غير الأرض، وتبيض الوجوه المؤمنة، وتسود الوجوه الكافرة. أو أن البياض والسواد كليهما، أمر اعتباري، بدليل أنك ترى واحدا أبيض ولكن وجهه عليه غبرة ترهقه قترة، وترى واحداً آخر أسود اللون، ولكن نور اليقين يملأ وجهه، وبريق الصلاح يشع منه، وأنت لا تقدر أن تمنع عينيك من أن تديم النظر إليه، ولذلك قال الحق: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] أي أن ما في داخل النفس إنما ينضح على قالب الإنسان؛ وتظهره ملامحه، فقد يكون الأسود مضئ الوجه بالبشر والإشراق والتجلي بالجاذبية الآسرة، وقد يكون الإنسان أبيض الوجه لكنه مظلم الروح. وهكذا نفهم ان اسوداد بشرة إنسان في الدنيا، إنما هو لمساعدة الإنسان على التواؤم مع البيئة، ومثال ذلك سواد العين وبياضها، هل يستطيع أحد أن يقول: إن بياض العين أحسن من سوادها، أو العكس؟ . لا؛ لأن كل شيء معد لمهمته. ومثال آخر: عندما يأتي عامل البناء ليثني عمود الحديد المستقيم؛ ويلويه، فهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1668 يقال: إن هذا الإنسان قد عوج الحديد؟ . لا؛ إنه يريد أن يشكل عود الحديد ليكون صالحا لمهمة معينة. وكذلك الاسوداد أو الابيضاض في الدنيا، إنما أراده الله ليتناسب مع ظروف الحياة في البيئة، أما في الآخرة فالدنيا قد زالت وفنيت، والأرض لن تكون هي الأرض والسماء لن تكون هي السماء؛ فالحق يقول: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] فالمؤمن حين يرى ما أعده الله له من النعيم المقيم يقابل عطاء الله باستشراف نفس وسرور وانبساط، أما الذي يرى مقعده من النار فلا بد أن يكون مظلم الوجه. والحق سبحانه يوجه سؤالا لهؤلاء: {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أو كأن هذا أمر يُفاجئ من كان يعرف هؤلاء الناس في الدنيا؛ فقد رأوهم في الدنيا بيض الوجوه، ولكن يرونهم يوم القيامة وعلى وجوههم غبرة سوداء وترهقهم قترة، فيقولون لهم: {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ؟ . وكأن ذلك هو سمة من يكفر بعد الإيمان. هذه هي سمتهم وعلامتهم في الآخرة أي ما الذي صيركم إلى هذا اللون؟ إنه الكفر بعد الإيمان. فمن هم الذين كفروا بعد الإيمان؟ هذا يعني أن الإيمان قد سبق ثم طرأ على الإيمان كفر، وماتوا على ذلك الكفر، وهذا قول ينطبق على الذين ارتدوا عن الإسلام مثل ابن الأسلت وغيره، وهؤلاء كفروا بعد الإيمان. أو يكون {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يجعلنا نقول: البعدية هنا لا بد أن يكون لها قبلية: ألم يأخذ الله على خلقه عهدا في عالم الذر حين استخرجهم من ظهر آدم؟ وقال سبحانه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} إنه إقرار إيماني موجود في عالم الذّر، فمن جاء في الواقع لينقض هذه المسألة فقد كفر بعد إيمان. أو أكفرتم بعد إيمانكم بمحمد، بعد أن جاءتكم به البشارات التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1669 عرفتموها، وقرأتموها في التوراة والإنجيل، وقد تأكدتم أنه قادم لا محالة، وأنه رسول هذه الأمة وخاتم الرسل، وانطبق عليكم قول الحق: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89] إذن فهذا القول، إما أن يكون في المرتدين، وإما أن يكون الكفر في واقع الدنيا بعد الإيمان في عالم الذر عندما أخذ الله العهد على الناس جميعا، أو يكون الكفر بعد الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد جاءت به البشارات في التوراة والإنجيل، أو يكون ذلك من أهل الأهواء الذين أخذوا الدين وجعلوه شيعا، كالفرق التي خرجت عن الإسلام، وهي تدعى الانتساب إليه كالبهائية والقاديانية وغيرها. إن الآية تحتمل كل هذا، وعندما نمعن النظر إلى النص القرآني نجده يستوعب كل هذه المعاني. وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه أورد فقط: {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} وهذا قول يختص بالكفار فقط يذوقون العذاب بسبب الكفر، وذلك يعني أن المؤمن بإيمانه سينال ثواب عمله. يقول تعالى: {وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1670 ولنلاحظ دائما أن الله حين يبين جزاءً لمؤمن على إيمانه وطاعته فسبحانه يقول مرة: {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1670 ومرة أخرى يقول: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [النساء: 175] ما الفرق بين الاثنين؟ إن الناس في العبادة صنفان: منهم من يعبد الله ويريد نعيم الجنة، فيعطيه الله الجنة جزاء لعبادته ولعمله الصالح. وآخر يعبد الله؛ لأن الله يستحق العبادة ولا تمر الجنة على باله، وهذا ينال ذات الرحمة، إنه ينال لقاء وجه الله. وما الفرق بين الجنة والرحمة؟ إن الجنة مخلوقة لله، فهي باقية بإبقاء الله لها، ولكن الرحمة باقية ببقاء الله، وهذا ضمان كاف، فمن يرى الله فيه حسن العبادة لذاته - سبحانه - يضع الله في الرحمة. وقلنا من قبل: إن هناك جنة من الجنات اسمها «عليّون» ليس فيها متعة من المتع التي سمعنا عنها في الجنة، كلحم الطير وغير ذلك، وليس فيها إلا أن ترى الله. وما دام العبد لا يأكل عن جوع في الآخرة، فما الأفضل له، جنة المتع، أو متعة رؤية وجه الله؟ أتتمتع بالنعمة أم بالمنعم؟ لا جدال أن التمتع برؤية المنعم أرقى وأسمى من التمتع بالمتع الأخرى. والدقة الأدائية في القرآن توضح لنا أن الرحمة تكتنف هؤلاء العباد الصالحين، وتحيط بهم، إنهم ظرف للرحمة وداخلون فيها فلا تمسهم الرحمة فقط، ولكن تحيط بهم، وهم خالدون فيها، ويؤكدها الحق بظرفية جديدة بقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فكأن هناك رحمة يُدخل فيها العباد، ثم يطمئننا على أنها لا تُنزع منا أبدا. ف «فيها» الثانية للخلود، «وفي» الأولى للدخول في الرحمة. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1671 {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1672 إن آيات الله هي حججه وبراهينه وجزاءاته، فمن اسود وجهه يوم القيامة نال العذاب، ومن ابيض وجهه نال الرحمة وهو فيها خالد {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} ، فما الذي يجعل إنسانا لا يخبر بالحق؟ لا بد أن هناك داعيا عند ذلك الإنسان، فلأِنّ الحق يُتبعه، فهو يخبر بغير الحق. لكن هل هناك ما يتعب الخالق؟ لا؛ فسبحانه وتعالى منزه عن ذلك وعن كل نقص أو عيب إذن فلا بد ألاّ يقول إلا الحق، فلا شيء خارج عن ملكه بعد ذلك. يقول سبحانه: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} . إنه سبحانه ينفي الظلم عن نفسه كما قال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] والحق لا يريد الظلم على إطلاقه من نفسه ومنكم أنتم أيها العباد. وكيف يأتي الظلم؟ إن مظاهر الظلم هي - كما نعرف - أن تأخذ إنسانا بغير جرم. . هذا ظلم. أو ألا تعطي إنسانا مستوى إحسانه. . هذا ظلم. وماذا يفعل من يقوم بالظلم؟ إنه يريد أن يعود الأمر بالنفع له، فإن كان يريد أَخْذَ إنسانٍ بغير جرم فهو يفعل ذلك ليروي حقدا وغلا في نفسه، وقد يلفق لإنسان جرما؛ لأنه يرى أن هذا الإنسان قد يهدده في أي مصلحة من المصالح، وهو يعلم انحرافه فيها، فيعتقله مثلا، أو يضعه في السجن حتى لا يفضحه. إذن لا يمكن أن يذهب إنسان عن الحق إلى الظلم إلا وهو يريد أن يحقق منفعة أو يدفع عن نفسه ضررا، والله لن يحقق لذاته منفعة بظلم، أو يدفع ضررا يقع من خلقه عليه؛ إنه منزه عن ذلك؛ فهو القاهر فوق عباده. والحديث القدسي يقول: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي. وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1672 والظالم من البشر جاهل. لماذا؟ لأنه قَوَّى الذي ظلمه، ولم يضعفه، فالظالم يظلم ليضعف المظلوم أمامه، فنقول له: أنت غبي، قليل الذكاء؛ لأنك قويته على نفسك وفعلت عكس ما تريد. ولنوضحْ ذلك - ولله المثل الأعلى - نحن جميعا عيال الله، سننتقل إلى دائرة حياتنا اليومية ونرى عيالنا، إن الواحد منا عندما يكون له أولاد، وجاء ولد من الأولاد وظلم أخاه فَقَلْبُ الوالد يكون مع المظلوم، ويحاول الوالد أن يترضّى ابنه المظلوم. إذن فالولد الظالم ضر أخاه ضررا يناسب طفولته، ولكنه أعطاه نفعا يناسب قوة والده، إنه يجهل حقيقة تقويته لأخيه. وما دمنا جميعا عيال الله فماذا يفعل الله حين يرى سبحانه واحدا من خلقه يظلم آخر من خلقه؟ لا بد أن الحق سيشمل المظلوم برعايته، وهكذا يقوى الظالم المظلومَ، والظالم بذلك يعلن عن غبائه، فلو كان ذكيا، لم ظلم، ولضنّ على عدوه أن يظلمه، ولقال: إنه لا يستأهل أن أظلمه؛ لأنه عن طريق ظلمى له سيعطيه الله مكافأة كبرى، وهي أن يجعله في كنفه ورعايته مباشرة. وقد نجد واحدا يظلم من أجل نفع عاجل، وينسى هذا الإنسان أنه لن يشرد أبدا ممن خلقه. ونقول لمثل هذا الإنسان: أنت لن تشرد ممن خلقك، ولكنك شردت من المخلوق وداريت نفسك، وحاولت أن تحقق النفع العاجل لنفسك، لكن الخالق قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. وكأن الحق سبحانه يطمئننا بأن ننام ملء جفوننا لأنه سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم. {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} لأن الظلم لا ينشأ إلا عن إرادة نفعية بغير حق، أو إرادة الضرر بغير جرم، والله غني عن ذلك، ولذلك نجد الحق يؤكد غناه عن الخلق وأنه مالك للكون كله فيقول: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1673 إنه مالك الملك، كل شيء له وبه وملكه، وإليه يُرجع كل أمر. ونحن نعلم أن القرآن الكريم قد نزل من عند الله بقراءات متعددة وقد ورد وفي بعضها (تَرجِعُ الأمور) بفتح التاء بالبناء للفاعل، وفي قراءة أخرى: (ترجِعُ الأمور) بضم التاء بالبناء للمفعول، وكذلك (ترجعون) تأتي أيضا بضم التاء وفتحها، وكلها - كما قلنا - قراءات من عند الله. وعندما يقول الحق: {وَإِلَيْه ترْجَعُونَ} بفتح التاء فمعنى ذلك أننا نعود إليه مختارين؛ لأن المؤمن يُحبُّ ويرغب أنْ يصل إلى الآخرة، لأن عمله طيب في الدنيا، فكأنه يجري ويسارع إلى الآخرة، ومرة يقول تعالى: {وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ} بضم التاء. وهذا ينطبق على الكافر أو العاصي. إنّ كُلاًّ منهما يحاول ألا يذهب إلى الآخر، لكن المسألة ليست بإرادته، إنه مقهور على العودة إلى الآخرة ولذلك نجد التعبير القرآني: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] هناك من يدفعهم إلى النار دفعا. وفي حياتنا - ولله المثل الأعلى - نجد الشرطي يمسك بالمجرم من ملابسة ويدفعه إلى السجن. . ذلك هو الدع. وهكذا يكون قول الحق: {وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ} بضم التاء وفتح الجيم، أي أنه مدفوع بقوة قاهرة إلى النهاية. أما المؤمن الواثق فهو يهرول إلى آخرته مشتاقا لوجه ربه. وعندما تقرأ {وإلى الله تُرْجَعُ الأمور} . قد يقول قائل: ومتى خرجت الأمور منه حتى ترجع إليه؟ ونقول: حين خلق الله الدنيا، خلقها بقهر تسخيري لنفع الإنسان، وجعل فيها أشياء بالأسباب، فإن فعل الإنسان السبب فإنه يأخذ المسبب - بفتح الباء - المشددة، فالشمس تشرق علينا جميعا، والضوء والدفء والحرارة، هي - بأمر الله - للمؤمن والكافر معا، ولم يصدر الله لها أمرا أن تختص المؤمن وحده بمزاياها، والهواء لا يمر على المؤمن وحده، إنما يمر على المؤمن والكافر، وكذلك الماء، والأرض يزرعها الكافر فيأخذ منها الثمار، ويزرعها المؤمن كذلك. إذن ففي الكون أشياء تسخيرية، وهي التي لا تدخل فيها طاقة الإنسان، وهناك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1674 أشياء سببية، فإن فعلت السبب يأت لك المسبب، والله قد جعل الأسباب للمؤمن والكافر. وعندما يُمَلِّك الله بعض الخلق أسباب الخلق فهو القيوم فوق الجميع، لكن في الآخرة، فلا أسباب ولا مسببات؛ ولذلك يكون الأمر له وحده، اقرأوا جيدا: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] إنّ في الدنيا أناسا - بإرادة الله - تملك أسبابا، وتملك عبيدا، وتملك سلطانا؛ لأن الدنيا هي دنيا الأسباب. أما في الآخرة فلا مجال لذلك. لقد بدأت الدنيا بأسبابها مِنَّة منه، ورجعت مِنْهُ إليه {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} ومن يعتز بالسببية نقول له: كن أسير السببية لو كنت تستطيع. ومن يعتز بالقوة لأنها - ظاهرا - سبب للحركة، نقول له: احتفظ بقوتك إن كنت قادرا. ومن يعتز بالملك نقول له: لتحتفظ بالملك لو كنت تستطيع. ولا أحد بقادر على أَنْ يحتفظ بأي شيء، فكل شيء مرده إلى الله، وإن كان في ظاهر الأمر أن بعض الأشياء لك الآن، وفي الآخرة لله يكون كل أمر، ويرجع إليه كل شيء، لقد بدأت به، ورجعت إليه. ويقول الحق بعد ذلك: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1675 هذه الخيرية لها مواصفات وعناصر: {تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1675 وَتُؤْمِنُونَ بالله} . فإن تخلف عنصر من هذه العناصر، انحلت عنكم الخيرية، فالخيرية لكم بأشياء هي: أمر بالمعروف. نهى عن المنكر. إيمان بالله. وساعة تسمع كلمة «معروف» و «منكر» فإنك تجد أن اللفظ موضوع في المعنى الصحيح، ف «المعروف» هو ما يتعارف الناس عليه ويتفاخرون به، ويَسُرُّ كل إنسان أن يعرف الآخرون عنه. «والمنكر» هو الذي ينكره الناس ويخجلون منه، فمظاهر الخير يحب كل إنسان أن يعرفها الآخرون عنه، ومظاهر الشر ينكرها كل إنسان. إن مظاهر الخير محبوبة ومحمودة حتى عند المنحرف. فاللص نفسه عندما يوجد في مجلس لا يعرفه فيه أحد، ويسمع أن فلاناً قد سرق فإنه يعلن استنكاره لفعل اللص، إنه أمر منكر، حتى وإن كان هو يفعله. وهكذا تعرف أن «المعروف» و «المنكر» يخضعان لتقدير الفطرة. والفطرة السليمة تأتي للأمور الخيرة، وتجعلها متعارفا عليها بين الناس، وتنكر الفطرة السليمة الأمور المنكرة، حتى ممن يفعلها. ويورد الله مسألة الإيمان بالله من بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا؟ لأنه من الجائزة أن يوجد إنسان له صفات الأريحية والإنسانية ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويصنع الخير، ويقدم الصدقات، ويقيم مؤسسات رعاية للمحتاجين والعاجزين سواء كانت صحية أو اقتصادية، لكنه يفعل ذلك من زاوية نفسه الإنسانية، لا من زاوية منهج الله، فيكون كل ما يفعله حابطا ولا يُعتَرفُ له بشيء لأنه لم يفعل ذلك في إطار الإيمان بالله، ولذلك فلا تظن أن الذي يصنع الخير دون إيمان بالله؛ فالله يجازي من كان على الإيمان به، وأن يكون الله في بال العبد ساعة يصنع الخير. فمن صنع خيرا من أجل الشهامة والإنسانية والجاه والمركز والسمعة فإنه ينال جزاءه ممن عمل له، ومادام قد صنع ذلك من أجل أن يقال عنه ذلك فقد قيل، وهو ما يبيّنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: «إن أول الناس يُقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملتَ فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1676 ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت في سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقتُ فيها. قال: كذبت ولكنك فعلت ليُقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر فسحب على وجهه ثم أُلقي في النار» . إنه ينال جزاء عمله من قول الناس، لكن الله يجازي في الآخرة من كان الله في باله ساعة أن عمل. لذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} [فصلت: 33] إن المؤمن يفعل العمل الصالح، ويعلن أنه يفعل ذلك لأنه من المسلمين، إنه لا يفعل الخير، لأنه شيوعي، أو وجودي، أو إنساني إلخ، فمهما صنع إنسان من الخير، وترك الاعتراف بالله فخيانة الكفر تفسد كل عمل. لأنه جحد وأنكر خالقه وكفر به، والذي يعمل خيرا من أجل أحدٍ فلينل من هذا الأحد جزاء هذا العمل. وهنا في هذه الآية أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وإيمان بالله. ولكن ما الذي يجعلهم لا يؤمنون بالله وإن عملوا معروفا؟ إنه حرصهم على الجاه الزائف، فلمّا جاء الإسلام، ظن أهل الجاه في الديانات الأخرى أن الإسلام سيسلبهم الجاه والسلطة والمكانة والمنافع التي كانوا يحصلون عليها، وكان من حماقة بعضهم أن باعوا الجنة على الأرض وخافوا على المركز والجاه والمنافع، وكان ذلك من قلة الفطنة، فالحق يقول: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1677 فلو آمنوا لظل لهم الجاه والسلطة في ضوء الإيمان بالله، فلا تجارة بالدين، وكانوا سيحصلون على أجرهم مرتين، أجر في الدنيا، وأجر في الآخرة، أو أجر على إيمانهم بنبيهم، وأجر آخر لإيمانهم برسول الله، ولكن هل معنى هذا القول أن أهل الكتاب لم يؤمنوا؟ لا، إن بعضهم قد آمن، فالحق سبحانه وتعالى يؤرخ لهم تأريخا حقيقيا فيقول سبحانه: {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} وكان القياس أن يأتي وصف بعضهم بالإيمان، وأن يكون غيرهم من أبناء ملتهم كافرين، لأن الإيمان يقابله الكفر، لكن الحق يحدد المعنى المناسب لفعلهم فيقول: {وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} . إن الحق سبحانه وتعالى الذي يتكلم فيورد كل كلمة بمنتهى الدقة، فهناك فرق بين أن تكفر وليس عندك مقدمات الإيمان وأدلته، وأن تكفر وأنت تعرف مقدمات الإيمان كقراءة التوراة والإنجيل. لقد قرأ أهل الكتاب التوراة والإنجيل ورأوا الآيات البينات وعرفوا البشارات؛ لذلك فهم عندما كفروا برسول الله، فسقوا أيضا مع الكفر. إن الذي كفروا برسول الله من أهل الكتاب هم فاسقون حتى في كفرهم، لأن مقتضى معرفتهم للبشارات والآيات أن يعلنوا الإيمان برسالة رسول الله، فالواحد منهم ليس كافرا عاديا، بل هو فاسق حتى في الكفر؛ لأنه عرف الحق، ثم خرج وفسق عنه. وما دام الحق قد قال: {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} إذن ماذا يفعل المؤمن منهم مع الفاسق؟ سيتربص الفاسقون وهم الأكثرية في اليهودية والنصرانية بالأقلية المؤمنة ليوقعوا بهم الأذى والضرر، ويقول الحق سبحانه: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1678 لكن الحق سبحانه يطمئن هذه الأقلية من إضرار الأكثرية بهم فيقول: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} . أي يا أيتها الأقلية التي آمنت من أهل الكتاب - مثل عبد الله بن سلام الذي أسلُم وترك اليهودية - إياكم أن تظنوا أن الأكثرية الفاسقة قادرة على إنزال العذاب بكم؛ فالحق - سبحانه - يعلن أن محاولة الأكثرية لإنزال الضرر بالأقلية التي آمنت منهم لن يتجاوز الأذى. ما هو الضرر؟ وما هو الأذى؟ إن الأذى هو الحدث الذي يؤلم ساعة وقوعه ثم ينتهي، أما الضرر فهو أذى يؤلم وقت وقوعه، وتكون له آثار من بعد ذلك، فعندما يصفع الإنسان إنسانا آخر صفعة بسيطة فالصفعة البسيطة تؤلم، وألمها يذهب مباشرة، لكن إذا كانت الصفعة قوية وتتسبب في كدمات وتورم فهذا هو الضرر. إذن فالأذى يؤلم ساعة يُباشر الفعل فقط، وقد يكون الأذى بالكلمة كالاستهزاء، فالفاسق قد يستهزئ بالذي آمن، فينطق بكلمة الكفر أو الفُجْر، هذه الكلمة ليس لها ضرر في ذات المؤمن ولكنها تؤذي سمعه. إن الحق سبحانه يطمئن المؤمنين على أن أهل الكفر لن يضروا المؤمنين إلا الأذى، وهذا أقصى ما في استطاعتهم، وليس لهذا الأذى أثر. إذن فقول الحق: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} يعني أنهم لن يستطيعوا أن ينالوا منكم أبدا اللهم إلا الاستهزاء أو الغمز واللمز، أو إشارة بحركة تؤذي شعور المؤمن، أو تمجد الكفر، وتعظمه أو ينطق كلمة عهر أو فجر لا يوافق عليها الدين، هذا أقصى ما يستطيعه أهل الفسق، وهم لا يملكون الضرر لأهل الإيمان. وبعد ذلك نرى أن واقع الأمر قد سار على هذا المنوال مع الدعوة المحمدية ومع جنود سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد أطلقها الله كلمة: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} فصارت الكلمة قانونا. فقد وقعت الوقائع بين جند رسول الله وأهل الفسق، وثبت أن أهل الفسق لم يستطيعوا ضرر أهل الإيمان إلا أذى. ولننظر إلى ما حدث لبني قينقاع، ولما حدث لبني قريظة، ولما حدث لبني النضير، ولما حدث ليهود خيبر، هل ضروا المؤمنين إلا أذى؟ لقد قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوما أغرارا لا علم لهم بالحرب فانتصرت عليهم، فإذا أنت حاربتنا فستعرف مَن الرجال. وكان ذلك مجرد كلام باللسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1679 إن التاريخ يحمل لنا ما حدث لهم جميعا، لقد هزمهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وبعد هذا أرادوا أن يرتفعوا عن الأذى إلى الضرر الحقيقي فلم يمكنهم الله؛ لأن الحق يقول: {وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} ، فإن أراد أهل الفسق أن يُصَعِّدوا الأذى للمؤمنين ليوقعوا ضررا حقيقيا، فإن الكافرين يولون الأدبار أمام المؤمنين، فهزيمتهم أمر لا مناص منه. ونحن نعرف في اللغة أن هناك ما نسميه «الشرط» وما نسميه «الجواب» ف «إنْ» حرف شرط تجزم فعل الشرط وجوابه فإنْ كان الفعل من الأفعال الخمسة فإنّنا نحذف النون، لذلك نجد القول الحق: {وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار} . إن {يُقَاتِلُوكُمْ} فعل شرط محذوفه منه النون. و {يُوَلُّوكُمُ الأدبار} أصلها يولونكم الأدبار. وهي جواب شرط حذفت منه النون، وعندما يأتي العطف بعد ذلك، فهل يكون بالرفع أو الجزم؟ إن العادة أن يكون العطف بالجزم!! لكن الحق يعطف بالرفع فيأتي قوله: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} . إنها كسرة إِعْرَابِيّة تجعل الذهن العربي يلتفت إلى أن هناك أمرا جللا، لأن المتكلم هو الله سبحانه. كيف جاءت «النون» ؟ هنا نقف وقفة فَلننطق الآية ككلام البشر: إن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصروا. وهذا القول يكون تأريخا لمعركة واحدة، لكن ما الذي سوف يحدث من بعد ذلك؟ ماذا يحدث عندما يقاتل المؤمنون أهل الكفر والفسق؟ وتكون الإجابة هي: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} إن هذا القول الحكيم يحمل قضية بعيدة عن الشرط والجزاء، إنها حكم من الله على أهل الفسق بأنهم لا يُنصرون أبدا سواء أقاتلوا أن لم يقاتلوا إنها قضية ثابتة منفصلة، وليست معطوفة على الشرط، فعلة عدم النصر، ليست القتال، ولكنها الكفر. وإذا دققنا الفهم في العبارة حروفا - بعد أن دققنا فيها الفهم جملا - لوجدنا معنى جديدا، فقد يظن إنسان أن القول كان يفترض أن يتأتى على نحو مغاير، هو «يولوكم الأدبار فلا ينصرون» لأن الذي يأتي بعد ال «فاء» يعطي أنهم لا ينتصرون عليكم في بداية عهدكم، وهذا ما تفيده الفاء لأنها للترتيب والتعقيب. لكن الحق أورد حرف «ثم» وهو يفيد التراخي، وهذا يعني أنهم لا ينتصرون عليكم أيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1680 المؤمنون حتى لو استعدوا بعد فترة لمعركة يَرُدُّن بها على توليهم الأدبار. إنه حكم تأبيدي، لأن «ثم» تأتي للتعقيب مع التراخي، والفاء تأتي للتعقيب المباشر بدون تراخ. لذلك فعندما نقرأ القرآن نجد وضع الفاء كالآتي: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] لأن دخول القبر يكون بعد الموت مباشرة، وبعدها يقول الحق: {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 22] فإذا كان هناك تعقيب بعد مدّة زمنية فالحق يأتي ب «ثم» وإذا كان هناك تعقيب فوري بلا مدة يأتي الحق ب «ف» . والتعقيب في الآية التي نتناولها يأتي بعد «ثم» ، وكأن هذا حكم مستمر من الحق بأن أهل الفسق لن ينتصروا على أهل الإيمان، ولم بعد انتهاء المعركة القائمة الآن بينهم، إنها هزيمة بحكم نهائي، هذا هو القول الفصل: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} وهو أشد وقعا مما لو جاء «لاَ ينتصرون» لماذا؟ لأن من الممكن ألاّ ينتصر أهل الكفر بذواتهم، ولكن الإيضاح يؤكد أنهم - أهل الكفر - لا ينتصرون لا بذواتهم، ولا يُنصرون بغيرهم أيضا. إن {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} قضية دائمة فليست المسألة مقصورة على عهد رسول الله فقط، ولكنها ستظل إلى أبد الآبدين. ومن السطحية في الفهم أن نقول: إن الآية كانت تتطلب أن يكون القول «ثُمَّ لاَ يُنصَرُوا» لأن الاعراب يقتضي ذلك. لكن المعنى اللائق بالمتكلم وهو الحق سبحانه وتعالى الذي يعطي الضمان والاطمئنان للأمة المسلمة أمام خصومها لا بد أن يقول: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} وهي أكثر دقة حتى من «لاَ ينتصرون» لأن «ينتصرون» فيها مدخلية الأسباب منهم، أما {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} فهي تعني أن لا نصر لهم أبداً، حتى وإن تعصب لأهل الفسق قوم غيرهم وحاولوا أن ينصروهم فلن يستطيعوا ذلك. فإن رأيتم - أيها المسلمون - نصرا للكافرين عليكم منهم أو بتعصب قوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1681 لهم فاعلموا أنكم دخلتم معهم على غير منهج الله. وقد يأتي إنسان ويقول: كيف ينتصر علينا اليهود ونحن مسلمون؟ ونقول: هل نحن نتبع الآن منهج وروح الإسلام؟ وماذا عندنا من الإسلام ومن الإيمان؟ هل تحسب نفسك على ربك أثناء هزيمتك؟ وهل دخلت معركتك كمعركة إسلامية؟ لا، لقد انتبهنا إلى كل شيء إلاّ الإسلام. قدمنا الانتماء لعصبية وقومية وعرقية على الإيمان فكيف نطلب نصرا من الله؟ لا يحق لنا أن نطلب نصرة لله إلا إذا دخلنا المعركة ونحن من جند الله. والهزيمة تحدث عندما لا نكون جنداً لله؛ لأن الله ضمن النصر والغلبة لجنوده فقال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] فإذا لم نغلب فتأكدوا أننا لسنا من جنود الله. . ويقول الحق من بعد ذلك: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وَبَآءُوا ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1682 ونحن نستخدم كلمة «ضرب» في النقود، عندما نقول: ضرب هذا الجنيه في مصر، ومعنى ذلك أن الصانع يقوم بصنع قالب من مادة اكثر صلابة، من المادة التي يصنع منها النقد ويرسم فيها الحفريات التي تبزر الكتاب والصور على وجهي الجنيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1682 ثم يصب المادة في ذلك القالَب، وتخضع للقالب فتبرز الكتابة والصور، ولا تتأبي المادة على القالب. كأن «ضُرب» معناها «أُلزم» بالبناء للمجهول فيهما، وكأن المادة المصنوعة تَلْزَمُ القالبَ الذي تصب فيه ولا تتأبى عليه ولا يمكن أن تتشكل إلاّ به. إذن فالضرب معناه الإلزام والقسر على الفعل. وعندما يقول الحق: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} أي لزمتهم الذلة لا يستطيعون الانفكاك عنها أبدا، كما لا يستطيع المعدن المضروب نقدا أن ينفك عن القالب الذي صك عليه، وكأن الذلة قبة ضربت عليهم، وقالب لهم، وقول الحق: {أَيْنَ مَا ثقفوا} تفيد أنهم أذلاء أينما وُجدوا في أي مكان. ولكن هناك استثناء لذلك، ما هو؟ إنه قول الحق: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس} إنهم لا يعانون من الذلة في حالة وجود عهدٍ من الله أو عهد من أناس أقوياء أن يقدموا لهم الحماية: فلما كانوا في عهد الله أولاً وعهد رسوله ساعة دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة وأعطاهم العهد، فكانوا آمنين، ولما خانوا العهد، ولم يُوفوا به؛ ماذا حدث؟ ضُربت عليهم الذلة مرة أخرى. إذن لقد كانوا في عهد الله آمنين لكنهم خانوا العهد، وانقطع حبل الله عنهم، فهيجوا الهيجة التي عرفناها ونزل بهم ما نزل، وهو ما حدث لبني قينقاع ولبني النضير وبني قريظة ويهود خبير. إذن فهم قبل ذلك كانوا في عهد مع الله. وأنتم تعرفون أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أول ما نزل المدينة بني المسجد وعقد العهد بينه وبين اليهود وعاشوا في اطمئنان إلى أن خانوا العهد، فضربت عليهم الذلة. وطُردوا من المدينة، كما يقول الحق: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس} . لقد أخذوا العهد من الله من خلال من له الولاية على الناس، فالرسول في عهده كان قائما على أمر المسلمين، وكذلك يكون الأمر معهم في ظل القائمين على أمر الإسلام، ويحدث هذا عندما تسير الأمور بمنهج الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1683 أما عن حبل الناس فذلك لأنهم لا يملكون أي عزة ذاتية، إنهم دائما في ذلة إلا أن يبتغوا العزة من جانب عهد وحبل من الله، أو من جانب حماية من الناس. ونحن نراهم على هذا الحال في حياتنا المعاصرة، لا بد لهم من العيش في كنف أحد؛ لذلك فعندما حاربنا «إسرائيل» في حرب أكتوبر، انتصرنا عليهم إلى أن تدخلت أمريكا بثقلها العسكري. فقال رئيس الدولة المصري: «لا جَلْدَ لي أن أحارب أمريكا» . إذن لو كانت الحرب بيننا وبينهم فقط لا نتهت قوتهم؛ فهم بلا عزة ذاتية، وتكون لهم عزة لو كانوا في جانب حبل من الله، أو حبل من الناس. يقول الحق سبحانه عنهم من بعد ذلك: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة} ولنا أن نلاحظ أن الذلة له استثناء، فهم ينالون العزة لو كانوا بجانب حبل من الله أو حبل من الناس، أما المسكنة، فلا استثناء فيها، وقد قال الحق عنهم في موضع آخر في القرآن الكريم: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [البقرة: 61] لأن المسكنة أمر ذاتي في النفس، إنهم مساكين بأمر من الله، أما الذلة فقد يأتي لهم من نيصرهم ويقف بجانبهم؛ فالذلة أمر من خارج، أما المسكنة فهي في ذاتيتهم، وعندما تكون المسكنة ذاتية، فلا إنقاذ لهم منها؛ لأنه لا حبل من الله يأتيهم فينجيهم منها، ولا حبل من الناس يعصمهم من آثارها. ويقول الحق: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} وهل رأى أحد منا غضبا أكبر من أن الحق قد قطعهم في الأرض؟ ولنقرأ قول الله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً} [الأعراف: 168] المكان الوحيد الذي آواهم في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الجزيرة العربية في يثرب، واستقروا قليلا، وصارت لهم سيادة علمية؛ لأنهم أهل كتاب، وصارت لهم سيادة اقتصادية، وكذلك سيادة حربية، وهذا المكان الذي أواهم من الشتات في الأرض هو المكان نفسه الذي تمردوا عليه. لقد كان السبب الذي من أجله قد جاءوا إلى يثرب هو ما كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة؛ ففي التوراة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1684 جاء ما يفيد أن نبيا سيأتي في هذا المكان ولا بد أن يتبعوه كالميثاق الذي قلنا عليه من قبل: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] وهذا الميثاق يقضي بأن يتولى الرسل بلاغ الأمم التي بُعِثوا إليها، وأن يُبلغ أهلُ الإيمان القادمين من بعدهم بأن هناك رسولا قادما من عند الله بالمنهج الكامل. - واليهود - لم يأتوا إلى يثرب إلا على أمل أن يتلقفوا النبي المنتظر ليؤمنوا به، ومن بعد ذلك يكونون حربا على الكافرين بالله، لكن ما الذي حدث؟ إنه سبحانه يخبرنا بما حدث منهم في قوله: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] فماذا بعد أن باءوا بغضب من الله. وبعد أن ختم الله قالبهم بالمسكنة؟ وما السبب؟ تكون الإجابة من الحق سبحانه: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ} لقد أرسل الله لهم آيات عجيبة ولكنهم كفروا بها، تلك الآيات التي جاءنا ذكر منها في قوله الحق: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] كثير من الآيات أرسلها الحق لبني إسرائيل، منها ما جاء في قوله الحق: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1685 ولكنهم تولوا عن الإيمان وأمامهم ضرب موسى عليه السلام الحجر بالعصا فانفجرت منه عيون المياه ليشربوا. {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] وبرغم ذلك فقد قاموا بقتل الأنبياء بغير حق. وادعوا الكذب على أنبيائهم وقتلوهم، وفي شأنهم يقول الحق: {ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} كَاَنَ العصيانُ سبباً لأن تُضرب عليهم الذلة، وأن يبوءوا بغضب من الله، وأن تُضرب عليهم المسكنة، وكل ذلك ناشئ من فعلهم. وهناك فرق بين أن يبدأهم الله بفعل، وبين أن يعاقبهم الله على فعل، وحتى نفهم ذلك فلنقرأ قوله الحق: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً} [النساء: 160] لقد حرم الله عليهم الطيبات بظلم منهم لأنفسهم، لأن معنى تحريم الطيبات أن الله حرمهم متعة في طيب، وذلك لأنهم استحلوا متعة في غير طيب؛ لأن مرادات الشارع تأتي على عكس مرادات الخارجين عن أمر الشارع. وكما قلنا من قبل: إنّ الحق سبحانه وتعالى يؤرخ للحق وللواقع ولا يشملهم كلهم بحديث يجمعهم جميعا، فقد كان منهم أناس تراودهم فكرة الإيمان بالرسول، وفكرة الإيمان بالقرآن، ومنهم من آمن فعلا؛ لذلك كان من عدل الله أن يفصل بين الذين يفكرون في الإيمان والمصرين على الكفر. لذلك يقول سبحانه: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله ... .} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1686 وهذا ما حدث بالفعل، لكن أي آيات لله كانوا يتلونها؟ إنها الآيات المهيمنة، آيات القرآن ولماذا يقول الحق: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} وهل هناك قراءة للقرآن ساعة السجود؟ حتى نعرف تفسير ذلك لا بد لنا أن نعرف أن اليهود لا يصلون العتمة، أي الصلاة في الليل، وحتى يعطيهم الله السمة الإسلامية قال عنهم: {يَسْجُدُونَ} ويُعَرّفَهم بأنهم يقيمون صلاة العتمة، - العشاء - وهي صلاة المسلمين، وما داموا يصلون صلوات المسلمين ويسجدون، إذن فهم مسلمون أو نفهم من قوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أن الصلاة عنوان الخضوع، والسجود أقوى سمات الخضوع في الصلاة. ما داموا يصلون فلا بد أنهم يتلون آيات الله آناء الليل وهم يؤدون الصلاة بخشوع كامل. ونعرف أن من حسن العبادة في الإسلام، ومن السنن المعروفة قراءة القرآن ليلا، وصلاة التهجد، وهذه في مدارج العملية الإيمانية التي يدخل بها الإنسان إلى مقام الإحسان. و {آنَآءَ} جمع «إني» مثلها مثلٍ «أمعاء» جمع «معي» . و «آنَآءَ» هي مجموع الأوقات في الليل، وليست في «إني» واحد. فهناك مؤمن يقرأ القرآن في وقت من الليل، ومؤمن آخر يقرأ القرآن في وقت آخر، وكأن المؤمنين يقطعون الليل في قراءة للقرآن، والذي يدخل مع ربه في مقام الإحسان، فهو لا يصلي فقط صلاة العتمة وهي ستأخذ «إنِّي» واحدا، أي وقتا واحدا، ولكنه عندما يصلي في آناء الليل فذلك دليل على أنه يكرر الصلاة، وزاد عن المفترض عليه، وما دام قد زاد عن المفترض، فهو لا يكتفي بتلاوة القرآن لأنه يريد أن يدخل في مقام الإحسان، أي أنه وجد ربه أهلا لأن يصلي له أكثر مما افترض عليه، كأنه قد قال لنفسه: أنت كلفتني يارب بخمس صلوات لكنك يارب تستحق أكثر من ذلك وكأن هذا البعض من أهل الكتاب لم يكتفوا بإعلان الإيمان بالإسلام فقط، ولكنهم دخلوا بثقلهم، فصلوا آناء الليل. وأحبوا أن ينطبق عليهم قول الله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15 - 16] ما معنى «محسن» ؟ إنها وصف للإنسان الذي آمن بربه فعبد الله بأكثر مما افترض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1687 تعبدنا الله بخمس صلوات فنزيدها لتصل إلى عشرين مَثَلاً، ونحن تعبدنا الله بصيام شهر في العام ومنا من يصوم في كل شهر عددا من الأيام. العام ومنا من يصوم في كل شهر عددا من الأيام. وتعبدنا بالزكاة بالنصاب، ومنا من يزيد على النصاب، وتعبدنا سبحانه بالحج مرة، ومنا من يزيد عدد مرات الحج. فحين يريد العبد أن يدخل في مقام الإحسان فبابه هو أداء عبادات من جنس ما تعبده الله به؛ فالعبد لا يخترع أو يقترح العبادة التي يعبد بها الله، ولكنه يزيد فيما افترضه الله. وهؤلاء الذين آمنوا بالله من أهل الكتاب ويتحدث عنهم القرآن، لقد دخلوا بثقلهم في الإسلام فصلوا آناء الليل وقرءوا القرآن، ودخلوا مقام الإحسان، وأرادوا أن يطبقوا القول الحق: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] أي أنهم ما داموا قد صلوا في الليل، وقليلا ما هجعوا فلا بد أنهم قد أدوا الصلاة في آناء كثيرة من الليل. ونحن حين ندخل في مقام الإحسان ونصلي في الليل، ونكون بارزين إلى السماء فلا يفصلنا شيء عنها، وننظر فنجد نجوما لامعة تحت السماء الدنيا، وأهل السماء ينظرون للأرض فيجدون مثلما نجد من النجوم المتلألئة اللامعة في الأرض، ويسألون عنها فيقال لهم: إنها البيوت التي يصلي أهلها آناء الليل وهم يسجدون، وكل بيت فيه هذا يضيء كالنجوم لأهل السماء. ويضيف الحق في صفات هؤلاء: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وهل فرض الله على خلقه بأن يصلوا آناء الليل فلا يهجعون إلا قليلا من الليل؟ لا، ولكن من يريد أن يدخل في مقام الإحسان، فهو يفعل ذلك. أما المسلم العادي فيكتفي بصلاة العشاء، وعندما يأتي الصبح فهو يؤدي الفريضة. لكن من يدخل في مقام الإحسان فقليلا من الليل ما يهجع. وينطبق عليه القول الحق: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 15 - 19] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1688 وهذه دقة البيان القرآني التي توضح مقام الإحسان، فيكون في ما لهم حق للسائل والمحروم، وليس هناك قدر معلوم للمال الذي يخرج، لأن المقام هنا مقام الإحسان الذي يعلو مقام الإيمان، ومقام الإيمان - كما نعرف - قد جاء ذكره في قوله الحق: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين} [المعارج: 24 - 26] فالإنسان في مقام الإيمان قد يقيد الإخراج من ماله بحدود الزكاة أو فوقها قليلا، لكن في مقام الإحسان فلا حدود لما يخرج من المال. وهكذا نعرف أن أهل الكتاب ليسوا سواء؛ فمنهم من دخل الإسلام من باب الإحسان، فقال فيهم الحق: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} ، وكأن الحق بهذا الاستثناء الواضح. ويؤكد لنا أننا لا يصح أن نظن أن أهل الكتاب جميعهم هم الذين جاء فيهم قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} لا؛ فأهل الكتاب ليسوا سواء، ولذلك لا يكون حكم الله منسحبا عليهم جميعا، فمن أهل الكتاب جماعة قائمة بتلاوة القرآن آناء الليل وهم يسجدون، إنهم أمة قائمة، وكلمة «قائم» هي ضد «قاعد» ، والقعود غير الجلوس، فالجلوس يكون عن الاضطجاع فيقال: كان مضطجعا فجلس. لكن عندما نقول: «كان قائما» فإننا نقول فقعد، فالقعود يكون بعد القيام. والقعود في الصلاة مريح، أما القيام فهو غير مريح، ونحن نعرف أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقف في الصلاة حتى تتورم قدماه؛ لأن الثقل كله على القدمين، ولكن عندما نقعد فنحن نوزع الثقل على جملة أعضاء الجسم. وعندما يصفهم الحق: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} فمعنى ذلك أنهم أخذوا أمانة أداء الفروض بكل إخلاص، وكانوا يؤدون الصلاة باستدامة وخشوع. ويستمر الحق في وصفهم في الآية التالية: {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1689 وهم بالإيمان بالله واليوم الآخر، وبالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إنما يتصفون بالصفات التي أوردها الله صفة لخير أمة أٌخرجت للناس وهي أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد دخل هذا البعض من أهل الكتاب بثقلهم - ومن أول الأمر - في مقام الإحسان، وما داموا قد دخلوا في مقام الإحسان فهم بحق كانوا مستشرفين لظهور النبي الجديد. وبمجرد أن جاء النبي الجديد تلقفوا الخيط وآمنوا برسالته، وصاروا من خير أمة أخرجت للناس. ويكمل الحق سبحانه صفاتهم بقوله: {وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات} وهذا كمثل قوله سبحانه وتعالى في حق المؤمنين: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ونحن نعرف أن هناك فرقا بين «السرعة» و «العجلة» ف «السرعة» و «العجلة» يلتقيان في تقليل الزمن بالنسبة للحدث، ومثال ذلك أن يقطع إنسان المسافة من مكان إلى مكان في زمن معين، والذي يسرع في قطع المسافة هو الذي يستغرق من الزمن أقل وقت ممكن ولكن هناك اختلاف بين السرعة والعجلة، وأول خلاف بينهما يتضح في المقابل، فمقابل السرعة الإبطاء، ويقال: فلان أسرع، وعلان أبطأ ومقابل «العجلة» هو «الأناة» فيقال: فلان تأنى في اتخاذ القرار. فالسرعة ممدوحة ومقابلها وهو «الإبطاء» مذموم، «والعجلة» مذمومة، ومقابلها هو التأني ممدوح؛ لأن السرعة هي التقدم فيما ينبغي التقدم فيه، والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي التقدم فيه، ولذلك قيل في الأمثال: «في العجلة الندامة وفي التأني السلامة» وقال الحق: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1690 وهو سبحانه: هنا يقول {وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات} أي كلما لمحت لهم بارقة في الخير فهم يسرعون إليها، أي أنهم يتقدمون فيما ينبغي التقدم فيه، إنهم يعلمون أن الإسراع إلى الخير حدث، وكل حدث يقتضي حركة، والحركة تقتضي متحركا والمتحرك يقتضي حياة، فما الذي يضمن للإنسان أن تظل له حياة، لذلك يجب أن تسرع إلى الخيرات، وسيدنا عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه كان ينام القيلولة، وكان حاجبه يمنع الناس من إيقاظ الخليفة، فجاء ابن عمر بن عبد العزيز وقال للحاجب: أريد أن أدخل على أمير المؤمنين الساعة، فمنعه الحاجب قائلا: إنها ساعة يستريح فيها وهو لا يستريح من الليل أو النهار إلاّ فيها، فدعه ليستريح. وسمع سيدنا عمر بن عبد العزيز الضجة، فسأل الحاجب. قال الحاجب: إنه ابنك، ويريد أن يدخل عليك وأنا أطالبه ألا يدخل حتى تستريح. قال عمر بن عبد العزيز للحاجب: دعه يدخل. فلما دخل الابن على أبيه، قال الابن: يا أبي بلغني أنك ستخرج ضيعة كذا لتقفها في سبيل الله. قال عمر بن عبد العزيز؛ أفعل إن شاء الله. غدا نبرمها. قال الابن متسائلا: هل يبقيك الله إلى غد؟ فقال عمر بن عبد العزيز وهو يبكي: الحمد لله الذي جعل من أولادي من يعينني على الخير. لقد أراد الابن من أبيه أن يسارع إلى الخير، فما دامت هبة الخير قد هبَّت عليه فعلى الإنسان أن يأخذ بها؛ لأن الإنسان لا يدري أغيار الأحداث في نفسه، لذلك فعليه أن يسارع إلى اقتناص هبة الخير، وها هو ذا ابن عمر بن عبد العزيز يعين والده على الخير، لكننا في زمننا قد نجد من الأبناء من يطلب الحَجْر على أبيه إن فكر الأب في فعل الخير، متناسين قول الحق: {وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين} . وهنا يبرز سؤال هو: لأي عمل هم صالحون؟ والإجابة تقتضي قليلا من التأمل، إننا نقول في حياتنا: «إن فلانا رجل صالح» ومقابله «رجل طالح» . والإنسان صالح للخلافة، فقد جعل الله آدم وذريته خلفاء في الأرض، والرجل الصالح يرى الشيء الصالح في ذاته فيترك هذا الشيء على ما هو عليه أو يزيده صلاحا. أما الرجل الطالح أو المفسد فهو يأتي إلى الشيء الصالح فيفسده، ولا يفعل صلاحا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1691 إن الرجل - على سبيل المثال - قد يجد بئرا يأخذ منه الناس الماء، فإن لم يكن من أهل العزم فإنه يتركه على حاله. وإن كان طالحا فقد يردم البئر بالتراب. أما إن كان الرجل من أهل الصلاح والعزم فهو يحاول أن يبدع في خدمة الناس التي تستقي من البئر، فيفكر ليبني خزانا عاليا ويسحب الماء من البئر بآلة رافعة، ويخرج من الخزان أنابيب ويمدها إلى البيوت، فيأخذ الناس المياه وهم في المنازل، إن هذا الرجل قد استخدم فكره في زيادة صلاح البئر. إذن فكلمة «رجل صالح» تعني أنه صالح لأن يكون خليفة في الأرض وصالح لاستعمار الأرض أي أن يجعلها عامرة، فيترك الصالح في ذاته، أو يزيده صالحا، ويحاول أن يصلح أي أمر غير صالح. الرجل الصالح عندما يعمل فهو يحاول أن يجعل عمله عن عمق علم، فلا يقدم على العمل الذي يعطي سطحية نفع ثم يسبب الضرر من بعد ذلك. ومثال ذلك حين اخترعوا المبيدات الحشرية ظنوا أنهم تغلبوا على الآفات في الزراعة، لكنهم لم يعرفوا أنهم قد أضروا بالزراعة وبالبيئة أكثر مما أفادوا، لذلك عادوا يقولون: لا تستعملوا هذه المبيدات؛ لأنها ذات أضرار جمة، ولهذا لا بد أن يكون كل عمل قائما على قواعد علمية سليمة، ولنقرأ قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] وقوله سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 104] إذن فقد كرم الله من آمن من أهل الكتاب فوصفهم الوصف الحقيقي، فهم يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، ويؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات، ثم يحكم الحق عليهم حكما عاما بأنهم من الصالحين لعمارة الكون والخلافة في الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1692 ومن بعد ذلك يضيف الحق: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ والله عَلِيمٌ بالمتقين} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1693 إنه سبحانه يعطيهم الجزاء العادل، وإن شيئا لا يضيع عنده وهو الحق؛ فالخير الذي يفعلونه لن يُجحد لهم أو يستر عن الناس؛ لأنه سبحانه عليم بالمتقين، فمن الجائز أن يصنع إنسان الأعمال ولا يراها أحد، أما الحق فهو يرى كل عمل، وهو الذي يملك حسن الجزاء. وبعد ذلك يعود الحق لتبيان حال الذين كفروا فيقول: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1693 يظن الكافرون أن الأموال والأولاد قد تغني من الله، إنهم لا يحسنون التقدير، فالأموال والأولاد هما من مظان الفتنة مصداقا لقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28] وما دامت الأموال والأولاد فتنة فلا بد أن نفهم الأمر على حقيقته؛ فالفتنة ليست مذمومة في ذاتها؛ لأن معناها اختبار وامتحان، وقد يمر الإنسان بالفتنة، وينجح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1693 كأن يكون عنده الأموال والأولاد، وهم فتنة بالفعل فلا يغره المال بل إنه استعمله في الخير، والأولاد لم يصيبوه بالغرور بل علمهم حمل منهج الله وجعلهم ينشأون على النماذج السلوكية في الدين، لذلك فساعة يسمع الإنسان أي أمر فيه فتنة فلا يظن أنها أمر سيء بل عليه أن يتذكر أن الفتنة هي اختبار وابتلاء وامتحان، وعلى الإنسان أن ينجح مع هذه الفتنة؛ فالفتنة إنما تضر من يخفق ويضعف عند مواجهتها. والكافرون لا ينجحون في فتنة الأموال والأولاد، بل سوف يأتي يوم لا يملكون فيه هذا المال، ولا أولئك الأولاد، وحتى إن ملكوا المال فلن يشتروا به في الآخرة شيئا، وسيكون كل واحد من أولادهم مشغولا بنفسه، مصداقا لقول الحق: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} [لقمان: 33] إن كل امرئ له يوم القيامة شأن يلهيه عن الآخرين، والكافرون في الدنيا مشغولون بأموالهم وأولادهم وعندما نتأمل قوله: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} نجد أننا نقول: أغناه عن كذا أي جعله في استغناء فمن هو الغَنيُّ إذن؟ الغني هو من تكون له ذاتية غير محتاجة إلى غيره، فإن كان جائعا فهو لا يأَكل من يد الغير، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «ليس الغني عن كثرة العرض، ولكن الغني غنى النفس» . والمقصود بالعَرَض هو متاع الحياة الدنيا قلّ أو كثر، ومتاع، وعرض الدنيا كالماء المالح، كلما شربت منه ازددت ظمأ. إن الكافر من هؤلاء يخدع نفسه ويغشها، ويغتر بالمال والأولاد وينسى أن الحياة تسير بأمر من يملك الملك كله، إن الكافر يأخذ مسألة الحياة في غير موقعها، فالغرور بالمال والأولاد في الحياة أمر خادع، فالإنسان يستطيع أن يعيش الحياة بلا مال أو أولاد. ومن يغتر بالمال أو الأولاد في الحياة يأتي يوم القيامة ويجد أمواله وأولاده حسرة عليه لماذا؟ لأنه كلما تذكر أن المال والأولاد أبعداه عما يؤهله لهذا الموقف فهو يعاني من الأسى ويقع في الحسرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1694 ويقول الحق سبحانه عن هذا المغتر بالمال والأولاد وهو كافر بالله: {وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وهذا مصير يليق بمن يقع في خديعة نفسه بالمال أو الأولاد. وكيف يكون الإنسان صاحباً للنار؟ لنعرف أولا معنى كلمة «الصاحب» ، إن الصاحب هو الملازم؛ فنحن نقول: فلان صاحب فلان أي ملازمه، لكن من أين تبدأ الصحبة؟ . إن الذي يبدأ الصحبة هو «فلان» الأول، ل «فلان الثاني» الذي يقبل الصحبة أو يرفضها، وهذا أمر قد نعرفه وقد لا نعرفه، وعن الصحبة مع النار نرى أن الإنسان يلوم نفسه ويؤنبها على أنه اختار النار وصاحبها. ألسنا نرى في الحياة إنسانا قد ارتكب ذنبا وأصابه ضرر، فيضرب نفسه ويقول: أنا الذي استأهل ما نزل بي وأستحقه، وكذلك الإنسان الكافر يجد نفسه يوم القيامة، وهو يدخل النار، ويقول لنفسه: أنا أستحق ما فعلته بنفسي، وتقول النار لحظتها ردا على سؤال الحق لها: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] وفي الآخرة نرى أبعاض الإنسان الكافر وهي تبغض صاحبها، فإذا كان للإنسان ولاية على أبعاضه في الدنيا، وهي خاضعة لإرادته إلا أن هذه الأبعاض تأتي يوم القيامة وصاحبها خاضع لإرادتها. إن الظالم يقول ليده في الدنيا، «اضربي فلانا وشددى الصفعة» فلم تعصه يده في الدنيا؛ لأن الله خلقها خاضعة لإرادته، والظالم لنفسه بالكفر يأمر لسانه أن ينطق كلمة الكفر، فلا يعصاه اللسان في الدنيا، لماذا؟ لأن أبعاضه خاضعة لإرادته في الحياة الدنيا، لكن ذلك الكافر يأتي يوم القيامة وتنعزل عن إرادته، فتتحرر أبعاضه، ولا تكون مرغمة على أن تفعل الأفعال التي لا ترتضيها، وتتمرد الأبعاض على صاحبها، وتشهد عليه. قد يقول قائل: ولكن الأبعاض هي التي تتعذب. نعم، ولكنها تقبل العذاب تكفيرا عما فعلت. إذن فالصحبة تبدأ من الأبعاض للنار {وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فإن رأينا كفارا يعملون خيرا في الدنيا فليحذر كل منا نفسه قائلا: إياك يا نفس أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1695 تنخدعي بذلك الخير. لماذا؟ لأن الكافر يعيش كفر القمة، وكل عمل مع كفر القمة هو عمل حابط عند الله، وإن كان غير حابط عند الناس. وبعد ذلك يقول الحق عن هؤلاء الكافرين: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1696 إن الحق يصف ما ينفقه هؤلاء الكافرون في أثناء الحياة الدنيا وهم بعيدون عن منهج الله إنه - سبحانه - يشبهه بريح فيها صر، أي شدة، فمادة «الصاد والراء» تدل على الشدة والضجة والصخب، ومثال ذلك ما قاله الحق عن إمرأة إبراهيم: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29] إنها أتت وجاءت بضجيج؛ لأنها عجوز وعقيم ويستحيل عادة أن تلد. ومثل قوله الحق: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] والريح الصرصر هي التي تحمل الصقيع ولها صوت مسموع. وقوله الحق: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} أي أن الريح جعلت البرد شائعا وشديدا، فالبرد قد يكون في منطقة لا ريح فيها، ويظل باقيا في منطقته تلك، وعندما تأتي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1696 الريح فإنها تنقل هذا البرد من مكان إلى مكان آخر، فتتسع دائرة الضرر به. وماذا تفعل الريح التي فيها شِدة برد؟ إنها تفعل الكوارث، ويقول عنها الحق: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} وساعة نسمع كلمة «حرث» فنحن نعرف أنه الزرع، وقد سماه الله حرثاً، ليعرف الإنسان إنه إن لم يحرث فلن يحصد، يقول الحق: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 63 - 65] كأن الريح العارمة تفسد الحرث، وهو العملية اللازمة للإنبات؛ فالحرث إثارة للأرض، أي جعل الأرض هشة لتنمو فيها الجذور البسيطة، وتقوى على اختراقها، وأخذ الغذاء منها، وهذه الجذور تستطيع - أيضا - من خلال هشاشة الأرض المحروثة أن تأخذ الهواء اللازم للإنبات. إن الحق سبحانه يريد أن يضرب لنا المثل وهو عن جماعة غير مؤمنين أنفقوا أموالهم في الخير، لكن ذلك لا ينفعهم ولا جدوى منه. مصداقا لقوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وهكذا يكون مصير الإنفاق على نية غير مؤمنة، كهيئة الحرث الذي هبت عليه ريح فيها صوت شديد مصحوب ببرد، فال «صر» فيه الشدة والبرودة والعنف، وحاتم الطائي كريم العرب يقول لعبده: أوقد؛ فإن الليل ليل قر ... والريح يا غلام ريح صر عَلَّ يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر إن هذا الرجل الكريم يطلق سراح العبد إذا ما هدى ضيفاّ إلى منزل حاتم الطائي. «والليل القر» : هو الليل الشديد البرودة. و «الريح الصر» : هي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1697 الريح الشديدة المصحوبة بالبرد. ونعرف في قُرَاَنا أن الصقيع ينزل على بعض المزروعات، فيتلفها. ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه قد جاء بهذه الآية الكريمة بعد أن أوضح لنا في الآية السابقة عليها أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا ومصيرهم النار، وهو سبحانه يدفع أي شبهة تطرأ على السامع، وهي أن هذه الأموال التي أنفقها الكافرون لعمل الخير، لن تغني عنهم شيئا في الآخرة؛ لأنهم لا يملكونها. لماذا؟ لأن العمل إنما يراد للثواب عليه، والنية دائما هي التي تحدد الهدف من كل حركة. . فهل كان في نية الكفار حين أنفقوا أموالهم في الخير الذي يعلمه الناس كالمساعدات، وتفريج الكرب، وإنشاء المستشفيات هل كان في بال هؤلاء الكفار رَبُّ هذه النعم، أو كانوا يعملونها طمعا في جاه الدنيا، وتقدير التاريخ وذكر الإنسانية؟ لا شك أنهم كانوا يعملونها للجاه، أو للتاريخ، أو للإنسانية؛ لأنهم لا يؤمنون بما وراء ذلك، فهم لا يؤمنون بوجود إله ولا يؤمنون بوجود يوم آخر يًُحَاسبون فيه على ما قدموا. وقلنا من قبل: إن الذي يعمل عملا فليطلب أجره ممن عمل له، وما داموا قد عملوا للدنيا وذكرها، وجاهها، والفخر فيها، فقد أعطتهم الدنيا كل شيء. الحق سبحانه وتعالى يضرب لنا مثلا، وهو الذي يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومعنى المثل: أن يأتي إلى أمر معنوي قد يغيب عن بعض العقول فهمه، فيشخصه ويمثله بأمر حسي يعرفه الجميع، ونحن نعرف أن المحسات هي أصل المعنويات في الفهم. ونعرف أن الطفل أول ما تتفتح إدراكاته يدرك الشيء المحس أولا، ثم بعد ذلك يكوّن من المحسات المعقولات. فالطفل - على سبيل المثال - يرى نارا فيمسكها فتحرقه، فيتكون عند الطفل اقتناع بأن النار محرقة. ويشرب الطفل عسلا، فيجده حلوا، فيتكون عنده اقتناع بأن العسل حلو الطعم، ويأكل الطفل شيئا مرا كالحنظل، فتتكون عنده قضية معلومة وهي أن هذا الشيء مر الطعم، فكل المعلومات التي يعرفها الإنسان بوسائل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1698 إدراكه المتعددة إنما تأتي من الأمور المحسة أولا. والأمور المحسة - كما علمنا - وسائلها الحواس الخمس الظاهرة، وهي: العين لترى، والأذن لتسمع، والأنف ليشم، واللسان ليذوق، والأنامل لتلمس، وهكذا نعرف أن كل حاسة ظاهرة لها غاية في الإدراك. والإنسان يتمتع بحواس أخرى ندرك أعمالها، ولكنا لا ندرك أجهزتها أو آلاتها. مثال ذلك: حاسة البعد وهي أن يعرف الإنسان هل الشيء الذي يراه قريب منه أو بعيد عنه؟ وكذلك حاسة الثقل فيحمل الإنسان الشيء فيعرف مدى ثقله، إنه يدرك ذلك الثقل بحاسة غير الحواس الخمس الظاهرة، هذه الحاسة هي حاسة الثقل يكتشف بها الإنسان أن شيئا أثقل من شيء آخر؛ ذلك أن العضلات التي تحمل الشيء تعرف قدر الجهد المبذول في الحمل. وهناك حاسة أخرى غير ظاهرة هي حاسة «البَين» فيمسك الإنسان القماش بأنامله ليعرف هل سمك هذا القماش أكبر من سمك قماش آخر؟ ولمعرفة سمك الشيء لا بد أن يكون واقعا بين لامسين. إذن فهناك حواس كثيرة تربي المعاني عندنا؛ فكل الإدراكات بنت الحس، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] هذه هي الوسائل للإدراك، وقد أورد سبحانه السمع والأبصار أولا لأنهما الوسيلتان الأساسيتان، وأورد من بعد ذلك «الأفئدة» وهي المختصة بالمعاني والقلبيات وغيرها، فإذا أراد الله أن يضرب مثلا في أمر معنوي قد تختلف فيه العقول فهو سبحانه يأتي بأمر حسيّ تتفق فيه الحواس. ونعلم أن في اللغة أمرا اسمه «التشبيه» ، فعندما يجهل إنسان شيئا يقول لمعلمه: شبه لي الأمر الذي أجهله بأمر أعرفه. والإنسان منا قد يسأل صاحبه: أتعرف فلانا؟ فيقول الصاحب: لا أعرفه، فيقول الإنسان منا لصاحبه: إن فلانا الذي لا تعرفه يساوي فلانا في الطول، ويساوي فلانا في اللون. وهكذا ينتقل الإنسان من أمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1699 لا يعرفه إلى أمر يعرفه. والحق سبحانه يضرب لنا المثل بالأمور الحسية، لنفهم الأمور المعنوية، والله يوضح لنا أن الذين كفروا ساعة تكون لهم آلهة متعددة فملكاتهم تصاب بالاضطراب يقول - سبحانه -: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] إنه سبحانه يوضح لنا بالمثل الواضح مصير وحال رجل مملوك لعدد من الشركاء، والشركاء الذين يملكون هذا العبد ليسوا متفقين، بل بينهم نزاع وشقاق، وبطبيعة الحال لا بد أن يكون هذا العبد مرهقا، وهكذا تكون قضية الشرك بالله، إن العبد في مثل هذه الحالة يكون مُشتّتاً وموزع النفس بين الذين يملكونه وهم متشاكسون، أما قضية التوحيد فالحق يشبهها بالقول: {وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ} . وهكذا ينقلنا الحق سبحانه - رحمة بنا - من المعنى العقدي العالي إلى معنى محس من الجميع، لنرى أن الرجل المملوك لسيد واحد يتلقى أوامره من واحد فقط، وكذلك يريد الله في هذه الآية أن يضرب مثلا لمن ينفق شيئا على غير نية إرضاء الله في طاعته، فمهما أنفق هذا الإنسان فإن إنفاقه حابط. ونحن عندما نقرأ أمثال القرآن الكريم علينا ألا نأخذ جزئية فقط، لا، لكن يجب أن نأخذ الجملة كلها لنفهم المثل كله كصورة مؤتلفة مثلما ضرب الله لنا مثلا بالشركاء المتشاكسين الذين يملكون رجلا، فعلينا إذن ألاّ نأخذ المثل بحرفيته، ولكن نأخذ الأمر بمجموع المثل. مثال آخر، يقول الحق سبحانه: {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} [الكهف: 45] فهل الحياة الدنيا كالماء؟ لا، ولكن قصة الحياة كلها، تشبه القصة التي يضربها الحق كمثل، الماء حين ينزل يختلط بالأرض، وبعد ذلك تهتز، فتعطى نباتا، والنبات ينتج الزهر الجميل، وبعد ذلك ينتهي إلى هشيم، هكذا هي الدنيا في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1700 زخرفتها؛ فالبداية مزهرة، فيها نضارة وخضرة وبهجة، ونهاية مؤلمة ومدمرة. إذن فالحق سبحانه ينقل لنا معنى الحياة الدنيا ويشبهها بالأزهار والنبات ونهايته أن يصبح هشيما تذروه الرياح، وهو ما يقوله في موضع آخر من القرآن الكريم. {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] وعندما نمعن النظر في قوله الحق: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] نجد في هذه الآية «مشبها» و «مشبها به» ، المُشَبَّه هم القوم الذي ينفقون أموالهم بغير نية الله، أي كافرون بالله، والمُشَبَّه به: هو الزرع الذي أصابته الريح وفيها الصر، والنتيجة أنه لا جدوى هنا، ولا هناك. ولماذا تصيب الريح حرث قوم ظلموا أنفسهم، وهل لا تصيب الريح حرث قوم لم يظلموا أنفسهم؟ إن الذين ظلموا أنفسهم تنزل بهم هذه الكارثة كعقوبة، مثلهم في ذلك مثل أصحاب الجنة الذين يقول فيهم الحق سبحانه: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم} [القلم: 17 - 20] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1701 لقد جزاهم الله بظلمهم، ولكن ألا نرى رجلا لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة؟ إننا نرى ذلك في الحياة، والرجل الذي لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة، ويصبر على كارثته، يأخذ الجزاء والثواب من الله، ولعل الله قد أهلك بها مالا كانت الغفلة قد أدخلته في ماله من طريق غير مشروع. هكذا تكون الكارثة بالنسبة للمؤمن لها ثواب وجزاء، أو تكون تطهيرا للمال. أما الذي ينفق على غير نية الله وهو كافر، فلا ثواب له. ويذيل الحق الآية بقوله {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فهو سبحانه لم يظلم الكافرين حين جعل نفقتهم بدون جدوى ولا حصيلة لها عنده، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم، لأنهم أنفقوا النفقة على غير هيئة القبول، وهم الذين صنعوا ذلك عندما ظلموا أنفسهم بالكفر فَحَبطت أعمالهم، وتلك هي عدالة الحق سبحانه وتعالى: ويقول الحق من بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1702 حين يخاطب الله المؤمنين ويناديهم بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ} فلتعلم أن ما يجيء بعد ذلك هو تكليف من الحق سبحانه. فساعة ينادي الحق المؤمنين به، فإنه ينادي ليكلف، وهو سبحانه لا يكلف إلا من آمن به، أما حين يدعو غير المؤمن به إلى رحاب الإيمان، فإنه يثير فيه القدرة على التفكير، فيقول له: فكّر في السماء، فكّر في الأرض، فكّر في مظاهر الكون، حتى تؤمن أن للكون إلها واحدا. فإذا آمن الإنسان بالإله الواحد، فإن الحق سبحانه وتعالى يقول له ما دمت قد آمنت بالإله الواحد، فَتَلَقَّ عن الإله الحكم. إن الحق حين يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ} فهو سبحانه يخاطب بالتكليف المؤمنين به، وهو لا يكلف ب «افعل» و «لا تفعل» إلا من آمن، أما من لم يؤمن فيناديه الله ليدخل في حظيرة الإيمان: {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} فإذا ما دخل الإنسان في حظيرة الإيمان فالحق سبحانه وتعالى يكرم هذا المؤمن بالتكليف ب «افعل» و «لا تفعل» وما دام العبد قد آمن بالإله القادر الحكيم الخالق، القيوم، فليسمع من الإله ما يصلح حياته. ويجيء في بعض الأحيان ما ظاهره أن الله ينادي مؤمنا به، ثم يأمره بالإيمان كقول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ} . ويتساءل الإنسان كيف ينادي الله مؤمنا به، ثم يأمره بالإيمان؟ وهنا نرى أن المطلوب من كل مؤمن أن يؤدي أفعال الإيمان دائما ويضيف لها ليستمر ركب الإيمان قويا، فالحق حين يطلب من المؤمن أمراً موجودا فيه؛ فلنعلم أن الله يريد من المؤمن الاستدامة على هذا اللون من السلوك الذي يحبه الله، وكأن الحق حين يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ} إنما يحمل هذا القول الكريم أمراً بالاستدامة على الإيمان، لأن البشر من الأغيار. ونحن نعرف أن الله أفسح بالاختيار مجالا لقوم آمنوا فارتدوا، فليس الأمر مجرد إعلان الإيمان ثم تنتهي المسألة، لا، إن المطلوب هو استدامة الإيمان. وحين نقرأ قول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ} فلنفهم أن هناك تكليفا جديدا، وما دام في الأمر تكليف فعنصر الاختيار موجود، إذن فحيثية كل حكم تكليفي من الله له مقدمة هي: {ياأيها الذين آمَنُواْ} ولا تبحث أيها المؤمن في علة الحكم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1703 وتسأل: لماذا كلفتني يارب بهذا الأمر؟ فليس من حقك أيها المؤمن أن تسأل: «لماذا» ما دمت قد آمنت؛ فالحق سبحانه لم يكلف إلا من آمن به، فإذا كنت - أيها المؤمن - قد آمنت بأنه إله صادق قادر حكيم فأمن الله على نفسك، ونفذ مطلوب الله ب «افعل» و «لا تفعل» سواء فهمت العلة أم لم تفهمها. وسبق أن ضربنا المثل وما زلنا نكرره. إن المريض الذي يشكو من سوء الهضم بعد تناول الطعام يفكر أن جهازه الهضمي مصاب بعلة، ويفكر في اختيار الطبيب المعالج ويختار طبيبا متخصصا في الجهاز الهضمي، ويذهب إلى هذا الطيب. وهنا ينتهي عمل العقل بالنسبة للمريض؛ فقد اختار طبيبا وقرر الذهاب إليه، والطبيب يجري الفحص الدقيق، ويطلب التحاليل اللازمة إن احتاج الأمر، ويشخص الداء، ثم يكتب الدواء، وحين يكتب الطبيب الدواء للمريض، فإن المريض لا يصح أن يقول للطبيب لن آخذ هذا الدواء إلا إذا أقنعتني بحكمته. بل عليه أن ينفذ كلام الطبيب، وهكذا يطيع المريض الطبيب، وكلاهما مساوٍ للآخر في البشرية، فكيف يكون أدب الإنسان مع خالقه؟ إن كل عمل العقل عند المؤمن هو أن يؤمن بالله، وبعد أن آمنت - أيها المؤمن - بالله حكيما، فَتَلَقَّ عن الله الحكم؛ لأنه مأمون على أن يوجهك لأنك أنت صنعته. إن الحق يأمر المؤمن بالصلاة، وعلى المؤمن أن يؤديها، ولا يبحث عن علة الصلاة كأنها رياضة مثلا، لا، إن الأمر صادر من الحق بالصلاة، وحين تصلي، فإنك تلتفت إلى أن نفسك قد انشرحت بالصلاة وشعرت بالراحة، فتقول لنفسك: ما أحلى راحة الإيمان؛ هذه هي علة الحكم الإيماني. إن علة الحكم الإيماني يعرفها المؤمن بعد أن ينفذه، ولذلك نجد الحق من فضل كرمه، يقول لنا: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] فأنت ساعة أن تتقي الله في الحكم، يعطيك العلة، ويعطيك راحة الإيمان، إنك أيها العبد لا تسأل أولا عن الاقتناع بالعلة حتى تنفذ حكما لله، لأن الحق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1704 سبحانه قد يؤجل بعض حيثيات الأحكام لخلقه قرونا طويلة، ومثال ذلك أننا ظللنا لا نعرف علة حكم من الأحكام لمدة أربعة عشر قرنا من الزمان مثل تحريم أكل لحم الخنزير، فهل كان على العباد المؤمنين أن يؤجلوا أكل لحم الخنزير أربعة عشر قرنا إلى أن يمتلكوا معامل للتحليل حتى نعرف المضار التي فيه؟ تلك المضار التي ثبتت معمليا. . لا. إن العباد المؤمنين لم يؤجلوا تنفيذ الحكم، ولكنهم نفذوه، واكتشف أحفاد الأحفاد أن فيه ضرراً، وهذا يدفعنا إلى تنفيذ كل حكم لا نعرف له علة، إن هذا الحكم له حكمة عند الله قد لا يستطيع عقل الإنسان أن يفهمها، ولكن ستأتي أشياء توضح بعض الأحكام فيما لم يكن يعرفه الإنسان، وتعطينا تلك الإيضاحات الثقة في كل حكم لا تعرف له علة، وتصبح علة كل حكم هي: {ياأيها الذين آمَنُواْ} . إن الحق بهذا القول ينادي كل عبد من عباده: يا من آمنت بي إلها خذ مني هذا التكليف. ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - عندما يقول الطبيب: يا من صدقت أني طبيب لمرضك خذ هذا الدواء وستشفى بإذن الله. وعندما يزور الإنسان مريضا ويسأله: لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فالمريض يجيب: لقد كتب الطبيب لي هذا الدواء، فما بالنا بتنفيذ أحكام الله؟ إنه يجب أن ننفذها لأن الله قالها، ولذلك فالعاقلون بعمق وجدية يختلفون عن مُدعى العقل بسطحية، هؤلاء العاقلون الجادون يقولون: إن هذا العقل مطية يوصلك إلى باب السلطان ولكن لا يدخل معك عليه. فكأن العقل يوصلك إلى أن تؤمن بالله، ولكنه لا يحشر نفسه فيما ليس له قدرة عليه. إن الحق سبحانه في هذا التكليف القادم: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} أي أنكم ما دمتم قد آمنتم، فعليكم الحفاظ على هذا الإيمان بأن تبعدوا عنه نزغ الشيطان وكيد الأعداء. إن نزغ الشيطان وكيد الأعداء إنما يأتي من البطانة التي تتداخل مع الإنسان. ولنفهم كلمة «بطانة» جيدا، إن بطانة الرجل هم خاصته، أي الناس الذين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1705 يصاحبهم ويجلسون معه ويعرفون أسراره، وكلمة «بطانة» مأخوذة أيضا من بطانة الثوب؛ فنحن عندما نمسك أي قطعة من ثياب نرى أن الثوب خشن، ولذلك فالصانع يضع للثوب الخشن بطانة ناعمة ويختارها كذلك؛ لأنها متصلة بالجسم، والبطانة من الأصدقاء تدخل على الناس بالنعومة وتستميلهم وتستعبدهم. ولذلك نجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الأنصار شعار، والناس دثار» . «والشعار» هو الثوب الذي يلامس شعر الجسد، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُعلي من قيمة الذين استقبلوا الدعوة الإسلامية بمودة وحب. وهكذا نعرف أن كلمة «بطانة» مأخوذة - كما قلنا - من بطانة الثوب، لأنها التي تلتحم بالجسم حتى تحميه؛ فنحن نرتدي الصوف ليعطينا الدفء، ونضع بينه وبين الجسم بطانة لنبعد عن الجسم خشونة الصوف، ويسمون البطانة بالوليجة، أي التي تدخل في حياة الناس، وكل شر في الوجود من هذه البطانة. إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو معصوم وموحى إليه وله من الصحابة ما يطمح أي عبد مؤمن أن يتخذه قدوة له، هذا الرسول الكريم نجد بعضا من وصفه في حوار بين سيدنا الحسين رضوان الله عليه وأبيه سيدنا علي كرم الله وجهه قال الحسين: يا أبي قل لي عن مجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال علي كرم الله وجهه: كان رسول الله لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر. وفي الحديث: «كان رسول الله يكثر الذكر» . لماذا؟ لأن الجلوس والقيام هو إبطال حركة بحركة، فمن كان قائما فقعد فقد أدى حركة هي القعود، ومن كان جالسا فقام، فقد أدى حركة هي القيام. وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يذكر الله في كل حركة، شاكرا نعمة الخالق عَزَّ وَجَلَّ، والإنسان منا يستطيع أن يسأل نفسه: كم عضلة يحركها الإنسان حتى يقعد أو يقوم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1706 إنها أعداد كبيرة من العضلات تتحرك لتوازن ارتفاع الجسم أو جلوسه، وهي أعداد لا يعرفها الإنسان. فما الذي جعل هذه الأجهزة الصماء تفهم مراد الإنسان، وبمجرد أن يحاول الإنسان القيام، فإنه يقوم، وبمجرد أن يحاول الإنسان القعود، فإنه يقعد؟ إنك إذا رفعت يدك لا تعرف ما هي العضلات التي تتحرك لترفع اليد، وتلك إدارة عالية يقول عنها الشاعر: «وفيك انطوى العالم الأكبر» ... كأن العالم الكبير قد انطوى وصار في داخلك أنت. إنك إن أردت أن تنام فإنك تنام، وتحب أن تقوم فتقوم. ويبين لك الحق أن أوامرك لعضلاتك وتحكمك في مملكة جسدك، هي من تسخير الله؛ تدرك ذلك حين تنظر حولك فتجد أنه سبحانه قد سلب أحدا غيرك القدرة على رفع الذراع. وإياك أن تظن أن الحركة قد واتتك لمجرد أن لك يدا، لا، إن غيرك قد تكون له يد؛ لكنه لا يستطيع أن يأمرها فتتحرك. وهكذا نعرف أن كل الإرادات في النفس إنما تتحرك بتسخير الحق لها لخدمة الإنسان. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي وعافاني في جسدي وأذِن لي بذكره» . انه يُوجه الإنسان إلى ذكر خالقه عند كل قيام أو قعود، ورسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلمنا أنه عند كل انفعال بكل حركة من الحركات علينا أن نذكر الذي خلقنا وخلق فينا القدرة على الحركة. وليسأل كل منا نفسه: كم حركة يتطلبها أمر من الإنسان بأن يحك ظهره مثلا؟ إنه عدد غير معروف من الحركات. وهكذا علينا أن نحسن الأدب مع الله بأن نذكره في كل حركة فهو الذي خلق كل إنسان منا صالحا لكل هذه القدرات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1707 ونعود إلى وصف علي كرم الله وجهه مجلسَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كان لا يجلس ولا يقوم إلا عن ذكر. ولنتنبه إلى دقة الرسول في التعامل مع البطانة من البشر، فها هو ذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها. ويوطن المكان، أي أن يخصص مكانا لفلان ليجلس فيه، لقد كان الرسول يجلس حيث انتهى به المجلس، وكذلك كان صحابته، فلا أحد يجلس دائما بجانبه حتى لا يأخذ أحد من مكانته عند الرسول فرصة يتخيل معها الآخرون أنه صاحب حظوة؛ فكلهم سواسية ونحن نرى في عصرنا أن هناك من يتخذ لنفسه مكانا في المسجد، وهذا منهي عنه. فعن ابن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: (نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطّن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير) . ويضيف علي كرم الله وجهه في وصف مجلس رسول الله: وكان إذا ذهب إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، «وكان يجلس على الأرض ويأكل على الأرض، يعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك» . أهناك أدب أكثر من هذا؟ إنه الرسول الكريم، يجلس حيث ينتهي به المجلس، لقد أراد أن يضرب لنا المثل حتى تتنوع اللقاءات؛ فاليوم قد يجلس مؤمن بجانب مؤمن من مكان بعيد، وغدا يجلس كلاهما بجانب اثنين جاء كل منهما من مكان آخر، وهكذا تتحقق اندماجية الإيمان بتنوع اللقاءات. ويقول علي كرم الله وجهه: وكان رسول الله يعطي كل جلسائه نصيبهم من مجلسه حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه. إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما يعطي نظرة لواحد، فهو ينظر كذلك لكل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1708 واحد في مجلسه، وإن تكلم كلمة إلى ناحية فهو يعطي كلمة أخرى إلى الناحية المقابلة؛ لذلك حتى يعرف كل جليس للرسول أن المؤمنين سواسية، وأنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول إلى الناس كافة؛ وليس رسولا إلى قوم بعينهم، وحتى يعرف كل واحد من جلسائه أنه يجلس إلى رسوله الذي بعثه الله إليه. هكذا كان سلوك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يعطي القدوة للناس، وحتى يعرف كل إنسان أن التحام الناس بعضهم ببعض؛ قد يسبب لواحد استغلال الالتحام في غير صالح الإيمان. لذلك يقول الحق سبحانه: يا أيها المؤمنون تنبهوا إلى أنكم في معسكر من غير المؤمنين يقاتلكم ويعاند إيمانكم، وهؤلاء لا يمكن أن يتركوكم على إيمانكم، بل لا بد أن يكيدوا لكم، وهذا الكيد يتجلى في أنهم يدسون لكم أشياء، وينفذون إليكم. ونعرف جميعا أن الإسلام عندما جاء كان كثير ممن آمن له ارتباطات بمن لم يسلم؛ فهناك القرابة، والصداقة، والإلف القديم والجوار، والأخوة من الرضاعة، لذلك يحذر الحق من هذه المسائل، فلا يقولن مؤمن هذا قريبي، أو هذا صديقي، أو هذا حليفي، أو هذا أخي من الرضاعة، فالإسلام يحقق لكم أخوة إيمانية تفوق كل ذلك، ولهذا فإياكم أن تتخذوا أناسا يتداخلون معكم بالود؛ لأن الشر يأتي من هذا المجال، وإياكم أن تعتقدوا أن فجوة الإيمان والكفر بينكم ستذهب أو تضيق؛ لأن الكفار لن يتورعوا أن يدخلوا عليكم من باب الكيد لكم ولدينكم بكل لون من الألوان، وهم - الكفار - لا يقصرون في هذا أبدا، لذلك يأتي الأمر من الحق: {يا أيها الذين آمنوا} ، احموا هذا الإيمان فلا تتداخلوا مع غير المؤمنين تداخلا يفسد عليكم أمور دينكم؛ لأنهم لن يهدأوا، لماذا؟ لأن حال هذه البطانة معكم سيكون كما يلي: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي لا يقصرون أبدا في الكيد لكم، والخبال: هو الفساد للهيئة المدبرة للجسم وهو العقل، ونحن نسمى اختلال العقل «خبلا» . إن الحق يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1709 قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] فالمنهي عنه ليس أن تتخذ بطانة من المؤمنين، ولكن المنهي عنه هو أن تتخذ بطانة من غير المؤمنين؛ لأن المؤمن له إيمان يحرسه، أما الكافر فليس له ما يحرسه، والبطانة من غير المؤمنين لا تقصر في لحظة واحدة في أنها تريد للمؤمنين الخبال والفساد، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنهم يحبون العنت والمشقة للمؤمنين {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} والحق سبحانه وتعالى لا يريد لنا العنت، وفي هذا يقول سبحانه: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] أي أنه سبحانه لو أراد، لكلفكم بأمور كثيرة تحمل المشقة، لكن الحق سبحانه يَسّر لكم أيها المؤمنون، لكن أهل الكفر لا يودون إلا الخبال للمؤمنين، ويحبون المشقة لهم. ومن أين تنشأ المشقة؟ إنك حين تكون مؤمنا فأنت تقوم بما فرضه عليك الدين، وهم يحاولون أن ينفخوا في المؤمن بغير ما يقتضيه هذا الدين، فتتوزع نفس المؤمن، وبهذا النفخ تنقسم ملكات المؤمن على نفسها، وعندما تنقسم الملكات على نفسها فإن القلق والاضطراب يسيطران على الإنسان، فالقلق والاضطراب ينشآن عندما لا تعيش الملكات النفسية في سلام وانسجام. ونحن نرى ذلك في المجتمعات التي وصلت إلى أرقى حياة اقتصادية وأمورهم المادية ميسرة كلها، فالشيخوخة مُؤَمَّنة، وكذلك التأمينات الصحية والاجتماعية، ودخل الإنسان مرتفع، لكنهم مع ذلك يعيشون في تعب، وترتفع بينهم نسبة الانتحار، وينتشر بينهم الشذوذ، والسبب وراء كل ذلك هو أن ملكاتهم النفسية غير منسجمة، وسلام الملكات النفسية لا يتحقق إلا عندما يؤمن الإنسان، ويطبق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1710 تعاليم ما يؤمن به. فالرجل - على سبيل المثال - حين ينظر إلى حلاله، أي زوجته، ينظر إليها براحة ويشعر باطمئنان؛ لأن ملكاته النفسية منسجمة، أما عندما تتجه عيناه إلى امرأة ليست زوجته، فإنه يراقب كل من حوله حتى يعرف هل هناك من يراه أو لا؟ وهل ضبطه أحد أولا؟ وعندما يضبطه أحد فهو يفزع وتتخبط ملكاته. لذلك يحذر الحق سبحانه المؤمنين: إياكم من البطانة من غير المؤمنين، لأنهم لايقصرون أبدا ولا يتركون جهدا من الجهود إلا وهم يحاولون فيه أن يدخلوكم في مشقة. والمشقة إنما تنشأ من أن الكافر يحاول أن يجذب المؤمن إلى الانحراف والاضطراب النفسي وتشتت الملكات مستغلا القرابة والصداقة، مطالبا أن يرضيه المؤمن بما يخالف الدين، ولا يستطيع المؤمن التوفيق بين ما يطلبه الدين وما يطلبه الكافر؛ لذلك تنقسم ملكات المؤمن ويحس بالمشقة. والكافرون لا يتركون أي فرصة تأتي بالفساد للمؤمنين إلا انتهزوها واغتنموها. {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} . وما دامت البغضاء قد بدت من أفواههم فكيف نتخذهم بطانة؟ إنك حين تصنع لنفسك جماعة من غير المؤمنين، فإنها تضم بعضا من المنافقين غير المنسجمين مع أنفسهم. والمنافق له لسان يظهر خلاف ما يبطن. وعندما يذهب المنافق إلى غير المؤمنين فإن لسان المنافق ينقل بالسخرية كلام المؤمن. هكذا تظهر البغضاء من أفواه المنافقين المذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إنهم لا ينتمون إلى الإيمان ولا ينتمون إلى الكفر، والذي يصل المؤمنين من بغضاء هؤلاء قليل، لأن ما تخفي صدورهم أكبر. وحين تبدوا البغضاء من أفواههم، فإما أن يقولوها أمام منافقين، وإما أن يقولها بعضهم لبعض، فيتبادلوا الاستهزاء والسخرية بالمؤمن، والله أعلم بمن قيل فيه هذا الكلام، ولذلك فعندما يتحدث الكافرون بكلام فيما بينهم فالله يكشفهم ويفضحهم لنا نحن المؤمنين. إن الله تعالى يكشف بطلاقة علمه كل الخبايا، وكان على الكافرين والمنافقين أن يعلموا أن هناك إلها يرقب عملية الإيمان في المؤمن حتى ينبهه إلى أدق الأشياء، لكنهم كأهل كفر ونفاق في غباء، لقد كان مجرد نزول قول الحق: {قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1711 أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} كان ذلك فرصة أمامهم ليدفعوا عن أنفسهم لو كانت صدورهم خالية من الحقد. لكنهم عرفوا ان الله قد علم ما في صدورهم. إن الغيظ الذي في قلوب هؤلاء الجاحدين الحاقدين قد نضح على ألسنتهم، ولكن مَن الذي نقل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحابته ما في صدور الكافرين مما هو أكثر من ذلك؟ إنه الله - جلت قدرته - قد فضحهم بما أنزل من قوله تعالى: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} إذن لم يعد لمن آمن بالله حجة؛ لأن الله أعطاه المناعات القوية لصيانة ذلك الإيمان، وأوضح الحق للمؤمنين أن أعداءهم لن يدخروا وسعا أبدا في إفساد انتمائهم لهذا الدين، فيجب أن ينتبه المؤمنون. وإذا ما دققنا التأمل في تذييل الآية نجد أن الحق قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} إذن، فالآيات المنزلة من الله تعالى توضح ذلك، وقد قلنا من قبل: إن الآيات، إما أن تكون آيات قرآنية، وإما أن تكون آيات كونية، فالقرآن له آيات، والكون له آيات. ولنسمع قول الحق بالنسبة للقرآن: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] وفي مجال الكون يقول الحق سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وهكذا نعلم أن الآية هي الشيء العجيب اللافت الذي يجب أنه ننتبه إليه لنأخذ منه دستورا لحياتنا. وعلى ذلك، فالآيات القرآنية تعطي المنهج، والآيات الكونية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1712 تؤيد صدق الآيات المنهجية. ويجب أن تتفطنوا أيها المؤمنون إلى هذه الآيات. والذي يدل على أن المؤمنين قد عقلوا وتفطنوا، أن الآية الأولى بينت أنهم قد نهوا عن أن يتخذوا بطانة من دونهم - أي من غير المؤمنين - وها هي ذي الآية التالية تقول: {هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1713 وما زال الحديث والكلام عن البطانة، وهو يدل على أن البطانة لم تستطع أن تلوي المؤمنين عن الإيمان، بل إن المؤمنين الذين ذاقوا حلاوة الإيمان حاولوا أن يغيروا من الكافرين. ولم يفلح الكافرون أن يغيروا من المؤمنين، وكذلك لم يفلح الكافرون أيضا أن يسيطروا على أنفسهم، ولم يكن أمام هؤلاء الكافرين إلا النفاق، لذلك قالوا: «آمنا» . إن الآية تدلنا على أن المؤمنون قد عقلوا آيات الحق. ولماذا - إذن - جاء الحق بقوله: «تحبونهم ولا يحبونكم» ؟ لقد أحب المؤمنون الكافرين حين شرحوا لهم قضية الحق في منهج الإسلام، وأرادوا المؤمنون أن يجنبوا الكافرين متاعب الكفر في الدنيا والآخرة، وهذا هو الحب الحقيقي، فهل بَادَلَهُم الكافرون الحب؟ لا؛ لأن هؤلاء الكافرون أرادو أخذ المؤمنين إلى الكفر، وهذا دليل عدم المودة. ولم يستطع الكافرون تحقيق هذا المأرب، ولذلك قالوا: «آمنا» ومعنى قولهم: «آمنا» يدلنا على أن موقف المسلمين كان موقفا صُلبا قويا؛ لذلك لم يجد الكافرون بداً من نفاقهم {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا} قالوا ذلك على الرغم من ظهور البغضاء في أفواههم، ولم يكن سلوكهم مطابقا لما يقولون. وهنا بدأ المسلمون في تحجيم وتقليل مودتهم للكافرين؛ ولذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1713 قال أهل الكفر: لو استمر الأمر هكذا فسوف يتركنا هؤلاء المسلمون. . وحتى يتجنبوا هذا الموقف ادعوا الإيمان في الظاهر، وينقلب موقفهم إذا خلوا لأنفسهم، ويصور الحق هذا الموقف في قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} فما هو العض؟ إن العضَّ لغويا، هو التقاء الفكين على شيء ليقضماه. وما الأنامل؟ إنها أطراف الأصابع، والأنامل فيها شيء من الدقة وشيء من خفة الحركة المأخوذة من خلية النمل، ويسمون الأنامل أيضا البنان، وعملية عض الأنامل عندما نراها نجدها عملية انفعالية قسرية. أي أن الفكر لا يرتبها؛ فليس هناك من يرضي أن يظل مرتكبا لعملية عض أصابعه، فعض الأصبع يسبب الألم، لكن الامتلاء بالغيظ يدفع الإنسان إلى عض الأصابع كمسألة قسرية نتيجة اضطراب وخلل في الانفعال. ومن أين يجيء الغيظ؟ . لقد جاء الغيظ إلى الكافرين لأنهم لم يستطيعوا أن يزحزحوا المؤمنين قيد شعرة عن منهج الله، بل حدث ما هو العكس، لقد حاول المؤمنون أن يجذبوا الكافرين إلى نور الإيمان، وكان الكافرون يريدون أن يصنعوا من أنفسهم بطانة يدخلون منها إلى المؤمنين لينشروا مفاسدهم؛ ولذلك وقعوا في الغيظ عندما لم يمكنهم المؤمنون من شيء من مرادهم. إن الإنسان يقع أحيانا فريسة للغيظ حين لا يتمكن من إعلان غضبه على خصمه؛ ولهذا إذا أراد إنسان من أهل الإيمان أن يواجه حسد واحد من خصومه فعليه أن يزيد في فضله على هذا الإنسان، وهنا يزداد هذا الخصم غيظا ومرارة، أيضا نجد أن من تعاليم الإسلام أن الإنسان المؤمن لا يقابل السيئة التي يصنعها فيه آخر بسيئة، وذلك حتى لا يرتكب الذنب نفسه، ولكن يتَبع القول المأثور: «إننا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1714 إنهم بإحسان المسلمين إليهم يزدادون خصومة، وغيظا وحقدا على الإسلام وكان المسلمون الأوائل يتصرفون بذلك الأسلوب لقد كانوا جبالا إيمانية راسخة. فخصوم الإسلام يعصون الله بسوء معاملتهم للمسلمين، لكنْ المسلمون يردون على سوء المعاملة بحسن المعاملة، وساعة يرى خصوم الإسلام أن كيدهم لا يحقق هدفه فإنهم يقعون في بئر وحمأة الغيظ. وعندما يخلون الكافرون لأنفسهم فأول أعمالهم هو عض الأصابع من الغيظ، وهو كما أوضحت نتيجة الانفعال القسري التابع للغضب والعجز عن تحقيق المأرب؛ ذلك أن كل تأثير إدراكي في النفس البشرية إنما يطرق مجالا وجدانيا فيها. والمجال الوجداني لا بد أن يعبر عن نفسه بعملية نزوعية تظهر بالحركة؛ فالإنسان عندما يسبب لواحد يعرفه لونا من الغضب فهو ينفعل بسرعة ويثور بالكلمات، هذا دليل على طيبة الإنسان الغاضب. أمََّا الذي لا يظهر انفعاله فيجب الحذر منه؛ لأنه يخزن انفعالاته، ويسيطر عليها، فلا تعرف متى تظهر ولا على أية صورة تبدو؛ ولذلك يقول الأثر: «اتقوا غيظ الحليم» فعندما تتجمع انفعالات جديدة فوق انفعالات قديمة متراكمة في قلب الحليم فلا أحد يعرف متى يفيض به الكيل. إذن فالإدراك ينشأ عنه وجدان، فينفعل الإنسان بالنزوع الحركي. والتشريع الإسلامي لا يريد من الإنسان أن يكون حجرا أصم لا ينفعل، لكنه يطلب من المسلم أن ينفعل انفعالا مهذبا؛ ولذلك يضع الحق للمؤمن منهجا، فيقول سبحانه: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] إن القرآن يعترف بأن هناك من الأحداث ما يستدعي غيظ الإنسان، والذي لا يغضب على الإطلاق إنما يسلك طريقا لا يتوافق مع طبيعة البشر السوية، والله يريد من الإنسان أن يكون إنساناً، له عواطفه وشعوره وانفعالاته، ولكن الله المربي الحق يهذب انفعالات هذا الإنسان، ولنا في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القدوة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1715 الحسنة، فحين مات ولده إبراهيم: قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» . إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يمزج بين العاطفة والإيمان، فالعين تدمع، والقلب يحزن، والإنسان لا يكون أصمَّ أمام الأحداث، إنما على الإنسان أن يكون منفعلا انفعالا مهذبا. وعندما يعبّر القرآن عن الإنسان السويّ فهو لا يضع المؤمن في قالب حديدي بحيث لا يستطيع أن يتغير فيقول سبحانه: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] إذن فيلس المؤمن مطبوعا على الذلة، ولا مطبوعا على العزة، لكنه ينفعل للمواقف المختلفة، فهذا موقف يتطلب ذلة وتواضعا للمؤمنين فيكون المؤمن ذليلا، وهناك موقف آخر يتطلب عزة على الكافرين المتكبرين فيكون المؤمن عزيزا، والحق سبحانه يقول عن المؤمنين: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً} [الفتح: 29] إن الرحمة ليست خلقا ثابتا، ولا الشدة خلقا ثابتا ولكنَّ المؤمنين ينفعلون للأحداث، فحين يكون المؤمن مع المؤمنين فهو رحيم، وحين يكون في مواجهة الكفار فهو قوي وشديد. والله سبحانه لا يريد المؤمن على قالب واحد متجمد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1716 لذلك يقول الحق: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] وهو سبحانه القائل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] إذن فالحق لم يمنع المؤمن من أن يعاقب أحدا على خطأ، وذلك لأنه خلق الخلق وعليم بهم، ولا يمكن أن يصادم طباعهم، وذلك حتى لا يتهدد المؤمن في إيمانه فيما بعد، فالمؤمن لو ترك حقوقه فإن الكفار سيصولون ويجولون في حقوق المسلمين؛ ولهذا فالمؤمن يتدرب على توقيع العقاب حتى على المؤمن المخطئ، وذلك ليعرف المؤمن كيف يعاقب أي مجترئ على حق من حقوق الله. والمؤمن أيضا مطالب بأن يرتقي بعقابه، فهو إما أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإما أن يرتقي أكثر، ويستمع لقول الحق: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] لقد وضع الحق منهج الارتقاء بعد أن أعطى المؤمن الحق في توقيع العقاب قصاصا، وهكذا لم يقسر الله طبع الإنسان ولو أراد سبحانه ذلك لما خلق هذا الطبع إنه سبحانه يوضح لنا أن هناك انفعالا بالغيظ، وأن المؤمن عليه أن يحاول كظم الغيظ أي لا يعبر عن الغيظ نزوعيا، فإن أخرج المؤمن هذا الأمر من قلبه فمعناه أنه قد برئ وشُفِيَ منه وارتقى. إذن فكظم الغيظ هو ألا يعبر المؤمن عن الغيظ نزوعيا، فإن سبّك أحدٌ فأنت لا تسبّه، وهذا الكظم يعني كتمان الانفعال في القلب، فإذا ارتقى المؤمن أكثر وتجاهل حتى الانفعال بذلك، فإنه يُخرج الغيظ من قلبه، وهو بذلك يرتقي ارتقاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1717 أعلى، ويصفه الحق بأنه دخول إلى مرتبة الإحسان، فهو القائل: {والله يُحِبُّ المحسنين} وهكذا يحسن المؤمن إلى المسبب للغيظ بكلمة طيبة. فماذا يكون موقف الذي تسبب في غيظك أيها المؤمن وأنت قد كظمت الغيظ في المرحلة الأولى وعفوت في المرحلة الثانية وإن أخرجت الانفعال من قلبك، وصلت إلى المرحلة الثالثة وهي التي تمثل قمة الإيمان إنها الإحسان. . {والله يُحِبُّ المحسنين} لا بد أن يراجع المسبب للغيظ نفسه ويندم على ما فعل. إن الإسلام لم يتجاهل المشاعر الإنسانية عندما طالب المؤمنين أن يحسنوا لمن أساء إليهم، فالذي يمعن النظر ويدقق الفهم يعرف أن الإسلام قد أعطى المؤمن الحق في الطبع البشرى حين قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ولكنه ارتقى بالمؤمن. وعندما ننظر إلى هذا الأمر كقضية اقتصادية وتحسبها ب «منه» و «له» فسنجد أنّ المؤمن قد كسب. . ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - ساعة يجد الأب ابنا من أبنائه قام بظلم أخ له فإن قلب الأب يكون مع المظلوم فهب أن إنسانا أساء لعبد من عباد الله فإن الله كربّ مربٍّ يغار له ونحن نعرف أن واحد قال لعارف بالله: أتحسن لمن أساء إليك؟ فقال العارف بالله: أفلا أحسن لمن جعل الله في جانبي؟ ولنعد الآن إلى غيظ الكافرين من المؤمنين، إن غيظ الكافر ناتج من أن خصمه المؤمن يحب له الإيمان وليس في قلبه ضغينة بينما الكافر يغلي من الحقد، وبسبب هذا الأمر يكاد يفقد صوابه؛ لذلك يقول الحق: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} . و «خلوا» المقصود بها. أن الكافرين إذا ما أصبحوا في مجتمع كفرى وليس معهم مسلم أعلنوا الغيظ من المؤمنين، ولقد فعلوا هذا الأمر - عض الأنامل من الغيظ - في غيبة الإيمان والمؤمنين بالله، لو كان عند هؤلاء الكافرين ذرة من تعقل لفكروا كيف فضحهم القرآن، وهم الذين ارتكبوا هذا الفعل بعيدا عن المؤمنين؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1718 ألم يكن لتفكيرهم أن يصل إلى أن هناك ربًّا للمؤمنين يقول الخافيَ من الأمور لرسوله، ويبلغها الرسول للمؤمنين. لكنهم مع ذلك لم يفهموا هذا الفضح لهم {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} وهنا ينبغي أنْ نفهم أنَّ هناك أمراً قد يغيظ، ولكن الإنسان قد يجبن أن ينفث غيظه، فإذا غاظك أحد فقد تذهب إليه وتنفعل عليه، أو قد تنفعل على نفسك وذلك هو ما يسمى ب «تحويل النزوع» . فالغاضب يمتلئ بطاقة غضبية، ومن يغضب عليه قد يكون قويا وصاحب نفوذ، فيخاف أن ينفعل عليه، فينفث الغاضب طاقة غضبه على نفسه بأن يعض على أنامله، وما دامت المسألة هكذا، فقد قال الحق: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [آل عمران: 119] ومعنى ذلك أن إغاظة المؤمنين لكم أيها الكافرون ستستمر إلى أن تموتوا من الغيظ؛ لذلك فلا طائل من محاولتكم جذب المؤمنين إلى الكفر: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} . ونحن قد عرفنا أنه ساعة يؤمر الإنسان بشيء ليس في اختياره - لأن الموت ليس في اختيارهم - وأن يختار بينه وبين شيء في اختياره كالغيظ، فمعنى ذلك أن الأمر قد صدر إليه ليظل أسير الأمر الذي يقدر عليه وهو الغيظ حتى يدركه الموت. وعندما يقول الحق: {مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} فهذا يعني أن الكافرين لن يستطيعوا الموت، ولكن سيظلون في حالة الغيظ إلى أن يموتوا؛ لأنهم لايعرفون متى يموتون، وهكذا يظلون على حالهم من الغيظ من المؤمنين وما دام الكافرون في حالة غيظ من المؤمنين فهذا دليل على أن المؤمنين يطبقون منهجهم بأسلوب صحيح. وفي هذه الآية بشارة طيبة للمؤمنين ونذارة مؤلمة للكافرين {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} إن الحق يعلمنا أنه عليم بذات الصدور، أي بالأمور التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1719 تطرأ على الفكر، ولم تخرج بعد إلى مجال القول. وهو سبحانه القائل: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] وما دام هو الحق العليم بما تخفي الصدور فهو قادر ليس فقط على الجزاء بما يفعلونه من عمل نزوعي ولكنه قادر على أن يجازيهم أيضا بأن يفضح الأعمال غير النزوعية الكامنة في صدروهم، وبعد ذلك يقول سبحانه: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1720 والقرآن كلام الله وله - سبحانه - الطلاقة التامة والغني الكامل، والعبارات في المعنى الواحد قد تختلف لأن كل مقام له قوله، وسبحانه يحدد بدقة متناهية اللفظ المناسب. . إنه هو سبحانه الذي قال: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِلاَّ المصلين الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} [المعارج: 19 - 23] وهو سبحانه الذي قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1720 {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وكفى بالله شَهِيداً} [النساء: 79] إنه جل وعلا يتكلم عن المس في الشر والخير، ومرة يتكلم عما يحدث للإنسان كإصابة في الخير أو في الشر، وفي الآية التي نحن بصدد الخواطر عنها تجد خلافا في الأسلوب فسبحانه يقول: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} إنه لم يورد الأمر كله مَسًّا، ولم يورده كله «إصابة» إنه كلام رب حكيم وعندما نتمعن في المعنى فإن الواحد منا يقول: هذا كلام لا يقوله إلا رب حكيم. ولنتعرف الأن على «المس» و «الإصابة» بعض العلماء قال: إن المس والإصابة بمعنى واحد، بدليل قوله الحق: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} [المعارج: 19 - 21] ولكننا نقول إن المس هو إيجاد صلة بين الماس والممسوس فإذا مس الرجل امرأته، فنحن نأمره بالوضوء فقط لأنه مجرد التقاء الماس بالممسوس والأمر ليس أكثر من التقاء لا تحدث به الجنابة فلا حاجة للغسل، أما الإصابة فهي التقاء وزيادة؛ فالذي يضرب واحدا صفعة فإنه قد يورم صدغة، فالكف يلتقي بالخد، ويصيب الصدغ، وهكذا نعرف أن هناك فرقا بين المس والإصابة، وحين يقول الحق: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} . فمعنى ذلك أن الحسنة الواقعة بسيطة، وليست كبيرة إنها مجرد غنيمة أو قليل من الخير. . وفي حياتنا اليومية نجد من يمتلئ غيظا لأن خصمه قد كسب عشرة قروش، وقد يجد من يقول له: لماذا لا تدخر غيظك إلى أن يكسب مائة جنيه مثلا؟ ومثل هذا الغيظ من الحسنة الصغيرة هو دليل على أن أي خير يأتي للمؤمنين إنما يسبب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1721 التعب والكدر للكافرين. فبمجرد مس الخير للمؤمنين يتعب الكافرين فماذا عن أمر السيئة؟ إن الحق يقول: {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} إن الكافرين يفرحون لأي سوء يصيب المؤمنين مع أنه كان مقتضي الإنسانية أن ينقلب الحاسد راحما: وحسبك من حادث بامرئ ... ترى حاسديه له راحمينا يعني حسبك من حادث ومصيبة تقع على إنسان أن الذي كان يحسده ينقلب راحما له ويقول: والله أنا حزنت من أجله. إذن فلمّا تشتد إصابة المؤمنين أكانت تغير من موقف الكافرين؟ لا، كان أهل الكفر يفرحون في أهل الإيمان، وإذا جاء خير أي خير للمؤمنين يحزنون فالحق يقول: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} والحسنة هي أي خير يمسهم مساً خفيفاً، {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} ، فأنت مهما كادوا لك فلن يصيبوك بأذى. إن المطلوب منك أن تصبر على عداوتهم، وتصبر على شرّهم، وتصبر على فرحهم في المصائب، وتصبر على حزنهم من النعمة تصيبك أو تمسك، اصبر فيكون عندك مناعة؛ وكيدهم لن ينال منك اصبر واتق الله: لتضمن أن يكون الله في جانبك، {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} . وما الكيد؟ الكيد هو أن تبيت وتحتال على إيقاع الضرر بالغير بحيث يبدو أنه كيدٌ من غيرك، أي تدبر لغيرك لتضره. وأصل الكيد مأخوذ من الكيد والكبد، وهما بمعنى واحد، فما يصيب الكبد يؤلم؛ لأن الكبد هو البضع القوي في الإنسان، إذا أصابه شيء أعيى الإنسان وأعجزه، ويقولون: فلان أصاب كبد الحقيقة أي توصل إلى نقطة القوة في الموضع الذي يحكي عنه. وما معنى يبيتون؟ قالوا: إن التبييت ليس دليل الشجاعة، وساعة ترى واحداً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1722 يبيت ويمكر فاعرف أنه جبان؛ لأن الشجاع لا يكيد ولا يمكر، إنما يمكر ويكيد الضعيف الذي لا يقدر على المواجهة، فإن تصبروا على مقتضيات عداواتهم وتتقوا الله لا يضركم كيدهم شيئا؛ لأن الله يكون معكم. ويذيل الحق الآية بالقول الكريم: {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} . وساعة ترى كلمة «محيط» فهذا يدلك على أنه عالم بكل شيء. والإحاطة: تعني ألا تشرد حاجة منه. وها هي ذي تجربة واقعية في تاريخ الإسلام؛ يقول الحق فيها مؤكدا: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وعلى كل منا أن يذكر صدق هذه القضية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1723 إنه في هذه المرة - في غزوة أحد - جاء الكفار بثلاثة آلاف وكان المسلمون قلة، سبعمائة مقاتل فقط، وحتى يبين الحق صدق قضاياه في قوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} وليس المقصود هنا الكيد التبييتي بل عملهم العلني، أي واذكر صدق هذه القضية: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} ، والغدوة هي: أول النهار، والرواح: آخر النهار، والأهل: تطلق ويراد بها الزوجة، والمقصود هنا حجرة عائشة؛ لأن الرسول كان فيها في هذا الوقت الذي أراد فيه كفار قريش أن يثأروا لأنفسهم من قتلى بدر وأسراهم، لقد جمعوا حشودهم، فكل موتور من معركة بدر كان له فرسان وله رجال، حتى انهم بعد معركة بدر قال زعيمهم أبو سفيان لأصحابه: قل للنساء لا تبكين قتلاكم فإن البكاء يذهب الحزن، فالدموع يسمونها غسل الحزن، أو ذوب المواجيد، فساعة يبكي إنسان حزين يقول من حوله: دعوه يرتاح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1723 فلو حزنت النساء وبكين على قتلى بدر لهبطت جذوة الانتقام؛ لذلك قال أبو سفيان: قل لهن لا يبكين. إنه يريد أن يظل الغيظ في مسألة بدر موجوداً إلى أن يأخذوا الثأر. وفعلاً اجتمع معسكر الكفر في ثلاثة آلاف مقاتل عند أحد، وبعد ذلك استشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذه المسألة أصحابه وأرسل إلى واحد من أكبر المنافقين هو عبد الله بن أبي بن سلول، وما استدعاه إلا في هذه المعركة، فقال عبد الله بن أبي بن سلول وأكثر الأنصار: يا رسول الله نحن لم نخرج إلى عدو خارج المدينة إلا نال منا، ولم يدخل علينا عدو إلا نلنا منه، فإنا نرى ألا تخرج إليهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من الصحابة بالخروج إليهم، وقالوا: «يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جَبُنا عنهم وضعفنا، ولم يترك أصحاب هذا الرأي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى وافقهم على ما أرادوا» فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيته فلبس درعه وأخذ سلاحه، وظن الذي ألحوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخروج أنهم قد استكرهوه على ما لا يريد فندموا على ما كان منهم، ولما خرج عليهم قالوا: استكرهناك يا رسول الله ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما ينبغي لنبي لبس لأْمَتَهُ أن يضعها حتى يقاتل» . وخرجوا إلى الحرب، وهذا هو الذي يُذَكِّرُ به القرآن صدقا للقضية التي جاءت في الآية السابقة: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1724 اذكر يا محمد: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] و {تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي توطن المؤمنين في أماكن للقتال، وبوأت فلانا يعني: وطنته في مكان يبوء إليه أي يرجع، واسمه وطن؛ لأن الوطن يرجع إليه الإنسان. انظر إلى الدقة الأدائية لقول الحق: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي تجعل لهم مباءة ووطنا. وكلمة «مقاعد» أي أماكن للثبات، والحرب كرّ وفرّ وقيام، والذي يحارب يثبته الله في المعركة، فكأنه مُوَطَّنٌ في الميدان، فكأن أمر الرسول إلى المقاتلين يتضمن ألا يلتفت أي منهم إلى موطن آخر غير موطنه الذي ثبته وبوَّأته فيه أي إن هذا هو وطنك الآن؛ لأن مصيرك الإيماني سيكون رهناً به. إذن فقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ} أي توطن «المؤمنين» وتقول لهم: إن وطنكم هو مقاعدكم التي ثبتكم بها. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بالرماة؛ وأمّر عليهم «عبد الله بن جبير» وهم يومئذ خمسون رجلا وقال رسول الله لهم: «قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا» . لكنهم لم يقدروا على هذه لأن نفوسهم مالت إلى الغنيمة؛ وشاء الله أن يجعل التجربة في محضر من رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: حتى يبين للمؤمنين في كل المعارك التي تلك أن اتباع أمر القائد يجب أن يكون هو الأساس في عملية الجندية. وإنكم إن خالفتم الرسول فلا بد أن تنهزموا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1725 وقد يقول قائل: الإسلام انهزم في أُحد. ونقول: لا، إن الإسلام انتصر. ولو أن المسلمين انتصروا في «أحد» مع مخالفة الرماة لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أكان يستقيم لرسول الله أمر؟ إذن فقد انهزم المسلمون الذين لم ينفذوا الأمر، وكان لا بد من أن يعيشوا التجربة وهم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فحينما هبت ريح النصر على المؤمنين في أول المعركة، ابتدأ المقاتلون في الانشغال بالأسلاب والغنائم، فقال الرماة: سيأخذ الأسلاب غيرنا ويتركوننا ونزلوا ليأخذوا الغنائم، فانتهز خالد بن الوليد وكان على دين قومه انتهز الفرصة وطوقهم وحدث ما حدث وأذيع وفشا في الناس خبر قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانكفأوا وانهزموا فجعل رسول الله يدعو ويقول: «إليّ عباد الله» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا: يا رسول الله: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين إن التحقيق التاريخي لمعركة أُحد قد أكد أن المسألة لا تُعتبر هزيمة ولا انتصاراً؛ لأن المعركة كانت لا تزال مائعة. وبعدها دعا الرسول من كان معه في غزوة أحد إلى الخروج في طلب العدو، وأدركهم في حمراء الأسد وفَرَّ الكافرون. إنّ الله أراد أن يعطي المؤمنين درساً في التزام أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال الحق: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} . إن الحق يذكر بمسئوليات القائد، الذي يوزع المهام، فهذا جناح أيمن وذاك جناح أيسر، وهذا مقدمة وهذا مؤخرة. ويذيل الحق هذا بقوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} حتى يعرف المؤمنين أنه سبحانه قد شهد أن رسوله قد بوأ المؤمنين مقاعد القتال، وسبحانه «عليم» بما يكون في النيات؛ لأن المسألة في الحرب دفاع عن الإيمان وليست انقياد قوالب، ولكنها انقياد قلوب قبل انقياد القوالب. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1726 والفشل هو الجبن، والطائفتان هما «بنو حارثة» من الأوس، «وبنو سلمة» من الخزرج، وهؤلاء كانوا الجناح اليمين والجناح اليسار، فجاءوا في الطريق إلى المعركة وسمعوا كلام المنافق ابن سلول، إذ قال لهم: لن يحدث قتال؛ لأنه بمجرد أن يرانا مقاتلو قريش سيهربون. وقال ابن سلول المنافق للرسول: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم. إلا أن عبد الله ابن حارثة قال: أنشدكم الله وأنشدكم رسول الله وأنشدكم دينكم. فساروا إلى القتال وثبتوا بعد أن همّوا في التراجع. وما معنى «الهمّ» هنا؟ إن الهم هو تحرك الخاطر نحو عملية ما، وهذا الخاطر يصير في مرحلة ثانية قصداً وعزماً، إذن فالذي حدث منهم هو مجرد هَمّ بخاطر الإنسحاب، لكنهم ثبتوا. ولماذا ذلك؟ لقد أراد الله بهذا أن يُثبت أن الإسلام منطقي في نظرته إلى الإنسان، فالإنسان تأتيه خواطر كثيرة. لذلك يورد الحق هذه المسألة ليعطينا العلاج. فقال: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} . وقد قال واحد من الطائفتين: والله ما يسرني أني لم أهم - أي لقد انشرح قلبي لأني هممت - لأني ضمنت أين من الذين قال الله فيهم: {والله وَلِيُّهُمَا} ، وحسبي ولاية الله. لقد فرح لأنه أخذ الوسام، وهو ولاية الله. وهكذا نلتقط العبر الموحية من الآيات الكريمات حول غزوة أحُد، ونحن نعلم أن هذه الغزوة التالية لغزوة بدر الكبرى. وغزوة بدر الكبرى انتهت بنصر المسلمين وهم قلة في العدد والعُدة، ففي بدر لم يذهب المسلمون إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1727 المعركة ليشهدوا حرباً، وإنما ليصادروا أموال قريش في العِير تعويضاً لأموالهم التي تركوها في مكة. ومع ذلك شاء الله ألاّ يواجهوا العير المحملة ولكن ليواجهوا الفئة ذات الشوكة، وجاء النصر لهم. ولكن هذا النصر، وإن يكن قد ربّى المهابة للمسلمين في قلوب خصومهم، فإنه قد جمّع همم أعداء الإسلام ليتجمعوا لتسديد ضربة يردون بها اعتبار الكفر؛ ولذلك رأينا رءوس قريش وقد منعت نساءها أن يبكين على قتلاهم؛ لأن البكاء يُريح النفس المتعبة، وهم يريدون أن يظل الحزن مكبوتاً ليصنع مواجيد حقدية تحرك النفس البشرية للأخذ بثأر هؤلاء، هذا من ناحية العاطفة التي يحبون أن تظل مؤججة، ومن ناحية المال فإنهم احتفظوا بمال العير الذي نجا ليكون وسيلة لتدبير معركة يردون فيها اعتبارهم. وقد حاولوا قبل أحُد أن يفعلوا شيئاً، ولكنهم كانوا يُرَدّون على أعقابهم. فمثلاً قاد أبو سفيان حملة مكونة من مائة، وأراد أن يهاجم بها المدينة فلما نمى خبرها إلى سيدنا رسول الله نهض بصحابته إليهم، فبلغ أبو سفيان خروج رسول الله، ففرّ هارباً وألقى ما عنده من مؤنة في الطريق ليخفف الحمل على الدواب لتسرع في الحركة، ولذلك يسمونها «غزوة السويق» لأنهم تركوا طعامهم من السويق. كما حاول بعض الكفار أن يُغيروا على المدينة بعد ذلك أكثر من مرة ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يذهب إليهم على رأس مقاتلين فمرة عددهم مائة ومرة مائة وخمسون ومرة مائتان، وفعلاً شتت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شملهم. وكان من خطته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يذهب إلى قوم كان يبلغه أنهم يُريدون أن يتآمروا لغزو المدينة أن يظل في بلدهم وفي معسكرهم وقتا ليس بالقليل. كل ذلك سبق غزوة أُحد. وبعد ذلك تجمعوا ليجيئوا لغزوة أُحد، وكان ما كان، والآيات التي تعالج هذه الغزوة فيها إيحاءات بما جاء في المعركة، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بوأ للمقاتلين مقاعد للقتال، وأمرهم بالثبات في تلك المواقع لكن بعضا من المقاتلين ترك مكانه، والبعض الآخر همّ بالانسحاب، لكنه ثبت أخيراً، وفرّ كفار قريش. وقد تجلت في هذه المعركة آيات الله الكبيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1728 فحين نصر الله سبحانه وتعالى المسلمين «ببدر» وهم قلة، لم يخرجوا لمعركة وإنما خرجوا لمصادرة عير. وربما ظن أناس أنهم بمجرد نسبتهم إلى الله وإلى الإسلام سينصرون على هذه الوتيرة، ويتركون الأسباب فأراد الله أن يعلمهم أنه لا بد من استنفاد الأسباب، إعداداً لعدة ولعدد، وطاعة لتوجيه قائد. فلما خالفوا كان ولا بد أن يكون ما كان. والمخالفة لم تنشأ إلا بعد استهلالٍ بالنصر، ولذلك سيجيء فيما بعد ستون آية حول هذه الغزوة؛ لتبين لنا مناط العبرة في كل أطوارها لنستخرج منها العظة والدرس. ونعلم أن المنتصرين عادةً يكون الجو معهم رخاءً. ولكن الكلام هنا عن هزيمة من لا يأخذون بأسباب الله، وهذا أمر يحتاج إلى وقفة، فجاء القرآن هنا ليقص علينا طرفاً من الغزوة لنستخرج منها العبرة والعظة، العبرة الأولى: أنهّم حينما خرجوا، تخلف المنافقون بقيادة ابن أبَيّ، إذن فالمعركة إنما جاءت لتمحص المؤمنين. والتمحيص يأتي للمؤمن ويعركه عركا، ويبين منه مقدار ما هو عليه من الثبات ومن اليقين، والحق إنما يمحص الفئة المؤمنة لأنها ستكون مأمونة في التاريخ كله إلى أن تقوم الساعة على حماية هذه العقيدة، فلا يمكن أن يتولى هذا الأمر إلا أناس لهم قلوب ثابتة، وجأش قوي عند الشدائد، وهمة دونها زخارف الدنيا كلها. وبعد ذلك يعالج النفس البشرية في أوضاعها البشرية، فعقائد الإيمان لا تنصب في قلوب المسلمين بمجرد إعلان الإيمان، ولكن كل مناسبة تعطي دفعة من العقيدة يتكون بعد ذلك الأمر العقدي كله. ولذلك يبين لنا الحق أن طائفتين من المؤمنين قد همت بالتراجع، فهم نفوس بشرية، ولكن أنفّذت الطائفتان ذلك الهم أم رجعت وفاءت إلى أمر الله؟ لقد رجعت الطائفتان. وهكذا رأينا بين الذين أعلنوا إيمانهم فئة نكصت من أول الأمر وفئة خرجت ثم عادت. لقد تحدثت النفوس ولكن أفراد تلك الفئة لم يقفوا عند حديث النفس بل ثبتوا إلى نهاية الأمر، ومنهم من ثبت إلى الغاية السطحية من الأمر كالرماة الذين رأوا النصر أولا، وهؤلاء من الذين ثبتوا، ما فرّوا أولاً مع ابن أبيّ، وما كانوا من الطائفة التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1729 همت، ولكنهم كانوا من الذين ثبتوا. لكنهم عند بريق النصر الأول اشتاقوا للغنائم، وخالفوا أمر الرسول، ولنقرأ قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} [آل عمران: 152] وبعد ذلك تأتي لقطة أخرى وهي ألا نفتن في أحد من البشر، فخالد بن الوليد بطل معسكر الكفر في أُحد، وهو الذي استغل فرصة نزول الرماة عن أماكنهم، وبعد ذلك طوق جيش المؤمنين، وكان ما كان، من خالد قبل أن يسلم، ألم يكن في غزوة الخندق؟ لقد كان في غزوة الخندق. وكان في غزوات كثيرة غيرها مع جند الشرك، فأين كانت عبقريته في هذه الغزوات؟ . . إن عبقرية البشر تتصارع مع عبقرية البشر ولكن لا توجد عبقرية بشرية تستطيع أن تصادر ترتيباً ربانياً، ولذلك لم يظهر دور خالد في معركة الخندق، لقد ظهر دوره في معركة أُحد؛ لأن المقابلين لخالد خالفوا أمر القيادة فبقيت عبقرية بشر لعبقرية بشر، ولكنهم لو ظلوا في حضن المنهج الإلهي في التوجيه لما استطاعت عبقرية خالد أن تطفو على تدبيرات ربه أبدا. والتحقيق التاريخي لكل العسكريين الذين درسوا معركة أُحد قالوا: لا هزيمة للمسلمين ولا انتصار للكفار؛ لأن النصر يقتضي أن يُجلي فريق فريقاً عن أرض المعركة، ويظل الفريق الغالب في أرض المعركة. فهل قريش ظلت في أرض المعركة أو فرّت؟ لقد فرّت قريش. ويُفسر النصر أيضاً بأن يؤسر عدد من الطائفة المقابلة، فهل أسرت قريش واحداً من المسلمين؟ لا. ولقد علموا أن المدينة خالية من المؤمنين جميعا وليس فيها إلا من تخلف من المنافقين والضعاف من النساء والأطفال، ولم يؤهلهم فوزهم السطحي لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1730 يدخلوا المدينة. إذن فلا أسروا، ولا أخذوا غنيمة، ولا دخلوا المدينة، ولا ظلوا في أرض المعركة، فكيف تسمي هذا نصراً؟ فلنقل: إن المعركة ماعت. وظل المسلمون في أرض المعركة. وهنا تتجلّى البطولة الحقة؛ لأننا كما قلنا في حالة النصر يكون الأمر رخاء، حتى من لم يُبْلِ في المعركة بلاءً حسناً ينتهز فرصة النصر ويصول ويجول، ولكن المهزومين والذين أصيب قائدهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وضعف أن يصعد الجبل، حتى أن طلحة بن عبيد الله يطأطئ ظهره لرسول الله ليمتطيه فيصعد على الصخرة. ورسول الله يسيل منه الدم بعد أن كسرت رباعيته وتأتي حلقتان من حلق المغفر في وجنته، بعد هذا ماذا يكون الأمر؟ حتى لقد أرجف المرجفون وقالوا: إن رسول الله قد قُتل. وكل هذا هو من التمحيص، فمن يثبت مع هذا، فهو الذي يؤتمن أن يحمل السلاح لنصرة كلمة الله إلى أن تقوم الساعة. ويتفقد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بطلاً من أبطال المسلمين كان حوله فلا يجده، إنه «سعد بن الربيع» . يقول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَن رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟» فقال رجل من الأنصار هو أُبَيُّ بن كعب: فذهبت لأتحسسه، فرأيته وقد طُعن سبعين طعنة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية قوس. فلما رآه قال له: رسول الله يقرئك السلام، ويقول لك: كيف تجدك - أي كيف حالك -؟ قال سعد بن الربيع: قل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيا عن أمته، وقل للأنصار ليس لكم عند الله عُذر إن خَلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف. ثم فاضت روحه. انظروا آخر ما كان منه، حين أُثخن في المعركة فلم يقو على أن يحارب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1731 بنصاله، انتهز بقية الحياة ليحارب بمقاله، ولتصير كلماته دوياً في آذان المسلمين. وليعلم أن هؤلاء الذين أثخنوه جراحاً ما صنعوا فيه إلا أن قربوه إلى لقاء ربه، وأنه ذاهب إلى الجنة. وتلك هي الغاية التي يرجوها كل مؤمن. ونجد أيضاً أن الذين يعذرهم القرآن في أن يشهدوا معارك الحرب، يتطوعون للمعارك! فمثلا عمرو بن الجموح، كان أعرج، والعرج عذر أقامه الله مع المرض والعمى؛ لأنه سبحانه هو القائل: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} [النور: 61] وكان لعمرو بن الجموح بنون أربعة مثل الأسْد قد ذهبوا إلى المعركة، ومع ذلك يطلب من رسول الله أن يذهب إلى المعركة ويقول له: يا رسول الله إن بَنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة. فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أمّا أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك. وقال لبنيه: ما عليكم ألاّ تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة، فخرج معه فقتل. وهذا مؤمن آخر يقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يا رسول الله إن ابني الذي استشهد ببدر رأيته في الرؤيا يقول لي: «يا أبت أقبل علينا» فأرجو أن تأذن لي بالقتال في «أحُد» فأن له فقاتل فقتل فصار شهيداً. وتتجلى الروعة الايمانية والنسب الاسلامي في حذيفة بن اليمان، لقد كان ابوه شيخاً كبيراً مسلماً فأخذ سيفه ولحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعل الله يرزقه الشهادة في سبيل الله، فدخل في المعركة ولا يعلم به أحد فقتله المسلمون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1732 ولا يعرفونه، فقال ابنه حذيفة، أبي والله. فقالوا والله ما عرفناه، وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يؤدي ديته، فقال له حذيفة بن اليمان: وأنا تصدقت بها على المسلمين. هذه الأحداث التي دارت في المعركة تدلنا على أن غزوة أُحد كان لا بد أن تكون هكذا، لتمحص المؤمنين تمحيصاً يؤهلهم لأن يحملوا كلمة الله ويعلوها في الأرض. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1733 لقد نقلهم من معركة فيها شبه هزيمة أو عدم انتصار إلى نصر، فكأنه يريد أن يقول: إن الأمر بالنسبة لكم أمر إلهكم الذي يرقبكم ويعينكم ويمدكم ويرعاكم. وإياكم ان تعتمدوا على العدد والعُدة ولكن اعتمدوا على الحق سبحانه وتعالى وعلى ما يريده الحق توجيها لكم، لأن مدد الله إنما يأتي لُمستَقْبل لمدد الله، ولا يأتي المدد لغير مستقبل لمدد الله. ونعرف أن فيه فرقاً بين الفاعل وبين القابل، فالفاعل شيء والقابل للانفعال بالفعل شيء آخر. وضربنا لذلك مثلاً: بأن الفاعل قد يكون واحداً، ولكن الانفعال يختلف، وحتى نقرب المسألة نقول: كوب الشاي تأتي لتشرب منه فتجده ساخناً فتنفخ فيه ليبرد، وفي الشتاء تصبح لتجد يدك باردة فتنفخ فيها لتدفأ، إنك تنفخ مرة لتبرد كوب الشاي، ومرة تنفخ لتدفئ يدك، إذن فالفاعل واحد وهو النافخ، ولكن القابل للانفعال شيء آخر، ففيه فاعل وفيه قابل، ومثال آخر: إن القرآن كلام الله ولو أنه نزل على الجبال لخرّت خاشعة، ومع ذلك يسمعه أناس، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1733 لا يستر الله عليهم بل يكشفهم لنا ويفضحهم بعظمة ألوهيته: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} [محمد: 16] إنهم لم ينفعلوا بالقرآن، وقولهم: «ماذا قال آنفاً» معناه استهتار بما قيل. ونجد الحق يرد على ذلك بقوله تعالى: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} [محمد: 16] إن الفاعل واحد والقابل مختلف. ويتابع الحق بلاغه الحكيم في قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إذن فمدد الله لكم إنما يتأتى لمستقبلٍ إيماني، فان لم يوجد المستقبل - بكسر الباء - فلا يوجد المدد. فاذا كنت لا تستطيع ان تستقبل ما ترسله السماء من مدد نقول لك: أصلح جهاز استقبالك؛ لأن جهاز الاستقبال كالمذياع الفاسد، إن الإرسال من الإذاعات مستمر، لكن الذياع الفاسد هو الذي لا يستقبل. إذن فإن كنت تريد أن تستقبل عن الله فلا بد أن يكون جهاز استقبالك سليما. ويوضح الحق ذلك بقوله جل جلاله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1734 رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1735 ويبين سبحانه وتعالى كيفية إصلاح جهاز الاستقبال لتلقي مدد الله فيقول: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1735 إن الحق سبحانه وتعالى ضرب المثل بالصبر والتقوى في بدر مع القلة فكان النصر، وهنا في أُحد لم تصبروا؛ فساعة أن رأيتم الغنائم سال لعابكم فلم تصبروا عنها، ولم تتقوا أمر الله المبلغ على لسان رسوله في التزام أماكنكم. . فكيف تكونون أهلاً للمدد؟ إذن من الذي يحدد المدد؟ إن الله هو الذي يعطي المدد، ولكن من الذي يستقبل المدد لينتفع به؟ إنه القادر على الصبر والتقوى. إذن فالصبر والتقوى هما العُدّة في الحرب. لا تقل عدداً ولا عدة. لذلك قال ربنا لنا: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} ولم يقل: أعدوا لهم ما تظنون أنه يغلبهم، لا. أنتم تعدون ما في استطاعتكم، وساعة تعدون ما في استطاعتكم وأسبابكم قد انتهت. . فالله هو الذي يكملكم بالنصر. والبشر في ذواتهم يصنعون هذا، فمثلا - ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1735 لنفترض أنك تاجر كبير. وتأتيك العربات الضخمة محملة بالبضائع، صناديق وطرود كبيرة، وأنت جالس بينما يفرغ العمال البضائع، وجاء عامل لينزل الطرد فغلبه الطرد على عافيته، وتجد نفسك بلا شعور منك ساعة تجده سيقع تهب وتقوم لنصرته ومعاونته، لقد استنفد هذا العامل أسبابه ولم يقدر، فالذي يعنيه الأمر يمد يده إليه، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى. كأنه يقول ابذل وقدّم أسبابك، فإذا ما رأيت أسبابك انتهت والموقف أكبر منك، فاعلم أنه أكبر منك أنت ولكنه ليس أكبر من ربك إنه سبحانه يقول: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1736 فإياك أن تظن أن المدد بالثلاثة آلاف أو الخمسة آلاف، الذين أنزلهم الله وأمدكم بهم أو بالملائكة المدربين على القتال. . إياكم أن تظنوا أن هذا المدد، هو شرط في نصر الله لك. بذاتك أو بالملائكة؛ إنه قادر على أن ينصرك بدون ملائكة، ولكنها بشرى لتؤنس المادة البشرية، فساعة يرى المؤمنين أعداداً كبيرة من المدد، والكفار كانوا متفوقين عليهم في العدد، فإن أسباب المؤمنين تطمئن وتثق بالنصر. إذن فالملائكة مجرد بُشرى، ولكن النصر من عند الله العزيز الذي لا يٌغلب. وكل الأمور تسير بحكمته التي لا تعلوها حكمة أبداً. ويقول الحق من بعد ذلك: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1736 وقطع الطرف يتحدد بمعرفة ما هو طرف لماذا؟ فإن كان الطرف هو العدد الكثير فقطع الطرف أن يُقتل بعضه. وإن كان الطرف هو أرضا واسعة فقطع الطرف أن يأخذ من أرضهم. ولذلك يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} [الرعد: 41] لقد كانت الأرض الكُفْرٍيّة تخسر كل يوم جزءاً منها لينضم هذا الجزء إلى الأرض الإيمانية، هذا بالنسبة لسعة الأرض، وافرض أن الطرف هو المال، فقطع الطرف هنا يكون بأن نأخذ بعض المال كغنائم، ثم هناك المنزلة التي كانت تهابها الجزيرة كلها، كل الجزيرة تهاب قريشاً، وقوافلها التجارية للشمال والجنوب لا تستطيع قبيلة أن تتعرض لها؛ لأن كل القبائل تعرف أنها ستذهب إلى البيت في موسم الحج، فلا توجد قبيلة تتعرض لها لأنها غداً ستذهب إلى قريش، إذن فالسيادة والعظمة كانت لقريش، وساعة تعلم القبائل أن رجال قريش قد كسروا وانهزموا، وأن رحلتهم إلى الشام أصبحت مهددة، فإنهم يبحثون عن فريق آخر يذهبون إليه. إن قطع الطرف كان على أشكال متعددة، فإن كان طرفَ عددٍ فيقتل بعضهم، وإن كان طرف أرض فبعضها يؤخذ وتذهب إلى أرض إيمانية، وإن كانت عظمة وقهرا تأتهم الهزيمة، وإن كان نفوذاً في الجزيرة فهو يتزلزل {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا} . ولنلحظ أن الحق قد قال: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} - لم يقل ليستأصل - لأن الله سبحانه وتعالى أبقى على بعض الكفار لأن له في الإيمان دوراً، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ممتلئا بالعطف والرحمة والحنان على أمته، وكان يحسن الظن بالله أن يهديهم، ولذلك تعددت آيات القرآن التي تتحدث في هذا الأمر. ها هو ذا الحق يقول: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1737 وفي موقع آخر بالقرآن الكريم يقول الحق: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] والله يقول لرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فإنّما عليك البلاغ» والرسول يحب أن يهتدي إلى الإيمان كل فرد في أمته، فقال الحق: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1738 أي ليس لك يا محمد من الأمر شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بتوبتهم، إو يعذبهم، فلا يحزنك ذلك لأنهم ظالمون أي ما عليك يا محمد إلاّ البلاغ فقط. أما هم فقد ظلموا أنفسهم بالكفر. والظلم كما نعرف هو أخذ الحق من ذي الحق وإعطاؤه لغيره. وقمة الظلم هو إضفاء صفة الألوهية على غير الله وهو الشرك. ولذلك يقول الحق: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] إن الحق يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1738 وهذه مسألة لم تخرج عن ملك الله، لماذا؟ لأن السماوات والأرض وما فيهن ملك لله: قيل أراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد أن خضّب المشركون وجهه بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم - أراد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يدعو عليهم فنهاه الله لعلمه - سبحانه - أن فيهم من يؤمن وأنزل قوله تعالى: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1739 وبما أننا نتحدث عن ملامح في غزوة أحد أريد أن أقول: «جبل أًُحدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» ؛ لأننا سمعنا بعض العارفين بالله حين تذكر كلمة «أحد» قال: أحد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فتعجب القوم لقول الشيخ عبد الله الزيدان الذي قال ذلك، فما رأى عجبهم قال لهم: ألم يخاطبه رسول الله بقوله: «اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان» ، ألم يقل فيه رسول الله: «أحد جبل يحبنا ونحبه» أتريدون أحسن من ذلك في الصحبة! قل: أحد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وقلنا سابقاً: إنك إذا وقف عقلك في حاجة فلا تأخذها بمقاييسك أنت، بل خذها بالمقاييس الأعلى. ونحن نقول هذا الكلام لأن العلم الآن يجري ويسعى سعياً حثيثا مسرعاً حول استخراج بعض أسرار الله في الكون، فبين لنا أن الحيوانات لها لغات تتفاهم بها ويحاولون الآن أن يضعوا قاموسا للغة الأسماك. والحق سبحانه وتعالى ذكر لنا حكاية النملة مع سليمان - عليه السلام - فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1739 {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] هذا القول يدل على أنّ نملة خرجت وقامت بعمل (وردية) كي تحافظ على من معها ثم عادت لتتكلم مع أبناء فصيلتها، وسمعها سيدنا سليمان، فتبسم من قولها. إذن العلم يتسابق ويجد وَيُسَارع الآن ليثبت أن لكل جنس في الوجود لغة يتفاهم بها، وكل جنس في الوجود له انفعال، وكل جنس في الوجود له تكاثر، ولذلك قال الحق لنا على لسان سيدنا سليمان: {ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين} [النمل: 16] وكانت هذه خصوصية لسيدنا سليمان عليه السلام، إذن فللطير منطق. وعندما نتسامى ونذهب إلى الجماد نسمع قول الحق سبحانه في آل فرعون وعدم بكاء الجماد عليهم: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} [الدخان: 25 - 29] هل تبكي السماء والأرض؟ إنه أمر عجيب؛ فالجماد من سماء وأرض لا تتفاهم فقط ولكن لها عواطف أيضاً؛ لأن البكاء إنما ينشأ عن إنفعال عاطفي وجداني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1740 هذا يعني أن الجمادات لا تتكلم فقط، ولكنها تحس أيضاً. فالأرض تخرج أثقالها، وتحدث أخبارها، كيف؟ {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] والسماء والأرض أتيا إلى الله في منتهى الطاعة والخشوع: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] إذن فهناك ما هو أكثر من التفاهم، إن لها عواطف مثلك تماما، وكما تحزنك حاجة فالأرض أيضاً تبكي، وما دامت تبكي إذن فلها مقابل بأن يفرح، ويقول الله تعالى عن أرض فرعون: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} فلو أنها لم تبك مع بعض الناس؛ لما كان لهذا الكلام ميزة. لذلك قال الإمام علي - كرم الله وجهه -: إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع مصلاه؛ لأنه سيحرم من نعمة الإيمان، ومصعد عمله، موضع في الأرض وموضع في السماء. إذن فلا بد أن نفهم أن لكل شيء شعوراً. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا مات المؤمن استبشرت له بقاع الأرض فليس من بقعة إلا وهي تتمنى أن يدفن فيها» . لماذا نقول هذا الكلام الآن؟ نقول ذلك حتى إذا ثبت بالعلم أن لكل شيء لغة، ولكل شيء في أجناس الكون تفاهما، يقال إن فيه ناساً هبت عليهم نسمات الإيمان فأدركوها وأحسوها من القرآن، فلا يدعي أحد أنه ابتكر من ذات نفسه لأنها في القرآن وإن كنا لا نعرف كيف تأتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1741 وهذه المعركة - معركة أُحد - التي أخذت ستين آية، نجد أن الحق تكلم عنها هنا فقال: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} و {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ} وقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} ، وبعد ذلك يترك الغزوة في حرارتها ويأتينا بأشياء يضعها هنا، ثم يأتي ليكمل الغزوة. لو أن هذه لقطة من الغزوة وتنتهي ثم يأتي موضوع آخر، لما شغلنا أنفسنا، إنما الغزوة ستأتي فيها ستون آية، فكيف ينهي الكلام في الغزوة ولا يعطينا إلا استهلال الغزوة، وبعد ذلك ينصب القرآن على معانٍ بعيدة عن الغزوة؟ فما الذي يجعله - سبحانه - يترك أمر الغزوة ليقول: {يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَِ} [آل عمران: 130 - 138] لماذا لم يعطنا الحق إلا استهلاك الغزوة وبعد ذلك انصب على قضايا أولها قضية الربا، ما العلاقة بين هذه القضايا وتلك الغزوة؟ . وأقول: رحم الله صاحب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1742 الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب فقد استطاع أن يستخلص من هذه النقلة مبادئ إيمانية عقدية لو أن المسلمين في جميع بقاع الأرض جعلوها نصب أعينهم لما كان لأي دولة من دول الكفر غلب علينا. ونريد أن نفهم هذه اللقطات، ولماذا استهلت بمسألة الربا؟ لأن الذي كان سبباً في الهزيمة أو عدم النصر في معركة أُحد أنهم طمعوا في الغنيمة. والغنيمة مال زائد، والربا فيه طمع في مال زائد. والقرآن حين يعالج هنا قضية حدثية، والأحداث أغيار تمر وتنتهي، فهو سبحانه يريد أن يستبقي عطاء الحدث ليشيع في غير زمان الحدث، وإلا فالحدث قد يمر بعظاته وعبره وينتهي ولا تكون له فائدة. والنفس حين تمر بالأحداث تكون ملكاتها متفتحة؛ لأن الحدث - كما قال المغفور له الشيخ سيد قطب - يكون ساخناً، فحين يستغل القرآن الحدث قبل أن يبرد فإن القضية التي تتعرض لها الموعظة تتمكن من النفس البشرية. وهو سبحانه لم يرد أن تمر أحداث أُحد بما فيها من العبر والعظات إلا ويستغلها القرآن الكريم ليثبت بها قضايا إيمانية تشيع في غير أزمنة الحدث من الحروب وغيرها لتنتظم أيضاً وقت السلام. فآية الربا هنا كأنما سقطت وسط النصوص التي تتعرض لغزوة أحد. والسطحيون قد يقولون: ما الذي جعل القرآن ينتقل من الكلام عن أُحد إلى أن يتكلم في الربا مرة ثانية بعد أن تكلم عنه أولاً؟ ونقول: إن القرآن لا يؤرخ الأحداث، وإنما يُريد أن يستغل أحداثاً ليبسط ويوضح ما فيها من المعاني التي تجعل الحدث له عرض وله طول وله عمق؛ لأن كل حدث في الكون يأخذ من الزمن قدر الحدث، والحدث له طول هو قدر من الزمن، يكون ساعة أو ساعتين أو ليلة مثلا، هذا هو طول الحدث. والأحداث التي يجريها الله لها طول يحدده عمر الحدث الزمني، ولها عرض يعطيها الاتساع، فبعد أن كانت خطاً مستقيماً صارت مساحة، ويجعلها الحق شاملة لأشياء كثيرة، فهو لا يريد للحدث أن يسير كخط مستقيم، بل يريده طريقا واسعاً له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1743 مساحة وله عرض. هذا العرض يعطيه رقعة مساحية تأخذ كثيراً من الأشياء، وهذا أيضا قد ينتهي مع الحدث، لذلك يريد الله أن يعطي للحدث بعداً ثالثاً وهو العمق في التاريخ فيعطي عطاءه، كما نستفيد نحن الآن من عطاء حدث هو غزوة أُحد. إذن فالحدث له حجم أيضاً، وهذا ما يجعل الناس تقف لتقول: إن صلة الرحم تطيل العمر، والعمر له حد زمني محدد وهو الخط المستقيم له، فهناك واحد يزيد من عرض عمره، فبدلاً من أن ينفع الناس في مجال صغير فهو يعمل وينفع في مجال أوسع، إذن فهو يعطي لعمره مساحة. وهناك إنسان آخر يريد أن يكون أقوى في العمر، فماذا يعمل؟ إنه يعطي لعمره عمقاً، فبدلاً من أن يعمل لمجرد حياته وينتهي عمره مهما كانت رقعته واسعة، فهو يزيد من عمله الصالح ويترك أثراً من علم أو خير يستمر من بعد حياته كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» . ولذلك يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24 - 25] هي كلمة طيبة قيلت، لكنّها مثل الشجرة الطيبة؛ لأنها ترسخ في أذن من يسمعها فتصير حركة خاضعة للكلمة، وكلما فعل السامع لهذه الكلمة فعلاً ناتجاً من تأثير هذه الكلمة فإن بعض الثواب يعود إلى من قال هذه الكلمة حتى ولو كان قد مات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1744 فكأن قائل هذه الكلمة ما زال يعيش، وكأن عمره قد طال بكلمته الطيبة إذن فأعمال الخير التي تحدث من الإنسان ليس معناها أنها تطيل العمر؛ لأن العمر محدود بأجل، ولكنْ هناك إنسان يعطي عمره عرضاً، وآخر يعطيه عمقاً ويظل العطاء منه موصولاً إلى أن تقوم الساعة، فكأنه أعطى لنفسه عمراً خالداً. ويقولون: والذكر للإنسان عمر ثان. والحق سبحانه وتعالى يوضح الدروس المستفادة من غزوة أُحد، إن أول مخالفة كانت سبباً ليس في الهزيمة، ولكن دعنا نقل: «في عدم إتمام النصر» ، لأنهم بدأوا منتصرين، ولم يتم النصر لأنه قد حدثت مخالفة، ودوافع هذه المخالفة انهم ساعة رأوا الغنائم، اندفعوا إليها، إذن فدوافعها هي طلب المال من غير وجه مشروع؛ لأن النبي قال لهم: «انضحوا عنا الخيل ولا نؤتين من قبلكم، الزموا أماكنكم إن كانت النوبة لنا أو علينا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم» وبهذا صارت مبارحة المكان أمراً غير مشروع، فتطلع النفس إلى شيء في غير ما أمر به رسول الله يعتبر أمراً غير مشروع والتطلع هنا كان للمال، وهكذا الربا. وأراد الحق أن تكون سخونة الحدث، والأثر الذي نشأ من الحدث في أن المسلمين لم يتم نصرهم، وتعبوا، وكان مصدر التعب أن قليلاً منهم أحبوا المال الزائد من غير وجهه المشروع. فأراد - سبحانه - أن يكون ذلك مدخلا لبيان الأثر السيء للتعامل بالربا. إذن فهذه مناسبة في أننا نجد آية الربا هنا وهي توضح الآثار السيئة للطمع في المال الزائد عن طريق غير مشروع، والقرآن فيه الكثير من المواقف التي توضح آثاراً تبدو في ظاهرها غير مترابطة، ولكن النظرة العميقة تؤكد الترابط. وقلنا من قبل في قول الله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238 - 239] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1745 قد يقول أحد السطحيين: إن الحق سبحانه وتعالى كان يتكلم عن الطلاق قبل هاتين الآيتين فقال سبحانه: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237] ويترك الحق الحديث عن الطلاق ويأمر بالحفاظ على الصلاة بقوله الحكيم: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} . وبعد ذلك يعود الحق لاستكمال حديث الطلاق والفراق بالموت. {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 240] إنه يتكلم عن الطلاق، والوفاة، ثم ينزل بينهما آية الصلاة، لماذا؟ ليتضح لنا أن المنهج الإسلامي منهج متكامل. إياك أن تقول: إن الطلاق غير الصلاة، غير الوفاة، أبداً، إنه منهج متكامل. ولأنه - سبحانه وتعالى - يريد أن ينبهنا إلى أن الطلاق عملية تأتي والنفس فيها غضب وتأتي والزوج والزوجة وأهل الزوج وأهل الزوجة في كدر، فيقول لهم المنهج: لو كنتم تحسنون الفهم لفزعتم إلى الصلاة حين تواجهكم هذه الأمور التي فيها كدر. وساعة تكون في كدر قم وتوضأ وصَلِّ، لأن النبي علمنا أنه إذا حَزَبه أمر قام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1746 إلى الصلاة، فساعة تجد الجو المشحون بالتوتر بين الزوج والزوجة وأهلهما قل لهم: المسألة صارت أكبر من حيلنا، فهيا نصل ليساعدنا الله على حل هذه المسائل الصعبة وأنا أتحدى ألا يوجد الله حلاً لمشكلة لجأ فيها المسلم إلى الصلاة قبلها. وهكذا نفهم أن الحق قال: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} لأن محافظتكم عليها هي التي ستنهي كل الخلافات؛ لأن الله لايكون في بالكم ساعة ضيقكم وفي ساعة شدتكم فتستسلمون للضيق والشدة وتنسون الصلاة، في الوقت الذي يكون فيه الإنسان أحوج ما يكون إلى الصلاة. إنك في وقت الضيق والشدة عليك أن تذهب إلى ربك، وأقول هذا المثل - ولله المثل الأعلى - إن الولد الذي يضربه أصحابه يذهب إلى أبيه، كذلك زوجتك إذا أغضبتها تذهب إلى أهلها، فكيف لا تذهب إلى ربك وقت شدتك وكربك؟ . وهكذا نجد أن قوله الحق: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} جاء في المكان الصحيح، وهكذا آية الربا، جاءت في مكانها هنا وخصوصاً أنه تكلم عن الربا أولاً، فتأتي الحادثة وسخونة الحدث وينزل هذا القرآن الكريم. كي يعرف كل من يريد مالاً زائداً على غير ما شرع الله أنّه سيأتي منه البلاء على نفسه وعلى غيره، فالبلاء في أُحد شمل الجميع: الرماة وغير الرماة أيضا. إذن فكل الدنيا تتعب عندما تخالف منهج الله، والمال الزائد من غير ما شرع الله إن لم يترك فقد آذن الله من يأكله بحرب من الله ومن رسول الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1747 والربا زيادة في المال، فهل يؤكل؟ نعم؛ لأن كل المسائل المالية من أجل اللقمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1747 التي تأكلها، هذا هو الأصل. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «من أصبح منكم آمناً في سِرْبِهِ مُعَافىً في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا» . ونعرف أنه عندما يكون الواحد منا في منطقة ليس فيها رغيف خبز، فلن تنفعه ملكية جبل من الذهب. {لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} وقوله سبحانه: {أَضْعَافاً} و {مُّضَاعَفَةً} هو كلام اقتصادي على أحدث نظام، فالأضعاف هي: الشيء الزائد بحيث إذا قارنته بالأصل صار الأصل ضعيفاً، فعندما يكون أصل المال مائة - على سبيل المثال - وسيؤخذ عليها عشرون بالمائة كفائدة فيصبح المجموع مائة وعشرين. إذن فالمائة والعشرون تجعل المائة ضعيفة، هذا هو معنى أضعاف. فماذا عن معنى «مضاعفة» ؟ إننا سنجد أن المائة والعشرين ستصبح رأس مال جديداً، وعندما تمر سنة ستأخذ فائدة على المائة وعلى العشرين أيضا، إذن فالأضعاف ضوعفت أيضاً، وهذا ما يسمى بالربح المركب، وهل معنى هذا أننا نأكله بغير أضعاف مضاعفة؟ {لا؛ لأن الواقع في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان هكذا. وقد يقول لك واحد: أنا أفهم القرآن وأن المنهي هو الأضعاف المضاعفة، فإذا لم تكن أضعافاً مضاعفة فهل يصح أن تأخذ ربحاً بسيطاً يتمثل في نسبة فائدة على أصل المال فقط؟ ولكن مثل هذا القائل نرده إلى قول الله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] إن هذا القول الحكيم يوضح أن التوبة تقتضي أن يعود الإنسان إلى حدود رأس ماله ولا يشوب ذلك ربح بسيط أو مركب. وعندما نجد كلمة {أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} فهي قد جاءت فقط لبيان الواقع الذي كان سائداً في أيامها. وبعد ذلك يقول الحق تذييلاً للآية: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ونقول دائماً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1748 ساعة نرى كلمة «اتقوا» يعني اجعلوا بينكم وبين الله وقاية، وهل تكون الوقاية بينكم وبين الله بكل صفات جماله وجلاله؟ لا، فالوقاية تكون مما يتعب ومما يؤلم ويؤذي، إذن فاتقوا الله يعني: اجعلوا بينكم وبين صفات جلاله من جبروت وقهر وانتقام وقاية، وعندما يقول الحق: {واتقوا الله} فهي مثل قوله: {واتقوا الله} ، لأن النار جند من جنود صفات الجلال. وعندما يقول الحق: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} نعرف أن كلمة «الفلاح» هذه تأتي لترغيب المؤمن في منهج الله، وقد جاء الحق بها من الشيء المحس الذي نراه في كل وقت، ونراه لأنه متعلق ببقاء حياتنا، وهو الزرع والفلاحة، أنت تحرث وتبذر وتروي، وبعد ذلك تحصد. إذن فهو يريد أن يوضح لك أن المتاعب التي في الحرث، والمتاعب التي في البذر، والمتاعب التي في السقى كلها متى ترى نتيجتها؟ أنت ترى النتيجة ساعة الحصاد، فالفلاح يأخذ (كيلتين) من القمح من مخزنه كي يزرع ربع فدان، ولا نقول له: أنت أنقصت المخزن؛ لأنه أنقص المخزن للزيادة، ولذلك فالذي لم ينقص من مخزنه ولم يزرع، يأتي يوم الحصاد يضع يده على خده نادماً ولا ينفع الندم حينئذ} إن الحق يريد أن يقول لنا: إن المنهج وإن أتعبك، وإن أخذ من حركتك شيئاً كثيراً إلا أنه سيعود عليك بالخير حسب نيتك وإقبالك على العمل، ولقد ضرب لنا الله المثل في قوله: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] هذا أمر واضح، حبة نأخذها منك فتنقص ما عندك، لكنها تعطيك سبعمائة، إذن فساعة تؤخذ منك الحبة لا تقل: إنك نقصت، إنما قَدِّرْ أنك ستزيد قدر كذا. ويعطينا الله ذلك المثل في خلق من خلقه وهو الأرض، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1749 الأرض الصماء، أنت تعطيها حبة فتعطيك سبعمائة. فإذا كان خلق من خلق الله وهو الأرض يعطيك أضعاف أضعاف ما أعطيت. أفلا يعطيك رَبّ هذه الأرض أضعافاً مضاعفة؟ إنه قادر على أجزل العطاء، هذا هو الفَلاحُ على حقيقته، وبعد ذلك فإنه ساعة يتكلم عن الفلاح يقول لك: إنك لن تأخذ الفلاح فقط ولكنك تتقي النار أيضاً. فيقول الحق سبحانه: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1750 إذن ففيه مسألتان: سلبٌ لمضرة، وإيجابُ منفعة، إنه يوجب لك منفعة الفلاح ويسلب منك مضرّة النار. ولذلك يقول تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] لأنه إذا زُحزح عن النار وأُدخل الجنة؟ إن هذا هو الفوز الكبير، وهذا السبب في أن ربنا سبحانه وتعالى ساعة السير على الصراط سيُرينا النار ونمرُّ عليها، لماذا؟ كي نعرف كيف نجانا الإيمان من هذه، وما الوسيلة كي نفلح ونتقي النار؟ إن الوسيلة هي اتباع منهج الله الذي جاء به على لسان رسوله: {وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1750 و «الرحمة» تتجلى في ألا يوقعك في المتعبة، أما الشفاء فهو أن تقع في المتعبة ثم تزول عنك، لذلك فنحن إذا ما أخذنا المنهج من البدء فسنأخذ الرحمة. {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء: 82] إن الشفاء هو إزالة للذنب الذي تورطنا فيه ويكون القرآن علاجاً، والرحمة تتجلى إذا ما أخذنا المنهج في البداية فلا تأتي لنا أية متاعب. ويقول الحق من بعد ذلك: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1751 والسرعة - كما عرفنا - مقابلها العجلة، إن السرعة هي: التقدم فيما ينبغي، ومعنى أن تتقدم فيما ينبغي: أنك تجعل الحدث يأخذ زمناً أقل، والمثال على ذلك عندما يسرع الإنسان بسيارته من القاهرة إلى الإسكندرية فهو يحاول أن يقطع المائتين والعشرة كيلو مترات في زمن أقل، فبدلاً من أن تأخذ منه ثلاث ساعات في السيارة فهو يسرع كي تأخذ منه ساعتين. إذن فالسرعة هي: التقدم فيما ينبغي، وهي محمودة، وضدها: الإبطاء. فالسرعة محمودة، والإبطاء مذموم. لكن «العجلة» تقدم فيما لا ينبغي، وهي مذمومة، مقابلها «التأني» ، والتأني ممدوح، إذن فالسرعة محمودة، ومقابلها الإبطاء مذموم، والعجلة مذمومة، ومقابلها التأنّي ممدوح، والمثل الشعبي يقول: في التأني السلامة وفي العجلة الندامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1751 إن الحق يقول: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: خذوا المغفرة وخذوا الجنة بسرعة، لأنك لا تعرف كم ستبقى في الدنيا، إياك أن تؤجل عملاً من أعمال الدين أو عملا من أعمال الخير؛ لأنك لا تعرف أتبقى له أم لا. فانتهز فرصة حياتك وخذ المغفرة وخذ الجنة، هذا هو المعنى الذي يأتي فيه الأثر الشائع «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً» . الناس تفهمها فهماً يؤدي مطلوباتهم النفسية بمعنى: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً: يعني اجمع الكثير من الدنيا كي يَكفيك حتى يوم القيامة، وليس هذا فهماً صحيحاً لكن الصحيح هو أن ما فاتك من أمر الدنيا اليوم فاعتبر أنك ستعيش طويلاً وتأخذه غداً، أمَّا أمر الآخرة فعليك أن تعجل به. {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض} ونحن نعرف أن المساحات لها طولّ وعرض، لأن الذي طوله كعرضه يكون مربعاً، إنما الذي عرضه أقل من طوله فنحن نسميه «مستطيلا» ، وحين يقول الحق {عَرْضُهَا السماوات والأرض} نعرف أن العرض هو أقل البعدين، أي أنها أوسع مما نراه، فكأنه شبّه البعد الأقل في الجنة بأوسع البعد لما نعرفه وهو السموات والأرض ملتصقة مع بعضها بعضا فأعطانا أوسع مَمَّا نراه. فإذا كان عرضها أوسع ممَّا نعرف فما طولها؟ أنه حد لا نعرفه نحن. قد يقول قائل لماذا بيَّن عرضها فقال: {عَرْضُهَا السماوات والأرض} . فأين طولها إذن؟ ونقول: وهل السموات والأرض هي الكون فقط؟ إنّه سبحانه يقول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} [البقرة: 255] ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما السموات والأرض وما بينهما إلا كحلقة ألقاها ملك في فلاة» . أليست هذه من ملك الله؟ وهكذا نرى أن هذه الجنة قد أُعدت للمتقين، ومعنى «أُعدت» أي هيئت وصُنعت وانتهت المسألة! يؤكد ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1752 «عرضت عليّ الجنة ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت» . لماذا؟ لأن الإخبار بالحدث قد يعني أن الحدث غير موجود وسيوجد من بعد ذلك، ولكن الوجود للحدث ينفي أن لا يوجد؛ لأن وجوده صار واقعا، فعندما يقول: «أُعدت» فمعناها أمر قد انتهى الحق من إعداده، ولن يأخذ من خامات الدنيا وينتظر إلى أن ترتقي الدنيا عندكم ويأخذ وسائل وموادّ مما ارتقيتم ليعد بها الجنة، لا. لقد أخبر سبحانه عنها فقال: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» ، وأعد سبحانه الجنة كلها ب «كن» ، فعندما يقول: «أُعدت» تكون مسألة مفروغاً منها. وما دامت مسألة مفروغاً منها إذن فالمصير إليها أو إلى مقابلها مفروغ منه، والجنة أُعدت للمتقين، فمن هم المتقون؟ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1753 هذه بعض من صفات المتقين {والكاظمين الغيظ} لأن المعركة - معركة أُحد - ستعطينا هذه الصورة أيضاً. فحمزة وهو سيد الشهداء وعم سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُقتل. وليته يُقتل فقط ولكنه مُثِّل به، وأُخِذ بضع منه وهو كبد فلاكته «هند» ، وهذا أمر أكثر من القتل. وهذه معناها ضغن دنيء. وحينما جاء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خبر مقتل حمزة وقالوا له: إن «هنداً» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1753 أخذت كبده ومضغتها ثم لفظتها، إذ جعلها الله عَصِيَّة عليها، قال: «ما كان الله ليعذب بعضاً من حمزة في النار» كأنها ستذهب إلى النار، ولو أكلتها لتمثلت في جسمها خلايا، وعندما تدخل النار فكأن بعضاً من حمزة دخل النار، فلا بد أن ربها يجعل نفسها تجيش وتتهيأ للقيء وتلفظ تلك البضعة التي لاكتها من كبد سيد الشهداء. وقد شبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الحادثة بأنها أفظع ما لقي. إنها مقتل حمزة فقال: «لئن أظفرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم» . وهنا جاء كظم الغيظ ليأخذ ذروة الحدث وقمته عند رسول الله في واحد من أحب البشر إليه وفي أكبر حادث أغضبه، وينزل قول الحق: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] كي نعرف أن ربنا - جل جلاله - لا ينفعل لأحد؛ لأن الانفعال من الأغيار، وهذا رسوله فأنزل - سبحانه - عليه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ويأتي هنا الأمر بكظم الغيظ، وهو سبحانه يأتي بهذا الأمر في مسألة تخص الرسول وفي حدث «أٌحد» . وبعد ذلك يُشيعها قضية عامة لتكون في السلم كما كانت في الحرب. وتكون مع الناس دون رسول الله؛ لأنها كانت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. {والكاظمين الغيظ} ونعرف أن كل الأمور المعنوية مأخوذة من الحسّيات. وأصل الكظم أن تملأ القِرْبة، والقِرَب - كما نعرف - كان يحملها «السقا» في الماضي، وكانت وعاء نقل الماء عند العرب، وهي من جلد مدبوغ، فإذا مُلئت القربة بالماء شُدّ على رأسها أي رٌُبط رأسها ربطاً محكماً بحيث لا يخرج شيء مَمّا فيها، ويقال عن هذا الفعل: «كظم القربة» أي ملأها وربطها، والقربة لينة وعندما توضع على ظهر واحد أو على ظهر الدابة فمن ليونتها تخرج الماء فتكظم وتربط بإحكام كي لا يخرج منها شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1754 كذلك الغيظ يفعل في النفس البشرية، إنه يهيجها، والله لا يمنع الهياج في النفس لأنه انفعال طبيعي، والانفعالات الطبيعية لو لم يردها الله لمنع أسبابها في التكوين الإنساني. إنما هو يريدها لأشياء مثلا: الغريزة الجنسية، هو يريدها لبقاء النوع، ويضع من التشريع ما يهذبها فقط، وكذلك انفعال الغيظ، إن الإسلام لا يريد من المؤمن أن يُصَبَّ في قالب من حديد لا عواطف له، لا، هو سبحانه يريد للمؤمن أن ينفعل للأحداث أيضاً، لكن الانفعال المناسب للحدث، الانفعال السامي الانفعال المثمر، ولا يأتي بالانفعال المدمر. لذلك يقول الحق: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً} [الفتح: 29] فالمؤمن ليس مطبوعاً على الشدة، ولا على الرحمة، ولكن الموقف هو الذي يصنع عواطف الإنسان، فالحق سبحانه يقول: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] وهل هناك من هو ذليلٌ عزيزٌ معاً؟ نقول: المنهج الإيماني يجعل المؤمن هكذا، ذلة على أخيه المؤمن وعزة على الكافر. إذن فالإسلام لا يصب المؤمنين في قالب كي لا ينفعلوا في الأحداث. ومثال آخر: ألم ينفعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين مات ابنه إبراهيم؟ لقد انفعل وبكى وحزن. إن الله لا يريد المؤمن من حجر. بل هو يريد المؤمن أن ينفعل للأحداث ولكن يجعل الانفعال على قدر الحدث، ولذلك قال سيدنا رسول الله عند فراق ابنه: «إن العين تدمع وإن القلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنّا بفراقك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1755 يا إبراهيم لمحزونون» . ولا نقول لحظة الانفعال ما يسخط الرب. بل انفعال موجّه، والغيظ يحتاج إليه المؤمن حينما يهيج دفاعاً عن منهج الله، ولكن على المؤمن أن يكظمه. . أي لا يجعل الانفعال غالبا على حسن السلوك والتدبير. والكظم - كما قلنا - مأخوذ من أمر محس. مثال ذلك: نحن نعرف أن الإبل أو العجماوات التي لها معدتان، واحدة يُختزن فيها الطعام، وأخرى يتغذى منها مباشرة كالجمل مثلاً، إنه يجتر. ومعنى: يجتر الجمل أي يسترجع الطعام من المعدة الإضافية ويمضغه، هذا هو الاجترار. فإذا امتنع الجمل عن الاجترار يقال: إن الجمل قد كظم. والحق سبحانه يقول: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس} . وقلنا: إن هناك فرقاً بين الانفعال في ذاته، فقد يبقى في النفس وتكظمه، ومعنى كظم الانفعال: أن الإنسان يستطيع أن يخرجه إلى حيز النزوع الانفعالي، ولكنّه يكبح جماح هذا الانفعال. أما العفو فهو أن تخرج الغيظ من قلبك، وكأن الأمر لم يحدث، وهذه هي مرتبة ثانية. أما المرتبة الثالثة فهي: أن تنفعل انفعالاً مقابلاً؛ أي أنك لا تقف عند هذا الحد فحسب، بل إنك تستبدل بالإساءة الإحسان إلى من أساء إليك. إذن فهناك ثلاث مراحل: الأولى: كظم الغيظ. والثانية: العفو. والثالثة: أن يتجاوز الإنسان الكظم والعفو بأن يحسن إلى المسئ إليه. وهذا هو الارتقاء في مراتب اليقين؛ لأنك إن لم تكظم غيظك وتنفعل، فالمقابل لك أيضاً لن يستطيع أن يضبط انفعاله بحيث يساوي انفعالك، ويمتلئ تجاهك بالحدة والغضب، وقد يظل الغيظ نامياً وربما ورّث أجيالا من أبناء وأحفاد. لكن إذا ما كظمت الغيظ، فقد يخجل الذي أمامك من نفسه وتنتهي المسألة. {والعافين عَنِ الناس} مأخوذة من «عفّى على الأثر» والأثر ما يتركه سير الناس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1756 في الصحراء مثلا، ثم تأتي الريح لتمحو هذا الأثر. ويقول الحق في تذييل الآية: {والله يُحِبُّ المحسنين} . وقلنا في فلسفة ذلك: إننا جميعاً صنعة الله، والخلق كلهم عيال الله. وما دمنا كلنا عيال الله فعندما يُسيء واحد لآخر فالله يقف في صف الذي أسيء إليه، ويعطيه من رحمته ومن عفوه ومن حنانه أشياء كثيرة. وهكذا يكون المُساء إليه قد كسب. أليس من واجب المُسَاء إليه أن يُحسِن للمسيء؟ . لكن العقل البشري يفقد ذكاءه في مواقف الغضب؛ فالذي يسيء إلى إنسان يحسبه عدوٍّا. لكن على الواحد منا أن يفهم أن الذي يسيء إليك إنما يجعل الله في جانبك؛ فالذي نالك من إيذائه هو أكثر مما سلبك هذا الإيذاء. هنا يجب أن تكون حسن الإيمان وتعطي المسيء إليك حسنة. ويضيف الحق من بعد ذلك في صفات أهل الجنة: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1757 والفاحشة هي: الذنب الفظيع. فهل معنى ذلك أن الرماة في غزوة أحد حين تركوا مواقعهم، قد خرجوا من الإيمان؟ لا، إنها زلة فقط، لكنها اعتبرت كبيرة من الكبائر لمن أشار على المؤمنين أن ينزلوا، واعتبرت صغيرة لمن حُرّض - بالبناء للمفعول - على أن ينزل من موقعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1757 إذن فهو قول مناسب: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله} وجاء الحق هنا ب «ذكروا الله» كتنبيه لنا إلى أن من يفعل الفاحشة أو يظلم نفسه هو من نسي الله، فلحظة فعل الفاحشة أو ظلم النفس لا يكون الله على بال الإنسان الفاعل للفاحشة أو على بال من ظلم نفسه، والذي يُجرِّئ الإنسان على المعصية ليحقق لنفسه شهوة، أنَّه لم ير الله ولم ير جزاءه وعقابه في الآخرة ماثلا أمامه، ولو تصور هذا لا متنع عن الفاحشة. وكذلك الذي يهمل في الطاعة أيضاً، لم يذكر الله وعطاءه للمتقين. ولو ذكر الله وعطاءه للمتقين لما تكاسل عن طاعة الله. ولذلك يقول الحق: {ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} فمن يستغفر لذنبه فقد ذكر الله. وموقف العلماء من الفاحشة فيه اختلاف. بعض العلماء قال: إنها الكبيرة من الكبائر، وظلم النفس صغيرة من الصغائر. وقال بعض آخر من العلماء: إن الفاحشة هي الزنا؛ لأن القرآن نص عليها، وما دون ذلك هو الصغيرة. ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا كبيرة مع الاستغفار. ولا صغيرة مع الإصرار» . فلا يجوز للإنسان أن يتجاوز عن أخطائه ويقول: هذه صغيرة وتلك صغيرة لأن الصغيرة مع الصغيرة تصير كبيرة. وحين ننظر إلى قول الله تعالى: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} نجد أن الذي فعل الفاحشة ظالم لنفسه أيضا لأنه حقق لنفسه شهوة عارضة، وأبقى على نفسه عذاباً خالداً. ولماذا لم يقل الحق إذن: والذين ظلموا أنفسهم فقط؟ أي يكون العطف ب «الواو» لا ب «أو» ؛ لأن الحق يريد أن يوضح لنا الاختلاف بين فعل الفاحشة وظلم النفس. لأن الذي يفعل الفاحشة إنما يحقق لنفسه شهوة أو متعة ولو عاجلة، لكن الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1758 يظلم نفسه يذنب الذنب ولا يعود عليه شيء من النفع؛ فالذي يشهد الزور - على سبيل المثال - إنه لا يحقق لنفسه النفع، ولكن النفع يعود للمشهود له زوراً. إن شاهد الزور يظلم نفسه لأنه لبّى حاجة عاجلة لغيره، ولم ينقذ نفسه من عذاب الآخرة. أما الإنسان الذي يرتكب الفاحشة فهو قد أخذ متعة في الدنيا، وبعد ذلك ينال العقاب في الآخرة. لكن الظالم لنفسه لا يفيد نفسه، بل يضر نفسه؛ فالذي هو شر أن تبيع دينك بدنياك؛ إنك في هذه الحالة قد تأخذ متعة من الدنيا وأمد الدنيا قليل. والحق لم ينه عن متاع الدنيا، ولكنه قال عنه: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} . وهناك من يبيع دينه بدنيا غيره، وهو لا يأخذ شيئاً ويظلم نفسه. ويقول الحق: {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} . ومعنى «ذنب» هو مخالفة لتوجيه منهج. فقد جاء أمر من المنهج ولم ينفذ الأمر. وجاء نهي من المنهج فلم يُلتزم به. ولا يسمى ذَنْباً إلا حين يعرفنا الله الذنوب، ذلك هو تقنين السماء. وفي مجال التقنين البشري نقول: لا تجريم إلا بنص ولا عقوبة إلا بتجريم. وهذا يعني ضرورة إيضاح ما يعتبر جريمة؛ حتى يمكن أن يحدث العقاب عليها، ولا تكون هناك جريمة إلا بنص عليها. أي أنه يتم النص على الجريمة قبل أن يٌنص على العقوبة، فما بالنا بمنهج الله؟ إنه يعرفنا الذنوب أولاً، وبعد ذلك يحدد العقوبات التي يستحقها مرتكب الذنب. ولننتبه إلى قول الحق: {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إذن فالاستغفار ليس أن تردف الذنب بقولك: أستغفر الله لا. إن على الإنسان أن يردف الذنب بقوله: أستغفر الله وأن يصر على ألا يفعل الذنب أبداً. وليس معنى هذا ألا يقع الذنب منك مرة أخرى؛ إن الذنب قد يقع منك، ولكن ساعة أن تستغفر تصر على عدم العودة، إن الذنب قد يقع، ولكن بشرط ألا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1759 يكون بنيّة مٌسبقة، وتقول لنفسك: سأرتكب الذنب، وأستغفر لنفسي بعد ذلك. إنك بهذا تكون كالمستهزئ بربّك، فضلا على أنك قد تصنع الذنب ولا يمهلك الله لتستغفر. قوله الحق: {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يوضح لنا أنه لا عقوبة إلا تجريم إلا بنص. إن الحق يعلمنا يعرفنا أولاً ما هو الذنب؟ وما هو العقاب؟ وكيفية الاستغفار؟ ويقول الحق بعد ذلك: {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1760 {أولئك} إشارة إلى ما تقدم في قوله سبحانه: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] مع بيان أوصاف المتقين في قوله: {الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] إنهم ينفقون في السراء نفقة الشكر. وينفقون في الضراء نفقة الذكر والتضرع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1760 لأن النعمة حين توجد بسرّاء تحتاج إلى شكر لهذه النعمة، والنعمة حين تنفق في الضراء تقتضي ضراعة إلى الله ليزحزح عن المنفق آثار النقمة والضراء. إذن فهم ينفقون سواء أكانوا في عسر، أم كانوا في يسر. إن كثيراً من الناس ينسيهم اليسر أن الله أنعم عليهم ويظنون أن النعمة قد جاءت عن علم منهم. وبعض الناس تلهيهم النعمة عن أن يحسوا بآلام الغير ويشغلوا بآلام أنفسهم. لكن المؤمنين لا ينسون ربهم أبداً. وأمره بالإنفاق في العسر واليسر. ولذلك قولوا: فلان لا يقبض يده في يوم العرس ولا في يوم الحبس. وتتتابع أوصاف المتقين: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] وفي ذلك لون من تطمين المؤمن على أغيار نفسه، وعلى أنه عندما يستجيب مرة لنزغات الشيطان، فهذه لا تخرجه من حظيرة التقوى، لأن الله جعل ذلك من أوصاف المتقين. فالفاحشة التي تكون من نزغ الشيطان وذكر العباد لله بعدها، واستغفارهم مع الإصرار على عدم العودة، لا تخرجهم أبداً عن وصفهم بأنهم متقون. لأن الحق هو الغفور: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} . إنهم قد أُخبروا بذلك، فلم يجرم الحق أحداً إلا بنص، ولم يعاقب إلا بجريمة. وقول الحق سبحانه: {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} هو إشارة لكل ما سبق. ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل للعاملين بهذا العمل من التقوى قوسين: القوس الأول الذي ابتدأ به هو قوله الحق: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . والقوس الثاني هو الذي أنهى الأمر: {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1761 فالجنة الأولى التي ذكرها الله إلهاباً للعواطف النفسية لتقبل على ما يؤدي لهذه الجنة، وبعد ذلك ذكر الأوصاف والأصناف وجعل الجنة أجراً. {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} . والأجر عادة هو ما يأخذه العامل نتيجة العمل. والأجر حين يأخذه العامل نتيجة لعمل يتوقف على تقييم العمل عند صاحب العمل نفسه. فزيادة الأجر ونقصه تقدير من صاحب العمل، وأيضاً تقدير للعامل. فإن طلب أصحاب عمل متعددون عاملاً محدداً فله أن يطلب زيادة وإن لم يطلبه أحد فهو يقبل أول عرض من الأجر نظير أداء العمل. إذن فالمسألة مسألة حاجة من صاحب عمل، أو حاجة من عامل، وحين ننظر إلى الصفقة في الآخرة نجد أنها بين إله لا يحتاج إلى عملك. ومع أنه لا يحتاج إلى عملك جعل لعملك أجراً. ما هذه المسألة؟ هو ليس محتاجاً إلى عملك، ويعطيك أجراً على عملك ويقول لك: إن هذا الأجر هو الحد الأدنى، لكن لي أنا أن أضاعف هذا الأجر، ولي أن أتفضل عليك بما فوق الأجر. فكم مرحلة إذن؟ إنها ثلاث مراحل، مع أنه سبحانه لا يستفيد من هذا العمل إلا أنه وضع ثلاث مراتب للأجر. إذن فالحاجة من جهة واحدة هي جهتك أنت أيها العبد، أنت تحتاج إلى خالقك وهو لا يحتاج إليك، ومع ذلك يعطيك الإله الحق الأجر لا على قدر العمل فقط، ولكن فوق ذلك بكثير. إن الذي تعمل له يوماً من العباد قد يعطيك - على سبيل المثال - ما يكفيك قوت يوم، أو قوت يوم ونصف يوم. ولكنك حين تأخذ الأجر من يد الله فإنه يعطيك أجراً لا تنتهي مدة إنفاقه؛ فهو القائل: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} . هذا هو الأجر الذي يقال فيه: نعم هذا الأجر؛ لأنه أجر لا يتناسب مع مجهودي، بل يفوق كل ما بذلت من جهد وقادم من جهة لا تحتاج إلى هذا المجهود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1762 إنه سبحانه متفضل على أولاً. ومتفضل على أخيراً، ليدل الحق سبحانه وتعالى على أنك - أيها العبد - حين تعمل الطاعة يَعود أثر الطاعة على نفسك ومع ذلك فهو يعطيك أجراً على ما فعلت. وأوضحنا أن هذه الآيات جاءت بين آيات معركة أُحُد إرشاداً واستثمارا للأحداث التي وقعت في أُحُد، حتى إذا عاش الإنسان في تصور الأحداث فالأحداث تكون ساخنة، ويكون التقاط العبرة منها قريباً إلى النفس؛ لأن واقعاً يُحتّمها ويؤكدها. والحق سبحانه وتعالى يقول من بعد ذلك: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1763 أي أنتم لستم بدعاً في هذه المسألة. و «خلت» تعني «مضت» ، أي حصلت واقعا في أزمان سبقت هذا الكلام. وعادة فالأخبار التي يتكلم بها الإنسان مرة تكون خبراً يحتمل الصدق والكذب، لكن هذه المسألة لا تحتاج إلى صدق أو كذب؛ لأن الواقع ليس أمراً مستقبلاً، ولكنه أمر قد سبق، فبمجرد أن يجيء الكلام لا ننتظر واقعا يؤكد صدق الكلام، لأنَّ الواقع قد حدث من قبل، فيقول سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} . والسنن هي الطرق التي يصرف الله بها كونه بما يحقق مصلحة ذلك الكون؛ ليضمن للإنسان - السيد في هذا الكون - ما يحقق مصلحته، ومصلحة الإنسان تتمثل في أن يسود الحق في حياة الإنسان المختار كما ساد الحق في الكون المسيّر قبل الإنسان. وقد قلنا إن في هذا الكون تسخيراً: أي لا إرادة له، لا إرادة للجماد ولا للنبات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1763 ولا للحيوان في أن يفعل الخير لك أو لا تفعل. فلم يحدث أن جاء إنسان لأرض صالحة للزراعة، ووضع فيها بذوراً، فلم تنبت الأرض وقالت له: لن أعطيك، ولم تقل الأرض يوماً عن إنسان: إنه كافر فلن أعطى له الرزق. إن الأرض مسخرة لخدمة الإنسان ما دام يأخذ بأسبابها؛ فهي تؤدي له. والحيوانات أيضا مسخرة لخدمتك لا باختيارك، ولا بقدرة تسخيرك لها، ولكن بتسخير الله لها أن تفعل. وقلنا: إن الإنسان قد تكون عنده مطية، مثل بعض الفلاحين، فمرة يجعلها صاحبها تحمل أكوام السباخ من روث الحيوان وفضلاته، وبعد ذلك يلوح له أن يخرجها من عملها هذا ويجعلها ركوبة له، ويدللها بالأشياء التي تعرفونها من لجام جميل وسرج أجمل، ويرفهها في حياتها وينظفها. هل في الحالة الأولى امتنعت المطية عن حمل السباخ أو امتنعت في الحالة الثانية عن حمل الإنسان؟ لا؛ أنت تسيرها مثلما تريد أنت، فليس لها اختيار. ولا نبات له اختيار، ولا جماد له اختيار، ولا الحيوان أيضاً، إنما الاختيار للإنسان. وقد حكم الله اختيار الإنسان بمقادير يكون الإنسان مسخراً فيها حتى لا يظن أنه استقل بالسيادة فأصبحت له قدرة ذاتية. والحق يحكم الإنسان بأشياء يجعلها قهرية على الإنسان كي يظل في إطار التسخير. ويترك الحق للإنسان أشياء ليبقى له فيها الاختيار. فإذا ما نظرنا إلى الكون وجدنا أن ما لا اختيار فيه لشيء يسير على أحداث نظام ولا تصادم فيه، والذي فيه اختيار للإنسان هو الذي يختل، لماذا؟ . لأن الإنسان قد يختار على غير منهج الذي خَلَق وهو الله - سبحانه وتعالى - فإذا أردت أن يستقيم لك الأمر أيها المختار فاجعل اختيارك في إطار منهج الله. وحين تجعل اختيارك في إطار منهج الله تكون قد أصبحت سويًّا كبقيّة الأجناس وتسير الأمور معك بانتظام. وعندما تقارن بين شيء للإنسان فيه اختيار وعمل، وشيء لا اختيار للإنسان فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1764 ولا عمل، فأنت تجد أن الشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه مستقيم الأمر، ولا خلاف فيه أبداً، أما الشيء الذي فيه اختيار للإنسان، فأنت تجد فيه الخلاف. مثال ذلك: لو نظرنا إلى وسيلة مواصلات من الحيوانات كالجمال أو الخيل أو الحمير، فإننا نجدها تسير في طريق واحد، وتتقابل جيئة وذهابا فلا يحدث تصادم بين حمار وحمار، ولا قتل لراكب أحد الحمارين. إن الحيوانات يتفادى ويتحامى بعضها بعضاً حتى لو كان الراكب نائماً. ومهما كان الطريق مزدحماً فالحيوانات لا تتصادم؛ لأن ذلك من نطاق تسخير الحق للحيوان. ولننظر إلى الإنسان حين تدخَّل ليصنع وسيلة مواصلات، صنع الإنسان ألوان السيارات، يقودها الإنسان، ومع أن الإنسان هو الذي يقود السيارات، وبرغم ذلك بدأت تأتي المخالفات والمصادمات والحوادث؛ لأن للإنسان يداً في ذلك. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يدلك على أن ما خلق مسخراً بأمر الله وتوجيهه لا يتأتى منه فساد أبداً، إنما يتأتى الفساد مما لك فيه اختيار، فحاول أن تختار في إطار منهج الله. فعندما يقول الحق لك: «افعل كذا ولا تفعل كذا» فعليك أن تصدق وتطيع؛ لأن الحق سبحانه عندما سخر الأشياء للإنسان سارت بانتظام رائع، وأنت أيها العبد عندما تطيع الله فإن الأمور في حياتك تمشي بيسر. ولذلك قلنا: إن الناس لم تشتك قط أزمة شمس ولم يشتكوا أزمة هواء، لكن لماذا اشتكوا أزمة طعام؟ إن الإنسان له دخل في إنتاج الطعام. فما للإنسان فيه دخل يجب أن يحكمه قانون التكليف من الله: «افعل كذا ولا تفعل كذا» . الكون مخلوق بحق. ومعنى أنه مخلوق بحق أن كل شيء في الوجود يؤدي مهمته كما أرادها الله، وكما سُخِّر من أجله إذا ما قام الإنسان بتنفيذ التكليف فكل شيء يسير بحق. وإن ترك الإنسان التكليف وأخذ باختياره فإنه يصير إلى باطل ونتج ما هو باطل، والكون مبني على الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1765 {مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الدخان: 39] إن الحق جعل للكون قضايا ثابتة، فلا شيء يعتدي على شيء آخر أبداً. واختيار الإنسان هو الذي يأتي بمقابل الحق وهو الباطل، ولذلك يصون الله الكون بأن يبين أن الحق يصطدم بالباطل، والباطل يصطدم بالحق لكن الحق يجيء ويبقى، والباطل يزهق ويزول، ويظهر الله لنا ذلك أمام أعيننا يقول تعالى: {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] إذن فقوله سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} يعني: اعتبروا بما سبقكم وانظروا إلى اصطدام الباطل بالحق، أدام وبقى اصطدام الباطل بالحق؟ لا؛ لأن الباطل كان زهوقا. ولذلك نحن نرى أمثلة عملية لذلك لا أقول في مواكب الناس بعضهم مع بعض، ولكن في موكب الباطل مع حق السماء. وحق السماء يمثله الرسل والمناهج التي جاءت من عند الله وكل حق جاء من السماء وجاء من مناهج الله قابلة قوم مبطلون. لماذا؟ لأن السماء دائماً لا تتدخل إلا حين يشيع الفساد، وما دام الفساد يشيع فإن هناك طائفة منتفعة بالفساد، وهذه الطائفة المنتفعة بالفساد وبالباطل تدافع عنه وبعد ذلك يأتي موكب السماء ليصادم هذا الباطل والفئة المنتصرة للباطل، فتنشأ معركة، فقال الحق حينئذ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} . قالها الحق لنعرف أن الباطل زهوق، وأن كل معارك أهل الأرض مع منهج السماء قد انتصر فيها الحق. ولذلك تأتي سورة العنكبوت لتبين لنا ذلك، بداية من قوله سبحانه: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [العنكبوت: 36 - 37] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1766 هذه هي الصورة الأولى، وتأتي الصورة الثانية: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38] إذن فانظروا إلى مساكنهم الباقية لتدلكم على ما حدث لهم. والصورة الثالثة: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِي الأرض وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39] وساعة تسمع {وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ} . أي كأن هناك حاجة تلاحقهم، والذي يلاحقه شيء فإنه يحاول أن يسبقه، لكنهم لا يستطيعون. وتأتي السنن واضحة بعد ذلك: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] إذن فصراع الحق والباطل قد تقدم ووقع في أمم قد سبقتكم وبقيت لها مساكن، فمن شاء أن يذهب إليها ليتأكد فليذهب، ولا تزال مدائن صالح، ولا تزال هناك آثار عاد، وكل مكان فيه أثر من الآثار. ولذلك يوضح الحق: فإن كنتم تريدون التأكد من ذلك فأنا قد أخبرت، ومن آمن بي فليصدق خبري، ولغير المؤمن ولمن يريد اطمئنان قلبه يقول سبحانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1767 {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} [النحل: 36] إن الحق سبحانه وتعالى يمثل صراع الحق - وهو الشيء الثابت - مع الباطل، وهذه القضية موجودة حتى فيما لا اختيار له. ويصنعها الحق فيهم، صراعا بين حق وباطل فيما لا اختيار له لمصلحة الإنسان أيضاً. وقد جعل سبحانه الصراع بين الحق والباطل في أشياء ليست من الإنسان ولكنها تخدم الإنسان، وهذه نراها في الأمور المادية. أما في القيم فالحق يقول: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17] إنه سبحانه أنزل من السماء ماء فسال في الأودية، والأودية كما نعرفها هي المكان المنحصر بين جبلين، فإذا نزلت الأمطار على الأعالي فإنها تنحدر إلى الأسفل وتسيل في الأودية. والوديان هي محل الخضب؛ لأن الغرين والطمى الذي ينزل من الجبال مع مياه المطر ويترسب ويصير تراباً خصباً يخرج منه الزرع. وكل وادٍ من الوديان يأخذ على قدر سعته، وباقي المياه يبحث له عن مسلك آخر، ولو إلى باطن الأرض، وذلك كان مظهراً مألوفاً في الجزيرة العربية فعندما يأتي السيل فإن الأودية تمتلئ ماءً، كل وادٍ يأخذ على قدر سعته. {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} ونحن نراه في الحقول ونسميه «الريم» الذي يطفو على سطح الماء، ما الذي يحدث لهذا الريم؟ إنه يتجمع ويطفو ثم يركن ويميل جانباً. ألم تر القدْر بها لحم تفور؟ . إننا نجد الريم قد طفا على السطح. وهذا الريم فيه أشياء خارجة عن عنصر الشيء الموجود في القدر، فإذا ما جاءت حرارة النار أخرجته على السطح، فإما أن يخرجه الإنسان خارج القدر، وإما أن يتركه فيتجمد على الجوانب وينتهي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1768 ومن أين جاء هذا الزبد؟ إنه يأتي من الأرض والأرض فيها أشياء كثيرة، كجذور النبات وبقايا ما حمله الهواء وتتخلل هذه الأشياء مسام الأرض، هذه الأشياء عندما توجد في المسام، وتأتي الجذور الصغيرة لتنمو فتعوقها عن أخذ غذائها؛ لذلك فعندما ينزل الحق الماء من السماء فإن الماء يجعل هذه الأشياء تطفو على السطح؛ ليجعل هناك منفذاً للجذور الصغيرة. وينزل الله المطر ليغسل التربة كلها، ويجعل هذه الأشياء تطفو؛ لأنها غثاء، ويطفو الغثاء. وساعة أن يطفو الغثاء فإياك أن تفهم أن ذلك علو، إنه علو إلى انتهاء، كذلك فورة الباطل. إياك أنن تظن أن الزَبَد له فائدة، أو أنَّ ارتفاع الريم كان علواً على ما في القدر، لا. إنه تطهيرٌ لما في القدر أو الإناء، ولهذا قال الحق: {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} . وإن لم تذهب آثار الريم بحركة الماء التموجية فإنها ستذهب بطريقة أو بأخرى. ولننظر إلى الأشياء القذرة التي تلقي في البحر نجد أنها بعد مدة قد خرجت إلى الشاطئ. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] إنها تخرج على الشاطيء ويجمعها المكلفون بتنظيف الشاطئ. وإلا كيف تتم صيانة الماء؟ إنه سبحانه يجعل الماء ينظف نفسه بحركته الذاتية. إذن فالماء عندما ينزل سيلاً، فإنه ينقي التربة من العوائق التي تعوق غذاء الجذيرات الصغيرة، وقد لا يكتفي بعضنا بهذا المثل، فيضرب لنا الله مثلاً آخر: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1769 [الرعد: 17] ونحن نرى هذه الحكاية عندما يضعون أي معدن في النار، فإن المعدن ينصهر ويصير كالعجينة وتخرج منه فقاقيع ونحن نسميها خبث المعدن وعندما نخرج الخبث من المعدن فانه يصير قوياً إذن فالنار قد صهرت المعدن، وأخرجت منه الخبث الضار فيه، أو الذي يجعله لا يؤدي مهمته بكفاءة عالية، فأنا قد أصنع من الحديد درعاً قوية أو أريد أن أستخرج منه الصلب، وهذه العمليات معناها أننا نصْهر الحديد بالنار لنزيل خبثه ليزداد قوة. وكذلك الذهب والفضة ساعة نريد أن نخلصهما من هذه الآثار فإننا نصهرهما لنخرج منهما الأشياء الخارجة عنهما أي التي تختلط بهما وتشوبهما وهي ليست منهما. لماذا إذن يا ربيّ هذا التمثيل الحسي في المياه؟ والحلية التي لا تؤدي ضرورة، والمتاع وهو الذي يؤدي ضرورة؟ إنه سبحانه يقول: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} . إن الحق كالماء، والحق كالنار، والماء يحمل الزبد الرابي بعيداً عن مسام الأرض، والنار تخرج الزبد والخَبث من المعادن، وتجعل المعادن خالصة للمنفعة المطلوبة لنا، كذلك يضرب الله الحق والباطل: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً} . وجفاءً أي مطروحاً مرمياً، {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} . ذلك هو صراع الحق والباطل في المبادئ والقيم ويصوره الله في الأمور المادية. ومن العجيب أنه يصوره بمتناقضين ولكنهما متناقضان ويؤديان مهمة واحدة، ماء ونار، فإياك حين ترى شيئاً يناقض شيئاً أن تقول: هذا يناقض ذاك، لا. لأن هذا الشيء مطلوب لمهمة، وذاك الشيء مطلوب لمهمة أخرى. إذن فقول الحق سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} هو لفت لنا إلى صراع الحق مع الباطل، وأن الإنسان قد يرى الباطل مرة وله فورة وعلو، ونقول: هذا إلى جُفاء. وهذه سنة من سنن الحياة. وإن أردتم أن تتأكدوا منهما، فالتفتوا إلى دقة قول الحق تعالى: {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1770 وهنا ملحظ عام، وملحظ خاص، الملحظ العام: أننا نفهم أن المقصود بذلك السير على الأرض، وتلك هي حدود رؤيتنا، لكن حين يتكلم الله فرؤية الله أشمل فهو الخالق لهذا الكون، ونحن ما زلنا نجهل جزيئات في هذا الكون، ولم نعرف بعضها إلا أخيراً، وخالق الكون هو الذي يعلم كل الخبايا. نحن نقول: إننا نسير على الأرض؛ لأننا كنا نفهم أن هذه الأرض ليس عليها إلاّ نحن فقط، ثم تبين لنا - بعد أن أخذ العلم حظه - أنه لولا وجود الهواء في الأرض لما صلحت للحياة. ولذلك فعندما تدور الأرض. فالهواء الذي حولها يدور معها ويسمونه الغلاف الجوي إذن فالغلاف الجوي جزء من الأرض وله امتداد كبير، فالإنسان عندما يسير فإنه يسير في الأرض، أما الذي يسير على الأرض فهو الذي يسير فوق الغلاف الجوي، أما السائر على اليابسة، والغلاف الجوي ما زال فوقه فهو يسير في الأرض لا على الأرض. وما دامت المسألة هي سنن تقدمت، ويريد الله منا أن نعتبر بالسنن المتقدمة، لذلك يقول لنا: {فَسِيرُواْ فِي الأرض} نسير بماذا؟ . إما أن نسير بالانتقال، أو نسير بالأفكار؛ لأن الإنسان قد لا يملك القدرة على السير ويترك هذه المهمة للرحالة، والرحالة - مثلاً - هم الذين ذهبوا إلى جنوب الجزيرة، ورأوا وادي الأحقاف ووجدوا أن عاصفة رمل واحدة تطمر قافلة بتمامها. إذن ففيه عواصف وارت الكثير من الأشياء، فعاصفة واحدة تطمر قافلة. فكم من العواصف قد هبت على مرّ هذه القرون؟ والحق سبحانه يخبرنا بإرم ذات العماد فيقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 6 - 13] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1771 إنه سبحانه يخبرنا أن إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد أي متفوقة على حضارة مصر القديمة. وهي عجيبة وفيها أكثر من عجيبة فأين هي الآن؟ . وما دامت الرمال بعاصفة واحدة - كما قلنا - تطمر قافلة، فكم عاصفة مرت على هذه البلاد؟ . ولذلك نجد أننا لا نزال جميعاً إلى الآن حين نريد أن ننقب عن الآثار فلا بد أن نحفر تحت الأرض. لماذا هذا الحفر وقد كانت هذه الآثار فوق الأرض؟ لقد غطتها العواصف الرملية. والمثال على ذلك: أنَّك تغيب عن بيتك شهراً واحداً وتعود لتجد من التراب الناعم ما يغطي أرض البيت على الرغم من إغلاق النوافذ. فماذا تجد من حجم التراب لو غبت عن بيتك عاماً، أو عامين، أو ثلاثة أعوام، رغم إحكام وإغلاق النوافذ والفتحات بالمطاط وخلافه؟ ولكن التراب الناعم يتسرب ويغطي الأثاث والأرض. وإذا كانت هذه الأمور تحدث في منازلنا فما بالك بالمنطقة التي فيها أعاصير وعواصف رملية؟ هل تطمر المدن أو لا؟ إن المدن والحضارات تطمر تحت الرمال؛ لذلك فعندما ننقب عن الآثار فنحن نحفر في الأرض، وهذا لون من السير في الأرض للرؤية والعظة. وحين يقول الحق: {فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} فماذا يعني بعاقبة المكذبين؟ حين تكون أمة قد تحضرت حضارة كبيرة يقول عنها الحق: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد} [الفجر: 6 - 12] . إن الذي أقام هذه الحضارات ألا يستطيع أن يجعل لهذه الحضارة ما يصونها؟ كيف يتم القضاء على هذه الحضارات الواسعة واندثارها وذهابها؟ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1772 لا بد أن ذلك يتم بقوة أعلى منها، فهذه الحضارات رغم تقدمها الرهيب لم تستطع أن تحفظ نفسها من الفناء. إنها القوة الأعلى منها، وهكذا نصدق قوله الحق: {فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} . إنه القّيوم الذي يرى كل الخلق، فمن يطغى ويفسد فليلق النهاية نفسها. إذن فقوله سبحانه يحمل كل الصدق: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} وبعد ذلك يقول الحق: {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1773 انظر إلى الكلمة {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} إن البيانات عندما تتأتى تأخذ قوتها وسطوتها وعظمتها من قوة من أصدر البيان؛ أنت ساعة تجد ثورة في مجتمع ما فإننا نسمع كلمة «بيان رقم واحد» تهتز له الدنيا وهو بيان قادم من بشر فما بالنا بالبيان القادم من الله؟ إنه إيضاح من الله: أنا لن آخذكم على غرة {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} و «الهدى» : كما نعرف هو الطريق الموصل للغاية المرجوة. و «الموعظة» معناها: حمل النفس ترغيباً وترهيباً، لعمل الخير بالترغيب، والبعد عن الشر بالترهيب، تلك هي الموعظة. وكل هذه الأشياء عندما جاءت في ثنايا آيات أُحُد بعد أن أخذنا منها العبرة والحدث ما زال ساخناً. لذلك فقبل أن يكمل لنا قصة أُحُد استثار النفوس بهذه المسألة، ووضع لنا الأشياء المادية والقيمية؛ لنأخذ بها في حياتنا، وحتى لا تنتهي قصة أُحُد وينصرف الناس عن العظات التي كانت فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1773 وما دامت المسألة هكذا، وكان المقاتلون في سبيل الله هم جنود الحق، وعرفوا ذلك بتأييد الله لهم ورسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينهم. وهو حامل المعجزة الدالة على صدقه؛ لذلك فالذي حدث في معركة أٌحُد لا يصح أن يضعفكم؛ لأنكم تعرفون كيف يسند الله الحق ويقويه. وتعرفون حملة الله على الباطل. وقد أوضحنا لكم السنن والبيان، ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1774 والمقصود بقوله: {وَلاَ تَهِنُوا} أي لا تضعفوا، وهي أمر خاص بالمسألة البدنية؛ لأن الجراحات أنهكت الكثيرين في موقعة أُحُد لدرجة أن بعضهم أقعد، ولدرجة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقدر أن يصعد الجبل، وحمله طلحة بن عبيد الله على ظهره ليقوم، لذلك قال الحق: {وَلاَ تَهِنُوا} ، لأنك عندما تستحضر أنك مؤمن وأن الله لن يخلي بينك وبين جنود الباطل لأنك نصير للحق، والحق من الله وهو الحق لا يسلم نبيه وقومه لأعدائهم فيوم تأتي لك هذه المعاني إياك أن تضعف. والضعف هو نقصان قوة البدن. {وَلاَ تَحْزَنُوا} والحزن مواجيد قلبية، وهم قد حزنوا فقد مات منهم كثير. مات منهم خمسة وسبعون شهيداً، خمسة من المهاجرين، وسبعون من الأنصار، وهذه عملية صعبة وشاقة، وقد حزن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الشهداء، وغضب لمقتل حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال: «لن أُصاب بمثلك أبداً! وما وقفت موقفا قط أغيظ إلىّ من هذا» ثم قال: «لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم مكانك» . فقال الحق: {وَلاَ تَحْزَنُوا} ؛ لماذا؟ لأنك يجب أن تقارن الحدث بالغاية من الحدث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1774 صحيح أن القتل صعب وإزهاق للنفس، ولكن انظر إلى أين ذهب. وانظر ماذا خلف من بعده. أما هو فقد ذهب إلى حياة عند ربه وهي ليست كالحياة عندكم. إن الحياة عندنا لها مقاييس، والحياة عند ربنا لها مقاييس، فهل مقاييسنا أعلى من مقاييسه؟ لا، حاشا لله. إذن فإذا نظرت إليه هو فاعلم أنه ذهب لخير مما ترك، فلا تحزن عليه بل تفرح له؛ لأنه ما دامت الغاية ستصل إلى هذه المسألة. إذن فقد قصر له مسافة الحياة، وما دامت الغاية أن يصل إلى رحمة الله وإلى حياة عند الله بكافة معانيها، فهو سعيد بجوار ربه، ونحن في الغايات الدنيوية عندما نريد أن نذهب إلى مكان نُسرّ ممن يعجل لنا الزمن لنصل إلى هذا المكان. فبدلاً من أن أذهب إلى الإسكندرية ماشياً أذهب راكباً حصاناً أو أذهب راكباً سيارة، والمترفه يذهب راكباً طائرة، فإذا كانت الغاية مرجوَّة ومحببّة إلى النفس، وبعد ذلك يجيء لك حدث يقرب لك المسافة من الغاية، فلماذا تحزن إذن؟ لقد استشهد. إياك أن تقول: إنّ الله حرمني قوته في نصرة الحق، لا. هو أعطى قوة أخرى لكثير من خلقه نصر بهم الحق، إنك عندما تعرف أن إنساناً باع نفسه لله، لا بد أن تعرف أن الغاية عظيمة؛ ولذلك كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في معركة بدر، يقدم أهله؛ لأنه يعرف أنه إن قُتل واحد منهم إلى أين سيذهب، إذن فهو يحب أهله، لكنه يحبهم الحب الكبير، والناس تحب أهلها هنا أيضاً لكن الحب الدنيوي. {وَلاَ تَحْزَنُوا} على ما فاتكم من الغنائم أو لا تحزنوا على ما فاتكم من النصر لماذا؟ وتأتي الإجابة، {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} . . ولذلك جاء مصداق ذلك حينما نادى أبو سفيان فقال: «اعل هبل» أي أن إلههم صار عالياً، فقال الرسول لأصحابه: ألا تردون عليهم؟ ، قالوا: بماذا نرد قال: قولوا لهم: الله أعلى وأجلّ فقال أبو سفيان: «لنا العزى ولا عزى لكم» ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أجيبوه» قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا الله مولانا لا مولى لكم» ثم قال أبو سفيان: إن موعدكم «بدر» العام المقبل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1775 لرجل من أصحابه: «قل نعم هو بيننا وبينك موعد» ف {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} فما دمتم على الإيمان فأنتم الأعلون، وإذا أردتم أن تعرفوا معنى «الأعوان» حقاً، فقارنوا معركة «أُحُد» بمعركة «بدر» ، هم قتلوا منكم في أُحُد، وأنتم قتلتم منهم في بدر. ولكنكم أسرتم منهم في بدر، ولم يأسروا منكم أحداً في «أُحُد» . وأنتم غنمتم في بدر، ولم يغنموا شيئاً في أُحُد. وأنتم الأعلون لأن الله حمى مدينتكم مع أنه لا محامية فيها ممن يكون فيه معنى الجندية. كل ذلك وأنتم الأعلون، هذا إذا نظرنا إلى معركة بمعركة. وإن نظرنا إلى المعركة نفسها «أُحُد» وندع بدراً وحدها، في ظل قوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} لقد ثبتت تلك القضية لأنكم حينما كنتم مؤمنين - ومن شرط الإيمان اتباع أمر الذي لا ينطق عن الهوى - انتصرتم. وانتصرتم انتصاراً رائعا؛ لأنكم قتلتم في أول جولة للحرب بضعاً وعشرين من صناديدهم وفيهم صاحب الراية. ولكنكم حينما خالفتم أمرالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، تلخلخ الإيمان في قلوبكم. إذن فالعملية التي حدثت تؤكد صدق {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} . فأنتم علوتم في أول الأمر، وعندما خالفتم الأمر صار لكم ما صار؛ فقد صدقت القضية في قول الله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} . وأيضا فإنكم لو نظرتم إلى المعركة نفسها لوجدتم أن عدوّكم لم يبق في أرض المعركة، بل أنتم الذين بقيتم في موضع المعركة. وأين ذهب هو؟ أذهب إلى موقع آخر ينال فيه غلبة ونصرا؟ لم يكن هناك إلا المدينة، والمدينة ليس فيها أحد، ولم يذهب عدوكم إلى هناك، وإنما ذهب ناحية مكة، إذن فهو الذي هرب. وبعد ذلك ماذا حدث؟ ألم يؤذن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الناس ويطلب العدوّ مرهباً له ليظنوا به القوة، وإن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1776 ولقد خرج رسول الله، مع من؟ أجاء بحامية لم تشهد المعركة؟ لا. بل قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مناديا المسلمين: «إليّ عباد الله» ، فالذين شهدوا المعركة سبعمائة، جرح منهم الكثير وقتل منهم خمسة وسبعون، فمنهم حمزة، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان، وسعد مولى عتبة، هؤلاء خمسة من المهاجرين، والباقي من الأنصار هؤلاء مطروحون من العدد الذي شاهد أول الموقعة، حتى أن رسول الله لم يأخذ بدلاً منهم من المدينة من القوم الذين عرضوا أنفسهم ليكونوا مع الجيش الذي يطارد قريشاً، بل آثر الرسول أن يذهب بمن ذهب معه إلى المعركة أنفسهم، ولم يكن منهم بطبيعة الحال الشهداء أو الجرحى. لم يقبل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ممن لم يشهد المعركة إلا واحداً. وهو سيدنا جابر بن عبد الله. الذي لم يخرج في معركة أُحُد واعتذر إلى رسول الله بأن أباه عبد الله بن عمرو بن حرام قد خلّفه على بنات له سبع وقال له: يا بنيّ إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رَجَل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على نفسي فتخلّفْ على أخواتك فتخلف عليهن فقبل رسول الله عذره وأذن له فخرج معه وطاردهم رسول الله ومن معه إلى حمراء الأسد، أما والده عبد الله بن عمرو فقد استشهد في أحُد ومع ذلك فقد طلب من رسول الله على الرغم من استشهاد أبيه أن يخرج إلى حمراء الأسد. وذلك لنعلم أن الله يقول: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] هذا وإن واحداً من المشركين الذين كانوا موضع سر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن حلفائه وهو معبد الخزاعي، مَرَّ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أُحد وقال له: يا محمد: أما والله لقد عز علينا ما أصابك، ثم لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1777 وأصحابه فقال له أبو سفيان: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله، ولم يزل بهم حتى ثنى أبا سفيان ومن معه فولوا وجوههم إلى مكة خائفين مسرعين، وقد ذهب رسول الله إلى حمراء الأسد فلم يجد أحداً فعسكر رسول الله ثلاثة أيام هناك، ومعنى ذلك أنهم هم الذين فروا من المعركة. إذن فأنتم الأعلون، ولكن لا حظوا الشرط {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} . ثم بعد ذلك يُسَلّى الله المؤمنين فيقول: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1778 وقد تكلمنا - من قبل - عن «المس» وهو: إصابة بدون حس. . أي لمس لكنك لا تحس بحرارة أو نعومة مثلا، إنما «اللمس» هو أن تحس في الشيء حرارة أو نعومة ويحتاج إلى الالتصاق المؤقت، إنما «المس» هو ما لا تكاد تدرك به شيئاً، «والقَرْح» هو: الجراح، وفي لغة أخرى تقول «القُرح» - بضم القاف - وأقول: القٌرح وهو الألم الناشئ من الجراح، كي يكون لفظ معنى. وأنت قد ترى بعض الألفاظ فتظن أن معناها واحد في الجملة، إلا أن لكل معنى منها ملحظاً، أنت تسمع مثلاً: رأى، ونظر، ولمح، ورمق، ورنا. كل هذه تدل على البصر. لكن لكل لفظ له معنى: رمق: رأى بمؤخر عينيه، ولمح: أي شاهد من بعد، ورنا: نظر بإطالة، وهكذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1778 ويقال أيضاً: جلس، وقعد، فالمعنى العام يكاد يكون واحداً، لكن المعنى الدقيق يوضح أن الجلوس يكون عن اضطجاع. والقعود عن قيام، كان قائماً فقعد، والاثنان ينتهيان إلى وضع واحد، فكذلك «قَرح» و «قُرح» كل لفظ له معنى دقيق. ويقولون - مثلاً -: إن للأسد أسماء كثيرة، فقال: «الأسد» و «الغضنفر» و «الرئبال» و «الوَرْد» و «القسْورة» . وصحيح هذه أسماء للأسد، ولكن لكل اسم معنى محدد، ف «الأسد» هو اللفظ العام والعَلَم على هذا الحيوان، و «الغضنفر» هو الأسد عندما ينفش لبدته، و «الوَرْد» هو حالة الأسد عندما يكون قد مط صلبه، فكل موقف للأسد له معنى خاص به. وقوله الحق: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} لا حظ أن المتكلم هو الله فافطن جيداً إلى مرارات كلامه. ونعرف أنه في الشرط والجواب، أن الشرط يأتي أولا ثم يأتي الجواب من بعد ذلك مترتبا عليه ونتيجه له، كقولنا «إن تذاكر تنجح» إن النجاح هو جواب لشرط وهو الاستذكار. وقوله الحق: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} فهل المعنى المراد من هذه الجملة الشرطية أن مس القرح للكافرين الذي حدث في بدر كان كجزاء لمس القرح للمؤمنين في أحد؟ لا، إنه لا يكون أبداً جواباً لشرط؛ لأنه لو كان جواب شرط لقال الحق: إن يمسسكم قرح فسيمس القوم قرح مثله. ولكنه لم يقل ذلك لأن القرح الذي أصاب المشركين في بدر كان أسبق من القرح الذي أصاب المؤمنين في أحد. وكأن الحق يقول: إن يمسسكم قرح فلا تبتئسوا؛ فقد مس القوم قرح مثله، وليس ذلك جواب الشرط، ولكنه جاء ليُستدل به على جواب الشرط، أي أنه تعليل لجواب الشرط، أقول ذلك حتى لا يتدخل دعيّ من الأدعياء ويتهم القرآن - والعياذ بالله - بما ليس فيه. إنه - سبحانه - يثبت المؤمنين ويسلّيهم. ومثال ذلك ما نقوله نحن لواحد إذا أصابته كارثة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1779 إن كان قد حدث لك كذا، فقد حدث لخصمك مثله. إذن فنحن نسليه. والمقصود هنا أن الحق يسلّي المؤمنين: إن يمسسكم قرح فلا تبتئسوا، فليكن عندكم سُلّوٌ ولْتجتازوا هذا الأمر ولترض به نفوسكم؛ لأن القوم قد مسهم قرح مثله. والأسوة والتسلية، هل تأتي بما وقع بالفعل أم بما سيقع؟ . إنها تأتي بما وقع بالفعل، إذن فهي تعلل تعليلاً صحيحاً: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} . وأطلق الحق سبحانه من بعد ذلك قضية عامة: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} . ما معنى المداولة؟ داول أي نقل الشيء من واحد لآخر. ونحن هنا أمام موقعتين؛ غزوة بدر وغزوة أُحٌد. وكان النصر للمسلمين في غزوة بدر بالإجماع، أما غزوة أُحٌد فلم يكن فيها هزيمة بالإجماع ولم يكن فيها نصر. إذن فقوله الحق: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} أي مع التسليم جدلاً بأن الكفار قد انتصروا - رغم أن هذا لم يحدث - فإننا نقلنا النصر منكم أيها المؤمنون إليهم. وإياك أن تفوتك هذه الملاحظة، بأن النصر لم ينتقل إليهم إلا بمخالفة منكم أيها المؤمنون. ومعنى مخالفة منكم، أي أنكم طرحتم المنهج، أي أنكم أصبحتم مجرد «ناس» مثلهم. وما دمتم قد صرتم مجرد ناس بدون منهج مثلهم ومتساوين معهم، فإن النصر لكم يوم، ولهم يوم. ولنلحظ ان الحق لم يقل: إن المداولة بين الناس هي مداولة بين مؤمنين وكافرين. فإن ظللتم مؤمنين فلا يمكن أن ينتقل النصر إلى الكفار، إنما النصر يكون لكم، انظر ماذا قال: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} ولم يقل بين المؤمنين والكافرين، أي بينكم وبين قريش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1780 وليس المقصود بالأيام ما هو معروف لدى الناس من أوقات تضم الليل والنهار، ولكن المقصود ب «الأيام» هنا هو أوقات النصر أو أوقات الغلبة. ويقال أيضاً: «يوم فلان على فلان» إذن {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} لم تتضمن المداولة بين المؤمنين والكافرين، ولكنها مداولة بين الذين مالت أبصارهم إلى الغنائم فتخلخل إيمانهم، ففازت قريش ظاهرياً. فلو ظللتم على إيمانكم لما حدث ذلك أبداً. لكنكم تخليتم عن منهج ربكم، وبذلك استويتم وتساويتم مع غير المؤمنين، وبذلك تكون الأيام لذلك مرة ولهذا مرة أخرى، إنها مطلق عدالة. علينا أن نتذكر الشرط السابق، لا لعدم الهزيمة. بل للعلو والنصر: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} . إن الحق سبحانه في مسألة مداولة الأيام ينبه المؤمنين الذين تخلخل إيمانهم: ما دمتم اشتركتم معهم في كونكم مجرد «أناس» فيصبح النصر يوماً لهم ويوماً لكم، والذكي العبقريّ الفطن الذي يحسن التصرف هو من يغلب؛ لأن المعركة هنا تدور بين قوة بشر مقابل قوة البشر. ما دام المسلمون قد تخلوا عن منهج الله فقد صاروا مجرد بشر في مواجهة بشر. ولذلك قلنا: إنه عندما تخلى الرماة عن إنفاذ أمر القائد الأعلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ظهرت عبقرية خالد بن الوليد على عبقرية المقاتلين المسلمين. ويجب أن نلحظ في قوله الحق: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} أننا لا يمكن أن نقول: إن مداولة الأيام تكون بين المؤمنين والكافرين، إنما هي بين الناس؛ لأن الناس هم مجموعة الإنسان، فإن تجردوا عن منهج السماء فهم سواسية، وصاحب الحيلة يغلب، أو صاحب القوة يغلب، أو صاحب العدد أو العُدّة يغلب. ولكن ما الذي يعوض كل تلك الإمكانات ويحقق النصر؟ إنك إن تأخذ الله في جانبك فلن يجرؤ مخلوق أن يكون في مواجهة الحق في معركة. لقد قلنا قديماً وعلينا أن نعيها جيداً: إن الولد الصغير حينما يضطهده زملاؤه فيلجأ إلى حِضن أبيه، عندئذ ينصرف كل منهم إلى حاله، لكن أقرانه يستطيعون أن يهزموه عندما يبتعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1781 عن أبيه. فما بالنا ونحن عيال الله؟ وكذلك شأن الكفار مع المؤمنين. إن الكفار قادرون على الانفراد بالمؤمنين حينما يتخلى المؤمنون عن منهج الله؛ لأن الله لن ينصر أناساً ليسوا على منهجه، فلو نصر الله أناساً على غير منهجه فإن ذلك يبطل قضية الإيمان. وعندما نستقرئ القرآن الكريم؛ نجد أن كل خبر عن الإنسان وهو معزول عن المنهج الإلهي هو خبر كله شر. فسبحانه يقول: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2] إن الإنسان على اطلاقه لفي خسر، ولكن من الذي ينجو من الخسران؟ وتأتي الإجابة من الحق فيقول: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3] وتتأكد القضية في موضع آخر من القرآن الكريم فيقول - سبحانه - {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِلاَّ المصلين} [المعارج: 19 - 22] إذن كل كلام - في القرآن - عن الإنسان على إطلاقه يأتي من ناحية الشر. وما الذي ينجيه من ذلك؟ إنه المنهج الإلهي. إذن فقول الحق: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} تحمل تأنيبا ولذعة خفيفة لمن أعلنوا الإيمان ولكنهم تخلفوا عن أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أُحُد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1782 وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} . ففي وقت النصر نجد حتى الذي لم يشترك في المعركة يريد أن يُدخل نفسه ضِمن المنتصرين. لكن وقت الهزيمة فالحق يَظهر، والذي يظل في جانب الهزيمة معترفا بأنه شارك في نزولها بالمسلمين وان لم يكن شارك فقد عذر أو لام من كان سببا فيها، وهو مع ذلك يسهم في حمل أوزارها وآثارها الضارة، ويتحمل ويشارك في المسئولية، إنه بذلك يكون صادقا. وقد يقول قائل: هل الله لا يعلم الذين آمنوا؟ لا، إنه سبحانه وتعالى يعلم الذين آمنوا سواء حدثت معركة أو لم تحدث. لكن علم الله الأزلي الغيبيّ لا نرى نحن به الحُجَّة، ولذلك لا تكون الحجَّة ظاهرة بيننا، ولكن حين يبرزُ علم الله إلى الوجود أمامنا فإنه علم تقوم به الحُجة واضحة على من آمن، وعلى من لم يحسن الإيمان، وذلك حتى لا يدِّعي أحد لنفسه أنه كان سيفعل، لكن الفرصة لم تواته. وهكذا تأتي المواقف الاختبارية والابتلاءات ليعلم كل منا نفسه وتبرز الحُجة علينا جميعا. إذن: فهناك فرق بين علم الله الأزليّ للأشياء كما سوف تحدث، ولكن لا تقوم به الحُجّة علينا. فقد يدعى البعض أنه لو قامت معركة شديدة فإنهم سوف يصمدون، ولكن عندما تقوم المعركة بالفعل فنحن نرى مَنْ الصّامد ومَنْ هو غير ذلك من المتخاذلين الفارين؟ ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى: نحن في حياتنا العادية نجد أن عميد إحدى الكليات يأتي إلى المدرس ويقول له: نحن نريد أن نعقد امتحانا لنتعرف على المتفوقين من الطلاب، ونمنح كُلا منهم جائزة. فيرد المدرس: لماذا الامتحان؟ إنني أستطيع أن أقول لك: من هم المتفوقون، وأن أرتبهم لك من الأول ومن الثاني وهكذا. لكن عميد الكلية يصر على أن يعقد امتحانا حتى لا يكون لأحد حجة، ويختار العميد مدرساً آخر ليضع هذا الامتحان. وتظهر النتيجة ويكون توقع المدرس الأول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1783 هو الصائب، وهكذا يكون تفُوق هؤلاء الطلاب تفوقا بحُجة. وإذا كان ذلك يحدث في المستوى البشري فما بالنا بعلم الله الأزلي المطلق؟ إن الحق بعلمه الأزلي يعلم كل شيء ومُحيط بكل شيء، وهو سبحانه لا يقول لنا: أنا كنت أعلم أنكم لو دخلتم معركة ستفعلون كذا وكذا. . وكان يمكن أن يجادلوا ويدعوا لأنفسهم أشياء ليست فيهم، لكن الحق يضع المعركة وتكون النتيجة مطابقة لما يعلمه الله أزلا. إذن فالتغيير هنا لا يكون في علم الله، لكن التغيير يكون في المعلوم لله، ليس في العالِم بل في المعلوم بحيث نراه حُجة علينا. ويقول الحق: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} وساعة تسمع كلمة «يتخذ» هذه؛ اعرف أنها اصطفاء واختيار. وسبحانه يقول: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] أي أنه جل وعلى قد آثر إبراهيم واصطفاه، إذن فالاتخاذ دائما هو أن يَأخذه إلى جانبه لمزية له ورفعة لمكانته. وحين يقول الحق: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} فنحن نعرف أن «شهداء» هي جمع شهيد، وكلمة شهيد لها معانٍ متعددة، فالشهيد في القتال هو الذي يُقتل في المعركة، وهذا سيكون حيا ويرزق عند ربه. وإياك أن تقول: إننا عندما نفتح قبر الشهيد سنجده عظاما وترابا. وهذا يعني أنه سلب الحياة. . لا، إن الله وضح أن الشهيد حيّ عنده، وليس حيا عند البشر. وإذا فتح أحد من الناس القبر على الشهيد فسيراه عظاما وترابا؛ فقد جعل الله سبحانه للشهيد حياة عنده لا عندنا. {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1784 إذن فللشهداء عند ربهم حياة لا نعرف كنهها، ويوم نفتح عليهم قبورهم تصير أمرا مُحسا، ولكن الله نبهنا أن الشهداء أحياء عند ربهم. وعندما نتأمل كلمة «شهداء» نجد أنها تعني أيضا الشهادة على الحق الذي قامت من أجله المعركة، وكل إنسان يُحب الخير لنفسه، فلو لم يعلم هؤلاء أن إقدامهم على ما يؤدي إلى قتلهم خير لهم من بقائهم على حياتهم لما فعلوا. وبذلك يكون الواحد منهم شاهدا للدعوة وشهيدا عليها. وقد ينصرف المعنى في «شهداء» إلى أنهم بَلَّغوا الدعوة حتى انتهت دماؤهم ويذيل الحق الآية بقوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} . ومعنى هذا التذييل أن المعركة يجب أن تدور في إطار الحق، ومثلما قلنا: ما دام الناس متخلفين عن المنهج فإن الله لا يظلمهم بل ستدور المعركة صراع بشر لبشر، والقادر من الطرفين هو الذي يغلب. فالحق سبحانه بالرغم من كراهيته للكفر إلا انه لا يُحابي المسلم الذي لا يتمسك بمطلوب الإيمان؛ لذلك قد يغلب الكافر المسلم الذي لا يمسك بمطلوب الإيمان، ولكن إن تمسك المؤمنون بمطلوب الإيمان فالنصر مضمون لهم بأمر الله. وبعد ذلك يقول الحق: {وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1785 والتمحيص يختلف عن المحْق، لأن التمحيص هو تطهير الأشياء وتخليصها من العناصر الضارة، أما المحق فهو الذهاب بها كلها. ويقول الحق بعد ذلك: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1785 إن الإيمان ليس مجرد كلمة تقال هكذا، بل لا بد من تجربة تثبت أنكم فُتِنْتُم ونجحتم في الفتنة، والفتنة هي الامتحان إذن فلا تحسبوا أن المسألة سوف تمر بسهولة ويكتفي منكم أن تقولوا نحن نحمل دعوة الحق، لا. إذا كنتم صادقين في قولكم يلزمكم أن تكونوا أسوة حين يكون الحق ضعيفا؛ فالحق حين يكون قويا فهو لا يحتاج إلى أسوة. بل قضية الإيمان الحق تحتاج إلى الأسوة وقت الضعف. ودخول الحنة له اختبار يجب أن يجتازه المؤمن. والحق يقول: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} وعندما نسمع ذلك فعلينا أن نعرف أن الله يعلم علما أزليا من المجاهد ومن الصابر، ولكنه علم لا تقوم به الحُجة على الغير، فإذا حدث له واقع صار حُجة على الغير. وبعد ذلك يقول الحق: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1786 وكان القوم الذي فاتهم شرف الاشتراك في بدر قد أرادوا ان يذهبوا مع الرسول للمشاركة في غزوة أُحُد، ويوضح لهم الحق: أكنتم تظنون أن تمنى المعارك وحده يحقق النصر، وهل كنتم تظنون أن كل معركة يدخلها المؤمنون لا بد أن تكون منتصرة؟ وإن كنتم تظنون أن المسألة هي نصر لمجرد التمني، فمعنى ذلك أنكم دخلتم إلى معسكر الإيمان من أجل الفأل واليُمن والنصر، ونحن نريد ان نعرف من الذي يدخل معسكر الإيمان وهو بائع روحه وهو مُحتسب حياته في سبيل الله. فلو أن الأمر يمر رخاء، لدخل كل واحد إلى معسكر الإيمان، لذلك يقول الحق: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} . فهل ظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون أن يُخرج الحق على الملأ ما علمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1786 غيبا، وتترجمه الأحداث التي يجريها سبحانه فيصير واقعا وحُجة عليكم، ويبرز الله سبحانه من الذين جاهدوا؛ أي دخلوا في زُمرة الحق، والذين صبروا على الأذى في الحق. ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي إن ما كنتم تتمنونه قديما صار أمامكم، فلو أن التمني كان صحيحا لأقبلتم على الموت كما تقبلون على الحياة. ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1787 ونحن نعرف ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اسمه الأول هو «محمد» ، وله اسم ثانٍ عرفناه من القرآن وجاء في الإنجيل هو «أحمد» : {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف: 6] وقد ورد اسمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مُحمد» في القرآن أربع مرات، و «أحمد» وردت مرة واحدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1787 والآية التي نحن بصددها، وهي آية ذكر فيها اسم محمد: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} . ولنقرأ قول الحق: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 40] وقوله تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: 2] وها هو ذا القول الكريم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً} [الفتح: 29] والاسم هو ما وُضع عَلَماً على المسَمَّى؛ بحيث إذا ذُكر الاسم جاء إلى الذهن المسمى، فإذا اشترك اثنان في بيئة واحدة في اسم؛ فلا بد من التمييز بينهما بوصف. فإذا كان في أسرة واحدة ولدان اسم كل واحد منهما مُحمد، فلا بد أن نميز بين الاثنين بصفة، وفي الريف نجد من يسمى «مُحمداً الكبير» و «مُحمداً الصغير» . وكلمة «مُحمد» وكلمة «أحمد» مشتركتان في أصل المادة؛ لأنهما من «الحاء والميم والدال» فالمادة هي الحمد، إلا أن التوجيه الاشتقاقي في محمد غير التوجيه في أحمد، لأن الاسم قبل أن يكون علماً إذا خرجت به عن معناه الأصلي، انحل عن معناه الأصلي، وصار علما على الشخص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1788 ولذلك قد نجد رجلا له جارية سوداء فيسميها «قمرا» وقد يكون للرجل عبد شقي فيسميه: «سعيدا» . فإذا صار الاسم علما على شيء فإنه ينتقل من معناه الأصلي ويصير عَلَماً على المسمَّى، لكن الناس حين تُسمى أبناءها تلمح التفاؤل في أن يصير المعنى الأصلي واقعا. والدميمة التي يسميها صاحبها «قمرا» افتقدت جمال المسمى، ولذلك فهو يريد لها أن تأخذ جمال الاسم. . وكلمة «مُحمد» حين ننظر إليها في الاشتقاق نجد انها ذاتٌ يقع عليها الحَمْد من غيرها، مثلما تقول: فلان مكرَّم أي وقع التكريم من الغير عليه. وكلمة «أحمد» نجدها ذاتا وقع عليها الحمد لغيرها. وعندما نقول: مُكرِّم - بضم الميم وفتح الكاف مع تشديد الراء مكسورة - أي وقع التكريم منه لغيره. ونحن عندنا اسمان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، في القرآن وكلاهما من مادة «الحمد» ف «محمد» ملحوظ فيه أن الحمد وقع عليه كثيرا من غيره. لكن لو كان المراد أن الحمد وقع عليه دون الكثرة فيه لكان اسم «محمود» هو الذي يطلق عليه فقط. أما «أحمد» فقد قلنا إنه ملحوظ فيها أن الحمد وقع منه لغيره. و «أحمد» تتطابق مع أفعل التفضيل فنحن نقول: «فلان كريم وفلان أكرم من فلان» . إذن ف «أحمد» أي وقع منه الحمد لغيره كثيرا، فلو كان الحمد قد وقع منه بقدر محدود لقلنا «حامد» . إذن ف «أحمد» مبالغة في «حامد» وقع منه الحمد لغيره كثيراً فصار أحمد. و «محمد» مبالغة في «محمود» ، وقع عليه الحمد من غيره كثيرا فصار محمداً. إذن فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جمع له الله بين الأمرين؛ فهو محمد من الله وحامد لله؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جمع الله له بين مقامين: مقام الاصطفاء ومقام المجاهدة، فبالاصطفاء كان «محمدا» و «محمود» ، وبالمجاهدة كان «حامدا» و «أحمد» . إذن نحن هنا أمام مقامين اثنين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1789 قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنا محمد وأحمد والمقفى والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة» . وسيكون لذلك كلام ونحن نتناول هنا بالخواطر معركة أحُد، فبعد أن انحل القوم من الرماة عن أمره، وحدثت الكرَّة عليهم من المشركين القرسيين، بعد ذلك يتجه الصحابة هنا وهناك ليفروا، ويتكتل المشركون على رسول الله لدرجة أن ابن قمئة يمسك حجرا ويضرب به حضرة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فيكسر رَبَاعِيَّته. وتنغرز في وجنتي الرسول حلقتا المغفر، ويسيل منه الدم، ويحاول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يصعد على صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها. وكلها مجاهدات بشرية. أما كان الله بقادر أن يُجنِّب رسوله كل ذلك؟ إنه سبحانه قادر. ولكن كل ذلك كان تكريما من الله، ولم يرد سبحانه أن يحرم رسوله من لذة المجاهدة، وحتى يعرِّف الله المؤمنين بمحمد نقول: إن الله لم يأت بمحمد ليدلله على خلقه، ولكن ليدُلَّ كُلَّ مؤمن على أن رسول الله حينما حدث له ما حدث قد ذاق المجاهدة؛ فقد فر بعض المقاتلين من المعركة في أحد، وكادت ريح الهزيمة تهب على معسكر الإيمان، ها هو ذا سيدنا أبو عبيدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يذهب إلى رسول الله فيجد حلقتي المغفر في وجنتيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيحاول سيدنا أبو بكر أن يخلع حلقتي المغفر، فيتألم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيقول سيدنا أبو عبيدة: - إليك يا أبا بكر. بالله دعني. ويمسك أبو عبيدة بإحدى الحلقتين وينزعها من وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسقطت ثنيته، ثم نزع الحلقة الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى فكان أبو عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ساقط الثنيتين، وقال فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» . وينزف دمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وسيدتنا فاطمة يلهمها الله أن تأتي بقطعة من حصير وتحرقها، وتأخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1790 التراب الباقي من الحريق وتضمد به الجرح. إن الله لم يشأ أن يحرم رسوله لذة المجاهدة. ويأتي أنس بن النضر ويجد الصحابة وفيهم عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وقد ألقوا ما بأيديهم، فيسألهم أنس: ما يجلسكم؟ فيقولون: قُتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيقول: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم استقبل القوم من المشركين فقاتل حتى قتِل. هذه كلها مواقف لم تكن تأتي وتظهر إلا بهذه المعركة. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} أي اسمعوا. هذا محمد وهذه منزلته، هو رسول من الله جاء بعد عيسى بن مريم، وكان من الواجب أن نعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مؤكد على بشريته. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} . وهل انقلب أتباع الرسل السابقين على أعقابهم حينما ماتت رسلهم؟ فكيف تكونون أقل شأنا من هذه الأمم؟ هبوا أن ذلك قد حدث، فلماذا لا يبقى الخير الذي بلغه فيكم رسول الله إلى يوم القيامة؟ الرجل الذي يكون قد صنع خيرا يموت بموته، أيكون قد صنع شيئا؟ لا؛ فالذي يريد أن يصنع خيرا فعليه أن يصنع خيرا يخلفه. لذلك فالزعامات الفاشلة هي التي يكون الفرد فيها زعيما، ثم يموت ونبحث عن زعيم بعده فلا نجد ونتساءل: لماذا خنق الزعيم أصحابه وزملاءه؟ أكان خائفا منهم؟ ونظل نتمنى أن يكون قد ربَّى الزعيم أناسا، فإذا ما ذهب نجد من يخلفه، فلا يوجد إنسان يضمن حياته؛ لذلك يقول الحق: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} . وساعة تسمع القول الكريم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} فهذا أسلوب اسمه أسلوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1791 القصر. إنه سبحانه وتعالى يقصر محمدا على الرسالة. فإذا قصر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الرسالة فهذا يعني أن بعض المعاصرين له كانوا يعتقدون أن محمدا أكبر من رسول ولا يموت. فأوضح الله سبحانه أن محمدا رسول، وقد خلت من قبله الرسل، ولن يخلد الله أحدا. وهل غاب ذلك عن الذهن؟ نعم كان ذلك يغيب عن الذهن بدليل أنه حتى بعد أن نزلت هذه الآية وصارت قرآنا يُتلى، نجد أن سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكانت له فطرة صافية توافق وحي الله، إنه محدَّث مُلْهَم. ها هو ذا عمر بن الخطاب حينما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وانتقل إلى رحاب الله يقول: والله ما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم. قال عمر بن الخطاب ذلك من هول الفاجعة ونسي الآية فيأتي سيدنا أبو بكر فيقول: من كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لم يمت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، وتلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} . فقال عمر بن الخطاب: «فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ» . ثم إن عمر بعد أن بايع المسلمون أبا بكر بالخلافة قال: أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة، وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله، ولا في عهد عهده إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يَدْبُرنا فاختار الله عَزَّ وَجَلَّ لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا كما هَدِيَ له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهذه تعطينا أمرين اثنين: الأمر الأول: هو عِشق الصحابة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1792 والأمر الثاني: هو حاجة إيمان؛ فالعشق لا يستقيم ولا يصح أن يخرجنا عن طور التصور الإيماني؛ فعمر بن الخطاب قال: عندما سمعت أبا بكر يتلو هذه الآية عرفت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت على الأرض. إذن فقوله سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} يعني لا ترتفعوا به أنتم أيها المؤمنون برسالته فوق ما رفعته أنا. ومعنى {يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} أي يَرجع. فهل هذا الرجوع رجوع عن المعركة؟ أو رجوع عن أصل التشريع وأصل الديانة وأصل الرسالة التي جاء بها محمد؟ إن هذا يصح، وذلك يصح. وقوله الحق: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} قول واضح، وسبق أن تعرضنا إلى الموت وإلى القتل، وقلنا: إن الموت والقتل مؤداهما واحد، وهو الذهاب بالحياة، إلا أن الذهاب بالحياة مرة يكون بنقض البنية التي لا تسكن الروح فيها إلاّ بمواصفاتها، فإن نقضت البنية ولم تجد الروح المسكن الملائم لها تتركه، لكن الموت على إطلاقه: هو أن تذهب الحياة بدون نقض البنية، فالإنسان يذهب حتف أنفه، أي نجده قد مات وحده. إذن فنقض البنية يؤدي إلى ذهاب الحياة بالقتل؛ لأن الروح لا تسكن في مادة إلا بمواصفات خاصة، فإذا انتهت هذه المواصفات ذهبت الروح. لكن عندما تذهب الروح بمفردها بدون نقض للبنية فهذا هو الموت لا القتل. والله سبحانه يقول: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} ذلك أنهم أشاعوا أن النبي قد قتل. وكيف يجوز ذلك على الصحابة والله قد قال: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] وهنا نقول: هل أنت علمت أن هذه الآية قد نزلت قبل أُحد أو بعدها؟ وهل أنت حسن الظن بأن كل صحابي يكون مستحضرا لكل آيات القرآن في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1793 بؤرة شعوره؟ ألا ترى أنهم عندما سمعوا خبر قتله هربوا، وإذا كان سيدنا عمر قد نسي هذه الآية: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} كما أنه يحتمل أن يكون المراد من عصمة الله رسوله من الناس أنه - سبحانه - يحفظه من فتنة الناس وإذلالهم. هكذا أراد الله أن تمثل لنا معركة أُحد كل الطوائف والأصناف التي تُنسب إلى الإيمان تمثيلا يتضح في موقف ابن أُبيّ حيث انخذل وانقطع عن رسول الله بثلث القوم، ومرحلة أقل منها، تتمثل في طائفتين هَمَّتا، ثم شاء الله أن يربط على قلوبهما فيظلا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولما نشبت المعركة كان للرماة موقف في المعركة الأُحدية. فحين رأوا النصر أولا ورأوا الغنائم سال لعاب بعضهم على الغنائم، فحصل انشقاق فيهم، فعبد الله بن جبير وهو رئيس الرماة ومعه من القلة يُصر على تنفيذ أمر رسول الله فيقاتل حتى استشهد، واستشهدوا وهؤلاء هم الذين أرادوا الآخرة. بينما كان هناك قوم آخرون أرادوا الغنائم، وحيما أشيع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قُتل فرت البقية الباقية من الرماة وغيرهم من المعركة، ورسول الله ينادي القوم: «إليَّ عباد الله إليّ عباد الله» . كل هذه مصاف إيمانية تمثل لنا كيف يُصفى الله مواقف المنسوبين إليه. وتظهر وتوضح موقف كل واحد، وأنه مفضوح إيمانيا إن وقف موقفا يخالف منهج الله. كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في هذا الوقت - في موقف الإنهاك لقوته البشرية لدرجة أننا قلنا: إنه أراد أن يصعد فلم تَقو مادته البشرية، فطأطأ طلحة ظهره ليصعد النبي عليه، وهو في هذه المرحلة من الإنهاك المادي البشري يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعطيه من القوة في هذا الضعف وفي هذا الإنهاك ما يقف به أمام جبار من جبابرة قريش. كان هذا الجبار يتهدده. ولو أن الموقف كان موقف قوة لرسول الله أكان من المعقول أن ينتصر رسول الله على جبار قريش؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1794 ولكن الله يريد أن يُرينا تأييد الله لرسوله، في موقف إنهاكه وكيف يقف من جبار قريش هذا الموقف، هذا الجبار هو «أبي بن خلف الجمحي» وكانت عنده رَمَكة فيقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذه الرمكة أنا أعلفها كل يوم فَرَقاً من ذرة لأقتلك عليها. فيقول له رسول الله قولة الواثق من أن ربه لن يخذله: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» . لم يلتق هذا الرجل مع رسول الله وهو في قوته، ولكنه جاء لرسول الله وهو في هذا الموقف الذي أثخنته فيه الجراح وكسرت رباعيته ودخلت خلقتا المغفر في وجنتيه وسال دمه. وبعد ذلك يأتي إليه هذا الرجل «أبي بن خلف الجمحي» وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟ فيشير إليهم رسول الله أن اسكتوا. إنه - رسول الله - لايريد قوة لقوة، ولكنه علم أن أُبَيّاً قد عرف أن رسول الله منهك فجاء في هذا الوقت، فأخذ رسول الله الحربة، وضرب أبي بن خلف بها فنالت منه، فسقط من على فرسه يخور كما يخور الثور، فقال له أصحابه: «لا بأس عليك يا أُبيّ، ما أجزعك: إنما هو خدش» . وهذا الذي قتله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي اشتد عليه غضب الله تعالى لما رواه ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: «اشتد غضب الله على مَنْ قتله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيده في سبيل الله واشتد غضب الله على قول دَمَوْا وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» . ولننظر كيف أن الذين عادوا رسول الله صلى عليه وسلم استكبارا وعنادا، ولم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1795 يعادوه عقيدة قلبية، إنهم يعتقدون صدقة، ويعتقدون حُسن بلاغه عن الله، ويتحقق ذلك من قوله سبحانه وتعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [النمل: 14] فما هو الاستيقان هنا؟ لقد قال أصحاب أبيّ له: ما أجزعك إنما هو خدش فقال أبيّ: والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل الحجاز لماتوا جميعا. لكن أصحاب أبي قالوا له مرة أخرى: لا بأس عليك يا أبي إنه خدش بسيط. لكنْ أبي يقول: - لا والله لقد علمت أنه يقتلني؛ لأنه قال لي بمكة: «أنا قاتلك إن شاء الله» فوالله لو بصق علي لقتلني. فمات وهم قافلون به إلى مكة. هذا يحدث من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في موقف الضعف والإنهاك، ويشاء له الله أن يقتل جبارا من جبابرة قريش وهو في هذه الحالة. إن كان ذلك لأدلة تثبت لهم أن البشرية المادية لا علاقة لها مطلقا بمدد النصر من الله؛ فالله يمُد رسوله حتى في وقت الضعف. ومدده سبحانه لرسوله وقت ضعف الرسول هو إعلام بقيوميته سبحانه على جنوده؛ لأنهم لو ظلوا أقوياء لقيل في عرف البشر: أقوياء وغلبوا. لكن ها هو ذا الرسول يصيب الجبار من قريش في مقتل والرسول ضعيف، وبعد ذلك يعطي الحق سبحانه لرسول الله أشياء إيمانية تزيده ثقه بأنه هو رسول الله، وتزيد المؤمنين ثقة بانه رسول الله. لقد خرج إلى المعركة وهو يعلم بما سيكون فيها؛ لأنه قال: «إني قد رأيت والله خيرا رأيت بقرا تُذبح ورأيت في ذباب سيفي ثَلْمِّا، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1796 وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لقد رأيتني يوم أحد وما في الأرض قربى مخلوق غير جبريل عن يميني وطلحة عن يساري» . إذن فالمعركة بكل أحوالها عُرضت عليه، ومع ذلك أقبل رسول الله على المعركة ليستدل من ذلك على أن الله أعطاه المناعة قبل أن يخوض المعركة. هذا ما يتعلق به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد رأى فأول، وأما الذي يتعلق بالناس، فيأتي إلى واحد من قتلى المعركة - وقتلى المعركة، لا يُغسلون؛ لأن الذي يغسل هو من يموت في غير معركة - يأتي الرسول إلى واحد من هؤلاء الشهداء فيقول: «إن صاحبكم لتغسله الملائكة» - يعني حنظلة - المؤمنون يرون أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد خرج عن القاعدة في الشهداء. كيف؟ لقد أخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخبر بعد ذلك. . ولا يُخرج حنظلة عن قانون الشهداء أنه يُغسّل. . ولكن الذي يغسله هم الملائكة. . إن الملائكة تغسل حنظلة. وبعد أن رجع رسول الله إلى المدينة يسأل أهله ما شأنه. . فيعلم أن حنظلة قد دخل بعروسه. . ثم نودي للمعركة. . فأعجله نداء المعركة. . فذهب إلى المعركة جُنبا. . فذلك غُسْل الملائكة له، لقد تأكد الخبر من زوجة حنظلة. . إذن فهذه شهادة أخرى أن الله سبحانه وتعالى لم يتخل عنهم في أوقات الضعف، وأن تلك العملية كانت عملية مقصودة. إن الحق سبحانه وتعالى يعطي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشياء لتؤكد لنفسه أنه رسول الله. ألم نقل سابقاً: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء له صحابته فقالوا يا رسول الله: إن جابر بن عبد الله عليه دين ليهودي وأجل الدين إلى جَزّ التمر وتمُره خَاسَ هذا العام أي فسد من آفةٍ مثلاً فنحب يا رسول الله أن تطلب من اليهودي أن يُنظر جابرا - أي ينتظر عليه ويؤخره إلى وقت آخر - فذهب رسول الله إلى اليهودي وطلب منه أن يُنظر جابرا، فلم يرض اليهودي وقال: لا يا أبا القاسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1797 فأعاد عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال اليهودي: لا يا أبا القاسم. فأعاد عليه الرسول مرة ثالثة فقال اليهودي: لا يا أبا القاسم. . فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بثقة الإيمان بالله ما معناه: يا جابر اذهب بي إلى بستانك. وذهب رسول الله فجاس خلال النخل، ثم ذهب إلى عريش جابر الذي يجلس فيه، واضطجع وقال: يا جابر جز واقض. قال جابر: فذهبت فجززت، فإذا ما جززته يؤدي ما عليّ لليهودي ويبقى لي مالم يبق لي وأنا غير مدين. فلما بلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أشهد أني رسول الله» . إن الحق سبحانه يعطي رسوله بينات توضح أنه رسول الله، فاليهودي لم يرض بشفاعة النبي، فيعطي الله رسوله ما يؤكد أنه رسول الله. وهكذا نرى أن الله يعطي رسوله في وقت الضعف الأدلة التي تؤكد له أنه رسول الله. والذي يدل على ذلك هؤلاء الذين أحبوا أن يؤذوه في اسمه. إنّ اسمه مُحمد كما نعرف، و «محمد» أي الممدوح من الكل، وبكثرة، فيأتي خصومه ويريدون أن يهجوه وأن يلعنوه، فيصرفهم الله سبحانه وتعالى حتى عن شتم الاسم لا المسمى فقط. إن الله أراد أن يصعد العصمة، وأراد - سبحانه - ألا ينالوا بالسباب من اسم رسول الله، فألهم الله خصوم رسول الله أن يسموا المشتوم عندهم «مذمما بدلا من» محمد «. وعندما يريدون اللعن، فهم لا يلعنون الاسم محمداً ولكنهم يسبون الاسم الذي اختاروه وهو» مذمم «، فيضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ عندما سمع ما قالته أم جميل امرأة أبي لهب. » مذمما عصينا. . وأمره أبينا. . ودينه قلينا «. وهي تقصد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد حدث أن حمالة الحطب أتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها حجر فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا ترى إلا أبا بكر فقالت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1798 يا أبا بكر أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الحجر فاه أما والله إني لشاعرة وقالت ما قالت. ويقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» ألا تعجبون لَما يصرف الله عني من أذى قريش يشتمون مُذَمَّماً ويلعنون مذمما وأنا محمد «. هكذا نرى من أفواه الحاقدين على رسول الله أنه معصوم بإرادة الله، حتى الاسم أبعده الله عن اللعن، أما المسمى فلن يلعن ولن يشتم. إن ما حدث في غزوة أحد كان هو التربية الأولى لصحابة رسول الله، والتأكيد على صدق بلاغه عن الله. إن هذه المعركة قد صورت ذلك وجسدته، ولذلك حين نلحظ المعارك التي جاءت بعد هذه المعركة فإننا لا نجد للمؤمنين هزيمة أبدا، لأنهم صُفوا التصفية وربُوا التربية التي جعلت كل واحد منهم عارفا أن الله يعلم ما يخفيه وإن لم يحسن البلاء والجهاد فسيفضح الله ما في نفسه، وسيعلن الله عنه؛ لذلك دخل كل مؤمن منهم المعارك وهو مقبل على الجهاد، كل المعارك بعد أُحد جاءت نصرا وجاءت سلاما. وهنا يعلمنا الحق أن البقاء على منهج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو النجاة وهو النصر، ويحذرنا سبحانه ألا ينقلب المؤمن على عقبيه، قال لنا: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} . {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} هي صورة حركية مادية مرئية. وقد حدث ذلك من بعض الصحابة في معركة أحُد، لقد فر البعض وانقلب بعضهم إلى المدينة، ومعنى «انقلب» أي أعطى ظهره للمعركة بعد أن كان مواجها لعدوه، وهي مثل قوله: {وَلَّوُاْ الأدبار} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1799 ولكن في قوله: {انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} فيه انقلاب حسي أيضا، وفيها كذلك انقلاب نفسي، وهو الانصراف عن أصل الدين، ولذلك سيعرفنا الحق أن المنافقين بعد حدوث تلك الواقعة وبعد ما فشا وذاع في الناس قتل الرسول كان لهم كلام، وضعاف الإيمان كان لهم كلام آخر؛ فالمنافقون الذين هم أكثر شرا من الكفار قالوا: لو كان نبيَّا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. أما الذي آمنوا إيمانا ضعيفا فقالوا: سنذهب إلى ابن أُبَيّ ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. فيقف أنس بن النضر قائلا: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - أي المنافقون - وأعتذر إليك مما يقول هؤلاء - أي ضعاف الإيمان -. لقد وزعها بالحق؛ فهو يبرأ إلى الله من قول المنافقين الذين قالوا: إنهم سيعودون إلى دينهم القديم، ويعتذر ويستغفر عن ضِعاف الإيمان. ويقول سبحانه: {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً} . لماذا؟ لأن الله أزلاً وقبل أن يخلق شيئا من خلقه له كل صفات الكمال، إذن فأي صفة من صفات الكمال لم تطرأ عليه - سبحانه - من خلقه، إنه - سبحانه - أوجد الكون بما فيه الخلق لأنه قادر، وأوجده لأنه حكيم، وأوجده لأنه عالم، إذن فخلق الخلق لم يزد الله صفة من صفاته، فحين خلقكم وصنعكم أعطى لكم المنهج لتكونوا خلقا سويا. إذن فالمصلحة تعود علينا نحن الخلق، فكان يجب أن تنظروا إلى المناهج التي تأتي من الله على أنه لا نفع فيها لله، ولكن النفع فيها عائد عليكم. ولذلك جاءت الآية من بعد ذلك لتقول: {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} لأن الشكر إنما يؤديه العبد على نعمة، نعمة تمحيص وتعليم وبيان مكانة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ربه. لقد تعلم المؤمنون أن الله يستحق منهم الشكر على هذه النعم. وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى قضية عامة، القضية العامة للناس جميعا هي: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1800 وساعة تسمع «ما كان» أي «ما ينبغي» . فنحن في حياتنا نقول: ما كان لك أن تضرب زيدا، ونقصد أنه ما ينبغي أن تضرب زيدا. فقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} هذا القول قد يدفع إلى التساؤل: وهل الموت أمر اختياري؟ لا، ولكن تعبير الحق سبحانه له إيحاء؛ لأنك عندما تقول: ما كان لفلان أن يفعل كذا، فهذا معناه أن لفلان أن يختار أن يفعل ذلك أو لا يفعله، وفي قدرة فلان أن يفعل أو لا يفعل. أما عن قدرة الله فلا يمكن أن يقول أحد ذلك. إننا نفهمه على فرض أن النفس تدفع نفسها إلى موارد التهلكة، فما لها أن تموت إلا أن بأذن الله. فإذا كانت النفس هي التي تدفع نفسها إلى موارد التهلكة، ومع ذلك لا تملك أن تموت، فكيف إذا لم تدفع نفسها إلى موارد التهلكة. إذن فالموت إن أرادته النفس فلن يأتي إلا أن يكون الله قد أذن بذلك. وإننا نجد في واقع الحياة صورا شتى من هذه الصور. نجد من يضيق ذرعا بهذه الحياة؛ لأن طاقته الإيمانية لا تتسع للبلاء والكد في الدنيا فينتحر، إنه يريد أن يفر مما لا يقدر على دفع أسبابه. أما الذي يملك الطاقة الإيمانية الرحبة فأي شقاء أو بلاء يقابله يقول: إن لي ربا، وما أجراه عليّ ربي فهو المربي الحكيم الذي يعرف مصلحتي أكثر مما أعلم، ولعل هذا البلاء كفارة لي عن ذنب. وهذا عكس من يفر مما لا يقدر على دفع أسبابه، فيحاول أن يقتل نفسه، وكل منا قد رأى أو سمع عن بعض الذين يريدون ذلك لكن يتم إنقاذهم ويدركهم من ينفذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1801 مشيئة الله في إنقاذهم، كغسيل المعدة لمن ابتلع أقراصا سامة، أو إطفاء حريق من أشعل في نفسه النار. فالمنتحر يريد لنفسه الموت ولكن الله إذا لم يأذن، فلا يبلغه الله هذا، فقد تجد مُنتحرا يريد أن يطلق على نفسه رصاصة من مسدس فلا تنطلق الرصاصة، أو تجد منتحرا آخر يريد أن يشنق نفسه بحبل معلق في السقف فينقطع الحبل، لماذا؟ لا يقبض الحياة إلا من وَهَب الحياة. قد يقول قائل: ولكن هناك المقتول الذي يقتله إنسان آخر. وهنا يرد المثل الشعبي: لو صبر القاتل على المقتول لمات بمفرده، إن اللحظة التي تفارق الروح مادة الجسد موقوتة بأجل محدود، فمرة تأتي اللحظة بدون سبب، فيموت الإنسان حتف أنفه، ويقول أصدقاؤه: لقد كان معنا منذ قليل. إنهم ينسون أنه مات لأنه يموت بكتاب مؤجل. ولذلك نجد إنسانا يسعى إلى عافية الحياة، فيذهب إلى إجراء جراحة ما، وأثناء إجراء الجراحة يموت. ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي حين يقول في ذلك: في الموت ما أعيا وفي أسبابه ... كل امرئ رهن بطيِّ كتابه أسد لعمرك من يموت بظفره ... عند اللقاء كمن يموت بنابه إن نام عنك فكل طب نافع ... أو لم ينم فالطب من أذنابه إن الكتاب إذا انطوى فقد انتهى الأمر، حتى عندما يلتقي الإنسان بأسد، فيستوي الموت بالناب، كالموت بظفر الأسد. فإن نام الموت عن الإنسان فقد يشفيه من أمراضه قرص دواء أو جرعة ماء. أما إن استيقظ الموت فالطب والعلاج قد يكون ذَنَبَاً أو أداة للموت، والقاتل كل ما فعله أنه نقض بنْية المقتول، وهذا هو ما يعاقب عليه. إذن فقول الحق: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} يطلق قضية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1802 عامة. والكتاب المؤجل يطلق مرة على زمن العمر كله، ومرة يطلق على النهاية النهائية منه، والنهاية النهائية هي الموت الحقيقي. فالقاتل حين ينقض بنية القتيل إنما يوافق الأجل المكتوب الذي أراده الله. لكن لماذا نعاقب القاتل إذن؟ نحن نعاقبه لأنه نقض بنية إنسان آخر. والحق يقول: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} . ولنلحظ قوله: {بِإِذْنِ الله} فهي تدلنا على أن الله هو الذي يطلق الإذن. والإذن يكون للملائكة ليقوموا بهذه المسألة، ولذلك نجد القرآن الكريم حين يتعرض لهذه المسألة يسند مرة هذه العملية لله فيقول سبحانه: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] ومرة أخرى يسند القرآن هذه العملية لِملَكٍ واحد: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] ومرة يسندها الحق سبحانه إلى رسل من المعاونين لملك الموت: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] والحق سبحانه وتعالى صادق في كل بلاغ عنه؛ لأن كل أمر يحدد الأجل ليس بمراد الموكَّل بإنهاء الأجل، إنما هو بإذن من الله تعالى الذي يحدد ذلك. وما دام كل أمر قد صدر منه فهو سبحانه الذي يتوفى الأنفس، وبعد ذلك فالملك الذي يتوفى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1803 الأنفس - عزرائيل - له أعوان؛ فهو عندما يتلقى الأمر من الله فهو ينقل الأوامر إلى أعوانه ليباشر كل واحد مهمته. إذن فصيرورة الأمر بالموت نهائيا إلى الله. وصيرورة الأمر بالموت إلى الملائكة ببلاغ من الله، هذا هو الإذن، والإذن يقتضي مأذونا، والمأذون هم ملائكة الموت الذين أذن لهم ملك الموت بذلك، وملك الموت تلقي الإذن من الله سبحانه وتعالى. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} فالذي يريد جزاء الدنيا وهو الذي يطلب جزاء حركته فيها، يأخذها، ولو كان كافرا: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} [الإسراء: 18] ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن الكريم: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] وهذا ينهي عملية أن تقول: إن الكفار حالتهم أفضل من حالتنا، الكفار متقدمون؛ ونحن متخلفون. وهل لم تأت فترة كان فيها المؤمنون متقدمين جدا؟ لقد جاءت فترة تقدم فيها المؤمنون، وكانوا متقدمين لألف سنة، وهم الدولة الأولى في العالم. وكان الكفار يسمون زمانهم ودولهم بأنها تحيا في عصور الظلمات. لماذا أنكرتم هذه {؟ لان التاريخ جاء لنا من ناحية هؤلاء وقد شوهوه، ولذلك نقول لهم: نحن كنا متقدمين وأنتم والتاريخ يشهد بذلك. ولذلك قلنا: يجب على المؤمن بالله أن يكون غيورا على أسباب الله، فلا يدع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1804 أسباب الله للكافر بالله، أيأخذ الكافر بأسباب الله وأنت يا مؤمن بالله تترك الأسباب ليأخذها هو} ؟ لا؛ لأن من يعبد الله أولى بسرِّه في الوجود، فكوننا نتركهم يأخذون الأسرار العلمية ولا ننافسهم في هذا المجال هذا تقصير منا. {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين} ونلحظ أن الحق قد جاء بلفظ {الشاكرين} مرتين، والقرآن يؤكد هذا المعنى. إنه سبحانه أعطاكم أسبابا فإن كانت الأسباب قد جاءت لكم بمسائل الدنيا فهي تستحق الشكر، وإن كانت ستعطيكم تكليفا مع الأسباب فهذا التكليف سيعطيكم خير الآخرة، وهو أمر يستحق الشكر أيضا. وبعد هذا الكلام النظري {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} . . يقول ما يؤكد وجوده في موكب الإيمان الذي سبقكم؛ لأن فيه فرقا بين الكلام وبين أن يقع مدلول الكلام، فواقع الكلام سبقكم فيقول: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1805 {وَكَأَيِّن} هذه يقولون: إنها للتكثير، مثل «كم» ؛ فعندما يقول لك إنسان مثلا: لماذا تجافيني؟ فتقول له: كم زرتك؟ إن قولك: «كم زُرتك!» في ظاهرها أنها استفهام، وأنت لا تريد أن تقول له مستفهما كم مرة زرته فيها، بل تقول له: أنت الذي عليك أن تقول - لأنك بقولك ستعترف أني زُرتك كثيرا، فيكون الجواب موافقا لما فعلت. وأنت لا تقول «كم زرتك» إلا وأنت واثق أنه إذا أراد أن يجيب فسيقول: «زرتني كثيرا» ولو كنت لا تثق أنه سيقول: زرتني كثيرا، لَمَا قلتها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1805 فعندما تقول له: كم زرتك، كم تفضلت عليك، كم واسيتك، كم أكرمتك؟ فإن «كم» تأتي للتكثير، وتأتي مثلها «كأين» إنها للتكثير أيضا، عندما تقول مثلا: «ياما حصل كذا» و «ياما» هذه معناها «كأيِّن» . وقد يسألك صديق: كيف حدثت هذه الحكاية؟ فتقول له: كأي رجل يفعل كذا ويحصل له كذا، اي ان المسأله ليست غريبة، إن قولك: كأي رجل معناها أنها شاعت كثيرا، وعندما تقول: كم مرة زرتك، وكم من مرة زرتك فهذان الاستعمالان صحيحان والمعنى: كثير من نبي قاتل معه مؤمنون برسالته كما حدث وحصل مع رسول الله. وقوله الحق {رِبِّيُّونَ} أي ناس فقهاء فاهمون سبل الحرب، و «ربيون» أيضا تعني أتباعا يقاتلون، و «ربيون» يمكن أن ينصرف معناها إلى أن منهجهم إلهي مثل «الربانيين» . وقول الحق: {فَمَا وَهَنُواْ} أي ما ضعفوا، إذن فهو يريد أن يأتي بالأسوة، وكأنه سبحانه يقول: أنتم لماذا ضعفتم في موقفكم في غزوة أُحُد وأنتم تقاتلون مع رسول الله. لقد كان الأولى بكم أن يكون حماسكم في القتال معه أشد من حماس أي أتباع نبي مع نبيهم؛ لأنه النبي الخاتم الذي سيضع المبدأ الذي ستقوم عليه الساعة، ولن يأتي أحد بعده، فكان يجب أن تتحمسوا؛ فأنتم خير أمة أخرجت للناس، وأنا ادخرتكم لذلك. إن الحق يعطيهم المثل وفيه تعريض بهم وعتاب لهم، وفي هذا القول تعليم أيضا، فيقول: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ} أي وكثير من الأنبياء {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ} ونستوحي من كلمة {وَهَنُواْ} أي ما ضعفوا. فكأنه قد حدث في القتال ما يضعف، {فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ} أي ما حدثت لهم نكسة مثلما حدثت لكم. {وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا} . وكل من {وَهَنُواْ} و {ضَعُفُواْ} و {استكانوا} هذه جاءت في موقعها الصحيح؛ لأن «الوهن» بداية الضعف، و «الوهن» محله القلب وهو ينضح على الجوارح ضعفا. و {استكانوا} ماذا تعني؟ إنها من «سكن» . والسكون تقابله الحركة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1806 والحرب تحتاج إلى حركة، والذي يأتي للحرب فهو يحتاج إلى كرّ وفر. أما الذي لا يتحرك فهذا معناه أنه ليس لديه قدرة على أن يتحرك، وساعة تسمع - الألف والسين والتاء - وتأتي بعدها كلمة، نعلم أن (الألف والسين والتاء) للطلب، «فاسْتَفْهَم» أي طلب أن يفهم، وهي تأتي لطلب المادة التي بعدها. كأن نقول: «استعلم» أي طلب أن يعلم، أو نقول: «استخبر» أي طلب الخبر، و «استكان» يعني طلب له كوْناً أي وجوداً، فكأنهم بلغوا من الوهن ومن الضعف مبلغاً يطلبون فيه أن يكون لهم مجرد وجود؛ لأن الوجود مظهره الحركة، والحركة انتهت، هذا هو معنى {استكانوا} . وما دامت مِن الكون يكون وزنها - مثلما يقول الصرفيون - «استفعل» يعني طلب الكون، وطلب الوجود، وقد يكون وزنها ليس كذلك؛ إذا كانت من سكن، وهي بهذا الاعتبار لا يكون فيها طلب؛ لأن السين ستكون أصلية، فوزنها ليس «استفعل» بل هو «افتعل» ف «استكانوا» هل تعني أنهم طلبوا السكون؟ لا؛ لأنهم كانوا ساكنين، إذن فالأولى أن يكون معناها أنهم طلبوا مجرد الوجود، هذا ما أميل إليه وأرجحه، وقيل في معناها: فما خضعوا وما ذَلوا من الاستكانة: وهي الذلة والخضوع. {فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين} فما يصيب العبد ابتلاء من الله، وفي الحديث: «إذا أحب الله قوما ابتلاهم» . وكل ذلك الوهن والضعف، لا يشغلهم عن المعركة، لأنهم لو صبروا على التحمل لأمدهم الله بمدد من عنده؛ لأنه حين تفرغ أسباب الخلق وتنتهي يأتي إمداد الخالق. ويلفتنا الحق سبحانه وتعالى بتذييل الآية: {والله يُحِبُّ الصابرين} أي وكفى جزاء عن الصبر أن تكون محبوبا لله؛ لأننا قلنا سابقا: قد نحب الله لنعمه التي أنعمها علينا، ولكن المسألة ليست في أن تحب الله أنت، وإنما في أن تصير بتطبيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1807 منهجه فيك محبوبا لله. وقد أثر عن بعضهم قوله: وإلا أَلم تَرَ كثيراً أحَبَّ ولم يُحَبْ؟!! أنت أحببت للنعم، ولكنك تريد أن تكون محبوبا من الله؛ لأن حبك للنعم لا يكفي، فمثل هذه النعم أخذها الكافر أيضاً، إذن فهناك حاجة أخرى. هناك مقدم وهناك ومؤخر فالمقدم هو نعم الحياة وكل البشر شركاء فيها مؤمنهم وكافرهم، ولكن المؤخر هو جزاء الله في الآخرة وهو الأصل. إذن، فلو أن الناس فطنوا إلى قول الله: {والله يُحِبُّ الصابرين} لقالوا: كفى بالجزاء عن الصبر أن نكون محبوبين لله، حين أصابهم ما أصابهم. صحيح أن الإصابة لم تصنع فيهم وهناً أو ضعفا أو استكانة، وهذا معناه أن فيهم مُسكة اليقين بالله. ومُسكة اليقين بالله تجعلهم أهلا لإمداد الله. فليس لك إلا أن تصبر على ما أنت فيه لتعرف مدد الله لك. ومدد الله لك لا يتجلى بحق إلا وقت الضعف؛ لأنك وقت قوتك قد تعمل مثل الذي قيل فيهم: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49] لكن المؤمنين حين أصابهم ما أصابهم {فَمَا وَهَنُواْ} ؛ لأِنَّهم كانوا متيقظين إلى قضية إيمانية: إن الله لا يسلمك لنفسك إلا حين تغيب عنه، فقالوا: ولماذا حدث لنا هذا؟ لم يقولوا: ربنا انصرنا كي نخرج من الضعف، لا. بل فكروا في الأسباب التي أدت بهم إلى هذا: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1808 فكأن ما حدث نتيجة لذنب تقدم ففطنوا إلى السبب، كان المفروض أنهم في معركة، وهذه المعركة أجهدتهم وأنهكتهم، صحيح أنهم لم يضعفوا، وكان المفروض أن يقولوا: «يارب انصرنا أولا» لا. بل قالوا: لا بد أن نعرف السبب في النكسة الأولى، السبب في هذه النكسة أن الله لم يسلمني إلى نفس إلا لأني نسيته. {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا} ، {ربَّنَا} ، وانظر لكلمة النداء في {ربَّنَا} ، كان يمكن أن يقولوا: يا ألله إنما جاءوا بكلمة «ربنا» لماذا؟ لأن علاقة العبد بالربوبية هي قبل علاقته بالألوهية، فالألوهية مكلفة، فمعنى «إله» أي: معبود، وما دام معبودا فله تكليف يطاع فيه، وهذا التكليف يأتي بعد ذلك، هو سبحانه له ربوبيته في الخلق. قبل أن يكلفهم، وما دام الرب هو الذي يتولى التربية، فالأولى أن يقولوا: يارب، إذن قولهم: «ربنا» يعني أنت متولي أمورنا، أنت الذي تربينا. {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} فكأنه لا شيء يصيبنا إلا بذنب من الغفلة ارتكبناه. ونعرف من كلمة «ذنب» أن الذي يفطن إلى معناه لا يفعلها أبدا، لأن كلمة «ذنب» مأخوذة من مادة «الذَنَب» . والذَّنْبُ سيأتي بعده عقوبة. فاللفظ نفسه يوحي بأن شيئا سيأتي، وعندما تتذكر عقاب الذنب فأنت لا تفعله. {اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} لأن كل معصية تكون تجاوزا عما أَحلَّه الله لك، وزيادة غير مشروعة وإن كانت من نوع ما أحله الله، ولكنها زيادة عن مقومات حياتك، فالله شرع لنا الزواج لنأتي بالأولاد، وعندما نأخذ أكثر من هذا من غير زواج نكون قد أسرفنا، والله أعطانا مالا بقدر حركتنا، فإن طمعنا في مال غيرنا فقد أسرفنا. «وأسرفت» يعني أن تأخذ حاجة ليست ضرورية لقوام حياتك ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1809 {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} [الزمر: 53] إنه سبحانه يوضح: أنا حللت لك كذا من النساء فما الذي جعل عينيك تزوغ وتميل إلى غير ما أحله الله لك؟ أنا أحللت لك كسب يدك وإن كنت فقيراً فستأخذ صدقة، لماذا أسرفت؟ إذن فكل أمر زائد على الحد المطلوب لبقاء الحياة اسمه «إسراف» {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} . لقد بدأوا يدخلون في الحق، لكنهم في البداية رَأَوْا الباطل، والباطل هو من أسباب تخلي الحق عن نصرتنا أولا، لكن عندما يغفر سبحانه الذنب ويغفر الإسراف في الأمر نكون أهلاً للمدد وأهلاً لتثبيت الله. {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} كيف يقول الحق ذلك والمفهوم في المعركة أن الأقدام لا تثبت؟ المعركة تطلب من المقاتل أن يكون صوالاً جوالاً متحركا، إذن فما معنى {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} ؟ إن قول الحق: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} يعني لا تجعلنا نفر من أرض المعركة، ولا نترك أرض المعركة أبدا. ولذلك قلنا: إن الكفار عندما حدث منهم ما حدث لم يظلوا في ارض المعركة، بل تركوا أرض المعركة وانصرفوا، وهؤلاء المؤمنون ولو أنهم انهزموا إلا أنهم مكثوا في أرض المعركة مدة، وكروا وراء أعدائهم وطاردوهم. وقد اهتدى البشر أخيراً إلى هذا المعنى، ففي فرنسا نيشان يسمونه «نيشان الذبابة» لماذا الذبابة؟ لأن الذبابة إن طردتها عن مكان لا بد أن تعود إليه، فكذلك المفروض على القائد - ما دام انسحب من منطقة - أن يوطن نفسه على العودة إليها، فيعطوه نيشان الذبابة. فقوله: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} في أي منطقة؟ وفي أي معركة؟ علينا ألا نبرح أماكننا؛ لأننا ساعة أن نبرحها فهذه أول هزيمة، وهذا أمر يُجَرِّئ العدو علينا. {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} . كلمة {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} هي حيثية، فما داموا قد قالوا: {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فهم إذن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1810 مؤمنون ومؤمنون بحق؛ ولذلك فإن سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول قولته المشهورة: إنكم تنتصرون على عدوكم بطاعة الله، فإن استويتم أنتم وهم في المعصية غلبوكم بعُدتهم وعَددهم. ولذلك فالإيمان يتطلب أن تنتبهوا إلى موطن الضعف فيكم أولا، والذي استوجب أن يصيبكم ما أصابكم، حقاً إنكم لم تضعفوا، ولم تستكينوا وأصابكم من المعركة شيء من التعب والألم. كأن الحق يوضح لنا أنهم قد تنبهوا فأحسنوا البحث في نفوسهم أولا، لقد تكلموا عن الذنوب وطلبوا المغفرة وتكلموا عن الإسراف على النفس، وبعد ذلك تكلموا عن المعركة. فماذا كان العطاء من الله؟ ويأتينا الجواب في قوله الحق: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1811 أي أن الذي يريد الدنيا فالله يعطيه من الدنيا غنائم وأشياء، ولنا أن نلحظ أن الحق عندما يتكلم هنا عن الدنيا فهو لم يصفها بحُسن أو بشيء، فقط قال: {ثَوَابَ الدنيا} ، لكن عندما تكلم عن الآخرة فهو يقول: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} وهذا هو الجمال الذي يجب أن يُعشق؛ لأن الدنيا مهما طالت فهي متاع وغرور وزخرف زائل، ومهما كنت منعماً فيها فأنت تنتظر حاجة من اثنتين: إما أن تزول عنك النعمة، وإما أن تزول أنت عن النعمة. ويختم الحق الآية بقوله: {والله يُحِبُّ المحسنين} وقد أحسنوا حين ناجوا ربهم بعدما أصابهم. إنهم سألوا المغفرة، وسألوا أن يغفر لهم إسرافهم في أمرهم، وأن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على القوم الكافرين؛ لأنهم رأوا أن قوتهم البشرية حين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1811 يتخلى عنهم مدد الله تصبح هباءً لا وزن لها. {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة والله يُحِبُّ المحسنين} ومثلما قلنا في الصبر: {والله يُحِبُّ الصابرين} كفى بالجزاء على الصبر أن تكون محبوباً لله، كذلك كفى بالجزاء على الإحسان أن تكون محبوبا لله. وبعد ذلك يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُوا ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1812 وما دمتم مؤمنين وهم كفار فكيف يتأتي منكم أن تطيعوا الكافرين؟ إنكم وهم من أول مرحلة مختلفون؛ أنتم مؤمنون وهم كفار، والكافر والمنافق سيستغل فرصة الضعف في النفس الإيمانية المسلمة، ويحاول أن يتسلل إليها، مثلما قلنا: إن جماعة من المنافقين قالوا: قتل محمد، ولم يعد فينا رسول فلنلجأ إلى دين آبائنا. والمؤمنون الذين أصابتهم لحظة ضعف قالوا: نذهب إلى ابن أبي - المنافق الأول في المدينة - ونطلب منه أن يتوسط لنا عند أبي سفيان ليأخذ لنا الأمان. ولذلك يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} ، فإن كان الموقف يحتاج إلى ناصر فلا تطلبوا النصير من الكافرين، ولكن اطلبوه ممن آمنتم به. وينزل القول الحق: {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1812 ألم يقل أبو سفيان: «لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم» ، فقال لهم النبي قولوا لهم: الله مولانا ولا مولى لكم، وعندما قال: يوم بيوم، أي يوم أٌحد بيوم بدر، الحرب سجال. فرد عليه عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقال: لا سواء، أي نحن لسنا مثلكم؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فكيف تكون سواء وكيف تكون سجالاً {؟ {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} ونفهم قول الحق: {خَيْرُ الناصرين} أي يجوز ان يوجد الله بشراً كافرين أو غير كافرين وينصروكم نصراً سطحياً، لا نقول ان هذا نصر انما النصر الحقيقي هو النصر الذي ياتي من الله، لماذا؟ لأن النصر أول ما يأتي من ناحية الله فاطمئن على أنك خالص ومخلص لله والا ما جاءك نصره، فساعة يأتيك نصر الله فاطمئن على نفسك الايمانية وانك مع الله. وقول الحق: {خَيْرُ الناصرين} دليل على أنه من الممكن أن يكون هناك ناصر في عرف البشر. وقد قال المؤمنون: يارب نحن ضعاف الآن وإن لم نذهب لأحد ليحمينا ماذا نضع؟ فيوضح لهم الحق: كونوا معسكرا إيمانيا أمام معسكر الكفر، وإياكم أن تلجأوا إلى الكافرين بربكم؛ لأنهم غير مأمونين عليكم. وإن كنتم تريدون أن تعرفوا ماذا سأفعل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} . فإذا ألقى الرعب في قلوب الكافرين فماذا يفيدهم من عَدَدِهم؟} عددهم وأموالهم تصير ملكا لكم وتكون في السَلَب والغنيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1813 وألقى الحق في قلوبهم الرعب بالفعل. فساعة قالوا لأبي سفيان: إن محمداً قادم إليك بجيش كثيف من المدينة، وانضم له مقاتلون لم يحاربوا من قبل، وقادم إليكم في حمراء الأسد. ماذا صنع أبو سفيان وقومه؟ ألقى الله الرعب في قلوبهم وفروا. وكلمة {سَنُلْقِي} مأخوذة من «الإلقاء» وهو لا يكون إلا لمادة وعين. ويبين لنا القرآن هذا الأمر حين يقول: «فألقى الألواح» ، هذه حاجة مادية. قال تعالى: {وَأَلْقَى الألواح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني} [الأعراف: 150] إنه أمر مادي. . ونحن نقول: ألقى الحجر. والحق سبحانه يقول: {فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44] إنها حبال، أي أمر مادي. وسبحانه وتعالى يقول عن الوحي لأم موسى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] فالإلقاء أمر مادي، كأن الله يريد أن يجعل المعنى وهو الرعب شائعا، فقال: أنا سأجمع الرعب وأضعه في القلب، ويكون عمله ماديًّا. فإذا ما استقر الرعب في القلب جاء الخَور، وإذا سكن الخور القلب نضح على جميع الجوارح تخاذلا، فيقول: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} فكأنه مثل لنا الرعب، والرعب أمر معنوي وهو التخوف من كل شيء، فأوضح: بأنه سيأتيهم بالرعب ويلقيه في القلب، فيبقى به ليصنع الخور والخذلان. {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} انظروا إلى التعابير الصادرة عن الله إنه هنا يأتي ب «نون العظمة» ، {سَنُلْقِي} ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى ساعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1814 يتكلم عن أمر يحتاج إلى فعل فهو سبحانه يأتي ب «نون العظمة» كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ولأن إنزال الذكر عملية عظيمة، فنأتي ب «نون العظمة» . لأننا سننزله بقدرة وسننزله بحكمة، وننزله بعلم وننزله ببصر، وننزله بقيومية، وننزله بقبض وننزله ببسط، فقوله: {إِنَّا نَحْنُ} فكأن نون العظمة تأتي هنا، لكن ساعة يتكلم سبحانه عن الذات العلية فهو يقول: «إنني أنا الله» . لم يقل إننا، ولكن في الإنزال يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] لأن هذه عملية عظيمة جليلة؛ ف «نون العظمة» تأتي فيما يكون من شأنه حدث يٌفعل؛ وهذا الحدث الذي يٌفعل يحتاج لصفات كثيرة، ولذلك قلنا ساعة تبتدئ أيُّ عمل تقول: «بسم الله الرحمن الرحيم» لماذا؟ لأن العمل الذي ستعمله يحتاج إلى قدرة عليه، ويحتاج إلى علم قبل أن تعمله، ويحتاج إلى حكمة، أي أنه يحتاج إلى صفات كثيرة، فأنت تدخل على العمل باسم القادر الذي يُقْدِرُك؛ وباسم العليم الذي يعلمك، وباسم الحكيم الذي يحكمك. وكل هذه الصفات ستتكاتف في إيراز العمل كي يرحمك حتى في الاستعانة، فلا يقول لك: هات الصفات كلها التي يحتاج إليها فعلك؛ لأن هناك صفات أنت لا تعرفها، فيقول لك: هات الاسم الجامع لكل صفات الكمال. قال: «باسم الله» ، وهي تضم كل صفات الكمال. إذن فأنت تلاحظ انك إذا رأيت «نون العظمة» التي نسميها «نون الجمع» نجد أننا نقول: «نحن» للجماعة. أو للمتكلم الواحد حين يعظم نفسه، ولذلك نلاحظها حتى في قانون البشر، ألم يقولوا في الملكية: «نحن الملك» ، وهذه النون بالنسبة لله ليست نون الجماعة. إنما هو «نون العظمة» ، العظمة الجامعة لكل صفات الكمال التي يتطلبها أي فعل من الأفعال، لذلك قال سبحانه: {سَنُلْقِي فِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1815 قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} فكل قلب به كفر يحتاج إلى إلقاء الرعب فيه. إذن فتأتي نون العظمة لتستوعب كل هذه القلوب الكافرة؟ . وهو سبحانه لا يتجنى عليهم بالقاء الرعب، ولكن هم الذين استحقوا أن يلقى في قلوبهم الرعب، لماذا؟ «بما أشركوا» . إن الإشراك بالله هو الذي جاء لهم بالرعب؛ لأن الله يفعل، والشركاء لا يفعلون. ولو أن شركاءهم حق لما تخلوا عنهم. فلماذا لم يأتوا بشركائهم لينصروهم؟ لقد جاءهم الرعب لأنهم ليس لهم مولى، ولو كان لهم آلهة قادرة - كما يدعون - لقالوا لتلك الآلهة: رب محمد يعمل معنا هكذا فلماذا لا تقفون له يا أربابنا؟ لكنهم أشركوا بالله ما لا يضر ولا ينفع، بل ضره أقرب من نفعه. {بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} والسلطان هو القوة والحجة والبرهان مأخوذة من مادة «السين واللام والطاء» ونقول: فلان تسلط على فلان، أي أرغمه بقدرته عليه. ويقولون: فلان سليط اللسان، أي قادر أن يسب، إذن فالسلطة هي: القهر، والقوة التي ترغم على الفعل، وفي المعنويات هي الحجة والبرهان، والمؤمنون دائما ذوو سلطان من الله؛ لأنهم إن انتصروا ماديا فذلك سلطان القهر، وإن انهزموا ماديا فعندهم سلطان الحق والدليل؛ ولذلك قلنا سابقا: إن إبليس يأتي يوم القيامة ويقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] وقلنا إن السلطان نوعان: إما قوة تقهرنا على أن نفعل المعصية، وإما برهان ودليل يجعلنا نفعل المعصية. والفرق بين القوة القاهرة وبين سلطان الدليل هو أن القوة القاهرة تجعلك تفعل وأنت مرغم غير راض عن الفعل. أما سلطان الدليل فيقنعك بأن تفعل؛ فتكون قد فعلت برضاك، فمرة يأتي السلطان بمعنى: قوة تقهرك على أن تفعل الفعل وأنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1816 مرغم. إنما قوة الدليل تقنعك أن تفعل، فيأتي الشيطان ليقر على نفسه في الآخرة ويقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي ليس معي قوة تقهركم على المعصية وليس معي دليل يقنعكم حتى تفعلوا المعصية، لا هذا ولا ذاك، فما الحكاية إذن؟ قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} . أي إنكم أطعتموني واستجبتم لدعوتي بلا سلطان قوة أقهركم به على شيء، ولا سلطان دليل أقنعكم به. ويذيل الحق الآية بقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين} أي أن المرجع الذي يأوون إليه هو النار، والمأوى؛ هو الموضع الذي ترجع أنت إليه. وكأن في هذا المرجع ذاتية من الكافر تلقيه على النار فهو - أي الكافر - مأواه ومثواه الذي يرجع إليه. ولذلك يجب أن نفطن إلى قوله الحق في بعض الأساليب: «وإليه تَرجَعون» وقوله: «وإليه تُرجعون» . {وَبِئْسَ مثوى الظالمين} . . أي مثوى لا مفر بعده أبدا، فكل مثوى من الجائز أننا نرحل عنه، لكن المثوى الذي سيبقى خلودا للظالمين هو النار وهو بئس المثوى. وبعد ذلك يقول الحق: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1817 ونعرف أن في {صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} نفعولين: الأول هو ضمير المخاطبين في قوله: {صَدَقَكُمُ} ، والثاني هو قوله «وَعْد» المضاف إلى الضمير العائد على لفظ الجلالة «الله» فهو - سبحانه - قد أحدث وعداً، والواقع جاء على وفق ما وعد. لقد قال الحق: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] وقال سبحانه: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] والآيتان تؤكدان قضية وعدية، بعد ذلك جاء التطبيق العملي. . فهل وقع الوعد أو لم يقع؟ لقد وقع، ومتى؟ فهل يشير الحق في هذه الآية إلى موقعة بدر؟ {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} . و {تَحُسُّونَهُمْ} أي تُذهبون الحس منهم، والحس: هو الحواس الخمس، ومعنى أذهبت حسه يعني أفقدته تلك الحواس. {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} وقد حدث، وتمكنتم منهم؛ تقتلونهم وتأسرونهم، أو الحس: هو الصوت الذي يخرج من الإنسان، وما دام فقد الحس يعني انتهى، {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} فحينما صدقتم لقاءكم لعدوكم على منهج الله صدق الله وعده؛ هذا في بدر. أما هنا في أُحد فقد جاء فيكم قوله: {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي جبنتم. {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ} أمر الرسول {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} وهي الغنائم، {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} . كأنه سبحانه يعطينا العبرة من معركتين: معركة فيها صدق وعد الله، وفعلا انتصرتم، وأيضا صدق وعد الله حينما تخليتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1818 عن أمر الرسول فحدث لكم ما حدث. إذن فالمسألة مبسوطة أمامكم بالتجربة الواقعية، ليس بالكلام النظري وليس بالآيات فقط، بل بالواقع. أو أن الأمر كله دائر في أُحد، نقول فرضا: هو يدور في أُحد ودع بدرا هذه، حينما دخلتم أيها المسلمون أول الأمر انتصرتم أم لم تنتصروا؟ لقد انتصرتم، وطلحة بن أبي طلحة الذي كان يحمل الراية للكفر قتل هو وبضعة وعشرون، الراية الكافرة قد سقطت في أول المعركة، وحامل الراية يقتل وهذا ما وضحه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر} فجماعة تقول: لنبق في أرض المعركة، وجماعة تقول: ننسحب. ورأيتم الغنائم فحدث منكم كذا وكذا. فتأتي النكسة، ولو لم يحدث ما حدث لكان من حقكم أن تتشككوا في هذا الدين، إذن فما حدث دليل على صدق هذا الدين، وأنكم إن تخليتم عن منهج من مناهج الله فلا بد أن يكون مآلكم الفشل والخيبة والهزيمة. {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر} ، فجماعة قالوا: نظل كما أمرنا الرسول، وجماعة قالوا: نذهب إلى الغنائم {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} . . وما دمتم قد تنازعتم وقالت جماعة: لنتمسك بمواقعنا، وقالت جماعة أخرى: لنذهب إلى الغنائم، إذن فالذي أراد مواصلة القتال إنما يريد الآخرة ولم تلهه الغنائم، والقسم الذي أراد الدنيا قال: لنذهب إلى الغنائم. وفي هذه المسألة قال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: والله ما كنت أعلم أن أحداً من صحابة رسول الله يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أُحد. أي أنه لم يكن يتصور أن من بين الصحابة من يريد الدنيا، بل كان يظن أنهم جميعا يريدون الآخرة، فلما نزل قول الله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} عرف ابن مسعود أن من الصحابة من تتقلب به الأغيار. وذلك لا يقدح فيهم؛ لأنهم رأوا النصر، فظنوا أن المسألة انتهت؛ لقد سقطت راية الكفر، وقتل المؤمنون عددا من صناديد قريش. ولقد عفا الله عن المؤمنين وغفر لهم ما بدر منهم من مخالفة لأمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1819 {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} نعم لأنكم كنتم مشغولين بقتالهم قبل أن تنظروا إلى الغنائم، فلما نظرتم إلى الغنائم اتجه نظركم إلى مطلوب دنياكم، فانصرفتم عنهم، ولم تجهزوا عليهم ولم تتم لكم هزيمتهم وقهرهم، {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} وابتلاؤكم في هذه الغزوة إنما هو رياضة وتدريب على المنهج، كأنهم غزوة مقصودة للابتلاء، فترون منها كل ما حدث. وبعد ذلك نجحت التجربة، فبعد هذه المعركة لم ينهزم المسلمون في معركة قط. ولذلك يقولون: الدرس الذي يعلم النصر في الكثير لا يعتبر هزيمة في القليل. والمثال على ذلك: لنفرض أن ولداً من الأولاد رسب سنة، ثم حمل ذلة الرسوب، نجده ينال بسبب ذلك مرتبة متميزة بعد ذلك بين العشرة الأوائل، إذن فالرسوب الأول له كان خيرا. {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} لأنه كان لكم وجهة نظر أيضا عندما تصورتم أن المعركة انتهت بسقوط راية الكفر ومقتل طلحة بن أبي طلحة ومقتل بعض من الصناديد في معسكر الكفر، فظننتم أن المسألة انتهت، لكن كان يجب أن تذكروا أن الرسول قال لكم: اثبتوا في مراكزكم وأماكنكم حتى لو رأيتمونا نتبع القوم إلى مكة، ولو رأيتموهم يدخلون المدينة. أيوجد تحذير أكثر من ذلك!؟ {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} وسبحانه جل وعلا لم يخرجهم من الحظيرة الإيمانية بهذا القول الحكيم. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1820 {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} هنا جاء لهم بلقطة من المعركة، حتى إذا سمع كل واحد منهم هذا الكلام يستحضر الصورة المخزية التي ما كان يصح أن تحدث، {إِذْ تُصْعِدُونَ} ، فيه «تَصْعد» ، وفيه «تُصعِد» وهنا {تُصْعِدُون} من «أَصْعَد» ، و «أًصعد» أي ذهب في الصعيد، والصعيد الأرض المستوية حتى تعينه على سرعة الفِرار. إنما «صَعِدَ» تحتاج إلى أن يكون هناك مكان عالٍ يصعدون إليه. وهم ساعة أرادوا أن يفروا جَرَوْا إلى الأرض السهلة ومَشَوا، فكل منهم لا يريد أن يتعثر هنا أو هناك، إذن فالمناسب لها {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} والفار لا ينظر هنا أو هناك؛ ليس أمامه إلا الأرض السهلة. {وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} أي لا تعرجون على شيء، والأهم من ذلك أن هناك تنبيها من القائد الأعظم وهو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي يدعوكم «والرسول يدعوكم في أخراكم» أي يناديكم من مؤخرتكم طالبا منكم العودة إلى ميدان القتال «فأثابكم غما بغم» . أنتم غَمَمْتُم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنكم خالفتم أوامره، فوقفكم الله هذا الموقف. كلمة {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ} كأنه يقول: عاقبكم. ولكنه سبحانه يأتي بها مغلفة بحنان الألوهية {فَأَثَابَكُمْ} . إذن فهي ثواب. . أي أن الحق سبحانه وتعالى بربوبيته وبألوهيته؛ يعلم أن هؤلاء مؤمنون فلم يَقْسُ عليهم، قال: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ} فكأن ما حدث لكم تخليص حق. {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ} ولو لم تحدث مسألة الحزن والخزي والذلة لشغلتكم مسألة أنكم فاتتكم الغنائم والنصر، ولظل بالكم في الغنائم؛ لأنها هي السبب في هذا. كأن الغم الذي حدث إنما جاء ليخرج من قلبكم لقطة سيل اللعاب على الغنيمة. وما أصابكم من القتل والهزيمة، {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي أنه سبحانه يقدر ما الذي استولى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1821 عليكم، لأن من الجائز {والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ} أنهم لم يسمعوا النداء من هول المعركة، {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وهو سبحانه خبير بكل فعل وإحساس. ويقول الحق من بعد ذلك: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1822 وكلمة {أَنزَلَ} تدل على أن هذا عطاء عُلوي ليس له شأن بالأسباب المادية ولا بالقوانين البشرية؛ لأن النوم عرض من الأعراض التي تطرأ على الأحياء، هذا العرض تستوجبه عمليات كيماوية في نفسك، وهذه العمليات الكيماوية حتى الآن لا يعرفون ما هي، وأقصى ما فُهم منه أنه ردع ذاتي لجسم الإنسان. فكأن الجهاز المتحرك المكون من مخ يعمل، وعين ترى، وأذن تسمع، وحواس وحركة هذا الجهاز له طاقة، ساعة تنتهي منه الطاقة، لا يقول لك: أنت الذي تترك العمل. لا، بل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1822 يقول لك: أنا لم أعد صالحا للعمل. إنه ردع ذاتي، مثلما يريدون أن يصلوا إليه الآن في مجال الآلآت بمجرد فصل تيار الكهرباء آليا عن تلك الآلآت فهي تتوقف. فالردع الذاتي هو في النوم ويأتيك النعاس. وتبين بالبحث العلمي أن هناك أشياء في الجسم لا تخرج كفضلات. بل تحتاج إلى التعادل والتوازن الكيميائي. ونحن نعلم أن هناك بقايا كنتيجة للحركة، وهناك احتراق للطاقة، وكل حركة فيها احتراق، وبقايا هذا الاحتراق تخرج مرة على هيئة بول ومرة يخرج غائطا ومرة يخرج مخاطاً، وهكذا، إذن كثير من هذه الفضلات هي نتيجة عمليات الاحتراق، لكن هناك أشياء لا نريد لها أن تخرج ولكن نريدها أن تتعادل، فعندما تنام لا يوجد لك حركة وتبتدئ الكيماويات داخل الجسم في التعادل، وهذا هو ما يفعله لك النوم الذي تستوجبه أسبابك المادية. وصاحب الهم والغم لا ينام أبدا؛ فهو يسهو عن نفسه ويرهق جسمه أكثر وتكون المصيبة كبيرة عليه، وهنا ينزل الحق فضله عليكم بالنوم لأن أسبابكم لا تساعد أيا منكم على أن ينام. وأنتم تذكرون قديما أننا قلنا: إن الإمام عليًّا كرم الله وجهه لما اشْتُهِرَ بالفتيا، وكلما سألوه عن أمر أفتى فيه، فقالوا: نأتي له بمسألة معقدة ونرى كيف يأتي بالفتيا، وكأنهم نسوا أنه يُفتى لأنه تربى في حضن النبوة، فقد جاءت النبوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسيدنا على مازال صغيرا، أما الصحابة الآخرون فقد جاءت النبوة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم كبار في السن، فهناك معلومات دخلت عندهم من أيام الجاهلية، ولكن سيدنا عليًّا كرم الله وجهه لم تدخل عليه معلومة من معلومات الجاهلية. كل المعلومات التي عنده نبوية، فكل هذا التفاعل ينشأ عنه فُتيا؛ لذلك كان سريعا في الإفتاء. على سبيل المثال، تأتي له امرأة فتقول: يا ابن أبي طالب كيف يعطونني دينارا من ستمائة؟ مورثي خَلَّفَ ستمائة دينار فأعطوني دينارا واحدا. فقال لها: لعله مات عن زوجة، وعن بنتين، وعن أم، الزوجة تأخذ الثُمن (خمس وسبعين دينارا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1823 والبنتان تأخذان الثلثين (أربعمائة دينار) وللأم السدس وهو مائة دينار، ولعل له اثنى عشر أخا وأختا واحدة، أشقاء أو لأب، وأنت هذه الأخت وقد بقي من التركة خمسة وعشرون دينارا توزع على الاثني عشر أخا والأخت، فيكون نصيبك دينارا. كيف عرف ذلك؟ إنها دقة الحساب عند من تعلم في بيت النبوة. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد أن الحق قد أنزل عليهم نعاسا ليؤمنهم فلم ينشأ النوم هنا من حركة الاختيار، ولكن الله أنزله، ومعنى «أنزله» ؛ أنه بعث رحمة جديدة من السماء ليُخرج القوم الذين أصابهم الغم على ما فعلوا مما هم فيه. ولذلك قال أبو طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فكان السيف يسقط من أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه. إذن فهي عملية قسرية. والنعاس حينما ينزل من الحق سبحانه وتعالى يكون عملية إنقاذ من حركة فاتت فرصتها على النفس البشرية فعوضها الله، ولكن القوم الذين نافقوا ماذا كان حالهم؟ لا شك أن الذين جاءوا نفاقا لم يصبهم غم على ما حدث. بل بالعكس، لا بد أن يكون قد أصابهم فرح أو اطمئنان على ما حدث، وهؤلاء لا يكونون أهلا لأن ينزل الله عليهم أمنة النعاس. بل يتركهم الله لذواتهم؛ لأنهم لم يكونوا في حصن الله باتباع منهج الإسلام أو بالاخلاص - على الأقل - لفكرة الإسلام، هؤلاء يسلمهم الله لذواتهم. إذن فلن يُنزل عليهم أمنة النعاس. وما دام لن ينزل عليهم أمنة النعاس، فقد أصبحوا في قلق، لماذا؟ لأن نفوسهم قد أهمتهم. والإنسان حين يؤمن ويتقبل الإسلام من ربه يكون قد باع نفسه لربه، وما دام قد باع نفسه لربه فالصفقة الإيمانية لابد أن تستمر. وإذا استيقظ المسلم مرة لنفسه نقول له: لقد رجعت في عقد الصفقة. وما دمت قد رجعت في عقد الصفقة فالله الذي كان قد اشتراك يتركك لنفسك، فقوله: {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي خرجوا عن صفقة الإيمان؛ لأن الذي يعقد صفقة بالإيمان مع ربه، هو من قال الله فيه: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1824 فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} [التوبة: 111] وما دام الله قد اشترى من المؤمن نفسه فيجب على المؤمن ألا تهمه نفسه، فيدخل المعركة بالصفقة الإيمانية، فإذا أهمته نفسه يبدأ القلق، والبلبلة، والاضطراب، وتوهم الأشياء، والشيء الواحد يتوهمه على ألف لون. إذن فنفسه تكون غير مطمئنة، وما دام الإنسان قد شغله هم نفسه حتى لو كان النعاس استجابة لأمر طبيعي من ذات النفس فلا يأتي النعاس أبدا. ولذلك نجد أن الإمام عليًّا - رضوان الله عنه وكرم الله وجهه - حينما سُئل عن أشد جنود الله؟ بسط يديه وقال: أشد جنود الله عشرة: الجبال الرواسي، والحديد يقطع الجبال، إذن فالحديد أشد من الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو الشيء ويمضي لحاجته، والسُكر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السُكر، والهم يغلب النوم، فأشد جنود الله «الهم» . فساعة يدخل الهم على النفس البشرية، هذا أشد جنود الله؛ لأن الهم يدخل على النفس البشرية بألوان متعددة للخطب الواحد، فيتصور أموراً معقدة في أمر واحد، وواقعة على لون واحد، ولكن الهم يجول به في كل لون؛ فهؤلاء قد أهمتهم أنفسهم وما داموا قد أهمتهم أنفسهم فقد خرجوا عن صفقة الإيمان. وما داموا قد خرجوا عن صفقة الإيمان الذي بوساطته اشترى الله من المؤمنين أنفسهم، فالله يتخلى عنهم. وما دام الله قد تخلى عنهم فعليهم مواجهة المصير. إن القلق والاضطراب يستبدان بهم ويصابون بالفزع من كل شيء. لكن حال الصنف الأول والطائفة الأولى يختلف؛ فالله سبحانه وتعالى يعاملهم معاملة من بقي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1825 في الصفقة الإيمانية وإن كانت نفوسهم البشرية قد فسرت الأحداث تفسيرا خاطئا، فظنوا أن المسألة في المعركة انتهت، فذهبوا لأخذ الغنيمة إن هؤلاء قد احترم الله بقاءهم على الإخلاص للإسلام، وأدبهم على تفسيرهم للأحداث تفسيرا غير حق، فأثابهم غما لما خالفوا فيه، وأنزل عليهم أمنه لإخلاصهم في قضية الإسلام. {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية} وإذا سمعت كلمة «طائفة» فاعلم أنها جماعة، لكن هذه الجماعة لها مواصفات خاصة هي التي تجمعها على فكرة واحدة كأنهم يطوفون حولها، إنها ليست مطلق جماعة لكنها جماعة تدور حول فكرة واحدة ويأتي القول الحكيم هنا ليبين لك ما قالوه في نفوسهم، وما داموا قد قالوا في نفوسهم، أسمعهم أحد؟ لا، ولكن الله أخبر به، وأخبر بما في نفوسهم جميعا بقول واحد، مما يدل على أنهم يطوفون حول فكرة واحدة فالنضح الوجداني يجعلهم يقولون جملة واحدة هي: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} وما داموا سيقولون في نفوسهم فمن الذي سمعهم وهم جماعة؟ إنه الله - سبحانه - {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} . وأنت إذا قلت «طائفة» تجد أنها في عرف اللفظ «مفرد» ، وعندما تجمعها تقول: «طوائف» ، لكن هي لفظ مفرد يدل على جمع، فمرة يلحظ المفرد، ومرة يلحظ ما يؤديه المفرد من الجمع. وهذه لا يتنبه إليها إلا البليغ، فيفرق بينها كلفظ مفرد وبين ما تدل عليه كجمع، ولذلك تجد هذا في إعجاز القرآن، فالحق يقول: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] وحينما يقول: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين} فهو هنا يأتي بالخبر، اقتتلتا أو اقتتلوا؟ إنه سبحانه يقول: {اقتتلوا} ، اللفظة طائفتان لكن الدقة البلاغية لاحظت أن كل طائفة مكونة من جماعة. {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} فماذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1826 نفعل؟ {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} ، فمرة رجع للجماعة ومرة رجع للاثنتين، ففي ساعة الاقتتال لا تقف الطائفة بسيف واحد وتضرب ضربة واحدة، لا، ففي ساعة القتال كل فرد من الطائفة له عمل، إذن فالفردية المكونة للطائفة متعددة. لكن عندما نصلح هل نأتي بكل فرد من هذه الطائفة وبكل فرد من الطائفة الأخرى أو نأخذ هذه الطائفة ممثلة في رؤوسها والطائفة الأخرى ممثلة في رؤسها ونعقد الصلح بين الطائفتين؟ فدقة القرآن تقول: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} وبعد ذلك يعود الحق للتثنية فيقول: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} والصُلح يكون بين جماعة ممثلة في قيادة وجماعة أخرى ممثلة في قيادة. وقوله الحق: {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} هذا القول يدل على أنها طائفة تدور حول حركة واحدة، ويدل على أن النفاق نفاق متفق عليه، وليس كل واحد منهم ينافق في نفسه، لا إنها طائفة المنافقين، وقد كوَّنوا جماعة، ولهم سياسة مخصوصة، ولهم كلام مخصوص ولهم وحدة قول، تعرفهم من قول الحق {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية} . ونعرف أن الحق هو الشيء الثابت، وما دام ثابتا فهو لا يتغير، وقضية الحق فيه تكون مطردة، فالله حق، خلق السماوات والأرض، وكل الكون بالحق، أنزل كتابه بالحق، كله حق، فهم يظنون بالله غير الحق مع أنه حق، ونشأ الكون منه بقانون حق، واستمرت سنن الله في الكون بالحق، وهو دائما ينصر الحق، وهم يظنون بالله غير الحق، يقولون: ربنا لم ينصرنا على الرغم من أنه وعدنا بالنصر، وتناسوا العناصر التي جعلها الله أسباباً للنصر، إنها سُنَّة الله وسُنَّة الله تتحقق ولو على أحبابه، لقد خالفوا أمر الرسول، فلا بد أن ينهزموا، فلا مجاملة لأحد، فالذي يخالف لا بد أن يأخذ جزاءه؛ لأن هذا هو الحق. كان يجب أن يقولوا إن الحق واضح لدرجة أن أحبابه ومعهم رسوله حينما خالفوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1827 عن أمر الله الذي قاله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طبق الله عليهم سُنته إذن فهي سنة بالحق، لكنهم ظنوا بالله ظن الجاهلية، والمقصود به إما ظن أهل الجاهلية؛ وإمَّا أن تكون الجاهلية عَلَماً على السَّفه كله، وهذا الظن له نضح سلوكي. {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} أي هل انتصرنا أو ظفرنا أو غلبنا أو أخذنا غنائم؟ أو يكون قولهم: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} مقصودا به: أننا خرجنا إلى المعركة بدون رأينا؛ فقد كان من رأينا ألا نخرج وأن نظل في المدينة وعندما يدخلونها علينا نحاربهم. {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} هم لم يمتلكوا البصيرة الإيمانية ولم يعرفوا لماذا لم ينصرهم الله، هم فهموا أنهم لم ينتصروا؛ لكن في عرف الحق أنه انتصار؛ لماذا؟ لأن المعركة أثبتت أن المبدأ إن خولف فلا نصر، إذن فالإسلام قد انتصر، ولكن الذي انهزم هم المتخاذلون عن منهج الإسلام، وهذا نصر للإسلام في ذاته. ولذلك يجب أن نفرق دائما بين المبدأ الإسلامي والمنسوبين للمبدأ. إياك أن تأخذ الحكم على المبدأ من المنسوبين للمبدأ، فلا يكون المنسوبون للمبدأ حُجَّة على الحكم في ذاته إلا إذا كانوا ملتزمين به؛ لأن الله حينما شرع ديناً سمّاه الإسلام ليحكم حركة الحياة في الناس فهو قد قنّن وحرّم فيه أفعالاً، وما دام قد قنن وحرم فيه أفعالاً فمعناه أن المؤمنين المسلمين الذين انتسبوا له من الممكن أن يخالفوا بأفعالهم تلك الأحكام، فعندما يقرر الإسلام جلد أو رجم الزاني والزانية، وحينما يشرع الإسلام قطع يد السارق أو السارقة وحين يشرع الإسلام تلك العقوبات للجرائم، فمعنى ذلك أنه من الجائز أن تحدث تلك الجرائم، فإذا ما حدثت فأنت لا تأخذها من واقع مُجَرًَّم لتحكم به على الإسلام، لا تقل إن الإسلام أباح السرقة بل قل: سرق مسلم ووضع الإسلام عقوبة صارمة عليه وهي قطع يده. {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} وهذه هي الفضيحة لهم، فماذا كانوا يريدون أن يكون لهم؟ كانوا يريدون ألا يخرجوا للمعركة فقالوا: لو كان لنا من الأمر شيء واتبعنا منطقنا، لما جئنا الموقعة هنا وحصل لنا ما حصل، هذه واحدة، أو لو كان لنا شيء من الظفر الذي وعد الله به محمداً وأصحابه ما قتلنا ها هنا، فعلى الرأيين يصح المعنى، فكأنهم أرادوا أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1828 يعللوا القتل أو الموت بأسباب، ومن الذي قال: إن القتل أو الموت يتعلق بأسباب؟ إن الموت قضية تطرأ لإعدام الحياة، وهي مجهولة السبب ومجهولة الزمان ومجهولة المكان ومجهولة العمر. إذن فما دامت المسألة مجهولة فلماذا ربطتم بين القتل والموقعة؟ وهل لم تروا إنساناً مات وليس في موقعة؟ ألم تروا إنساناً قد قُتل وليس في موقعة؟ لو أن القتل لا ينشأ إلا في مواقع قتال الحرب لكان لكم أن تقولوا هذا، إنما القتل والموت قضية عامة لها واقع في حياتكم. هذا الواقع لم يرتبط بأرض، ولم يرتبط بزمان، ولم يرتبط بسن، ولم يرتبط بسبب، وإنما الموت يأتي لأنك تموت، انتهت المسألة. إذن فهم عندما ربطوا القتل والموت بالموقعة فهم قد خرجوا عن القضية الإيمانية. ولذلك يأتي الرد من الحق بأمر واضح للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ} . فكأنك أيها الميت قد تكون أَحْرَص على لقاء الموت من حِرْص الموت عليك. بدليل أننا قلنا: إن الإنسان يكون مريضاً، ويلح على أن تُجري له عملية جراحية فيعتذر الطبيب قائلا: عندي عدد كبير من الجراحات فانتظر شهراً، فيأتي له المريض بوساطة لكي يقبل الطبيب إجراء العملية الجراحية ويلح عليه. ويعلى أجر الطبيب وقد يموت المريض. إذن فهو يلح على الموت أو لا؟ إنه يلح على الموت. يقول الحق: {لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ} وكلمة «بَرَزَ» تدل على اندفاع حركي، فمعنى: بَرَزَ من الصف؛ يعني أن الصّف له التئام واقعي، والذي يبرُز إنما يقوم بحركة مخالفة للصف، هذه حركة. {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} والذي يبرز إلى المضجع هو من يخرج من مكان الاستقرار، وإلاّ فكيف يكون الابتلاء لمن يقدر الله سبحانه أن يحملوا معركة الإسلام إلى أن تقوم الساعة إذا لم تكن هذه المسائل؟ لا بد أن يكونوا قوماً قد عركتهم التجربة، مُمحصين بالأحدث حتى لا يكون مأموناً على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1829 حمل السلاح في الإسلام إلا هؤلاء الصفوة المختارة. فساعة يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخروج، وينتهي إلى أن يخرج إلى أحُد، نجد جماعة يتخاذلون بوساطة ابن أبي، هذه أول تصفية، وبعد ذلك ينقسم الرُماة، وهذه تصفية أخرى، فريق يظل وفريق ينزل للغنائم، وبعد ذلك يُشَاع أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قُتل، هذه تصفية ثالثة. {وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} وكلمة «ذات الصدور» معناها صاحبة الصدور. وفي الصدر يحرص الإنسان على إخفاء الأمر الذي يحب أن يحتفظ به لنفسه بِحرْص كحرص الصاحب على صاحبه، كأن الصدر حريص على ألا يسلم ما فيه، ولكن الله سبحانه وتعالى يفضحهم أمام الناس، ويفضحهم أمام نفوسهم؛ فقد يجوز أن يكونوا مغشوشين في نفوسهم. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1830 وعندما نقرأ كلمة {استزلهم} نعرف أن (الهمزة والسين والتاء) للطلب، تطلب ما بعدها، مثل: استفهم أي طلب الفهم، استعلم يعني طلب العلم، استقوى يعني طلب القوة، و «اسْتَزَلَّ» يعني طلب الزّلل، ومعنى «الزَّلل» هو العثرة والهفوة، أي أن الإنسان يقع في الغلط، إذن فالشيطان طلب أن يزلوا، {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} ، كأن الشيطان لا يجترئ على أن يستزل أحداً ممن آمن إلا إذا صادف فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1830 تحللاً من ناحية، لكن الذي ليس عنده تحلل لا يقوى عليه الشيطان، ساعة يأتي الإنسان ويعطي لنفسه شهوة من الشهوات فالشيطان يرقمه ويضع عليه علامة ويقول: هذا ضعيف، هذا نقدر أن نستزِلّه. لكن الذي يراه لا يطاوع نفسه في شيء من التحلل لا يقترب ناحيته أبداً. ولذلك فالنفس هي مطية الشيطان إلى الذنوب، وفي الحديث الشريف: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» وعندما يرى الشيطان واحداً تغلبْه نفسه في حاجة فالشيطان يقول: هذا فيه أمل! وهو الذي يجري منه مجرى الدم كما سبق في الحديث، أما الملتزم الذي ساعة تُحدثه نفسه بشيء ويأبى فالشيطان يخاف منه، إذن فالشيطان لا يستزل إلا الضعيف، ولذلك فالذي يكون ربه على ذِكْر منه دائماً لا يجترئ عليه الشيطان أبداً. إن الله - سبحانه - قد سمى الشيطان «الوسواسَ الخناس» ، إنه يوسوس للناس، لكنه خنَّاس فإذا ذُكر اللهُ يخنِس، أي يتأخر ويختفي ولكنّه ينفرد بك حين يراك مٌنعزلاً عن ربك، لكن حين تكون مع ربك فهو لا يقدر عليك بل يتوارى ويمتنع عن الوسوسة إذا استعذت عليه بالله. إذن فقوله: {إِنَّمَا استزلهم الشيطان} يعني طلب منهم أن يزلوا نتيجة لأنه عرف أنهم فعلوا أشياء أَبْدَوا وأظهروا فيها ضعفهم، {إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} وكلمة {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} . . كأن قول الله {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} أنه لم يأخذهم بكل ما كسبوا؛ لأن ربنا يعفو عن كثير. {إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} . {عَفَا الله عَنْهُمْ} لماذا؟ عفا عنهم تكريما لمبدأ الإسلام الذي دخلوا فيه بإخلاص، ولكن نفوسهم ضعُفت في شيء، فيُعطيهم عقوبة في هذه ولكنه يعفو عنهم فهذا هو حق الإسلام، {إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1831 ويقول الحق بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1832 والضرب في الأرض هو السعي واستنباط فضل الله في الأرض وفي سبيله لإعلاء كلمته، فالذين كفروا يرتبون الموت والقتل والعمليات التي يفارق الإنسان فيها الحياة على ماذا؟ على أنه ضرب في الأرض أو خرج ليقاتل في سبيل الله، وقالوا: لو لم يخرجوا ما حصل لهم هذا {سنرد عليهم، ونقول لهم: كأنكم لم تروا أبداً ميتاً في فراشه. كأنكم لم تروا مقتولا يسقط عليه جدار، أو يصول عليه جمل، أو تصيبه طلقة طائشة، هل كل من يموت أو يقتل يكون ضارباً في الأرض لشيء أو خارجا للجهاد في سبيل الله؟} ّإذن فهذا حُمق في استقراء الواقع، وجاء الحق بذلك ليعطينا صورة من حكمهم على الأشياء، إنه حكم غير مبني على قواعد استقرائية حقيقية. فإذا عرفنا أنهم كفروا نقول: هذه طبيعتهم، لأننا نجد أن حكمهم ليس صحيحا في الأشياء الواضحة، وما دام حكمهم ليس صحيحاً أو حقيقيا في الجزئيات التي تحدث - فإذا عرفتم أنهم كفروا فهذا كلام منطقي بالنسبة لهم - فشأنهم أنهم لا يتثبتون في أحكامهم فلا عجب - إذن - أن كانوا كافرين. {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} وغُزى: جمع غازٍ، مثل: صُوّم وقُوَّم؛ يعني جمع: صائم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1832 وقائم. {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} . إذن فالله سبحانه وتعالى يصور لهم ما يقولونه ليعذبهم به، كيف؟ لأنهم عندما يقولون: لو كانوا عندنا لكنا منعناهم أن يخرجوا أو يُقتلوا، إذن فنحن السبب. وهكذا نجد أنهم كلما ذكروا قتلاهم أو موتاهم يعرفون أنهم أخطأوا، وهذه حسرة في قلوبهم، ولو أنهم ردوها إلى الحق الأعلى لكان في ذلك راحة لهم ولَما كانوا قد أدخلوا أنفسهم في متاهة، ويحدُث منهم هذا حتى نعرف غباءهم أيضاً؛ فهم أغبياء في كل حركاتهم وفي استقراء الأحداث الجزئية، وأغبياء في استخراج القضية الإيمانية الكلية، أغبياء في أنهم حشروا أنفسهم وأدخلوها في مسألة ليست من شأنهم، فأراد ربنا سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك حسرة عليهم. {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} إن القضية الإيمانية هي {والله يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو الذي يَهَب الحياة وهو الذي يهب الموت، فلا الضرب في الأرض ولا الخروج في سبيل الله هو السبب في الموت، ولذلك يقول خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربةُ سيف أو طعنة رمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر - أي حتف أنفه - فلا نامت أعين الجبناء. والشاعر يقول: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مُخْلِدِي؟ أي يا من تمنعني أن أحضر الحرب هل تضمن لي الخلود ودوام البقاء إذا أحجمت عن القتال. ويكمل الشاعر قوله: فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي ويختم الحق الآية بقوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فكأنهم قد بلغوا من الغباء أنهم لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1833 يستتروا حتى في المعصية، ولكنهم جعلوها حركة تٌُرى، وهذا القول هنا أقوى من «عليم» ؛ لأن «عليم» تؤدي إلى أن نفهم أنهم يملكون بعضاً من حياء ويسترون الأشياء، ولكن علم الله هو الذي يفضحهم لا، هي صارت حركة واضحة بحيث تُبْصَر. فجاء قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . ويقول الحق من بعد ذلك: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1834 والذي يحرص على ألا يخوض المعركة مخافة أن يُقتل، فما الذي يرجح عنده هذا العمل؟ إنه يبتغي الخير بالحياة. وما دام يبتغي الخير بالحياة، إذن فحركته في الحياة في وهمه ستأتيه بخير، فهو يخشى أن يموت ويترك ذلك الخير، إنه لم يمتلك بصيرة إيمانية، ونقول له: الخير في حياتك على قدر حركتك: قوة وعلما وحكمة، أما تمتعك حين تلتقي بالله شهيداً فعلى قدر ما عند الله من فضل ورحمة وهي عطاءات بلا حدود، إذن فأنت ضيعت على نفسك الفرق بين قُدرتك وحِكمتك وعِلمك وحَركتك في الكسب وبين ما يُنسب إلى الله في كل ذلك، ولذلك يقول الحق: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} وبعد ذلك يقول الحق: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1834 ولنا أن نلحظ أن قول الحق في الآية الأولى جاء بتقديم القتل على الموت قال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ} وجاء في هذه الآية بتقديم الموت على القتل قال - جل شأنه -: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} فقدم القتل على الموت في الآية الأولى لأنها جاءت في المقاتلين، والغالب في شأنهم أن من يلقى الله منهم ويفضي إلى ربه يكون بسبب القتل أكثر مما يكون بسبب الموت حتف أنفه، أما هذه الآية فقد جاءت لبيان أن مصير جميع العباد - ومرجعهم يوم القيامة يكون إلى الله - تعالى - وأن أكثرهم تزهق نفسه وتخرج روحه من بدنه بسبب الموت، فلذا قدم الموت هنا على القتل. إذن فكل كلمة وجملة جاءت مناسبة لموقعها. إنه قول الحكيم الخبير. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1835 إن الآية كما نرى تبدأ بكلام إخباري هو {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} . فكأنه - سبحانه - يريد أن يقول: إن طبيعتك يا محمد طبيعة تتناسب لما يطلب منك في هذه المسألة، هم خالفوك وهم لم يستجيبوا لك حينما قلت: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله إني رسول الله، وهذا شيء يٌحْفِظ ويُغضِب. ولكنه لا يُحفِظ طبيعتك ولا يُغضب سجيتك لأنك مفطور مع أُمّتك على الرحمة. فكأنه يريد أن يُحنن رسول الله على أمته التي أصابته بالغم؛ فقال له: إياك أن تجازيها على هذا؛ لأن طبيعتك أنك رحيم، وطبيعتك أنك لست فظاً، طبيعتك أنك لست غليظ القلب، فلا تخرج عن طبيعتك في هذه المسألة، مثلما تأتي لواحد مثلا وتقول له: أنت طبيعة أخلاقك حسنة، يعني اجعلها حسنة في هذه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1835 {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} أي بأي رحمة أودعت فيك. ساعة تقول: بأي رحمة فأنت تبهم الأمر، وعندما تُبهم الشيء فكأنه شيء عظيم؛ لأن الشيء يُبهم إما لأنه صغير جدا، وإما لأنه كبير جدا، فالشيء إذا كان كبيرا يكون فوق المستوى الإدراكي، وإذا كان صغيرا جدا يكون دون مستوى الإدراك. ولذلك فالأشياء الضخمة جدا نرى منها جانبا ولا نرى الجانب الآخر، والشيء الدقيق جدا لا نراه، ولذلك يقولون: هذا الشيء نكرة، وذلك يدل مرة على التعظيم ويدل مرة على التحقير، ومرة يدل على التكثير، ومرة يدل على التقليل. فإن نظرت إلى أن الإدراك لا يستوعبه لضخامته إذن فهو كثير، وإن رأيت أن الإدراك لا يستوعبه لِلطفه ودِقَّته، وأنه ليس في متناول البصر يكون قليلا أو دقيقا. إذن فقول الحق: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} أصلها هو: برحمة من الله طُبعت عليها لِنْتَ لهم، و «ما» لماذا جاءت هنا؟ إنك إما أن تأخذها إبهامية. . يعني بأي رحمة فوق مستوى الإدراك، رحمة عظيمة. أو تقول: «فبما رحمة» أي أن «ما» تكون اسما موصولا. وكأن الحق يقول له: فبالرحمة المُودعة من خالقك فيك والتي تُناسب مٌهمتك في الأمة لِنْت لهم، وما دامت تلك طبيعتك فَلِنْ لهم في هذا الأمر واعفُ عنهم واستغفر لهم. وهذه الآية جاءت عقب أحداث حدثت في أُحد: الحدث الأول: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى ألا يخرج إلى قتال قريش خارج المدينة بل يظل في المدينة، فأشار عليه المحبون للشهادة والمحبون للقتال والمحبون للتعويض عما فاتهم من شرف القتال في «بدر» أن يخرج إليهم، فنزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند رأيهم، ولبس لأمته، فلما أحسوا أنهم أشاروا على رسول الله بما يخالف ما كان قد بدر منه، تراجعوا وقالوا: يا رسول الله إن رأيت ألا نخرج، فقال: «ما ينبغي لِنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» فما دام قد استعد للحرب انتهى الأمر، هذه أول مسألة وهي مسألة المشورة. وبعد ذلك تخلف ابن أُبيّ بثُلثُ الجيش وهذه مسألة ثانية، أما المسألة الثالثة فهي مُخالفة الرُماة أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتَرْكهم مواقعهم على الرغم من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1836 قد حذرهم من ذلك وقال لعبد الله بن جبير الذي أمَّره على الرماة: «أنضح عنا الخيل بالنَّبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك لا نؤتَين من قَبْلك» ، ولكنهم خالفوا عن أمر رسول الله. والمسألة الرابعة هي: فِرارهم حينما قيل: قُتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمسألة الخامسة: أنه حين كان يدعوهم؛ فروا لا يلوون على شيء. كل تلك أحداث كادت تترك في نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آثاراً، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: أنا طبعتك على رحمة تتسع لكل هذه الهفوات، والرحمة مني، وما دامت الرحمة موهوبة مني فلا بد أني جعلت فيك طاقة تتحمل كل مخالفة من أمتك ومن أتباعك. ولا تظن أنك قد أُرسلت إلى ملائكة، إنما أُرسلت إلى بشر خطاءون، البشر من الأغيار، فلهذا اجعل المسألة درساً، وأنا فطرتك على الرحمة، وأنت بذاتك طلبت مني كثيراً من الخير لأمتك، ومن رحمته أن جبريل نادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال فسلم على ثم قال: يا محمد إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا» . فأنا أطلب منك الرحمة التي أودعتُها في قلبك فاستعملتها في كل مجال، وبهذه الرحمة لنت لهم، وبهذه الرحمة التفُّوا حولك، التفوا حولك لأدبك الجم، ولتواضعك الوافر، لجمال خلقك، لبسمتك الحانية، لنظرتك المواسية، لتقديرك لظرف كل واحد حتى إنك إذا وضع أي واحد منهم يده في يدك لم تسحب يدك أنت حتى يسحبها هو، خُلق عالٍ، كل ذلك أنا أجعله حيثية لتتنازل عن كل تلك الهفوات ولْيَسَعها خُلقك وليسعها حلمك، لأنك في دور التربية والتأديب. والتربية والتأديب لا تقتضي أن تغضب لأي بادرة تبدر منهم، وإلا ما كنت مُربيا ولا مُؤدبا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1837 {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} لماذا؟ لأنك تُخرجهم عما ألفوا من أمور الجاهلية. والذي يخرج واحدا عما ألِف لا يصح أن يَجْمَع عليه إخراجه عما اعتاد بالأسلوب الخشن الفظ؛ لأنه في حاجة إلى التودد وإلى الرحمة، لا تجمع عليه بين أمرين تقبيح فعله، وإخراجه عما ألف واعتاد، ولذلك يقولون للذي ينصح إنسانا، النصح ثقيل؛ لأن النصح معناه تجريم الفعل في المنصوح، فعندما تقول لواحد: لا تفعل هذا، ما معناها؟ معناها أن هذا الفعل سيء، فما دمت تُجِرّم فعله فلا تجمع عليه أمرين، إنك قبحت فِعْله وأخرجته مما أَلِف، وبعد ذلك تنصحه بما يكره لا، إنه في حاجة إلى ملاطفة وملاينة لتستل منه الخصال القبيحة، ونحن نستعمل ذلك في ذوات أنفسنا حين نجد مرضا يحتاج إلى علاج مر، فنغلف العلاج المر في غلاف من السكر بحيث يمر من منطقة الذوق بلا ألم أو نغص، حتى ينزل في المنطقة التي لا تحس بهذه المرارة؛ لأن الإحساس كله في الفم. فإذا كنتم تفعلون ذلك في الأمور المادية، فلا بد إذن أن نطبق ذلك أيضا في الأمور المعنوية، ولأن النُصح ثقيل فلا تجعله جدلا ولا ترسله جبلا، وخِفة البيان تؤدى عنك بدون إثارة أو استثارة، وبلطف يحمل على التقبل. . بهذا تصل إلى ما تريد، ومثال ذلك حكاية الملك الذي رأى في منامه أن أسنانه كلها وقعت، فجاء للمعبر ليعبر، فقال له: أهلك جميعا يموتون، التعبير لم يُسر منه الملك، فذهب لواحد آخر فقال له: ستكون أطول أهل بيتك عمرا، إنه التعبير نفسه، فما دام أطول أهل بيته عمرا، إذن فسيموتون قبله، هي هي، ولذلك قالوا: الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان. {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} إذن فبالرحمة لِنت لهم وبلين القول تبعوك وألفوك وأحبوك. و «الفظُّ» هو: ماء الكرش، والإبل عندما تجد ماءً فهي تشرب ما يكفيها مدة طويلة، ثم بعد ذلك عندما لا تجد ماء فهي تجتر من الماء المخزون في كرشها وتشرب منه، في موقعة من المواقع لم يجدوا ماء فذبحوا الإبل وأخذوا الماء من كرشها، الماء من كرش الإبل يكون غير مستساغ الطعم، هذا معنى «الفَظّ» ، ونظرا لأن هذا يورث غضاضة فسموا: «خشونة القول» فظاظة، والغلظ في القلب هو ما ينشأ عنه الخشونة في الألفاظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1838 {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} . إنها رحمة طُبِعت عليها يا رسول الله من الحق الذي أرسلك. وبالرحمة لِنت لهم وظهر أثر ذلك في إقبالهم عليك وحُبهم لك؛ لأنك لو كنت على نقيض ذلك لما وجدت أحداً حولك. إذن فالسوابق تثبت أن هذه هي طباعك، وخلقك، هو الرحمة واللين. وبعد ذلك اعفُ عنهم، وقلنا: إن «العفو» هو: مَحْو الذنب محوا تاماً وهو يختلف عن كظم الغيظ؛ لأن كظم الغيظ يعني أن تكون المسألة موجودة في نفسك أيضا إلا أنك لا تعاقب عليها؛ لأنك كففت جوارحك وصنت لسانك، أما المسألة فما زالت في نفسك، لكن العفو هو أن تمحو المسألة كلها نهائيا، وتأكيدا لذلك العفو فأنت قد تقول: أنا من ناحيتي عفوت. لا. المسألة لا تتعلق بك وحدك، لأنك لا بد أن تستغفر الله لهم أيضا، فمن الممكن أن يعفو صاحب الذنب، ولكن ربي ورب صاحب الذنب لا يعفو، فيوضح الحق: أنت عفوت فهذا من عندك؛ لكنه يطلب منك أن تستغفر لأجلهم. كي لا يعذبهم الله عما بدر منهم نحوك. {فاعف عَنْهُمْ} هذه خاصة بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . {واستغفر لَهُمْ} بسبب ما فعلوه، وترتب عليه ما ترتب من هزيمتكم في «أحُد» ، وشجك وجرحك، ولا تقل: استشرتهم وطاوعتهم في المشورة، وبعد ذلك حدث ما حدث، فتكره أن تشاورهم، لا تقفل هذا الباب برغم ما حدث نتيجة تلك المشورة وأنَّها لم تكن في صالح المعركة، فالعبرة في هذه المشقة هي أن تكون «أحدُ» معركة التأديب، ومعركة التهذيب، ومعركة التمحيص، إذن فلا ترتب عليها أن تكره المشورة، بل عليك أن تشاورهم دائما، فما دام العفو قد رضيت به نفسك، وما دمت تستغفر لهم ربك، واستغفارك ربك قد تستغفره بعيدا عنهم، وعندما تشاورهم في أي أمر من بعد ذلك فكأن المسألة الأولى انتهت، وما دامت المسألة الأولى قد انتهت، فقد استأنفنا صفحة جديدة، وأخذنا الدرس والعظة التي ستنفعنا في أشياء كثيرة بعد ذلك. ولذلك تجد بعد هذه المعركة أن الأمور سارت سيرها المنتصر دائما؛ لأن التجربة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1839 والتعليم والتدريب قد أثر وأثمر، لدرجة أن سيدنا أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عندما جاءت حروب الردة، ماذا صنع؟ شاور أصحابه، فقال له بعضهم: لا تفعل. فهل سمع مشورتهم؟ لا. لم يسمع مشورتهم، إنما شاورهم. فلإنقاد المشورة حُكم، ولرد المشورة حكْم، المهم أن تحدث المشورة؛ ونعمل بأفضل الآراء فالمشورة: تلقيح الرأي بآراء متعددة، ولذلك يقول الشاعر: شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوما وإن كنت من أهل المشورات لقد اهتدى الشاعر إلى كيفية تقريب المعنى لنا، فعلى الرغم من أن الإنسان قد يكون من أهل المشورة والناس تأخذ برأيه، فعليه أن يسأل الناس الرأي والمشورة، لماذا؟ ها هو ذا الشاعر يكمل النصيحة: فالعين تنظر منها مادنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة إن العين ترى الشيء القريب والشيء البعيد، لكن هذه العين نفسها تعجز عن رؤية نفسها إلا بمرآة، وكذلك شأن المسألة الخاصة بغيرك والتي تعرض عليك، إن عقلك ينظر فيها باستواء ودون انفعال؛ لأنه لا هوى لك، والحق هو الذي يجذبك. لكن مسائلك الخاصة قد يدخل فيها هواك ويُحليها لك ويُحسنها. إذن فالمشورة في أحُد كانت نتيجتها كما علمتم، وكأن الله يقول لرسوله: إياك أن تأخذ من سابقة المشورة أن المشورة لا تنفع، فتقاطعهم ولا تشاورهم؛ لأنك لن تظل حيا فيهم، وسيأتي وقت يحكمهم بشر مثلهم، وما دام يحكمهم بشر مثلهم فلا تحرمه أن يأخذ آراء غيره، وعندما يأخذ الآراء وتكون أمامه آراء متعددة فهو يستطيع أن يتوصل إلى الحكم الصحيح بحكم الولاية وبحكم أنه الإمام، ويستطيع أن يفاضل ويقول: هذه كذا وهذه كذا، إلا أن يُفوض غيره. {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} وقد عزم رسول الله أيضا على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1840 الحرب ولبس لأمته، أكان يلبس اللأمة - وهي عُدة الحرب - وبعد ذلك يقولون له: لا تخرج فيدعها؟ لا؛ فالمسألة لا تحتمل التردد. {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} وهذه فائدة الإيمان، وفائدة الإيمان: أن الجوارح تعمل والقلوب تتوكل، معادلة جميلة {الجوارح تقول: نزرع، نحرث، نأتي بالبذر الجيد، نروي، نضع سماداً ونفترض أن الصقيع قد يأتي ونخشى على النبات منه فنأتي بقش ونحوه ونُغطيه، كل هذه عمل الجوارح. وبعد ذلك القلوب تتوكل. فإياك أن تقول: المحصول آتٍ آتٍ لأنني أحسنت أسبابي، لا. لأن فوق الأسباب مُسَبِّبَها. فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل، هذه فائدة الإيمان لأنني مؤمن بإله له طلاقة القدرة، يخلق بأسباب ويخلق بغير أسباب. الأسباب لك يا بشر، أما الذي فوق الأسباب فهو الله، فأنت حين تعمل أخذت بالأسباب، وحين تتوكل ضمنت المسبب وهو الله - سبحانه -. إذن فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل. إياك أن تظن أن التوكل يعني أن تترك الجوارح بلا عمل، لا، فهذا هو التواكل أو الكسل، إنه التوكل الكاذب، والدليل على كذب من يقول ذلك أنه يحب أن يتوكل فيما فيه مشقة، والسهل لا يتوكل فيه، ونقول للرجل الذي يدعي أنه يتوكل ولا يعمل: أنت لست متوكلا، ولو كنت صادقا في التوكل إياك أن تمد يدك إلى لقمة وتضعها في فمك. كن متوكلا كما تدعي، ودع التوكل يضع لك اللقمة في فمك واترك التوكل ليمضغها لك} وطبعا لن يفعل ذلك، ولهذا نقول له أيضا: إن ادعاءك التوكل هو بلادة حس إيماني وليس توكلا. إن الحق سبحانه وتعالى يقول: {واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} و {عَزَمْتَ} تقتضي عزيمة، والتوكل يقتضي إظهار عجز، فمعنى أني أتوكل على الله أنني استنفدت أسبابي، ولذلك أرجع إلى من عنده قدرة وليس عنده عجز، وهذا هو التوكل المطلق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1841 وفي حياتنا اليومية نسمع من يقول: أنا وكلت فلانا، أي أنني لا أقدر على هذا الأمر فوكلت فلانا. ومعنى توكيله لفلان انه قد أظهر عجزه عن هذا الأمر. ولهذا ذهب إلى غير عاجز. كذلك التوكل الإيماني، فالتوكل معناه: تسليمك زمام أمورك إلى الحق ثقة بحسن تدبيره، ومن تدبيره أن أعطاك الأسباب فلا ترد يد الله الممدودة بالأسباب ثم تقول له اعمل لي يارب؛ لأننا قلنا في سورة الفاتحة: إن الإنسان يدعو قائلا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ومعنى «نستعين» أي نطلب منك المعونة التي نتقن بها العمل. وبعد ذلك يقول الحق: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1842 الحق يقول هنا: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} ، المؤمنون بمن؟ بالله. وما داموا مؤمنين به فمن إيمانهم به أنه إله قادر حكيم عالم بالمصلحة، ولا يوجد أحسن من أنك توكله. وعندما نقرأ {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} فقد نسأل: وما هو المقابل؟ المقابل هو {وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ} . إذن فأنت دخلت بالأسباب التي قالها الحق سبحانه وتعالى مُؤتمرا بأمر القيادة السماوية التي مُثلت في الرسول المبلغ عن الله، وقد أخذت عُدتك على قدر استطاعتك، إياك أن تقارن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1842 عَدَدَك بعدد خصمك أو تقارن عُدتك بعُدة خصمك؛ فالله لا يكفيك أن تقابل العدد بالعدد ولا العُدة بالعُدة، وإنما قال: أنت تُعد ما استطعته، لماذا؟ لأن الله يريد أن يصحب ركب الإيمان معونة المؤمن به؛ لأنه لو كانت المسائل قدر بعضها، لكانت قوة لقوة. لكن الله يريد أن يكون العدد قليلا وتكون العدة أقل وأن نعترف ونقول: هذا ما قدرنا عليه يارب. ونثق بأنك يارب ستضع مع العدد القليل مدداً من عندك، فأنت المعين الأعلى، فسبحانك القائل: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] والحق هنا يقول: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} فأنت تضمن نصر الله لك إن كنت قد دخلت على أن تنصره. كيف نعرف أننا ننصر الله؟ نعرف ذلك عندما تأتي النتيجة بنصرنا، لأنه سبحانه لا يعطي قضية في الكون وبعد ذلك يأتي بالواقع ليكذبها، وإلا فالمسلمون يكونون قد انخدعوا - معاذ الله - لأنه لو جاء الدين بقضية ثم يأتي الواقع ليكذبها، فلا بد أن يقولوا: إن الواقع كذب تلك القضية. لكن الحق قال: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} ويجيء الواقع مؤكدا لهذه القضية، عندئذ نحن لا نصدق في هذه القضية فقط، بل نصدق كل ما غاب عنا، فعندما تظهر جزئية ماديَّة واقعة محسوسة لتثبت لي صدق القرآن في قضية؛ فأنا لا أكتفي بهذه القضية، بل أقول: وكل ما لا أعلمه داخل في إطار هذه القضية. ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى ترك بعض أسراره في كونه، وهذه الأسرار التي تركها في كونه هي أسرار لا تؤدي ضرورات؛ إن عرفناها فنحن ننتفع بها قليلا في الكماليات، ويترك الحق بعض الأسرار في الكون إلى العقول لتستنبطها، فالشيء الذي كان العقل يقف فيه قديما يصبح باكتشاف أسرار الله مقبولا ومعقولا، كأن الشيء الذي وقف فيه العقل سابقا أثبتت الأيام أنه حق إذن فما لا يُعرف من الأشياء يُؤخذ بهذه القضية أو بما أُخِذَ من الغير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1843 يقولون - مثلا - اكتشف الميكروب على يد «باستير» ، لكن ألم يكن الميكروب موجودا قبل «باستير» ؟ كان الميكروب موجودا، ولم يكن أحد يراه؛ لأن الشيء إذا دق ولطف لا نقدر أن ندركه؛ فليس عندنا الآلة التي تدركه، ولم نكن قد اخترعنا المجهر الذي يكبِّر الأشياء الدقيقة آلاف المرات. وكذلك اخترع الناس التلسكوب، فبعد أن كان الشيء لا يرى لبعده، أصبح يرى بوساطة التلسكوب، وإن كان الشيء ضئيلا جدا ولا نراه. فقد استطعنا أن نراه بوساطة المجهر المسمى «الميكروسكوب» . و «التلسكوب» يقرب البعيد و «الميكروسكوب» يكبر الصغير فنرى له حركة وحياة، ونجد له مجالا يسبح فيه، وهذا جعلني إذا حدثني القرآن أن لله خلقا غاب عن الحس لا يدرك من جن وملائكة، فلا أُكذب ذلك، لأن هناك أشياء كانت موجودة ولم تدخل تحت حسى ولا إدراكي مع أنها من مادتي، فإذا كانت الأشياء الأخرى من مادة أخرى مثل الملائكة من نور، أو الجن من النار، ويقول لي سبحانه إنهم مخلوقون وموجودون فأنا لا أكذب ما جاء عن الحق؛ لأن هناك أشياء من جنسي كانت موجودة ولم أستطع أن أراها. إذن فهذه قربت لي المسألة، فعندما يقول الحق: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} فنحن نعرف أن نصر الله مترتب على أن تدخل المعركة وأنت تريد أن تنصر الله، وتنصره بماذا؟ بأنك تحقق كلمته وتجعلها هي العليا، وليس هذا فقط هو المطلوب، بل لتجعل - أيضا - كلمة الذين كفروا السفلى. {وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ} إنه في ظاهر الأمر يكون معنا، لكننا نشعر أنه تخلى عنا، لماذا؟ لأننا نترك بعضا من تعاليم الله، إذن فهو في المظهر العام معكم كمسلمين، ومن معيته لكم أن يؤدبكم على المخالفة فيخذلكم عندما تخالفون عن أمره. ويختم الحق سبحانه الآية بقوله: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وفي الآية السابقة قال سبحانه: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} ، والذي لا يتوكل على الله عليه أن يراجع إيمانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1844 وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1845 ما معنى «يغٌل» ؟ أولا: «الغلول» هو الأخذ في الخفاء. وهو مأمخوذ من «أغل الجازر» - أي الجزار - أي عندما يسلخ الجلد يأخذ بعض اللحم مع الجلد، ثم يطوي الجلد مخفيا ما أخذه من اللحم، هذا هو الأصل، وأطلق شرعا على الخيانة في الغنائم، ففي هول المعارك قد يجد المقاتل شيئا ثمينا فيأخذ هذا الشيء خفية، وهذا اسمه «الغلول» ، وأيضا كلمة «الغِّل في الصدور» أي إخفاء الكراهية، وكل المادة إخفاء. والحق يقول: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} لماذا؟ لأن من الجائز أن الرماة - في غزوة أحد - ساعة رأوا الغنائم أقبلوا عليها؛ لأن غنائم بدر لم تكن قد قسمت بين كل من اشتركوا في القتال، فالذي كان يعثر على غنيمة كان يأخذها، وكانت بدر أول معركة، وكان الهدف من ذلك تشجيع المقاتلين. وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قد قال: «من قتل قتيلا فله سلبه» . وظن المقاتلون في أحُد أن المسألة ستكون مثل بدر، وظن البعض أن الرسول لن يعطيهم غنائم، فيوضح الحق سبحانه وتعالى: بأن هذه مسألة وتلك مسألة أخرى، فمن يفعل مثل هذا يكون قد غَل. وساعة تسمع: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي أن من طبعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن فطرته وسجيته ألاَّ يتأتى ذلك منه أبدا، لكن من الجائز أن يحدث مثل ذلك من واحد من أمته، إذن فهناك فرق بين امتناع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1845 المؤمن أن يكون غالاً، أي يأخذ لنفسه شيئا من الغنيمة، وامتناع الرسول أن يكون غالاًّ، لأن طبعه وسجيته لا تستقيم مع هذه، لكن الأمر يختلف مع المقاتلين؛ فمن الممكن أن يكون أحدهم كذلك، فسيدنا عمر في معركة الفرس، حينما جاء جماعة بتاج كسرى، والتاج فيه كل النفائس وتلك سمة عظمة الملوك، فقال الفاروق عمر: إن قوما أدوا إلى أميرهم هذا لأمناء. فقد كان من الممكن أنهم يخفونه. {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} وساعة تسمع {وَمَا كَانَ} أي: وما ينبغي ولا يصح أن يكون ذلك الأمر، وبعد ذلك يأتي بالحكم العام فيمكن أن يحدث غلول من أحَدٍ فيقول: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة} فالذي غل في حاجة وخان فيها يأتي بها يوم القيامة كما صورها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حلّه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيرا له رُغاء أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيعَر، ثم رفع يديه حتى رُئيَ بياض إبطيه يقول: اللهم قد بلغت» . إن من يأخذ حراما في خفية يأتي يوم القيامة وهو يحمل البعير أو البقرة أو الشاة مثلا. وآه لو كان ما أخذه حمارا فله نهيق!! فإذا كان سيأتي بما غل يوم القيامة - فالذي أخذه سيفضحه - ولذلك تسمى «الفاضحة» ، و «الطامة» . إذن فمن الممكن في الدنيا أن يأخذها خفية ويغُل. لكنه سيأتي في يوم القيامة وهو يحمل ما أخذه على ظهره، ثم يقول مناديا رسول الله: يا محمد. . يا محمد، لأن كل مسلم قد علم واطمأن إلى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رءوف ورحيم وأنه لن يرضى بهذه الحكاية، لكن رسول الله أبلغ عن عقاب من يفعل ذلك في حياته، وعلى كل المؤمنين به ألا يفكروا في الغلول وأخذ الغنيمة خفية. ولماذا تكون الغنيمة في الحرب شرا؟ لأن المقاتل يعيش أثناء القتال في مهمة أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1846 تكون كلمة الله هي العليا فكيف يرضى لنفسه بهذه المهانة وهي إخفاء الغنيمة؟ إنه يحارب من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ويجب أن يكون في مستوى ذلك. وبعد ذلك يأتي الحق بالقضية العامة: {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} ، وهي تشمل الغلول في الغنيمة والغلول في غير الغنيمة، ولنتصور هذه بالنسبة لكل من يخون أمانة أؤتمن عليها، وأنه سيأتي يوم القيامة يحمل عمارة - مثلا - لأنه بناها بغير أمانة أو يحمل أطنانا من سمك لأنه سرقها، أو يحمل أطنانا من الجبن الفاسد التي استوردها. فكل من سرق شيئا سيأتي يوم القيامة وهو يحمله، وإذا كنا نشهد أن الناس لا تطيق أن تفضح بين الخلق، والخلق محدودون لأنهم المعاصرون، فما بالك بالفضيحة التي ستكون لعموم الخلق من أول آدم إلى أن تقوم الساعة. إذن فعلى كل إنسان أن يحرس نفسه لأن المسألة ستنفضح. {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} وما دام سبحانه سيوفى كل نفس ما كسبت فكل سيأخذ قدر ما فعل، فلا ظلم، فلو ترك الأمر بلا حساب لكان هذا هو الظلم وحاشا لله أن يظلم أحدا، وبعد تلك التهيئة والإيضاح يقول سبحانه: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1847 والحق سبحانه وتعالى حين يطرح بعض القضايا طرح الاستفهام، فهو يطرحها لا ليعلم هو فهو عالم، ولكن ليستنطق السامع، ونطق السامع حجة فوق خبر المخبر، فلو قال: إن الذي يتبع رضوان الله لا يساوي من ذهب إلى سخط الله لكان ذلك إخبارا منه وهو صادق فيما يقول، لكنه سبحانه يريد أن يستنطق عباده بالقضية، {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله كَمَن بَآءَ} {بَآءَ} أي: رجع {بِسَخَطٍ مِّنَ الله} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1847 لا شك أن كل من يسمع عن الفاروق بين اتباع الرضوان، أو الرجوع بالسخط يقول: إن اتباع الرضوان يرفع درجة الإنسان، والذي يبوء بالسخط يهبط إلى درك الخسران، فالقضية قالها السامع. . فكأن الحق يستنطقنا بالقضية لتكون حجة علينا، والذي يتبع رضوان الله بالطاعة، أيساويه من يرجع إلى سخط الله بالمعصية؟! أفمن يتبع رضوان الله فلا يغُل في الغنيمة ولا يختان في الأمانة كمن غل في الغنيمة وخان في الأمانة؟ أفمن اتبع رضوان الله بأن استمع لأوامر الله حين استنفره لجهاد العدو، كمن لم يذهب لنداء الله ليكون في جند الله مقاتلا لعدو الله، لا؛ فالذي لا يستجيب لنداء الله هو من يبوء بسخط الله. و «السخط» هو: إظهار التقبيح، لكن إظهار التقبيح قد لا يؤثر في أناس غليظى الإحساس، لا تنفع فيهم اللعنة أو الشتائم؛ لذلك جاء سبحانه بالحكم: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} {وَمَأْوَاهُ} أي المكان الذي يأوي ويرجع إليه هو جهنم وبئس المصير. وبعد ذلك يقول الحق: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1848 {هُمْ دَرَجَاتٌ} أي ينزلون في الآخرة منازل على قدر أعمالهم، فكما ترى الدرجات موصلة إلى المراقي العالية كذلك في الآخرة كل إنسان مُحاسب بعمله، ويأخذ عليه درجة، ولنا أن نلحظ أن الحق يستخدم كلمة {دَرَجَاتٌ} بالنسبة للجنة؛ لأن فيها منازل ورتبا، أما فيما يتعلق بالنار، فيأتي لفظ «دركات» ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1848 فالدركة تنزل، والدرجة ترفع. {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله} فالله هو العادل الذي ينظر لخلقه جميعا على أنهم خلقه، فلا يعادي أحدا، إنه يحكم القضية في هذه المسألة سواء أكانت لهم أم كانت عليهم، وبعد ذلك يردفها - سبحانه بقوله: {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ليطمئن هؤلاء على أن الله بصير بما يعملون فلن يضيع عنده عمل حسن، ولن تهدر عنده سيئة بدرت منهم. {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} . ونحن نسمع كلمة «يعمل» وكلمة «يفعل» وكلمة «يقول» ، والعمل أهم الأحداث، لأن العمل هو تعلق الجارحة بما نيطت به، فالقلب جارحة عملها النية، واللسان جارحة عملها القول، والأذن جارحة وعملها الاستماع، والعين جارحة وعملها أن تنظر. إذن فكل جارحة من الجوارح لها حدث تنشئه لتؤدي مهمتها في الكائن الإنساني، إذن فكل أداءِ مُهِمّة من جارحة يقال له: «عمل» . لكن «الفعل» هو تعلق كل جارحة غير اللسان بالحدث، أما تعلق اللسان فيكون قولا ومقابله فعل، إذن ففيه قول وفيه فعل وكلاهما «عمل» إذن فالعمل يشمل ويضم القول والفعل معا؛ لأن العمل هو شغل الجارحة بالحدث المطلوب منها، لكن الفعل هو: شغل جارحة غير اللسان بالعمل المطلوب منها، وشغل اللسان بمهمته يسمى: قولا ولا يسمى فعلاً، لماذا؟ لأن الإنسان يتكلم كثيرا، لكن أن يحمل نفسه على أن يعمل ما يتكلمه فهذه عملية أخرى، ولذلك يقول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] إذن فالقول مقابله الفعل، والكل عمل {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} قولا أو فعلاً وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1849 {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1850 والذي يمن على الآخر هو الذي يعطيه عطية يحتاج إليها هذا الآخذ، فكأن الحق يقول: وهل أنا في حاجة إلى إيمانكم؟ في حاجة إلى إسلامكم؟ أصفة من صفاتي معطلة حتى تأتوا أنتم لتكملوها لي؟ لا، إذن فحين أبعث لكم رسولا رحيما بكم، فالمنة تكون لي وحدي. {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} . أكان يبعثه مَلَكا؟ لا. بل بعثه من البشرية؛ كي تكون الأسوة فيه معقولة. فعندما يقول لكل مسلم افعل مثلى، فالمسلم عليه أن يطبق ما يأمره به الرسول، لكن لو كان مَلَكا أكانت تنفع فيه الأسوة؟ لا، فقد يقول لك: افعل مثلى، فتقول له: لا أقدر لأنك مَلَك، ومن يدعي الألوهية لرسول، فهو ينفى عنه الأسوة؛ لأنه عندما يقول: كن مثلي، يمكنك أن تقول: وهل نقدر؟ أنت طبيعتك مختلفة، فهل نصل لذلك؟ {لا نقدر، ولذلك فالذين يقولون بألوهية رسول، إنما يفقدون الأسوة فيه، والمفهوم في الرسول أن يكون أسوة سلوكية، وأن يكون مبلغا عن الله منهجه، وأن يعلن بشريته ويقول: أنا بشر وأستطيع أن أمثل وأطبق المنهج. إذن فهو أسوة سلوكية تطبيقية. والرسول مبعوث للكل، فلماذا كانت المنة على من آمن فقط} ؟ لأنه هو الذي انتفع بهذه الحكاية، لكنَّ الباقين أهدروا حقهم في الأسوة ولذلك تكون المنة على من آمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1850 {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين} وما هي المنة؟ المن: الأصل فيه أنه القطع، لكن حين نسمعها نجدها تستعمل في أشياء متقابلة، فمثلا: المن هو العطاء بلا مقابل، والمن هو: تكدير النعمة بالتحدث بها، مثل قوله تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262] إذن فالمن الذي نحن بصدده هو العطاء بلا مقابل، ولكن المن قد استعمل في تكدير النعمة بكثرة الكلام فيها، فقد يقول الإنسان لمن يمن عليه: لا أريد النعمة التي تتكلم عنها دائما، إذن فالمن استعمل في النعمة وفي تكدير النعمة، تقول: مَنَّ على فلان إذ أنقذني من ضيق كنت فيه، ويقال: فلان ليس فيه مُنة، أي ليس فيه قوة، وكلها تدور في معنى القطع، فإذا استعمل في النعمة والعطاء نقول: نعم فيها قطع؛ لأن النعمة جاءت لتقطع الحاجة، ففيه حاجة ثم جاء عطاء، والعطاء قطع الحاجة. فاستعملت في معناها. فإذا جاءت نعمة بعد حاجة والحاجة انقطعت بالنعمة فلا بد أن تأتي بفعل بعدها وهو أن تشكر من أنعم عليك، وخصوصا أنه الله، فالمن يقطع الشكر لأنك إن مننت بالنعمة وأظهرت تفضلك بها على من أسديتها إليه فقد تسببت في أن الآخذ لا يشكرك بل إنه يتضايق من نعمتك وقد يردها عليك. فإذن: هنا قطع للشكر، فإن قطعت حاجة محتاج فهذا يسمى «نعمة» وإن فخرت بنعمتك عليه حتى كدرتها فقد قطعت ومنعت شكره لك، وهذا يسمى «مَنَّا» أي أذى لأنه يؤذي مشاعر وإحساس الآخذ. وإن قطعت مطلقا اختصت باسم «المنَّة» ، يقولون: فلان لا مُنة فيه أي لا قوة عنده تقطع في الأمور، وهنا يقول: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين} و «منَّ» هنا بمعنى أعطى نعمة، والنعمة في الدنيا تعطيك على قدر دنياك، و «منة» الله برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعطيني عطاء على قدر الدنيا وعلى امتداد الآخرة، فتكون هذه منة كبيرة. {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذَْ} ، و {إِذْ} يعني ساعة أي حين بعث فيهم رسولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1851 منهم فقد عمل فيهم منة وقدم لهم ومنحهم جميلا كبيرا وأنعم عليهم نعمة، {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً} . فإذا كان مطلق بعث رسول كي يهدي الناس إلى منهج الله يكون نعمة فماذا إذا كان الرسول من أنفسهم؟ إن هذه تكون نعمة أخرى لأنه ما دام من أنفسهم؟ إن هذه تكون نعمة أخرى لأنه مادام من أنفسهم ومن رهطهم ومن جماعتهم، هو معروف نسباً وحسباً ومعروف أمانة، فلا يخون، ومعروف صِدقاً فلا يكذب، كل هذه «مِنة» ولم يتعب أحداً في أن يبحث وراءه: أكذب قبل ذلك حتى نعتبر ذلك كذبا؟ أخان قبل ذلك حتى نعتبر ذلك خيانة؟ لا. هل هو من الناس المدعين الذين يريدون أن يقيموا ضوضاء من حولهم؟ لا. بل هو في الحسب والنسب معروف، جده عبد المطلب سيد البطحاء ولا يوجد واحد من أهله تافها. وعرف الجميع عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأمانة منذ صغره، إذن فالمقدمات تجعل الناس لا تجهد نفسها في أن تتحرى عنه أصادق هو أم غير صادق؟ إذن فهو مِنّة، ولذلك حينما بعث الله سيد الخلق إلى الخلق؛ كان هناك أناس بمجرد أن قال لهم: إني رسول الله، آمنوا به، لم يقدم معجزة ولم يقولوا له: ماذا ستقول أو ماذا تعمل؟ بمجرد أن قال: إنه رسول الله صدقوه، فعلى أي حيثية استندوا في التصديق؟ لقد استندوا على الماضي. لقبتموه أمين القوم في صغر ... وما الأمين على قول بُمتهم هاهو ذا سيدنا أبو بكر رضي لله عنه يقول: إن كان قد قال فقد صدق - إذن فالمقدمات التي يعرفونها عنه كانت هي الحجة في تصديق الرسول، وخديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها آمنت به، أقال لها المعجزات والقرآن؟ لا. بل بمجرد أن قال لها: أنا رسول الله. قالت له: صدقت فلا بد أن تكون رسولا، هو نفسه كان يتشكك وهي مؤمنة به، هو نفسه يتساءل: لعل ذلك يكون كذا، وذهبت به خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - إلى ورقة بن نوفل وأوضحت لرسول الله أنّ ما تقوله لا يمكن أن يوقعك في بلية أو خزي أو ذِلةً؛ لأن صفاتك جاءت كمقدمات لهذه النتيجة، وهي أنك رسول كريم «إنك لتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1852 الدهر، والله لا يخزيك الله أبداً» ، إنسان بهذه الصفات لا يمكن أن يأتيه شيطان، وتعال نذهب معا لأهل الكتاب الذين لهم علم بهذه المسألة. كأنها آمنت برسالة رسول الله قبل أن يقول لها ورقة بن نوفل شيئاً. إذن فقوله: {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي معروف لهم، فلم يأت لهم بواحد سقط عليهم من السماء، وقال: هذا رسول، لا. إنه رسول {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} ، وهذه أول مِنّة، {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} ، هذا إذا أخذت المحيط القريب أنه من الرهط ومن القبيلة ومعروف لهم، {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أو من جنس ونوع العرب، وهذه أيضاً مِنّة، فساعة أن يتكلم سيفهمونه ولا يحتاجون إلى وساطة أو ترجمة، والرسول عندما يأتي ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، يريد أُناسا تفهم عنه، فأوضح لهم: لم أكلفكم لتقولوا ماذا يريد، لا، هو من أنفسكم، وهو إنسان له مواصفاتكم، ولكنهم لفرط عنادهم لم يؤمنوا مصداق ذلك قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] إنهم يستكثرون كيف يبعث الله بشراً ويجعله رسولاً، وهذا غباء في الاعتراض، ويأتي الرد الجميل من الله. {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] أنتم من البشر، فلا بد أن نأتيكم برسول من جنسكم، حتى إذا قال لكم: افعلوا كذا تقولون: نعم؟ لأنه بشر ويعمل ونحن بشر نستطيع أن نعمل مثله. . لكنه لو كان مَلَكاًَ لقال الواحد منكم: وهل أنا أقدر أن أكون كالَمَلك؟ إذن فلا تنفع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1853 هذه الحكاية، وهكذا منّ الله على المؤمنين. إذ بعث فيهم رسولا. {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} ، إن أخذتها على أساس أنها قبيلة محدودة ومعروفة فهي منة، وإن أخذتها على أنه من جنس عربي فيكون اللسان واحداً فهي مِنّة، وإن أخذتها من الجنس العام وهو الإنسان فهي مِنّة أيضاً. وهل اعتبار معنى واحد من المعاني ينقض المعاني الأخرى أو تأتي كلها في سلك واحد؟ إنها معانٍ تأتي كلها في سلك واحد؛ لأن المتكلم هو الله، وما دام المتكلم هو الله فيكون عطاء اللفظ أكثر من عطاء ألفاظ الخلق، {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} ، وهناك قراءة - وإن كانت قراءة شاذة - تقول: {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} (بفتح الفاء) أي من أشرفهم لأنه من بني هاشم وهم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب. وماذا يعمل الرسول؟ يُفهم من قوله: «رسولا» أنه لا يأتي بشيء من عنده، بل هو - مع هذه المنزلة الحسنة بخُلُقه الجميل وماضيه الناصع - هو مع هذا رسول وليس له في الأمر شيء، إذن فمرسله خير منه، فلا تتنبه إلى هذا الرجل العظيم فحسب بل يجب عليك أن تسأل: من أين جاء؟ لا بد أن تلتفت إلى أن الذي بعثه أعظم منه. {رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} ، وكلمة {يَتْلُواْ} يعني يقرأ لأن الكلمة تتلو الكلمة، فالذي يقرأ أي ينطق كلمة بعد كلمة، كلمة تالية بعد أخرى {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} وكلمة «الآيات» - كما نعرف - تستعمل للأمور العجيبة؛ اللافتة للنظر، تقول مثلا: فلان آية في الحس. أي حسْنُه لافت للنظر، وتقول: فلان آية في الذكاء، صحيح أن هناك أذكياء كثيرين، لكنه آية في الذكاء. . أي أن هذا الإنسان أمره عجيب في الذكاء، إذن فكلمة «آية» معناها: الأمر العجيب، وهو الذي يقف الإنسان عنده وقفة طويلة ليتأمل في عجائبه. والآيات نوعان: آيات منظورة في الكون مثل قول الحق: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1854 واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وكل ظواهر الكون تعتبر أشياء عجيبة. والنوع الثاني: هو آيات القرآن مثل قوله الحق: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] إذن فالآيات هي الأمور العجيبة وهي قسمان: منظور ومقروء، المنظور: كل الكون، والمقروء: هو القرآن، فالقرآن يفسر آيات الكون، وآيات الكون تفسر آيات القرآن، والرسول جاء يتلو آيات القرآن، وكانت عجيبة عليهم، لكن الآيات الأخرى التي في الكون يشاهدونها ويرونها، لقد جاء الرسول بآيات مقروءة ليلفت الناس إلى الآيات المنظورة، وبتلك الآيات المنظورة يكون العجب من دقة خلق الكون؛ فينتهي الإنسان إلى الإيمان بِمَن خلق هذا الكون. إن الحق يقول عن الرسول: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} والمسألة ليست أنه يتلو الآيات ليعجبوا منها فحسب، لا. فالرسول له مهمة إيمانية تلفت كل سامع للقرآن إلى من خلق ذلك الكون الجميل البديع الذي فيه الآيات العجيبة. ثم يعطي الرسول من بعد ذلك المنهج الذي يناسب جمال الكون، إذن فالرسول ينقل المؤمنين إلى المنهج الذي يُزكي الإنسان وأنت إذا سمعت كلمة {يُزَكِّيهِمْ} فأنت تعرف أنها من الزكاة. والزكاة أول معانيها: التطهير؛ والتنقية؛ والنماء. والآيات التي جاء بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما جاءت لتزكيهم. وهذا التطهير لمصلحة المُطَهِّر أو المُطَهَّر. إنه لمصلحة المطهِّر التنقية والنماء لمصلحتكم أنتم وهذا لا يشكك في التكليف؛ لأن التكليف لم يأت للمُكلِّف، إنما جاء للمُكلف، وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - فالرجل يكون ميسور الحال وعنده مال وعنده عقارات وأطيان، وبعد ذلك يحب لأولاده أن ينجحوا في المدارس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1855 فيشجعهم قائلا لكل منهم: إن نجحت فسأفعل لك كذا. هو لا يريد منهم شيئا لنفسه، فعنده النعمة الكافية، هو يريد - فقط - مصلحتهم هم. إذن فالمكلف لن ينتقع بتكليفنا أبدا، فالتنقية لصالحنا والتطهير لصالحنا والنَّماء لصالحنا - والتزكية هي: تطهير وتنقية ونماء - ولننظر إلى الحالة التي كانت الجاهلية عليها، هل كانت طاهرة؟ هل كانت نقية؟ هل كانت نامية؟ لم يكن بها وصف من تلك الأوصاف، لأنها جاهلية، فكلهم محكومون بالهوى والجبروت والسلطان والقهر، ونعرف أن أول ما يهتم به الإنسان هو أن يستبقى حياته وبعد ذلك يستبقى نوعه، وبعد ذلك يستديم ما حوله، والتزكية شملت كل أمر من هذه الأمور، تزكية في الإنسان نفسه، في ذاته، بدلا من أن يكذب لسانه طهره عن الكذب، بدل أن تمتد عينه إلى محارم غيره طهر عينه من النظر للمحرمات، وبدلا من أن تمتد يده خفية وتسرق فهو لا يفعل ذلك. والسرقة - كما نعلم حتى عند من يسرق - نقيصة، بدليل أن اللص يتوارى ويحاول أن يسترها وألا يراه أحد، لأنها رذيلة ونقيصة. ويأتي المنهج فيقول له: لا تسرق، ويطهر المنهج حركة جوارح الإنسان في الأرض، ويطهر قلبه من الحقد كي يعيش مرتاحا، وتبقى قوته مصونة للعمل الجاد المثمر، فلِمَ يبدد قوته، ولم يبدد نظراته، ولم يبدد علاقاته بالناس؟ إذن فالمنهج ينمي الإنسان، إنه تطهير وتنقية ونماء له، وبعد ذلك عندما يصاب الإنسان بالعجز وعدم القدرة، فلن يستذله الغير لكي يعطيه لقمة. لقد زكاه المنهج من هذه ونقاه من الذلة وجعل له من مال القادر حقا، والقادر هو الذي يبحث عن الضعيف ليعطيه حقه؛ لأن العاجز عندما يرى كل المؤمنين حوله قادرين يبحثون عنه ليعطوه حقه وليس مجرد صدقة يتصدقون بها عليه حينئذ يقول: أنا لست وحدي في الكون. أنا في الكون بفلان وبفلان، فتكون تنمية له، وما دام الكل يعطيه. أما عن بقاء النوع فماذا يعني؟ إن الحق يريد طهارة الإنسان والذرية التي تأتي وأن يجعل لها وعاءً شريفا عفيفا، وإطارا لا تشوبه شائبة فجاء المنهج ليزكيكم في كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1856 شيء يزكي حركات جوارحكم فلا تتجه الحركة إلا لتحقق المطلوب منها عند من خلقها، فالخالق قد أوضح: يا عين حدودك كذا، يا لسان حدودك كذا، يا يد حدودك كذا، يا رِجلُ حدودك كذا، يا قلب حدودك كذا، فالذي خلق كل جارحة هو الذي أعطى لكل منها حدودها فلا تجاوز ولا تهاون ولا إفراط ولا تفريط، فإن خرجت عن غير ما وضع لها في منهج الله فقد خالفت. وهكذا نرى أن المنهج قد جاء يزكيكم أي يطهركم وينقيكم وينميكم في كل مجال من مجالات الحياة. {وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة} وساعة يقول الحق: {الكتاب} فهو يقصد الكتاب المنزل إنه القرآن، والحكمة هي السنة. والحق يقول: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} [الأحزاب: 34] وآيات الله معروفة وهي آيات القرآن، والحكمة هي سُنَّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهنا يقول الحق: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب} ، إذن فالكتاب هو القرآن، سيتلو عليهم آيات القرآن وبعد ذلك يعلمهم ما جاء في هذا الكتاب. بعض المفسرين قال: لا بد أن نحمل «الكتاب» هنا على معنى آخر غير القرآن، فقالوا: الكتاب يعني الكتابة، وأول عمل زاولوه في الكتابة كتابة المصحف. إذن فالتقى المعنيان، ولذلك في غزوة «بدر» كان يتم فداء الأسرى إما بالمال وإما أن كل أسير يجيد القراءة والكتابة إذا أراد أن يفدي نفسه فعليه أن يقوم بتعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة فقد كانت الأمة أمية يقول سبحانه وتعالى: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة} [الجمعة: 2] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1857 لذلك نجد أن تفسير الكتاب بالكتابة هو المناسب للأمية، أو خذ هذه اللقطة على أساس أن هناك فرقا بين التلاوة والتعليم، التلاوة: يتلو عليهم، أي أن الرسول هو الذي يتلو، والتعليم يكون بأن يتلوا هم القرآن. {وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة} و «علَّم» أي نقل العلم من مُعَلِم إلى مُعَلَّم. ويختتم الحق هذه الآية بالقول الكريم: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} وهناك أساليب تأتي في القرآن فيها «إن» وتجد كل «إن» في موضع لها معنى يختلف عن الآخر، فمثلا تأتي «إن» شرطية، يعني يأتي بعدها فعل شرط وجواب شرط مثل قوله الحق: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} [آل عمران: 140] أي إن يمسسكم قرح فلا تيأسوا ولا تبتئسوا. فقد مس القوم قرح مثله، وقوله الحق: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] إننا هنا نجد أنَّ «إن» شرطية، ففيه شرط وجواب شرط. ومرة تأتي «إن» وبعدها «إلا» : {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] وهو سبحانه يتكلم هنا عن الذين يظاهرون من نسائهم، أي يقول الرجل لامرأته: أنت علىّ كظهر أمي، إن أمك هي التي ولدتك وامرأتك لم تلدك، فلو كانت أمك لكانت محرمة عليك، {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} ، فعندي هنا «إن» وبعدها «إلا» وما دام جاءت «إلا» فالذي بعدها يكون مثبتا، والذي قبلها يكون منفيا، مثل قولنا: «ما قام القوم إلا زيداً» إن زيداً مختلف عنهم. {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} أي: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، إذن ف «إن» هنا ليست الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1858 شرطية لكنها هنا «إن» النافية وتعرفها بوجود «إلاَّ» . ومرة ثالثة تأتي «إن» لا هي شرطية، ولا هي نافية مثل آيتنا هنا {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} . ونقول: هذه «إنْ» التي هي تخفيف «إنَّ» أي «إنْ» هنا مخففة من الثقيلة ويكون المعنى وإنّ الحال والشأن والقصة والواقع أنهم كانوا في ضلال مبين. ويقول النحاة: اسمها ضمير الشأن - أي الحال والقصة - وهو محذوف. وما هو الضلال؟ يقولون: ضل فلان الطريق أي مشى في مكان لا يوصله للغاية، أو يوصل إلى ضد الغاية؛ لأن الضلال في الدنيا والأمور المادية قد لا يوصلني لغايتي المرجوة، وقد لا يوصلني لشر منها أو لمقابلها، لكن في الأمر القيمى ماذا يفعل؟ إنه لا يوصلك إلى الغاية المرجوة وهي الجنة فحسب ولكنه يوصل للمقابل وهو النار، هذا هو الضلال المبين، إنه ضلال واضح؛ بدليل أن النقائص التي جاء الإسلام ليطهر الإنسان منها، يحبّ مرتكبها ألا تُعلم عنه وسط الناس، فالسارق يسرق لكن لا يحب أن يعرف الناس أنه لص، والكاذب يكذب لكن لا يحب أن يعرف الناس أنه كذاب، بدليل أنك عندما تقول له: يا كذاب تكون له صاعقة. إذن فالنقيصة تُفعل وصاحبها لا يريد أن يراها أحد أو يُعرف بها. {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} أي ضلال ظاهر وهو ضلال يعرفه صاحبه بدليل أننا قلنا في قصة سيدنا يوسف؛ حيث نجد في القصة اثنين من الفتيان قد دخلا السجن، وماذا حدث لهما: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1859 لقد رأوا في يوسف عليه السلام كأن عنده ميزان الإحسان فهو يعرف الحسن والقبيح، ولأنهما يعرفان ميزان الإحسان فلا بد أن تكون المسائل بالنسبة لهما واضحة. ولماذا لم يقلها واحد منهما من قبل؟ لقد شهدا هذه الشهادة لسيدنا يوسف لأنهما يطلبان الآن مشورته في تأويل الرؤى. كان يوسف عليه السلام مسجونا، ولم ينظر إليه أحد إلا كمسجون. ومن سلوكه معهما في السجن عرفا أنه طيب ومحسن. ولذلك التفتا إليه ورأيا فيه أنه قادر على تأويل رؤيا كل منهما. مثلما قلنا: إن المنحرف نفسه يعرف قيمة الفضيلة، وهكذا نجد أن الفضيلة مسألة ذاتية وليست نسبية، أي أنه حتى المنحرف عن الفضيلة يرى الفضيلة فضيلة. وبعد ذلك يعود الحق إلى قضية عجيبة، فإذا كان الله سبحانه قد من على المؤمنين بالرسول، ومن أنفسهم، وجاء يتلو عليهم آيات الله، وجاء يزكيهم طهارة ونقاء ونماء، وجاء ليعلمهم الكتاب والحكمة وهي وضع الشيء في موضعه، أو البحث عن أسرار الأشياء كان يجب عليكم - إذن - أنه إذا قال قولة لا تخالفوا عنها أبدا، وعندما يجري على يديه أمر فهو لا يحتاج إلى مناقشة، إذن فما حكايتكم؟ يقول الحق: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1860 لماذا تقولون: كيف يهزمنا الكفار؟ لقد حدث لكم ذلك لأنكم خالفتم الرسول الذي منَّ ربكم به عليكم، وآتاكم، وزكاكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة، كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1860 مقتضى ذلك أن كل ما يقوله الرسول الذي هو بهذه المواصفات أن تطيعوه، ولا يقولن أحدكم: لماذا تحدث هذه الهزيمة؟ ولا يقولن أحد لماذا حكاية أحُد وكيف يهزمنا الكفار؟ إنَّ هذا لا ينسجم مع ما قيل من أن الله مَن عليكم وبعث فيكم رسولا، ثم إن أحُداً ليست مصيبة بادئة، بل مصيبة جاءت بعدما أصبتم من أعدائكم مصيبة، ونلتم منهم ضعف ما نالوا منكم. فأنتم بدأتم ببدر وأعطاكم الله الخير. أنتم قتلتم سبعين وأسرتم سبعين، وهم قتلوا سبعين ولم يأسروا أحداً في «أُحد» ، أنتم أخذتم غنائم في بدر، وهم لم يأخذوا أي غنيمة في أحُد، ما العجيبة في هذه! {كان يجب أن تبحثوا في ذواتكم وفي نفوسكم، هل كنتم منطقيين مع إيمانكم ومع قيادة الرسول لكم} ؟ أيكون منكم ذلك السؤال وهو «أنى هذا» ، لأن «أنى» معناها استنكار أنَّ هَذَا يحدث أي من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ونحن نقاتل في سبيل الله وفينا النبي والوحي وهم مشركون ونقول لكم: وهل كنتم على مستوى الإيمان المطلوب؟ إن مستوى الإيمان المطلوب يقتضي منكم أن تنفذوا ما قاله الرسول، وأنتم لم تكونوا على هذا المستوى، الذي كنتم عليه في بدر. وساعة تسمع «أو لما» فهناك همزة الاستفهام ثم «واو عطف» ، «أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا» ، و «لما» هنا هي الحينية، فماذا يكون المعنى، لقد آمنتم بالله إلها وآمنتم بالرسول مبلغا، أحين تصيبكم مصيبة قد أصبتم مثليها تقولون أنى هذا؟ كان المنطق ألا تسألوا هذا السؤال أبدا لأنكم آمنتم بإله عادل له سنن لا تتبدل ولا تتحول. أكان يترك السنن من أجلكم!؟ {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62] وفي موقع آخر من القرآن يقول سبحانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1861 {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] فلو أنكم استحضرتم الإيمان بالإله الذي أطلق السنن في الكون ليسوس به أمر ملكه بما يحقق أمر المصلحة لما قلتم هذا وما دمتم قد آمنتم بأن الإله هو الذي صنع تلك السنن فكان الواجب عليكم أن تعلموا أن الإله لن يجاملكم بإبطال سننه من أجل أنكم نُسبتم إليه أولا بأنكم مسلمون، فإنكم إن خالفتم فسنن الله واقعة، وكان يجب أن تفهموا هذا الأمر، وكان يجب ألا تسألوا هذا السؤال، وقد آمنتم بالله إلها له سنن، وآمنتم بالرسول المبلغ عن الله. أحين تصيبكم مصيبة مع هذا الإيمان قد أصبتم مثليها، وتقولون: أنى هذا؟ أنتم حدث منكم أنكم أصبتم خصومكم، وياليتكم أصبتموهم بمثل ما أصابوكم به بل أنتم مثليها، كان يجب أن تعرضوا عملكم على الموازين الإيمانية؛ فإن عرضتموه على الموازين الإيمانية لم سألتم هذا السؤال: «أنى هذا» . . وساعة تسمع «أنى هذا» فلها معنيان: إما أنها تأتي بمعنى (كيف يحدث هذا) ؟ وإما بمعنى (من أين يحدث هذا) ؟ فإن كانت لأعيان وتحب أن تعرف، مثلما أحب سيدنا زكريا أن يعرف: من أين يأتي الرزق لسيدتنا مريم وهي في المحراب: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1862 أي من أين؟ وتأتي مرة أخرى بمعنى «كيف» : {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259] أي كيف يحيي؟ إذن فمرة تكون بمعنى «من أين» ، ومرة تكون بمعنى «كيف» ، والذين دخلوا معركة أحُد كانوا ينكرون ويستعجلون لعدم انتصارهم. . فأوضح لهم الحق: لو كنتم مستحضرين قضية الإيمان بإله عادل وضع في كونه سننا وهو لن يغير سننه ولن يحولها من أجلكم أنتم، إن عليكم أن تعرفوا أن الله لا يتغير من أجل أحد، ولكن يجب أن تتغيروا أنتم من أجل الله. {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} : و «لما» يعني: حين، واسمها: «لما الحينية» و «لما» تكون أيضا من أدوات وعوامل الجزم مثل: لَمْ و «لم» تنفي، و «لمَّا» أيضا تنفي مثل قوله الحق: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] أي أن الإيمان لم يدخل قلوبكم بعد. إنما من الجائز أنه قد يدخل بعد ذلك، هذه اسمها «لَما» الجازمة. وهناك «لما» الشرطية مثل قولنا: لما يقوم زيد يحرث كذا، وهذه فيها شرط، وفيها الزمن أي حين يقوم يحدث كذا، مثل قوله الحق: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} [الصافات: 103 - 105] أي حين أسلم وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أي ناديناه، والواو هنا مقحمة مثلما في قوله تعالى: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} أي قال لهم. ومعنى مقحمة. . جيء بها للتوكيد والتقوية أو جاءت الواو هنا لتفيد أن نداء الله لسيدنا إبراهيم جاء مصاحبا لإلقاء ابنه إسماعيل على وجهه ليذبحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1863 ف «لمّا» هذه وفي الآية التي نحن بصددها هي «لما الحينية» ، أحين تصيبكم أي: أوقت تصيبكم مصيبة قد أصبتم مثليها «قلتم أنى هذا» كان يجب أن تقارنوا لماذا أصَبْتُم في بدر مِنْ عدوكم ضعف ما أصاب منكم، ولماذا أصاب عدوكم منكم يوم أُحُدٍ هذا؟ كان يجب أن تسألوا أنفسكم هذا السؤال؛ لأن الميزان منصوب وموضوع، وما دمتم تغافلتم عن هذا فسيأتي لكم الرد. . قل يا محمد لهم رداً على هذا: {هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} . لقد خالفتم عن أمر الرسول، وما دمتم خالفتم عن أمر الرسول، فلا بد أن يحدث هذا بمقتضى إيمانكم بإله له سنن لا تتحول ولا تتبدل. {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} . وبعد ذلك تذيل الآية بقوله سبحانه: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . فما موضعها هنا؟ موضعها أنه ما دامت لله سنن، وسنن الله لا تتبدل، والله موصوف بالقدرة الفريدة له فلن يأتي إله آخر ويقول: نبطل هذه السنن. وما دام لا يوجد إله آخر يقول ذلك فهو سبحانه قدير على كل شيء، وهو قدير على أن تظل سننه دائمة، ولا توجد قوة تزحزح هذه القضية؛ لأن السنن وضعها الله. فمن الذي يغيرها؟ إنها لن تتغير إلا بقوة أعلى ومعاذ الله أن تكون هناك قوة أعلى من قوة الله؛ لذلك يوضح سبحانه: أنا قدير على كل شيء وقدير على أن أصون سنني في الكون، فلا تتخلف ولا توجد قوة أخرى تُحوِّل هذه السنن أو تبدلها. ولا تظنوا أن ما أصابكم جاء فقط لأن السنن لا تتغير، لا، فهذا قد حدث بإذن من الله، فالله أوضح للكون: من يخالف أمري أفعل فيه كذا. إذن فالكون لم يحدث فيه شيء دون علم الله وإذنه. ويقول الحق بعد ذلك: {وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1864 أي أنه سبحانه قد جمع المؤمنين وجمع الكافرين في أحُد بإذن منه وبعلمه والنتيجة معروفة عنده، وأنه سيحدث منكم كذا وكذا، إذن فهذا أمرٌ معلوم، أو {بِإِذْنِ الله} أي في السنن التي لا تتخلف، فالمسألة لم تأت بغير علم الله، لا. لقد جاءت بإذن الله ولا تتخلف - تطبيقا - عن أَحَدٍ من خلقه أبداً مهما كانت منزلته. {وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله وَلِيَعْلَمَ المؤمنين} ساعة ترى أمراً أجراه الله ليعلم الذين نافقوا، وليعلم المؤمنين، نعرف أن الله عالم بهم قبل أن تقع الأحداث، ولكن علمه لا يكون حجة على الغير إلا إن حدث منه بالفعل؛ لجواز أن يقول: يارب أنت حاسبتني بعلمك أن هذا سيحدث، لكن ما كنت لأفعله. فيوضح الحق: لا. أنت قد علمته لأنك فعلته وصار واقعاً منك وتقوم به الحجة عليك. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت كمعلم تقول لواحد من الطلبة: أنت راسب، فيقول لك: لا، لا بد أن تمتحنني. تقول له: أنا أعرف أنك راسب. فيقول لك: أنا لا آخذ بعلمك بل لا بد أن تمتحنني. تقول له: تعال أمتحنك. وتعطيه بعض الأسئلة فيرسب. وهنا يصير علمه برسوبه أمراً واقعاً، وهو كان يعلمه بسبق علم، لكنه الآن لا يقدر أن يجادل لأنه صار واقعا محسوساً. ويقول الحق: {وَلِيَعْلَمَ المؤمنين} ومنهم الثابت الإيمان الذي لا يتزعزع ويعلم أنه إذا أصابته مصيبة بما قدم لنفسه، هذه المصيبة تزيده إيماناً بإلهه. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1865 وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ} أي يجعلهم يظهرون وينكشفون أمام الناس، وإلا لو لم تحدث هذه الأحداث فكيف كنت تعرف المنافق؟ سيستر نفسه. لا بد إذن أن تأتي أحداث لتظهره وتفضحه، فالمنافق يراوغ؛ لذلك يأتيه الحق بأحداث ليظهر على حقيقته، وقد كان. {وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} . . وكانت المدينة مهاجمة، وإذا انتصر الكفار فسيدخلون ويسْبون ويأخذون المسلمين أسرى ويفعلون كل منكر!! فقال عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري للمنافقين: اخرجوا وقاتلوا معنا، وإن لم تخرجوا لتقاتلوا معنا. . اخرجوا لتدفعوا عن أنفسكم وعن أموالكم وعن نسائكم؛ لأنهم إذا انتصروا على المسلمين فسيدخلون ويفعلون كذا وكذا، إنه دعاهم إلى القتال على طريق إثارة الحمية والأنفة فيهم وذلك بعد أن يئس من أنهم لم يقاتلوا في سبيل الله، ولما رأى إصرارهم على عدم الخروج قال لهم عبد الله: اذهبوا أعداء الله فسيغني الله رسوله عنكم. إذن ففيه فرق بين القتال في سبيل الله وبين الدفاع عن النفس فقال {قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} . . أو ادفعوا عنا ولو بتكثير سوادنا وإظهار كثرتنا حتى يظن المشركون أن معنا أناسا كثيرين. {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} . . وعندما نتابع هذا المنطق في القصة في ذاتها نجد أن «ابن أُبَيّ» كان من رأيه أن يظل رسول الله في المدينة لماذا؟ لأنه قد ثبت بالتجربة أنه إذا جاء قوم ليغيروا على المدينة ودخلوها فأهل المدينة ينتصرون عليهم، وإذا خرج لهم أهل المدينة فهم ينهزمون. إذن فالقضية واضحة في ذهن ابن أُبَيّْ، فهو لم يرض أن يخرج لأن التجارب أثبتت له أنهم إذا خرجوا عن المدينة ليحاربوا العدو فعدوهم ينتصر عليهم، وإذا ظلوا انتصروا، إذن فهو واثق من نتيجة الخروج، ولكن ما دامت المسألة قد صدرت من رأس النفاق عبد الله بن أبيّ فأنت لا تستطيع أن تحكم أين الحق، فمن الجائز أن آثار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1866 يوم هجرة الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من مكة إلى المدينة هذه الآثار كانت باقية في نفس «ابن أبيّ» ففي ذلك اليوم الذي جاء فيه الرسول إلى المدينة كان هو اليوم الذي كان سيتوج فيه المنافق «ابن أُبَيّْ» ليكون ملكاً على المدينة، فلما جاء الرسول بهذا الحدث الكبير تغير الوضع وصار التاج من غير رأس تلبسه، فهذه قد حملها في نفسه. {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} لقد ادّعى ابن أبيّ أن الخروج من المدينة هو كإلقائه إلى التهلكة وليس قتالاً؛ لأن القتال تدخله وعندك مظنة أن تنتصر، إنما هذا إلقاء إلى تهلكة وليس قتالاً، لكن أقال: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} وهو صادق؟ إن الحق يفضحهم: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} ، فقبل ذلك كانوا في نفاق مستور، وما دام النفاق مستوراً فاللسان يقول والقلب ينكر ويجحد، فهم مذبذبون بين ذلك؛ لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، هذه المسألة جعلته قريبا من الكفر الظاهر. {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} . . إذن فالقلب عمله النية الإيمانية، واللسان قد يقول ولا يفعل ما يقول، ولذلك قلنا: إن المنافق موزع النفس، موزع الملكات، يقول بلسانه كلاما وقلبه فيه إنكار، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم غشاشون، ونفوسهم موزعة. {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} والقول ضروري بالفم؛ لأن القول يُطلق ويراد به البيان عما في النفس، فتوضيح الإنسان لما في نفسه كتابة، يعتبر قولاً - لغة - ولذلك فالذي يستحي من واحد أن يقول له كلاما فهو يكتبه له في ورقة، فساعة يكتب يكون قد قال، وهؤلاء المنافقون يقولون كلماتهم لا بوساطة كتاب بل بوساطة أفواههم، وهذا تبجح في النفاق، فلو كانوا يستحون لهمسوا به: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} إذن فاللسان لم يتفق مع القلب. فالقلب منعقد ومصر على الكفر - والعياذ بالله - واللسان يتبجح ويعلن الإيمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1867 ونعرف أن «الصدق» هو أن يوافق القول الواقع، والواقع في القضية الإيمانية نية في القلب وحركة تُثبت الإيمان، أما المنافقون فلسانهم لا يوافق قلبهم، فلما كان ما في القلب مستورا ثم ظهر إلى الجوارح انكشفوا. وهذا هو السبب في أنهم كانوا أقرب إلى الكفر، {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وهذا لون من نقص التصوير الإيماني في القلب، كأنهم يعاملون الله كما يعاملون البشر مثلهم. وبعد ذلك يقول الحق: {الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1868 فعندما أراد ابن أُبَيٍّ أن يخذل الجيش، وافقه بعض المنافقين ولم يوافقه البعض. هؤلاء الذين خرجوا للقتال والجهاد ولم يوافقوهم ثم قتلوا فرحوا فيهم، وقالوا: لو كانوا أطاعونا ومكثوا في المدينة ولم يخرجوا لما انهزموا ولما قتلوا، وكأن الحق يوضح لنا أسلوبهم؛ لذلك سنأخذهم من منطقهم. . هم قعدوا وقالوا عن إخوانهم الذين قُتلوا في المعركة والذين هم من جماعتهم: {لَوْ أَطَاعُونَا} كأن قولا صدر منهم: «أن اقعدوا» ولكن القوم الآخرين الذين هم أقل نفاقا. لم يطاوعوهم وخرجوا، فحدث لهم ما حدث. فكيف يرد الله على هذه؟ انظروا إلى الرد الجميل: أنتم تقولون: {لَوْ أَطَاعُونَا} ، فكأن طاعتكم كانت وسيلة لسلامتهم من القتل. إذن فأنتم تعرفون طريق السلامة من القتل. والذي يعرف طريق السلامة من القتل هل يعرف طريق السلامة من الموت؟ ولذلك يقول الحق سخرية بهم: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وفي ذلك رد عليهم من كلامهم {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1868 وما دمتم تعرفون وسيلة للسلامة من القتل فاستعملوا هذه الوسيلة في أن تدفعوا عن أنفسكم الموت. وأنتم مع المتقدمين منكم والحاضرين تموتون ولا تستطيعون رد الموت عنكم، إذن فأنتم لا تعرفون طريق السلامة من الموت؛ فكم من مُحارب عاد من الحرب سليما، وكم من هَارب من القتال قد مات وانتهى، وهَبْ أن بعضا من المؤمنين المقاتلين قد قُتل، إن الذي قُتل في المعركة ليس أهون على الله ممن سلم من المعركة، هؤلاء أحب إلى الله وقد عجل الله لقاءهم وأنزلهم المنزل المقرب عنده. ونعرف أن الحدث إنما يُحمد ويُذم بالنسبة للغاية منه، فكل حدث يُقربك من الغاية يكون محموداً، وكل حدث يُبعِدك عن الغاية يكون غير محمود، فإذا كانت الغاية أن تذهب إلى الاسكندرية مثلا؛ فقد تذهب إليها ماشيا فتحتاج إلى عدة أيام، وقد تذهب إليها راكبا دابة فتحتاج إلى زمن أقل، أو تذهب إليها راكبا عربة فيقل الزمن لساعات، أو تذهب إليها راكبا طائرة فتصلها في نصف الساعة، فكلما كانت الوسيلة قوية كان الزمن قليلا؛ لأننا نعلم أن القوة الفاعلة في النقلة تتناسب مع الزمن تناسبا عكسيا. وكلما زادت القوة قل الزمن، وما دامت غايتي أن أذهب إلى الاسكندرية. فالذي يُعجل لي الزمن ويقلله لأذهب إليها أفضل أم لا؟ إنها الوسيلة الأفضل. فما دامت الغاية أن تذهب إلى لقاء الله وأن تعيش في جواره ومعيته، فحين يُعجل الله ببعضنا فيأخذهم من أقصر طريق فهذا أفضل بالنسبة لهم أم لا؟ هذا أفضل، وهكذا نرى أن الناس تنظر للموت نظرة حمقاء، إن موت المؤمن الحق الصادق الإيمان إنما يقربه إلى الغاية، فما الذي يُحزنني! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1869 أنتم تخافون الموت، ولكن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا بميتين، لأن حياتهم حياة موصولة؛ إن هناك فارقا كبيرا بين الموت والشهادة، فالذي يقتل شهيدا تكون حياته موصولة، ولن يمر بفترة موتنا نحن، ولنفهم أنهم أحياء عند ربهم، أي بقانونه سبحانه، فلا تُحَكّم قانونك أنت، فأنت - كما قلت - لو فتحت القبر ستجد هؤلاء القتلى مجرد أشلاء. هم عندك أشلاء وأموات في قانونك أنت. لكنهم أحياء عند ربهم يرزقون؟ فالحياة تختلف عن الموت في ماذا؟ إن الإنسان إذا زهقت روحه وفارقت جسده انقطعت حياته، في ظاهر الأمر انتهى ولم يعد ينتفع برزق ولا بأكل؛ لأن الرزق جُعل لاستبقاء الحياة إذن فلا رزق، لكن الله سبحانه يريد أن يعطينا مواصفات تؤكد أن الشهيد حي. ومن ضروريات الحياة أنه يٌرزق أي ينتفع باستبقاء الحياة، وعلينا أن نفهم أن العندية عندك غير العندية عند الله. فالشهيد حي عند ربه ويُرزق عند ربه رزقا يناسب الحياة التي أرادها له ربه. ونعلم أن الرزق هو الخاصية التي توجد للأحياء. وعندما نقرأ قول الله: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قد يقول قائل: من الجائز أنك تأخذ إنسانا وتُبقيه حيا وتعطيه طعاما وشرابا لكن أهو فرح بموقعه؟ لا. لذلك يجب أن ندرك ونعرف أن حياة الشهيد ليست في قبره ولكنها عند ربه وهو فَرِح بموقعه لذلك يقول الحق: {فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1870 والعدل يتحقق بين البشر بأن كلا منهم يموت. ولكن الفضل أن يعجل الله انقضاء الحياة في الدنيا لمن يُحبهم بالاستشهاد وينقلهم إلى رضوانه ونعيمه {فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1870 فَضْلِهِ} وليس هذا فقط، بل إننا نجد الأخوة الإيمانية قد بقيت فيهم وليست كخاصية الأحياء بل أنقى وأبقى من خاصية الأحياء، فالخاصية الإيمانية تقتضي أن يُحب المؤمن لأخيه ما يُحب لنفسه، والشهداء في حياتهم عند ربهم كذلك، مما يدل على أن الحياة التي يحياها الشهداء هي حياة نامية فيها رزق ومواجيد وفرح، وكل شهيد يعتبر أن هذا فضل من الله قد فضله به. ولذلك فالشهيد يستبشر بالذي لم يأت من بعده من إخوانه المؤمنين ويقول: يا ليتهم يأتون ليروا ما نراه. {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} : {وَيَسْتَبْشِرُونَ} من البُشرى، والبشرى هي الخبر السّار {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} ويلحقوا أي يأتوا بعدهم، فالشهداء يقولون: إنهم سيأتون لنا وما داموا سيأتون لنا فنحن نٌحب أن يكونوا معنا في النعيم والخير الذي نحيا فيه. وكل منهم يشعر بالمحبة لأخيه، لأنه يعلم قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه» . وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن فضلهم قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا من الحرب. فقال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآيات: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وما بعدها. ونعرف أن» البِشْرَ «عادة هو الفرحة، وهي تبدو عَلَى بشَرة الإنسان، فساعة يكون الإنسان فرحا، فالفرحة تظهر وتُشرق في وجهه ولذلك نُسميها» البشارة «، لأنها تصنع في وجه المُبشَّر شيئا من الفرح مما يعطيه بريقا ولمعانا وجاذبية. {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي أن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم، فهؤلاء الذين لم يستشهدوا بعد قد يخوضون معركة ما، فيقول الحق على لسان الشهداء لكل منهم: لا تخف لأنك ستذهب لخير في الحياة {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1871 وبعد ذلك يقول الحق: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1872 إن الحق سبحانه لا يضيع أجر هؤلاء الذين قاتلوا في سبيل الله، وها هو ذا سبحانه وتعالى يقول: {الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1872 انظر إلى المنزلة العالية كي تعلم أن الهزة التي حدثت في أُحُد أعادت ترتيب الذرات الإيمانية في نفوس المؤمنين. ولذلك أراد الله ألا يطول أمد الغم على مَن ندموا بسبب ما وقع منهم، وألا يطول أمد الكفار الذين فرحوا بما أُلحق بالمؤمنين من الضرر في المعركة الأخيرة، هؤلاء المشركون فرحون، وهؤلاء المسلمون في حزن؛ لأننا قلنا: ما داموا مسلمين ومؤمنين فلهم الحق، وإن قَصَّروا فعليهم عقوبة، وسبحانه قد أنزل بهم العقوبة لكن بقي لإسلامهم حق على الله؛ لأنه أجرى تلك الأقدار ليُهذب ويُمحص ويُربي، فلا يطيل أمد الغم على المؤمنين ولا يمد الفرحة للكافرين، فيأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والحالة كما تعلمون هكذا، ويؤذن مؤذنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الناس بطلب قريش قائلا: «لا يخرجن معنا إلا من حضر معنا القتال» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1872 ويخرج الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليهم بعدد لايزيد على عدد المقاتلين الذين كانوا يواجهونهم حتى لا يقال إنهم جاءوا بمددٍ إضافي، بل بالعكس، فالذين خرجوا لمطاردة الكفار هم الذين بقوا مع الرسول في أُحد، ونقص منهم من قُتل ونقص منهم أيضا كل من أثقلته جراحه. لقد كانوا أقل ممن كانوا في المعركة، وكأن الله يريد أن يبين لنا أن التمحيص قد أدى مطلوبه. هم في هذه الحالة استجابوا للرسول، كأن المسألة جاءت رد اعتبار لمن شهدوا المعركة؛ حتى لا يضعفوا أمام نفوسهم؛ وحتى لا يجعلوها زلة تطاردهم وتلاحقهم في تاريخهم الطويل، بل يعلمون أن معركة أُحد قد انتهت وعرفوا آثارها. وبمجرد أذن مؤذن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنداء السابق استجابوا جميعا، ولم يُسمح إلا لجابر بن عبد الله أن يكون إضافة لهم؛ لأنه أبدى العذر في أنه لم يكن مع القوم؛ لأن له أخوات سبعاً من البنات وأمره أبوه أن يمكث مع أخواته لرعايتهن، فسمح له رسول الله. - وكما قلنا - فإن الله أراد بكل أحداث أُحُدٍ أن يُعيد ترتيب الذرات الإيمانية، وما دامت الذرات الإيمانية قد انتظمت فقد تم إصلاح جهاز الاستقبال عن الله، وفي لحظة واحدة يستجيبون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أنهم يلاحقون الكفار، وذهبوا إلى حمراء الأسد وكان ما كان. وبعد ذلك أرسل الله لهم من جنوده من يُخَذِّلُ هؤلاء القوم الكافرين، ويقول لهم: إن محمدا قد خرج إليكم بجيش كبير. ونلحظ أن الحق سبحانه يجيء هنا بقوله: {الذين استجابوا} وهي تقابل «من خالفوا» أمر رسول الله وهم الرماة، {الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح} . لقد استجابوا وهم مُرهقون ومُتألمون ومثخنون بالجراح؛ فكل واحد منهم قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1873 ناله نصيب من إرهاق القتال، ومع ذلك استجابوا لله وللرسول، وكل منهم أصابه القَرح أو القُرح. . يعني الألم أو الجرح، {مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ} وهم قد أحسنوا في الاستجابة؛ لذلك فلهم الأجر العظيم، {أَجْرٌ عَظِيمٌ} لأن ما حدث منهم من أمر المخالفة قد أخذوا عليه العُقوبة. ويقول الحق بعد ذلك: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1874 المسألة ليست ذلك فقط، المسألة أن المنافقين راحوا يُروجون إشاعات كاذبة بأن المشركين قد اسْتَدعوا عددا جديدا من كفار مكة وذلك ليخيفوا المؤمنين، فلم يخف مؤمن واحد {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} وساعة ترى كلمة «الناس» فاعرف أن الإيمان بعيد عنها، وما داموا «أناسا» فهم يقابلون أناسا آخرين، ومن يغلب فهو يغلب بجهده وشطارته وحسن تصرفه، لكن المؤمن يقابل الكافر، والمؤمن يتلقى المدد من ربه. قيل: إن الشيطان قد يتمثل على هيئة حشد من الناس ليُرهب المؤمنين، والشيطان من عالم الجن، وعالم الجن يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، وقد أعطاه الله القدرة على أن يتشكل بما يُحب. فله أن يتشكل في إنسان، في حيوان، أو كما يريد، ولكن إذا تشكل فالصورة تحكمه لأنه ارتضى أن يخرج عن واقعه ليتشكل بهيئة أخرى، فإذا ما تشكل على هيئة إنسان، فقانون الإنسان يسري عليه، بحيث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1874 إن كان معك مسدس أو سيف أو خنجر وتمكنت منه وطعنته يموت. وهذا هو ما رحمنا من تخويفهم لنا. ولذلك تجد أن الشيطان يظهر لمحة خاطفة ثم يختفي، لأنه يخاف أن يكون الإنسان الذي أمامه واعيا بأن الصورة تحكمه، فعندما يتمثل لك بأي شكل تخنقه فيُخنق؛ لذلك يخاف من الإنسان، فلا يظهر إلا في لمحات خاطفة. ويمكن أن نفهم أيضا قول الحق: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} أن هناك بعضا من الكفار أشاعوا أن أبا سفيان وصحبه قد حشدوا حشودهم، فكلمة «جمعوا» تعطي إيحاء بأنهم جاءوا بمقاتلين آخرين، أو أن فلولهم قد تجمعت، وسواء هذا أو ذاك فهم عندما فروا فروا فلولا، لأن القوم المنهزمين لا يسيرون سيرا منتظما يجمعهم، بل يسير كل واحد منهم حسب سرعته، ويصح أن يتجمعوا ثانية، أو جاءوا بناس آخرين، ولنا أن نلحظ أن الأسلوب يحتمل كل ذلك. {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} ومثل هذا القول قد يفت في عضد المؤمنين، لكن التمحيص الإيماني قد صقل معسكر الإيمان فلم يهتموا بهذا الكلام، وهكذا أثمر الدرس الأول، لقد تعلموا أن المخالفة عن أمر الله الممثل في أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مجرد المخالفة تجعل الضعف يسرى في النفس، لكن التثبت والتمسك بأوامر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُعزز الإحساس بالقوة؛ لذلك لم يأبهوا لهذا التهديد بل قالوا: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} فلم يهتموا بالعدد وفهموا أن الإيمان يقتضي أن يقاتلوا الكافرين حتى يُعذبهم الله بأيديهم، وفي هذا درس لكل مُحارب، فعندما تحارب، فأنت إما أن تكون منصورا بإيمانك بالله وإما أن تكون على عكس ذلك: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1875 لقد فطنوا إلى أنفسهم، وتغير الترتيب الإيماني في أعماقهم، ونلمس ذلك في أن بعضا من الناس جاءوا يصدونهم ويخذلونهم، فلم يستطيعوا بل زادهم هذا القول إيمانا {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} ، لقد فطنوا إلى أن قوة الله هي التي تنصرهم والله حسبهم وكافيهم عن أي عدد من الأعداد وهو نعم الوكيل، ومعنى «الوكيل» أنني عندما أعجز عن أمر أُوَكِّلُ أحدا فهو وكيل عني، وعندما نوكل الله فيما عجزنا عنه فهو نعم الوكيل، لماذا؟ وتأتينا الإجابة: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله} ، ولقد نصروا بالرعب الذي أنزله الله في قلوب أعدائهم ولم يشتبكوا مع الكفار، فصدق قول الله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [الأنفال: 12] ويأتي الحق من بعد ذلك بما يصدق القضية: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء واتبعوا ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1876 وهذه القضية يجب أن يستشعرها كل مؤمن يتعرض لتمحيص الحق له، وعلى كل مسلم أن يتذكر تلك التجربة، تجربة أحُد، فليلة واحدة كانت هي الفارق بين يوم معركة أحُد ويوم الخروج لملاحقة الكفار في حمراء الأسد، ليلة واحدة كانت في حضانة الله وفي ذكر لتجربة التمحيص التي مر بها المؤمنون إنها قد فعلت العجب؛ لأنهم حينما طاردوا الكفار، لم يأبهوا لمحاولات الحرب النفسية التي شنها عليهم الأعداء، بل زادهم ذلك إيمانا وقالوا: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1876 إذن فقد تجردوا من نفوسهم ومن حولهم ومن قوتهم ومن عددهم ومن أي شيء إلا أن يقولوا: الله كافينا وهو نعم الوكيل لمن عجز عن إدراك بغيته. لقد عرفوا الأمر المهم، وهو أن يكون كل منهم دائما في حضانة ربه، وقد أخذ صحابة رسول الله وآل بيت رسول الله هذه الجرعة الإيمانية واستنبطوا منها الكثير في حل قضاياهم. وقول الله سبحانه: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} يُذكرنا بالإمام جعفر الصادق ابن سيدي محمد الباقر بن سيدي علي زين العابدين وكان من أفقه الناس بالقرآن، وكان من أعلمهم في استنباط أسرار الله في القرآن، إنّه كان يجد في قول الحق: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} استنباطا رائعا، فهو يتعجب لأي إنسان أدركه الخوف من أي شيء يخيف، والإنسان لا يخاف إلا أمرا يَنْقُضُ عليه رَتََابَة راحته، ويقلقه ويهدده في سلامه وأمنه واطمئنانه، ويكون لهذا الخوف مصدر معلوم، فإذا ما تعرض المؤمن لمثل هذا الخوف فعليه أن يتذكر قول الحق: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} لأنها قضية نفعت الجيش كله في معركته مع الكفار، فحين يأخذ الفرد هذه الجرعة فهو يستعيد رباطة الجأش. واشتداد القلب فلا يفر عند الفزع. وينبهنا سيدنا جعفر الصادق إلى هذه القضية لنفزع إليها عند كل ما يُخيفنا فيقول: عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} إنه بنظرته الإيمانية يتعجب لإنسان أدركه الخوف ثم لا يفزع إلى هذا القول الكريم {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} ، ثم يستنبط بإشراقاته سر هذا فيقول: لأني سمعت الله بعقبها يقول: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} وانظروا إلى قول سيدنا جعفر الصادق: «فإني سمعت الله بعقبها» هو قرأ بنفسية المؤمن الصادق، فالمؤمن حين يقرأ كلام الله إنما يستحضر أنه يسمع الله يتكلم إنه يقول: فإني سمعت الله بعقبها يقول: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} ولذلك فالحق يقول: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فأنت حين تستمع إلى القرآن فالله هو الذي يتكلم، ومن العيب أن يتكلم ربك في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1877 أذنك ثم تشغل عنه وهو ربك، إذن فعلاج الخوف هو أن تقول من قلبك: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} وأن تقولها بحقّها، فإن قلتها بحقها كفاك الله شرّ ذلك الخوف، لأن الله يقول بعد {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} : {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} انظر إلى النعمة والفضل، إنهما من الله، وقد تصيبك النعمة والفضل ولكن تقدر ذلك في أخريات الأمور، فأوضح الله أن النعمة زادت في أنها غنيمة باردة، ولم يحدث فيها أن مسّنا سوء، إن ذلك هو قمة العطاء ورأسه وسنامه، فإذا قدرته في أخريات الأمور فقد أخطأت التقدير {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} ونتيجة لتلك التجربة النافعة هي أن {اتبعوا رِضْوَانَ الله} ، وقد نجحت التجربة مع المؤمنين. ويقول الإمام جعفر الصادق ليكمل العلاج لجوانب النفس البشرية، ويصف الدواء فالنفس البشرية يفزعها ويقلقها ويجعلها مضطربة أن تخاف شرًّا يقع عليها، وعلاج هذا: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} ، ويضيف: وعجبت لمن اغتمّ ولم يفزع إلى قول الحق سبحانه: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] و «الغمّ» قلق في النفس، ولكنك لا تدرك أسبابه، فأسبابه مُعقدّة، صدر يضيق، ولذلك تقول: أنا صدري ضيق، أنا متعب ولا أدري لماذا؟ أي لم يمرّ بك الآن أشياء تستوجب هذا، إنما قد تكون حصيلة تفاعلات لأحداث وأمور أنت لا تتذكرها الآن، هذا اسمه «غمّ» ، فإذا ما فزع العبد إلى قول الحق سبحانه: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فالعبد يقرّ بذنبه ويقول: هذا الغمّ لم يأتني إلا لأنني خرجت عن المنهج، ويذكرنا سيدنا جعفر الصادق بأنه سمع بعدها قول الله: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88] والذي قال ذلك هو سيدنا يونس {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1878 وهذه الاستجابة من الله ليست خاصّية كانت ليونس عليه السلام، لأنه سبحانه قال: {وكذلك نُنجِي المؤمنين} أي أنه باب واسع أدخل الله فيه كل المؤمنين، ويضيف سيدنا جعفر الصادق: وعجبت لمن مُكر به ولم يفزع إلى قول الله: {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} [غافر: 44] فإني سمعت الله بعقبها يقول: {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} . ومُكر به معناها بيّت له الشر بحيث يخفى، لأن المكر هو: تبييت من خصمك لشرّ يصيبك، بينما أنت تقف يجانب الحق، فيكون هذا المكر شراً يُبيِّت لخير وحق، وهذا هو المكر السّيء، ويقابله مكر حَسن، ولذلك يقول الحق: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] إذن فهناك مكرٌ ليس بسيء، كأن يُبيت صاحب الحق لصاحب الشرّ تبييتا يخفى عليه، هذا اسمه مكر خير؛ لأنه محاربة لشرٍّ؛ ولذلك يوضح لنا الله هذا الأمر: افطنوا إلى هذه، فإن كانوا يمكرون ويُبيِّتون، فهم إن بيّتوا على الخلق جميعاً لا يُبيِّتون على الله لأنه سبحانه العليم، الخالق، المُربّي، وإن يُبيّت الله لهم فلن يستطيعوا كشف هذا التبييت، إذن فالله خير الماكرين؛ لأن تبييتهم مكشوف أمام الخالق؛ لذلك فهو مكر ضعيف، أما المكر الحقيقي فهو الذي لا توجد وسيلة تعرفه بها. ونواصل مع سيدنا جعفر الصادق قوله في علاج النفس البشرية فيقول: وعجبت لمن طلب الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قول الله: {مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} [الكهف: 39] فإني سمعت الله يعقبها بقوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1879 {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} [الكهف: 39 - 40] واستنبط سيدنا جعفر الصادق ذلك من حكاية صاحب الجنة: {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} [الكهف: 39 - 40] إنك حين تقول: {مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} فإن الدنيا تأتيك مهرولة، لأنك جرّدت نفسك من حولك، ومن قوة حيلتك وأسبابك، وتركت الأمر لله سبحانه وتعالى القادر على كل عطاء. إذن فالجوانب البشرية في النفس: هي خوف له علاج ووَصْفَة، وهمٌّ له علاج ووصفة، ومكر بك له علاج ووصفة، وطلب دنيا وسعادة لها علاج ووَصْفَة، والوصْفة التي نحن بصددها هنا: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} . والنعمة أن يعطيك الله على قدر عملك، والفضل من الله هو أن يزيدك عطاء، ولم يمسس السوء أحداً من المؤمنين الذين طاردوا المقاتلين من قريش، وكان من نتيجة ذلك أنهم جمعوا بين كل ما وهبه الله لهم؛ من نعمة وفضل مع اتباعهم رضوان الله؛ فقد صارت المسألة بالنسبة لهم تجربة مُحسّة ومُجرّبة {واتبعوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} . لقد حاول المنافقون أن يثبطوا المؤمنين عن لقاء كفّار قريش، فيريد الحق أن يكشفهم، ويظهر الدافع إلى مثل ذلك الموقف من المنافقين؛ لذلك قالوا للمؤمنين: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} ويظهر الله للمؤمنين حقيقة موقف المنافقين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1880 {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1881 إنها صرخة الشيطان الذي يخوِّف أولياءه، ويَصحُّ أن يصرخ الشيطان صرخته وهو يتمثل في صورة بشر، ويصح أن ينزغ الشيطان بصرخته لواحد من البشر فيصرخُ هذا الإنسان بنزغ الشيطان له {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} . وعندما نقرأ القرآن بدقة صفائية إيمانية فلا بد أن نفهم عن القرآن بعمق، فمن هم أولياء الشيطان؟ أولياء الشيطان في هذا الموقف، إما كفّار قريش، وإما المنافقون أو هما معا. و {أَوْلِيَاءَهُ} هم أحبابه الذين ينصرون فكرته. كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يُبلّغنا: إنما ذلكم الشيطان الذي قال: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، هذا الشيطان إنما يخوف أولياءه. وللوهلة الأولى نجد أن الشيطان مُفترض فيه أن يخوّف أعداءه. ونحن هنا أمام شيطان ينزغ بعبارة التخويف، فمن الذي يخاف وممن يخاف؟ المفروض أن يُخيف الشيطانُ أعداءه، هذا هو المنطق. فنحن في حياتنا العادية نقول: خوّفت فلاناً من فلان، أو خوفت فلاناً فلاناً إذن فالشيطان يحاول هنا أن يتسلط على المؤمنين ويخوفهم من أوليائه الكفار والمنافقين، ونعرف في اللغة أن هناك في بعض المواقف يمكننا أن نحذف حرف الجر ونصل الجملة، ونُسمّيه «مفعولاً منه» . مثال ذلك قول الحق: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} [الأعراف: 155] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1881 فموسى عليه السلام اختار من قومه سبعين رجلاً. وعلى ذلك نقرأ قول الحق: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ونفهم منها؛ أن ذلكم الشيطان يخوِّفكم أنتم من أوليائه، لأن حرف الجر في الآية الكريمة محذوف، ويعاضد هذا ويقويه قراءة ابن عباس وابن مسعود: يخوفكم أولياءه، وينبه الحق المؤمنين ألاّ يخافوا من أولياء الشيطان فيقول: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} . وهذا يوضح لنا أن الشيطان إنما أراد أن يُخوّف المؤمنين من أوليائه وهم المنافقون والكافرون. وبعض المفسرين قال: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} المقصود بهم أن الشيطان يخوّف أولياءه حتى يَجبنوا من القتال، فنزغ فيهم أنهم إن خرجوا للقتال فقد يموتون ولكن إن جاز ذلك القول على المنافقين الذين لم يخرجوا مع الرسول لملاقاة المشركين فكيف يجوز ذلك على الصنف الثاني من أوليائه وهم الكفار؟ إن الكفار قد خرجوا فعلا لقتال المؤمنين. ونفهم من قول الحق: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} أن أولياء الشيطان ليسوا هم الخائفين ولكنهم هم المخوِّفون: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} . فالحق سبحانه يطلب من المؤمنين أن يصنعوا معادلة ومقارنة، أيخافون أولياء الشيطان، أم يخافون الله؟ ولا بد أن يصلوا إلى الخوف من الله القادر على دحر أولياء الشيطان. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1882 لقد كان المنافقون في أول المعركة مُختفين ومستورين، ثم ظهرت منهم بادرة الانخذال في أُحُد فكانوا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، ولكنهم من بعد ذلك سارعوا إلى الكفر، فكأن هناك من يلاحقهم بسوط ليتسابقوا إلى الكفر. وها هو ذا الحق سبحانه قد حدّد عناصر المعركة، أو قوى المعركة، أو ميدان المعركة أو جنود المعركة فينبه رسوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} ولم يقل: لن يضروكم شيئا؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحابته المؤمنين ليسوا طرفاً في المسألة، فعداء الذين يسارعون في الكفر هو عداء لله؛ لذلك يقول الحق: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} . كأن المعركة ليست مع المؤمنين. ولكنها معركة الكافرين مع الله، وما دامت المعركة مع الله فالمؤمنون جند الله؛ وهم الصورة التي أرادها الله لهزيمة الكافرين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] فلو كانت معركة الكفر مع المؤمنين بالله فقط لقال الله: ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروكم شيئا، لكن المسألة ليست هكذا، لقد أراد معسكر الكفر والنفاق أن يدخل معركة مع الله، ولا توجد قوة قادرة على ذلك، ولهذا يطمئن الله المؤمنين أكثر، ليزدادوا ثباتاً على الإيمان؛ لأن الكل من البشر مؤمنين وكفاراً أغيار، وقد يتحول بعض من البشر المؤمنين الأغيار عن المنهج قليلاً، فعندما تكون المعركة بين بشر وبشر فقد يغلب أحد الطرفين بقوته. ومن أجل المزيد من الاطمئنان الكامل نقل الله المعركة مع الكفر إلى مسألة أخرى، إنه بجلاله وكماله وجبروته هو الذي يقف ضد معسكر الكفار. والمهم فقط أن يظل المؤمنون في حضانة الله. والرسول كان يحزنه أن يُسارع البعض إلى الكفر. فهل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يعلم أنه إنما جاء مٌبلّغًا فقط؟ . إنه يعلم ولكنه كان يحرص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أن يؤمن الناس جميعاً ليذوقوا حلاوة ما جاء به، هذا الحرص هو الذي يدفع الحُزن إلى قلب الرسول، وعندما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1883 يرى واحداً لا يتذوق حلاوة المنهج، فالرسول يأمل أن يذوق الناس كلهم حلاوة الإيمان؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رءوف رحيم بالمؤمنين، بل وبالناس جميعا {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ودليل ذلك أن جاءه التخيير. «فقد نادى جبريل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:» إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال: يا محمد، إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا» «. فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يبقى على هؤلاء فقط ولكنه يحرص أيضاً على الأجيال القادمة. وقد كان. وخرج من أولاد كفار قريش صناديد وأبطال وجنود دعوة وشهداء. فَكَان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كما أخبر الله في آيات القرآن - يحزن عندما لا يذوق أحد حلاوة الإيمان، ويقول الحق: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] وفي موقع آخر يقول الحق: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] والحق سبحانه وتعالى لا يريد أعناقاً، لكنه يريد قلوباً تأتي له بعامل الاختيار والمحبة، فباستطاعته وهو الخالق الأكرم أن يخلق البشر على هيئة غير قابلة للمعصية، كما خلق الملائكة، إن كل الأجناس تٌسبّح بحمده، إذن فالقرآن يُبيّن حِرصَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يؤمن الناس جميعاً وأن يذوقوا حلاوة اللقاء بربهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1884 واتّباع منهج الله وحلاوة التشريع الذي يُسعدهم ويُسعد كل ملكاتهم. فإذا ما جاءت المسائل على غير ما يُحبُّ رسول الله. فها هو ذا قول الله سبحانه: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} . وهذا دليل على أن الله يريد أن يُبلّغ البشر: أيها الناس إن من فَرْط حُبّ الرسول لكم أنه يحزن من أجل عِصيانكم وأنا الذي أقول له: لا تحزن. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رحيم بالأمة كلّها، كما يقول القرآن: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ويكفيه موقفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم القيامة، حين تذهب كل أمة إلى رسولها ليردّها، فتأتي الأمم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيُكرمه الله بقبول شفاعته حتى يُعجل الله بالفصل والحساب، وهذه رحمة للعالمين؛ لأنهم من هول الموقف يتمنون الانصراف ولو إلى النار. ونحن قلنا سابقا: إن الحق سبحانه وتعالى علم انشغال سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمته وبرحمته بهم، فقال له الله - ليريح عواطفه ومواجيده - ما ورد هنا في الحديث الشريف: فعن عبد الله ابن عمر بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قول الله عَزَّ وَجَلَّ في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} . وقول عيسى - عليه السلام - {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} . «فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فسأله، فأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1885 اذهب إلى محمد فقل: (إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك) » ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - له موقف آخر يدل على كمال رحمته بأمته، فقد أنزل الله فيما أنزل من القرآن الكريم - بعد فترة الوحي - قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} . انظروا إلى ما ورد عن سيدنا علي في هذه الآية، فقد روِيَ أنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال لأهل العراق: إنكم تقولون: إن أرجى آية في كتاب الله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} . قالوا: إنا نقول ذلك قال: ولكنّا - أهل البيت - نقول: إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} . وفي الحديث لما نزلت هذه الآية قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار) . كما روى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «لكل نبيّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبيّ دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة» . وهكذا نرى شغل رسول الله بأمته كأمر واضح موجود في بؤرة شعوره. إذن فقول الله: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} هو توضيح من الله لرسوله بأنهم لم يسارعوا في الكفر تقصيراً منك، فأنت قد أديت واجبك، ويضيف سبحانه: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} ولم يقل سبحانه: إنهم لن يضروك، أو لن يضروا المؤمنين، لا بل لقد جعل سبحانه وتعالى المعركة معه وهو القوى ذو الجبروت إنّه هنا يطمئن المؤمنين. ويريد الله ألا يجعل للذين يسارعون إلى الكفر حظاً في الآخرة فيقول: {يُرِيدُ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1886 أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وما دامت هذه إرادات الله في ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة، أيكون لهم عمل يصادم مرادات ربهم؟ لا. إنه سبحانه يريد بما شرّع من منهج أن تأتيهم سُنّته، والله يعذّب من يخالف سُنته التي شرعها. لأنه جلت قدرته يطلب من المكلفين أن يطبقوا سنته التي شرعها لهم. وفرق بين وجود «لام العاقبة» التي تأتي حين يكون في مُراد العبد شيء، ولكن القُدرة الأعلى تريد شيئاً آخر، وهي تختلف عن «لام الإرادة» والتعليل ف «لام الإرادة والتعليل» تتضح في قولنا: ذاكر التلميذ لينجح، لأن علّة المذاكرة هي الرغبة في النجاح، أما «لام العاقبة» فتتضح عندما يقول الأب لابنه: أنا دللتك لترسب آخر العام. أدللّ الأب ابنه حتى يرسب؟ لا، ولكن الأب يأتي هنا ب «لام العاقبة» أي كان للأب مراد، ولكن قدرة أعلى جاءت على خلاف المراد. ونوضح المسألة أكثر، فالحق يقول في قصة سيدنا موسى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] ونحن لا بد أن نتنبه إلى قول الحق: {فَأَلْقِيهِ فِي اليم} والإنسان العادي لو قال لامرأة تحمل رضيعها: إن خفت على ابنك فألقيه في البحر. هذه المرأة لن تُصدّق هذا القائل، لكن أم موسى تلقت هذا الوحي من الله، والتّلقّي من الله لا يُصادمه فكر شيطان ولا فكر بشر، فالإلهام من الله يتجلّى في قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} . وما دام الله هو الذي ألهمها، فإن خاطر الشيطان لا يجيء. ولذلك قامت أم موسى بتنفيذ أمر الله. ويطمئنها الله فقال لها: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1887 وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} . ويُنبّه سُبحانه أم موسى أنه لن يردّه إليها لمجرد أنه قرة عين، ولكن لأن لموسى أيضاً مُهمّة مع الله. وفي لقطة أخرى يقول الحق عن مسألة الوحي لأم موسى: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 38 - 39] والحق هنا في هذه اللقطة يصف وقت تنفيذ العملية التي أوحى بها، ففيه فرق بين التمهيد للعملية قبل أن تقع كما حدث في اللقطة السابقة حيث قال لها الحق: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} . كان ذلك هو الإعداد، ثم جاء وقت التنفيذ، فقال الحق لموسى: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى} . إنها سلسلة من الأوامر المتلاحقة التي تدل على أن هذه العملية كانت في وقت أخذ جنود فرعون لأطفال بني إسرائيل ليقتلوهم، إنه سبحانه يبين لنا أن جنود الله من الجمادات التي لا تعي تلقت الأمر الإلهي بأن تصون موسى، فكلمة «اقذفيه» تدل على السرعة، وتلقّي «اليم» الأمر من الله بأن موسى عندما يُلقى في البحر، فلا بد أن يلقيه إلى الساحل. {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} إنها أوامر للمُسخّر من المخلوقات التي لا تعصى. لكن كيف تكون أوامر الحق لعدو لله؟ إن الله يدخلها كخاطر مُلحّ في رأس فرعون ليُنفّذ مُراد الله. إن امرأة فرعون تقول له ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] لقد دخل أمر الله كخاطر، والتقطه آل فرعون لا ليكون قرة عين لامرأة فرعون، ولكن لأمر مختلف أراده الله. فهل ساعة الالتقاط كان في بالهم أن يكون موسى عدوّاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1888 أو قرة عين؟ إنها «لام العاقبة» التي تتضح في قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} . فالإنسان يكون في مُراده شيء، ولكن القدرة الأعلى من الإنسان - وهو الله - تريد شيئاً آخر. الإنسان في تخطيطه أن يقوم بالعملية لكذا، ولكن القوة الأعلى من الإنسان تريد العملية لهدفٍ آخر، وهي التي أوحت للإنسان أن يقوم بهذه العملية. ويتجلّى ذلك بوضوح في العلة لالتقاط آل فرعون لموسى. كان فرعون يريده قٌرّة عين له، ولكن الله أراده أن يكون عدوّاً لفرعون. وفي هذا المثال توضيح شامل للفرق بين «لام العاقبة» و «لام الإرادة والتعليل» وعندما نرى أحداثاًَ مثل هذه الأحداث فلا نقول: «هذا مراد الله» ولكن فلنقل: (العاقبة فيما فعلوا وأحدثوا خلاف ما خططوا) . وبعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان ... .} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1889 إنهم لن يضروا الرسول وصحابته لأنهم في معيّة الله وهم لن يضروا الله، وفي ذلك طمأنة للمُؤمنين، كأن الحق سبحانه وتعالى يقول: أيها المؤمنون بي المصدّقون بمحمد إن المعركة مع الكفر ليست معركة المؤمنين مع الكافرين، ولكنها معركة ربكم مع هؤلاء الكافرين وفي هذا اطمئنان كبير. {إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} ، و «الاشتراء» صفقة، والصفقة تقتضي «ثمناً» و «مُثمناً» . و «الثمن» هنا هو الإيمان، لأن الباء تدخل على المتروك، و «المثمَن» هو الكفر لأنه هو المأخوذ. فهل أخذوا الكفر ودفعوا الإيمان ثمناً له؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1889 وهل معنى ذلك أن الإيمان كان موجوداً لديهم؟ نعم كان عندهم الإيمان؛ لأن الإيمان القديم هو إيمان الفطرة وإيمان العهد القديم الذي أخذه الله على الذّر قبل أن توجد في الذّر الأغيار والأهواء: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] أو على الأقل كان الإيمان والكفر في متناولهم؛ بانضباط قانون الاختيار في النفس البشرية، لكنهم أخذوا الكفر بدل الإيمان. والبدلية واضحة، فقد استبدلوا الكفر بالإيمان، فالباء - كما قلت - دخلت على المتروك. لقد تركوا الإيمان القديم وهو إيمان الذّر، أو تركوا إيمان الفطرة فالحديث الشريف يقول: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه» . لقد انسلوا من الإيمان، ودفهوه ثمنا للكفر، فعندما يأخذ واحد الكفر، فهو قد أخذ الكفر بدلاً من الإيمان وهم {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لماذا؟ لأننا إن افترضنا أن الدنيا كلها قد آمنت فهذا لن يفيد الله في شيء. والحديث القدسي يقول: قال الله تعالى: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكُم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1890 أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخْيَطُ إذا أُدْخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» . إذن، فلا الإيمان من البشر يزيد الله شيئاً، ولا الكفر ينقص من الله شيئاً؛ لأن الإنسان قد طرأ على ملك الله، ولم يأت الإنسان في ملك الله بشيء زائد، فالإنسان صنعة الله وخلقه من عناصر ملكه - جلت قدرته - ويستمر الحديث في توضيح أنَّ الحق سبحانه لا يعالج شيئاً بيديه فيأخذ منه زمناً. لا، إنه سبحانه جلّت مشيئته يقول للشيء: كُن؛ فيكون. وكلمة «كُن» نفسها هي أقصر أمر. إنّ أمره ألطف وأدق من أن يدركه على حقيقته مخلوق. لكن الحق يأتي لنا بالصورة الخفيفة التي تجعل بشريتنا تفهم الأمر. فالذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضرّو الله شيئاً ولهم عذاب أليم. فهم لن يعيشوا بِنَجْوَةٍ وبُعد عن العذاب، بل سيكون لهم العذاب الأليم. ونحن نجد أن الحق يقول مرة في وصف مثوى الكافرين إنه عذاب أليم، ومرة أخرى لهم عذاب عظيم ومرة عذاب مهين، لماذا؟ لأن العذاب له جهات متعددة، فقد يُوجد عذابٌ مؤلم، ولكن المُعَّذب يتجلد أمام من يُعذبّه ويُظهر أنه ما زال يملك بقيّة من جَلَد، إنه يتألم لكنه يستكبر على الألم، ولذلك قال الشاعر: وتجلّدي للشامتين أُريهمو ... أني لِرَيْب الدهر لا أتضعضعُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1891 فالتجلّد هو نوع من الكبرياء على الواقع. ولذلك يأتي من بعد ذلك قوله الحق إن لأمثال هؤلاء عذاباً مهيناً، أي إنهم سيذوقون الذّل والألم، ولا أحد فيهم يستطيع التجلد. وهذا النوع من العذاب لا يقف فقط عند حدود الألم العادي، ولكنه عذاب عظيم في كمّيته وقدره، وأليم في وقعه. ومهين في إذلال ودكّ النفس البشرية وغُرورها؛ لذلك فعندما نجد أن العذاب الذي أعده الله للكافرين موصوف بأنه «عذاب أليم» ومرة «عذاب عظيم» ومرة «عذاب مهين» فلنعرف أن لكل واحدة معنى، فليست المسألة عبارات تقال هكذا بدون معنى مقصود. وأريد أن أقف هنا في هذا الحديث عند «لام العاقبة» لأن البعض يحاول أن يخلق منها إشكالات إنّ هؤلاء المتربصين لكلام الله يحاولون النيل منه، وهم لا يبحثون إلا فيما يتوهّمون - جهلاً - أنه نقاط ضعف، وهو سبحانه وتعالى يقول عن الكفار والعياذ بالله وهم في النار: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون: 107 - 110] لقد انشغل الكفار بالسّخرية من أهل الإيمان بإشارات أو لمزٍ وغمزٍ أو اتهام بالرجعية أو الدروشة أو مثل ذلك من ألوان السّخرية، لدرجة أنهم نسوا مسألة الإيمان، فما الذي أنساهم ذكر الله؟ لقد أنساهم ذكر الله انشغالهم بالسّخرية من أهل الإيمان. لقد قضى الكفار وقتهم كله للسّخرية من أهل الإيمان حتى نسوا ولم يتذكروا أن هناك خالقا للكون. وهذا ما يسمى «غاية العاقبة» وليست غاية وعلة للإرادة، لأنهم لم يريدوا نسيان ذكر الله ولكن أمرهم انتهى إلى ذلك. وسيُعذّب الله الكافرين عذاباً أليماً وعظيماً ومُهيناً. ولكل وصف مراده في النص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1892 حتى يستوعب كل حالات الإهانة من إيلام، فالذي لا يألم بشيء صغير ولا يتحمل الألم القوي سيجد الألم الكبير، وكذلك الذي يتجلد على الألم العظيم، سيجد الألم المهين. ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1893 وعندما نسمع قول الله: «ولا يحسبن» فهو نهي، وقد نهى الله الكافرين عن ماذا؟ إن الكافر عندما يجد نفسه قد أفلت في المعركة من سيف المؤمنين وأن عمره قد طال في الكفر، فهو يظن أن الحق سبحانه وتعالى تركه لخير له؛ لأنه يفهم أن عمره هو أثمن شيء عنده، فما دام قد حوفظ له على عمره فهو الخير. نقول لمثل هذا الكافر: إن العمر زمن، والزمن وعاء الأحداث، إذن فالزمن لذاته لا يُمَجد إلا بالحدث الذي يقع فيه، فإن كان الحدث الذي يقع في الزمن خيراً؛ فالزمن خير. وإن كان الحدث الذي يقع في الزمن شراً، فالزمن شر وما دام هؤلاء كافرين، فلا بد أن كل حركاتهم في الوجود والأحداث التي يقومون بها هي من جنس الشر لا من جنس الخير، لأنهم يسيرون على غير منهج الله. وربما كانوا على منهج المضادة والمضارة لمنهج الله. وذلك هو الشر. إذن فالله لا يملي لهم بقصد الخير، إنما يملي الله لهم لأنهم ما داموا على الكفر فهم يشغلون أوقات أعمارهم بأحداث شرّية تخالف منهج الله. وكل حدث شرّى له عذابه وجزاؤه. إذن فإطالة العمر لهم شر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1893 والحق سبحانه يقول: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} و «يحسَبَنَّ» هي فعل مضارع، والماضي بالنسبة له هو «حسِب» - بكسر السين - ولذلك قال الحق سبحانه في موقع آخر من القرآن الكريم: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] إن الماضي هو «حَسِبَ» - بكسر السين - والمضارع «يحسَب» - بفتح السين -. أما حَسَبَ «يحسِب» - بكسر السين - في المضارع وفتحها في الماضي فهي من الحساب والعدد، وهو عدد رقمي مضبوط. أمر «حَسِبَ» و «يحسَب» فتأتي بمعنى الظن، والظن كما نعرف أمر وهمي، والحق سبحانه يذكرهم أن ظنونهم بأن بقاء حياتهم هو خير لهم ليست حقاً. بل هي حدس وتخمين لا يرقى إلى اليقين. صحيح أن العمر محسوب بالسنوات؛ لأن العمر طرف للأحداث، والعمر بذاته - مجرداً عن الأحداث - لا يقال إن إطالته خير أو شر، وإنما يقال: إن العمر خير أو شر بالأحداث التي وقعت فيه، والأحداث التي تقع من الكافر تقع على غير منهج إيماني فلا بد أن تكون شراً، حتى ولو فعل ما ظاهره أنه خير فإنه يفعله مضارة لمنهج الله. فلو كانت المسألة بالعملية الرقمية؛ لقلنا: «حسَب» و «يحسِب» - بفتح السين في الماضي وكسر السين في المضارع - لكن هي مسألة وهمية ظنية؛ لذلك نقول «يحسَب» - بفتح السين في المضارع - أي يظن. وهو سبحانه يقول: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} ما الإملاء؟ الإملاء هو تمديد الوقت وإطالته. ولذلك نجد في القرآن: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيّاً} [مريم: 46] إنه يأمر سيدنا إبراهيم أن يهجره مدة طويلة. هذا هو معنى {واهجرني مَلِيّاً} . والمقصود هنا أن إطالة أعمارهم بعد أن أفلتوا من سيوف المؤمنين. ليست خيراً لهم ولا يصح أن يظنوا أنها خير لهم، لأن الله إنما يملي لهم؛ {ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1894 عَذَابٌ مُّهِينٌ} وهنا نجد «لام العاقبة» . وإياك أن تقول أيها المؤمن: إن الله قد فعل ذلك ليعاقبهم. لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد وضع سننه في الكون ويطبقها على من يخرج على منهجه، فمن يصنع إثما يعاقبه الله عليه {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} فكل ظرف من الزمن يمر عليهم يصنعون فيه أعمالاً آثمة على غير المنهج. {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وتأتي كلمة «مهين» وصفاً للعذاب مناسبة تماماً؛ لأن الكافر قد يخرج من المعركة وقد تملكه الزهو والعجب بأن أحداً لم يستطع أن يقطع رقبته بالسيف، ويتيه بالعزة الآثمة، لذلك فالإيلام هنا لا يكفي، لأنه قد يكتم الألم ويتجلد عليه، ولكن العذاب عندما يكون مهيناً فهو العقاب المناسب لمثل هذا الموقف. والمتكلم هنا هو الله، وسبحانه العليم بالمناسب لكل حال. ومن بعد ذلك يقول الحق: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1895 وساعة نسمع «ما كان» فلنعرف أن هنا «جحوداً» أي أن هناك من يجحد القضية ويسمونها «لام الجحود» . فقبل حادثة أًحُد، كان المنافقون متداخلين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1895 مع المؤمنين. أكان الله يترك الأمر مختلطاً هكذا، ولا يُظهر المنافقين بأحداث تبين مواقعهم الحقة من الإيمان؟ لا، إنه سبحانه وتعالى لا يقبل ذلك؛ حتى لا يظل المنافقون دسيسة في صفوف المؤمنين. وكان لا بد أن تأتي الأحداث لتكشفهم. وجاءت أحداث أُحُد لتهيج الصف المنسوب إلى الإيمان، وتفرزه ليتميز الخبيث من الطيب، مصداقاً لقوله الحق: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17] إذن كانت أحداث أُحُد ضرورية. وقوله الحق: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين} مقصود بها أن الله لم يكن ليدع المؤمنين ويتركهم عرضة لاختلاط المنافقين بهم بدون أن يتميز المنافقون بشيء من الأشياء، حتى لا تظل المسألة مقصورة على ما يٌعلمه الله لرسوله من أمر المنافقين. فلو علم الله رسوله فقط بأمر المنافقين، ولو أعلن الرسول ذلك للمؤمنين دون اختبار واقعي للمنافقين لكان ذلك مجرد تشخيص نظري للنفاق يأتي من جهة واحدة، وأراد الله أن تأتي حادثة واضحة وتجربة معملية واقعية تبين وتظهر الواقع، وحتى ينكشف المنافقون، وحتى لا يعترض أحد منهم عندما يوصف بأنه منافق، وحتى لا يكون هذا الوصف مجرد كلام من الخصم، بل بفعل ارتكبوه هم عملياً، وبذلك تكون الحجة قوية للغاية. لقد كان المنافقون أسبق الناس إلى الصفوف الأولى في الصلاة؛ لأن كل منافق منهم أراد أن يَحبك مسألة نفاقه، ويُواريه، فيحرص على ما يندفع المؤمنون إليه، والمنافق كان يعرف أن المؤمنين يتسابقون إلى الصلاة، فهو يسارع ليكون في الصف الأول من الصلاة. ويخبر الله سبحانه وتعالى رسوله: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1896 أي لولا حظت كلامهم لعرفتهم، مثلهم مثل كل المنافقين في الدنيا، تلاحظ في كلامهم لقطة من نفاق؛ فالمؤمن حين يجلس مع جماعة من المنافقين ويأتي وقت صلاة الظهر ويدعو الأذان إلى الصلاة، تجد المؤمن يقول: فلنقم إلى الصلاة وهنا يسخر المنافق ويقول للمؤمن: لتأخذني على جناحك للجنة يوم القيامة. ومثل هذه الكلمة يكون «لحن القول» . أو عندما يدخل مؤمن على جماعة من الناس فيهم منافق، فيستقبل المنافق المؤمن بلهجة من السخرية في التحية، «كيف حالك أيها الشيخ (فلان) » ؟ ومعنى ذلك أنه غير مستريح لوجود المؤمن فيسخر منه. وذلك من «لحن القول» الذي يظهر به المنافق. ومثل هذه العمليات عندما يواجهها المؤمن الواعي المستنير الذي يتجلى الله عليه بالإشراقات النورانية، مثل هذه العمليات تكون وقوداً للمؤمن وتزيد من إيمانه؛ لأن المؤمن على منهج الحق، وقادر على نفسه؟ والمنافق لا يقدر على نفسه؛ لذلك يريد أن يسحب المؤمن من عقيدته ليكون معه على النفاق والعياذ بالله. وعلى المؤمن أن يوطن نفسه على أنه سيواجه منافقين يريدون أن يردوه عن الإيمان، وسيجد أناساً يسخرون منه ويتغامزون عليه، مصداقاً لقوله الحق: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29 - 33] والمنافق أو الكافر قد يقول لأهله: لقد رأيت اليوم شيخاً أو رجل دين أو متدينا فسخرت منه وأهنته ويتندر المنافق بمثل هذا القول في بيئته الفاسدة، ويكشفها الحق لنا بقوله الكريم. ليطمئن المؤمنين، ويعوض كل مؤمن عما يصيبه من أهل النفاق والفساد: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1897 {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34 - 36] فالحق سبحانه يسأل المؤمنين يوم القيامة: هل قدرنا أن نجازي الكفار والمنافقين الذين سخروا منكم؟ فيقولون: نعم يارب العالمين قد جوزوا وأثيبوا على فعلهم أوفي الجزاء وأتمه وأكمله. إن سخرية المنافقين والكافرين من المؤمنين لها أمد دنيوي ينقضي، ولكن السخرية في الآخرة لا تنقضي أبداً. وعندما نقيسها نحن المؤمنين، نجد أننا الفائزون الرابحون إن شاء الله. فلو ترك أي منافق ليتداخل في أحضان المؤمنين، ولا يظهر ذلك للمؤمنين لكانت المسألة صعبة العلاج، ولهذا يقول الحق للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30] والحق لا يكتفي بذلك، لكنه يكشف لنا واقع المنافقين بتجارب معملية حتى لا يقول واحد منهم: لست منافقاً. وعندما يظهر الله المنافق ويكشفه بحادثة مدوية فعليه، ومخجلة تبين أنه منافق، فيكون قد وُصم بالنفاق، لأن كثيراً من الناس الذين يظلون طوال عمرهم ينافقون اعتماداً على أنهم مسلمون في الظاهر لا يتركهم الله، بل لا بد أن يأتي الله لهم بخاطر من الخواطر ويقعوا في فخ اكتشاف المؤمنين لهم حتى يعرفهم المؤمنون ويقيّموهم على حقيقتهم، فسبحانه وتعالى القائل: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} . وكلمة «يذر» تعني «يترك» أو «يدع» . والدارسون للنحو يعرفون أن هناك فعلين هما «يذر» و «يدع» ، أهملت العرب الفعل الماضي لهما، فهذان الفعلان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1898 ليس لهما فعل ماضٍ. ونستخدمها في صيغة المضارع. والحق سبحانه لم يكن ليدع المؤمنين على ما هم عليه من الاختلاط واندساس المنافقين بينهم وعدم معرفة المؤمنين للمنافقين؛ لذلك يميز ويظهر الخبيث من الطيب. فلا يكتفي بإخبار النبي بأمر الخبثاء فقط، ولكنه يكشف الخبثاء بفعل واقعي. فيقول: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} ؛ لأن الله لو أطلعكم على الغيب لتعرفوا المنافقين لأنكروا أنفسهم منكم وستروها عنكم، ولذلك يجري سبحانه الوقائع لتكشف الخبيث من الطيب، وبعد ذلك يوصم المنافق بالنفاق بإقرار نفسه وإقرار فعله. {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} . إنه جل وعلا يختار من رسله من يشاء ليطلعهم على بعض الغيب حتى يزدادوا ثقة في أن الله لا يتخلّى عنهم، أي يعطي للرسول دلالات على المنافقين، حتى يزداد الرسول ثقة في أن الله لا يتخلّى عنه. والله برحمته لا يكشف الغيب لكل المؤمنين، فلو اطلع المؤمن على الغيب لفسدت أمور كثيرة في الكون. وَهَبْ أن الله أطلع الإنسان على غيب حياته، فعرف الإنسان ألف حادثة سارة ثم حادثة واحدة مكدرة؛ فإن كدر الإنسان بالحادثة الواحدة المكدرة التي تقع بعد عشرين عاماً يفسد على الإنسان تنعمه بالأحداث السارة. وإن كان الإنسان يريد أن يطلع على غيب الناس فهل يقبل أن يطلع على غيبه أحد؟ فلماذا تريد أيها الإنسان أن تعرف غيب غيرك؟ أيرضى أي واحد منا أن يعرف الناس غيبه؟ لا. إذن فستر المعلومات عن الناس وجعلها غيباً هي نعمة كبرى. ومع ذلك فالناس تُلح أن تعرف الغيب. ونرى من يجري على الدجالين والعرافين ومن يدعون كذباً أنهم أولياء لله، وكل ذلك من أجل أن يعرف الواحد بعضاً من الغيب. وهنا نقول: ليست مهارة العارف في أن يقول لك ماذا سيحدث لك في المستقبل، لكنها في أن يقول واحد من هؤلاء المدّعين لمعرفة الغيب: إن حادثاً مكروهاً سيقع لك، وسأمنعه أو أدفعه بعيداً عنك. لا أحد يستطيع دفع قدر الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1899 ولذلك فلنترك المستقبل إلى أن يقع. لماذا؟ حتى لا يحيا الواحد منا في الهم والحزن قبل أن يقع. إذن فقول الحق: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} هو سنة من الله لأن نظام الملك ينتظم بها ويحتاج إليها. فكل إنسان له هزات مع نفسه، وقد تأتي له فترة يضعف فيها في شيء من الأشياء، فإذا ما عرف الغير منطقة الضعف في إنسان ما، وعرف هذا الإنسان منطقة الضعف في أخيه، فلسوف يبدو كل الناس في نظر بعضهم بعضا ضعافاً. ومن فضل الله أن أخفى غيب الناس عن الناس. وجعل الله إنساناً ما قوياً فيما لا نعلم، وذلك قويَّا فيما لا نعلم، وبذلك تسير حركة الحياة بانتظامها الذي أراده الله. {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} والحق يجتبي من الرسل، أي بعضاً من الرسل - لا كل الرسل - ليطلعهم على الغيب حتى يعطي لهم الأمان بأنهم موصولون بمن أرسلهم، فهو سبحانه لم يرسلهم ليتخلّى عنهم، لا، إنهم موصولون به؛ لذلك يطلعهم على الغيب، وقلنا: إن الغيب أنواع: فمطلق الغيب: هو ما غاب عنك وعن غيرك. ولكنَّ هناك غيباً غائباً عنك وهو معلوم لغيرك، وهذا ليس غيباً. مثال ذلك إن ضاعت من أحدكم حافظة نقوده، وسارقها غيب، ومكانها غيب عن صاحبها، لكن الذي سرقها عارف بمكانها، إذن فهذا غيب على المسروق، ولكنه ليس غيباً على السارق. لأنه ليس غيباً مطلقاً، وهذا ما يضحك به الدجالون على السذج من الناس، فبعض من الدجالين والمشعوذين قد يتصلون بالشيطان أو الجن؛ ويقول للمسروق حكاية ما عن الشيء الذي سُرق منه هؤلاء المشعوذون لا يعرفون الغيب؛ لأن الغيب المطلق هو الذي لا يعلمه أحد، فقد استأثر به الله لنفسه. ومثال آخر: الأشياء الابتكارية التي يكتشفها البشر في الكون، وكانت سراً ولكن الله كشف لهم تلك الأشياء، وقد يتم اكتشافها على يد كفار أيضاً. فهل قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1900 أحدٌ: إنهم عرفوا غيباً؟ لا؛ لأن لمثل هذا الغيب مقدمات، وهم بحثوا في أسرار الله، ووفقهم سبحانه أن يأخذوا بأسبابه ما داموا قد بذلوا جهداً، والله يعطي الناس - مؤمنهم وكافرهم - أسبابه. وما داموا يأخذون بها فهو يعطيهم المكافأة على ذلك. ولله المثل الأعلى، وسبحانه منزه عن كل تشبيه، أقول لكم هذا المثل للتقريب: المدرس الذي يعطي تمرين هندسة للتلميذ ليقوم بحله، فهل مجيء الحل غيب.؟ لا؛ لأن التلميذ يعرف كيف يحل التمرين الهندسي؛ لأن فيه المعطيات التي يتدبر فيها بأسلوب معين فتعطى النتيجة. وما دام التلميذ يخرج بنتيجة لتمرين ما بعد معطيات أخذها، فذلك ليس غيباً. ولذلك فعلينا أن نفطن إلى أن الغيب هو ما غاب عن الكل، وهذا ما استأثر الله بعلمه وهو الغيب المطلق، وهو سبحانه وتعالى يطلع عليه بعضاً من خلقه من الرسل، وهو سبحانه القائل: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26 - 27] وأما الأمر المخفي في الكون، وكان غيباً على بعض من الخلق ثم يصبح مشهداً لخلق آخرين فلا يقال إنه غيب، وعرفنا ذلك أثناء تناولنا بالخواطر لآية الكرسي: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلي العظيم} [البقرة: 255] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1901 إن الحق سبحانه قد نسب هنا الإحاطة للبشر، ولكن بإذن منه، فهو يأذن للسر أن يولد، تماماً كما يوجد للإنسان سلالات ولها أوقات معلومة لميلادها، كذلك أسرار الكون لها ميلاد. وكل سر في الكون له ميلاد، هذا الميلاد ساعة يأتي ميعاده فإنه يظهر، ويحيط به البشر. فإن كان العباد قد بحثوا عن السر وهم في طريق المقدمات ليصلوا اليه ووافق وصولهم ميعاد ميلاده، يكونوا هم المتكشفين له. وإن لم يحن ميعاد ميلاد هذا السر فلن يتم اكتشافه واذا حان ميلاد السر ولم يوجد عالم معملي يأخذ بالأسباب والمقدمات فالله يخرج هذا السر كمصادفة لواحد من البشر. وحينئذ يقال: إن هذا السر قد ولد مصادفة من غير موعد ولا توقع. وأسرار الله التي جاءت على أساسها الاكتشافات المعاصرة، كثير منها جاء مصادفة. فالعلماء يكونون بصدد شيء، ويعطيهم الله ميلاد سر آخر. إذن فليس كل اكتشاف ابناً لبحث العلماء في مقدمات ما، ولكن العلماء يشتغلون من أجل هدف ما، فيعطيهم الله اكتشاف أسرار أخرى؛ لأن ميلاد تلك الأسرار قد جاء والناس لم يشتغلوا بها. ويتكرم الله على خلقه ويعطيهم هذه الأسرار من غير توقع ولا مقدمات. ويستمر سياق الآية {فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وهو سبحانه يخاطب المؤمنين. والحق سبحانه وتعالى إذا خاطب قوماً بوصف، ثم طلب منهم هذا الوصف فما معناه؟ . ومثال ذلك قول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136] إنهم مؤمنون، والحق قد ناداهم بهذا الوصف. معنى ذلك أنه يطلب منهم الالتزام بمواصفات الإيمان على مر الأزمان لان الايمان هو يقين بموضوعات الايمان في ظرف زمني والأزمان متعاقبة لأن الزمن ظرف غير قارٍ. و «غير قارٍ» تعني أن الحاضر يصير ماضياً، والحاضر كان مستقبلاً من قبل. فالماضي كان في البداية مستقبلاً، ثم صار حاضراً، ثم صار ماضياً. والزمن «ظرف» ، ولكنه ظرف غير قار. . أي غير ثابت. لكن المكان ظرف ثابت قار. فكأن الله يخاطبك: إن الزمن الذي مر قبل أن أخاطبك شُغِل بإيمانك، والزمن الذي يجيء أيضاً اشغله بالإيمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1902 ّإذن معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا داوموا على إيمانكم. {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ولنا أن نتصور عظمة عطاء الحق، فالمنهج الإيماني يعود خيره على من يؤديه، ومع ذلك فالله يعطي أجراً لمن اتبع المنهج. إذن فعندما يضع الحق سبحانه وتعالى منهجاً فإنه قد فعله لصالح البشر وأيضاً يثيبهم عليه، وهو يقول: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 123 - 124] إن المتَّبع للمنهج يأخذ نفعه ساعة تأدية هذا المنهج. ويزيد الله فوق ذلك انه سبحانه يعطي المتبع للمنهج أجراً، وهذا محض الفضل، وقلنا من قبل: إن العمر الذي يمده الله للكافرين والمنافقين ليس خيراً. إذن فعلى الناس أن يأخذوا المسائل والأزمنة بتبعات وآثار ونتائج ما يحدث فيها. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1903 لقد ظن بعض من المنافقين والكفار أن طول العمر ميزة لهم، وها نحن أولاء بصدد قوم آخرين ظنوا أن المال الذي يجمعونه هو الخير فكلما زاد فرحوا. فيقول الحق: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} . فالمال قد جاءهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1903 من فضل الله، ذلك بأنهم دخلوا الدنيا بغير جيوب. ولا أحد فينا قد رأى كفناً له جيوب. ولا أحد فينا قد رأى قماط طفل وليد له جيوب. فالإنسان يدخل الدنيا بلا جيب، ويخرج بلا جيب. وكل ما يأتي للإنسان هو من فضل الله، فلا أحد قد ابتكر الأشياء التي يأتي منها الرزق. ويمكن أن تبتكر من رزق موجود. فتطور في الوسائل والأسباب وللإنسان جزء من الحركة التي وهبها الله له ليضرب في الأرض، ولكن لا أحد يأتي بأرض من عنده ليزرع فيها، ولا أحد يأتي ببذور من عنده لم تكن موجودة من قبل ويزرعها، ولا أحد يأتي بماء لم يوجد من قبل ليروي به، فالأرض من الله، والبذور عطاء من الله، والماء من رزق الله، وحتى الحركة التي يتحرك بها الإنسان هي من فضل الله. فبالله لو أراد إنسان أن يحمل الفأس ليضرب في الأرض ضربة، فهل يعرف الإنسان كم عضلة من العضلات تتحرك ليرفع الفأس؟ وكم عضلة تتحرك حين ينزل الفأس؟!! وعندما يضرب الإنسان الفأس. فهو يضربها في أرض الله. والذي أراد لنفسه فأساً فإنه يذهب إلى الحداد ليصنعها له، لكن هل سأل الإنسان نفسه من أين أتى الحديد؟ وفي هذه قال الحق: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] إذن فماذا تُوجد أنت أيها الإنسان؟ أنت تأخذ المواد الخام الأولية من عند الله، وتبذل فيها الحركة الممنوحة لك من الله، وأنت لا توجد شيئاً من معدوم؛ بل إنك توجد من موجود، فكل شيء من فضل الله. وأنت أيها الإنسان مضارب في كون الله. فعقلك الذي يفكر، من الذي خلقه؟ إنه الله. وجوارحك التي تنفعل للعقل من الذي خلقها؟ إنه الله. وجوارحك تنفعل في منفعل هو الأرض، بآلة هي الفأس، ثم ترويها بماء هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1904 نازل من السماء. فما الذي هو لك أيها الإنسان؟ إن عليك أن تعرف أنه ليس لك شيء في كل ذلك، إنما أنت مضارب لله. فلتعطه حق المضاربة. والحق سبحانه لايطلب إلا قدراً بسيطاً من نتاج وثمرة الأرض. . إن كانت تروي بماء السماء فعليك عشر نتاجها. وإن كانت الأرض تروي بآلة الطنبور أو الساقية فعليك نصف العشر. والذي يزرع أرضا فإنه يحرثها في يوم، ويرويها كل أسبوعين. أما الذي يتاجر في صفقات تجارية فهي تحتاج إلى عمل في كل لحظة، لذلك فإن الحق قدّر الزكاة عليه بمقدار اثنين ونصف بالمائة. إذن فكلما زادت حركة الإنسان قلل الله قدر الزكاة. وهذه العملية على عكس البشر. فكلما زادت حركته. فإنهم يأخذون منه أكثر!! والله سبحانه يريد أن توجد الحركة في الكون؛ لأنه إن وجدت الحركة في الكون انتفع الناس وإن لم يقصد التحرك. وبعد ذلك فأين يذهب الذي يأخذه الله منك؟ . إنه يعطيه لأخ لك ولغيره. فما دام سبحانه يعطي أخاً لك وزميلاً لك من ثمرة ونتيجة حركتك، ففي هذا اطمئنان وأمان لك، لأن الغير سيعطيك لو صرت عاجزاً غير قادر على الكسب. وفي هذا طمأنينة لأغيار الله فيك. فإن جاءت لك الأغيار فستجد أناساً يساعدونك، وبذلك يتكاتف المجتمع وهذا هو التأمين الاجتماعي في أرقى معانيه. إذن فهذا كله من فضل الله. {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} إن الذين يبخلون بفضل الله يظنون أن البخل خير لمجرد أنه يكدس عندهم الأموال، وليس ذلك صحيحاً؛ لأن الحق يقول: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} أي أن ما بخلوا به يصنعه الله طوقاً في رقبة البخيل، وساعة يرى الناس الطوق في رقبة البخيل يقولون: هذا منع حق الله في ماله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1905 والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصور هذه المسألة تصويراً دقيقاً حين يبين لنا أن من يُطلب منه حق الله ولم يؤده، يأتي المال الذي منعه وضن وبخل به يتمثل لصاحبه يوم القيامة «شجاعاً أقرع» وهو ثعبان ضخم، ويطوق رقبته. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّلَ له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول: «أنا مالُك أنا كنزك» ثم تلا قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} إلى آخر الآية «. إذن فالذي يدخر بخلاً على الله فهو يزيد من الطوق الذي يلتف حول رقبته يوم القيامة. {وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} نعم فلله ميراث السماوات والأرض، ثم يضعها فيمن يشاء، فكل ما في الكون نسبته إلى الله، ويوزعه الله كيفما شاء. إن الإيمان يدعونا ألاّ ننتظر بالصدقة إلى حالة بلوغ الروح الحلقوم، فقد روي عن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال:» إن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم: «لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» لانه عند وصول الروح الى الحلقوم لا يكون له مال. قول الحق: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قضية تجعل القلب يرتجف خوفاً ورعباً، فقد يدلس الإنسان على البشر، فتجد من يتهرب من الضرائب ويصنع تزويراً دفترين للضرائب، واحداً للكسب الصحيح وآخر للخسارة الخاطئة ويكون هذا المتهرب من الضرائب يملك المال ثم ينكر ذلك، هذا الإنسان عليه أن يعرف أن الله خبير بكل ما يعمل. وبعد ذلك يقول الحق: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1906 روى - في سبب نزول هذه الآية الكريمة: قال سعيد بن جُبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - لما نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} قالت اليهود: يا محمد افتقر ربك، فسأل عباده القرض؟ فأنزل الله {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} . والذين عايشوا الإسلام في المدينة كانوا من اليهود. واليهود كما نعرف كانوا يَدِلون ويفخرون على العالم بأنهم أهل كتاب وعلم ومعرفة، ويدلون على البيئة التي عاشوا فيها أنهم ملوك الاقتصاد كما يقولون الآن عن أنفسهم. كل من يريد شيئاً يأخذه من اليهود. وكانوا يبنون الحصون ويأتون بالأسلحة لتدل على القوة. وجاء الإسلام وأخذ منهم هذه السيادات كلها، ثم تمتعوا بمزايا الإسلام من محافظة على أموالهم وأمنهم وحياتهم. أكان الإسلام يتركهم هكذا يتمتعون بما يتمتع به المسلمون أمناً واطمئناناً، وسلامة أبدان وسلامة أموال ثم لا يأخذ منهم شيئاً؟ لقد أخذ منهم الإسلام الجزية. فلم يكن من المقبول أن يدفع المسلم الزكاة ويجلس اليهود في المجتمع الإيماني دون أن يدفعوا تكلفة حمايتهم. ولذلك أرسل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيدنا أبو بكر الصديق الى اليهود في المكان الذي يتدارسون فيه فعن ابن عباس قال: دخل ابو بكر الصديق بيت المدراس فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال: أشيع، فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله من عند الله قد جاء بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، إنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1907 إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنّا غنيَّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فضرب وجه فنحاص ضربا شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدوّ الله فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر» ؟ فقال يا رسول الله: إن عدوّا الله قال قولا عظيما، يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجَهه فجحد فنحاص ذلك وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله فيما قال فنحاص {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} . هؤلاء لم يفطنوا إلى سر التعبير الجميل في قوله سبحانه: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [الحديد: 11] فإن هذا القول هو احترام من الحق - سبحانه - لحركة الإنسان في التملك. لماذا احترم الله حق الإنسان في التملك؟ هو سبحانه يريد أن يغري المتحرك بزيادة الحركة، ويحمل غير المتحرك على أن يتحرك. فإن طلب سبحانه شيئاً من هذا المال فهو لا يقول للإنسان: أعطي ما أعطيت لك. بل كأنه سبحانه يقول: إنني سأحترم عرقك، وسأحترم حركتك، وسأحترم فكرك، وسأحترم جوارحك وطاقاتك وكل ما فيك، فإن أخذتُ منك شيئاً فلن أقول لك أعطني ما أعطيت لك، لكن أقول لك: أقرضها لي؛ وإن أقرضتها فسوف تقرضها لا لأنتفع بها، ولكنها لأخيك. وقد اقترض من القادر فيما بعد وذلك لك أنت إذا أصابتك الحاجة. لماذا لأنني أنا الله الذي استدعيت خلقي إلى الوجود. وما دمت أنا الله الذي استدعيت الخلق إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1908 الوجود فأرزاقهم مطلوبة مني. إن الواحد من البشر عندما يدعو اثنين من أصدقائه فهو يصنع طعاماً يكفي خمسة أو عشر أشخاص. وما دام الله هو الذي استدعى الخلق إلى الوجود فهو الذي يكفل لهم الرزق. وعندما يكفل لهم الرزق فلا بد أن يتحركوا. وعندما يتحركون فهو سبحانه يضمن آثار الحركة، وذلك حتى ينال كلٌ ما يرضيه، أو على الأقل ما يكفيه من الضروريات. ولذلك عندما جاءت آثار الحركة من المال وتدخل البشر فيها تأميماً وغير ذلك من الإجراءات قلّت الحركة. لكن الله سبحانه وتعالى يعلم حرص الإنسان على منفعة نفسه فيغريه بذلك حتى يتحرك وسينتفع المجتمع بحركته، سواء قصد الإنسان أو لم يقصد. إذن فحين يقترض الحق سبحانه وتعالى من بعض خلقه لبعض خلقه، فهو سبحانه لا يتراجع فيما وهب. بل يقول جل وعلا: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نحن البشر قد نضطر إلى هذا الموقف؛ فالواحد منا عندما يعطي أبناءه مصروف اليد، فكل ابن يدخر ما يبقى منه، وبعد ذلك يأتي ظرف لبعض الأبناء يتطلب مالاً ليس في مُكنْة الوالد ساعة يأتي الحدث. فيقول الوالد لأبنائه: أقرضوني ما في «حصّالاتكم» ، وسأردها لكم مضاعفة، هو أخذها لأخيهم، لكن لأنه الذي وهب أولاً فلم يرجع في الهبة، لكنه طلبها قرضاً. وعندما يأتي أول الشهر فهو يرد القرض مضاعفاً، فإن كان ذلك ما يحدث في مجال البشر فما بالنا بما يحدث من الخالق الوهاب لعباده؟ . هو سبحانه يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} . لكن اليهود لم يأخذ المسألة بهذا الفهم، لكنه أخذها بغباء المادة فقال: إن الله فقير ونحن أغنياء. لذلك قال الحق سبحانه: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1909 ولماذا يكتب الله ذلك وهو العالم بكل شيء؟ . جاء هذا القول ليدل على التوثيق أيضاً، فعندما يأتي هذا الرجل ليقرأ كتابه يوم القيامة يجدها مكتوبة؛ فالكتابة لتوثيق ما يمكن أن يُنكر - بالبناء للمجهول - فإذا كان العلم من الله فقط فالعبد قد يقول: إنك يارب الذي تعاقب. فلك أن تقول ما تقول. فإذا ما كان مكتوباً عليهم ليقرأوه. فهذا توثيق لا يمكن إنكاره. ولم يفهم ذلك اليهودي أن القرض لله هو تلطف من الحق سبحانه وتعالى واستدرار لحنان الإنسان على الإنسان. فقد شاء الحق أن يحترم أثر مجهودك وعرقك أيها الإنسان، فإن وصلت إلى شيء من المال فهو مالك. ولم يقل الله لك: أعط أخاك، فسبحانه وتعالى تلطفاً مع خلقه يقول: أقرضني؛ ليضمن الإنسان أن ما أعطاه إنما هو عند ملئ. لكن أدب بني إسرائيل مع الله مفقود، فقد قالوا من قبل: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} [المائدة: 64] وسبب ذلك إنه أصابتهم سنة وجدب وذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال ابن عباس: «إن الله وسع على اليهود في الدنيا حتى كانوا أكثر الناس مالا، فلما عصوا الله وكفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذبوه ضيّق الله عليهم في زمنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال فنحاص بن عازوراء ومن معه من يهود: يد الله مغلولة فأنزل الله هذه الآية. إنهم قالوا: السماء بخلت علينا ويد الله مغلولة، فلم تعطنا رزقاً. وهكذا كان اجترأوا عليه بكلمة أو على أصحابه باستهزاء، فسبحانه يوضح لرسوله: أنهم لم يصنعوا ذلك معك ولا مع أتباعك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1910 إن هذا هو موقفهم مني أنا فإذا كان موقفهم وسوء أدبهم وصل بهم إلى أن يجترئوا على الذات المقدسية العليّة، ويقولون: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} ويقولون: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} . أفتحزن وتأسى على أن يقولوا لك أو لأتباعك أي شيء يسيء إليكم؟ إنها نعمت المواساة من الله لرسوله ونعمت التسلية. ويضيف الحق: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} . لماذا يكتب الله ما قالوا مع أن علمه أزلي لا يُنسى؟ {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52] لقد جاءت كلمة» سنكتب «حتى لا يؤاخذهم سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنهم فعلوه، ولكن بما كتب عليهم وليقرأوه بأنفسهم، وليكون حجة عليهم، كأن الكتابة ليست كما نظن فقط، ولكنها تسجيل للصوت وللأنفاس، ويأتي يوم القيامة ليجد كل إنسان ما فعله مسطوراً: {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14] وهذا القول يدل على أنه ساعة يرى الإنسان ما كتب في الكتاب سيعرف أنه منه، وإذا كنا نحن الآن نسجل على خصومنا أنفاسهم وكلماتهم أتستبعد على من علمنا ذلك أن يسجل الأنفاس والأصوات والحركات بحيث إذا قرأها الإنسان ورآها لا يستطيع أن يكابر فيها أو ينكرها؟ {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} وهم قالوا: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} وهذا معصية في القمة، وتبجح على الذات العلية، ولم يكتفوا بذلك بل قتلوا الأنبياء الذين أرسلهم الله لهدايتهم؛ لذلك يقول الحق: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ} . وعندما يأتي هذا النبأ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو تسلية له من الحق سبحانه. لقد قالوا في ربك يا محمد ما قالوا، وقتلوا الأنبياء إخوانك، فإذا صنعوا معك ما صنعوا فلا تحزن فسوف يُجازَوْن على ما كتبناه عليهم بشهادة أنفسهم، ونقول: ذوقوا عذاب الحريق. والحريق يصنع إيلاماً إحساسياً في النفس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1911 والإحساس يختلف من حاسة إلى أخرى، فمرة يكون الإحساس بالبصر، ومرة بالأذن، ومرة بالشم أو باللمس أو بالذوق. والذوق هو سيد الأحاسيس، فهو لا يضيع من أحد أبداً، فقد نجد إنساناً أعمى، وآخر أصم، أو شخصاً ثالثاً أصيب بالشلل فلا تستطيع يده أن تلمس، وقد يصاب واحد بزكام مستمر فلا يصبح قادراً على الشم، أما الذوق فهو حاسة لا تختفي من أي إنسان، لذلك أن الذوق أمر من داخل الذات؛ لذلك فهو أبلغ في الإيلام. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] انظر إلى التعبير القرآني {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} . جاء التعبير بالإذاقة، وجاء بشيء لا يذاق وهو اللباس. وهل اللباس يذاق؟ لا، لكنه سبحانه يريد ان ينبه الإنسان إلى أن كل الحواس التي فيه تحس، حتى تلك الحاسة المختفية داخل النفس، إنّ ذلك يَشمل كل جزء في الإنسان. فالإذاقة تحيط بالإنسان في هذا التصوير البياني القرآني الكريم: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} . إذن فهي شدة وقع الإيلام؛ واستيعاب العذاب المؤلم لكل أجزاء الجسم حتى صار الذوق في كل مكان. {ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} ، والحريق هو النار القوية التي تحرق ومن بعذ ذلك يقول الحق: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1912 {ذلك} إشارة إلى عذاب الحريق. والحق سبحانه لم يظلمهم، لكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} فهل معنى ذلك أن كل المعاصي من تقديم اليد؟ إن هناك معصية للعين، ومعصية للسان، ومعصية للرجل، ومعصية للقلب، ولا حصر للمعاصي. فلماذا إذن قال الحق: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ؟ قال الحق ذلك لأن الأعمال الظاهرة تٌمارس عادة باليد؛ فاليد هي الجارحة التي نفعل بها أكثر أمورنا، وعلى ذلك يكون قول الحق: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} مقصود به: بما قدمتم بأي جارحة من الجوارح. وبعد ذلك يخبرنا سبحانه: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} لقد أذاقهم عذاب الحريق نتيجة ما كتبه عليهم؛ من قول وفعل. والقول هو الافتراء باللسان حين قالوا: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} . والفعل هو قتلهم الأنبياء. فهم يستحقون ذلك العذاب. والقضية العامة في الإله وعدالة الإله أنه ليس بظلام للعبيد. وهنا وقفة لخصوم الإسلام من المستشرقين، هم يقولون: الله يقول في قرآنهم {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ، وكلمة «ظلام» هي مبالغة في كلمة «ظالم» ، ففيه «ظالم» وفيه «ظلاّم» ، و «الظَّلاّم» هو الذي يظلم ظلماً قوياً ومتكرراً؛ ف «ظلاّم» هي صيغة مبالغة في «ظالم» . وحين نرد عليهم لا بد لنا أن نعرف أن صيغ المبالغة كثيرة، فاللغويون يعرفون أنها: فعّال، فعيل، مفعال، فعول، فَعِل، فظلاَّم مثلها مثل قولنا: «أكَّال» ، ومثل قولنا: «قتَّال» بدلاً من أن نقول: «قاتل» فالقاتل يكون قد ارتكب جريمة القتل مرة واحدة، لكن ال «قتَّال» هو من فعل الجريمة مرات كثيرة وصار القتل حرفته. ومثل ذلك «ناهب» ، ويقال لمن صار النهب حرفته: «نَهَّاب» أي أنه إن نهب ينهب كثيراً، ويعدد النهب في الناس. وهذه تسمى صيغة المبالغة. وصيغة المبالغة إن وردت في الإثبات أي في الأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1913 الموجب فهي تثبت الأقل، فعندما يقال: «فلان ظلاّم» فالثابت أنه ظالم أيضاً، لأننا ما دمنا قد أثبتنا المبالغة فإننا نثبت الأقل. ومثل ذلك نقول: «فلان علاّم» أو «فلان علاّمة» فمعنى ذلك أن فلاناً هذا عالم. ولكن إذا قلنا: «فلان عالم» فلا يثبت ذلك أنه «علاّمة» . فصيغة المبالغة ليس معناها «اسم فاعل» فحسب، إنها أيضاً اسم فاعل مبالغ فيه، لأن الحدث يأتي منه قوياً، أو لأن الحدث متكرر منه ومتعدد. فإذا ما أثبتنا صفة المبالغة فمن باب أولى تثبت صفة غير المبالغة فإذا ما قال واحد: «فلان أكّال» فإنه يثبت لنا أنه آكل، هذا في الإثبات. والأمر يختلف في النفي. إننا إذا نفينا صفة المبالغة تثبت الصفة التي ليس فيها مبالغة من باب أولى. أما إذا نفيت صفة المبالغة فلا يستلزم ذلك نفي الصفة الأقل. والتذليل للآية التي نحن بصددها الآن هو {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} . يفهم المستشرقون من هذا القول أنه مجرد نفي للمبالغة في الظلم لكنها لم تنف عنه أنه ظالم ولم يفهم المستشرقون لماذا تكون المبالغة هنا: إن الحق قد قال: إنه ليس بظلاَّم للعبيد، ولم يقل إنه ليس بظلام للعبد. ومعنى ذلك أنه ليس بظلام للعبيد من أول آدم إلى أن تقوم الساعة، فلو ظلم كل هؤلاء - والعياذ بالله - لقال إنه ظلام، حتى ولو ظلم كل واحد أيسر ظلم. لأن الظلم تكرر وذلك بتكرر من ظُلِم وهم العبيد، فإن أريد تكثير الحديث فليفطن الغبي منهم إلى أن الله قال: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ولم يقل إنه ليس بظلام للعبد. وإذا كان الظالم لا بد أن يكون أقوى من المظلوم، أذن فكل ظلم يتم تكييفه بقوة الظالم. فلو كان الله قد أباح لنفسه أن يظلم فلن يكون ظالماً؛ لأن عظم قوته لن يجعله ظالماً بل ظَلاَّما. فإن أراد الحدث فيكون ظلاماً، وإن أردنا تكراراً للحدث فيكون ظلاماً. وحين يحاول بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1914 المستشرقين أن يستدركوا على قول الحق: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فهذا الاستدراك يدل على عجز في فهم مرامي الألفاظ في اللغة أو أنّ هؤلاء يعلمون مرامي الألفاظ ويحاولون غش الناس الذين لا يملكون رصيداً لغوياً يفهمون به مرامي الألفاظ. ولكن الله سبحانه وتعالى يُسخر لكتابه من ينبه إلى إظهار إعجازه في آياته. وبعد أن انتهى الحق من غزوة أُحُد، فهو سبحانه يريد أن يقرر مبادئ يبين فيها معسكرات العداء للإسلام: معسكر أهل الكتاب، ومعسكر مشركي قريش في مكة، ومعسكر المشركين الذين حول المدينة وكانوا يغيرون على المدينة. فبعد غزوة أُحٌد التي صفّت، وربّت، وامتحنت وابتلت، وعرّفت الناس قضايا الدين، أراد الحق بعدها أن يضع المبادئ. فأوضح القرآن: أن هؤلاء أعداؤكم؛ تذكروهم جيداً، قالوا في ربكم كذا، ويقولون في رسولكم كذا، وقتلوا أنبياءكم. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1915 هم يدّعون ذلك ويقولون: ربنا قال لنا هذا في التوراة؛ إياكم أن تؤمنوا برسول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1915 يأتيكم، حتى يأتيكم بمعجزة مُحسة، هذه المعجزة المُحسّة هي أن يقدم الرسول قرباناً فتنزل نار من السماء تأكله. هذا كان صحيحاً، وكلنا نسمع قصة قابيل وهابيل: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [المائدة: 27 - 28] ونريد أن نقبل على القرآن ونتدبر: لماذا جاء هذا اللفظ: {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} ؟ إن القبول من الله، وهو مسألة سرية عنده، فكيف نعرف نحن أن الله تقبل أو لم يتقبل؟ لا بد أنه الله قد جعل للقبول علامة حسية. ونحن نعرف أن الإنسان قد يعمل عملاً فيقبله الله، ونجد إنساناً آخر قد يعمل عملاً ولا يقبله الله والعياذ بالله، فمن الذي أعلمنا أن الله قد قبل عمل إنسان وقربانه، ولم يقبل عمل الآخر وقربانه؟ . وبما أن القبول سر من أسرار الله إذن فلن نعرف علامة القبول إلا إذا كانت شيئاً مُحساً، بدليل قوله: {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} . وقال الذي لم يتقبل الله قربانه: {لأَقْتُلَنَّكَ} كأن الذي قبل الله قربانه قد عرف، والذي لم يتقبل الله قربانه قد عرف أيضاً، إذن فلا بد أن هناك أمراً حسياً قد حدث. وقلنا: إن الله كان يخاطب خلقه على قدر رشد عقولهم حساً ومعنى؛ ولذلك كانت معجزاته سبحانه وتعالى للأنبياء السابقين لرسول الله هي من الأمور المُحسة. فالمعجزة التي آتاها الله لإبراهيم كانت نارا لا تحرق، وعصا سيدنا موسى تنقلب حية، وسيدنا عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله. والمعجزة الحسية لها ميزة أنها تقنع الحواس، ولكنها تنتهي بعد أن تقع لمرة واحدة. لكن المعجزة العقلية التي تناسب رشد الإنسانية، هي المعجزة الباقية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1916 وحتى تظل معجزة باقية فلا يمكن أن تكون حسية. إذن فعندما تأتي معجزة خالدة لرسول هو خاتم الرسل، والذي سوف تقوم القيامة على المنهج الذي جاء به هذه المعجزة لا بد أن تكون ذات أمد ممتدّ، والامتداد يناقض الحسيّة؛ لأن الحسّية تظل محصورة فيمن رآها، والذي لم يرها لا يقولها ولا يؤمن بها إلا إذا كان على ثقة عظيمة بمن أخبره بها. وابنا آدم، قابيل وهابيل قرّب كل منهما قربانا. و «قُربان» مثلها في اللغة مثل «غفران» و «عُدوان» والقُربان هو شيء أو عمل يتقرب به العبد من الله. وقبول هذا العمل من البر هو سرّ من أسرار الله. فما الذي أدرى هؤلاء أن قربان هابيل قد تقبّله الله ولم يتقبل الله قربان قابيل؟ لا بد أن تكون المسألة حسيّة. ولا بد أن قابيل وهابيل قد اختلفا، ولكن القرآن لم يقل لنا على ماذا اختلفا، إنها دعوى أن واحداً منهما مُقرّب إلى الله أكثر، ولكن بأي شكل؟ لم يظهر القرآن لنا ذلك، ولو كانت المسألة مهمة لأظهرها الله لنا في القرآن الكريم، فلا تقل كان الخلاف على زواج أو غير ذلك. فالذي ظهر لنا من القرآن أن خلافاً قد وقع بينهما أو أنهما قد حكما السماء. ومبدأ تحكيم السماء لا يستطيع أحد أن ينقضه. وكان لكل واحد منهم شُبهة. وعندما قامت الشبهة التي لقابيل ضد الشبهة التي لهابيل، فلا إقناع من صاحب شبهة، ولذلك ذهبا إلى التحكيم. ونحن في عصرنا الحديث عندما نختلف على شيء فإننا نقول: نجري قرعة. وذلك حتى لا يرضخ إنسان لهوى إنسان آخر، بل يرضخ الاثنان للقدر، فيكتب كل منهما ورقة ثم يتركان ثالثا يجذب إحدى الورقتين. أما هابيل وقابيل فيذكر القرآن الكريم: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} . إذن فكل واحد منهما كانت له شبهة، ولا أحد منهما بقادر على إقناع الثاني؛ لذلك قال قابيل بعد أن قبل الله قربان هابيل: {لأَقْتُلَنَّكَ} فماذا قال هابيل؟ . قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1917 إذن فالذي يتقبل الله منه القربان هو الذي سيُقْتل. والذي يملأه الغيظ هو من لم يتقبل الله قربانه، وهو الذي سوف يَقْتُل. فماذا قال صاحب القربان المقبول: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [المائدة: 28] إذن فهذا أهل لأن يتقبل الله قربانه، لأنه متيقظ الضمير بمنهج السماء، وهذه حيثية لتقبل القربان. وحتى لا نظن أن الآخر «قابيل» كله شر لمجرد أن الشهوة سيطرت عليه، لكن الحق يظهر لنا أن فيه بعض الخير، ودليل ذلك قول الحق: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} [المائدة: 30] وهذا القول يدل على أنه تردد، فلا يقال: «طوّعت الماء» ، ولكن يقال «طوّعت الحديد» ، فكأن الإيمان كان يعارض النفس، إلا أن النفس قد غلبت وطوّعت له قتل أخيه. وعندما قتل قابيل أخاه وهدأت شرّة الغضب وسُعار الانتقام، رأى أخاه مُلقى في العراء: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] وعلى هذا النسق قال اليهود: إن الله أوصانا ألا نؤمن برسول إلا بعد أن يأتي بمعجزة من المُحسّات. لماذا قالوا ذلك؟ . قالوا ذلك لأن معجزة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الكبرى وهي القرآن الكريم لم تكن من ناحية المحسّات وانتهى عهد الإعجاز بالمحسّات فقط، فرسولنا له معجزات حسية كثيرة، ونظرا لأن هذه ينتهي إعجازها بانقضائها فكان القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة وهو الذي يناسب الرسالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1918 الخاتمة، فهم طلبوا أن تكون المعجزة بالمحسّات حتى يصنعوا لأنفسهم شبه عذر في أنهم لم يؤمنوا، فقالوا ما أورده القرآن: {الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا} . . إلخ. وعلمنا الحق في هذه الآية أن القربان تأكله النار، ومن هذا نستنبط كيف تقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، لكي نفهم أن القرآن لا يوجد به أمر مكرر. والحق سبحانه يرينا ردوده الإلهية المقنعة الممتعة: {قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ} . . إلخ الآية. لقد جائكم رسل قبل رسول الله بالقربان وأكلته النار ومع ذلك كفرتم. فلو كان كلامكم أيها اليهود صحيحاً، لكنتم آمنتم بالرسل الذين جاءوكم بالقربان الذي أكلته النار. وهكذا يكشف لنا الحق أنهم يكذبون على أنفسهم ويكذبون على رسول الله، وأنها مجرد «مماحكات» ولجاج وتمادٍ في المنازعة والخصومة. والحق سبحانه يأمر رسوله أن يسأل: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ؟ هو سبحانه يريد أن يضع لنا قضية توضح أن عهد المعجزات الحسيّة وحدها قد انتهى، ورُشد الإنسانية وبلوغ العقل مرتبة الكمال قد بدأ؛ لذلك أتى سبحانه يآية عقلية لتظلّ مع المنهج إلى أن تقوم الساعة. ولو كانت الآية حسيّة لاقتصرت على المعاصر الذي شهدها وتركت من يأتي بعده بغير معجزة ولا برهان. أما مجيء المعجزة عقلية فيستطيع أي واحد مؤمن في عصرنا أن يقول: سيدنا محمد رسول الله وتلك معجزته. ولكن لو كانت المعجزة حسيّة وكانت قربانا ً تأكله النار، فما الذي يصير إليه المؤمن ويستند إليه من بعد ذلك العصر؟ إن الحق يريد أن يعلمنا أن الذي يأتي بالآيات هو سبحانه، وسبحانه لا يأتي بالآيات على وفق أمزجة البشر، ولكنه يأتي بالآيات التي تثبت الدليل؛ لذلك فليس للبشر أن يقترحوا الآية. هو سبحانه الذي يأتي بالآية، وفيها الدليل. لماذا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1919 لأن البعض قد قال للرسول: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 90 - 93] لقد كانت كل هذه آيات حسيّة طلبوها، والله سبحانه وتعالى يرد على ذلك حين قال لرسوله: إن الذي منعه من إرسال مثل هذه الآيات هو تكذيب الأولين بها: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإسراء: 59] فحتى هؤلاء الذين قالوا: لن نؤمن حتى تأتي بقربان تأكله النار قد جاءهم من قبل من يحمل معجزة القربان الذي تأكله النار، ومع ذلك كذبوا، إذن فالمسألة مماحكة ولجاج في الخصومة. ويُسلّي الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتسلية الله لرسوله هنا تسلية بالنظير والمثل في الرسل. كأن الحق يوضح: إن كانوا قد كذبوك فلا تحزن؛ فقد كذبوا من قبلك رسلاً كثيرين، وأنت لست بِدعاً من الرسل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1920 ويتسامى الحق سبحانه وتعالى بروح سيدنا رسول الله إلى مرتبة العلو الذي لا يرقى إليه بشر سواه، فيقول: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] فالمسألة ليست مسألتك أنت إنهم يعرفون أنك يا محمد صادق لا تكذب أبداً {ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} . أي هذا الأمر ليس خاصا بك بل هو راجع إليّ فلا أحد يقول عنك إنك كذّاب هم يكذبونني، الظالمون يجحدون وينكرون آياتي فالحق سبحانه يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هنا للتسلية ويعطيه الأسوة التي تجعله غير حزين مما يفعله اليهود والمكذبون به فيقول: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [آل عمران: 184] ونعرف أن الشرط سبب في وجود جوابه. فإذا كان الجواب قد حصل قبل الشرط فما الحال؟ . الحق يوضح: إن كذبوك يا محمد فقد كذبوا رسلاً من قبلك. أي أن «جواب الشرط» قد حصل هنا قبل الشرط وهذه عندما يتلقفها واحد من السطحيين أدعياء الإسلام، أو من المستشرقين الذين لا يفهمون مرامي اللغة فمن الممكن أن يقول: إن الجواب في هذه الآية قد حصل قبل الشرط. وهنا نرد عليه قائلين: أقوله تعالى: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ. .} هو جواب الشرط. . أم هو دليل الجواب؟ لقد جاء الحق بهذه الآية ليقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فإن كذبوك فلا تحزن، فقد سبقك أن كَذّب قوم رسلَهم، إنها علة لجواب الشرط، كأنه يقول: فإن كذبوك فلا تحزن. إذن فمعنى ذلك أن المذكور ليس هو الجواب، إنما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1921 هو الحيثية للجواب {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات} . . إلخ. وعندما نقول: «جاءني فلان بكذا» فقد يكون هو الذي أحضره، وقد يكون هو مجرد مصاحب لمن جاء به. ولنضرب هذا المثل للإيضاح - ولله المثل الأعلى - فلنفترض أن موظفاً أرسله رئيسه بمظروف إلى إنسان آخر، فالموظف هو المصاحب للمظروف. إذن فالبينات جاءت من الله، لكن هؤلاء الرسل جاءوا مصاحبين ومؤيِّدين بالبينات كي تكون حُجة لهم على صدق بلاغهم عن الله، {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات} . أي جاءوا بالآيات الواضحة الدلالة على المراد. والآيات قد تكون لفتاً للآيات الكونية، وقد تكون المعجزات. ونعلم أن كل رسول من رسل الذين سبقوا سيدنا رسول الله كانت معجزتهم منفصلة عن منهجهم، فالمعجزة شيء وكتاب المنهج شيء آخر. «صحف إبراهيم» فيها المنهج لكنها ليست هي المعجزة؛ فالمعجزة هي الإحراق بالنار والنجاة، وموسى عليه السلام معجزته العصا وتنقلب حية، وانفلاق البحر، لكن كتاب منهجه هو «التوراة» ، وعيسى عليه السلام كتاب منهجه «الإنجيل» ومعجزته العلاج وإحياء الموتى بإذن الله، إذن فقد كانت المعجزة منفصلة عن المنهج، إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فإن معجزته القرآن، ومنهجه في القرآن، لماذا؟ لأنه جاء رسولاً يحمل المنهج المكتمل وهو القرآن الكريم، ومع ذلك فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الرسول الخاتم، فلا بد أن تظل المعجزة مع المنهج؛ كي تكون حُجة، إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {جَآءُوا بالبينات} : أي المعجزات الدالات على صدقهم. {والزبر والكتاب المنير} أي الكتب التي جاءت بالمنهج، فهم يحتاجون إلى أمرين اثنين: منهج ومعجزة. و «البينات» هي المعجزة أي الأمور البينة من عند الله وليست من عند أي واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1922 منهم، ثم جاء «المنهج» في {الزبر والكتاب المنير} . ومعنى «الزِبْر» : الكتاب، وما دام الشيء قد كُتب فقد «زبره» أي كَتَبَهُ، وهذا دليل على التوثيق أي مكتوب فلا ينطمس ولا يمحى فالزَّبْر الكتابة، و «الزَّبْر» تعني أيضا الوعظ؛ لأنه يمنع الموعوظ أن يصنع ما عظم أي يمتنع عن الخطأ وإتيان الانحراف، و «الزَّبْر» أيضا تعني العقل؛ لأنه يمنع الإنسان من أنْ يرد موارد التهلكة. والذين يريدون أن يأخذوا العقل فرصة للانطلاق والانفلات، نقول لهم: افهموا معنى كلمة «العقل» ، معنى العقل هو التقييد، فالعقل يقيدك أن تفعل أي أمر دون دراسة عواقبه. والعقل من «عَقَلَ» أي ربط، كي يقال هذا، ولا يقال هذا، ويمنع الإنسان أن يفعل الأشياء التي تؤخذ عليه. و «الزبر» أيضاً: تحجير البئر؛ فعندما نحفر البئر ليخرج الماء، لا نتركه. بل نصنع له حافة من الحجر ونبنيه من الداخل بالحجارة. كي لا يُردم بالتراب وكل معاني الزبر ملتقية، فهو يعني: المكتوبات، والمكتوبات لها وصف، إنّها منيرة، وهذه الإنارة معناها أنها تبين للسالك عقبات الطريق وعراقيله، كي لا يتعثر. إذن فالحق سبحانه وتعالى يسلّي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويوضح له: لا تحزن إن كذبوك؛ فقد كذب رسل من قبلك، والرسل جاءوا بالمنهج وبالمعجزة، وبعد أن يعطي الله للمؤمنين ولرسول الله مناعة ضد ما يذيعه المرجفون من اليهود وضد ما يقولون، وتربية المناعة الإيمانية في النفس تقتضي أن يخبرنا الله على لسان رسوله بما يمكن أن تواجهه الدعوة؛ حتى لا تفجأنا المواجهات ويكشف لنا سبحانه بما سيقولون. وبما سيفعلونه. ونحن نفعل ذلك في العالم المادي: إذا خفنا من مرض ما كالكوليرا - مثلاً - ماذا نفعل؟ نأخذ الميكروب نفسه ونُضْعِفُه بصورة معينة ثم نحقن به السليم؛ كي نربّي فيه مناعة حتى يستطيع الجسم مقاومة المرض. ثم بعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى بقضية إيمانية يجب أن تظل على بال المؤمن دائماً. هذه القضية: إن هم كذبوك فتكذيبهم لا إلى خلود؛ لأنهم سينتهون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1923 بالموت، فالقضية معركتها موقوتة، والحساب أخيراً عند الحق سبحانه، ولذلك يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1924 ونلاحظ أن كلمة {ذَآئِقَةُ} جاءت أيضاً هنا، ونعرف أن هناك «قتلا» وهناك «موتا» ، فالموت معناه أعم وهو: انتهاء الحياة سواء أكان بنقض البنية مثل القتل، أم بغير نقض البنية مثل خروج الروح وزهوقها حتف الأنف، ولذلك فالعلماء الذين يدققون في الألفاظ يقولون: هذا المقتول لو لم يُقتل، أكان يموت؟ نقول: نعم؛ لأن المقتول ميت بأجله، لكن الذي قتله هل كان يعرف ميعاد الأجل؟ لا. إذن فهو يُعاقب على ارتكابه جريمة إزهاق الروح، أمّا المقتول فقد كتب الله عليه أن يفارق الحياة بهذا العمل. إذن فكل نفس ذائقة الموت إما حتف الأنف وإمّا بالقتل. ولأن الغالب في المقتولين أنهم شهداء، والشهداء أحياء، لكن الكل سيموت. يقول تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} [الزمر: 68] انظروا إلى دقة العبارة: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة} أي إياكم أن تنتظروا نتيجة إيمانكم في هذه الدنيا، لأنكم إن كنتم ستأخذون على إيمانكم ثوابا في الدنيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1924 فهذا زمن زائل ينتهي، فثوابكم على الإيمان لا بد أن يكون في الآخرة لكي يكون ثوابا لاينتهي. ونعرف ما حدث في بيعة العقبة الثانية؛ حينما أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الأنصار عهوداً، قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ لم يقل لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ستنتصرون أو ستملكون الدنيا، بل قال: «الجنة» قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، فلو وعدهم بأي شيء في الدنيا لقال له أي واحد فطن منهم: ما أهونها، لذلك عندما قال واحد لصاحبه: أنا أُحبك قدر الدنيا؛ فقال له: وهل أنا تافه عندك لهذه الدرجة؟ فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إياكم أن تفهموا أن جزاء الإيمان يكون في الدنيا، لأنه لو كان في الدنيا لكان زائلاً ولكان قليلا كجزاء على الإيمان، لأن الإيمان وصل بغير منتهٍ وهو الله، فلا بد أن يكون الجزاء غير منتهٍ وهو الجنة، فقال: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} . . وأخذ أهل اللمح من كلمة «توفون» أن هناك مقدمات؛ لأن معنى «وفيته أجره» أي أعطيته وبقي له حاجة وأكمل له، نعم هو سبحانه يعطيهم حاجات إيمان، ويكفي إشراقة الإيمان في نفس المؤمن، فالجواب لا بد أن يكون متمشياً مع منطق من يسمع هذه الآية؛ فقد يموت من يسمعها بعد قليل في معركة، وما دام قد مات في المعركة فهو لم ير انتصاراً، ولم ير غنائم ولا أي شي، فماذا يكون نصيبه؟ إنه يأخذ نصيبه يوم القيامة «توفون» فمن نال منها شيئاً في الدنيا بالنصر، بالغنائم، بالزهو الإيماني على أنه انتصر على الكفر فهذا بعض الأجر، إنما الوفاء بكامل الأجر سيكون في الآخرة، لأن كلمة التوفية تفيد أن توفية الأجور وتكميلها يكون في يوم القيامة، وأن ما يكون قبل ذلك فهو بعض الأجور التي يستحقها العاملون. ويقول الحق: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأوا إن شئتم: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَاز» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1925 وعندما تقول: زحزحت فلاناً، معناها أنه كان متوقفا برعب، فكيف يحدث ذلك عند النار؟ . ونعرف أن النار سببها المعصية، والمعصية كانت لها جاذبية للعصاة، ويأتي الإيمان ليشدهم فتأخذهم جاذبية المعصية، فكذلك يكون الجزاء بالنار. إذن فالنار لها جاذبية لأنها ستكون في حالة غيظ. . ولذلك يقول ربنا: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} [الملك: 8] النار تتميز من الغيظ على الكافرين. وما معنى تميز من الغيظ؟ أما رأيت قِدْراً يفور؟ ساعة يفور القدر فإن بعض الفقاقيع تخرج منه وتنفصل عما في القدر، وهذا «تميز» أي تفترق، والإنسان منا عندما يكون في حالة غيظ تخرج منه أشياء كفقاقيع غليان القدر إنه يرغي ويزبد أي اشتد غضبه، وهذه الفقاقيع تحرق من يقف أمامها أو يلمسها، وهي من شدة الفوران تميز بعضها وانفصل عن القدر، كذلك النار، ولماذا تميز من الغيظ؟ إنها تميز من الغيظ من الكافرين؛ لأنها أصلها مٌسبحة حامدة شاكرة، وبعد ذلك يقول لها الحق: {هَلِ امتلأت} [ق: 30] وتقول {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] وذلك مما يدل على أن كلمة: {تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} حقيقة؛ ولذلك يبين لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن النار لها جاذبية، فالنار إنما كانت نتيجة المعصية في الدنيا، والمعصية في الدنيا هي التي تجذب العصاة، يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذلك: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الفراش والجنادب يَقعْن فيها وهو يذبّهُنّ عنها، وأنا آخذ بِحُجُزكم عن النار وأنتم تَفَلّتُون من يدي» انظر إلى التشبيه الجميل - حين توقد ناراً في خلاء فأول مظهر هو أن ترى الفراش والهوامّ والبعوض تأتي على النار، ولذلك يقولون: رُبّ نفس عشقت مصرعها. لقد جاءت تلك الحشرات على أساس أنها جاءت للنور، إننا نرى ذلك عندما نٌشعِل موقداً في الخلاء فأنت تجد حوله الكثير من هذه الحشرات صرعى، تلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1926 الحشرات عشقت مصرعها، إنها قد جاءت إلى النور ولكن النار أحرقتها، كذلك الإنسان العاصي يعشق مصرعه؛ لأنه لا يعرف أن هذه الشهوة ستدخله النار. {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} أي أن النار لها جاذبية مثل جاذبية المعصية عندما تأخذ الإنسان، ومجرد الزحزحة عن النار، حتى وإن وقف بينهما لا في النار ولا في الجنة فهذا حسن، فما بالك إنْ زُحزح عن النار وأُدخل الجنة؟ لقد زال منه عطب وأعطى صالحاً. وهذه حاجة حسنة، وهذا هو السبب في أن النار مضروب على متنها الصراط الذي سنمر عليه، لماذا؟ حتى يرى المؤمن النار. . وهو ماشٍ على الصراط التي لو لم يكن مؤمناً لنزل فيها، فيقول: الحمد لله الذي نجاني من تلك النار. {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} والفوز هو النجاة مما تكره، ولقاء ما تحب، مجرد النجاة مما تكره نعمة، وأن تذهب بعد النجاة مما تكره إلى نعمة، فهذا فوز. ونلحظ في {زُحْزِحَ} أن أحداً غيره قد زحزحه. نعم لأنّ الله تكرّم عليه أولاً في حياته بفيض الإيمان وهو الذي زحزحه عن النار أيضا. ويذيل الحق الآية بقوله تعالى: {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} . وعندما يصف الحق سبحانه الحياة التي نعرفها بأنها «دنيا» ففي ذلك ما يشير إلى أن هناك حياة توصف بأنها «غير دنيا» وغير الدنيا هي «العليا» ، ولذلك يقول الحق في آية أخرى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] أي هي الحياة التي تستحق أن تُسمّى حياة؛ لأن الدنيا لا يقاس زمانها ببدايتها إلى قيام الساعة، لأن تلك الحياة بالنسبة للكون كله، ولكن لكل فرد في الحياة دنيا ليس عمرها كذلك، وإنما دنيا كل فرد هي مقدار حياته فيها. ومقدار حياته فيها لا يُعلم أهو لحظة أم يومٍ أم شهر أم قرن. وقصارى الأمر أنها محدودة حداً خاصا لكل عمر، وحداً عاماً لكل الأعمار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1927 والمتعة في الدنيا على قدر حظ الإنسان في المتع، فهي على قدر إمكاناته. فإذا نظرنا إلى الدنيا بهذا المعيار فإن متاعها يعتبر قليلاً، ولهذا لا يصح ولا يستقيم أن يغتر الإنسان بهذه المتعة متذكراً قول الله: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] فالغرور إذن أن تلهيك متعة قصيرة الأجل عن متعة عالية لا أمد لانتهائها، فحتى لا يغتر عائش في الدنيا فيلهو بقليلها عن كثير عند الله في الآخرة يجب أن يقارن متعة أجلها محدود وإن طال زمانها بمتعة لا أمد لانتهائها، متعة على قدر إمكاناتك ومتعة على قدر سعة فضل الله؛ لذلك كانت الحياة الدنيا متاع غرور ممن غُرّ بالتافه القليل عن العظيم الجليل. والله لم يظلم الدنيا فوصفها أنها متاع، ولكن نبهنا إلى أنها ليست المتاع الذي يُغتَرّ به فيلهي عن متاع أبقى، إنه الخلود. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله ولأتباع رسوله قضية تُنشئ فيهم وتؤكد لهم أن الإيمان وحده خير جزاء للمؤمن، وإن لم يتأت له في الدنيا شيء من النعيم، ولذلك أراد أن يوطنهم على أن الذين يدخلون الإيمان، لا يوطِّنون أنفسهم على أن الايمان دائماً منتصر، فلو كان دائماً منتصراً لوطّن كل واحد نفسه عليه ورضيه لأنه يضمن له حياة مطمئنة؛ لذلك كان لا بد أن يوضح لهم: أن هناك ابتلاءات. فالقضية الإيمانية أن تبتلوا، وموقع البلاء في نفوسكم أو في أموالكم، فقال: {لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1928 والبلاء في المال بماذا؟ بأن تأتي آفة تأكله، وإن وجد يكون فيه بلاء من لون آخر، وهي اختبارك هل تنفق هذا المال في مصارف الخير أو لا تعطيه لمحتاج، فمرة يكون الابتلاء في المال بالإفناء، ومرة في وجود المال ومراقبة كيفية تصرفك فيه، والحق في هذه الآية قدم المال على النفس؛ لأن البلاء في النفس يكون بالقتل، أو بالجرح أو بالمرض. فإن كان القتل فليس كل واحد سيقتل، إنما كل واحد سيأتيه بلاء في ماله. {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} هما إذن معسكران للكفر: معسكر اهل الكتاب، ومعسكر المشركين. هذان المعسكران هما اللذان كانا يعاندان الإسلام، والأذى الكثير تمثل في محاولة إيذاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأذى الاستهزاء بالمؤمنين، وأهل الكفر والشرك يقولون للمؤمنين ما يكرهون، فوطّنوا العزم أيها المسلمون أن تستقبلوا ذلك منهم ومن ابتلاءات السماء بالقبول والرضا. ويخطئ الناس ويظنون أن الابتلاء في ذاته شرّ، لا. إن الإبتلاء مجرد اختبار، والاختبار عرضة أن تنجح فيه وأن ترسب، فإذا قال الله: «لتبلون» ، أي سأختبركم - ولله المثل الأعلى - كما يقول المدرس للتلميذ: سأمتحنك «فنبتليك» يعني نختبرك في الامتحان، فهل معنى ذلك أن الابتلاء شرّ أو خير؟ . إنه شرّ على من لم يتقن التصرف. فالذي ينجح في البلاء في المال يقول: كله فائت، وقلل الله مسئوليتي، لأنه قد يكون عندي مال ولا أُحسن أداءه في مواقعه الشرعية، فيكون المال عليّ فتنة. فالله قد أخذ مني المال كي لا يدخلني النار، ولذلك قال في سورة «الفجر» : {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1929 وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] فهنا قضيتان اثنتان: الإنسان يأتيه المال فيقول: ربي أكرمني، وهذا أفضل ممن جاء فيه قول الحق: {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} [القصص: 78] إذن فالذي نظر إلى المال وظن أنّ الغني إكرام، ونظر إلى الفقر والتضييق وظن انه إهانه، هذا الإنسان لا يفطن إلى الحقيقة، والحقيقة يقولها الحق: «كلا» أي أن هذا الظن غير صادق؛ فلا المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة، ولكن متى يكون المال دليل الكرامة؟ يكون المال دليل كرامة إن جاءك وكنت موفقاً في أن تؤدي مطلوب المال عندك للمحتاج إليه، وإن لم تؤد حق الله فالمال مذلة لك وإهانة، فقد اكون غنياً لا أعطى الحق، فالفقر في هذه الحالة أفضل، ولذلك قال الله للاثنين: «كلا» ، وذلك يعني: لا إعطاء المال دليل الكرامة ولا الفقر دليل الإهانة. وأراد سبحانه أن يدلل على ذلك فقال: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 17 - 19] {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} وما دمتم لا تكرمون اليتيم فكيف يكون المال دليل الكرامة؟ إن المال هنا وزر، وكيف إن سلبه منك يا من لا تكرم اليتيم يكون إهانة؟ . . إنه سبحانه قد نزهك أن تكون مهانا، فلا تتحمل مسؤلية المال. إذن فلا المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1930 {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} وحتى إن كنت لا تمتلك ولا تعطي أفلا تحث من عنده أن يُعطي؟ أنت ضنين حتى بالكلمة، فمعنى تحض على طعام المسكين أي تحث غيرك. . فإذا كنت تضن حتى بالنصح فكيف تقول إن المال كرامة والفقر إهانة؟ . . {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} أي تأكلون الميراث وتجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصيب غيركم دون ان يتحرّى الواحد منكم هل هذا المال حلال أو حرام. . فإذا كانت المسألة هكذا فكيف يكون إيتاء المال تكريماً وكيف يكون الفقر إهانة؟ . . لا هذا ولا ذاك. {لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} والذي يقول هذا الكلام: هو الله، إذن لا بد أن يتحقق - فيارب أنت قلت لنا: إن هذا سيحصل وقولك سيتحقق، فماذا اعطيتنا لنواجه ذلك؟ - اسمعوا العلاج: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور} . . تصبر على الإبتلاء في المال، وتصبر على الابتلاء في النفس، وتصبر على أذى المعسكر المخالف من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا، إن صبرت فإن ذلك من عزم الأمور، والعزم هو: القوة المجتمعة على الفعل. فأنت تنوي أن تفعل، وبعد ذلك تعزم يعني تجمع القوة، فقوله: {فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور} أي من معزوماتها التي تقتضي الثبات منك، وقوة التجميع والحشد لكل مواهبك لتفعل. إذن فالمسألة امتحان فيه ابتلاء في المال، وابتلاء في النفس وأذى كثير من الذين أشركوا ومن الذين أوتوا الكتاب، وذلك كله يحتاج إلى صبر، و «الصبر» - كما قلنا - نوعان: «صبر على» و «صبر عن» ، ويختلف الصبر باختلاف حرف الجر، صبر عن شهوات نفسه التي تزين للإنسان أن يفعل هذه وهذه، فيصبر عنها والطاعة تكون شاقة على العبد فيصبر عليها، إذن ففي الطاعة يصبر المؤمن على المتاعب، وفي المعصية يصبر عن المغريات. و {لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} توضح أنه لا يوجد لك غريم واضح في الأمر، فالآفة تأتي للمال أو الآفة تأتي للجسد فيمرض، فليس هنا غريم لك قد تحدد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1931 ولكن قوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} فهذا تحديد لغريم لك. فساعة ترى هذا الغريم فهو يهيج فيك كوامن الانتقام. فأوضح الحق: إياك أن تمكنهم من أن يجعلوك تنفعل، وأَجِّلْ عملية الغضب، ولا تجعل كل أمر يَسْتَخِفّك. بل كن هادئا، وإياك أن تُسْتَخَفَّ إلا وقت أن تتيقن أنك ستنتصر، ولذلك قال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور} . واتقوا مثل «اتقوا الله» أي اتقوا صفات الجلال وذلك بأن تضع بينك وبين ما يغضب الله وقاية. «عن أسامة بن زيد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مرّ على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم ابن أُبَيّ، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تُؤْذنا في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا سعد «ألم تسمع إلى ما قاله أبو حباب» ؟ يريد عبد الله بن أبي، قال: كذا وكذا فقال سعد: يا رسول الله اعفُ عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1932 ويقول الحق من بعد ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ... } الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1933 ونعرف - من قبل - أن الله قد أخذ عهداً وميثاقاً على كل الأنبياء أن يؤمنوا برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] ونأتي هنا إلى عهد وميثاق آخذه الله على أهل الكتاب الذي آمنوا بأنبيائهم، هذا العهد هو: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} . فما الذي يبينونه؟ وما الذي يكتمونه؟ وهل هم يكتمون الكتاب؟ نعم لأنهم ينسون بعضا من الكتاب، وما داموا ينسون بعضاً من الكتاب فمعنى ذلك أنهم مشغولون عنه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1933 {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 14] والذي لم ينسوه من المنهج، ماذا فعلوا به؟ : {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} [البقرة: 159] لقد كتموا البينات التي أنزلها الله في الكتاب، فالكتم عملية اختيارية، أما النسيان فقد يكون لهم العذر أنهم نسوه، لكنهم يتحملون ذنباً من جهة أخرى، إذ لو كان المنهج على بالهم وكانوا يعيشون بالمنهج لما نسوه. والذي لم ينسوه كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لووا به ألسنتهم وحرّفوه. وهل اقتصروا على ذلك؟ لا. بل جاءوا بشيء من عندهم وقالوا: هو من عند الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] وقولهم: {هذا مِنْ عِنْدِ الله} ما يصح أن يقال إلا لبلاغ صادق عن الله، وكلمة {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} لا بد أن توسع مدلولها قليلاً، ولها معنى عام، ونحن نعرف أن الثمن نشتري به، فكيف تشتري أنت الثمن؟ أنت إذا جعلت الثمن سلعة، وما دام الثمن يُجعل سلعة فيكون ذلك أول مخالفة لمنطق المبادلة؛ لأن الأصل في الأثمان أن يُشتري بها، أصل المسألة أنّ نَعْت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان موجوداً عندهم في الكتب ثم أنكروه. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1934 إذن فقوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ} يعني لتبينن أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كما هو موجود عندكم دون تغيير أو تحريف، وعندما يبينون أمر الرسول بأوصافه ونعوته فهم يبينون ما جاء حقاً في الكتاب الذي جاءهم من عند الله. وهكذا نجد أن المعاني تلتقي، فإن بينوا الكتاب الذي جاء من عند الله، فالكتاب الذي جاء من عند الله فيه نعت محمد، وهكذا نجد أن معنى تبيين الكتاب، وتبيين نعت رسول الله بالكتاب أمران ملتقيان. {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} يقال: نبذت الشيء أي طرحته بقوة، وذلك دليل على الكراهية؛ لأن الذي يكره شيئاً يحب أن يقصر أمد وجوده، ومثال ذلك: لنفترض أن واحداً أعطى لآخر حاجة ثم وجدها جمرة تلسعه، ماذا يفعل؟ هو بلا شعور يلقيها بعيداً. والنبذ له جهات، ينبذه يمينه، ينبذه أمامه، ينبذه شماله، أما إذا نبذه خلفه، فهو دليل على أنه ينبذه نبذة لا التفات إليها أبداً، انظر التعبير القرآني {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} . إن النبذ وحده دليل الكراهية لوجود الشيء الذي يبغضه، إمعان في الكراهية والبغض، فلو رمى إنسان شيئاً أمامه فقد يحن له عندما يراه أو يتذكره، لكن إن رماه وراء ظهره فهذا دليل النبذ والكراهية تماما، ولذلك يقولون: لا تجعلن حاجتي بظهر منك، يعني لا تجعل أمرا أريده منك وراء ظهرك، والحق يقول: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} أي أنهم جماعة و «ظهور» جمع «ظهر» كأن كل واحد منهم نبذه وراء ظهره. وكأن هناك إجماعاً على هذه الحكاية، وكأنهم اتفقوا على الضلال، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون. والمشتري هنا هو الثمن، والثمن يُشترى به، ولندقق النظر في التعبير القرآني، فهناك واحد يشتري هذا الأمر بأكلة، وآخر يشتري هذه الحكاية بحُلَّة أو لباس، وهناك من يشتريها بحاجة وينتهي، إنما هم يقولون: نريد نقوداً ونشتري بها ما نحب، هذا معنى {واشتروا بِهِ ثَمَناً} . ويعلق الحق على ما يشترونه قائلاً: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} لماذا؟ لأنك قد تظن أن بالمال - وهو الثمن - تستطيع أن تشتري به كل شيء، ولكن النقود لا تنفع الإنسان كما تنفعه الحاجة المباشرة؛ لأننا قلنا سابقاً: هب أن إنساناً في مكان صحراوي ومعه جبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1935 من ذهب وليس معه كوب ماء، صحيح أن المال يأتي بالأشياء، إنما قد يوجد شيء تافه من الأشياء يغني ما لا يغنيه المال ولا الذهب، فيكون كوب الماء مثلاً بالدنيا كلها، ولا يساويه أي مال {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} . وبعد ذلك يقول الحق: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواَ ... .} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1936 والحسبان للأمر أن يظنه السامع دون حقيقته، والأمور التي يظنها السامع تسير أولاً على ضوء الشيء الواضح دون التدبر لما وراء واجهات الأشياء، فالذين يفرحون بنا أتوا نوعان: نوع يفرح بما أتاه مناهضاً لدعوة الحق كالمنافقين الذين فرحوا بأنهم غشوا المؤمنين، وتظاهروا بالإيمان فعاملهم المؤمنون بحق الأخوة الإيمانية، حدث هذا قبل أن يكشف الحق هؤلاء المنافقين للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وللمؤمنين بعد ذلك. ونوع آخر يفرح لما آتاه وجاء به مناصراً لدعوة الحق فالفرح الأول - وهو فرح المنافقين - والفرح الثاني مشروع. ولذلك يقول الحق: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] إذن فلم ينه الله عن مطلق الفرح ولكن ليفرحوا بفضل الله. إنه سبحانه قد نهى عن نوع من الفرح في مسألة قارون: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1936 {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76] وهكذا نجد آيات تنهى عن الفرح وآيات تثبت للمؤمنين الفرح، وتأمرهم به. إذن فالفرح في ذاته ليس ممقوتاً، ولكن الممقوت بعض دواعي ذلك الفرح، فدواعيه عند المؤمن أن يفرح بنصر الله، وأن يفرح بإعلاء كلمة الحق، وهذه دواع مشروعة. ودواعيه الممنوعة أن يفرح بأن يقف أمام مبدأ من مبادئ الله ليدحض ذلك المبدأ وهذا ما يفرح به الكافر ولكن الفرح الحقيقي هو الفرح الذي لا يعقبه ندم، ففرح المؤمن موصول إلى أن تقوم الساعة، وموصول بعد ان تقوم الساعة. ولكن فرح الكافر والمنافق وأهل الكتاب الذين يصورون الله على غير حقيقته فرح موقوت وممقوت، إذن فذلك لا يعتبر فرحاً؛ لأن الندم بعد الفرح يعطى عاقبة شر؛ لأن النادم يتحسر دائما على فعله فهو في غم وحزن. فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطي للمؤمن مناعة، إنكم أيها المؤمنون تواجهون معسكرات تعاديكم. هذه المعسكرات ستفرح بما أتته ضدكم فيجب ألا يفتّ ذلك في عضدكم، ولا تحسبنهم إن فعلوا ذلك بمنجاة من العذاب، وما دام فرحهم سيؤدي بهم إلى العذاب فهو فرح أحمق. وماذا صنع الذين جاء فيهم القول: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} يحتمل أن يكون المراد هم أهل الكتاب الذين كتموا نعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأن الآية السابقة تقول: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} ماذا فعل هؤلاء إذن؟ لقد كتموا أوصاف رسول الله ونعته الموجود في كتبهم وفرحوا بما كتموا، وبعد ذلك أحبوا أن يحمدوا بما فعلوا من الذين على طريقتهم في الكفر والضلال. إن الإنسان قد يأتي الذنب ولكنّه يندم بعد أن يفعله، ولكنه حين يسترسل فيفرح بما فعل فذلك ذنب آخر، وهكذا صار إتيان العمل ذنباً، والفرح به ذنباً آخر؛ لأنه لو ندم على ما فعله لكان الندم دليلا على التوبة، أما أن يأتي العمل وبعد ذلك يفرح به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1937 ثم بعد ذلك الأشد؛ فيحب أن يُحمد بما لم يفعل، فذلك من تمام الحمق، إنه جرم وذنب مركب من فعل آثم، ففرح به، فحب لحمد على شيء لم يفعله. أكان يجب أن يُحمد بما فعل أو بما لم يفعل؟ بما لم يفعل لأنه خلع على أمره غير الحق، وإذا قال قائل: إنها نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله فالقول محتمل؛ لأن هؤلاء تخلفوا عن الحرب مع رسول الله وفرحوا بأن متاعب السفر ومتاعب الجهاد لم تنلهم، وبعد ذلك اعتذروا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اعتذارات كاذبة ولو ندموا لكان خيراً لهم، ولم يتضح للمسلمين كذبهم فحمدوا لهم ذلك الاعتذار، إنهم قد أتوا الذنب، وفرحوا بأنهم أتوه، ونجوا من مغارم الحرب، وبعد ذلك فرحوا أيضاً بأنهم أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلو، لأن اعتذارهم كان نفاقاً، سواء كان هذا أو ذاك فالآية على إطلاقها: للذين يفرحون بما أتوا من مناهضة الحق وذلك فعل، والفرح به ذنب آخر، والرغبة في الحمد عليه شيء ثالث، إذن فالذنب مركب، فهم يسترون الأمر ويبينون نقيضه كي نحمدهم ونشكرهم، والحق سبحانه وتعالى يعطي لهذا دستوراً إيمانياً لمطلق الحياة. {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} وهل المنعي عليهم أنهم يحبون أن يحمدوا؟ أو المنعي عليهم والمأخوذون به أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؟ إن المنعي عليهم انهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؛ لأن الإنسان إن أحب أن يُمدح بما فعل فلا مانع، والقرآن حين يعالج نفساً بشرية خلقها الله بملكات، فهو يعلم مطلوبات الملكات، بعض الملكات قد تحتاج إلى شيء فلا يتجاوز الله هذا الشيء، إن الإنسان مطبوع على حب الثناء من الغير، لأن حب الثناء يثبت له وجوداً ثانيا، ووجودك الثاني هو أن تعبر عن نفسك بعملك الذي يكون مبعث الثناء عليك، والناس لا تثني على وجودك، لكنها تثني على فعلك. وما دام الإنسان يحب الثناء فسيغريه ذلك بأن يعمل ما يُثني به عليه، وما دام يٌغرى بما يُثني عليه فسيعمل بإتقان أكثر، وساعة يعمل فإن المحيط به ينتفع من عمله، والله يريد إشاعة النفع فلا يمنع سبحانه حب الثناء كي يزيد في الطاقة الفاعلة للأشياء؛ لأنه لو حرّم ذلك الثناء فلن يعمل إلا من كانت ملكاته سوية، وسيفقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1938 المجتمع طاقات من كانت ملكاته قليلة، فصاحب الملكات القليلة يريد أن يمدح، فلا مانع من مدحه ليزيد من العمل، ويُمدح مرة ثانية، وتستفيد الناس، والذي ينتظر الثناء من الناس تنزل منزلته ومرتبته عن مرتبة من انتظر التقدير من الله، فهو الذي جنى على نفسه في ذلك. لكن لا بد أن نمدحه كي يعمل بما فيه من غريزة حب الثناء فنكون قد زدنا من عدد طاقات العاملين. ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما عرض لهذه القضية، وهي قضية تزكية الصالح وتجريم الطالح الفاسد في قصة «ذي القرنين» يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 83 - 84] كي تعلم أن الممَكّنَ لا يُمَكّنُ بذاته وإنما هو ممكن بمن مَكّنَهُ، فلو كان عنده تفكير إيماني، لما أغرته الأسباب أن يتمرد؛ لأن الإيمان يعلمه أن الأسباب ليست ذاتية. ومن أجل أن يثبت الله أن الأسباب غير ذاتية فهو ينزع الملك ممن يشاء، ويهب الملك من يشاء، نقول له: لو كان الأسباب ذاتية فتمسك بها، لكن الأسباب هبة من الله {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} وحين يأتيه الله الأسباب فالأسباب أنواع: سبب مباشر للفعل، وسبب متقدم على السبب المباشر، فإنت إذا ارتديت ثوباً جميلاً، فوراء ذلك أنك أتيت بالقماش الذي نسجه النساج، والنساج استطاع إتقان عمله بعد أن قام الغزّال بغزل القطن، والقطن نتج لأن فلاحاً بذر البذور ورعي الأرض بالحرث والرى. فأنت إن نظرت إلى الأسباب المباشرة المتلاحقة فانظر إلى نهاية الأسباب، وستصل إلى شيء لا سبب له إلا المسبب الأعلى وهو الله - جلت قدرته -. وسلسل أي شيء في الوجود ستجد أنك أخيراً أمام سبب خلقه الله مثال ذلك النور الكهربائي الذي تتمتع أنت به. ستجد أن المعمل قام بصنع الزجاج الخاص بالمصابيح الكهربائية، ونوع من المصانع يصنع الأسلاك الموجودة بالمصباح، وستنتهي إلى شيء موجود لا يوجد فيه بشر، فتصل إلى الحق سبحانه وتعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1939 أنت مثلاً جالس على الكرسي. وقد تقول: لقد صنعه النجار والنجار جاء بالخشب من البائع، والبائع جاء بالخشب من الغابة، فمن أين جاء الخشب إلى الغابة؟ تقول: لا أعرف، أما إذا كان عندك الحس الإيماني فأنت تقول: أوجده الله. وحين تنتهي الأسباب وسلسلتها نجد الله الخالق {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} فعندما أعطاه الله الأسباب جاء هو بالوسائط فقط، إذن فالأصل كله من الله. ويتابع الحق: {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} هذا في عين الناظر فقط، فأنت حين تركب البحر ثم ترى الشمس عند الغروب تغطس في البحر، وعندما تذهب للمنطقة التي غطست الشمس فيها تجد الشمس موجودة؛ لأنها لا تغيب أبدا، إنما {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي فوجد الشمس في نظره عند غروبها عنه كأنها تغرب في مكان به عين ذات ماء حار وطين أسود. ويتابع الحق: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} . والناس تفهم أن هذا تخيير، يعني إما أن تعذبهم، وإما تُحسن إلى من كنت تعذبهم، لكن الدقة والتمعن يوضحان لنا أن الحق قد أعطى تفويضاً لذي القرنين، بقوله: {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} فَفَهمَ ذو القرنين عن الله التفويض، ولم يأخذ التفويض وافترى، بل قال: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} وليس هذا هو العذاب الذي يستحقه، لا، نحن سنعذبه في دنيانا كي لا يستشرى فيها الشرّ. وفوق ذلك سيعذبه الله عذاباً آخر {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} إنه أولاً لم يصف عذابه بنكر، إنما وصف عذاب الله فقال: {فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} ، لأن عذاب البشر للبشر على قدر البشر، لكن عذاب الله يتناسب مع قدرة الله، فهل لنا طاقة بهذا العذاب والعياذ بالله؟ ليس لنا طاقة به، وماذا عن موقف ذي القرنين من الذي آمن؟ إنه موقف مختلف. يقول الحق: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1940 يُسْراً} هو يجازيه بالحسنى ويعطيه المكافآت ويكرمه، وعندما يتساءل من يحب الثناء قائلاً: لماذا كرّم هذا؟ ويرى أسباب التكريم فيقول لنفسه لأصنعنَّ مثله كي أكرّم. ولذلك تجد الشباب يتهافت حتى يلعب بكرة القدم لماذا؟ لأنهم يجدون من يضع هدفاً في كرة القدم يكرّم، فيقول: أنا أريد أن أضع هدفاً. هذا وإن ديننا الحنيف يدعونا إلى أن نشكر من قدم خيرا أو أسدى معروفا حفزاً للهمم وتشجيعا لبذل الطاقات وفي الأثر: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» إذن فحب الثناء من طبيعة الإنسان، ولكي تُغزى الناس بأن يعملوا لا بد أن تأتي لهم بأعمال تستوعب طاقاتهم المتعددة، أما إذا اقتصر إتقان العمل على من لا يحبون الثناء، فسنقلل الأيدي التي تفعل، ولذلك تجد العمل حيث توجد المكافأة التشجيعية التي يأخذها من يستحقها ويقابلها من التجريم والعقوبة لمن يهمل في عمله، فلا يمنح رئيس عمل مكافأة لمن عملوا على هواهم، بل عليه أن يمنحها لمن أدى عمله بإتقان. وحين يعلم الناس أنه لا يجازي بالخير ولا يكّرم بالقول إلا من فعل فعلاً حقيقياً فالكل يفعل فعلاً حقيقياً، لكن عندما تجد الناس أن المكافآت لا يأخذها أحد إلا بالتزلف وبالنفاق وبالأشياء غير المشروعة فسيفعلون ذلك، وهكذا تأتي الخيبة. وهكذا تجد أن قوله الحق: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} . إن هذا القول يضع أساساً ودستوراً إيمانياً لمطلق الحياة، وعلاقة الحاكم بالمحكومين وعلاقة الفرد بنفسه وبمن حوله. وعلاقة الإنسان بالعمل الصالح أو بالذنوب؛ فإن الإنسان إذا ما أتى ذنباً، فربما يكون قد نفَّس عن نفسه بارتكاب الذنب، لكن بعد ما تهدأ شِرّة المعصية يجب عليه أن ينتبه فيندم ولا يفرح. هذه أول مرحلة. ولا يتمادى في ارتكاب الذنب، أما إذا تمادى وخلع على فعله النقيض وادّعى أنه قد أتى فعلاً حسناً حتى يناله مدح بدلاً من أن يناله ذم فذلك ذنب مركب، ويحشره الله ضمن من قال فيهم: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب} . والمفازة هي المكان الذي يظن الإنسان أن فيه نجاته، أي أن في هذا المكان فوزاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1941 له، ويطلقون كلمة «مفازة» على الصحراء إطلاقا تفاؤلياً، ولا يسمونها «مهلكة» لأن الذي كان يجوبها يهلك فسموها «مفازة» تفاؤلاً بأن الذي يسلكها يفوز، أو أن الصحراء أرض مكشوفة، وما دام الإنسان قد وصل إلى أرض مكشوفة فلن يصادف ما يخافه من حيوانات شرسة أو من وافدات ضارة كالحيّات، أو من عدو راصد، وفي ذلك فوز له، لأنه تجنب هذه المخاطر، إنه إن سار في الجبال والوديان فمن الممكن أن تستر عنه الوحوش المفترسة أو الهوام أو تستر عنه الذين يتتبعونه فلا يتوقاهم وقد يصيبونه بالأذى، فإذا ما ذهب إلى الأرض المكشوفة نجا من كل هذا لأنه ينأى ويبتعد عنهم، وتكون التسمية على حقيقتها، ومن يرى أن الصحراء مهلكة فليعرف أنها سميت «مفازة» تفاؤلاً، كما يسمون اللديغ الذي يلدغه الثعبان ب «السليم» . ونحن في أعرافنا العادية نتفاءل فنضع للشيء اسما ضد مسماه تفاؤلاً بالاسم، مثال ذلك: إذا كنت في ضيافة إنسان وقدم شراباً. قهوة مثلاً، وبعد أن نشرب القهوة يأتي الخادم فيقول من قدم لك القهوة لخادمه: تعال «خذ المملوء» ولا يقول: «خذ الفارغ» وهذا لون من التفاؤل. {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هم يظنون أنهم بمفازة من العذاب برغم أنهم لا يؤمنون بالحق، ولا يؤمنون بسيطرة الحق على كل أحوالهم وكل أمورهم فهم يظنون أن انتصارهم في معركة الدنيا لا هزيمة بعده، ولكن الحق بعد هذه الآية قال: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات ... .} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1942 إنه سبحانه حكم فيما يملك ولا أحد يستطيع أن يخرج من ملكه، وما دام لله ملك السماوات والأرض، فحين يقول: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فهذا الوعيد سيتحقق؛ لأن أحداً لا يفلت منه، ولذلك يقول أهل الكشف وأهل اللماحية وأهل الفيض: اجعل طاعتك لمن لا تستغنىعنه، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه. إذن ف {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} تدل على أن الله حين يوعد فهو - سبحانه - قادر على إنفاذ ما أوعد به، ولن يفلت أحد منه أبدا. وهذه تؤكد المعنى. فإذا ما سُرّ أعداء الدين في فورة توهم الفوز، فالمؤمن يفطن إلى النهاية وماذا ستكون؟ ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى قال: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1 - 5] . وهذه السورة قد نزلت في عمّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكانت هذه السورة دليلاً من أدلة الإيمان بصدق الرسول في البلاغ عن الله، لأن أبا لهب كان كافراً، وكان هناك كفرة كثيرون سواه، ألم يكن عمر بن الخطاب منهم؟ ألم يكن خالد بن الوليد منهم؟ ألم يكن عكرمة بن أبي جهل منهم؟ ألم يكن صفوان منهم؟ كل هؤلاء كانوا كفاراً وآمنوا، فمن الذي كان يدري محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه بعد أن يقول: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} من كان يدري محمداً بعد أن يقول هذا ويكون قرآناً يُتلى ويحفظه الكثير من المؤمنين، وبعد ذلك كله من كان يدريه أن أبا لهب يأتي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقد يضيف: إن كان محمد يقول: إنني سأصلى ناراً ذات لهب فهأنذا قد آمنت، مَن كان يدريه أنه لن يفعل، مثلما فعل ابن الخطاب، وكما فعل عمرو بن العاص. إن الذي أخبر محمداً يعلم أن أبا لهب لن يختار الإيمان أبداً، فيسجلها القرآن على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1945 نفسه، وبعد ذلك يموت أبو لهب كافرا. وكأن الله يريد أن يؤكد هذا فيوضح لك: إياك أن تظن أن ذلك الوعيد يتخلف؛ لأنى أنا «أحد صمد» ، ولا أحد يعارضنى في هذا الحكم؛ لذلك يقول في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] . فما دام «هو الله أحد» فيكون ما قاله أولاً لن ينقضه إله آخر، وستظل قولته دائمة أبداً. إذن فقول الحق سبحانه بعد قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} يوضح لنا أنه قد ضم هذا الوعيد إلى تلك الحقيقة الإيمانية الجديدة: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} وجاء بالقوسين؛ لأن السماء تُظِل، والأرض تُقِل، فكل منا محصور بين مملوكين لله، وما دام كل منا محصوراً بين مملوكين لله، فأين تذهبون؟ {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} وقد يكون هناك المَلِك الذي لا قدرة له أن يحكم، فيوضح سبحانه؛ لا، إن لله المُلْكَ وله القدرة. {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم يأتي بعد ذلك إلى تصور إيماني آخر ليحققه في النفوس بعد المقدمات التي أثبتت صدق الله فيما قال بواقع الحياة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1946 سبحانه يريد أن يبني التصور الإيماني على جذور ثابتة في النفس البشرية، لأن الإنسان الذي يفاجأ بهذا الكون، وفيه سماء بهذا الشكل: بلا عمد، وتحتها الكواكب، وأرض مستقرة، بالله ألا يفكر فيمن صنع هذا؟ والله لو أن واحدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1946 استيقظ من نومه ووجد سرادقا قد نصب في الميدان ليلا لوقف ليسأل: ما الحكاية؟ فما بالنا بواحد فتح عينيه فوجد هذا الكون المنتظم الذي يعطيه أسباب الحياة؟ ولذلك يجيء في سورة أخرى ليشرح هذه القضية شرحا يجلى لنا قضية الإيمان بالفكر الإنساني، فلا ننتظر الواعظ فقط الذي يأتينا بالرسالة والنبوة ليدل على المنهج المراد لمن خلق، بل تحتم علينا أن نتنبه بالفطرة إلى من خلق، لأننا قلنا من قبل: لو أن إنساناً وقعت به طائرة في صحراء، ولم يجد فيها ماء ولا شجراً ولا أناسا ولأنه مجهد غلبه النوم، فاستيقظ فوجد مائدة عليها أطايب الطعام، بالله قبل أن يمد يده لينتفع بها، ألا يجول فكره فيمن صنع هذه؟ إن دهشته من الحدث تجعله يفكر فيمن جاء بها قبلما يذوق الطعام، رغم أنه جوعان، فكذلك الناس الذين فتحوا عيونهم فوجدوا هذا الكون العجيب، وبعد ذلك لم يدَّع أحد منهم أنه خلقه، ولو كان أحد قد ادعى أنه خلقه. . لكانت المسألة تسهل، لكن أحداً لم يدع صنعه. هذا الكون الذي نراه جميعا بانتظامه الرائعِ، وقوانينه الثابتة. هل قال أحد: إنني صنعته؟ لا إذن فالذي قال: إنني صنعته تَسْلم له الدعوة، حتى يأتي واحداً آخر يقول: أنا الذي صنعته. لم يحدث هذا قط برغم وجود الملاحدة والمفترين على الله، ولذلك جاء قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} [النمل: 60] . كأن الحق يقول: إن لم أكن أنا الذي خلقت فمن الذي خلق إذن؟ ولم يجرؤ أحد على أن ينسب الكون لنفسه؛ لأن الكفار والملاحدة لا يستطيعون خلق شيء تافه من عدم. ومثال ذلك كوب الماء الذي تركه الله ولم يخلقه على الصورة التي هو عليها، كي يصنعوه ليفهموا أن كل شيء تم بخلقه - سبحانه - كوب الماء هذا شيء تافه أترف الحياة، وقبل أن تتم صناعة الكوب كنا نشرب ولم يكن هناك شجر يطرح ويثمر أكواباً بل صنعه إنسان أراد أن يترف الحياة، فإذا كان هذا الشيء الصغير له صانع جال في نواحي علوم شتَّى وفي المادة، ثم نظر إلى الأرض حتى وجد المادة التي عندما تُصهر تعطي هذه الشفافية واللمعان، فجرب في عناصر الأرض فلم يجد إلا الرمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1947 واكتشف هذه المادة ومزجها بمواد أخرى لصهرها وإذابتها واحتاجت صناعة الكوب إلى معامل وعلماء، كل هذا من أجل الكوب الصغير الذي قد تستغني عنه، انظر ما يحتاجه لصنعه؟ احتاج طاقات جالت في جميع مواد الأرض، وإمكانات صناعية وأناساً يضعون معادلات كيماوية، فما بالنا بالأشياء الأصلية وكم تحتاج؟ إن كل صنعة تحتاج على قدرها، ولم يقل أحد: إنني صنعتها، فيقول الحق: من الذي صنع كل هذا؟ وساعة يطرح سؤالاً فهو لا يريد أن يجعل القضية إخبارية منه، وهو القادر أن يقول: أنا الذي خلق السماء والأرض؟ فماذا يفعل المسئول؟ إنه يتخبط في إجابته ثم في النهاية لا يجد إلا الله. وكأن السائل لا يطرح هذا السؤال إلا إذا وثق أن الإجابة لا تكون إلا على وفق ما يريد {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ} وجاء هنا بالحاجة المباشرة. . {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي أنها تسرّ النظر بما فيها من خضرة ونضارة، وطراوة، وظل، وأزهار، وثمار، ولم يختصر الأمر فيقول: «لتأكلوا منها» لأن الذي يأكل هو الذي يملك فقط، لكن جمال المنظر لا يحجزه أحد عن كل من يرى، ويستمتع بما يراه. وكل منا عندما يرى بستاناً جميلاً يسره منظره، صحيح أنك لا تمد يدك لتأكل منه لأنه ليس ملكك، لكن هل يمنعك أحد أن تمتع به نظرك. وأن تمتع أنفك برائحته الجميلة؟ لا. وهكذا جاء الحق بالنعمة الشائعة لمن يملك ولمن لا يملك فقال: «ذات بهجة» ونعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يمتن بالأشياء يوضح لك: إياك أن تفهم أن الغرض من هذه المسألة أن تأكلها لتملأ بها بطنك فقط؛ لأن هناك أشياء جميلة لا ننتفع بها أكلاً، فهناك ألوان من الشجر ليس له ثمرة لكن لابد أن له عملاً؛ فورقه الجميل قد يفيد في الظل وما يشيعه من رائحة تعطر الجو، وبه خشب نحتاج إليه، وبجانب هذا نجد أشجاراً لها ثمار جميلة ننتفع بها. ولذلك يقول الحق: {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1948 نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] . وسبحانه يستفهم من الإنسان «ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون» . بسطحية راح أحد المستشرقين يردد: أيَنْعَى الله على الخلق ويعيب عليهم أن يعدلوا؟ ذلك أنه لم يفهم المعنى الصحيح، فالعدل هنا بمعنى العدول عن الحق أو الميل عنه. ويقول: {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإله مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النمل: 61] . إنه سبحانه الذي خلق الأرض ومن خلالها الأنهار وجعل فيها الجبال الرواسي، ويوضح الحق سبب وجود الجبال الرواسي في موقع آخر من القرآن الكريم: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 10] . فلماذا باركت يا الله؟ بارك الله في الجبال وقدر فيها أقواتها، فالقوت هو ما يُنتفع به في استبقاء الحياة. ونعرف أن القوت يؤخذ من الزرع، والزرع ينمو دائماً في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1949 الأرض الخصبة، وخصوبة الأرض تكون في الوديان، والوادي هو المكان الذي يكون بين جبلين. ولماذا يكون الوادي خصباً بين جبلين؟ لأن المطر حين ينزل من السماء، إنما ينزل على الجبال، والجبال كما تعرف معرضة لعوامل التعرية، فالحرارة تأتي بعد البرودة، والحرارة تجعل الأرض تمتد والبرودة، تقبض المادة، وما بين القبض والبسط يحدث للجبال التشقق السطحي. وعندما ينزل المطر فهو يجرف هذه التشققات، فتنزل من قمة الجبل بقوة الدفع لتصير جسيمات ناعمة، ونسميها نحن الغِرْين أو الطمى، كالذي كان يأتي لنا من الحبشة، والذي أحدث خصوبة وادي النيل. إذن فالجبال هي مخازن الأقوات. ومن فضل الله أن جعل الجبال صلبة، فلو أنها كانت هشة من أول الأمر، لكان سيلٌ واحد من المطر كفيلاً بإزالتها كلها، ولجعل الأرض سطحاً واحداً، ولا انتفع البشر بنصف متر من الخصوبة. وبعد ذلك يأتي الجدب. ونعلم أن الحق جعل مع التكاثر الإنساني تكاثراً لأسباب القوت، فكيف يكثر الحق سبحانه من القوت؟ نحن نرى أن للجبال قمة ولها قاعدة، وبين كل جبل وجبل يوجد الوادي، ونعرف أن ضيق الوادي يكون في أدناه، واتساع الوادي في أعلاه، والجبل عكس الوادي. فضيق الجبل يكون في القمة واتساعه في القاعدة أي أن قمة الجبل أقل اتساعا من قاعدته. وعندما ينزل الغرين بوساطة المطر من الجبل فهو ينزل إلى الوادي، فيرفع من مستوى سطح الوادي، وتتسع مساحة الوادي. وكلما نزل المطر على الجبال اتسعت مساحة الوديان التي بين الجبال؛ لأن المطر يحمل معه أجزاء من الجبال وهو ما يسمى بالغرين. وعندما يشاء الحق سبحانه إيذان النهاية، تتفتت كل الجبال ويقول للساعة: قومي الآن «. وهو يقول: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإله مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} . وفي موقع آخر يقول الحق: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1950 {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19 - 20] . الماء له استطراق فسلكه الله ينابيع في الأرض، فالإنسان يحفر في مكان من الأرض فيجد الماء عذباً، وفي موقع آخر يدق الإنسان الأرض ويحفرها ليجد الماء ولكنه مالح. لماذا إذن لم يتسرب الماء المالح إلى الماء العذب وكلاهما تحت الأرض؟ إذن لا بد أن للماء المالح مسارب تختلف عن مسارب الماء العذب ولا يطغي أحد على الآخر. لماذا؟ لأننا نجد أن الماء العذب يأتي من أعلى. ونجد دائماً منابع الأنهار عالية وتصب في البحر. والحق لم يجعل منسوب الماء المالح أعلى من منسوب الماء العذب، حتى لا يطغى الماء المالح على الماء العذب، لأنه سبحانه يريد أن يرتوي الناس من الظمأ بالماء، ويريد للزرع أن ينمو، وأن يتجه الفائض من الماء العذب إلى مخزن الماء سواء في بطن الأرض أو في البحار، وتأتي من بعد ذلك عملية التبخير فيتصاعد الماء بخاراً ليصير سحاباً، ثم يمطر من بعد ذلك ماء عذباً. والقدر الذي خلقه الله من الماء أزلاً، هو. هو، لا يزيد ولا ينقص. فالإنسان إذا كان قد شرب أطناناً من الماء طَوال حياته، فهل ظلت تلك الأطنان في جسد الإنسان أو أن تلك الأطنان قد خرجت في فضلات الإنسان؟ إن الإنسان لا يختزن إلا الموجود فيه الآن من الماء. والجسم الإنساني به حوالي تسعين بالمائة من مكوناته من الماء، وبعد ذلك يموت الإنسان فيتبخر منه الماء وتنزل بقية العناصر للأرض. إذن فكمية المياه. واحدة، ولكنها تخضع لدورة أرادها الله. وبعد ذلك يقول الحق: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1951 ومعنى المضطر هو الإنسان الذي استنفد أسباب بشريته ولم يدرك ما يحفظ به حياته ولذلك يقول الحق: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] . وكذلك يقول الحق في موضع آخر بالقرآن الكريم: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} [الإسراء: 67] . ذلك أنه عندما يصاب الإنسان بحادث جسيم، فهو لا يكذب على نفسه، حتى الكافر بالله عندما يجد أن كل الأسباب المادية التي أمامه لا تنفعه فهو يلجأ ويعترف بأنّ هناك إلهاً واحداً خالقاً. فيقول: يا رب. إذن فالحق سبحانه وتعالى يقول: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 62 - 64] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1952 كل هذه الآيات تؤكد قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} [آل عمران: 190] إنها ظواهر كونية. واختلاف الليل والنهار يعني أن هناك شيئاً آخر أو يأتي بعد شيء آخر. إذن فاختلاف الليل والنهار له معنيان: فمجيء الليل بعد النهار يعني اختلافهما أي كل منهما خليفة للآخر. والزمن يمثل ذلك. واختلاف آخر يتمثل في أن النهار منير، والليل مظلم، والنهار محل حركة، والليل محل سكون. فاختلاف الليل والنهار ليس آية فقط ولكنه آيات لكثيرين. وكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أنّ الفرد أعجز من أن يستنبط كل ما في الآيات، ولكن على كل واحد منكم أنتم البشر أن يستنبط آية، وكل إنسان يستنبط آية ينتفع بها هو وغيره من الناس وهكذا. إنها آيات يتوزع استنباطها على الخلق الذين يملكون البصيرة والأخذ بأسباب الله ليشيع الحق الاستنباط من أسرار الله لكل خلق الله المؤمنين إلى أن تقوم الساعة، وليبين لنا أصحاب العقول الحقيقية التي لا تنشغل الله المؤمنين إلى أن تقوم الساعة، وليبين لنا أصحاب العقول الحقيقية التي لا تنشغل بالنعمة عن المنعم بالنعمة؛ لأن لله إمداداً حين خلق من عَدَم، وإمداداً حين أمدّ من عُدم، وإمداداً آخر حينما يلقى على نعمته شيئاً من البركة، فالذي أخذ نعمة الله التي سبقت وجوده، وبعد ذلك غفل عن الحق سبحانه وتعالى فإن النعمة تعطيه، لكنها لا تكون مصحوبة بالبركة. ومعنى البركة أن يكون الشيء الحاصل والمستنبط من حركتك لا يأتي منه لك ولا للناس إلى الخير. فقد يعطيك الله بالأسباب والمسببات. لكن الله لا يعطيك البركة إذا أخذت النعمة وتركت المنعم. فلو أنك عند كل شيء ذكرت الله لأخذت النعمة والبركة. فحين ترى لك شيئاً تحبه عليك أن تقول: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1953 إنَّه ليس من شغلك ولا من عملك. ولكنها مشيئة الله وقوته سبحانه. ولذلك يقولون: إنك إذا رأيت أي نعمة لك في مال أو ولد أو خُلق أو هندام تقول حين تراها: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» فأنت لا ترى فيها سوءاً أبداً؛ لأنك رددتها إلى مَن خلقها، فضمنت صيانة الله لها بذلك الرد، والذي يحرسها هو الكلمة الواضحة «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» . ولذلك نرى في قوله تبارك وتعالى: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 32 - 36] . فماذا قال له صاحبه؟ {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لكنا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف: 37 - 40] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1954 فكان يجب ألا يغتر الإنسان بوجود النعمة وأن يعزوها وينسبها ويردها إلى المنعم وهذا يوضح لنا معنى قول الحق: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] . فقد تعطيكم الأسباب مسبباتها، ولكن لا زيادة عن المسببات بالتفضل منه سبحانه بالبركة، بل ربما كانت فجيعة لصاحبها، فتعطيه الأسباب ثم ينزع العطاء فتكون حسرة عليك. إذن فمَنْ هم أولو الألباب؟ تكون إجابة الحق: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1955 إنهم يقولون: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} لأنك حق، وخلقت السماوات والأرض بالحق، ووضعت لها نواميسها وقوانينها بالحق، فيجب أن نستقبل النعمة التي خلقتها لنا بالحق. فإن استقبلها بعض الناس بغير الحق، فإنها تكون وبالاً عليهم. ويقال: إن المؤمن الصادق في بني إسرائيل قبل رسالة عيسى عليه السلام كان إذا عبد الله بإخلاص ثلاثين سنة فإن غمامة تظله حيث سار. فكانوا عندما يرون واحداً من هؤلاء يسير تظلله غمامة، فهم يعرفون أنه عبد الله بإخلاص ثلاثين عاماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1955 وعَبَدَ واحد منهم الله ثلاثين سنة ولم ير السحابة تظلله، فشكا ذلك لأمه فقالت له: لعل شيئا فَرطَ منك. فقال لها: يا أماه لا أذكر. فقالت له: لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تفكر. فقال لها: لعل ذلك حدث. فقالت: الذي يأتيك من ذاك. وهذه القصة تذكرنا بضرورة التفكير في الله دائماً. ويروى عن سيدنا الإمام عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرم الله وجهه - أنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إذا استيقظ في الليل، استاك، ثم نظر إلى السماء. إذن فالنظر إلى السماء هو النظر إلى العلو. والنظر إلى الأرض أيضاً هو تأمل في حكمة الخالق، لكن النظرة إلى السماء تجعل الإنسان يفطن إلى علو الخالق. ولذلك فالعربي الذي استلقى على ظهره نائماً، واستيقظ ففطن إلى لون السماء الأزرق البديع، والنجوم تتلألأ فيها فقال: أشهد أن لَكِ رباً وخالقاً، اللهم اغفر لي. ولقد عرف الرجل متى يدعو الله وكيف يدعو، لذلك غفر الله له. وفيما روت كتب السيرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه جاء ليلة ونام، وكانت ليلة عائشة رضوان الله عليها. قالت عائشة لعبد الله بن عمر رضوان الله عليه. فنام بجوارى حتى مس جلدي جلده، ثم قال: «يا عائشة هل تأذنين لي الليلة في عبادة ربي» لقد استأذن منها رسول الله في حقها لأن الليلة ليلتها. وأضافت عائشة: يا رسول الله أنا أحب قربك وأحب هواك، وقد أذِنتُ لَكَ. لقد احتاطت الاحتياط الجميل، فهى تحب الرسول، وتقول: «وأنا أحب قربك» وهذا القول له معنى جميل، وحدث أن قال بعض المتنطعين على دين الله: إن رسول الله كان كبير السن بفارق كبير بينه وبين عائشة، وقولها ذلك إنما عن زهد فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1956 لكنها عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - ردت على ذلك من قبل أن يقال. فقالت: يا رسول الله أنا أحب قربك وأحب هواك وقد أذنت لك. وهذا درس يعطيه لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى نتعلم كيف نعامل أهلنا، حتى ولو كان الأمر الذي يشغلنا عنهم هو العبادة، وهو لا يريد أن ينشغل المؤمن عن رعاية أهله بعد أداء ما عليه من فروض، حتى ولو كان عبادة إلا بعد استئذان الأهل. لماذا؟ لأن الله طلب من الزوجة في العبادة غير المفروضة ألا تتطوع حتى تستأذن زوجها. فالزوجة إن صلت تطوعاً، أو صامت تطوعاً لا بد أن تستأذن زوجها، فإن أذن لها، فبها، وإن لم يأذن فليس لها أن تقوم بهذه العبادة غير المفروضة. يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خيركم. . خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» لأن الزوج حين يقرب زوجته فهو يريد أن يعفها عن التطلعات البشرية؛ لذلك فعندما تريد الزوجة أن تأخذ وقتها وخصوصا إن كان لها ضرائر، فهذا الوقت حق لها. فإن أراده الزوج للعبادة غير المفروضة فعليه أن يستأذنها. وقد تكون الحالة النفسية للمرأة في عدم وجود ضرائر أكثر قدرة على قبول استئذان الزوج لها ليتفرغ للعبادة. ولذلك فأنت ترى من أهل الفتوى الإيضاح الناجح لمثل هذا الأمر. لقد ذهبت امرأة تشكو زوجها لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وكان مضمون الشكوى أن زوجها لا يقربها، وكان مع عمر صحابي جليل. فقال له عمر ابن الخطاب: افتها. فقال الصحابي للزوج: يا هذا سنفرض أنك تزوجت أربعاً، فلزوجتك إذن ليلة بعد كل ثلاث ليال. وإذا كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد استأذن عائشة في عبادة ربه، فهذا معناه درس للأزواج أن يحسنوا معاملة الأهل إحساناً لا يجعل للمرأة تطلعا. لكننا نجد أناساًَ لا يستأذنون أهلهم لا في العبادة، ولا حتى في سهرات المعصية. وهذا ما يفسد البيوت والأسر. إن ما يفسد البيوت أن يكون الزوج مشغولا عن الزوجة، ويذهب إلى أصحابه في المقهى أو في مكان آخر. ولا يهتم بأفراد أسرته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1957 لماذا لا يذهب إلى منزلة ليؤانس أهله؟ وليشبع رغبتهم ويجلس مع زوجته وأهله وأولاده وبذلك تطمئن الزوجة أن رجلها معها وليس في مكان آخر، وذلك حتى تستقر الأمور. إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستأذن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فتأذن له. قالت عائشة رضوان الله عليها: «فقام إلى قربة فتوضأ ثم قام فبكى ثم قرأ فبكى، ثم أثنى على الله وحمده فبكى، حتى ابتلت الأرض، ثم جاء بلال، فقال: يا رسول الله صلاة الغداة. فرآه يبكي. فقال: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال رسول الله: أفلا أكون عبدا شكورا. . يا بلال لقد نزل علي الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1958 مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 190 - 200] . وأضاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها» . هذا ما جاء عن سيدنا رسول الله في أواخر سورة آل عمران، تلك الأواخر التي تبدأ بقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} . إن في تلك الآيات المنهج والاستدلال، واصطحاب الحق سبحانه وتعالى وذكره على كل حال من القيام والقعود وعلى الجنب. إن الحق يقول: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . ها نحن أولاء نرى أن مطلوب أولى الألباب هو أن يذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم. وقال بعض العلماء في تفسير قول الحق: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ} إن المقصود بذلك هو الصلاة، فمن لا يستطيع الصلاة قائماً يصلي قاعدا. . ومن لا يستطيع الصلاة قاعدا فليصل مضطجعا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1959 ونقول لهؤلاء العلماء: لقد خصصتهم هذا المعنى حيث المقام للتعميم، لماذا لأن القرآن لا يتعارض مع بعضه، بل يفسر بعضه بعضا، والحق يقول عند صلاة الخوف: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء: 102] . وحتى لا يظن المؤمن أن الفروض الخمسة هي التي يذكر فيها الله فقط قال سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] . أي إنه حصلت الصلاة أولا، وحصلت الصلاة ثانيا، كأن ذكر الله أمر متصل واجب في الصلاة، وفي غيرها، وبعدها يتفكر المؤمنون في خلق السماوات والأرض ويعترفون أنه سبحانه لم يخلق هذا باطلاً. ويكون المطلوب أن يقولوا: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1960 لماذا؟ لأن كل هذا الذكر لا يوفي حق ربنا علينا. . لذلك قالوا: {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1961 إنها العظمة، فهم لا يذكرون عذاب من يدخل النار، ولكنهم يذكرون خزي الله لمن دخل النار. وكأن الخزي مرتبة أشر من عذاب النار، فمن الذي أعطانا كل هذا الفضل، إنه - سبحانه - أعطانا توفيقا لذكره، وتوفيقاً لنتفكر في خلق السماوات والأرض، فهل يصح أن نقابله بكفران النعمة؟ وما الذي يحدث بهؤلاء الذين يدخلون النار؟ إنه الخزي والعياذ بالله. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي وليس لهم أنصار يمنعون عنهم عذاب النار. ومن بعد ذلك يقول الحق: {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي ... } الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1961 فكأن الإنسان بقلبه وفكره قبل أن يجيء له الرسول يجب أن يتنبه إلى ما في الكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1961 من آيات، وعليه أن يستشرف أن وراء الكون قوة، ولكن هذه القوة مبهمة في ذهنه. ما هي؟ إنه يرى الكون العجيب فيقول لنفسه: من المستحيل أن يكون هذا الكون بلا خالق. إن وراءه قوة لها حكمة ولها قدرة. هذا قصارى ما يصل إليه العقل ولكن أيستطيع العقل أن يدرك أن القوة اسمها الله؟ أيستطيع العقل أن يدرك ماذا تطلب القوة منه؟ لا. إذن لابد من رسول يبلغ عن تلك القوة. ولذلك قلنا: إن تلك هي الزلة التي وقع فيها الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة هم الذين بحثوا وراء المادة. ونحن نعلم أن العلم ينقسم إلى قمسين، قسم مادي قائم على التجربة، وقسم ميتا فيزيقى يبحث فيما وراء المادة. وهذا العلم متاهة الفلاسفة، وهو المضلة التي لم تلتق فيها مدرسة بمدرسة، ولا تمليذ في مدرسة مع تلميذ آخر في مدرسة. لماذا لم يلتقوا؟ لأنهم يبحثون وراء المادة. وما وراء المادة غيب. والغيب لا يدخل المعمل. لكن المادة تدخل المعمل. والمعمل عندما يعطي نتائج تحليلات لا يجامل في هذه النتائج. فالذي يدخل التجربة العلمية في المعمل بنزاهة فالمعمل يعطيه. والذي يدخل بغير نزاهة لا تعطيه المعامل شيئا. ولذلك نقول دائما: إننا لا نجد في العلوم المادية فارقا بين علم شيوعي روسي، وعلم أمريكي رأسمالي، فلا توجد كيمياء رأسمالية أو كيمياء شيوعية ولا توجد كهرباء روسية وأخرى أمريكية. إنها كيمياء واحدة، وكهرباء واحدة لأنها ابنة المعمل وبنت التجربة المادية. ومن العجيب الذي لا يفطن له الخلق المغرورون من هؤلاء أننا نجد العلم المادي ابن التجربة والمعمل والمادة الصماء التي لا تجامل يحاول كل معسكر أن يسرقه من غيره، ونجد الجواسيس يسافرون من معسكر إلى معسكر ليسرقوا تصميمات الطائرات والصواريخ. وأن بعضهم يتلصص على بعض حتى يعرفوا العلم المادي. لكن ماذا عن علم الأهواء والنظريات؟ إننا نجد أن كل طرف يقيم جدارا حتى لا يخترق علم الأهواء المجتمع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1962 هم يقيمون الحواجز في الأهواء، ولكن في العلم المادي يتحولون إلى لصوص. فلماذا لا يأخذون الأهواء مع العلم المادي؟ إن كل معسكر حريص على العداء مع مذاهب الغير في الحكم والاجتماع والاقتصاد. لكنهم في العلم المادي يسرق بعضهم بعضا؛ لأن المذاهب النظرية تتبع الأهواء، لكن العلم المادي - كما قلنا - يتبع الحقيقة المعملية التي لا تجامل. إذن فساعة يفكر الإنسان بعقله لابد أن يقول: إن وراء خلق الكون قوة خارقة. وقد عرفها العربي بفطرته فقال: البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟!! إنه دليل فطري، يدلك على وجود القوة، لكن ما اسم هذه القوة؟ لا نعرف. إذن فالأذن تستشرف إلى من يدلها على اسم هذه القوة. فإذا جاء واحد وقال: أنا مُرْسَلٌ من ناحية هذه القوة، وأنَّ اسمها الله، كان من المفروض أن تتهافت الناس عليه؛ لأنه سيحل لها اللغز الذي يشغلهم، لذلك فالمؤمنون يقولون: {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193] . كأن ذهن كل واحد فيهم كان مشغولا بضرورة التعرف على الخالق. وبعد ذلك. {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 192] . فأول حاجة فكروا فيها هي درء المفسدة؛ لأن أفاضل الناس يتهمون أنفسهم بالتقصير دائما؛ لذلك قالوا: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} . وعندما ننظر إلى معطيات القرآن نجد أن «الذنب» شيء، و «السيئة» شيء آخر. فالذنب يحتاج إلى غفران، والسيئة تحتاج إلى تكفير، على سبيل المثال «كفارة اليمين» تكون واجبة إذا ما أقسم المؤمن يمينا وحنث فيه، وهذا التكفير هو المقابل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1963 للحنث في اليمين، أما الأشياء التي تتعلق بالمعصية بين العبد وربه فهي الذنب، والسيئة هي الأمر الذي يخالف منهج الله مع عباد الله. فحين تفعل المعصية في أمر بينك وبين الله. فأنت لم تسيء إلى الله، فمن أنت أيها الإنسان من منزلة الله؟ لكنك بالمعصية تذنب، والذنب تأتي بعده العقوبة. أما مخالفة منهج الله مع عباد الله فهي. سيئة؛ لأنك بها تكون قد أسأت. لذلك فالمؤمنون قالوا: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} . ومن الذي هداهم إلى معرفة أن هناك فرقا بين الذنب والسيئة؟ وأن الذنب يحتاج إلى غفران، وأن السيئة تحتاج إلى تكفير؟ إنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حامل الرسالة من الله. وهو الذي علمنا الفرق بين الذنب والسيئة. فقد كان جالساً بين أصحابه فأخذته سِنَةٌ من النوم، ثم استيقظ فضحك. فعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله: أعط أخاك مظلمته. قال يا رب: لم يبق من حسناتي شيء، قال: يا رب يحمل عني من أوزاري. وفاضت عينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى أن يُتَحَمَّل عنهم من أوزارهم. فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا؟ لأي صِدّيقٍ هذا؟ لأي شهيدٍ هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن. قال: يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت. قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال: يا رب قد عفوت عنه، قال: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يُصلح بين المؤمنين يوم القيامة» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1964 هذا هو معنى التكفير أي أن نتحمل؛ لذلك نقول في الدعاء كما عُلِّمْنَا: «اللهم ما كان لك منها فاغفره لي، وما كان لعبادك فتحمله عني» . أي أن العبد يطلب أن يراضي الحق عباده من عنده، وما عنده لا ينفد أبدا. والعباد المؤمنون يقولون: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} أي اختم لنا سبحانك هذا الختام مع الأبرار. ومن بعد ذلك يأتي قوله تعالى حكاية عنهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا ... .} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1965 أي ربنا أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك، ولتسمع قول الحق استجابة لهم: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي ... .} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1965 ولْنر اللفتة الجميلة في الاستجابة: «فاستجاب لهم ربهم أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض» لقد كانوا يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ويخشون الدخول إلى النار. ودعوا الله بغفران الذنوب وتكفير السيئات. ودعوا الله أن يأتيهم ويعطيهم ما وعدهم به على ألسنة الرسل. لم يقل الحق سبحانه: استجبت لكم، لكنه جعل الاستجابة هي قبول العمل فقال: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} فليست الحكاية كلاما يقال، إنما يريد الله أن تدخل هذه المسائل في حيز التطبيق والنزوع العملي؛ فالمسألة ليست بالتمني فقط، فقد وضع سبحانه الشرط الواضح وهو العمل، فمن يريد استجابة الحق فلابد له من العمل. إن التفكر في بديع صنع الله لا يغني عن العمل؛ لأن الحق سبحانه يريد التفكر فيه وأنت تعمل في أسبابه. فأسباب الحق لا تشغلك عنه {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} [آل عمران: 195] . فالذين هاجروا من بلادهم ومن أهلهم ومن أوطانهم ومن أحبابهم، دون إكراه فهجرتهم هذه هي نزع وجودي، وانتقال من مكان إلى مكان جديد وكان ذلك في سبيل الله أي، فالذين هاجروا وخرجوا بجزء من إرادتهم، وكذلك الذين أخرجوا من ديارهم، وقاتلوا في سبيل الله وتحملوا الإيذاء وقُتلوا - هؤلاء - ينالون التكفير عن السيئات ويدخلون الجنة. لقد جاء الحق هنا بالعملية التي تتضح فيها الأسوة الإيمانية؛ لأن الإنسان ينشغل بماله وأهله ووطنه وباستبقاء الحياة، فإذا ما ضحى الإنسان بهذا كله في سبيل الثبات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1966 على كلمة الله أولا، وإعلاء كلمة الله ونشرها ثانيا. فالمؤمن من هؤلاء لم يكتف بنفسه بل جاهد في سبيل الله لتنتقل الحياة بحلاوتها إلى غيره، وبذلك يكون قد أحب لغيره ما أحبه لنفسه. نخرج من كل هذا برؤية واضحة هي أن الفكر وحده لا يكفي وإذا قال واحد: إن إيماني حسن فلا تأخذني بالمسائل الشكلية، نرد عليه قائلين: إن الله ليس في حاجة إلى ذلك، ولكنه يطلب منك أن تعمر الكون بحركتك، وأبرك الحركات وأفضلها أن ترسخ منهج الله في الأرض؛ لأنك إن رسخت منهج الله في الأرض، أدمت للوجود جماله. ومن بعد ذلك يقول الحق: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1967 وإذا ما سمعنا كلمة {تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} فاعلم أن التقلب يحتاج إلى قدرة على الحركة. والقدرة على الحركة تكون في مكان الإنسان وبلاده، فإذا اتسعت قدرتك على الحركة وانتقلت إلى بلد آخر، فعندئذ يقال عن هذا الإنسان: «فلان نشاطه واسع» أي أن البيئة التي تحيا فيها ليست على قدرة قدرته، بل إن قدرته أكبر من بيئته، لذلك فإنه يخرج من بلده. وكان ذلك يحدث، فكفار قريش كانوا يرحلون من بلدهم في رحلات خارجها. لذلك قال الحق: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} [آل عمران: 196] . والتقلب كما عرفنا ينشأ عن: قدرة وحركة واتساع طموح. وسبحانه يريد أن يبين لنا أن زخارف الحياة قد تأتي لغير المؤمنين. إن كل زخرف هو متاع الحياة الدنيا وهو مرتبط بعمر الإنسان في الوجود. ومهما أخذوا فقد أخذوا زينة الحياة وغرورها؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1967 فسبحانه هو القائل: {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} [آل عمران: 185] . إنها حياة لها نهاية. أما الذي يريد أن يُصَعِّدَ النعمة ويصعد النفع فهو يفعل العمل من أجل حياة لا تنتهي. والكافرون قد يأخذون العاجلة المنتهية، ولكن المؤمنين يأخذون الآجلة التي لا تنتهي. وحين نقارن بين طالب الدنيا وطالب الآخرة، نرى أن الصفقة تستحق أن نناقشها من نواحيها وهي كما يلي: لا تقس عمر الدنيا بالنسبة لذاتها، ولكن قس عمرها بالنسبة لعمر الفرد في الحياة؛ لأن عمر الدنيا عند كل فرد هو مدة بقائه فيها، فهب أن الدنيا دامت لغيري، فمالي ولها، إن عمر الدنيا قصير بالنسبة لبقاء الإنسان فيها، وإياك أن تقارنها بقولك: إن الدنيا سوف تبقي لملايين السنين؛ لأنها ستظل ملايين السنين لملايين الخلق غيرك، وعمر الدنيا بالنسبة لك هو عمرك فيها، وعمرك فيها محدود، وهذا على فرض أن الإنسان سيعيش متوسط الأعمار. فما بالك وعمرك فيها مظنون؛ لأن الموت يأتي بلا سن ولا يرتبط بسبب أو بزمان. ولذلك فالإنسان لا يضمن متوسط الأعمار. وعمر الآخرة متيقن وهو إلى خلود. إذن فعمر الإنسان في الدنيا مظنون وعمره في الآخرة متيقن، والدنيا محدودة، وفي الآخرة خلود، ونعيمك في الدنيا منوط بقدرتك على تصور النعمة وإمكاناتها. ولكن نعيمك في الآخرة على قدر عظمة رَبّك وعطائه العميم؛ لذلك قال الحق عنها: إنها متاع الغرور. ولم يأت الله لها باسم أقل من اسم الدنيا، فهل هناك اسم أقل وأحقر من هذا؟ إن الذين يغترون بما يناله الخارجون عن منهج الله من تقلبهم في البلاد عليهم أن يتذكروا أن كل ذلك إلى زوال وضياع. وعلينا أن نقارن التقلب في البلاد بما أعده الله لنا في الآخرة. وساعة تقارن هذه المقارنة تكون المقارنة سليمة. . ولذلك يتابع الحق قوله عن تقلب الذين كفروا في البلاد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1968 {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ ... } الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1969 والمهد هو المكان الذي ينام فيه الطفل. ومعنى ذلك أن الحق يقلب فيهم في جهنم كما يريد، لأنه لا قدرة لهم على أي شيء، شأنهم في ذلك شأن الطفل، يزال ملازما لفراشه ومهده حتى يقلبه ويحركه غيره. ويأتي المقابل لهؤلاء وهم المؤمنون فيقول: {لَكِنِ الذين اتقوا ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1969 والنزل هو المكان الذي يعد لنزول الضيف، والنزل حينما تقيمه قدرات بشرية تتراوح حسب إمكانات البشر وفي إحدى السفريات نزلنا في فندق فاخر فقال لي زملائي وإخواني: هذا لون من العظمة البشرية. قلت لهم: هذا ما أعده البشر للبشر، فكيف بما أعده الله للمؤمنين؟ وعندما ترى تقلب الكفار في البلاد فاعلم أنهم لن يأمنوا أن يأخذهم الله في تقلبهم، وفي ذلك يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1969 {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} [الأنعام: 47] . ويقول - سبحانه -: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 46] . والكافر من هؤلاء يتملكه الغرور، وهو يتقلب فيأتيه عذاب الله بغتة. والعذاب يأتي مرة بغتة، ومرة أخرى جهرة. إنه يأتي بغتة حتى يكون الإنسان متوقعا له في أي لحظة ويأتي جهرة حتى يرعب الإنسان ويخيفه قبل أن يقع. ولذلك يقول الحق: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 55] . فالموت إن جاءهم بغتة فقد لا يشعرون بهوله إلا لحظة وقوعه، ولكن حينما يأتيهم الموت وهم ينظرون، فهم يرونه وهم في فزع ورعب. والحق يقول من بعد ذلك: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1970 والحق سبحانه وتعالى يؤرخ للإيمان تأريخا صادقا أمينا، فالقرآن لم يتحامل على أهل الكتاب لأنهم عاندوا رسول الله وواجهوا دعوته وصنعوا معه كل ما يمكن أن يحبط الدعوة ويقضي عليها. إن القرآن يقول: في شأن بعض منهم منصفا لهم: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} وهذا اسمه - كما قلنا - صيانة الاحتمال. فساعة يقول الحق: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} ، ساعة ينزل هذا الكلام، فيسمعه بعض من أهل الكتاب الذين انشغلوا في أعماقهم بتصديق الرسول، ويعرضون قضية الإيمان على نفوسهم، فإذا ما كانوا كذلك ماذا يكون موقفهم وهم الذين يفكرون في أمر الإيمان بما جاء به محمد؟ إنهم عندئذ يقولون لأنفسهم: هذه مسألة في أعماقنا، فمن الذي أطلع محمداً عليها؟ إن ذلك دليل على أن محمداً لا ينطق عن الهوى، وأن الله يعلمه بما في نفوسنا مما لم يبرز إلى حيز الوجود، وما دام الحق يخبره بما لم يخرج إلى حيز الوجود فلابد أنه صادق. فإن كانت الآية قد قيلت بعد أن آمنوا فلن يكون لها هذا الوقع. إذن فلابد أن هذا القول تبشير بأن كثيراً من أهل الكتاب يفكرون في تصديق الرسول الله في البلاغ من الله، وهم بصدد أن يؤمنوا. فقول الله ذلك يجعل العملية الإيمانية في نفوسهم مصدقة، لأنهم يقولون: إنّ الرسول الذي يقول ذلك هو مبلغ عن إله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ويقول الحق من بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1970 هذه الآية هي ختام سورة آل عمران. وسورة آل عمران جاءت بعد سورة البقرة. والسورتان تشتركان معاً في قضية عقدية أولى، وهي الإيمان بالله والتصديق بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبما جاء به من عند الله خاتما للرسالات ومهيمناً عليها. ولذلك تكلم الحق عن قضية الإيمان وقضية الهدى وقضية الكتاب، ثم تعرض الحق لرواسب ديانات سابقة تحولت عن منهج الله إلى أهواء البشر، فجادل في سورة البقرة اليهود، وجادل في سورة آل عمران النصارى. وبعد ذلك عرض قضية إيمانية تتعلق بموقف المسلمين المؤمنين بالله وبتصديق رسوله في معترك الحياة، وعرض معركة من المعارك ابتلى فيها المؤمنون ابتلاءً شديداً، ثم عرض للقضية الإيمانية حين يثوب المؤمن المتخاذل إلى منهج ربه. وبعد أن ينتهي من هذه، يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} أي ما من آمنتم بما تقدم إيماناً بالله، وتصديقاً بكتابه، وتصديقاً برسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتمحيصاً للحق مع اليهود، وتمحيصاً للحق مع أهل الكتاب جميعاً، تمحيصاً لا جدلياً نظرياً، ولكن واقعيا في معركة من أهم معارك الإسلام وهي معركة أحد، فيا من آمنتم بالله إيمانا صادقا صافيا، استمعوا إليّ يا من آمنتم بي «اصبروا» وهذا أمر، و «وَصَابِرُواْ» أمر ثان، و «رَابِطُواْ» أمر ثالث، و «واتقوا الله» أمر رابع. إنها رابعة أوامر، والغاية من هذه الأوامر هي {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إذن فمن عشق الفلاح فعليه أن ينفذ هذه الأربعة: اصبر، صابر، رابط، اتق الله، لعلك تفلح. والحق سبحانه وتعالى حين يعبر عن الفلاح إنما يعبر بأمر مشهود مُحس للناس جميعاً، لم يقل لك: افعل ذلك لتنجح أو لتفوز. إنما جاء بكلمة «الفلاح» . و «الفلاح» كما قلنا: مأخوذ من فلح الأرض. وفلح الأرض هو شقها لتتعرض للهواء، ولتكون سهلة هينة تحت الجذير البسيط الخارج من البذرة، فإذا فلحت الأرض بهذه المشقة حرثاً وبذراً وتعهداً بالري ماذا يحدث لك من الأرض؟ إنها تؤتيك خيراً مادياً مشهوداً ملحوظا. إذن فقد ضرب الله المثل في المعنويات بالأمر المحُس الذي يباشره الناس جميعا، وأي فَلاَح هذا الذي يقصده الحق سبحانه وتعالى؟ إنه فلاح الدنيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1970 وفلاح الآخرة؛ فلاح الدنيا بأن تنتصروا على خصومكم، وأن تعيشوا معيشة آمنة مستقرة رغدة، وفلاح الآخرة أن تأخذوا حظكم من الخلود في النعيم المقيم، ومادام سبحانه يقول: اصبروا فلابد أن يكون هذا إيذانا بأن فيه مشقة، فالإيمان يؤدي إلى الجنة، والجنة محفوفة بالمكاره؛ لذلك لابد أن تكون فيه مشقات. وإذا نظرت إلى تلك المشقات تجدها في ذات النفس منفصلة عن المجتمع تارة، وتجدها في ذات النفس مع المجتمع تارة أخرى، أما في ذات النفس مفصولة عن المجتمع، فإن الصبر يقتضي أن تصبر على تنفيذ أمر الله في فعل الطاعات وعلى تحمل الألم منه في ترك المعاصي وإن كان ذلك يمنعك عن لذة شهوة تحبها فإنك تصبر عن تلك الشهوة التي تلح عليك، فمجاهدة المؤمن أن يصبر عن الشهوات التي نهى الله عنها، والأشياء التي تصيب الإنسان يصبر عليها، فالمصيبة في النفس يصبر عليها، والأشياء التي يصبر عنها من النواهي هي الشهوات والمتع التي يحرمها الله. وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إنني خلقتك وأعلم منازعة نفسك إلى الشهوة، لأنك تحبها فاصبر عنها، والأمور التي في الطاعة إن فعلتها ستورثك مشقة في ذاتك، اصبر عليها، إذن ففي الأوامر صبر على تنفيذها، وفي المناهي صبر عن إيقاعها، هذه كلها في الذات، وبعد ذلك إذا تعدت المسألة من الذاتية إلى المحيط الخارجي فالحق يقول: {والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة: 177] . يقول: «صابرين في» ، فعندنا «صابر على» ، و «صابر عن» و «صابر في» ، «والصابرين في البأساء» التي تقع عليهم من المجتمع الخارج عنهم، وكيف تصيبهم البأساء من المجتمع الخارج عنهم؟ نعم، لأن منهج الحق إنما يجيء ليصوب الخطأ في حركة المجتمع. والخطأ في حركة المجتمع إنما يستفيد منه أناس وهم يحرصون جاهدين أن يصدوا من يريدون تثبيت منهج الله، إذن فهم لا يقصرون في إيذائهم، وفي السخرية منهم، وفي إتعابهم وفي حربهم، وهذا صبر في البأساء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1973 والضراء وحين البأس، وإذا كان عدوك الذي جئت لتدحض منهجه الباطل بمنهجك الحق صابرك وصابر أيضاً على إيذائك، فعليك أن تصابره. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن «اصبر» غير «صابر» فاصبر هو أمر في نفسك ستصبر عليه، ولكن هب أن خصمك صبر أيضاً على إيذائك، وصار عنده جلد ليقف أمامك هنا، الحق يأمرك هنا بأن تصابره، أي إذا كان عدوك يصبر قليلا فعليك أنت أن تقوى على الصبر عليه، أي أن تجيء بصبر فوق الصبر الذي يعارضك، وكل مادة «فاعل» هكذا. مثال ذلك: عندما تقول: فلان نافس فلانا. والمنافسة تكون بين اثنين يحتاجان ويقصدان غاية، وكل واحد يريد أن يصل إليها، والذي يريد أن يصل إليها يريد أن يصل بحرص، فإن كان معاندك يحرص عليها بخطوة فاحرص عليها أنت بخطوتين، هذه هي المنافسة؛ فالمنافسة مغالبة على الفوز، والحق يقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} [المطففين: 26] والأصل فيها هو: إطالة النفس حين يغطس الإنسان في الماء، وسيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال للعباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أتنافسني؟ أي عرض عليه أن ينزلا معا تحت الماء، ويرى مَن منهما أطول نفسا. إذن فالفطن الكيّس هو من يتمرس على هذا العمل ولا ينزل إلى الماء في نفس متردد، بل يأخذ كمية من الهواء بشهيق يتسع له تجويف صدره كله ليكون عنده حصيلة يستطيع بها أن يمكث في الماء أطول مدة من الثاني، أما الذي يغطس وليس عنده هذه الحصيلة، فسيأخذ مقدار شهيق وزفير فقط «فنافسني» تعني أن نغطس في الماء معا لنرى من منا أطول نفسا. أي أنه قادر على أن يحتفظ بكمية من الهواء تستطيع أن تؤدي وظيفة حياته مدة طويلة، ولا يمكن أن يتأتى هذا إلا إذا أخذت شهيقاً يملأ الصدر حتى إنك لا تقدر أن تزيد، ولذلك فالطبيب عندما يريد أن يفحص حالة الرئة يقول للمريض: خذ نفساً طويلاً، لأنه يريد أن يرى المريض وقدرته. إذن فالمصابرة تعني إن كان خصمك يصابرك فأنت تصبر وهو يصبر، فتصبر أنت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1974 أكثر، ولهذا تحتاج المسألة إلى أن يتكاتف المجتمع كله على المصابرة، ولذلك جاء قول الحق سبحانه وتعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1 - 3] . أي أنك إذا رأيت أخا من إخوانك المؤمنين يخور ويضعف في مصابرته فتحثه على المصابرة وقل له: إياك أن تخور، لماذا؟ لأن النفس البشرية من الأغيار، وقد يأتي لها حدث يقوى عليها، فالمؤمن الذي ليس عنده هذه الأغيار ينفخ بالعزيمة فيمن يخور فقال الحق: «تواصوا» ، ولم يقل: جماعة يوصون جماعة، لا. «فالتواصي» أن تكون أنت مرة موصِياً، ومرة مُوصىً، فساعة لا يكون عندك ضعف الأغيار فَوصِّ، وساعة يكون عندك ضعف الأغيار تُوَصىَّ، فكل واحد موصٍ في وقت، ومُوصىً في وقت آخر، ولا نتواصى هذه التوصية على الصبر إلا إذا كنا تواصينا أولا على الحق الذي من أجله نشأت المعركة بين صابر وصابر. {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وعرفنا الصبر، وعرفنا المصابرة، فما هو الرباط؟ هو أن تشعر عدوك بأنك مستعد دائما للقائه، هذا هو معنى الرباط. والحق يقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . إنها خيل مربوطة للجهاد في سبيل الله مستعدة، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «خيركم ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها» . أي أن نكون مستعدين قبل وقوع الهجوم، وساعة تأتي الأمور الداهمة ننطلق لمواجهتها. ولكن يكون استعدادنا من قبل الأمر الداهم، ولذلك حين يكون عدوك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1975 عالما بأنك مرابط له ومستعد للحركة في أي وقت يرهبك ويخافك، أما إذا كنت في استرخاء وغفلة؛ فإنه يدهمك، فإلى أن تستعد يكون قد أخذ منك الجولة الأولى، إذن فما فائدة الرباط؟ فائدة الرباط أن يُعلم أنك لم تغفل عن عدوك وأنك لن تترك العدة والاستعداد له إلى أن يأتي بالمداهمة، ولكن تكون أنت مستعدّاً لها في كل وقت، والرباط لا يكون فقط أن ترابط بالخيل للعدو المهاجم هجوما ماديا، بل المرابطة تعني: الإعداد لكل ما يمكن أن يَرُدَّ عن الحق صيحة الباطل، فمن المرابطة أن تعد الناشئة الإسلامية لوافدات الإلحاد قبل أن تفد، لماذا؟ لأن المسألة ليست كلها غزواً بخيل وسلاح وعُدَد، فقد يكون الغزو بالفكر الذي يتسرب إلى النفوس من حيث لا تشعر، فإذن لابد أن تكون أيضاً في الرباط الذي يمد المؤمن بقدرة وطاقة المواجهة بحيث إذا جاءت قضية من قضايا الإلحاد التي قد تفد على المؤمنين، يكون عند كل واحد منهم الحصانة ضدها والقدرة على مواجهتها. لقد قلنا: إن آفة المناهج العلمية أنهم أخذوا مناهجهم عن الغرب، فدرسوا التاريخ كما يدرسه الغرب، ودرسوا الطبيعة كما يدرسها الغرب ونسوا أن لنا دينا يحمينا من كل هذه الأشياء، فعندما يأتيني رجل التاريخ بمنهجه من الغرب، ويقول: إن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت حقوق الإنسان، هنا يجب أن تكون عندنا مناعة وترابط، ونقول له: في أي سنة نشأت الثورة الفرنسية؟ لقد نشأت منذ سنوات قليلة، قد تزيد أو تنقص علىلمائتي سنة، وأنتم تجهلون أن الدين الإسلامي جاء منذ أربعة عشر قرنا بحقوق الإنسان، واقرأوا القرآن. فلو أن كل تلميذ حين يسمع أن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت حقوق الإنسان، يقول لهم: لا، أنت تعلم أن ذلك حدث في القرن السابع عشر لكن لماذا لا تلتفت إلى أنه منذ أربعة عشر قرنا جاء الإسلام بهذا المبدأ والتفت إلى الإساءة في استعمال الحق، فإذا كنت تجهل تشريع الله فلا يصح أن يؤدي بك هذا الجهل إلى طمس معالم الحق في منهج الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1976 وإذا قال دارس للطبيعة: إن الطبيعة أمدت الحيوان الفلاني باللون الذي يناسب البيئة التي يعيش فيها حتى لا يفتك به عدوه وهو بذلك يضلله، نقول له: إن الطبيعة لا تمد، الطبيعة ممدة من الله، لا تقل: إن الطبيعة أمدت. إذن فالرباط لا يكون بقوة عسكرية فحسب بل بالقوة العلمية أيضا، فخصوم الإسلام قد يئسوا من أن ينتصروا على الإسلام بقوة عسكرية بعد أن كتلوا كل قواهم في الحروب الصليبية، ولم يبق لهم إلا أن يَدخلوا علينا من خلال مناهجهم ومن خلال المستشرقين هناك، والمستغربين منا فينقلوا لنا ثقافات أجنبية بعيدة عن منهجنا، وهم معذورون لأنهم لا يعلمون منهج الله في دين الله، إذن فالرباط لابد أن يكون أيضاً في رباط الأفكار، ورباط العلم المادي. إن خصوم الإسلام يدخلون على الناس من مداخل متعددة فيجب أن ننبه النشء إليها، يقولون: أوروبا ارتقت حضاريا وأنتم يا مسلمون تخلفتم. نقول لهم: هل كان التخلف مقارنا للإسلام؟ لقد كانت الدولة الإسلامية هي الدولة الحضارية الأولى في العالم لمدة ألف سنة، وأوروبا التي تتشدقون بحضارتها كانت تعيش في العصور المظلمة. إن هؤلاء لم يعرفوا تاريخنا أو هم يتكلمون لأناس لا يعرفون تاريخهم. إذن فالمرابطة أن توضح أمور دينك توضيحا يقف أمام أي وافدة قبل أن تفد بالعدوان المسلح، ويجب أن تقف لغزو الأفكار ولهدم المبادئ، ولذلك قال الحق: «اصبروا» . و «صابروا» . و «رابطوا» ، وجماع كل ذلك «الصبر على» و «الصبر عن» و «الصبر في» ، والمصابرة للعدو والتواصي بالصبر، والرباط بمعنييه المادي والمعنوي، أي بالأمور المادية والأمور المعنوية القيمية، ويختم الحق الآية بقوله: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . ونعرف أنه حين قال لك: «اتق الله» تساوي أن يقول لك: «اتق النار» فمعنى «اتقو الله» : أي اجعلوا بينكم وبين غضب ربكم وقاية. ما هي الوقاية؟ أن تطيع، وما هي الطاعة؟ أن تنفذ ما أمر، وأن تنتهي عما نهى. فالذي يفسر التقوى بأنها الطاعة نقول له: نعم لأنها الوسيلة إلى وقايتك من غضب الله وعذابه، فالذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1977 يفسرها بهذا يفسرها بالوسيلة، والذي يفسرها بالأخرى يفسرها بالغاية، فعندما يقال لك: اتق الله، أي اجعل بينك وبين النار التي هي من جنود الله وقاية، أي اجعل بينك وبين غضب الله وقاية، وإذا قال لك: اتَّقِ الله يعني أطعه في أمره وفي نهيه، فما هي الوسيلة لاتقاء النار واتقاء غضب الله؟ إنها الطاعة، فمرة تفسر التقوى بالوسيلة ومرة تفسر بالغاية. وقلنا في قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إن الفلاح إما أن يكون في الدنيا وإما أن يكون في الآخرة في الدنيا: بأن ترتفع كلمة الحق وكلمة الإيمان وتنتصروا ولا أحد يذلكم ولا يجعلكم أحد تابعين له. هذا لون من الفلاح، ولكن على فرض أنهم فلحوا وضعفتم أنتم، في فترة من الزمن فثقوا أنكم تعملون لفلاح آخر هو فلاح الآخرة، وإلا فالذين يخاطبون بهذه الآية قبل أن يدركوا نصرا للإسلام على أعدائه، يفسرون الفلاح بماذا؟ الذين جاهدوا وتعبوا وعاشوا مضطهدين لا استقرار في حياتهم، وبعد ذلك ماتوا قبل أن يمكن للإسلام، كيف يكون فلاحهم؟ إن فلاحهم في الآخرة، ولذلك تجد الاحتياط في قصة أهل الكهف: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً} [الكهف: 19 - 20] . ونلحظ في هذه القصة قوله الحق: {يَرْجُمُوكُمْ} هذه واحدة، {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً} . إن كانوا يرجمونكم فسينتصرون عليكم في الدنيا، إنما ستأخذون الآخرة، وإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1978 ردوكم إلى دينهم، فلن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة، إذن فعناصر الفلاح المرادة للإنسان، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا إنّ عناصر الفلاح أن ننفذ أوامر الله في قوله: {اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1979 ردوكم إلى دينهم، فلن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة، إذن فعناصر الفلاح المرادة للإنسان، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا إنّ عناصر الفلاح أن ننفذ أوامر الله في قوله: {اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1981 وساعة يدعو الله سبحانه الناس إلى تقواه يقول: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ومعنى {اتقوا رَبَّكُم} أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية، وماذا أفعل لأتقى ربنا؟ أول التقوى أن تؤمن به إلها، وتؤمن أنه إله بعقلك، إنه - سبحانه - يعرض لك القضية العقلية للناس فيقول: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ} ولم يقل: اتقوا الله، لأن الله مفهومه العبادة، فالإله معبود له أوامر وله نواه، لم يصل الحق بالناس لهذه بعد، إنما هم لا يزالون في مرتبة الربوبية، والرب هو: المتولى تربية الشىء، خلقاً من عدم وإمدادا من عدم، لكن أليس من حق المتولى خلق الشيء، وتربيته أن يجعل له قانون صيانة؟ إن من حقه ومسئوليته أن يضع للمخلوق قانون صيانة. ونحن نرى الآن أن كل مخترع أو صانع يضع لاختراعه أو للشىء الذي صنعه قانون صيانة، بالله أيخلق سبحانه البشر من عدم وبعد ذلك يتركهم ليتصرفوا كما يشاؤون؟ أم يقول لهم: اعملوا كذا وكذا ولا تعملوا كذا وكذا، لكى تؤدوا مهمتكم فى الحياة؟ إنه يضع دستور الدعوة للإيمان فقال: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1985 إذن فالمطلوب منهم ان يتقوا، ومعنى يتقوا ان يقيموا الوقاية لأنفسهم بأن ينفذوا أوامر هذا الرب الإله الذي خلقهم، وبالله أيجعل خلقهم علة إلا إذا كان مشهودا بها له؟ هو سبحانه يقول: {اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} كأن خلقه ربنا لنا مشهود بها، وإلا لو كان مشكوكا فيها لقلنا له: إنك لم تخلقنا - ولله المثل الأعلى؟ أنت تسمع من يقول لك: أحسن مع فلان الذي صنع لك كذا وكذا، فأنت مقر بأنه صنع أم لا؟ فإذا أقررت بأنه صنع فأنت تستجيب لمن يقول لك مثل ذلك الكلام. إذن فقول الله: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} فكأن خلق الله للناس ليس محل جدال ولا شك من أحد، فأراد - سبحانه - أن يجذبنا إليه ويأخذنا إلى جنابه بالشىء الذي نؤمن به جميعا وهو أنه - سبحانه - خلقنا إلى الشيء الذي يريده وهو أن نتلقى من الله ما يقينا من صفات جلاله، وجاء سبحانه بكلمة «رب» ولم يقل: «اتقوا الله» لأن مفهوم الرب هو الذي خلق من عدم وأمد من عُدم، وتعهد وهو المربي ويبلغ بالإنسان مرتبة الكمال الذي يراد منه وهو الذي خلق كل الكون فأحسن الخلق والصنع، ولذلك يقول الحق: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] إذن فقضية الخلق قضية مستقرة. ومادامت قضية مستقرة فمعناها: مادمتم آمنتم بأنى خالقكم فلى قدرة إذن، هذه واحدة، وربيتكم إذن فلى حكمة، وإله له قدرة وله حكمة، إما أن نخاف من قدرته فنرهبه وإما أن نشكر حكمته فنقر به، {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} . لو لم يقل الحق: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} لما كملت، لماذا؟ لأنه سيقول فى آيات آخرى عن الإيجاد: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [الذاريات: 49] إذن فخلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها هنا، والناس تريد أن تدخل فى متاهة. هل خلق منها المقصود به خلق حواء من ضلع آدم أى من نفس آدم؟ أناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1986 قالوا ذلك، وأناس قالوا: لا، {مِنْهَا} تعني من جنسها، ودللوا على ذلك قائلين: حين يقول الله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] أأخذالله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من نفوسنا وكونه؟ لا، إنما هو رسول من جنسنا البشرى، وكأنه سبحانه قد أشار إلى دليل؛ لأن خلق حواء قد انطمست المعالم عنه، ولأنه أعطانا بيان خلق آدم وتسويته من طين ومراحل خلقه إلى أن صار إنسانا، ولذلك يجوز أن يكون قد جعل خلق آدم هو الصورة لخلق الجنس الأول، وبعد ذلك تكون حواء مثله، فيكون قوله سبحانه: {خَلَقَ مِنْهَا} أي من جنسها، خلقها من طين ثم صورها إلخ؛ ولكن لم يعد علينا التجربة في حواء كما قالها فى آدم، أو المراد من قوله: {مِنْهَا} أى من الضلع، وهذا شيء لم نشهد أوله، والشيء الذي لم يشهده الإنسان فالحجة فيه تكون ممن شهده، وسبحانه أراد أن يرحمنا من متاهات الظنون في هذه المسألة، مسألة كيف خُلقنا، وكيف جئنا؟ إن كيفية خلقك ليس لك شأن بها، فالذي خلقك هو الذي يقول لك فاسمع كلامه لأن هذه مسألة لا تتعلق بعلم تجريبي؛ ولذلك عندما جاء «دارون» وأراد أن يتكبر ويتكلم، جاءت النظرية الحديثة لتهدم كلامه، قالت النظرية الحديثة لدارون: إن الأمور التي أثرت في القرد الأول ليكون إنسانا، لماذا لم تؤثر في بقية القرود ليكونوا أناسا وينعدم جنس القرود؟! وهذا سؤال لا يجيب عليه دارون؛ لذلك نقول: هذا أمر لم نشهده فيجب أن نستمع ممن فعل، والحق سبحانه يقول: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] وما دام لم يشهدهم، فهل يستطيع أحد منهم أن يأتي بعلم فيها؟ إن أحدا لا يأتي بعلم فيها، وبعد ذلك يرد على من يجىء بادعاء علم فيقول: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدا} معنى مضلين أنهم سيضلونكم في الخلق. كأن الله أعطانا مناعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1987 في الأقوال الزائفة التي يمكن أن تنشأ من هذا عندما قال: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدا} فقد أوضح لنا طبيعة من يضللون في أصل الخلق وفي كيفية الخلق، فهم لم يكونوا مع الله ليعاونوه ساعة الخلق حتى يخبروا البشر بكيفية الخلق. فإن أردتم أن تعرفوا فاعلموا أنه سبحانه الذي يقول كيف خلقتم وعلى أي صورة كنتم، ولكن من يقول كذا وكذا، هم المضللون، و «المضللون» هم الذين يلفتونكم عن الحق إلى الباطل. {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ولماذا لم يقل خلقكم من زوجين وانتهى؟ لأنه عندما يُردّ الشىء إلى اثنين قد يكون لواحد من الاثنين هوى، وإنما هذه ردت إلى واحدة فقط، فيجب ألا تكون لكم أهواء متنازعة، لأنكم مردودون إلى نفس واحدة، أما عن نظرية «دارون» وما قاله من كلام فقد قيض الله لقضية الدين وخاصة قضية الإسلام علماء من غير المسلمين اهتدوا إلى دليل يوافق القرآن، فقام العالم الفرنسي «مونيه» عندما أراد أن يرد على الخرافات التي يقولونها من أن أصل الإنسان كذا وكذا، وقال: أنا أعجب ممن يفكرون هذا التفكير، هل توجد المصادفة ما نسميه «ذكرا» ثم توجد المصادفة شخصا نسميه «أنثى» ويكون من جنسه لكنه مختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا جاءا بذكر كالأول أو بأنثى كالثاني؟ كيف تفعل المصادفة هذه العملية؟ سنسلم أن المصادفة خلقت آدم، فهل المصادفة أيضا خلقت له واحدة من جنسه. ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا ينشأ بينهما سيال عاطفي جارف وهو أعنف الغرائز، ثم ينشأ منهما تلقيح يُنشىء ذكرا كالأول أو ينشىء أنثى كالثاني؟ أى مصادفة هذه؟ هذه المصادفة تكون عاقلة وحكيمة، سموها مصادفة ونحن نسميها الله. لقد ظن «مونيه» - هداه الله إلى الإسلام وغفر له - أنه جاء بالدليل الذي يرد به على دارون، نقول له: إن القرآن قد مس هذه المسألة حين قال: {اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، وهذه هى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1988 العظمة إنه خلق الرجل وخلق الأنثى؛ وهى من جنسه، ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا أنشأ الله منهما لاجالا ونساء. إذن فهو عملية مقصودة، وعناية وغاية وحكمة، إذن فقول الله سبحانه وتعالى: {الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} هذه جاءت بالدليل الذي هُدى إليه العالم الفرنسى «مونيه» أخيرا. {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} وانظروا عظمة الأسلوب في قوله {وَبَثَّ} أى «نشر» وسنقف عند كلمة «نشر» لأن الخلق يجب أن ينتشروا في الأرض، كى يأخذوا جميعا من خيرات الله في الأرض جميعا. و «النشر» معناه تفريق المنشور في الحيز، فهناك شىء مطوى وشىء آخر منشور، والشىء المطوى فيه تجمع، والشىء المنشور فيه تفريق وتوزيع، إذن فحيز الشىء المتجمع ضيق، وحيز الشىء المبثوث واسع، معنى هذا أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول {وَبَثَّ مِنْهُمَا} أى من آدم وحواء {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} واكتفى بأن يقول {َنِسَآءً} ولم يقل: كثيرات لماذا؟ لأن المفروض في كل ذكورة أن تكون أقل في العدد من الأنوثة. وأنت إذا نظرت مثلا في حقل فيه نخل، تجد كم ذكرا من النخيل، وكم أنثى؟ ستجد ذكراً أو اثنين. إذن القلة في الذكورة مقصودة لأن الذكر مخصب ويستطيع الذكر أن يخصب آلافا، فإذا قال الله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً} فالذكورة هى العنصر الذي يفترض أن يكون أقل كثيرا، فماذا عن العنصر الثاني وهو الأنوثة؟ لابد أن يكون أكثر، والقرآن يأتى لينبهك إلى المعطيات فى الألفاظ لأن المتكلم هو الله، ولكن إذا نظرت لقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} أى من آدم وحواء وهما اثنان {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} فتكون جمعا وهذا ليدلك على أن المتكاثر يبدأ بقلة ثم ينتهي بكثرة. ونريد أن نفهم هذه كى نأخذ منها الدليل الإحصائي على وجود الخالق، فهو {بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} والجمع البشرى الذي ظهر من الاثنين سيبث منه أكثر. . وبعد ذلك يبث من المبثوث الثاني مبثوثا ثالثا، وكلما امتددنا في البث تنشأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1989 كثرة، وعندما تنظر لأي بلد من البلاد تجد تعداده منذ قرن مضى أقل بكثير جدا من تعداده الآن، مثال ذلك كان تعداد مصر منذ قرن لا يتعدى خمسة ملايين، ومن قرنين كان أقل عددا، ومن عشرة قرون كان أقل، ومن عشرين قرنا كان أقل، إذن فكلما امتد بك المستقبل بالتعداد يزيد، لأنه سبحانه يبث من الذكورة والأنوثة رجالاً كثيراً ونساء وسيبث منهم أيضا عددا أكبر. إذن فكلما تقدم الزمن تحدث زيادة في السكان، ونحن نرى ذلك في الأسرة الواحدة، إن الأسرة الواحدة مكونة عادة من أب وأم، وبعد ذلك يمكن أن نرى منهما أبناء وأحفاد وعندما يطيل الله في عمر أحد الوالدين يرى الأحفاد وقد يرى احفاد الأحفاد. إذن كلما تقدم الزمن بالمتكاثر من اثنين يزداد وكلما رجعت إلى الماضي يقل؛ فالذين كانوا مليوناً من قرن كانوا نصف مليون من قرنين، وسلسلها حتى يكونوا عشرة فقط، والعشرة كانوا أربعة، والأربعة كانوا اثنين والاثنان هما آدم وحواء. فعندما يقول الحق: إنه خلق آدم وحواء، وتحاول أنت تسلسل العالم كله سترجعه لهما، ومادام التكاثر ينشأ من الاثنين، فمن أين جاءا؟ الحق سبحانه يوضح لنا ذلك بقوله: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} وهو بذلك يريحنا من علم الإحصاء. وكان من الضروري أن تأتي هذه الآية كى تحل لنا اللغز في الإحصاء، وكلما أتى الزمن المستقبل كثر العالم وكلما ذهبنا إلى الماضي قل التعداد إلى أن يصير وينتهي إلى اثنين، وإياك أن تقول إلى واحد، لأن واحداً لا يأتي منه تكاثر، فالتكاثر يأتي من اثنين ومن أين جاء الاثنان؟ لابد أن أحداً خلقهما، وهو قادر على هذا، ويعلمنا الله ذلك فيقول: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} ونأخذ من {َبَثَّ} «الانتشار» ولو لم يقل الله هذا لكانت العقول الحديثة تتوه وتقع في حيرة وتقول: نسلسل الخلق حتى يصيروا اثنين، والاثنان هذان كيف جاءا؟ - إذن لابد أ، نؤمن بأن أحدا قد أوجدهما من غير شىء. {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً} لأن النشر في الأرض يجب أن يكون خاصا بالرجل، فالحق يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1990 {فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] والحق يقول: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِه} [الملك: 15] والأنثى تجلس في بيتها تديره لتكون سكنا يسكن إليها، والرجل هو المتحرك في هذا الكون، وهي بذلك تؤدي مهمتها. وبعدما قال: {اتقوا رَبَّكُمُ} يقول: {اتقوا الله} لقد قدم الدليل أولا على أنه إله قادر، وخلقكم من عدم وأمدكم وسخر العالم لخدمتكم، وقدم دليل البث فى الكون المنشور الذى يوضح أنه إله، فلا بد أن تتلقوا تعليماته، ويكون معبودا منكم، أى مطاعا، والطاعة تتطلب منهجا: افعل ولا تفعل، وأنزل الحق القرآن كمنهج خاتم، ويقول: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ} . انظر إلى «القفشة» ، للخلق الجاحد، إنه - سبحانه - بعد أن أخذهم بما يتعاملون ويتراحمون ويتعاطفون به أوضح لهم: - أنتم مع أنكم كنتم على فترة من الرسل إلا أن فطرتكم التي تتغافلون عنها تعترف بالله كخالق لكم. وأنت إذا أردت إنقاذ أمر من الأمور، وتريد أن تؤثر على من تطلب منه أمراً، تقول: سألتك بالله أن تفعل ذلك، لقد أخذ منهم الدليل، فكونك تقول: سألتك بالله أن تفعل ذلك فلا بد أنك سألته بمعظّم، إذن فتعظيم الله أمر فطري في البشر، والمطموس هو المنهج الذي يقول: افعل ولا تفعل. والإنسان من هؤلاء الجاحدين عندما يسهو، ويطلب حاجة تهمه من آخر، فهو يقول له: سألتك بالله أن تفعل كذا. ومادام قد قال: سألتك بالله فكأن هناك قضية فطرية مشتركة هي أن الله هو الحق، وأنه هو الذي يُسأل به، ومادام قد سئل بالله فلن يخيّب رجاء من سأله. إنه في الأمور التي تريدون بها تحقيق مسائلكم تسألون بالله وتسألون أيضا بالأرحام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1991 وتقولون: بحق الرحم الذي بيني وبينك، أنا من أهلك، وأنا قريبك وأمُّنا واحدة، أرجوك أن تحقق لي هذا الأمر. ولماذا جاءت {الأرحام} هنا؟ لأن الناس حين يتساءلون بالأرحام فهم يجعلون المسئولية من الفرد على الفرد طافية في الفكر، فمادمت أنا وأنت من رحم واحد، فيجب أن تقضى لي هذا الشىء. إذن فمرة تسألون بالله الذي خلق، ومرة تسألون بالأرحام لأن الرحم هو السبب المباشر في الوجود المادي، ومثال ذلك قول الحق: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً} [النساء: 36] لقد جاء لنا بالوالدين اللذين هما السبب في ايجادنا، والله يريد من كل منا أن يبر والديه، ولكن قبل ذلك لابد أن ينظر إلى الذي أوجدهما، وأن يُصعد الأمر قليلا ليعرف أن الذي أوجدهما هو الله سبحانه. ويختم الحق الآية بقوله: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} لأن كلمة {اتقوا} تعني اجعل بينك وبين غضب ربك وقاية بإنفاذ أوامر الطاعة، واجتناب ما نهى الله عنه {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} ، والرقيب من «رقب» إذا انظر ويقال: «مرقب» ، ونجد مثل هذا المرقب في المنطقة الت تحتاج إلى حراسة، حيث يوجد «كشك» مبنى فوق السور ليجلس فيه الحارس كى يراقب. ومكان الحراسة يكون أعلى دائما من المنطقة المحروسة، وكلمة «رقيب» تعني ناظرا عن قصد أن ينظر، ويقولون: فلان يراقب فلانا أى ينظره، صحيح أن هناك من يراه ذاهبا وآتيا من غير قصد منهم أن يروه، لكن إن كان مراقبا، فمعنى ذلك أن هناك من يرصده وسبحانه يقول: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} فليس الله بصيرا فقط ولكنه رقيب أيضا - ولله - المثل الأعلى. نحن نجد الإنسان قد يبصر مالا غاية فى إبصاره، فهو يمر على كثر من الأشياء قيبصرها، لكنه لا يرقب إلا من كان فى باله. والحق سبحانه رقيب علينا جميعا كما في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1992 وبعد أن تكلم سبحانه عن خلقنا أبا وأما وأنه بث منهما رجالا كثيرا ونساء، أراد أن يحمى هذه المسألة وأن يحمى المبثوث. والمبثوث قسمان: قسم اكتملت له القوة وأصبحت له صلاحية فى أن يحقق أموره النفعية بذاته، وقسم ضعيف ليست له صلاحية فى أن يقوم بأمر ذاته، ولأنه سبحانه يريد تنظيم المجتمع؛ لذلك لابد أن ينظر القادرون في المجتمع إلى القسم الضعيف فى المجتمع، ومن القسم الضعيف الذى يتكلم الله عنه هنا؟ إنهم اليتامى، لماذا؟ لأن الحق سبحانه حينما خلقنا من ذكر وأنثى، آدم وحواء، جعل لنا أطوارا طفولية، فالأب يكدح والأم تحضن، ويربيان الإنسان التربية التي تنبع من الحنان الذاتى ونعرف أن الحنان الذاتى والعاطفة يوجدان فى قلب الأبوين على مقدار حاجة الابن اليهما، الصغير عادة يأخذ من حنان الأب والأم أكثر من الكبير، وهذه عدالة فى التوزيع، لأنك إذا نظرت إلى الولد الصغير والولد الكبير والولد الأكبر، تجد الأكبر أحظهم زمنا مع أبيه وأمه والصغير أقلهم زمنا، فيريد الحق أن يعوض الصغير فيعطى الأب والأم شحنة زائدة من العاطفة تجاهه، وأيضا فإن الكبير قد يستغنى والصغير مازال في حاجة، ولذلك قال سبحانه فى أخوة يوسف: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] أى أنهم أقوياء وظنوا أنه يجب على أبيهم أن يحب الأقوياء. وهذا الظن دليل على أن الأب كان يعلم أنهم عصبة لذلك كان قلبه مغ غير العصبة، وهذا هو الأمر الطبيعي، فهم جاءوا بالدليل الذى هو ضدهم. إذن فحين يوجد الناشىء الذى يحتاج إلى أن يربى التربية التي يعين عليها الحنان والعطف، فلا بد من أن نأتى لليتيم الذى فقد الحنان الأساسى ونقنن له، ويأتى الحق سبحانه وتعالى ليوزع المجتمع الإنسانى قطاعات، ويحمل كل واحد القطاع المباشر له، فإذا حمل كل واحد منا القطاع المباشر له تتداخل العنايات في القطاعات، هذا سيذهب لأبيه وأمه ولأولاد أخيه، وهذا كذلك، فتتجمع الدوائر. وبعد ذلك يعيش المجتمع كله في تكافل، وهو سبحانه يريد أن يجعل وسائل الحنان ذاتية فى كل نفس، ومادام اليتيم يقيم معنا كفرد فلا بد من العناية له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1993 إن اليتيم فرد فقد العائل له ولذلك يقولون: «درة يتيمة» أى وحيدة فريدة، وهكذا اليتيم وحيد فريد، إلا أنهم جاءوا فى الإنسان وفى الأنعام وفى الطير وقالوا: اليتيم فى الإنسان من فقد أباه، واليتيم فى الأنعام من فقد أمه، لماذا؟ لأن الأنعام طلوقة تلقح الذكور فيها الإناث وتنتهى. والأم هى التى تربى وترضع؛ فإذا جاء أحد آخر يمسها تنفر منه. أما اليتيم فى الطير فمن فقدهما معا. فالطير عادة الزوج منها يألف الآخر؛ ولذلك يتخذان عشا ويتناوبان العناية بالبيض ويعملان معا ففيه حياة أسرية، والحق سبحانه وتعالى جاء فى اليتيم الذى هو مظهر الضعف فى الأسوة الإنسانية وأراد أن يقنن له فقال: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ... } الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1994 وكيف نؤتى اليتيم ماله وهو لم يبلغ مبلغ الرجال بعد، ونخشى أ، نعطيه المال فيضيعه؟ انظر الى دقة العبارة في قوله من بعد ذلك: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] وقبل ذلك ماذا نفعل؟ هل ندفع لهم الأموال؟ الحق يوضح أنك ساعة تكون وليا على مال اليتيم فاحرص جيدا أن تعطى هذا اليتيم ماله كاملا بعد أن يستكمل نضجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1994 كاملا، فأنت حفيظ على هذا المال، وإياك أن تخلط مالك بماله أو تتبدل منه، أى تأخذ الجميل والثمين من عنده وتعطيه من مالك الأقل جمالا أو فائدة. إذن فقوله: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} أى أن الله جعل المال لليتيم ولم يجعل للقيم عليه أن يتصرف في هذا المال إلا تصرف صيانة، وأيضا هنا ملحظ آخر هو ما شرحه لنا {وابتلوا اليتامى} فهناك أناس يريدون أن يطيلوا أمد الوصاية على اليتيم، لكى ينتفع الواحد منهم بهذا المال فيوضح سبحانه: لا تنتظر إلى أن يبلغ الرشد ثم تقول ننظره، لا. أنت تدربه بالتجربة فى بعض التصرفات وتنظر أسيحسن التصرف أم لا؟ إن قول الحق {وابتلوا اليتامى} أى اختبروهم، هل يستطيعون أن يقوموا بمصالحهم وحدهم؟ فإن استطاعوا فاطمئنوا إلى أنهم ساعة يصلون إلى حد الحلم سيحسنون التصرف، أعطوهم أموالهم بعد التجربة؛ لأن اليتيم يعيش في قصور عمرى، وهو سبحانه يفرق بين اليتيم والسفيه، فالسفيه لا يعانى من قصور عمرى بل من قصور عقلى، وعندما تكلم سبحانه عن هذه المسألة قال: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] فهل هى أموالكم؟ لا. فحين يكون المرء سفيها فاعلم أنه لا إدارة له على ملكه، وتنتقل إدارة الملكية إلى من يتصرف فى المال تصرفا حكيما، فاحرص على أن تدير مال السفيه كأنه مالك؛ لأنه ليس له قدرة على حسن التصرف. لكن لما يبلغ اليتيم إلى مرحلة الباءة والنكاح والرشد يقول الحق: {فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] إنه سبحانه يقول مرة فى الوصاية: {أَمْوَالَكُمُ} وفى العطاء يقول: {أَمْوَالَهُمْ} إذن فهو يريد ألا تبدد المال، ثم يوضح. احرص على ثروة اليتيم أو السفيه وكأنها مالك، لأنه مادام سفيها فمسئولية الولاية مطلوبة منك، والمال ليس ملكا لك. خذ منه ما يقابل إدارة المال وقت السفه أو اليتم، وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1995 وتعالى ليعلم القائمين على أمر اليتامى أو على أمر السفهاء الذين لا يحسنون إدارة أموالهم فيقول: {وارزقوهم فِيهَا} [النساء: 5] اجعلوا الزرق مما يخرج منها، وإياكم أن تبقوها عندكم، وإلا فما قيمة ولايتك ووصايتك وقيامك على أمر السفيه أو اليتيم؟ إنك تثمر له المال لا أن تأكله أو لا تحسن التصرف فيه بحيث ينقص كل يوم، لا. {وارزقوهم فِيهَا} ، و {فى} هنا للسببية، أي ارزقوهم بسببها، ارزقوهم رزقا خارجا منها. {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} والخبيث هو الحرام والطيب هو الحلال، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، فقد يكون ضمن مال اليتيم شىء جميل، فيأخذه الوصى لنفسه ويستبدله بمثل له قبيح، مثال ذلك، أن يكون ضمن مال اليتيم فرس جميل، وعند الوصى فرس قبيح فيأخذه ويقول: فرس بفرس، أو جاموسة مكان جاموسة،؟ أو نخلة طيبة بنخلة لا تثمر، هنا يقول الحق: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} . وقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} يعنى إياكم ألا تجعلوا فرقا بين أموالهم وأموالكم فتأكلوا هذه مع تلك، بل فرقوا بين أكل أموالكم والحفاظ على أموالهم لماذا؟ تأتى الاجابة: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} أى إثما فظيعا. ثم يتنقل الحق إلى قضية آخرى يجتمع فيها ضعف اليتم، وضعف النوع: ضعف اليتم سواء أكان ذكرا أم أنثى، وإن كانت أنثى فالبلوى أشد؛ فهى قد اجتمع عليها ضعف اليتم وضعف النوع، طبعا فاليتيمة عندما تكون تحت وصاية وليها، يجوز أن يقول: إنها تملك مالا فلماذا لا أتزوجها لكي آخذ المال؟ وهذا يحدث كثيرا. ولذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1996 {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1997 هنا يؤكد الحق الأمر بأن ابتعدوا عن اليتامى. فاليتيم مظنة أن يظلم لضعفه، وبخاصة إذا كان أنثى. إن الظلم بعامة محرم فى غير اليتامى، ولكن الظلم مع الضعيفة كبير، فهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها، فالبالغة الرشيدة من النساء قد تستطيع أن تدفع الظلم عن نفسها. وقوله الحق: {وإن خفتم ألا تقسطوا} من «أقسط» أي عدل، والقسط من الألفاظ التى تختلط الأذهان فيها، و «القسط» مرة يطلق ويراد به «العدل» إذا كان مكسور القاف، ولذلك يأتى الحق سبحانه فيقول: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} وهكذا نعرف أن كلمة «قسط» تأتى مرة للعدل ومرة للجور. ف «قسط» «يقسط» «قسطا» و «قسوطا» أي ظلم بفتح القاف فى «قسط» وضمها فى «قُسوط» . والقسط بكسر القاف هو العدل. والقسط بفتح القاف - كما قلنا - هو الظلم وهناك مصدر ثان هو «قسوط» لكن الفعل الواحد، وعندما يقول الحق: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} من أقسط. أي خفتم من عدم العدل وهو الظلم. وهناك فى اللغة ما نسميه همزة الإزالة، وهي همزة تدخل على الفعل فتزيله، مثال ذلك: فلان عتب على فلان، أي لامه على تصرف ما، ويقال لمن تلقى العتاب عندما يرد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1997 على صاحب العتاب: أعتبه، أي طمأن خاطره وأزال مصدر العتاب. ويقال: محمد عتب على علىّ. فماذا كان موقف علىّ؟ يقال: أعتب محمدا أي طيبب خاطره وأزال العتاب. ويقال أعجم الكتاب. فلا تفهم من ذلك أنه جعل الكتاب معجما، لا، فأعجمه أي أزال إبهامه وغموضه. كذلك «أقسط» أي أزال القسط والظلم. إذن «القسط» هو العدل من أول الأمر، لكن «أقسط. إقساطا» تعنى أنه كان هناك جور أو ظلم وتم رفعه. والأمر ينتهي جميعه إلى العدل. فالعدل إن جاء ابتداء هو: قسط بكسر القاف. وإن جاء بعد جور تمت إزالته فهو إقساط. فحين يقال «أقسط» و «تقسطوا» بالضم فمعناها أنه كان هناك جور وظلم تم رفعه، ولذلك فعندما نقرأ القرآن نجده يقول: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] والقاسطون هنا من القسط - بالفتح - ومن القسوط بالضم، أي من الجور والظلم، ونجد القرآن الكريم يقول أيضاً: {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] أى أن الله يجب الذين إن رأوا ظلما أزالوه وأحلوا محله العدل. الحق هنا فى سورة النساء يقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} أى إن خفتم ألا ترفعوا الظلم عن اليتامى، ومعنى أن تخاف من ألا تقسط لأنك بار تعرف كيف تنقذ نفسك من مواطن الزلل. أى فإن خفتم أيها المؤمنون ألا ترفعوا الجور عن اليتامى فابتعدوا عنهم وليسد كل مؤمن هذه الذريعة أمام نفسه حتى لا تحدثه نفسه بأن يجور على اليتيمة فيظلمها. وإن أراد الرجل أن يتزوج فأمامه من غير اليتامى الكثير من النساء. ومادامت النساء كثيرات فالتعدد يصبح واردا، فهو لم يقل: اترك واحدة وخذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1998 واحدة، لكنه أوضح: اترك اليتيمة وأمامك النساء الكثيرات. إذن فقد ناسب الحال أن تجىء مسألة التعدد هنا، لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يرد الرجل الولى عن نكاح اليتيمات مخافة أن يظلمهن، فأمره بأن يترك الزواج من اليتيمة الضعيفة؛ لأن النساء غيرها كثيرات. {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} . وقوله الحق: {مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} أى غير المحرمات فى قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} [النساء: 22] وفي قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] إذن فما طاب لكم من النساء غير المحرمات هن اللاتي يحللن للرجل {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1999 أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} وهنا يجب أن نفهم لماذا جاء هذا النص؛ ولماذا جاء بالمثنى والثلاث والرباع هنا؟ إنه سبحانه يريد أن يزهد الناس في نكاح اليتيمات مخافة أن تأتى إلى الرجل لحظة ضعف فيتزوج اليتيمة ظالما لها، فأوضح سبحانه: اترك اليتيمة، والنساء غيرها كثير، فأمامك مثنى وثلاث ورباع، وابتعد عن اليتيمة حتى لا تكون طامعا في مالها أن ناظرا في ضعفها أو لأنها لم يعد لها وليّ يقوم على شأنها غيرك. ونريد أن نقف هنا وقفة أمام قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} ما معنى مثنى؟ يقال «مثنى» أي اثنين مكررة، كأن يقال: جاء القوم مثنى، أي ساروا في طابور وصف مكون من اثنين اثنين. هذا يدل على الوحدة الجائية. ويقال: جاء القوم ثلاث، أي ساروا في طابور مكون من ثلاثة؛ ثلاثة. ويقال: جاء القوم رباع. أي جاء القوم في طابور يسير فيه كل أربعة خلف أربعة أخرى. ولو قال واحد: إن المقصود بالمثنى والثلاث والرباع أن يكون المسموح به تسعة من النساء. نقول له: لو حسبنا بمثل ما تحسب، لكان الأمر شاملا لغير ما قصد الله، فالمثنى تعني أربعة، والثلاث تعني ستة، والرباع تعني ثمانية، وبذلك يكون العدد ثمانية عشر، ولكنك لم تفهم، لأن الله لا يخاطب واحدا، لكن الله يخاطب جماعة، فيقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاع} . فإذا قال مدرس لتلاميذه: افتحوا كتبكم، أيعني هذا الأمر أن يأتي واحد ليفتح كل الكتب؟ إنه أمر لكل تلميذ بأن يفتح كتابه، لهذا فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا. وعندما يقول المدرس: أخرجوا أقلامكم. أي على كل تلميذ أن يخرج قلمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2000 وعندما يقال: اركبوا سياراتكم، أي أن يركب كل واحد سيارته. إذن فمقابله الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، وقوله الحق: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا} هو قول يخاطب جماعة، فواحد ينكح اثنتين وآخر ينكح ثلاث نساء، وثالث ينكح أربع نساء. والحق سبحانه وتعالى حينما يشرع الحكم يشرعه مرة إيجابا ومرة يشرعه إباحة، فلم يوجب ذلك الأمر على الرجل، ولكنه أباح للرجل ذلك، وفيه فرق واضح بين الإيجاب وبين الإباحة. والزواج نفسه حتى من واحدة مباح. إذن ففيه فرق بين أن يلزمك الله أن تفعل وأن يبيح لك أن تفعل. وحين يبيح الله لك أن تفعل ما المرجح في فعلك؟ إنه مجرد رغبتك. ولكن إذا أخذت الحكم، فخذ الحكم من كل جوانبه، فلا تأخذ الحكم، بإباحة التعدد ثم تكف عن الحكم بالعدالة، وإلا سينشأ الفساد في الأرض، وأول هذا الفساد أن يتشكك الناس في حكم الله. لماذا؟ لأنك إن أخذت التعدد، وامتنعت عن العدالة فأنت تكون قد أخذت شقا من الحكم، ولم تأخذ الشق الآخر وهو العدل، فالناس تجنح أمام التعدد وتبتعد وتميل عنه لماذا؟ لأن الناس شقوا كثيرا بالتعدد أخذا لحكم الله في التعدد وتركا لحكم الله في العدالة. والمنهج الإلهي يجب أن يؤخذ كله، فلماذا تكره الزوجة التعدد؟ لأنها وجدت أن الزوج إذا ما تزوج واحدة عليها التفت بكليته وبخيره وببسمته وحنانه إلى الزوجة الجديدة، لذلك فلا بد للمرأة أن تكره زواج الرجل عليها بإمرأة أخرى. إن الذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يلزموا أنفسهم بحكم الله أيضا في العدالة، فإن لم تفعلوا فهم يشيعون التمرد على حكم الله، وسيجد الناس حيثيات لهذا التمرد، وسيقال: انظر، إن فلانا تزوج بأخرى وأهمل الأولى، أو ترك أولاده دون رعاية واتجه إلى الزوجة الجديدة. فكيف نأخذ إباحة الله في شيء ولا تأخذ إلزامه في شيء آخر، إن من يفعل ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2001 يشكك الناس في حكم الله، ويجعل الناس تتمرد على حكم الله - والسطحيون في الفهم يقولون: إنهم معذورون، وهذا منطق لا يتأتى. إن آفة الأحكام أن يؤخذ حكم جزئي دون مراعاة الظروف كلها، والذي يأخذ حكماً عن الله لابد أن يأخذ كل منهج الله. هات إنسانا عدل في العشرة وفي النفقة وفي البيتوتة وفي المكان وفي الزمان ولم يرجح واحدة على اخرى، فالزوجة الأولى إن فعلت شيئا فهي لن تجد حيثية لها أمام الناس. أما عندما يكون الأمر غير ذلك فإنها سوف تجد الحيثية للاعتراض، والصراخ الذي نسمعه هذه الأيام إنما نشأ من أن بعضا قد أخذ حكم الله في إباحة التعدد ولم يأخذ حكم الله في عدالة المعدد. والعدالة تكون في الأمور التي للرجل فيها خيار. أما الأمور التي لا خيار للرجل فيها فلم يطالبه الله بها. ومن السطحيين من يقول: إن الله قال: اعدلوا، ثم حكم أننا لا نستطيع أن نعدل. نقول لهم: بالله أهذا تشريع؟ ، أيعطي الله باليمين ويسحب بالشمال؟ ألم يشرع الحق على عدم الاستطاعة فقال: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 129] وما دام قد شرع على عدم الاستطاعة في العدل المطلق فهو قد أبقى الحكم ولم يلغه، وعلى المؤمن ألا يجعل منهج الله له في حركة حياته عضين بمعنى أنه يأخذ حكما في صالحه ويترك حكما إن كان عليه. فالمنهج من الله يؤخذ جملة واحدة من كل الناس؛ لأن أي انحراف في فرد من أفراد الأمة الإسلامية يصيب المجموع بضرر. فكل حق لك هو واجب عند غيرك، فإن أردت أن تأخذك حقك فأدّ واجبك. والذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يأخذوا حكم الله أيضا في العدل، وإلا أعطوا خصوم دين الله حججا قوية في إبطال ما شرع الله، وتغيير ما شرع الله بحجة ما يرونه من آثار أخذ حكم وإهمال حكم آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2002 والعدل المراد في التعدد هو القسمة بالسوية في المكان، أي أن لكل واحدة من المتعددات مكانا يساوي مكان الأخرى، وفي الزمان، وفي متاع المكان، وفيما يخص الرجل من متاع نفسه، فليس له أن يجعل شيئا له قيمة عند واحدة، وشيئا لا قيمة له عند واحدة أخرى، يأتي مثلا ببجامة «منامة» صوف ويضعها عند واحدة، ويأتي بأخرى عند قماش أقل جودة ويضعها عن واحدة، لا. لا بد من المساواة، لا في متاعها فقط، بل متاعك أنت الذي تتمتع به عندها، حتى أن بعض المسلمين الأوائل كان يساوي بينهن في النعال التي يلبسها في بيته، فيأتي بها من لون واحد وشكل واحد وصنف واحد، وذلك حتى لا تدل واحدة منهن على الأخرة قائلة: إن زوجي يكون عندي أحسن هنداما منه عندك. والعدالة المطلوبة - أيضا - هي العدالة فيما يدخل في اختيارك؛ لأن العدالة التي لا تدخل في اختيارك لا يكلف الله بها، فأنت عدلت في المكان، وفي الزمان، وفي المتاع لكل واحدة، وفي المتاع لك عند كل واحدة، ولكن لا يطلب الله منك أن تعدل بميل قلبك وحب نفسك؛ لأن ذلك ليس في مكنتك. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعطينا هذا فيقول: عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسم ويعدل ويقول:» اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك «يعني القلب» . إذن فهذا معنى قول الحق: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] لأن هناك أشياء لا تدخل في قدرتك، ولا تدخل في اختيارك، كأن ترتاح نفسيا عند واحدة ولا ترتاح نفسيا عند أخرى، أو ترتاح جنسيا عند واحدة ولا ترتاح عند أخرى، لكن الأمر الظاهر للكل يجب أن تكون فيه القسمة بالسوية حتى لا تدل واحدة على واحدة. وإذا كان هذا في النساء المتعددات - وهن عوارض - حيث من الممكن أن يخرج الرجل من أي إمرأة - بطلاق أو فراق فما بالك بأولادها منه؟ لا بد أيضا من العدالة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2003 والذي يفسد جو الحكم المنهجي لله أن أناسا يجدون رجلا عّدد، فأخذ إباحة الله في التعدد، ثم لم يعدل، فوجدوا أبناءه من واحدة مهملين مشردين، فيأخذون من ذلك حجة على الإسلام. والذين حاولوا أن يفعلوا ما فعلوا في قوانين الأحوال الشخصية إنما نظروا إلى ذلك، التباين الشديد الذي يحدثه بعض الآباء الحمقى نتيجة تفضيل أبناء واحدة على أخرى في المأكل والملبس والتعليم! إذن فالمسلم هو الذي يهجر دينه ويعرضه للنقد والنيل من أعدائه له. فكل إنسان مسلم على ثغرة من ثغرات دين الله تعالى فعليه أن يصون أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته من أي انحراف أو شطط؛ لأن كل مسلم بحركته وبتصرفه يقف على ثغرة من منهج الله، ولا تظنوا أن الثغرات فقط هي الشيء الذي يدخل منه أعداء الله على الأرض كالثغور، لا، الثغرة هي الفجوة حتى في القيم يدخل منها خصم الإسلام لينال من الإسلام. إنك إذا ما تصرفت تصرفا لا يليق فأنت فتحت ثغرة لخصوم الله. فسدّ كل ثغرة من هذه الثغرات، وإذا كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد توسع في العدل بين الزوجات توسعا لم يقف به عند قدرته، وإن وقف به عند اختياره، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين مرض كان من الممكن أن يعذره المرض فيستقر في بيت واحدة من نسائه، ولكنه كان يأمر بأن يحمله بعض الصحابة ليطوف على بقية نسائه في أيامهن فأخذ قدرة الغير. وكان إذا سافر يقرع بينهن، هذه هي العدالة. وحين توجد مثل هذه العدالة يشيع في الناس أن الله لا يشرع إلا حقا، ولا يشرع إلا صدقا، ولا يشرع إلا خيرا. ويسد الباب على كل خصم من خصوم دين الله، حتى لا يجد ثغرة ينفذ منها إلى ما حرم دين الله، وإن لم يستطع المسلم هذه الاستطاعة فليلزم نفسه بواحدة. ومع ذلك حين يلزم المسلم نفسه بزوجة واحدة، هل انتفت العدالة مع النفس الواحدة؟ لا، فلا يصح ولا يستقيم ولا يحل أن يهمل الرجل زوجه. ولذلك حينما شكت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن زوجها لا يأتي إليها وهي واحدة وليس لها ضرائر، فكان عنده أحد الصحابة، فقال له: أفتها «أي أعطها الفتوى» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2004 قال الصحابي: لك عنده أن يبيت عندك الليلة الرابعة بعد كل ثلاث ليال. ذلك أن الصحابي فرض أن لها شريكات ثلاثا، فهي تستحق الليلة الرابعة. وسُر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من الصحابي؛ لأنه عرف كيف يفتي حتى في أمر المرأة الواحدة. إذن قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} [النساء: 129] أي لا تظنوا أن المطلوب منكم تكليفيا هو العدالة حتى في ميل القلب وحبه، لا. إنما العدالة في الأمر الاختياري، ومادام الأمر قد خرج عن طاقة النفس وقدرتها فقد قال - سبحانه -: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} ويأخذ السطحيون الذين يريدون أن يبرروا الخروج عن منهج الله فيقولوا: إن المطلوب هو العدل وقد حكم الله أننا لا نستطيع العدل. ولهؤلاء نقول: هل يعطي ربنا باليمين ويأخذ بالشمال؟ فكأنه يقول: اعدلوا وأنا أعلم أنكم لن تعدلوا؟ فكيف يتأتى لكم مثل هذا الفهم؟ إن الحق حين قال: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي لا يتعدى العدل ما لا تملكون من الهوى والميل؛ لأن ذلك ليس في إمكانكم، ولذلك قال: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} . نقول ذلك للذين يريدون أن يطلقوا الحكم غير واعين ولا فاهمين عن الله، ونقوله كذلك للفاهمين الذين يريدون أن يدلسوا على منهج الله، وهذه المسألة من المسائل التي تتعرض للأسرة، وربها الرجل. فهب أن رجلا ليس له ميل إلى زوجته، فماذا يكون الموقف؟ أمن الأحسن أن يطلقها ويسرحها، أم تظل عنده ويأتي بامرأة تستطيع نفسه أن ترتاح معها؟ أو يطلق غرائزه في أعراض الناس؟ إن الحق حينما شرع، إنما شرع دينا متكاملا، لا تأخذ حكما منه لتترك حكما آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2005 والأحداث التي أرهقت المجتمعات غير المسلمة ألجأتهم إلى كثير من قضايا الإسلام. وأنا لا أحب أن أطيل، هناك بعض الدول تكلمت عن إباحة التعدد لا لأن الإسلام قال به، ولكن لأن ظروفهم الاجتماعية حكمت عليهم أنه لا يحل مشاكلهم إلا هذا، حتى ينهو مسألة الخليلات. والخليلات هنّ اللائي يذهب إليهن الرجال ليهتكوا اعراضهن ويأتوا منهن بلقطاء ليس لهم أب. إن من الخير أن تكون المرأة الثانية، امرأة واضحة في المجتمع. ومسألة زواج الرجل منها معروفة للجميع، ويتحمل هو عبء الأسرة كلها. ويمكن لمن يريد أن يستوضح كثيرا من أمر هؤلاء الناس أن يرجع إلى كتاب تفسير في هذا الموضوع للدكتور محمد خفاجة حيث أورد قائمة بالدول وقراراتها في إباحة التعدد عند هذه الآية. وهنا يجب أن ننتبه إلى حقيقة وهي: أن التعدد لم يأمر به الله، وإنما أباحه، فالذي ترهقه هذه الحكاية لا يعدد، فالله لم يأمر بالتعدد ولكنه أباح للمؤمن أن يعدد. والمباح أمر يكون المؤمن حرا فيه يستخدم رخصة الإباحة أو لا يستعملها، ثم لنبحث بحثا آخر. إذا كان هناك تعدد في طرف من طرفين فإن كان الطرفان متساويين في العدد، فإن التعدد في واحد لا يتأتى، والمثل هو كالآتي: إذا دخل عشرة أشخاص حجرة وكان بالحجرة عشرة كراسي فكل واحد يجلس على كرسي، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يأخذ واحد كرسيا للجلوس وكرسيا آخر ليمد عليه ساقيه، لكن إذا كان هناك أحد عشر كرسيا، فواحد من الناس يأخذ كرسيا للجلوس وكرسيا آخر ليستند عليه، إذن فتعدد طرف في طرف لا ينشأ إلا من فائض. فإذا لم يكن هناك فائض، فالتعدد - واقعا - يمتنع، لأن كل رجل سيتزوج امرأة واحدة وتنتهي المسألة، ولو أراد أن يعدد الزواج فلن يجد. إذن فإباحة التعدد تعطينا أن الله قد أباحه وهو يعلم أنه ممكن لأن هناك فائضا. والفائض كما قلنا معلوم، لأن عدد ذكور كل نوع من الأنواع أقل من عدد الإناث. وضربنا المثل من قبل في النخل وكذلك البيض عندما يتم تفريخه؛ فإننا نجد عددا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2006 قليلا من الديوك والبقية إناث. إذن فالإناث في البنات وفي الحيوان وفي كل شيء أكثر من الذكور. وإذا كانت الإناث أكثر من الذكور، ثم أخذ كل ذكر مقابله فما مصير الأعداد التي تفيض وتزيد من الإناث؟ إما أن تعف الزائدة فتكبت غرائزها وتحبط، وتنفس في كثير من تصرفاتها بالنسبة للرجل وللمحيط بالرجل، وإما أن تنطلق، تنطلق مع من؟ إنها تنطلق مع متزوج. وإن حدث ذلك فالعلاقات الاجتماعية تفسد. ولكن الله حين أباح التعدد أراد أن يجعل منه مندوحة لامتصاص الفائض من النساء؛ ولكن بشرط العدالة. وحين يقول الحق: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَة} أي إن لم نستطع العدل الاختياري فليلزم الإنسان الواحدة. وبعد ذلك يقول الحق: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . وهناك من يقف عند {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ويتجادل، ونطمئن هؤلاء الذين يقفون عند هذا القول ونقول: لم يعد هناك مصدر الآن لملك اليمين؛ لأن المسلمين الآن في خنوع، وقد اجترأ عليهم الكفار، وصاروا يقتطعون دولا من دولهم. وما هبّ المسلمون ليقفوا لحماية أرض إسلامية. ولم تعد هناك حرب بين مسلمين وكفار، بحيث يكون فيه أسرى، و «ملك اليمين» . ولكنا ندافع عنه أيام كان هناك ملك يمين. ولنر المعنى الناضج حين يبيح الله متعة السيد بما ملكت يمينه، انظر إلى المعنى، فالإسلام قد جاء ومن بين أهدافه أن يصفي الرقّ، ولم يأت ليجىء بالرق. وبعد أن كان لتصفية الرق سبب واحد هو إرادة السيد. عدد الإسلام مصاريف تصفية الرق؛ فارتكاب ذنب ما يقال للمذنب: اعتق رقبة كفارة اليمين. وكفارة ظهار فيؤمر رجل ظاهر من زوجته بأن يعتق رقبة وكفارة فطر في صيام، وكفارة قتل. . الخ. . إذن فالإسلام يوسع مصارف العتق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2007 ومن يوسع مصارف العتق أيريد أن يبقى على الرق، أم يريد أن يصفيه ويمحوه؟ ولنفترض أن مؤمنا لم يذنب، ولم يفعل ما يستحق أن يعتق من أجله رقبة، وعنده جوار، هنا يضع الإسلام القواعد لمعاملة الجواري: - إن لم يكن عندك ما يستحق التكفير، فعليك أن تطعم الجارية مما تأكل وتلبسها ما يلبس أهل بيتك، لا تكلفها ما لا تطيق، فإن كلفتها فأعنها، أي فضل هذا، يدها بيد سيدها وسيدتها، فما الذي ينقصها؟ إن الذي ينقصها إرواء إلحاح الغريزة، وخاصة أنها تكون في بيت للرجل فيه امرأة، وتراها حين تتزين لزوجها، وتراها تخرج في الصباح لتستحم، والنساء عندهن حساسية لهذا الأمر، فتصوروا أن واحدة مما ملكت يمين السيد بهذه المواقف؟ ألا تهاج فيها الغرائز؟ حين يبيح الله للسيد أن يستمتع بها وأن تستمتع به، فإنه يرحمها من هذه الناحية ويعلمها أنها لا تقل عن سيدتها امرأة الرجل فتتمتع مثلها. ويريد الحق أيضا أن يعمق تصفية الرق، لأنه إن زوجها من رجل رقيق فإنها تظل جارية أمة، والذي تلده يكون رقيقا، لكن عندما تتمتع مع سيدها وتأتي منه بولد، فإنها تكون قد حررت نفسها وحررت ولدها، وفي ذلك زيادة في تصفية الرق، وفي ذلك إكرام لغريزتها. لكن الحمقى يريدون أن يؤاخذوا الإسلام على هذا!! يقول الحق: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا} فالعدل او الاكتفاء بواحدة او ما ملكت اليمين، ذلك أقرب ألا تجوروا. وبعض الناس يقول: {أدنى أَلاَّ تَعُولُوا} أي ألا تكثر ذريتهم وعيالهم. ونقول لهم: إن كان كذلك فالحق أباح ما ملكت اليمين، وبذلك يكون السبب في وجود العيال قد اتسع أكثر، وقوله: {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا} أي أقرب ألا تظلموا وتجوروا، لأن العول فيه معنى الميل، والعول في الميراث أن تزيد أسهم الأنصباء على الأصل، وهذا معنى عالت المسألة، وإذا ما زاد العدد فإن النصيب في التوزيع ينقص. وبعد ذلك يقول الحق: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2008 {وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2009 والمقصود ب {صَدُقَاتِهِنَّ} هو المهور، و {نِحْلَةً} هي العطية، وهل الصداق عطية؟ لا. إنه حق وأجر بضع. ولكن الله يريد أن يوضح لنا: أي فليكن إيتاء المهور للنساء نحلة، أي وازع دين لا حكم قضاء، والنحلة هي العطية. وانظر إلى اللمسات الإلهية والأداء الإليهي للمعاني، لأنك إن نظرت إلى الواقع فستجد الآتي: الرجل يتزوج المرأة، وللرجل في المرأة متعة، وللمرأة أيضا متعة أي أن كلا منهما له متعة وشركة في ذلك، وفي رغبة الانجاب، وكان من المفترض ألا تأخذ شيئا، لأنها ستستمتع وأيضا قد تجد ولدا لها، وهي ستعمل في المنزل والرجل سيكدح خارج البيت، ولكن هذه عطية قررها الله كرامة للنساء {وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة} والأمر في {َآتُواْ} لمن؟ إما أن يكون للزوج فقوله: {وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ} يدل صارت زوجة الرجل، وصار الرجل ملزما بالصداق ومن الممكن أن يكون أن يكون دينا على أن المرأة إذا تزوجها بمهر في ذمته يؤديه لها عند يساره، وإمّا أن يكون الأمر لولي أمرها فالذي كان يزوجه أخته مثلا، كان يأخذ المهر له ويتركها دون أن يعطيها مهرها، والأمر في هذه الآية - إذن - إما أن يكون للأزواج وإما أن يكون للأولياء. وحين يُشرع الحق لحماية الحقوق فإنه يفتح المجال لأريحيات الفضل. لذلك يقول: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} . لقد عرّف الحق الحقوق أولا بمخاطبة الزوج أو ولي الأمر في أن مهر الزوجة لها لأنه أجر البضع. ولكنه سبحانه فتح باب أريحية الفضل فإن تنازلت الزوجة فهذا أمر آخر، وهذا أدعى أن يؤصل العلاقة الزوجية وأن يؤدم بينهما. والمراد هنا هو طيب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2009 النفس، وإياك أن تأخذ شيئا من مهر الزوجة التي تحت ولايتك بسبب الحياء، فالمهم أن يكون الأمر عن طيب نفس. {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} والهنيء هو الشيء المأكول وتستسيغه حين يدخل فمك. لكنك قد تأكل شيئا هنيئا في اللذة وفي المضغ وفي الأكل ولكنه يورث متعبة صحية. إنه هنيء لكنه غير مريء. والمقصود هو أن يكون طيب الطعم وليس له عواقب صحية رديئة. وهو يختلف عن الطعام الهنيء غير المريء الذي يأكله الإنسان فيطلب من بعده العلاج. إذن فكل أكل يكون هنيئا ليس من الضروري أن يكون مريئا. وعلينا أن نلاحظ في الأكل أن يكون هنيئا مريئا. والإمام عليّ - رضوان الله عليه وكرم وجهه - جاء له رجل يشتكي وجعا، والإمام عليّ - كما نعرف - مدينة العلم والفتيا، وهبه الله مقدرة على إبداء الرأي والفتوى. لم يكن الإمام عليّ طبيبا. لكن الرجل كان يطلب علاجا من فهم الإمام عليّ وإشراقاته. قال الإمام عليّ للرجل: خذ من صداق امرأتك درهمين واشتر بهما عسلا، وأذب العسل في ماء مطر نازل لساعته - أي قريب عهد بالله - واشربه فإني سمعت الله يقول في الماء ينزل من السماء: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً} [ق: 9] . وسمعته سبحانه وتعالى يقول في العسل: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وسمعته يقول في مهر الزوجة: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2010 فإذا اجتمع في دواء البركة والشفاء الهنيء والمريء عافاك الله إن شاء الله. لقد أخذ الإمام عليّ - رضوان الله عليه وكرم وجهه - عناصر أربعة ليمزجها ويصنع منها دواء ناجعا، كما يصنع الطبيب العلاج من عناصر مختلفة وقد صنع الإمام عليّ علاجا من آيات القرآن. وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضايا اليتامى والسفهاء والمال والوصاية والقوامة، فيقول سبحانه: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2011 ومن هو السفيه؟ إنه الذي لا صلاح له في عقل ولا يستطيع أن يصرّف ماله بالحكمة. ومَن الذي يعطي ماله إلى سفيه؟ إن الحق يقول ذلك ليعلمنا كيفية التصرف في المال - ومثال على ذلك يقول الحق: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] . هل أحد منا يلمز نفسه؟ لا، ولكن الإنسان يلمز خصمه، ولمز الخصم يؤدي إلى لمز النفس لأن خصمه سيلمزه ويعيبه أو لأنكما سواء. إذن فقول الحق: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} يعني أن الله يريد أن يقول: إن السفيه يملك المال، إلا أن سفهه يمنعه من أن يحسن التصرف. وعدم التصرف الحكيم يذهب بالمال، ويفسده، وحين يكون سفيهاً فالمال ليس له - تصرفا وإدارة - ولكن المال لمن يصلحه بالقوامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2011 أو أن الحق سبحانه وتعالى يعالج قضية كان لها وجود في المجتمع وهي أنّ الرجل إذا ما كان له أبناء، وكبروا قليلا، فهو يحب أن يتملص من حركة الحياة، ويعطي لهم حق التصرف في المال. وإن كان تصرفهم لا يتفق مع الحكمة، فكأنه قال سبحانه: «لا» إياك أن تعطي أموالك للسفهاء بدعوى أنهم أولادك. وإياك أن تملك أولادك ما وهبه الله لك من رزقك؛ لأن الله جعل من مالك قياما لك، وإياك أن تجعل قيامك أنت في يد غيرك. {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً وارزقوهم فِيهَا} وهل السفيه لا يعيش؟ وهل يأكل السفيه دون أكل الرشيد؟ أيلبس السفيه لبس الرشيد؟ أيسكن السفيه دون مسكن الرشيد؟ أيبتسم الإنسان في وجه الرشيد ولا يبتسم في وجه السفيه؟ لا؛ لذلك يأمر الحق ويقول: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا} ذلك أمر بحسن معاملة السفيه، وإياكم أن تعيروهم بسفههم، ويكفيهم ما هم فيه من سفه. ويرجع الحق من بعد ذلك إلى اليتامى: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2012 إن الله سبحانه وتعالى يأمر في التعامل مع اليتامى بأن يبدأ الولي في اختبار اليتيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2012 وتدريبه على إدارة أمواله من قبل الرشد، أي لا تنتظر وقت أن يصل اليتيم إلى حد البلوغ ثم تبتليه بعد ذلك، فقبل أن يبلغ الرشد، لا بد أن تجربه في مسائل جزئية فإذا تبين واتضح لك اهتداء منه وحسن تصرف في ماله؛ لحظتها تجد الحكم جاهزا، فلا تضطر إلى تأخير إيتاء الأموال إلى أن تبتليه في رشده. بل عليك أن تختبره وتدربه وتمتحنه وهو تحت ولايتك حتى يأتي أوان بلوغ الرشد فيستطيع أن يتسلم منك ماله ويديره بنفسه. وحتى لا تمر على المال لحظة من رشد صاحبه وهو عندك. فسبحانه يقول: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافا} فعندما يبلغ اليتيم الرشد وقد تم تدريبه على حسن إدارة المال. وعرف الوصي أن اليتيم قد استطاع أن يدبر ماله، ومن فور بلوغه الرشد يجب على الوصي أن يدفع إليه ماله، ولا يصح أن يأكل الوصي مال اليتيم إسرافا. والإسراف هو الزيادة في الحد؛ لأنه ليس ماله، إنه مال اليتيم. وعندما قيل لرجل شره: ماذا تريد أيها الشره؟ قال الشره: «أريد قصعة من ثريد أضرب فيها بيدي كما يضرب الولي السوء في مال اليتيم» . أنجانا الله وإياكم من هذا الموقف، ونجد الحق يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} . إن الحق سبحانه يحذرنا من الإسراف في مال اليتيم في أثناء مرحلة ما قبل الرشد، وذلك من الخوف أن يكبر اليتيم وله عند الولي شيء من المال أي أن يسرف الولي فينفق كل مال اليتيم قبل أن يكبر اليتيم ويرشد، والله سبحانه وتعالى حين يشرع فهو بجلال كماله يشرع تشريعا لا يمنع قوامة الفقير العادل غير الواجد. كان الحق قادرا أن يقول: لا تعطوا الوصية إلا لإنسان عنده مال لأنه في غنى عن مال اليتيم. لكن الحق لا يمنع الفقير النزيه صاحب الخبرة والإيمان من الولاية. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى عن الولي: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2013 فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} فلا يقولن أحد عن أحد آخر: إنه فقير، ولو وضعنا يده على مال اليتيم فإنه يأكله. لا، فهذا قول بمقاييس البشر، لا يجوز أن يمنع أحد فقيرا مؤمنا أن يكون وليا لليتيم؛ لأننا نريد من يملك رصيدا إيمانيا يعلو به فوق الطمع في المال؛ لذلك يقول الحق عن الوصي على مال اليتيم: إن عليه مسئولية واضحة. فإن كان غنيا فليستعفف، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وحددوا المعروف بأن يأخذ أجر مثله في العمل الذي يقوم به. وكلمة المعروف تعني الأمر المتداول عند الناس، أو أن يأخذ على قدر حاجته. ويقول الحق: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيبا} وانظروا الحماية، هو سبحانه يصنع الحماية للولي أو الوصي، فالحق بعلم خلقه، - وخلقه من الأغيار - والولي على اليتيم لا بد أن يلي الأمر بحكمة وحرص، حتى لا يكرهه اليتيم. وربما قد يراضيه في كل شيء. نقول له: لا، أعطه بقدر حتى لا تفسده. فإذا ما أعطى الولي لليتيم بقدر ربما كرهه اليتيم؛ لأن اليتيم قد يرغب في أشياء كمالية لا تصلح له ولا تناسب إمكاناته، وعندما يصل اليتيم إلى سن الرشد قد يتركز كرهه ضد الوصي، فيقول له: لقد أكلت مالي؛ لذلك يوضح الحق للولي أو الوصي: كما حميت اليتيم بحسن ولايتك أحميك أنا من رشد اليتيم. لذلك يجب عليك - أيها الولي - حين تدفع المال إليه أن تشهد عليه، لأنك لا تملك الأغيار النفسية، فربما وجد عليك وكرهك؛ لأنك كنت حازما معه على ماله، وكنت تضرب على يده إذا انحرف. وإذا ما كرهك ربما التمس فترة من الفترات وقام ضدك واتهمك بما ليس فيك؛ لذلك لابد من أن تحضر شهودا وعدولا لحظة تسليمه المال. وهذه الشهادة لتستبرىء بها من المال فحسب، أما استبراء الّدين فموكل إلى الله {وكفى بالله حَسِيبا} . هذا وإن سورة النساء تعالج الضعف في المرأة والضعف في اليتيم، لأن الحال في المجتمع الذي جاء عليه الإسلام أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار الذين لم تشتد أجنحتهم، وكانت القاعدة الغريبة عندهم هي: من لم يطعن برمح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2014 ولم يذد عن حريم أو عن مال ولم يشهد معارك فهو لا يأخذ من التركة. وكانت هذه قمة استضعاف أقوياء لضعفاء. وجاء الإسلام ليصفي هذه القاعدة. بل فرض وأوجب أن تأخذ النساء حقوقهن وكذلك الأطفال، ولهذا قال الحق سبحانه: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2015 ومن الذي يفرض هذا النصيب؟ إنه الله الذي ملك وهو الذي فرض. هنا نلاحظ أن المرحوم الشهيد صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب لحظ ملحظا جميلا هو: كيف يكون للمتوفي أولاد أو نساء محسوبون عليه ولا يأخذون؟ إن الصغار كانوا أولى أن يأخذوا لأن الكبار قد اشتدت أعوادهم وسواعدهم، فالصغار أولى بالرعاية، وأيضا إذا كانت قوانين «مندل» في الوراثة توضح أن الأولاد يرثون من أمهاتهم وآبائهم وأجدادهم الخصال الحسنة أو السيئة، أو المرض أو العفة أو الخلقة، فلماذا لا تورثونهم أيضا في الأموال؟ وحين نسمع قول الحق: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} فلا بد من أن يوجد فارض، ويوجد مفروض عليه، والفارض هنا هو الله الذي ملك، وفيه فرق دقيق بين «فرض» و «واجب» فالفرض يكون قادما من أعلى، لكن الواجب قد يكون من الإنسان نفسه، فالإنسان قد يوجب على نفسه شيئا. وحين يتكلم الحق عن النصيب المفروض، فقد بين أن له قدرا معلوما، ومادام للنصيب قدر معلوم، فلا بد أن يتم إيضاحه. . ولم يبين الحق ذلك إلا بعد أن يدخل في العملية أناسا قد لا يورثهم، وهم ممن حول الميت ممن ليسوا بوارثين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2015 ويوضح سبحانه الدعوة إلى إعطاء من لا نصيب له، إياكم أن يلهيكم هذا النصيب المفروض عمن لا نصيب له في التركة. لذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2016 وحين يحضر أولو القربى واليتامى والمساكين مشهد توزيع المال، وكل واحد من الورثة الذين يتم توزيع مال المورث عليهم انتهت مسائله، قد يقول هؤلاء غير الوارثين: إن الورثة إنما يأخذون غنيمة باردة هبطت عليهم مثل هذا الموقف يترك شيئا في نفوس أولي القربى واليتامى والمساكين. صحيح أن أولي القربى واليتامى والمساكين ليسوا وارثين، ولن يأخذوا شيئا من التركة فرضا لهم، ولكنهم حضروا القسمة؛ لذلك يأتي الأمر الحق: {فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا} فلو أنهم لم يحضروا القسمة لاختلف الموقف. فيأمر سبحانه بأن نرزق اليتامى وأولي القربى والمساكين حتى نستل منهم الحقد أو الحسد للوارث، أو الضغن على المورث، ولا يكتفي الحق بالأمر برزق هؤلاء الأقارب واليتامى والمساكين، ولكن يأمر أن نقول لهم: قولا معروفا، مثل أن ندعو الله لهم أن يزيد من رزقهم، وأن يكون لهم أموال وأن يتركوا أولادا ويورثوهم، ومن الذي يجب عليه أن يقوم بمثل هذا العمل؟ إنهم الوارثون إن كانوا قد بلغوا الرشد، ولكن ماذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2016 يكون الموقف لو كان الوارث يتيما؟ فالحضور هم الذين يقولون لأولي القربى واليتامى والمساكين: إنه مال يتيم، وليس لنا ولاية عليه، ولو كان لنا ولاية لأعطيناكم أكثر، وفي مثل هذا القول تطبيب للخاطر. {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} يجب أن تكونوا في ذلك الموقف ذاكرين أنه إذا كنتم أنتم الضعفاء واليتامى وغير الوارثين فمن المؤكد أن السرور كان سيدخل إلى قلوبكم لو شرعنا لكم نصيبا من الميراث. إذن فليذكر كل منكم أنه حين يطلب الله منه، أنك قد تكون مرة في موقف من يطلب الله له ولأولاده. إذن فالحكم التشريعي لا يؤخذ من جانب واحد، وهو أنه يُلزم المؤمن بأشياء، ولكن لنأخذ بجانب ذلك أنه يلزم غيره من المؤمنين للمؤمن بأشياء. إن الحكم التشريعي يعطيك، ولذلك يأخذ منك. ولهذا قلنا في الزكاة: إياك أن تلحظ يا من تؤدي الزكاة أننا نأخذ منك حيفا ثمرة كدحك وعرقك لنعطيها للناس، نحن نأخذ منك وأنت قادر لنؤمنك إن صرت عاجزا. وسوف نأخذ لك من القادرين. إنه تأمين رباني حكيم. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ... .} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2017 والإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2017 فإن كان عندك أيها المؤمن ذرية ضعيفة وتخاف عليها فساعة ترى ذرية ضعيفة تركها غيرك فلتعطف عليها، وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها. واعلم أن ربنا رقيب وقيوم ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك. وقلنا ذات مرة: إن معاوية وعمرو بن العاص اجتمعا في أواخر حياتهما، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين ماذا بقي لك من حظ الدنيا؟ وكان معاوية قد صار أميرا للمؤمنين ورئيس دولة قوية غنية، فقال معاوية: أما الطعام فقد مللت أطيبه، وأما اللباس فقد سئمت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف. وصمت معاوية قليلا وسأل عمرا: وأنت يا عمرو ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ . وكان سيدنا عمرو بن العاص صاحب عبقرية تجارية فقال: أنا حظي عين خرارة في أرض خوارة تدر عليّ حياتي ولولدي بعد مماتي. إنه يطلب عين ماء مستمر في أرض فيها أنعام وزروع تعطي الخير. وكان هناك خادم يخدمهما، يقدم لهما المشروبات، فنظر معاوية إلى الخادم وأحب أن يداعبه ليشركه معهما في الحديث. فقال للخادم: وأنت يا «وردان» ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ أجاب الخادم: بقي لي من متع الدنيا يا أمير المؤمنين صنيعة معروف أضعها في أعناق قوم كرام لا يؤدونها إليّ طول حياتي حتى تكون لعقبي في عقبهم. لقد فهم الخادم عن الله قوله: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2018 فالذين يتقون الله في الذرية الضعيفة يضمنون أن الله سيرزقهم بمن يتقي الله في ذريتهم الضعيفة. وقد تكلمنا مرة عن العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى عليه السلام: {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 66 - 71] لقد جرب العبد الصالح موسى في خرق السفينة - كما توضح الآيات - فقال العبد الصالح: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف: 72 - 73] ثم ما كان من أمر الغلام الذي قتله العبد الصالح وقول موسى له: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} [الكهف: 74] . ثم جاءا إلى أهل قرية فطلبا منهم الطعام، وحين يطلب منك ابن السبيل طعاما فاعلم أنها الحاجة الملحة؛ لأنه لو طلب منك مالا فقد تظن أنه يكتنز المال، ولكن إن طلب لقمة يأكلها فهذا أمر واجب عليك. فماذا فعل أهل القرية حين طلب العبد الصالح وموسى طعاما لهما؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2019 يقول الحق: {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77] إنها قرية لئيمة، ووجد العبد الصالح في القرية جدارا يريد أن يسقط وينقض فأقامه، واعترض موسى؛ لأن عنده حفيظة على أهل القرية فقد طلبا منهم طعاما فلم يطعموهما، وقال سيدنا موسى: إنك لو شئت لاتخذت عليه أجرا، لأن أهل القرية لئام، وما كان يصح أن تقيم لهم الجدار إلا إذا أخذت منهم أجرا. لقد غاب عن موسى ما لم يغّيب الله سبحانه عن العبد الصالح، فبالله لو أن الجدار وقع وهم لئام لا يطعمون من استطعمهم، ثم رأوا الكنز المتروك لليتامى المساكين، فلا بد أنهم سيغتصبون الكنز. إذن فعندما رأيت الجدار سيقع أقمته حتى أواري الكنز عن هؤلاء اللئام. ويقول الحق سبحانه: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82] إذن فالعلة في هذه العملية هي الحماية لليتيمين، ولنلق بالا ولنهتم بملاحظ النص، لا بد أن العبد الصالح قد أقام الجدار بأسلوب جدد عمرا افتراضيا للجدار بحيث إذا بلغ اليتيمان الرشد وقع الجدار أمامهما؛ ليرى كلاهما الكنز، لقد تم بناء الجدار على مثال القنبلة الموقوتة بحيث إذا بلغا الرشد ينهار الجدار ليأخذ الكنز. إنه توقيت إلهي أراده الله؛ لأن والد اليتيمين كان صالحا، اتقى الله فيما تحت يده فأرسل الله له جنودا لا يعلمهم ولم يرتبهم ليحموا الكنز لولديه اليتيمين، لذلك فلنفهم جيدا في معاملتنا، قول الحق: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2020 {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] لماذا؟ لأن الانسان عندما يكون شابا فذاتيته تكون هي الموجودة. لكن كلما تقدم الإنسان في السن تقدمت ذاتية أولاده عنده، ويحرم نفسه ليعطي أولاده، وعندما يرى أن عياله مازالوا ضعافا، وجاءت له مقدمات الموت فهو يحزن على مفارقة هؤلاء الضعاف، فيوضح الحق لكل عبد طريق الأمان: إنك تستطيع وأنت موجود أن تعطي للضعاف قوة، قوة مستمدة من الالتحام بمنهج الله وخاصة رعاية ما تحت يدك من يتامى، بذلك تؤمن حياة أولادك من بعدك وتموت وأنت مطمئن عليهم. والقول السديد من الأوصياء: ألاّ يؤذوا اليتامى، وأن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بني ويا ولدي. وحين يتقى المؤمن الله فيما بين يديه يرزقه الله بمن يتفي الله في أولاده. وما زال الحق يضع المنهج في أمر اليتامى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2021 لماذا يركز القرآن على هذه الجزئية؟ لأن الله يريد من خلقه أن يستقبلوا قدر الله فيمن يحبون وفيمن يحتاجون إليهم برضا، فإذا كان الطفل صغيرا ويرى أباه يسعى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2021 في شأنه ويقدم له كل جميل في الحياة وبعد ذلك يموت، فإن كان هذا الصغير قد رأى واحدا مات أبوه وكفله المجتمع الإيماني الذي يعيش في كفالة عوضته عن أب واحد بآباء إيمانيين متعددين، فإذا مات والد هذا الطفل فإنه يستقبل قدر الله وخطبه بدون فزع. فالذي يجعل الناس تستقبل الخطوب بالفزع والجزع والهلع أنهم يرون أن الطفل إذا ما مات أبوه وصار يتيما فإنه يضيع، ويقول الطفل لنفسه: إن إبي عندما يموت سأصير مضيعا. لكن لو أن المجتمع حمى حق اليتيم وصار كل مؤمن أبا لليتيم وكل مؤمنة أما لليتيم لاختلف الأمر، فإذا ما نزل قضاء الله في أبيه فإنه يستقبل القضاء برضا وتسليم. {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا} [النساء: 10] إن كل العملية السلبية والنهبية أهم ما فيها هو الأكل؛ لأن الأكل هو المتكرر عند الناس، وهو يختلف عن اللباس، فكل فصل يحتاج الإنسان إلى ملابس تناسبه، لكن الأكل عملية يومية؛ لذلك فأي نهب يكون من أجل الأكل. ولذلك نقول في أمثالنا العامية عن النهاب: «فلان بطنه واسعة» إنها مسألة الأكل. وقد أوضح الحق هذا الأمر لأكل مال اليتيم: أنت تحشو في بطنك نارا. ويعني ذلك أنه يأكل في بطنه ما يؤدي إلى النار في الآخرة. وهذا قد يحدث عقابا في الدنيا فيصاب آكل مال اليتيم في بطنه بأمراض تحرق أحشاءه، ويوم القيامة يرى المؤمنون هؤلاء القوم الذين أكلوا مال اليتيم، وعليهم سمات أكل مال اليتيم: فالدخان يخرج من أفواههم. وإياك أن تفهم أن البطون هي التي ستكون ممتلئة بالنار فقط، وإلا يكون هناك نار أمام العيون. بل سيكون في البطون نار وسيصلون سعيرا. ويقول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2022 {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2023 ونعم الرب خالقنا؛ إنه يوصينا في أولادنا، سبحانه رب العرش العظيم، كأننا عند ربنا أحب منا عند أبائنا. وقوله الكريم: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} توضح أنه رحيم بنا ويحب لنا. ومادة الوصية إذا ما استقرأناها في القرآن نجد - بالاستقراء - أن مادة الوصية مصحوبة بالباء، فقال سبحانه: {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] وقال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2023 وقال الحق أيضا: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ} [لقمان: 14] كل هذه الآيات جاءت الوصية فيها مصحوبة بالباء التي تأتي للإلصاق. لكن عندما وصّى الآباء على الأبناء قال: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} فكأن الوصية مغروسة ومثبتة في الأولاد، فكلما رأيت الظرف وهو الولد ذكرت الوصية. وما هي الوصية؟ إنها {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} وقلنا من قبل: إن الحق قال: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} [النساء: 7] ولم يحدد النصيب بعد هذه الآية مباشرة إلا بعد ما جاء بحكاية اليتامى وتحذير الناس من أكل مال اليتيم، لماذا؟ لأن ذلك يربي في النفس الاشتياق للحكم، وحين تستشرف النفس إلى تفصيل الحكم، ويأتي بعد طلب النفس له، فإنه يتمكن منها. والشيء حين تطلبه النفس تكون مهيأة لاستقباله، لكن حينما يعرض الأمر بدون طلب، فالنفس تقبله مرة وتعرض عنه مرة أخرى. ونلحظ ذلك في مناسبة تحديد أنصبة الميراث. فقد قال الحق سبحانه أولا: {لرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} [النساء: 7] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2024 وعرض بعد ذلك أمر القسمة ورعاية اليتامى والمساكين وأولي القُربى، ثم يأتي الأمر والحكم برعاية مال اليتيم والتحذير من نهبه، وبعد ذلك يقول: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُم} ويأتي البند الأول في الوصية {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} ولماذا لم يقل «للأنثيين مثل حظ الذكر» . أو «للأنثى نصف حظ الذكر» ، هذه معان يمكن أن تعبر عن المطلوب. لقد أراد الله أن يكون المقياس، أو المكيال هو حظ الأنثى، ويكون حظ الرجل هنا منسوبا إلى الأنثى، لأنه لو قال: «للأنثى نصف حظ الرجل» لكان المقياس هو الرجل، لكنه سبحانه جعل المقياس للأنثى فقال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} . والذين يقولون: هذا أول ظلم يصيب المرأة، نريد المساواة. نقول لهم: انظروا إلى العدالة هنا. فالذكر مطلوب له زوجة ينفق عليها، والأنثى مطلوب لها ذكر ينفق عليها، إذن فنصف حظ الذكر يكفيها إن عاشت دون زواج، وإن تزوجت فإن النصف الذي يخصها سيبقى لها، وسيكون لها زوج يعولها. إذن فأيهما أكثر حظا في القسمة؟ إنها الأنثى. ولذلك جعلها الله الأصل والمقياس حينما قال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} فهل في هذا القول جور أو فيه محاباة للمرأة؟ إن في هذا القول محاباة للمرأة؛ لأنه أولا جعل نصيبها المكيال الذي يُرد إليه الأمر؛ لأن الرجل المطلوب منه أن ينفق على الأنثى، وهي مطلوب لها زوج ينفق عليها. إذن فما تأخذه من نصف الذكر يكون خالصا لها، وكان يجب أن تقولوا: لماذا حابى الله المرأة؟ لقد حابى الله المرأة لأنها عرض، فصانها، فإن لم تتزوج تجد ما تنفقه، وإن تزوجت فهذا فضل من الله، ثم يقول الحق: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَك} . وأنا أريد أن نستجمع الذهن هنا جيدا لنتعرف تماما على مراد الحق ومسالك القرآن في تنبيه الأذهان لاستقبال كلام الله. فقد كرم الله الإنسان بالعقل، والعقل لا بد له من رياضة. ومعنى الرياضة هو التدريب على حل المسائل، وإن طرأت مشكلات هيأ نفسه لها بالحل، وأن يملك القدرة على الاستنباط والتقييم، كل هذه من مهام العقل. فيأتي الحق في أهم شيء يتعلق بالإنسان وهو الدين، والدليل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2025 إلى الدين وحافظ منهجه هو القرآن، فيجعل للعقل مهمة إبداعية. إنه - سبحانه - لا يأتي بالنصوص كمواد القانون في الجنايات أو الجنح، ولكنه يعطي في مكان ما جزءا من الحكم، ويترك بقية القانون لتتضح معالمه في موقع آخر من القرآن بجزئية أخرى، لأنه يريد أن يوضح لنا أن المنهج الإلهي كمنهج واحد متكامل، وأنه ينقلك من شيء إلى شيء، ويستكمل حكما في أكثر من موقع بالقرآن. وذلك حتى تتعرف على المنهج ككل. وأنك إذا كنت بصدد شيء فلا تظن أن هذا الشيء بمفرده هو المنهج، ولكن هناك أشياء ستأتي استطرادا تتداخل مع الشيء الذي تبحث عن حكم الله فيه، مثال ذلك: مسألة اليتيم التي تتداخل مع أحكام الميراث. وهذه الآية تعطينا مثل هذه المسألة لماذا؟ لأن الله يريد لك يا صلحب العقل الدربة في الإطار الذي يضم الحياة كلها. وما يهمك أولا هو دينك، فلتعمل عقلك فيه، فإذا أعملت عقلك في الدين أعطيت عقلك النشاط ليعمل في المجال الآخر. لكن إذا غرق ذهنك في أي أمر جزئي فهذا قد يبعد بك عن الإطار العام لتنشغل بالتفاصيل عن الهدف العام. وأولادنا من الممكن أن يعلمونا من تجربة من ألعابهم، فالطفل يلعب مع أقرانه «الاستغماية» ، ويختبىء كل قرين في مكان، ويبحث الطفل عن أقرانه. ونحن نلعب أيضا مع أولادنا لعبة إخفاء شيء ما في يد ونطبق أيدينا ونترك الإبن يخمن بالحدس في أي يد يكون الشيء، إنها دربة للعقل على الاستنباط، فإن كان الولد سريع البديهة قوي الملاحظة ويمتلىء بالذكاء، فهو يرى يدي والده ليقارن أي يد ترتعش قليلا، أو أي يد ليست طبيعية في طريقة إطباق الأب لها فيختارها، وينتصر بذلك ذكاء الولد، وهذه عملية ترويض للطفل على الاستنباط والفهم، وبذلك تعلم الطفل ألا يأخذ المسائل ضربة لازب بدون فكر ولا دُربة. والحق سبحانه أراد أن تكون أحكامه موزعة في المواقع المختلفة، ولننظر إلى قوله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2026 فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي أنه إن لم ينجب المورث ذكرا وكان له أكثر من اثنتين فلهن ثلثا ما ترك. أما لو كان معهن ذكر، فالواحدة منهن ستأخذ نصف نصيب الذكر، وإن كانت الوارثة بنتا واحدة، فالآية تعطيها النصف من الميراث {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف} وبقي شيء لم يأت الله له بحكم، وهو أن يكون المورث قد ترك ابنتين. وهنا نجد أن الحق قد ضمن للاثنتين في إطار الثلاث بنات أو أكثر أخذ الثلثين من التركة، هكذا قال العلماء، ولماذا لم ينص على ذلك بوضوح؟ لقد ترك هذه المهمة للعقل، فالبنت حينما ترث مع الذكر تأخذ ثلث التركة، وعندما تكون مع ابنة أخرى دون ذكر، تأخذ الثلث. فإذا كانت مع الذكر وهو القائم بمسئولية الكدح تأخذ الثلث، ولذلك فمن المنطقي أن تأخذ كل أنثى الثلث إن كان المورث قد ترك ابنتين. وهناك شيء آخر، لتعرف أن القرآن يأتي كله كمنهج متماسك، فهناك آية أخرى في سورة النساء تناقش جزئية من هذا الأمر ليترك للعقل فرصة العمل والبحث، يقول سبحانه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] لقد جاء الحق هنا بأختي المورث وأوضح أن لهما الثلثين من التركة إن لم يكن للمورث ولد - ابن أو بنت - فإذا كان للأختين الثلثان، فأيهما ألصق بالمورث، البنتان أم الأختان؟ إن ابنتي المورث ألصق به من أختيه، ولذلك فللبنتين الثلثان، فالإبنة إن كانت مع أخيها فستأخذ الثلث، وإن كانت قد ورثت بمفردها فستأخذ النصف. وإن كانت الوارثات من البنات أكثر من اثنتين فسيأخذن الثلثين، وإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2027 كانتا اثنتين فستأخذ كل منهما الثلث، لماذا؟ لأن الله أعطى الأختين ثلثي ما ترك المورث إن لم يكن له أولاد. ومن العجيب أنه جاء بالجمع في الآية الأولى الخاصة بتوريث البنات، وجاء بالمثنى في الآية التي تورث الأخوات، لنأخذ المثنى هناك - في آية توريث البنات - لينسحب على المثنى هناك. لقد أراد الحق أن يجعل للعقل مهمة البحث والاستقصاء والاستنباط وذلك حتى نأخذ الأحكام بعشق وحسن فهم، وعندما يقول سبحانه: {يَسْتَفْتُونَكَ} فمعنى يستفتونك أي يطلبون منك الفتوى، وهذا دليل على أن المؤمن الذي سأل وطلب الفتيا قد عشق التكليف، فهو يحب أن يعرف حكم الله، حتى فيما لم يبدأ الله به الحكم. وقد سأل المؤمنون الأوائل وطلبوا الفتيا عشقا في التكليف {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} والكلالة مأخوذة من الإكليل وهو ما يحيط بالرأس، والكلالة هي القرابة التي تحيط بالإنسان وليست من أصله ولا من فصله. {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] وهذه الآية تكمل الآية الأولى. ونعود إلى تفصيل الآية الأولى التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث} . ومعنى ذلك أن المورث إن لم يكن له الأولاد فللأم الثلث، والأب له الثلثان، فإن كان للمورث إخوة أشقاء أولأب أولأم السدس حسب النص القرآني {فَإِن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2028 كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} ، وذلك بعد أن تنفذ وصية المورث، ويؤدي الدّين الذي عليه. والوصية هنا مقدمة على الدين؛ لأن الدين له مُطالب، فهو يستطيع المطالبة بدينه، أما الوصية فليس لها مطالب، وقد قدمها الحق للعناية بها حتى لا نهملها. ويذيل الحق هذه الآية: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 11] فإياك أن تحدد الأنصباء على قدر ما تظن من النفعية في الآباء أو من النفعية في الأبناء، فالنفعية في الآباء تتضح عندما يقول الإنسان: «لقد رباني أبي وهو الذي صنع لي فرص المستقبل» . والنفعية في الأبناء تتضح عندما يقول الإنسان: إن أبي راحل وأبنائي هم الذين سيحملون ذكرى واسمى والحياة مقبلة عليهم. فيوضح الحق: إياك أن تحكم بمثل هذا الحكم؛ فليس لك شأن بهذا الأمر: {لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} . وما دمت لا تدري أيهم أقرب لك نفعا فالتزم حكم الله الذي يعلم المصلحة وتوجيهها في الأنصبة كما يجب أن تكون. ونحن حين نسمع: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أو نسمع: {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيما} فنحن نسمعها في إطار أن الله لا يتغير، ومادام كان في الأزل عليما حكيما وغفورا رحيما فهو لا يزال كذلك إلى الأبد. فالأغيار لا تأتي إلى الله، وثبت له العلم والحكمة والخبرة والمغفرة والرحمة أزلا وهو غير متغير، وهذه صفات ثابتة لا تتغير. لذلك فعندما تقرأ: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أو {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} ، فالمسلم منا يقول بينه وبين نفسه: ولا يزال كذلك. والحق يقول من بعد ذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2029 {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2030 والآيات تسير في إيضاح حق الذكر مثل حظ الأنثيين؛ وهذه عدالة؛ لأن الرجل حين تموت امرأته قد يتزوج حتى يبني حياته، والمرأة حين يموت زوجها فإنها تأخذ ميراثها منه وهي عرضة أن تتزوج وتكون مسئولة من الزوج الجديد. إن المسألة كما أرادها الله تحقق العدالة الكاملة. والكلالة - كما قلنا - أنه ليس للمتوفى والد أو ولد، أي لا أصل له ولا فصل متفرع منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2030 فإذا كان للرجل الكلالة أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء بالثلث، وذلك أيضا من بعد الوصية التي يوصى بها أو دين. ولماذا يتم تقرير هذا الأمر؟ لنرجع مرة أخرى إلى آية الكلالة التي جاءت في آخر سورة النساء. إن الحق يقول فيها: {فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] في الآية الأولى التي نحن بصددها يكون للواحد من الإخوة سدس ما ترك إذا انفرد، فإذا كان معه غيره فهم شركاء في الثلث. هذا إذا كانوا إخوة من الأم. أما الآية التي يختص بها الحق الأختين بالثلثين من التركة إذا لم يكن معهما ما يعصبهما من الذكور فهي في الإخوة الأشقاء أو الأب، هكذا يفصل القرآن ويوضح بدقة مطلقة. وماذا يعني قوله الحق: {غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَلِيم} ؟ إنه سبحانه يريد إقامة العدل، فلا ضرر لأحد على الإطلاق في تطبيق شرع الله؛ لأن الضرر إنما يأتي من الأهواء التي تفسد قسمة الله. فقد يكون هناك من يرغب ألا يرث العم من بنات أخيه الشقيق، أو لأب، أو يريد آخر ألا يُدخل أولاد الإخوة الذكور أشقاء أو لأب في ميراث العمة أو بنات العم الشقيق أو لأب، لمثل هؤلاء من أصحاب الهوى نقول: إن الغرم على قدر الغنم، بالله لو أنك مت وتركت بنات ولهنّ عمّ، أليس مطلوبا من العم أن يربي البنات؟ فلماذا يجبر الحق العم على رعاية بنات أخيه إن توفي الأخ ولم يترك شيئا؟ لذلك يجب أن تلتفت إلى حقيقة الأمر عندما يأتي نصيب للعم في الميراث. وعلينا أن نعرف أن الغرم أمامه الغنم. وقلنا: إن القرآن الكريم يجب أن يؤخذ جميعه فيما يتعلق بالأحكام، فإذا كان في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2031 سورة النساء هذه يقول الحق سبحانه وتعالى في آخر آية منها: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] فما الفرق بين الكلالة حين يجعل الله للمنفردة النصف وللاثنتين الثلثين، وبين الكلالة التي يجعل الله فيها للمنفرد السدس، ويجعل للأكثر من فرد الاشتراك في الثلث دون تمييز للذكر على الأنثى؟ لابد أن نفرق بين كلالة وكلالة. . هما متحدتان في أنه لا أصل ولا فرع للمتوفيي. والمسألة هنا تتعلق بالإخوة. ونقول: إن الإخوة لها مصادر متعددة. هذه المصادر إما إخوة من أب وأم، وإما أخوة لأب، وإما إخوة لأم. فإذا كان أخ شقيق أو لأب فهو من العصبة الأصلية، وهما المعنيان في الآية 176 من السورة نفسها. وبذلك تكون آية السدس والثلث التي نحن بصددها الآن متعلقة بالإخوة لأم. إذن فالكلالة إما أن يكون الوارث أخا لأم فقط، وإما أن يكون أخا لأب، أو أخا لأب وأم. فالحكمان لذلك مختلفان؛ لأن موضع كل منهما مختلف عن الآخر. وإلا لو أن مستشرقا قرأ هذه الآية وقرأ الآية الأخرى وكلتاهما متعلقتان بميراث الكلالة، وأراد هذا المستشرق أن يبحث عن شيء يطعن به ديننا ويطعن به القرآن لقال - والعياذ بالله - القرآن متضارب، فهو مرة يقول: للكلالة السدس، ومرة يقول: الثلث، ومرة أخرى النصف، ومرة أخرى الثلثان، ومرة للذكر مثل حظ الأنثيين! ونرد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2032 على من يقول ذلك: أنت لم تلاحظ المقصود الفعلي والواقعي للكلالة؛ لذلك فأنت تفهم شيئا وتغيب عنك أشياء. والحق قال: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} ولنا أن نلاحظ أن في كل توريث هذه «البعدية» أي أن التوريث لا يأتي إلا من بعد الوصية الواجبة النفاذ والدّين. ولنا أن نسأل: أيهما ينفذ أولا، الوصية أم الدين؟ والإجابة: لاشك أنه الدين؛ لأن الدين إلزام بحق في الذمة، والوصية تطوع، فكيف تقدم الوصية - وهي التطوع - على الدين، وهو للإلزام في الذمة. وعندما يقول: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} لابد أن نعرف جيدا أن شرع الله لن يضر أحدا، وما المقصود بذلك؟ المقصود به الموصي، ففي بعض الأحيان يكون المورث كارها لبعض المستحقين لحقهم في ميراثه، فيأتي ليوصي بمنع توريثهم أو تقليل الأنصباء، أو يأتي لواحد بعيد يريد أن يعطيه شيئا من الميراث ولا يعطي لمن يكرهه من أهله وأقاربه المستحقين في ميراثه، فيقر لذلك الإنسان بدين، فإذا ما أقر له بدين حتى وإن كان مستغرقا للتركة كلها، فهو يأخذ الدين وبذلك يترك الورثة بلا ميراث. وهذا يحدث في الحياة ونراه، فبعض من الناس أعطاهم الله البنات ولم يعطيهم الله ولدا ذكرا يعصّبهم، فيقول الواحد من هؤلاء لنفسه: إن الأعمام ستدخل، وأبناء الأعمام سيدخلون في ميراثي، فيريد أن يوزع التركة على بناته فقط، فيكتب دينا على نفسه للبنات. ونقول لهذا الإنسان: لا تجحف، أنت نظرت إلى أن هؤلاء يرثون منك، ولكن يجب أن تنظر إلى الطرف المقابل وهو أنك إذا مت ولم تترك لبناتك شيئا وهن لا عصبة لهن، فمن المسئول عنهن؟ إنهم الأعمام، فالغرم هنا مقابل الغنم. . ولماذا تطلب البنات الأعمام أمام القضاء ليأخذن النفقة منهم في حالة وفاة الأب دون أن يترك له ثروة. فكيف تمنع عن إخوتك ما قرره الله لهم؟ وهنا بعض من الناس يرغب الواحد منهم ألا يعطي عمومته أو إخوته لأي سبب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2033 من الأسباب، فماذا يفعل؟ إنه يضع الوصية؛ لذلك حدد الإسلام الوصية بمقدار الثلث، حتى لا تحدث مضارة للورثة. وقد حاول البعض من هؤلاء الناس أن يدّعوا كذبا، أن هناك دينا عليهم، والدين مستغرق للتركة حتى لا يأخذ الأقارب شيئا. والإنسان في هذا الموقف عليه أن يعرف أنه واقف في كل لحظة في الحياة أو الممات أمام الله، وكل إنسان أمين على نفسه. لذلك قال الحق سبحانه: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 11] والحق يلفتنا ألا نضر أحدا بأي تصرف؛ لأنها توصية من الله لكل ما يتعلق بالحكم توريثا ووصية وآداء دين، كل ذلك توصية من الله، والتوصية ليست من مخلوق لمخلوق، ولكنها من الله؛ ففيها إلزام وفرض، فسبحانه القائل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] والوصية هنا افتراض، ومثل ذلك يقول الحق: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] وما دامت التوصية تأتي من المالك الأعلى، فمعنى ذلك أنها افتراض، ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية: {والله عَلِيمٌ حَلِيم} أي إياكم أن تتصرفوا تصرفا قد يقره ويمضيه القضاء، ولكنه لا يبرئكم أمام الله؛ لأنه قد قام على باطل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2034 مثال ذلك: هناك إنسان يموت وعليه دين، عندئذ يجب تسديد الدين، لكن أن يكتب الرجل دينا على نفسه غير حقيقي ليحرم بعضا من أقاربه من الميراث فعليه أن يعرف أن الله عليم بالنوايا التي وراء التصرفات. فإن عّميتم أيها البشر على قضاء الأرض، فلن تعموا على قضاء السماء. وهذه مسألة تحتاج إلى علم يتغلغل في النوايا، إذن فمسألة القضاء هذه هي خلاف بين البشر والبشر، ولكن مسألة الديانة وما يفترضه الحق، فهو موضوع بين الرب وبين عبيده، ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث شريف: «إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إليّ، فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها» . إن الرسول يعلمنا أنه بشر، أي أنه لا يملك علم الغيب ومداخل المسائل، وعندما يرفع المسلمون إليه قضاياهم فقد يكون أحدهم أكثر قدرة على الفصاحة وذلاقة اللسان، ويستطيع أن يقلب الباطل حقا، والآخر قليل الحيلة، فيحكم النبي بمقتضى البينة القضائية، ولكن الأمر الواقع يتنافى مع تسلسل الحق؛ لذلك يعلمنا أنه بشر، وأننا حين نختصم إليه يجب ألا يستخدم واحد منا ذلاقة اللسان في أخذ ما ليس له؛ لأنه حتى لو أخذ شيئا ليس له بحكم من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فليعلم أنه يأخذ قطعة من الجحيم. إذن فمعنى ذلك أنه يجب علينا أن نحذر في الأمور، فلا نعمي ولا نأخذ شيئا بسلطان القضاء ونهمل مسألة الديانة. فالأمور التي تتعلق بالدّين لا يجوز للمؤمن المساس بها، إياكم أن تظنوا أن حكم أي حاكم يحلل حراما أو يحرم حلالا، لا. فالحلال بيّن، والحرام بيّن، والقاضي عليه أن يحكم بالبينات الواضحة. ومثال على ذلك: هب أنك اقترضت من واحد ألفا من الجنيهات، وأخذ عليك صكا، ثم جاء المقترض وسدد ما عليه من قرض وقال لمن اقترض منه: «عندما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2035 تذهب إلى منزلك أرجو أن ترسل لي الصك» ثم سبق قضاء الله، وقال أهل الميت: «إن الصك عندنا» واحتكموا إلى القضاء ليأخذوا الدّين. هنا يحكم القضاء بضرورة تسديد الدين مرة أخرى، لكن حكم الدّين في ذلك يختلف، فالرجل قد سدد الدين ولا يصح أبدا أن يأخذ الورثة الدّين مرة أخرى إذا علموا أن مورثهم حصل على دينه. وذلك يقول لنا الحق: {والله عَلِيمٌ حَلِيم} حتى نفرق بين الديانة وبين القضاء. والحق يقول لنا: إنه {حَلِيم} فإياك أن تغتر بأن واحدا حدث منه ذلك، ولم ينتقم الله منه في الدنيا، فعدم انتقام الله منه في الدنيا لا يدل على أنه تصرف حلالا، لكن هذا حلم من الله وإمهال وإرجاء ولكنّ هناك عقابا في الآخرة. وبعد بيان هذه الأمور يقول الحق سبحانه وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2036 الأحكام المتقدمة والأمور السابقة كلها حدود الله، وحين يحدّ الله حدودا. . أي يمنع أن يلتبس حق بحق، أو أن يلتبس حق بباطل؛ فهو الذي يضع الحدود وهو الذي فصل حقوقا عن حقوق. ونحن عندما نقوم بفصل حقوق عن حقوق في البيوت والأراضي فنحن نضع حدودا واضحة، ومعنى «حد» أي فاصل بين حقين بحيث لا يأخذ أحد ما ليس له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2036 من آخر. والحدود التي نصنعها نحن والتي قد لا ينتبه إليها كثير من الناس، هي نوعان: نوع لا يتعدى بالبناء، فعندما يريد واحد أن يبني، فالأول يبني على الأرض التي هي حق له، ويكون الجداران ملتصقين بعضهما ببعض. وعندما يزرع فلاح بجانب فلاح آخر فكل فلاح يزرع في أرضه وبين القطعتين حد، وهذا يحدث في النفع. لكن لنفترض أن فلاحا يريد أن يزرع أرزا، وجاره لن يزرع أرزا، فالذي لن يزرع الأرز قد تأخذ أرضه مياها زائدة، فالمياه تصلح للأرز وقد تفسد غيره، ولذلك يكون الحكم هنا أن يقيم زارع الأرز حدا اسمه «حد الجيرة» ليمنع الضرر، وهو ليس «حد الملكية» فزارع الأرز هنا ينقص من زراعته مسافة مترين، ويصنع بهما حد الجيرة، حتى لا تتعدى المياه التي يُروي بها الأرز إلى أرض الجار. إنه حد يمنع الضرر، وهو يختلف عن الحد الذي يمنع التملك. إذن فمن ناحية حماية الإنسان لنفسه من أن يوقع الضرر بالآخرين عليه أن ينتبه إلى المقولة الواضحة: «لا تجعل حقك عند آخر حدك، بل اجعل حقك في الانتفاع بعيدا عن حدك» ، وهذا في الملكية. وذلك إذا كان انتفاعك بما تملكه كله سيضر بجارك. وكذلك يعاملنا الله، ويقول في الأوامر: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وفي النواهي يقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] أي أنك إذا ما تلقيت أمرا، فلا تتعد هذا الأمر، وهذه هي الملكية، وإذا ما تلقيت نهيا فلا تقرب الأمر المنهي عنه. مثال ذلك النهي عن الخمر، فالحق لا يقول: «لا تشرب الخمر» ، وإنما يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} . أي لا تذهب إلى المكان الذي توجد فيه من الأصل، كن في جانب وهذه الأشياء في جانب آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2037 ولذلك قلنا في قصة أكل آدم من الشجرة: أقال الحق: «لا تأكلا من الشجرة» ؟ أم قال ولا تقربا هذه الشجرة؟ سبحانه قال: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [الأعراف: 19] وهذا حد اسمه «حد عدم المضارة» إنه أمر بعدم الاقتراب حتى لا يصاب الإنسان بشهوة أو رغبة الأكل من الشجرة. وكذلك مجالس الخمر لأنها قد تغريك. ففي الأوامر يقول سبحانه « {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} وهذا ما يتعلق بالملكية. وفي النواهي يقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول هذا الحديث:» الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه، ألاوإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب «. لذلك تجنب حدود الله. مثال ذلك قول الحق: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] إن الحق يأمر المعتكف بالمسجد أنه عندما تأتي له زوجة لتناقشه في أمر ما فعلى المؤمن أن يمتثل لأمر الله بعدم مباشرة الزوجة في المسجد. ولا يجعل المسائل قريبة من المباشرة، لأن ذلك من حدود الله. وسبحانه يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} . وهنا في مسائل الميراث يقول الحق: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2038 {تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم} [النساء: 13] وكان يكفي أن يقول الحق -» ومن يطع الله «ولكنه قال:» ومن يطع الله ورسوله «من بعد بيان الحدود - وذلك لبيان أن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يضع حدودا من عنده لما حل، وأن يضع حدودا لما حرم. وهذا تفويض من الله لرسوله في أنه يُشرّع؛ لذلك فلا تقل في كل شيء:» أريد الحكم من القرآن «. ونرى من يقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه حرام حرمناه. هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مفوض في التشريع وهو القائل: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مفوض من الله، وهؤلاء الذين ينادون بالاحتكام إلى القرآن فحسب يريدون أن يشككوا في سنة رسول الله، إنهم يحتكمون إلى كتاب الله، وينسون أو يتجاهلون أن في الكتاب الكريم تفويضا من الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشرع. هم يقولون: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. وقولهم لمثل هذا الكلام دليل على صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يقول، لأنهم لو لم يقولوا لقلنا: يا رسول الله لقد قلت: روي المقدام بن معدي كرب قال: حرم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2039 كتاب الله فما وجدا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله «. فكيف يا سيدي يا رسول الله ذلك، ولم يقل أحد هذا الكلام؟ إذن فقولهم الأحمق دليل على صدق الرسول فيما أخبر. ويسخرهم الحق، فينطقون بمثل هذا القول لنستدل من قول خصوم النبي على صدق كلام النبي. . والحق يقول: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} والذي يطيع الله ورسوله في الدنيا هو من أخذ التكليف وطبقه ويكون الجزاء هو دخول الجنة في الآخرة. لكن إدخال الجنة هل هو منهج الدين، أو هو الجزاء على الدين؟ إنه الجزاء على الدين، وموضوع الدين هو السلوك في الدنيا، ومن يسير على منهج الله في الدنيا يدخل الجنة في الآخرة، فالآخرة ليست موضوع الدين، لكن موضوع الدين هو الدنيا، فعندما تريد أن تعزل الدنيا عن الدين نقول لك: لم تجعل للدين موضوعا، إياك أن تقول: موضوع الدين هو الآخرة لأن الآخرة هي دار الجزاء، وفي حياتنا نأخذ هذا المثل: هل الامتحان موضوع المناهج، أو أن المناهج يقرأها الطالب طوال السنة، وهي موضوع الامتحان؟ إن المناهج التي يدرسها الطالب هي موضوع الامتحان، وكذلك فالدنيا هي موضوع الدِّين، والآخرة هي جزاء لمن نجح ولمن رسب في الموضوع؛ لذلك فإياكم أن تقولوا: دنيا ودين، فلا يوجد فصل بين الدنيا والدين؛ لأن الدنيا هي موضوع الدين. فالدنيا ُتقابلها الآخرة والدين لهما. الدنيا مزرعة والآخرة محصدة. بهذا نرد على من يقول: إن الدنيا منفصلة عن الدين. ومن يطع الله ورسوله يدخله جنة واحدة أواثنتين أو جنات، وهل دلالة «من» للواحد؟ لا، إن «من» تدل على الواحد، وتدل على المثنى وتدل على الجمع، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2040 مثال ذلك نقول: جاء من لقيته أمس ونقول أيضا: جاء من لقيتهما أمس، وتقول ثالثا: جاء من لقيتهم أمس. . إذن ف «من» صالحة للمفرد والمثنى والجمع. والحق هنا لا يتكلم عن فرد هنا أو جمع. كما قلنا في أول الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] على الرغم من أن القياس أن تقول: «إياك أعبد وإياك أستعين» . لكن قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ليوضح لنا أن المؤمنين كلهم وحدة واحدة في العبادة. وهناك من يقول إذا دلت: (مَن) على المفرد فقد لحظنا لفظها، وإذا دلت على المثنى أو الجمع فقد لحظنا معناها. ولمن يقول ذلك نقول: إن هذا الكلام غير محقق علميا؛ لأن لفظ «من» لم يقل أحد إنه للمفرد. بل إنها موضوعة للمفرد والمثنى والجمع. فلا تقل: استعمل لفظ «من» مراعاة للفظ أو مراعاة للمعنى، لأن لفظ «من» موضوع لمعان ثلاثة هي المفرد والمثنى والجمع. وقد سألني أخ كريم في جلسة من الجلسات: لماذا يقول الحق سبحانه في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فقلت له: إن سورة الرحمن استهلها الحق سبحانه وتعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان} [الرحمن: 1 - 3] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2041 وبعد ذلك قال الحق: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 14 - 15] وقال سبحانه: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} [الرحمن: 31] وقال تعالى: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] إذن فمن خاف مقام ربه، هو من الجن أو من الإنس، إن كان من الجن فله جنة، وإن كان من الإنس فله جنة أخرى. إذن فمن خاف مقام ربه فله جنتان. وهناك من يقول جنتان لكل واحد من الإنس والجن، لأن الله لا يعاني من أزمة أماكن، فحين شاء أزلا أن يخلق خلقا أحصاهم عدا من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، وعامل الكل على أنه مؤمن مطيع، وأنشأ لكل واحد مكانه في الجنة، وعامل سبحانه الكل على أنه عاص، وأنشأ له مقعدا في النار، وذلك حتى لا يفهم أحد أن المسألة هي أزمة أماكن. فإذا دخل صاحب الجنة جنته، بقيت جنة الكافر التي كانت معدة له على فرض أنه مؤمن؛ لذلك يقول الحق: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2042 فيرث المؤمنون ما كان قد أعد لغيرهم لو آمنوا. إذن فالمعاني نجدها صوابا عند أي أسلوب من أساليب القرآن. وهنا يقول الحق: {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ويجب أن نفهم أن النهر هو الشق الذي يسيل فيه الماء وليس هو الماء، الحق يقول: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} فأين تجري الأنهار؟ أتجري الأنهار تحت زروعها، أم تحت بنيانها؟ ونعرف أن الزروع هي التي تحتاج إلى مياه، ونحن نريد أن نبعد المياه عن المباني كيف؟ ولكن ليس هناك شيء مستحيل على الله؛ لأنها تصميمات ربانية. فالخلق قد تشق نهرا، ونجد من بعد ذلك النشع يضرب في المباني، لكن تصميمات الحق بطلاقة القدرة؛ تكون فيه الجنات تجري من تحتها مياه الأنهار، ولا يحدث منها نشع، سواء من تحت أبنية الجنات أو من تحت زروعها والذي يقبل على أسلوب ربه ويسأله أن يفيض عليه ويلهمه، فهو - سبحانه - يعطيه ويمنحه فالحق مرة يقول: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ومرة أخرى يقول: {جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأنهار} فهذا ممكن وذاك ممكن. فقوله - سبحانه - {جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأنهار} قد يشير إلى أن الأنهار تكون آتية من موقع آخر وتجري وتمر من تحت الجنات. لا. هي تجري منها أيضا يقول الله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} حتى لا يظن أحد أن هناك من يستطيع أن يسد عنك المياه من أعلى. إنها أنهار ذاتية. وعندما نقرأ أن الأنهار تجري من تحت الجنات بما فيها ومن فيها من قصور فقد يقول قائل: ألا أستطيع أن آخذ من هذه وأنا مهندس أضع تصميمات مباني الدنيا وآخذ من قول الحق إنه من الممكن أن تقيم مباني تجري من تحتها الأنهار؟ وبالفعل أخذ البشر هذا الأمر اللافت. نحن نقيم القناطر وهي مبان وتجري من تحتها الأنهار، وعندما تكون المواصفات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2043 صحيحة في الطوب والاسمنت إلى آخر المواصفات فلا نشع يحدث ولا خلخلة في المبنى. فالخلل الذي يحدث في المباني عندنا، إنما يأتي من آثر الخيانة في التناول. ومن الممكن أن تجري الأنهار تحت قصور الجنة. التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ألا يوحي ذلك للمهندس المسلم أن يحيا في هذه اللفتة الإلهية ويأخذ منها علما ويستطيع أن يقيم مباني تجري من تحتها الأنهار؟ لو تنبهت إلى ذلك إيمانية مهندس وأخذ يتعلم عن ربه كيفية أداء العمل. لفعل ذلك بتوفيق الله. ولنتكلم على مصر التي تعاني من أزمة إسكان، ونجد أن المساحة المائية تأخذ قدرا كبيرا من الأرض، سواء أكانت النيل، أم الفروع التي تأخذ من النيل، وكذلك الترع الصغيرة وكذلك الطرق فلو أن هناك هندسة إيمانية لاستغلت المساحات والمسطحات المعطلة، نقيم عليها مباني تسع مرافق الدولة كلها، ويتم إنجاز المباني فوق الطرق وفوق المياه وفوق المصارف. وليس معنى ذلك أن نبني كل الأماكن حتى تصير مسدودة بالمباني، ولكن نبني الثلث، ونترك فراغا مقدار الثلثين حتى لا نفسد المنظر، ولا نتعدى على أرض خضراء مزروعة، إنها إيحاءات إيمانية على المهندس المسلم أن يفكر فيها. إن بلدا كالقاهرة تحتاج إلى مرافق مختلفة متنوعة، ونستطيع أن نبني على الفراغات سواء أكانت فراغات في مساحات النيل شرط مراعاة الفراغات والزروع اللازمة لجمال البيئة وتنقيتها من التلوث. أم نبني المرافق تحت الأرض، ولن تكون هناك أزمات للإسكان أو المرافق، هذا بالإضافة إلى الانتفاع بالصحراء في هذا المجال. والحق يقول: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} صحيح أن الجنة ستكون نعيما ليس على قدر تصورك ولكن على قدر كمال وجمال قدرة الحق، فالنعيم الذي يتنعم فيه الإنسان يكون على قدر التصور في معطيات النعيم، وقلنا قديما: إن عمدة إحدى القرى قال: أريد أن أبني مضيفة وحجرة للتيلفون، ومصطبة نفرشها. هذا هو النعيم في تصور العمدة. ونحن في الحياة نخاف أن نترك النعيم بالموت أو يتركنا النعيم. لكن كيف يكون النعيم عند صانع كل التصورات وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2044 الحق سبحانه وتعالى؟ لذلك تكون جنات النعيم دائمة، فلا أنت تموت ولا هي تذهب. والخلود هنا له معنى واضح إنه بقاء لا فناء بعده {وذلك الفوز العظيم} وما هو «الفوز» ؟ إنه النصر، إنه الغلبة، إنه النجاح، إنه الظفر بالمطلوب. فإذا كان فوزنا في الدنيا يعطينا جائزة نفرح بها، فالفرح قد يستمر مدة الدنيا التي يملكها الواحد منا، فما بالنا بالفوز الذي يأتي في الآخرة وهو فوز الخلود في جنة من صنع ربنا، أليس ذلك فوزا عظيما؟ إننا إذا كنا نفرح في الدنيا بالفوز في أمور جزئية فما بالنا بالفوز الذي يمنحه الحق ويليق بعظمته سبحانه وتعالى، ولو قسنا فوز الدنيا بفوز الآخرة لوجدنا فوز الآخرة له مطلق العظمة، ومهما ضحى المؤمن في سبيل الآخرة، فهناك فوز يعوض كل التضحيات، ويسمو على كل هذا. وإذا قال قائل: ألم يكن من الأفضل أن يقول: ذلك الفوز الأعظم نقول له: إنك سطحي الفهم لأنه لو قال ذلك لكان فوز الدنيا عظيما، لأن الأعظم يقابله العظيم، والعظيم يقابله الحقير فحين يقول الحق عن فوز الآخرة: إنه عظيم، فمعنى ذلك أن فوز الدنيا حقير، والتعبير عن فوز الآخرة هو تعبير من الحق سبحانه. وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل: فيقول: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2045 وسبحانه قال من قبل: {تِلْكَ حُدُودُ الله} والحدود إما أن تبين الأوامر وحدها وإما أن تبين النواهي وحدها. فهي شاملة أن يطيعها الطائع أو يعصيها العاصي. فإن كنت تطيع فلك جزاء الطاعة وتأخذ الجنات والخلود والفوز العظيم. لكن ماذا عمن يعصي؟ إن له المقابل، وهذا هو موقفه وجزاؤه أن له العذاب. {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} هنا نجد {نَاراً} واحدة، وهناك نجد {جَنَّاتٍ} . هذا ملحظ أول، وإذا كنا منتبهين ونقبل على كتاب الله، ونعرف أن المتكلم هو الله، فإننا نجد الملحظ الثاني وهو خلود للمؤمنين في الجنات، أما الكافر فسيدخل النار. ولم يقل الحق نيرانا، ولم يقل الحق أيضا: «خالدين» لماذا؟ لأن المؤمنين سيكونون في الجنة على سرر متقابلين، ويتزاورون، وكل واحد يستمتع بكل الجنان، وأيضا إن المرء إذا كان له من عمله الصالح الكثير وقصر أولاده الذين اشتركوا معه في الإيمان، فإن الحق - سبحانه - يلحق به ذريته ويكون هو وذريته في النعيم والجنان كرامة له. فتكون الجنات مع بعضها وهذا أدعى للإنس. ولكن الموقف يختلف مع الكافر، فلن يلحق الله به أحدا وكل واحد سيأخذ ناره، وحتى لا يأنسوا مع بعضهم وهم في النار، فالأنس لن يطولوه أيضا، فكل واحد في ناره تماما مثل الحبس المنفرد في زنزانة. ولن يأنس واحد منهم بمعذب الآخر. إذن فهناك {جَنَّاتٍ} و {نَار} و {خَالِدِينَ} و {خَالِداً} ، وكل استخدام للكلمة له معنى. والطائع له جنات يأتنس فيها بذريته وإخوته أهل الإيمان ويكونون خالدين جميعا في الجنات، أما العاصي فهو في النار وحده خالدا {وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} . إن العذاب يكون مرة أليما، ومثال ذلك أن يؤلم واحد عدوه فيتجلد عدوه حتى لا يرى شماتة الذي يعذبه. ويقول الشاعر: وتجلدي للشامتين أريهمو ... أني لريب الدهر لا أتضعضع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2046 فيكتم الألم عن خصمه، لكن هذا في الدنيا، أما في الآخرة فهناك إهانة في النفس، فعذاب الله يجمع الألم والإهانة، إياك أن تفهم أن هناك من يقدر على أن يتجلد كما يتجلد البشر عند وقوع العذاب في الدنيا - إن عذاب الآخرة مهين ومذل للنفس في آن واحد. وهكذا نجد أن المرحلة الأولى من سورة النساء عالجت وحدة الإنسان أبا، ووحدته أما، وعالجت كيف بث الله منهما رجالا كثيرا ونساء. وعالجت السورة أيضا ما يطرأ مما يجري به قدر الله في بعض خلقه بأن يتركوا أيتاما ضعافا، وأنه سبحانه أراد استبقاء الحياة الكريمة للنفس الإنسانية؛ لذلك طلب أن نصنع الخير والمودة مع اليتامى، ووضع أسلوب التعامل الإيماني معهم، وأن نكون أوصياء قائمين بالعدالة والإرادة الحسنة العفيفة لأموالهم، إلى أن يبلغوا سن الرشد فيتسلموها. وأيضا عالجت السورة أمراً آخر وهو استبقاء الحياة الكريمة للنساء والأطفال ضمن النسيج الاجتماعي. ذلك أن العرب كانوا يمنعون النساء من الميراث، ويمنعون - كذلك - من الميراث من لم يطعن برمح ولم يضرب بخنجر أو سيف ولم يشترك في رد عدوان. فأراد الله سبحانه لهذه الفئة الذليلة المضطهدة أن تأخذ حقها ليعيشٍ العنصران في كرامة ويستبقيا الحياة في عزة وهمة وفي قوة، فشرع الحقُ نصيباً محدداً للنساء يختلف عن نصيب الرجال مما قل أو كثر، وبعد ذلك استطرد ليتكلم عن الحقوق في المواريث. وأوضح سبحانه الحدود التي شرعها لهذا الأمر، فمن كان يريد جنات الله فليطع الله ورسوله فيما حدّ من حدود. ومن استغنى عن هذه الجنات فليعص الله ليكون خالدا في النار. إذن فالحياة الإنسانية هبة من الله لعباده، ومن كرمه سبحانه أن أوجد لها - قبل أن يوجدها - ما يقيم أود الحياة الكريمة لذلك الإنسان المكرم، فوفد الإنسان على الخير، ولم يفد الخير على الإنسان، أي أنّ الحق سبحانه لم يخلق الإنسان أولاً ثم صنع له من بعد ذلك الشمس والقمر والأرض والعناصر. لا، لقد خلق الله هذه العناصر التي تخدم الإنسان أولاً وأعدها لاستقبال الطارق الجديد - الإنسان - الذي اختاره سبحانه ليكون خليفة في الأرض. فالخير في الأرض الذي نستبقي به الحياة سبق وجود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2047 الإنسان، وهذه عناية من الحق الرحمن بمخلوقه المكرم وهو الإنسان. وجعل الله للإنسان وسيلة للتكاثر وربطها بعملية الإمتاع، وهذه الوسيلة في التكاثر تختلف عن وسائل التكاثر في الزروع والحيوانات، فوسيلة التكاثر في كل الكائنات هي لحفظ النوع فقط. وأراد - سبحانه وتعالى - أن يكون الإمتاع مصاحباً لوسيلة التكاثر الإنساني، ذلك أن المشقَّات التي يتطلبها النسل كثيرة، فلا بد أن يجعل الله في عملية التكاثر متعة تغري الإنسان. وأراد الحق سبحانه بذلك أن يأتي بالضعاف ليجعل منهم حياة قوية. ويوصينا الحق باليتيم من البشر، وقد يقول قائل: ما دام الحق سبحانه وتعالى يوصينا حتى ننشئ من اليتيم إنساناً قوياً وأن نحسن إلى اليتيم، فلماذا أراد الله أن يموت والد اليتيم؟ . نقول: جعل الحق هذا الأمر حتى لا تكون حياة الإنسان ضربة لازب على الله، إنه يخلق الإنسان بعمر محدد معروف له سبحانه ومجهول للإنسان، فالإنسان قد يموت جنيناً أو طفلاً أو صبياً أو رجلاً أو هرماً، بل نحن نجد في الحياة إنساناً هرماً مازال يحيا بيننا ويموت حفيد حفيده، لماذا؟ . لأن الله أراد أن يستر قضية الموت عن الناس، فلا معرفة للإنسان بالعمر الذي سوف يحياه ولا بزمان الموت، ولا مكان الموت، حتى يكون الإنسان منا دائماً على استعداد أن يموت في أي لحظة. وما دام الإنسان يعيش مستعدا لأن يموت في أي لحظة، فعليه أن يستحي أن يلقي الله على معصية. وأيضا لنعلم أن المنهج الإيماني؛ منهج يجعل المؤمنين جميعاً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فإذا مات رجل وترك طفلاً يتيماً، ووجد هذا اليتيم آباء من المجتمع الإيماني، فإن المنهج الإيماني يستقر في قلب اليتيم اطمئناناً ويقيناً. ومن حكمة الموت ألا يفتن أحد في أبيه أو في الأسباب الممنوحة من الله للآباء، بل نكون جميعا موصولين بالله. وما دام الحق سبحانه قد وضع لنا الأسباب لاستبقاء الحياة، ووضع لنا أسلوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2048 السعي في الأرض لتستبقي الحياة بالحركة فيها، فقد وضع أيضا الوسيلة الكريمة لاستبقاء النوع وجعل من حركة الأصل ما يعود على الفرع، فلم يُغر الله الإنسان وحده بالحركة لنفسه، ولكن أغراه أن يتحرك في الحياة حركة تسعه وتسع من يعول، ويوضح الحق للإنسان: أن حركتك في الأرض ستنفع أولادك أيضاً. ولذلك أوجد الله سبحانه في نفس كل واحد غريزة الحنان والحب. ونحن نرى هذه الغريزة كآية من آيات الله متمكنة في نفوس الآباء. ولهذا يسعى الأب في الحياة ليستفيد هو وأولاده. والذي يتحرك حركة واسعة في الحياة قد يأتي عليه زمان يكفيه عائد حركته بقية عمره؛ لأنه تحرك بهمة وإخلاص؛ وأفاء الله عليه الرزق الوفير، وقد يتحرك رجل لمدة عشرين عاماً أو يزيد ويضمن لنفسه ولأولاده من بعده الثروة الوفيرة، وهناك من يكد ويتعب في الحياة ويكسب رزقاً يكفيه ويكفي الأبناء والأحفاد. وهكذا نجد الذين يتحركون لا يستفيدون وحدهم، فقط ولكن المجتمع يستفيد أيضاً. وتشاء حكمة الله العالية بأن يفتت الثورة بقوانين الميراث لتنتشر الثروة وتتوزع بين الأبناء فتشيع في المجتمع، وهذا اسمه التفتيت الإنسيابي. كأن نجد واحداً يملك مائة فدان وله عدد من الأبناء والبنات. وبعد وفاة الرجل يرث الأبناء والبنات كل تركته، وهكذا تتفتت الثروة بين الأبناء تفتيتاً انسيابياً وليس بالتوزيع القهري الذي يُنشئ الحقد والعداوة، ويريد الحق أن نحترم حركة المتحرك، وأن تعود له حركة حياته ولمن يعول فقال سبحانه: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36] . هو سبحانه لا يقول لأي واحد: هات المال الذي وهبته لك. وقلت سابقا: إنه سبحانه وتعالى يحنن عبداً على عبد فيقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2049 إن الله سبحانه يحترم حركة العبد، ويحترم ما ملك العبد بعرقه، ويوصي الحق العبد الغني: إن أخاك العبد الفقير في حاجة، فأقرضني - أنا الله - بإعطائك الصدقة أو الزكاة لأخيك الفقير. ولم يقل للعبد الغني: أقرض أخاك، ولكنه قال أقرضني. لماذا لأنه سبحانه هو الذي استدعي الخلق إلى الوجود، وهو المتكفل برزقهم جميعاً. . المؤمن منهم والكافر. ولذلك ضمن الرزق للجميع وأمر الأسباب بأن تستجيب حتى للكافر، لأنه سبحانه هو الذي استدعاه للوجود. وسبحانه وضع هذا التوريث، ليصنع التفتيت الإنسيابي للملكية حتى لا يأتي التفتيت القسري الذي يجعل بعضاً من الأبناء وقد نشأوا في نعمة وأخذوا من مسائل الحياة ما يريدون، وعندما يأتي عليهم هذا التفتيت القسري، يصبحون من المساكين الذين فاجأتهم الأحداث القسرية بالحرمان، فهم لم يستعدوا لهذا الفقر المفاجئ. لكن عندما يأتي التفتيت الانسيابي فكل واحد يعد نفسه لما يستقبله، وبذاتية راضية وبقدرة على الحركة، ولذلك قال الحق: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36] . إنه سبحانه لا يقول: أنا الذي ملكتك هذا المال، ولا أنا الذي رزقتك هذا الرزق، مع أنه - سبحانه - هو الذي ملكك ورزقك هذا المال حقا ولكنه يوضح لك حقك في الحركة، فيقول بعد ذلك: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 37] . ولو ألح عليك فأنت تبخل بها لأنك جنيتها بتعب وعرق. ولكن ما الفرق بين إنسان لم يسرف على نفسه، بل عاش معتدلا، ثم أبقى شيئاً لأولاده؛ والذي جاء بدخله كله وبدده فيما حرمه الله وأسرف على نفسه في المخدرات وغيرها، ما الفرق بين هذا وذاك؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2050 الفرق هو احترام الحق سبحانه لأثر حركة الإنسان في الحياة، لذلك يوضح: أنا لا أسألكم أموالكم، لأني إن سألتكم أموالكم فقد تبخلون، لأن مالكم عائد من أعمالكم. ويقول الحق: {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} وإذا ظهر وخرج الضغن في المجتمع فالويل للمجتمع كله؛ ولذلك نجد أن كل حركة من هذه الحركات القسرية ينشأ منها بروز الضغن في المجتمع كله، وساعة يبرز الضغن في المجتمع، انتهى كل شيء جميل. ولذلك وضع الحق أسس ووسائل استبقاء الحياة الكريمة. وضع أساس للضعيف بما يحميه، وكذلك للنساء اللاتي كن محرومات من الميراث قبل الإسلام، وجعل الحق - سبحانه وتعالى - لتوريث الأطفال والأبناء والنساء حدوداً {تِلْكَ حُدُودُ الله} وإياكم أن تتعدوا هذه الحدود؛ لأن الإنسان إذا ما تعدى هذه الحدود، فلا بد أن يكون من أهل النار - والعياذ بالله - فقد وضع الله تلك القواعد لاستبقاء حياتك ويحاة من تعول. وهناك لون آخر من الاستبقاء، هو استبقاء النوع، لأن الإنسان عمراً محدوداً في الحياة وسينتهي؛ لذلك يجب أن يستبقي الإنسان النوع في غيره، كيف؟ نحن نتزوج كي يرزقنا الله بالذرية والبنين والحفدة وتستمر حلقات، وهذا استبقاء للنوع الإنساني. والحق يريد أن يكون الاستبقاء للنوع كريماً؛ لذلك يأمرنا الحق - سبحانه - أن نستبقي النوع بأن نختار له الوعاء الطاهر، فإياك أن تستبقي نوعا من وعاءٍ خبيثٍ نجس، اختلطت فيه مياه أناس متعددين، فلا يدري أحد لمن ينسب الولد فيصير مضيعاً في الكون، مجهول النسب فأوضح الله للإنسان أن يختار لنفسه الوعاء النظيف ليستبقي النوع بكرامة. والحصول على الأوعية النظيفة يكون بالزواج، فيختار الرجل أنثى عفيفة ذات دين وترضي به زوجاً أمام أعين الناس جميعاً، ويصير معروفا للجميع أن هذه امرأة هذا، وهذا زوجها، دخوله وخروجه غير ممقوت أو موقوت. وما ينشأ من الذرية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2051 بعد ذلك يكون قطعا منسوبا إليه. ويخجل الإنسان أن يكون ابنه مهينا أو عاريا أو جائعا أو غير معترف به؛ لذلك يحاول الأب أن يجعل من ابنه إنساناً مستوفيا لكل حقوقه مرفوع الرأس غير مهين، لا يقدحه واحد فَيَسُّبُهُ وينال منه قائلا: جئت من أين؟ أو من أبوك؟ فلا يعيش الطفل كسير الجناح ذليلا طوال عمره. فأراد سبحانه استبقاء النوع برابطة تكون على عين الجميع، وأن تكون هذه الرابطة على الطريق الشرعي. ومن العجيب أننا نجد هذه المسألة ذات آثار واضحة في الكون، فالتي تحاول أن تزيل أثر جريمتها يجبرها الحنان الطبيعي كأم ألا تلقي ابنها الوليد في البحر بل أمام مسجد؛ فالطفل مربوط بحنان أمه ولكن الحنان غير شرعي ولذلك ترمي الأم الزانية بطفلها أمام المسجد حتى يلتقطه واحد من الناس الطيبين، فالزانية نفسها تعرف أنه لا يدخل المسجد إلا إنسان طيب قد يحن على الوليد ويأخذ هذا الطفل ويصير مأمونا عليه. وهي لا تلقي بوليدها عند خمارة أو دار سينما، ولكن دائما تضعه عند أبواب المساجد، فالحنان يدفعها إلى وضع الطفل غير الشرعي في مثل هذا المكان؛ لأنها تخاف عليه، لذلك تلفه وتضعه في أحلى الملابس، وإن كانت غنية فإنها تضع معه بعضا من المال؛ لأن الحنان يدفعها إلى ذلك، والحياء من الذنب هو الذي يجعلها تتخلص من هذا الطفل. إنها - كما قلنا - تحتاط بأن تضعه في مكان يدخله أناس طيبون فيعثر عليه رجل طيب، يأخذه ويكون مأمونا عليه. إذن فحتى الفاسق المنحرف عن دين الله يحتمي في دين الله؛ وهذا شيء عجيب. والله يريد أن يبني بقاء النوع على النظافة والطهر والعفاف ولا يريد لجراثيم المفاسد أن توجد في البيوت؛ لذلك يشرع العلاقة بين الرجل والمرأة لتكون زواجا أمام أعين الناس. ويأخذ الرجل المرأة بكلمة الله. وأضرب هذا المثل: نحن نجد الرجل الذي يحيا في بيت مطل على الشارع وله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2052 ابنة وسيمة والشباب يدورون حولها - ولو عرف الرجل أن شابا يجيء ويتعمد لينظر إلى ابنته فماذا يكون موقف الرجل من الشاب؟ إن الرجل قد يسلط عليه من يضربه أو يبلغ ضده الشرطة ويغلى الرجل بالغيظ والغَيْرة. وما موقف الرجل نفسه عندما تدق الباب أسرة شاب طيب يطلبون الزواج من ابنته؟ يفرح الرجل ويسأل الابنة عن رأيها، ويبارك للأم ويأتي بالمشروبات ويوجه الدعوات لحفل عقد القرآن، فما الفرق بين الموقفين؟ لماذا يغضب الأب من الشاب الذي يتلصص؟ لأن هذا الشاب يريد أن يأخذ البنت بغير حق الله، أما الشاب الذي جاء ليأخذ الابنة زوجة بحق الله وبكلمة الله فالأب يفرح به وينزل الأمر عليه بردا وسلاما. وبعد ذلك يتسامى الأمر، ويتم الزفاف ويزور الأب ابنته صباح الزفاف ويرغب أن يرى السعادة على وجهها. إن الفارق بين الموقفين هو ما قاله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء فإنهن عَوانٍ في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» . وما دام الله هو الذي خلق الرجل والمرأة وشرع أن يجتمعا وتكون كلمة الشاب: «أريد أن أتزوج ابنتك» بردا وسلاما على قلب الأب، ويكون الفرح والاحتفال الكبير؛ لأن هذه مسألة عفاف وطهر. والله يريد أن يجعل استبقاء النوع الإنساني استبقاءً نظيفا لا يُخجل أن تجيء منه ولادة، ولا يخجل منه المولود نفسه، ولا يُذَم في المجتمع أبدا، إذا استبقينا النوع بهذا الشكل؛ فهذا هو الاستبقاء الجميل للنوع. واستبقاء النوع هو الذي تأتي من أجله العملية الجنسية وأراد الله أن يشرعها حلالا على علم الناس ويعرفها الجميع. وقد سألني سائل وأنا في الجزائر: لماذا تقوم العلاقة بين الرجل والمرأة على كلمات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2053 نحو: «زوجتك موكلتي، أو تقول هي: زوجتك نفسي» ويقبل الرجل، وتنكسر العلاقة بكلمة «أنت طالق» ؟ وأجبته: لماذا يستبيح الرجل لنفسه أن يمتلك بضع الزوجة بكلمتين؟ ويستكثر أن تخرج من عصمته بكلمتين؟ فكما جاءت بكلمة تذهب بكلمة. إن الحق سبحانه وتعالى كما استبقى الحياة بالعناصر التي تقدمت، يريد أن يستبقي النوع بالعناصر التي تأتي، وأوضح لنا أن كل كائن يتكاثر لا بد له من إخصاب، والإخصاب يعني أن يأتي الحيوان المنوي من الذكر لبويضة الأنثى كي ينشأ التكاثر، والتكاثر في غير الإنسان يتم بعملية قسرية. ففي الحيوانات نرى الأنثى وهي تجأر بالصوت العالي عندما تنزل البويضة في رحمها كالبقرة مثلا، حتى يقول الناس جميعا: إن البقرة تطلب الإخصاب، وعندما يذهب بها صاحبها إلى الفحل ليخصبها تهدأ، ولا تمكن فحلا آخر منها من بعد ذلك، وهكذا يتم حفظ النوع في الحيوانات. أما في النباتات؛ فالأنثى يتم تلقيحها ولو على بعد أميال. ونحن نعرف بعضا من ذكور النبات وإناثها مثل ذكر النخل والجميز، لكننا لا نعرف التفريق بين ذكورة وأنوثة بعض النباتات، وقد يعرفها المتخصصون فقط، وبعض النباتات تكون الذكورة والأنوثة في عود واحد كالذرة مثلا؛ فالأنوثة توجد في «الشراشيب» التي توجد في «كوز» الذرة، وعناصر الذكورة توجد في السنبلة التي يحركها الهواء كي تنزل لتخصب الأنوثة، وكذلك القمح. وهناك أنواع من النباتات لا نعرف ذكورتها! بالله أيوجد أحدٌ عنده ذكر مانجو أو ذكر برتقال؟ إذن هناك أشياء كثيرة لا نعرفها، لكن لا بد من أن تتلاقح إخصابا لينشأ التكاثر، فيوضح ربنا: اطمئنوا أنا جعلت الرياح حاملة لوسائل اللقاح، يأخذ الريح اللواقح إلى النباتات، والنبات الذي يكون تحت مستوى الريح يسخر الله له أنواعا من الحشرات غذاؤها في مكانٍ مخصوصٍ من النبات وله لون يجذبها، حشرة يجذبها اللون الأحمر، وحشرة يجذبها اللون الأبيض؛ لأن الحشرة تذهب للذكورة فيعلق بها حيوان الذكورة، فتذهب إلى الأنثى المتبرجة بالزينة، وهذه العملية تحدث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2054 ولا ندري عنها شيئا. من الذي يلقح؟ من الذي يعلمها؟ إنه الله القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، فاستبقى لنا الأنواع غريزيا وقسريا، بدون أن نعرف عن الكثير منها شيئا، حتى المطر لا يمكن أن ينزل إلا إذا حدثت عملية تلقيح. ولذلك يقول الحق: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] . إذن الحق قد استبقى لك أيها الإنسان أنواع مقومات حياتك بما لا تدريه، وجعل هذه المسائل قسرية بحيث يؤدي كل كائن وظيفته وتنتهي المسألة، لكن حين كان لك اختيار، وتوجد مشقات كثيرة في الإنجاب وحفظ النوع، فقد قرن - سبحانه - حفظ النوع بالمتعة، وإياك أن تعزل حفظ النوع عن المتعة، فإن أخذت المتعة وحدها فقد أخذت الفرع وتركت الأصل، فلا بد أن تفعلها لحفظ النوع المحسوب عليك. إذن فإياك أن تلقي حيوانك المنوي إلا في وعاء نظيف، محسوب لك وحدك كي لا تنشأ أمراض خبيثة تفتك بك وبغيرك، ولكيلا ينشأ جيل مطموس النسب، ولكيلا يكون مهينا ولا مدنسا في حياته؛ فإياكم أن تأخذوا قضية حفظ النوع منفصلة عن المتعة فيها. ولذلك - فسبحانه - سيتكلم عن المرأة عندما تتصل بامرأة بالسحاق، أو الرجل يكتفي بالرجل باللواط للمتعة، أو رجل ينتفع بامرأة على غير ما شرع الله. فعندما تنتفع امرأة مع امرأة، وينتفع الرجل بالرجل للاستمتاع، نقول لها: أنت أيتها المرأة أخذتِ المتعة وتركتِ حفظ النوع، وأنت يا رجل أخذت المتعة وتركت حفظ النوع، والحق يريد لك أن تأخذ المتعة وحفظ النوع معا. فيوضح سبحانه أنه لا بد أن تكون المتعة في ضوء منهج الله. واسمعوا قول الله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2055 {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2056 و {واللاتي} اسم موصول لجماعة الإناث، وأنا أرى أن ذلك خاص باكتفاء المرأة بالمرأة. وماذا يقصد بقوله: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً} ؟ إنه سبحانه يقصد به حماية الأعراض، فلا يبلغ كل واحد في عرض الآخر، بل لا بد أن يضع لها الحق احتياطا قويا، لأن الأعراض ستجرح، ولماذا «أربعة» في الشهادة؟ لأنهما اثنتان تستمتعان ببعضهما، ومطلوب أن يشهد على كل واحدة اثنان فيكونوا أربعة، وإذا حدث هذا ورأينا وعرفنا وتأكدنا، ماذا نفعل؟ قال سبحانه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت} أي احجزوهن واحبسوهن عن الحركة، ولا تجعلوا لهن وسيلة التقاء إلى أن يتوفاهن الموت {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} وقد جعل الله. والذين يقولون: إن هذه المسألة خاصة بعملية بين رجل وامرأة، نقول له: إن كلمة {واللاتي} هذه اسم موصول لجماعة الإناث، أما إذا كان هذا بين ذكر وذكر. ففي هذه الحالة يقول الحق: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً} [النساء: 16] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2056 الآية هنا تختص بلقاء رجل مع رجل، ولذلك تكون المسألة الأولى تخص المرأة مع المرأة، ولماذا يكون العقاب في مسألة لقاء المرأة بالمرأة طلبا للمتعة هو الإمساك في البيوت حتى يتوفاهن الموت؟ لأن هذا شر ووباء يجب أن يحاصر، فهذا الشر معناه الإفساد التام، لأن المرأة ليست محجوبة عن المرأة؛ فلأن تحبس المرأة حتى تموت خير من أن تتعود على الفاحشة. ونحن لا نعرف ما الذي سوف يحدث من أضرار، والعلم مازال قاصرا، فالذي خلق هو الذي شرع أن يلتقي الرجل بالمرأة في إطار الزواج وما يجب فيه من المهر والشهود، وسبحانه أعد المرأة للاستقبال، وأعد الرجل للإرسال، وهذا أمر طبيعي، فإذا دخل إرسال على استقبال ليس له، فالتشويش يحدث. وإن لم يكن اللقاء على الطريقة الشرعية التي قررها من خلقنا فلا بد أن يحدث أمر خاطئ ومضر، ونحن عندما نصل سلكا كهربائيا بسلك آخر من النوع نفسه. أي سالب مع سالب أو موجب مع موجب تشب الحرائق، ونقول: «حدث ماس كهربائي» ، أي أن التوصيلة الكهربائية كانت خاطئة. فإذا كانت التوصيلة الكهربائية الخاطئة في قليل من الأسلاك قد حدث ما حدث منها من الأضرار، أفلا تكون التوصيلة الخاطئة في العلاقات الجنسية مضرة في البشر؟ إنني أقول هذا الكلام ليُسَجَّل، لأن العلم سيكشف - إن متأخرا أو متقدما - أن لله سرا، وحين يتخصص رجل بامرأة بمنهج الله «زوجني. . وتقول له زوجتك» فإن الحق يجعل اللقاء طبيعيا. أما إن حدث اختلاف في الإرسال والاستقبال فلسوف يحدث ماس صاعق ضار، وهذه هي الحرائق في المجتمع. أكرر هذا الكلام ليسجل وليقال في الأجيال القادمة: إن الذين من قبلنا قد اهتدوا إلى نفحة من نفحات الله، ولم يركنوا إلى الكسل، بل هداهم الإيمان إلى أن يكونوا موصولين بالله، ففطنوا إلى نفحات الله. والحق هو القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2057 فإذا كنا قد اهتدينا إلى معرفة أن اتصال سلك صحيح بسلك صحيح فالكهرباء تعطي نورا جميلا. أما إذا حدث خطأ في الاتصال، فالماس يحدث وتنتج منه حرائق، كذلك في العلاقة البشرية، لأن المسألة ذكورة وأنوثة. والحق سبحانه القائل: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] . فإذا كان النور الجميل يحدث من الاتصال الصحيح بين الموجب والسالب في غير الإنسان، وتحدث الحرائق إن كان الاتصال خاطئا، فما بالنا بالإنسان؟ وفي بعض رحلاتنا في الخارج، سألنا بعض الناس: - لماذا عَدَّدتم للرجل نساءً، ولم تعددوا رجالاً للمرأة؟ هم يريدون أن يثيروا حفيظة المرأة وسخطها على دين الله؛ حتى تقول المرأة الساذجة - متمردة على دينها -: «ليس في هذا الدين عدالة» ؛ لذلك سألت من سألوني: أعندكم أماكن يستريح فيها الشباب المتحلل جنسيا؟ فكان الجواب: نعم في بعض الولايات هناك مثل هذه الأماكن. قلت: بماذا احتطتم لصحة الناس؟ قالوا: بالكشف الطبي الدوري المفاجئ. قلت: لماذا؟ قالوا: حتى نعزل المصابة بأي مرض. قلت: أيحدث ذلك مع كل رجل وامرأة متزوجين؟ قالوا: لا. قلت: لماذا؟؟ فسكتوا ولم يجيبوا، فقلت: لأن الواقع أن الحياة الزوجية للمرأة مع رجل واحد تكون المرأة وعاء للرجل وحده لا ينشأ منها أمراض، ولكن المرض ينشأ حين يتعدد ماء الرجال في المكان الواحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2058 إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يستبقي النوع بقاء نظيفا؛ لذلك قال: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] . والمقصود ب {نسائكم} هنا المسلمات، لأننا لا نشرع لغيرنا، لأنهم غير مؤمنين بالله، وطلب الشهادة يكون من أربعة من المسلمين، لأن المسلم يعرف قيمة العرض والعدالة. وإن شهدوا فليحدث حكم الله بالحبس في البيوت. وقد عرفنا ذلك فيما يسمى في العصر الحديث بالحجر الصحي الذي نضع فيه أصحاب المرض المعدي. وهناك فرق بين من أُصِبْن ب «مرض معدٍ» ومن أصبن ب «العطب والفضيحة» . فإذا كنا نعزل أصحاب المرض المعدي فكيف لا نعزل اللاتي أصبن بالعطب والفضيحة؛ لذلك يقول الحق: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} أي أن تظل كل منهما في العزل إلى أن يأتي لكل منهن ملك الموت. وحدثتنا كتب التشريع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حمل الآية على أنها تختص بزنا يقع بين رجل وامرأة وليس بين امرأتين. عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «خذوا عني خذوا عني: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . ثم جاء التشريع بعد ذلك فصفى قضية الحدود إلى أن البكر بالبكر جلد. . والثيب بالثيب رجم. وبعض من الناس يقول: إن الرجم لم يرد بالقرآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2059 نرد فنقول: ومن قال: إن التشريع جاء فقط بالقرآن؟ لقد جاء القرآن معجزة ومنهجا للأصول، وكما قلنا من قبل: إن الحق قال: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] . وبعد ذلك نتناول المسألة: حين يوجد نص ملزم بحكم، قد نفهم الحكم من النص وقد لا نفهمه، فإذا فهمنا فله تطبيق عملي في السيرة النبوية. فإذا كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يأت بالنص فقط ولكن جاء بالعمل نفسه، فالأسوة تكون بالفعل في إقامة الحد؛ لأن الفعل أقوى من النص، فالنص قد يوجد ولا يطبق لسبب كالنَّسْخ للحكم مثلا، أما الفعل فإنه تطبيق، وقد رجم الرسول ماعزا والغامدية ورجم اليهودي واليهودية عندما جاءوا يطلبون تعديل حكم الرجل الوارد بالتوارة. إذن فالفعل من الرسول أقوى من النص وخصوصا أن الرسول مشرع أيضاً. وقال واحد مرة: إن الرجم لمن تزوج، فماذا نفعل برجل متزوج قد زنا بفتاة بكر؟ والحكم هنا: يُرجم الرجل وتجلد الفتاة، فإن اتفقا في الحالة، فهما يأخذان حكما واحدا. وإن اختلفا فكل واحد منهما يأخذ الحكم الذي يناسبه. وحينما تكلم الحق عن الحد في الإماء - المملوكات - قال: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] . ويفهم من ذلك الجلد فقط، لأن الرجم لا يمكن أن نقوم بتقسيمه إلى نصفين، فالأمة تأخذ في الحد نصف الحرة، لأن الحرة البكر في الزنا تجلد مائة جلدة، والأمة تجلد خمسين جلدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2060 وما دام للأمة نصف حد المحصنة، فلا يأتي - إذن - حد إلا فيما ينصَّف، والرجم لا ينصَّف، والدليل أصبح نهائيا من فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو مشرع وليس مستنبطا، وقد رجم رسول الله. ولماذا تأخذ الأمَةُ نصف عقاب الحرة؟ لأن الإماء مهدورات الكرامة، أما الحرائر فلا. ولذلك فهند امرأة أبي سفيان قالت: أو تزني الحرة؟ قالت ذلك وهي في عنف جاهليتها. أي أن الزنا ليس من شيمة الحرائر، أما الأمة فمهدورة الكرامة نظرا لأنه مجترأ عليها وليست عرض أحد. لذلك فعليها نصف عقاب المحصنات، وقد تساءل بعضهم عن وضع الأمة المتزوجة التي زنت، والرجم ليس له نصف. نقول: الرجم فقد للحياة فلا نصف معه، إذن فنصف ما على المحصنات من العذاب، والعذاب هو الذي يؤلم. ونستشهد على ذلك بآية لنبين الرأي القاطع بأن العذاب شيء، والقتل وإزهاق الحياة شيء آخر، ونجد هذه الآية هي قول الحق على لسان سليمان عليه السلام حينما تفقد الطير ولم يجد الهدهد: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] . إذن، فالعذاب غير الذبح، وكذلك يكون العذاب غير الرجم. فالذي يحتج به البعض ممن يريدون إحداث ضجة بأنه لا يوجد رجم؛ لأن الأمة عليها نصف ما على المحصنات، والرجم ليس فيه تنصيف نقول له: إن ما تستشهد به باطل؛ لأن الله فرق بين العذاب وبين الذبح، فقال على لسان سليمان: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} فإذا كان العذاب غير إزهاق الروح بالذبح، والعذاب أيضاً غير إزهاق الروح بالرجم. إذن فلا يصح أن يحاول أحد الإفلات من النص وفهمه على غير حقيقته ولنناقش الأمر بالعقل: حين يعتدي إنسان على بكر، فما دائرة الهجوم على العرض في البكر؟ إنها أضيق من دائرة الهجوم على الثيب؛ لأن الثيب تكون متزوجة غالبا، فقصارى ما في البكر أن الاعتداء يكون على عرضها وعرض الأب والأخ. أما الثيب فالاعتداء يكون على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2061 عرض الزوج أيضاً، وهكذا تكون دائرة الاعتداء أكبر، إنه اعتداء على عرض الأب والأم. والإخوة والأعمام مثل البكر، وزاد على ذلك الزوج والأبناء المتسلسلون. فإذا كان الآباء والأمهات طبقة وتنتهي، فالأبناء طبقة تستديم؛ لذلك يستديم العار. واستدامة العار لا يصح أن تكون مساوية لرقعة ليس فيها هذا الاتساع، فإن سوينا بين الاثنين بالجلد فهذا يعني أن القائم بالحكم لم يلحظ اتساع جرح العرض. إن جرح العرض في البكر محصور وقد ينتهي لأنه يكون في معاصرين كالأب والأم والإخوة، لكن ما رأيك أيها القائم بالحكم في الثيب المتزوجة ولها أولاد يتناسلون؟ إنها رقعة متسعة، فهل يساوي الله - وهو العادل - بين ثيب وبكر بجلد فقط؟ إن هذا لا يتأتى أبدا. إذن فالمسألة يجب أن تؤخذ مما صفّاه رسول الله وهو المشرِّع الثاني الذي امتاز لا بالفهم في النص فقط، ولكن لأن له حق التشريع فيما لم يرد فيه نص! فسنأخذ بما عمله وقد رجم رسول الله فعلا، وانتهى إلى أن هذا الحكم قد أصبح نهائيا، الثيب بالثيب هو الرجم، والبكر بالبكر هو الجلد، وبكر وثيب كل منهما يأخذ حكمه، ويكون الحكم منطبقا تماما، وبذلك نضمن طهارة حفظ النوع؛ لأن حفظ النوع هو أمر أساسي في الحياة باستبقاء حياة الفرد واستبقاء نوعه، فاستبقاء حياة الفرد بأن نحافظ عليه، ونحسن تربيته ونطعمه حلالا، ونحفظ النوع بالمحافظة على طهارة المخالطة. والحق سبحانه وتعالى يمد خلقه حين يغفلون عن منهج الله بما يلفتهم إلى المنهج من غير المؤمنين بمنهج الله، ويأتينا بالدليل من غير المؤمنين بمنهج الله، فيثبت لك بأن المنهج سليم. ولقد تعرضنا لذلك من قبل مراراً ونكررها حتى تثبت في أذهان الناس قال الحق: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة: 33] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2062 فلا يقولن قائل: إن القرآن أخبر بشيء لم يحدث لأن الإسلام لم يطبق ولم يظهر على الأديان كلها. ونرد عليه: لو فهمت أن الله قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} وأضاف سبحانه: {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} ، {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} كما جاء في موقع آخر من القرآن الكريم، لقد أوضح الحق أن الإسلام يظهر ويتجلى مع وجود كاره له وهو الكافر والمشرك. ولم يقل سبحانه: إن الإسلام سيمنع وجود أي كافر أو مشرك. وكيف يكره الكفار والمشركون إظهار الله للإسلام؟ إنهم لا يدينون بدين الإسلام؛ لذلك يحزنهم أن يظهر الإسلام على بقية الأديان. وهل يظهر الإسلام على الأديان بأن يسيطر عليها ويبطل تلك الأديان؟ لا. إنه هو سبحانه يوضح بالقرآن والسنة كما يوضح لأهل الأديان الأخرى: بأنكم ستضطرون وتضغط عليكم أحداث الدنيا وتجارب الحياة فلا تجدون مخلصا لكم مما أنتم فيه إلا أن تطبقوا حكما من حكم الإسلام الذي تكرهونه. وحين تضغط الحياة على الخصم أن ينفذ رأى خصمة فهذا دليل على قوة الحجة، وهذا هو الإظهار على الدين كله ولو كره الكافرون والمشركون، وهذا قد حدث في زماننا، فقد روعت أمة الحضارة الأولى في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1981 بما يثبت صدق الإسلام في أنه حين ضمن ووضع للمخالطات التي تبقي النوع نظاما، وهو التعاقد العلني والزواج المشروع، فالحق قد ضمن صحة الخلق. لكن الحضارة الأمريكية لم تنتبه إلى عظمة قانون الحق سبحانه فَرُوِّعت بظهور مرض جديد يسمى «الإيدز» و «إيدز» مأخوذة من بدايات حروف ثلاث كلمات: حرف «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» ، وحرف «I» و، «عَزَّ وَجَلَّ» . ومعنى اسم المرض بالترجمة العربية الصحيحة «نقص مناعي مكتسب» والوسيلة الأولى للإصابة به هي المخالطة الشاذة، ونشأت من هذه المخالطات الشاذة فيروسات، هذه الفيروسات مازال العلماء يدرسون تكوينها، وهي تفرز سموما وتسبب آلاما لا حصر لها، وإلى الآن يعيش أهل الحضارة الغربية هول الفزع والهلع من هذا المرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2063 ومن العجيب أن هذه الفيروسات تأتي من كل المخالطات الشاذة سواء أكانت بين رجل ورجل، أو بين رجل وامرأة على غير ما شرع الله. لقد جعل الحق سبحانه وتعالى عناصر الزواج «إيجابا» و «قبولا» و «علانية» إنه جعل من الزواج علاقة واضحة محسوبة أمام الناس، هذا هو النظام الرباني للزوج الذي جعل في التركيب الكيميائي للنفس البشرية «استقبالا» و «إرسالا» . والبشر حين يستخدمون الكهرباء. . فالسلك الموجب والسلك السالب - كما قلنا - يعطيان نورا في حالة استخدامهما بأسلوب طبيعي، لكن لو حدث خلل في استخدام هذه الأسلاك فالذي يحدث هو ماس كهربائي تنتج منه حرائق. وكذلك الذكورة والأنوثة حين يجمعها الله بمنطق الإيجاب والقبول العلني على مبدأ الإسلام، فإن التكوين الكيميائي الطبيعي للنفس البشرية التي ترسل، والنفس البشرية التي تستقبل تعطي نورا وهو أمر طبيعي. وأوضحنا من قبل أن الإنسان حين يجد شابا ينظر إلى إحدى محارمه، فهو يتغير وينفعل ويتمنى الفتك به، لكن إن جاء هذا الشاب بطريق الله المشروع وقال والد الشاب لوالد الفتاة: «أنا أريد خطبة ابنتك لابني» فالموقف يتغير وتنفرج الأسارير ويقام الفرح. إنها كلمة الله التي أثرت في التكوين الكيميائي للنفس وتصنع كل هذا الإشراق والبِشر، وإعلان مثل هذه الأحداث بالطبول والأنوار والزينات هو دليل واضح على أن هناك حاجة قد عملت وأحدثت في النفس البشرية مفعولها الذي أراده الله من الاتصال بالطريق النظيف الشريف العفيف. فكل اتصال عن غير هذا الطريق الشريف والعفيف لا بد أن ينشأ عنه خلل في التكوين الإنساني يؤدي إلى أوبئة نفسية وصحية قد لا يستطيع الإنسان دفعها مثل ما هو كائن الآن. وعلى هذا قول الحق سبحانه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2064 {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] . وكانت هذه مرحلة أولية إلى أن طبق الرسول إقامة الحد. ويقول الحق: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2065 والحق سبحانه وتعالى تواب ورحيم، ونعرف أن صفة المبالغة بالنسبة لله لا تعني أن هناك صفة لله تكون مرة ضعيفة ومرة قوية، وكل صفات الله واحدة في الكمال المطلق. وقلت من قبل: إنني عندما أقول: «فلان أكاَّل» قد يختلف المعنى عن قولي: «فلان آكل» ، فبمثل هذا القول أبالغ في وصف إنسان يأكل بكثرة، فهل هو يأكل كثيرا في الوجبة الواحدة، أو أن الوجبة ميزانها محدود لكن هذا الموصوف يعدد الوجبات، فبدلا من أن يأكل ثلاث مرات فهو يأكل خمس مرات، عندئذ يقال له: «أكَّال» ، أي أّنّه أكثر عدد الوجبات، وإن كانت كل وجبة في ذاتها لم يزد حجمها. أو هو يأتي في الوجبة الواحدة فيأكل أضعاف ما يأكله الإنسان العادي في الوجبة العادية، فيأكل بدلا من الرغيف أربعة، فنقول: إنه «أكول» ، إذن فصيغة المبالغة في الخلق إما أن تنشأ في قوة الحدث الواحد، وإما أن تنشأ من تكرار الحدث الواحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2065 إن قولك: «الله توَّاب» معناه أنه عندما يتوب على هذا وذاك وعلى ملايين الملايين من البشر، فالتوبة تتكرر. وإذا تاب الحق في الكبائر أليست هذه توبة عظيمة؟ هو تواب ورحيم لأنه سبحانه وتعالى يتصف بعظمة الحكمة والقدرة على الخلق والإبداع، وهو الذي خلق النفس البشرية ثم قنن لها قوانين وبعد ذلك جرم من يخالف هذه القوانين، وبعد أن جرم الخروج عن القوانين وضع عقوبة على الجريمة. والتقنين في ذاته يقطع العذر، فساعة أن قنن الحق لا يستطيع واحد أن يقول: «لم أكن أعلم» ؛ لأن ذلك هو القانون، وحين يجرم فهذا إيذان منه بأن النفس البشرية قد تضعف، وتأتي بأشياء مخالفة للمنهج، فنحن لسنا ملائكة، وسبحانه حين يقنن يقطع العذر، وحين يجرم فهو إيذان بأن ذلك من الممكن أن يحدث. وبعد ذلك يعاقب، وهناك أفعال مجرمة، ولكن المشرِّع الأول لم يجرمها ولم يضع لها قانونا، لا عن تقصير منه، ولكن التجريم يأتي كفرع. إن الله سبحانه قد قدر أن النفس البشرية قد تفعل ذلك، كالسرقة - مثلا - إنه سبحانه وضع حدا للسرقة، وقد تضعف النفس البشرية فتسرق، أو تزني؛ لذلك فالحد موجود، لكن هناك أشياء لا يأتي لها بالتجريم والعقوبة، وكأنه سبحانه يريد آن يدلنا من طرف خفي على أنها مسائل ما كان يتصور العقل أن تكون. مثال ذلك اللواط، لم يذكر له حداً، لماذا؟ لأن الفطرة السليمة لا تفعله، بدليل أن اللواط موجود في البشر وغير موجود في الحيوان. لكن ليس معنى ألا يجرم الحق عملا أنه لا يدخل في الحساب، لا، إنه داخل في الحساب بصورة أقوى؛ لأن التجريم والعقوبة على التجريم تدل على أن الفعل من الممكن أن يحدث، وحين يترك هذه المسألة بدون تجريم، فمعنى ذلك أن الفطرة السليمة لا يصح أن تفعلها، ولذلك لم يضع لها حدا أو تجريما، وترك الأمر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو المكلف بالتشريع أن يضع حدا لهذه المسألة. إذن فعدم وجود نص على جريمة أو عقوبة على جريمة ليس معناه ألا يوجد حساب عليها، لا. هناك حساب، فقد تكون العقوبة أفظع، وقد أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2066 بإلقاء الفاعل للواط والمفعول به من أعلى جبل. إن عقوبتهما أن يموتا بالإلقاء من شاهق جبل، إذن فالعقوبة أكثر من الرجم. وهكذا نعرف أن عدم التجريم وعدم التقنين بالعقوبة لأي أمر غير مناسب للعقل وللفطرة السليمة دليل على أَنَّ هذا الأمر غير مباح، والحق لم يترك تلك الأمور سكوتا عنها، ولكن هو إيحاء من طرف خفي أن ذلك لا يصح أن يحدث، بدليل أنه لا تحدث في الحيوانات التي هي أدنى من الإنسان. وبعد ذلك قد يتعلل الإنسان الفاعل لمثل هذا القبح الفاحش بأنها شهوة بهيمية. نقول: يا ليت شهوتك المخطئة في التعبير عن نفسها بهيمية؛ لأن البهائم لا يحدث منها مثل ذلك الفعل أبدا، فلا أنثى الحيوانات تقترب من أخرى، وكذلك لا يوجد ذكر حيوان يقترب من ذكر آخر، وإذا ما حملت أنثى الحيوان فإنها لا تسمح لأي ذكر من الحيوانات بالاقتراب منها، إذن فالقبح الفاحش من المخالطة على غير ما شرع الله يمكن أن نسميها شهوة إنسانية، فالبهائم لا ترتكب مثل تلك الأفعال الشاذة. ومن يقول عن الشهوة إنها بهيمية فهو يظلم الحيوانات. والحق سبحانه وتعالى على الرغم من هذه الخطايا يوضح لنا: أنه التواب الرحيم، لماذا؟ انظر الحكمة في التوبة وفي قبولها، فلو لم تحدث معصية من الإنسان الذي آمن، لفقد التكليف ضرورته. معنى التكليف أنه عملية يزاحم الإنسان فيها نفسه ويجاهدها لمقاومة تنفيذ المعاصي أو لحملها على مشقة الطاعة. فمقاومة الإنسان للمعاصي خضوعاً للتكليف الإيماني دليل على أن التكليف أمر صحيح، اسمه «تكليف» وإلا لخلقنا الله كالملائكة وانتهت المسألة. وحين يشرع الله التوبة، فذلك يدل على أن الإنسان ضعيف، قد يضعف في يوم من الأيام أمام معصية من المعاصي، وليس معنى ذلك أن يطرده الله من عبوديته له سبحانه، بل هو يقنن العقوبة، وتقنين العقوبة للعاصي دليل على أنه سبحانه لم يُخِرج الذي اختار الإسلام وعصى من حظيرة الإسلام أو التكليف، ولو فرضنا أن الحق سبحانه لم يقنن التوبة لصارت اللعنة مصير كل من يضعف أمامٍ شهوة، ولصار العاصي متمرداً لا يأبه ولا يلتفت من بعد ذلك إلى التكليف، يَلِغُ في أعراض الناس ويرتكب كل الشرور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2067 إذن فساعة شرع الله التوبة سدَ على الناس باب «الفاقدين» الذين يفعلون ذنباً ثم يستمرون فيه، ومع ذلك فسبحانه حين تاب على العاصي رحم من لم يعص إنه القائل: {إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً} ولو قال الحق إنه تواب فقط لأذنب كل واحد منا لكي يكون الوصف معه وقائم به لا محالة، ولكنه أيضاً قال: {تَوَّاباً رَّحِيماً} أي أنه يرحم بعضاً من خلقه فلا يرتكبون أي معصية من البداية. فالرحمة ألا تقع في المعصية. وبعد ذلك يشرع الحق سبحانه وتعالى للتوبة: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ ... } الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2068 ولنلتفت إلى دقة الأداء القرآني، هو سبحانه يقول: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} وقد يقول واحد: ما دام الحق شرع التوبة، فلأفعل ما أريد من المعاصي وبعد ذلك أتوب. نقول له: إنك لم تلتفت إلى الحكمة في إبهام ساعة الموت، فما الذي أوحى لك أنك ستحيا إلى أن تتوب؟ فقد يأخذك الموت فجأة وأنت على المعصية، وعليك أن تلتفت إلى دقة النص القرآني: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17] . وفعل السوء بجهالة، أي بعدم استحضار العقوبة المناسبة للذنب، فلو استحضر الإنسان العقوبة لما فعل المعصية. بل هو يتجاهل العقوبة؛ لذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2068 «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» . فلو كان إيمانه صحيحاً ويتذكر تماما أن الإيمان يفرض عليه عدم الزنا، وأن عقوبة الزنا هي الجلد أو الرجم، لما قام بذلك الفعل. والحق قد قال: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} فهناك من يفعل المعصية ويخطط لها ويفرح بها ويُزْهَى بما ارتكب ويفخر بزمن المعصية، وهناك من تقع عليه المعصية وبمجرد أن تنتهي يظل نادماً ويضرب نفسه ويعذبها ويتساءل لماذا فعلت ذلك؟ وأضرب مثلاً للتمييز بين الاثنين، نجد اثنين يستعد كل منهما للسفر إلى باريس، واحد منهما يسأل قبل سفره عن خبرة من عاشوا في عاصمة فرنسا، ويحاول أن يحصل على عناوين أماكن اللهو والخلاعة، وما إن يذهب إلى باريس حتى ينغمس في اللهو، وعندما يعود يظل يفاخر بما فعل من المعاصي. وأما الآخر فقد سافر إلى باريس للدراسة، وبيْنما هو هناك ارتكب معصية تحت إغراء وتزيين، إذن هو إنسان وقعت عليه المعصية ودون تخطيط، وبعد أن هدأت شِرَّة الشهوة غرق في الندم، وبعد أن عاد استتر من زمن المعصية. هكذا نرى الفارق بين المخطط للمعصية وبين من وقعت عليه المعصية. والله سبحانه حين قدَّر أمر التوبة على خلقه رحم الخلق جميعاً بتقنين هذه التوبة، وإلا لغرق العالم في شرور لا نهاية لها، بداية من أول واحد انحرف مرة واحدة فيأخذ الانحراف عملاً له، والمهم في التائب أن يكون قد عمل السوء بجهالة، ثم تاب من قريب. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين حدد معنى «من قريب» قال: ( الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2069 إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) . والحوار الذي دار بين الحق وبين إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 39 - 40] . إن إبليس قال ذلك وظن أنه سيهلك البشر جميعا ويوقعهم في المعصية إلا عباد الله الذين اصطفاهم وأخلصهم له، لكن الله - سبحانه - خيَّب ظنه وشرع قبول توبة العبد ما لم يغرغر، لم يصل إلى مرحلة خروج الروح من الجسد. فإذا ما قدم العبد التوبة لحظة الغرغرة فماذا يستفيد المجتمع؟ لن يستفيد المجتمع شيئاً من مثل هذه التوبة؛ لأنه تاب وقت ألاّ شر له؛ لذلك فعلى العبد أن يتوب قبل ذلك حتى يرحم المجتمع من شرور المعاصي. {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ} هل يتوب أولا، ثم يتوب الله عليه؟ أنه سبحانه يقول: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118] . هنا وقف العلماء وحق لهم أن يتساءلوا: هل يتوب العبد أولاً وبعد ذلك يقبل الله التوبة؟ أم أن الله يتوب على العبد أولاً ثم يتوب العبد؟ صريح الآية هو: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} ونقول: وهل يتوب واحد ارتجالاً منه، أو أن الله شرع التوبة للعباد؟ لقد شرع الله التوبة فتاب العبد، فقبل الله التوبة. نحن إذن أمام ثلاثة أمور: هي أن الله شرع التوبة للعباد ولم يرتجل أحد توبته ويفرضها على الله، أي أن أحداً لم يبتكر التوبة، ولكن الذي خلقنا جميعاً قدَّر أن الواحد قد يضعف أمام بعض الشهوات فوضع تشريع التوبة. وهو المقصود بقوله {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي شرع لهم التوبة وبعد ذلك يتوب العبد إلى الله «ليتوبوا» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2070 وبعد ذلك يكون القبول من الله وهو القائل: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب} [غافر: 3] . تأمل كلمة {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} تجدها في منتهي العطاء، فإذا كان الواحد فقيراً ومديناً وأحال دائنه إلى غني من العباد فإنّ الدائن يفرح؛ لأن الغنيّ سيقوم بسداد الدين وأدائه إلى الدائن، فما بالنا بالتوبة التي أحالها الله على ذاته بكل كماله وجماله، إنه قد أحال التوبة على نفسه لا على خلقه، وهو سبحانه أوجب التوبة على نفسه ولا يملك واحد أن يرجع فيها، ثم قال: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} أي أن العبد يرجو التوبة من الله، وحين قال: {فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} أي أن سبحانه قابل للتوب وغافر للذنب وحين يقول سبحانه: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} فنحن نعلم أن كل تقنين لأي شيء يتطلب علماً واسعاً بما يمكن أن يكون وينشأ. والذين يتخبطون في تقنينات البشر، لماذا يقنون اليوم ثم يعدلون عن التقنين غداً؟ لأنهم ساعة قننوا غاب عنهم شيء من الممكن أن يحدث، فلما حدث ما لم يكن في بالهم استدركوا على تقنينهم. إذن فالاضطراب ينشأ من عدم علم المقنن بكل أحوال من يقنن لهم ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، والمقنن من البشر قد لا يستوعب الأحداث الماضية، وذلك لأنه لا يستوعبها إلا في بيئته أو في البيئة التي وصله خبرها، فحتى في الماضي لا يقدر، ولا في المستقبل يقدر، وكذلك في الحاضر أيضاً، فالحاضر عند بيئة ما يختلف عن الحاضر في بيئة أخرى. ونحن نعرف أن حواجز الغيب ثلاثة: أي أن ما يجعل الشيء غيباً عن الإنسان هو ثلاثة أمور: الأمر الأول: هو الزمن الماضي وما حدث فيه من أشياء لم يرها المعاصرون ولم يعرفوها؛ لذلك فالماضي قد حُجز عن البشر بحجاب وقوع الأحداث في ذلك الماضي؛ ولذلك يلفتنا الله سبحانه وتعالى في تصديق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول سبحانه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2071 ورسول الله لم يكن مع موسى ساعة أن قضى الله لموسى الأمر، ومع ذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أميّاً لا يمكنه أن يقرأ التاريخ أو يتعلمه. ويقول أيضاً سبحانه: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . أي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يشهد تلك الأزمان التي يأتيه خبرها عن الله، والرسول أمي بشهادة الجميع ولم يجلس إلى معلم. إذن فالذي اخترق حجاب الزمن وأخبر الرسول بتلك الأحداث هو الله. والأمر الثاني: هو حجاب الحاضر، حيث يكون الحجاب غير قادم من الزمن لأن الزمن واحد، ولكن الحجاب قادم من اختلاف المكان، فأنا أعرف ما يحدث في مكاني، ولكني لا أعرف ما الذي يحدث في غير المكان الذي أوجد به، ولا يقتصر الحجاب في الحاضر على المكان فقط ولكن في الذات الإنسانية بأن يُضمر الشخصُ الشيء في نفسه. فالحق يقول: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] . هنا يخبر الله سبحانه الرسول عن شيء حاضر ومكتوم في نفوس أعدائه. وبالله لو لم يكونوا قد قالوه في أنفسهم، لما صدقوا قول الرسول الذي جاءه إخباراً عن الله. وقد خرق الله أمام رسوله حجاب الذات وحجاب المكان. والأمر الثالث: هو حجاب المستقبل، فيقول القرآن: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] . ونلحظ أن كلمة «سيهزم» فيها حرف «السين» التي تُنبئ عن المستقبل، وقد نزلت هذه الآية في مكة وقت أن كان المسلمون قلة وهم مضطهدون ولا يستطيعون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2072 الدفاع عن أنفسهم. وعندما يسمعها عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ينفعل ويقول لرسول الله: أي جمع هذا؟ وجاء الجمع في بدر وولَّى الدبر. حدث ذلك الإخبار في مكة، ووقعت الأحداث بعد الهجرة. وكانت الهجرة في الترتيب الزمني مستقبلاً بالنسبة لوجود المسلمين في مكة. أكان من الممكن أن يقول سبحانه: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} لولا أن ذلك سيحدث بالفعل؟ لو حدث غير ذلك لكذبه المؤمنون به. إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال ذلك إبلاغاً عن الله وهو واثق، ويطلقها الله على لسان رسوله حُجة فيمسكها الخصم، ثم يثبت صدقها لأن الذي قالها هو من يخلق الأحداث ويعلمها. ويأتي في الوليد بن المغيرة وهو ضخم وفحل وله مهابة وصيت وسيد من سادة قريش، فيقول الحق: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] . أي سنضربه بالسيف ضربة تجعل على أنفه علامة في أعلى منطقة فيه. ويأتي يوم بدر، فيجدون الضربة على أنف الوليد. لقد قالها الحق على لسان رسوله في زمن ماضٍ ويأتي بها الزمن المستقبل، وعندما تحدث هذه المسألة فالذين آمنوا بمحمد وبالقرآن الذي نزل على محمد يتأكدون من صدق رسول الله في كل شيء. ويأخذون الجزئية البسيطة ويرقُّونها فيصدقون ما يخبرهم به من أمر الدنيا والآخرة. ويقولون: - إذا أخبرنا رسول الله بغيب يحدث في الآخرة فهو الصادق الأمين، ويأخذون من أحداث الدنيا الواقعة ما يكون دليلاً على صدق الأحداث في الآخرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2073 ويذيل الحق الآية: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} أي عليما بالتقنينات فشَرَّع التوبة لعلمه - جل شأنه - بأنه لو لم يشرِّع التوبة، لكان المذنب لمرة واحدة سبباً في شقاء العالم؛ لأنه - حينئذ - يكون يائساً من رحمة الله. إذن فرحمة منه - سبحانه - بالعالم شرّع الله التوبة. وهو حكيم فإياك أن يتبادر إلى ذهنك أن الحق قد حمى المجرم فحسب حين شرع له التوبة، إنه سبحانه قد حمى غير المجرم أيضا. وساعة نسمع الزمن في حق الحق سبحانه وتعالى كقوله: «كان» فلا نقول ذلك قياساً على زماننا نحن، أو على قدراتنا نحن، فكل ما هو متعلق بالحق علينا أن نأخذه في نطاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فقد يقول الكافر: «إن علم الله كان» ويحاول أن يفهمها على أنه علم قد حدث ولا يمكن تكراره الآن، لا، فعلم الله كان ولا يزال؛ لأن الله لا يتغير، وما دام الله لا يتغير، فالثابت له من قبل أزلاً يثبت له أبداً والحكمة هي وضع الشيء في موضعه. وما دام قد قدر سبحانه وضع الشيء، فالشيء إنما جاء عن علم، وحين يطابق الشيء موضعه فهذه هي مطلق الحكمة. والحق يقول: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17] . لقد شرع الله سبحانه التوبة ليتوب عباده، فإذا تابوا قَبِلَ توبتَهم، وهذا مبني على العلم الشامل والحكمة الدقيقة الراسخة. وانظروا إلى دقة العبارة في قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} ، فساعة يوجد فعل إيجابي يقال: على مَن، لكن عندما لا يأتي بفعل إيجابي لا يقال: عل مَن، بل يقال: ليس بالنفي. إنّ الحق عندما قرر التوبة عليه - سبحانه - وأوجبها على نفسه، للذين يعملون السوء بجهالة ويتوبون فوراً، إنه يدلنا أيضاً على مقابل هؤلاء، فيقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2074 {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2075 هنا يوضح الحق أن توبة هؤلاء الذين يعملون السيئات لم توجد من قريب. وهم يختلفون عن الذين كتب الله قبول توبتهم، هؤلاء الذين يعيشون وتستحضر نفوسهم قِيَم المنهج، إلا أن النفوس تضعف مرة. أما الذين لا يقبل منهم التوبة فهم أصحاب النفوس التي شردت عن المنهج في جهات متعددة، وهم لم يرتكبوا «سوءاً» واحداً بل ارتكبوا السيئات. فالذي ارتكب سوءاً واحداً فذلك يعني أنه ضعيف في ناحية واحدة ويبالغ ويجتهد في الزوايا والجوانب الأخرى من الطاعات التي لا ضعف له فيها ليحاول ستر ضعفه. إنك ترى أمثال هذا الإنسان في هؤلاء الذين يبالغون في إقامة مشروعات الخير، فهذه المشروعات تأتي من أناس أسرفوا على أنفسهم في ناحية لم يقدروا على أنفسهم فيها فيأتوا في نواحي خير كثيرة، ويزيدوا في فعل الخير رجاء أن يمحو الله سيئاتهم التي تركوها وأقلعوا وتابوا عنها. ومن ذلك نعلم أن أحداً لا يستطيع أن يمكر مع الله؛ فالذي أخذ راحته في ناحية، يوضح له الله: أنا سآتي بتعبك من نواحٍ أخرى لصالح منهجي، ويسلط الله عليه الوهم، ويتخيل ماذا ستفعل السيئة به، فيندفع إلى صنع الخير. وكأن الحق يثبت للمسيء: أنت استمتعت بناحية واحدة، ومنهجي وديني استفادا منك كثيراً، فأنت تبني المساجد والمدارس وتتصدق على الفقراء، كل هذا لأن عندك سيئة واحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2075 إذن فلا يمكن لأحد أن يمكر على الله، وعبر القرآن عن صاحب السيئة بوصف هذه الزلة بكلمة «السوء» ، ولكنه وصف الشارد الموغل في الشرود عن منهج الله بأنه يفعل «السيئات» ، فهل ليس صاحب نقطة ضعف واحدة، لكنه يقترف سيئات متعددة، ويمعن في الضلال، ولا يقتصر الأمر على هذا بل يؤجل التوبة إلى لحظة بلوغ الأجل، بل إنهم قد لا ينسبون الخير الصادر منهم إلى الدين مثلما يفعل الملاحدة، أو الجهلة الذين لا يعلمون بأن كل خير إنما يأمر به الدين. مثال ذلك مذهب «الماسونية» ، يقال: إن هذا المذهب وضعه اليهود، والظاهر في سلوك الماسونيين أنهم يجتمعون لفعل خير ما يستفيد منه المجتمع، وما خفي من أفعال قمة أعضاء الماسونية أنهم يخدمون أغراض الصهيونية، وقد ينضم إليهم بعض ممن لا يعرفون أهداف الماسونية الفعلية ليشاركوا في عمل الخير الظاهر. ونقول لكل واحد من هؤلاء: انظر إلى دينك، تجده يحضك على فعل مثل هذا الخير، فلماذا تنسبه إلى الماسونية ولا تفعله على أنه أمر إسلامي. ولماذا لا تنسب هذا الخير إلى الإسلام وتنسبه لغير الإسلام؟ وفي هذا العصر هناك ما يسمّى بأندية «الروتاري» ويأخذ الإنسان غرور الفخر بالانتماء إلى تلك الأندية، ويقول: «أنا عضو في الروتاري» وعندما تسأله: لماذا؟ يجيب: إنها أندية تحض على التعاون والتواصل والمودة والرحمة، ونقول له: وهل الإسلام حرم ذلك؟ لماذا تفعل مثل هذا الخير وتنسبه إلى «الروتاري» ، ولا تفعل الخير وتنسبه إلى دينك الإسلام؟ إذن فهذا عداء للمنهج. ونجد الشاردين عن المنهج، مثلهم كمثل الرجل الذي قالوا له: ما تريد نفسك الآن؟ وأراد الرجل أن يحاد الله فقال: تريد نفسي أن أفطر في يوم رمضان، وعلى كأس خمر، وأشترى كأس الخمر هذه بثمن خنزير مسروق. إنه يريد فطر رمضان وهو محرّم، ويفطر على خمر وهي محرمة، وبثمن خنزير والخنزير حرام على المسلم، والخنزير مسروق أيضا. وسألوه: ولماذا كل هذا التعقيد؟ فقال: حتى تكون هذه الفعلة حراماً أربع مرات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2076 إذن فهذه مضارة لله، وهذا رجل شارد عن المنهج. فهل هذا يتوب الله عليه؟ لا، {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} وعند لحظة الموت يبدأ الجبن وتتمثل أخلاق الأرانب، ولماذا لم يصر على موقفه للنهاية؟ لأنه جاء إلى اللحظة التي لا يمكن أن يكذب فيها الإنسان على نفسه {إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} لكن التوبة لا تقبل، ولن ينتفع بها المجتمع، وشر مثل هذا الإنسان انتهى، وتوبته تأتي وهو لا يقدر على أي عمل، إذن فهو يستهزئ بالله؛ فلا تنفعه التوبة. ولكن انظروا إلى رحمة الله واحترامه للشهادة الإيمانية التي يقر فيها المؤمن بأنه «لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» . هذا المؤمن جعله الله في مقابل الكافر، فيأخذ عذاباً على قدر ما فعل من ذنوب، ويأتي احترام الحق سبحانه لإيمان القمة لقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» فيوضح سبحانه: لن نجعلك كالكافر؛ بدليل أنه عطف عليه {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} ، وإنما يقدر للمؤمن العاصي من العذاب على قدر ما ارتكب من معاصٍ، ويحترم الحق إيمان القمة، فيدخلون الجنة؛ لذلك لم يقل الحق: إنهم خالدون في النار. وإنما قال: {أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} و «أولئك» تعني الصنفين - المؤمن والكافر - فالعذاب لكل واحد حسب ذنبه. ويقول الحق من بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2077 وقلنا: ساعة ينادي الحق عباده الذين آمنوا به يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} ، فمعناها: يا من آمنتم بي بمحض اختياركم، وآمنتم بي إلهاً له كل صفات العلم والقدرة والحكمة والقيومية، ما دمتم قد آمنتم بهذا الإله اسمعوا من الإله الأحكامَ التي يطلبها منكم. إذن فهو لم يناد غير مؤمن وإنما نادى من آمن باختياره وبترجيح عقله فالحق يقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] . يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعالج قضية تتعلق بالنساء وباستضعافهم. لقد جاء الإسلام والنساء في الجاهلية في غَبْن وظلم وحيف عليهن. - وسبحانه - قال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} وكلمة «ورث» تدل على أن واحداً قد توفي وله وارث، وهناك شيء قد تركه الميت ولا يصح أن يرثه أحدٌ بعده؛ لأنه عندما يقول: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ} ، فقد مات موّرث؛ ويخاطب وارثاً. إذن فالكلام في الموروث، لكن الموروث مرة يكون حِلاً، ولذلك شرع الله تقسيمه، وتناولناه من قبل، لكن الكلام هنا في متروك لا يصح أن يكون موروثاً، ما هو؟ قال سبحانه: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} ، وهل المقصود ألا يرث الوارث من مورثه إماء تركهن؟ لا. إن الوارث يرث من مورثه الإماء اللاتي تركهن، ولكن عندما تنصرف كلمة «النساء» تكون لأشرف مواقعها أي للحرائر، لأن الأخريات تعتبر الواحدة منهن ملك يمين، {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} ، وهل فيه ميراث للنساء برضى؟ وكيف تورث المرأة؟ ننتبه هنا إلى قوله سبحانه «كرها» ، وكان الواقع في الجاهلية أن الرجل إذا مات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2078 وعنده امرأة جاء وليه، ويلقي ثوبه على امرأته فتصير ملكا له، وإن لم تقبل فإنه يرثها كرها، أو إن لم يكن له هوى فيها فهو يحبسها عنده حتى تموت ويرثها، أو يأتي واحد ويزوجها له ويأخذ مهرها لنفسه؛ كأنه يتصرف فيها تصرف المالك؛ لذلك جاء القول الفصل: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} ، و «العضل» في الأصل هو المنع، ويقال: «عضلت المرأة بولدها» ، ذلك أصل الاشتقاق بالضبط. فالمرأة ساعة تلد فمن فضل الله عليها أن لها عضلات تنقبض وتنبسط، تنبسط فيتسع مكان خروج الولد، وقد تعضل المرأة أثناء الولادة، فبدلا من أن تنبسط العضلات لتفسح للولد أن يخرج تنقبض، فتأتي هنا العمليات التي يقومون بها مثل القيصرية. إذن فالعضل معناه مأخوذ من عضلت المرأة بولدها أي انقبضت عضلاتها ولم تنبسط حتى لا يخرج الوليد، وعضلت الدجاجة ببيضها أي أن البيضة عندما تكون في طريقها لتنزل فتنقبض العضلة فلا تنزل البيضة لأن اختلالا وظيفيا قد حدث نتيجة للحركة الناقصة، ولماذا تأتي الحركة ناقصة للبسط؟ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل الأسباب في الكون تعمل آليا وميكانيكيا بحيث إذا وجدت الأسباب يوجد المسبب، لا. ففوق الأسباب مسبب إن شاء قال للأسباب: قفي فتقف. إذن فكل المخالفات التي نراها تتم على خلاف ما تؤديه الأسباب إنما هي دليل طلاقة القدرة، فلو كانت الأشياء تسير هكذا ميكانيكيا، فسوف يقول الناس: إن الميكانيكا دقيقة لا تتخلف. لكن الحق يلفتنا إلى أنه يزاول سلطانه في ملكه، فهو لم يزاول السلطان مرة واحدة، ثم خلق الميكانيكا في الكون والأسباب ثم تركها تتصرف، لا، هو يوضح لنا: أنا قيوم لا تأخذني سِنَةٌ ولا نوم، أقول للأسباب اعملي أو لا تعملي، وبذلك نلتفت إلى أنه المسيطر. وتجد هذه المخالفات في الشواذ في الكون، حتى لا تَفْتِنَّاً رتابة الأسباب، ولنذكر الله باستمرار، ويكون الإنسان على ذكر من واهب الأسباب ومن خالقها، فلا تتولد عندنا بلادة من أن الأسباب مستمرة دائماً، ويلفتنا الحق إلى وجوده، فتختلف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2079 الأسباب لتلفتك إلى أنها ليست فاعلة بذاتها، بل هي فاعلة لأن الله خلقها وتركها تفعل، ولو شاء لعطلها. قلنا هذا في معجزة إبراهيم عليه السلام، حيث ألقاه أهله في النار ولم يُحرق، كان من الممكن أن ينجي الله إبراهيم بأي طريقة أخرى، ولكن هل المسألة نجاة إبراهيم؟ إن كانت المسألة كذلك فما كان ليمكنهم منه، لكنه سبحانه مكنهم منه وأمسكوه ولم يفلت منهم، وكان من الممكن أن يأمر السماء فتمطر عندما ألقوه في النار، وكان المطر كفيلا بإطفاء النار، لكن لم تمطر السماء بل وتتأجج النار. وبعد ذلك يقول لها الحق: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] . بالله أهذا غيظ لهم أم لا؟ هذا غيظ لهم؛ فقد قدرتم عليه وألقيتموه في النار، وبعد ذلك لم يَنْزِل مطر ليطفئ النار، والنار موجودة وإبراهيم في النار، لكن النار لا تحرقه. هذه هي عظمة القدرة. إذن فما معنى «تعضلوهن» ؟ العضل: أخذنا منه كلمة «المنع» ؛ فعضلت المرأة أي قبضت عضلاتها فلم ينزل الوليد، وأنت ستعضلها كيف؟ بأن تمنعها من حقها الطبيعي حين مات زوجها، وأن من حقها بعد أن تقضي العدة أَنْ تتزوج من تريد أو من يتقدم لها، وينهى الحق: «ولا تعضلوهن» أي لا تحبسوهن عندكم وتمنعوهن، لماذا تفعلون ذلك؟ {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} كأن هذا حكم آخر، لا ترثوا النساء كرها هذا حكم، وأيضا لا تعضلوهن حكم ثانٍ. والمثال عندما يكون الرجل كارها لامرأته فيقول لها: والله لن أطلقك، أنا سأجعلك موقوفة ومعلقة لا أكون أنا لك زوجا ولا أمكنك أيضا من أن تتزوجي وذلك حتى تفتدي نفسها فتُبرئ الرجل من النفقة ومؤخر الصداق؛ فيحمي الإسلام المرأة ويحرم مثل تلك الأفعال. ولكن متى تعضلوهن؟ هنا يقول الحق: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} لأنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2080 سيحبسونهن، وهذا قبل التشريع بالحد. وقال بعض الفقهاء: للزوج أن يأخذ من زوجته ما تفتدي به نفسها منه وذلك يكون بمال أو غيره إذا أتت بفاحشة من زنا أو سوء عشرة، وهذا ما يسمى بالخلع وهو الطلاق بمقابل يطلبه الزوج. ويتابع الحق: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} وكلمة «المعروف» أوسع دائرة من كلمة المودة؛ فالمودة هي أنك تحسن لمن عندك ودادة له وترتاح نفسك لمواددته، أنك فرح به وبوجوده، لكن المعروف قد تبذله ولو لم تكره، وهذه حلت لنا إشكالات كثيرة، عندما أراد المستشرقون أن يبحثوا في القرآن ليجدوا شيئا يدعون به أن في القرآن تعارضا فيقولون: قرآنكم يقول: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} [المجادلة: 22] . كيف لا يواد المؤمن ابنه أو أباه أو أحداً من عشيرته لمجرد كفره. والقرآن في موقع آخر منه يقول؟ {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] . ونقول: إن هؤلاء لم يفهموا الفرق بين المودة والمعروف. ف «الود» شيء و «المعروف» شيء آخر. الود يكون عن حُب، لكن المعروف ليس ضروريا أن يكون عن حُب، ساعة يكون جوعان سأعطيه ليأكل وألبي احتياجاته المادية. هذا هو المعروف، إنما الوُد هو أن أعمل لإرضاء نفسي. وساعة يعطف الرجل المؤمن على أبيه الكافر لا يعطف عليه نتيجة للوُد، إنما هو يعطف عليه نتيجة للمعروف؛ لأنه حتى لو كان كافراً سيعطيه بالمعروف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2081 ألم يعاتب الحق - سبحانه - إبراهيم في ضيف جاء له فلم يكرمه لأنه سأله وعرف منه: أنه غير مؤمن لذلك لم يضيّفه؟ فقال له ربنا: أمن أجل ليلة تستقبله فيها تريد أن تغير دينه، بينما أنا أرزقه أربعين سنة وهو كافر؟ فماذا فعل سيدنا إبراهيم؟ جرى فلحق بالرجل. وناداه فقال له الرجل: ما الذي جعلك تتغير هذا التغيير المفاجئ فقال له إبراهيم: «والله إن ربي عاتبني لأني صنعت معك هذا. فقال له الرجل: أربك عاتبك وأنت رسول فيّ وأنا كفر به، فنعم الرب ربٌ يعاتب أحبابه في أعدائه، فأسلم. هذا هو المعروف، الحق يأمرنا أننا يجب أن ننتبه إلى هذه المسائل في أثناء الحياة الزوجية، وهذه قضية يجب أن يتنبه لها المسلمون جميعا كي لا يُخربوا البيوت. إنهم يريدون أن يبنوا البيوت على المودة والحب فلو لم تكن المودة والحب في البيت لخُربَ البيت، نقول لهم: لا. بل {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} حتى لو لم تحبوهن، وقد يكون السبب الوحيد أنك تكره المرأة لأن شكلها لا يثير غرائزك، يا هذا أنت لم تفهم عن الله؛ ليس المفروض في المرأة أن تثير غريزتك، ولكن المفروض في المرأة أن تكون مصرفا، إن هاجت غريزتك كيماويا بطبيعتها وجدت لها مصرفا. فأنت لا تحتاج لواحدة تغريك لتحرك فيك الغريزة؛ ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا رأى أحدكم امرأة حسناء فأعجبته فليأت أهله فإن البضع واحد ومعها مثل الذي معها» . أي أن قطعة اللحم واحدة إن هاجت غريزتك بطبيعتها فأي مصرف يكفيك، ولذلك عندما جاء رجل لسيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال: يا أمير المؤمنين أنا كاره لامرأتي وأريد أن أطلقها، قال له: أَوَ لَمْ تُبن البيوت إلا على الحب، فأين القيم؟ لقد ظن الرجل أن امرأته ستظل طول عمرها خاطفة لقلبه، ويدخل كل يوم ليقبلها، فيلفته سيدنا عمر إلى أن هذه مسألة وجدت أولا وبعد ذلك تنبت في الأسرة أشياء تربط الرجل بالمرأة وتربط المرأة بالرجل. لذلك يقول الحق: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} ، أنت كرهتها في زاوية وقد تكون الزاوية التي كرهتها فيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2082 هي التي ستجعلها تحسن في عدة زوايا؛ لكي تعوض بإحسانها في الزوايا الأخرى هذه الزاوية الناقصة، فلا تبن المسألة على أنك تريد امرأة عارضة أزياء لتثير غرائزك عندما تكون هادئا، لا. فالمرأة مصرف طبيعي إن هاجت غرائزك بطبيعتها وجدت لها مصرفا، أما أن ترى في المرأة أنها ملهبة للغرائز فمعنى ذلك أنك تريد من المرأة أن تكون غانية فقط. وأن تعيش معك من أجل العلاقة الجنسية فقط، لكن هناك مسائل أخرى كثيرة، فلا تأخذ من المرأة زاوية واحدة هي زاوية الانفعال الجنسي، وخذ زوايا متعددة. واعلم أن الله وزع أسباب فضله على خلقه، هذه أعطاها جمالاً، وهذه أعطاها عقلاً، وهذه أعطاها حكمة، وهذه أعطاها أمانة، وهذه أعطاها وفاء، وهذه أعطاها فلاحاً، هناك أسباب كثيرة جدا، فإن كنت تريد أن تكون منصفاً حكيماً فخُذ كل الزوايا، أما أن تنظر للمرأة من زاوية واحدة فقط هي زاوية إهاجة الغريزة، هنا نقول لك: ليست هذه هي الزاوية التي تصلح لتقدير المرأة فقط. {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} . وانظر إلى الدقة في العبارة {فعسى أَن تَكْرَهُواْ} فأنت تكره؛ وقد تكون محقا في الكراهية أو غير محق، إنما إن كرهت شيئا يقول لك الله عنه: {وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} فاطمئن إنك إن كرهت في المرأة شيئا لا يتعلق بدينها، فاعلم أنك إن صبرت عليه يجعل الله لك في بقية الزوايا خيراً كثيراً. وما دام ربنا هو من يجعل هذا الخير الكثير فاطمئن إلى أنك لو تنبهت لزاوية أنت تكرهها ومع ذلك تصبر عليها، فأنت تضمن أن ربنا سيجعل لك خيراً في نواحٍ متعددة، إن أي زاوية تغلبت على كرهك سيجعل الله فيها خيرا كثيرا. إن الحق يطلق القضية هنا في بناء الأسرة ثم يُعمم، وكان بإمكانه أن يقول: فعسى أن تكرهوهن ويجعل الله فيهن خيرا، لا. فقد شاء أن يجعلها سبحانه قضية عامة في كل شيء قد تكرهه، وتأتي الأحداث لتبين صدق الله في ذلك، فكم من أشياء كرهها الإنسان ثم تبين له وجه الخير فيها. وكم من أشياء أحبها الإنسان ثم تبين له وجه الشر فيها، ليدلك على أن حكم الإنسان على الأشياء دائما غير دقيق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2083 فقد يحكم بكره شيء وهو لا يستحق الكره، وقد يحكم بحب شيء وهو لا يستحق الحب. إذن فالحق سبحانه وتعالى يأتي بالأشياء مخالفة لأحكامك {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} فقدر دائما في المقارنة أن الكره منك وجَعْل الخير في المرأة من الله، فلا تجعل جانب الكره منك يتغلب على جانب جعل الخير من الله ويقول الحق من بعد ذلك: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2084 فإذا ضاقت بك المسائل، بعد أن عاشرت بالمعروف ولم يعد ممكنا أن تستمر الحياة الزوجية في إطار يرضى عنه الله، وتخاف أن تنفلت من نفسك إلى ما حرم الله، ماذا تفعل؟ يقول سبحانه: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} أي لك أن تستبدل ما دامت المسألة ستصل إلى جرح منهج الله، وعليك في هذا الاستبدال أن ترعى المنهج الإيماني مثلما أشار به سيدنا الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه على الرجل الذي كان يستشيره في واحد جاء ليخطب ابنته. قال سيدنا الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن جاءك الرجل الصالح فزوجه، فإنه إن أحب ابنتك أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها. والحق يقول: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} فهذا يعني أن الرغبة قد انصرفت عن الأولى نهائيا، ولا يمكن التغلب عليها بغير الانحراف عن المنهج. وقد يحدث أن يضيق الرجل بزوجته وهو لا يعاني من إلحاح في الناحية الغريزية، فيطلقها ولا يتزوج، فما شروط المنهج في هذا الأمر؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2084 يقول الحق: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} . كلمة «قنطار» وكلمة «قنطرة» مأخوذة من الشيء العظيم. وقنطار تعني «المال» . وقدروه قديما بأنه ملئ مَسْك البقرة، و «المسك» هو الجلد، فعندما يتم سلخ البقرة يصبح جلدها مثل القربة، وملء مَسْكها يسمى قنطارا، والقنطار المعروف عندنا الآن له سمة وَزْنِيّة، والحق حين يعظم المهر بقنطار يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} فهو يأتي لنا بمثل كبير وينهانا بقوله: {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} . لماذا؟ لأنك يجب أن تفهم أن المهر الذي تدفعه ليس منساحا على زمن علاقتك بالمرأة إلى أن تنتهي حياتكما، بل المهر مجعول ثمنا للبضع الذي أباحه الله لك ولو للحظة واحدة، فلا تحسبها بمقدار ما مكثت معك، لا، إنما هو ثمن البضع، فقد كشفت نفسها لك وتمكنت منها ولو مرة واحدة. إذن فهذا القنطار عمره ينتهي في اللحظة الأولى، لحظة تَمكّنِك منها. {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} وهذه هي المسألة التي قال فيها سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أخطأ عمر وأصابت امرأة، لأنه كان يتكلم في غلاء المهور؛ فقالت له المرأة: كيف تقول ذلك والله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} ، فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر. عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه نهى وهو على المنبر عن زيادة صداق المرأة على أربعمائة درهم ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} ؟ فقال: اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال: «إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا في صدُقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب» وعن عبد الله بن مصعب أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من فضة، فمن زاد أوقية جعلتُ الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة: ما ذاك لك، قال ولَم؟ فقالت: لأن الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} فقال عمر:» امرأة أصابت ورجل أخطأ «. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2085 ثم ينكر القرآن مجرد فكرة الأخذ فيقول: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} لماذا؟ لأنه ليس ثمن استمتاعك بها طويلا، بل هو ثمن تمكنك منها، وهذا يحدث أَوَّل ما دخلت عليها. وإن أخذت منها شيئا من المهر بعد ذلك فأنت آثم، إلاَّ إذا رضيت بذلك، والإثم المبين هو الإثم المحيط. ويأتي الحق من بعد ذلك بمزيد من الاستنكار فيقول: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} . إنه استنكار لعملية أخذ شيء من المهر بحيثية الحكم فيقول: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2086 فلو أدركتم كل الكيفيات فلن تجدوا كيفية تبرر لكم الأخذ، لماذا؟ لأن الحق قال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} وانظر للتعليل: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} . إذن فثمن البُضْع هو الإفضاء، وكلمة {أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} كلمة من إله؛ لذلك تأخذ كل المعاني التي بين الرجل والمرأة و «أفضى» مأخوذة من «الفضاء» والفضاء هو المكان الواسع، {أفضى بَعْضُكُمْ} يعني دخلتم مع بعض دخولا غير مضيق. إذن فالإفضاء معناه: أنكم دخلتم معا أوسع مدَاخَلة، وحسبك من قمة المداخلة أن عورتها التي تسترها عن أبيها وعن أخيها وحتى عن أمها وأختها تبينها لك، ولا يوجد إفضاء أكثر من هذا، ودخلت معها في الاتصال الواسع، أنفاسك، ملامستك، مباشرتك، معاشرتك، مدخلك، مخرجك، في حمامك، في المطبخ، في كل شيء حدثت إفضاءات، وأنت ما دمت قد أفضيت لها وهي قد أفضت لك كما قال الحق أيضا في المداخلة الشاملة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2086 {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] . أي شيء تريد أكثر من هذا!؟ ولذلك عندما تشتد امرأة على زوجها، قد يغضب، ونقول له: يكفيك أن الله أحل لك منها ما حرمه على غيرك، وأعطتك عرضها، فحين تشتد عليك لا تغضب، وتذكَّر حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» . {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} والميثاق هو: العهد يؤخذ بين اثنين، ساعة سألت وليها: «زوجني» فقال لك: زوجتك، ومفهوم أن كلمة الزواج هذه ستعطي أسرة جديدة، وكل ميثاق بين خلق وخلق في غير العرض هو ميثاق عادي، إلا الميثاق بين الرجل والمرأة التي يتزوجها؛ فهذا هو الميثاق الغليظ، أي غير اللين، والله لم يصف به إلاَّ ميثاق النبيين فوصفه بأنه غليظ، ووصف هذا الميثاق بأنه غليظ، ففي هذه الآية {أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} فهنا إفضاء وفي آية أخرى يكون كل من الزوجين لباسا وسترا للآخر {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} لهذا كان الميثاق غليظا، وهذا الميثاق الغليظ يحتم عليك إن تعثرت العشرة أن تتحملها وتعاملها بالمعروف، وإن تعذرت وليس هناك فائدة من استدامتها فيصح أن تستبدلها، فإن كنت قد أعطيتها قنطارا إياك أن تأخذ منه شيئا، لماذا؟ لأن ذلك هو ثمن الإفضاء، وما دام هذا القنطار هو ثمن الإفضاء وقد تم، فلا تأخذ منه شيئا، فالإفضاء ليس شائعا في الزمن كي توزعه، لا. والحق يقول: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} هنا يجب أن نفهم أن الحق حين يشرع فهو يشرع الحقوق، ولكنه لا يمنع الفضل، بدليل أنه قال: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2087 إذن ففيه فرق بين الحق وما طاب لكم، والأثر يحكي عن القاضي الذي قال لقومه: أنتم اخترتموني لأحكم في النزاع القائم بينكم فماذا تريدون مني؟! أأحكم بالعدل أم بما هو خير من العدل؟ فقالوا له: وهل يوجد خير من العدل؟ قال: نعم، الفضل. فالعدل: أن كل واحد يأخذ حقه، والفضل: أن تتنازل عن حقك وهو يتنازل عن حقه، وتنتهي المسألة، إذن فالفضل أحسن من العدل، والحق سبحانه وتعالى حين يشرع الحقوق يضع الضمانات، ولكنه لا يمنع الفضل بين الناس: فيقول - جل شأنه -: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] . ويقول الحق في آية الدَّين: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا} [البقرة: 282] . ويأمركم الحق أن توثقوا الدَّيْن. . لأنكم لا تحمون مال الدائن فحسب بل تحمون المدين نفسه، لأنه حين يعلم أن الدّيْن موثق عليه ومكتوب عليه فلن ينكره، لكن لو لم يكن مكتوبا فقد تُحدثه نفسه أن ينكره، إذن فالحق يحمي الدائن والمدين من نفسه قال: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ} ، وقال بعدها: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] . فقد تقول لمن يستدين منك: لا داعي لكتابة إيصال وصكٍّ بيني وبينك، وهذه أريحية لا يمنعها الله فما دام قد أمن بعضكم بعضا فليستح كل منكم وليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2088 وما دام قد جعل للفضل مجالا مع تسجيل الحقوق فلا تنسوا ذلك. فما بالنا بالميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة. . وغلظ الميثاق إنما يتأتى بما يتطلبه الميثاق، ولا يوجد ميثاق أغلظ مما أخذه الله من النبيين ومما بين الرجل والمرأة؛ لأنه تعرض لمسألة لا تباح من الزوجة لغير زوجها، ولا من الزوج لغير زوجته. إن على الرجل أن يوفى حق المرأة ولا يصح أن ينقصها شيئا إلا إذا تنازلت هي. فقد سبق أن قال الحق: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] . وما دامت النفس قد طابت، إذن فالرضا بين الطرفين موجود، وذلك استطراق أُنسى بين الرجل والمرأة. فالمهر حقها، ولكن لا يجب أن يقبض بالفعل، فهو في ذمة الزوج، إن شاء أعطاه كله أو أخّره كله أو أعطى بعضه وأخر بعضه. ولكن حين تنفصل الزوجة بعد الدخول يكون لها الحق كاملا في مهرها، إن كان قد أخره كله فالواجب أن تأخذه، أو تأخذ الباقي لها إن كان قد دفع جزءا منه كمقدم صداق. ولكن حين تنتقل ملكية المهر إلى الزوجة يفتح الله باب الرضا والتراضي بين الرجل والمرأة فقال: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} فهو هبة تخرج عن تراضٍ. وذلك مما يؤكد دوام العشرة والألفة والمودة والرحمة بين الزوجين. وبعد ذلك يبقى حكم آخر. هَبْ أن الخلاف استعر بين الرجل والمرأة. حالة تكره هي وتحب أن تخرج منه لا جناح أن تفتدي منه نفسها ببعض المال لأنها كارهة، وما دامت هي كارهة، فسيضطر هو إلى أن يبني بزوجة جديدة، إذن فلا مانع أن تختلع المرأة منه بشيء تعطيه للزوج: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} [البقرة: 229] . والحق سبحانه وتعالى أراد أن يعطينا الدليل على أن حق المرأة يجب أن يحفظ لها، ولذلك جاء بأسلوب تناول مسألة أخذ الزوج لبعض مهر الزوجة في أسلوب التعجب: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2089 فكأن «وكيف تأخذونه» هذه دليل على أنه لا يوجد وجه من وجوه الحق يبيح لك أن تأخذ منها مهرها، فساعة يستفهم فيقول: «كيف» فهذا تعجيب من أن تحدث هذه، وقلنا: إن كل المواثيق بين اثنين لا تعطي إلا حقوقاً دون العرض، ولكن ميثاق الزواج يعطي حقوقاً في العرض، ومن هنا جاء غلظ الميثاق، وكل عهد وميثاق بين اثنين قد ينصب إلى المال، وقد ينصب إلى الخدمة، وقد ينصب إلى أن تعقل عنه الدَيَّة، وقد ينصب إلى أنك تعطية مثلاً المعونة، هذه ألوان من المواثيق إلا مسألة العرض، فمسألة العرض عهد خاص بين الزوجين، ومن هنا جاء الميثاق الغليظ. وبعد ذلك يتناول الحق سبحانه وتعالى قضية يستديم بها طهر الأسرة وعفافها وكرامتها وعزتها، ويبقى لأطراف الأسرة المحبة، والمودة فلا يدخل شيء يفضي على هذه المحبة والمودة، ويُدخل نزغ الشيطان فيها. قال الحق سبحانه: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ... } الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2090 فكأن هذه المسألة كانت موجودة، كان ينكح الولد زوج أبيه التي هي غير أمه. و «صفوان بن أمية» وهو من سادة قريش قد خلف أباه أمية بن خلف على «فاختة بنت الأسود بن المطلب» كانت تحت أبيه، فلما مات أبوه تزوجها هو، ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعد هذه القضية من محيط الأسرة، لماذا؟ لأن الأب والابن لهما من العلاقات كالمودَّة والرحمة والحنان والعطف من الأب، والبر والأدب، والاستكانة، وجناح الذل من الابن، فحين يتزوج الرجل امرأة وله ابن، فذلك دليل على أن الأب كان متزوجاً أمه قبلها، وكأن الزيجة الجديدة طرأت على الأسرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2090 وسبحانه يريد ألا يجعل العين من الولد تتطلع إلى المرأة التي تحت أبيه، ربما راقته، ربما أعجبته، فإذا ما راقته وأعجبته فأقل أنواع التفكير أن يقول بينه وبين نفسه: بعدما يموت أبي أتزوجها، فحين يوجد له الأمل في أنه بعدما يموت والده يتزوجها، ربما يفرح بموت أبيه، هذا إن لم يكن يسعى في التخلص من أبيه، وأنتم تعلمون سعار الغرائز حين تأتي، فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على الولد أمل الالتقاء ولو بالرجاء والتمني، وأنه يجب عليه أن ينظر إلى الجارية أو الزوجة التي تحت أبيه نظرته إلى أمه، حين ينظر إليها هذه النظرة تمتنع نزعات الشيطان. فيقول الحق: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} والنكاح هنا يُطلق فينصرف إلى الوطء والدخول، وقد ينصرف إلى العقد، إلا أن انصرافه إلى الوطء والدخول - أي العملية الجنسية - هو الشائع والأوْلى، لأن الله حينما يقول: «الزاني لا ينكح إلا زانية» معناها أنَّه ينكح دون عقد وأن تتم العملية الجنسية دون زواج. والحق هنا يقول: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فما هو السلف هذا؟ إن ما سلف كان موجوداً، أي جاء الإسلام فوجد ذلك الأمر متبعاً، وجاء الإسلام بتحريم مثل هذا الأمر. فالزمن الجديد بعد الإسلام لا يحل أن يحدث فيه ذلك وإن كان عقد النكاح قد حدث قبل الإسلام، ولذلك قال - سبحانه -: {إلا ما قد سلف} فجاء ب (ما) وهي راجعة للزمن. كأن الزمن الجديد لا يوجد فيه هذا. هب أن واحداً قد تزوج بامرأة أبيه ثم جاء الحكم. . أيقول سلف أن تزوّجتها قبل الحكم! نقول: لا الزمن انتهى، إذن فقوله: {مَا قَدْ سَلَفَ} يعني الزمن، وما دام الزمن انتهى يكون الزمن الجديد ليس فيه شيء من مثل تلك الأمور. لذا جاءت (ما) ولو جاءت (مَن) بدل (ما) لكان الحكم أن ما نكحت قبل الإسلام تبقى معه، لكنه قال (إلا ما قد سلف) فلا يصح في المستقبل أن يوجد منه شيء ألبتة ويجب التفريق بين الزوجين فيما كان قائما من هذا الزواج. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه حين يشرِّع فهو يشرع ما تقتضيه الفطرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2091 السليمة. فلم يقل: إنكم إن فعلتم ذلك يكون فاحشة، بل إنه برغم وجوده من قديم كان فاحشة وكان فعلاً قبيحاً {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} وما كان يصح بالفطرة أن تكون هذه المسألة على تلك الصورة، إلا أنّ الناس عندما فسدت فطرتهم لجأوا إلى أن يتزوج الرجل امرأة أبيه، ولذلك إذا استقرأت التاريخ القديم وجدت أن كل رجل تزوج من امرأة أبيه كان يُسمَّى عندهم نكاح «المقت» والولد الذي ينشأ يسمُّونه «المقتي» أي المكروه. إذن فقوله: {إنه كان} أي قبل أن أحكم أنا هذا الحكم {كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} . فالله يوضح: إنني أشرع لكم ما تقتضيه الفطرة. والفطرة قد تنطمس في بعض الأمور، وقد لا تنطمس في البعض الآخر لأن بعض الأمور فاقعة وظاهرة والتحريم فيها يتم بالفطرة. مثال ذلك: أن واحداً ما تزوج أمه قبل ذلك، أو تزوج ابنته، أو تزوج أخته. إذن ففيه أشياء حتى في الجاهلية ما اجترأ أحدٌ عليها. إذن جاء بالحكم الذي يحرم ما اجترأت عليه الجاهلية وتجاوزت وتخطت فيه الفطرة، فقال سبحانه: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي مضى. لقد وصف سبحانه نجاح الأبناء لزوجات آبائهم بأنه {كان فاحشة} أي قبحاً، و {مقتاً} أي مكروهاً، {ساء سبيلا} أي في بناء الأسرة. ثم شرع الحق سبحانه وتعالى يبين لنا المحرمات وإن كانت الجاهلية قد اتفقت فيها، إلا أن الله حين يشرع حكماً كانت الجاهلية سائرة فيه لا يشرعه لأن الجاهلية فعلته، لا. هو يشرعه لأن الفطرة تقتضيه، وكون الجاهلية لم تفعله، فهذا دليل على أنها فطرة لم تستطع الجاهلية أن تغيرها، فقال الحق سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2092 من الذي يحلل ويحرم؟ إنه الله، فهم رغم جاهليتهم وغفلتهم عن الدين حرموا زواج المحارم؛ فحتى الذي لم يتدين بدين الإسلام توجد عنده محرمات لا يقربها. أي أنهم قد حرموا الأم والبنت والأخت. . إلخ، من أين جاءتهم هذه؟ الحق يوضح: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] . ومنهج السماء أنزله الله من قديم بدليل قوله: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2093 فبمجرد أن خلق الله آدم وخلق زوجته، أنزل لهما المنهج، مستوفي الأركان، إذن فبقاء الأشياء التي جاء الإسلام فوجدها على الحكم الذي يريده الإسلام إنما نشأ من رواسب الديانات القديمة، وإن أخذ محل العادة ومحل الفطرة. . أي أن الناس اعتادوه وفطروا عليه ولم يخطر ببالهم أن الله شرعه في ديانات سابقة. والعلوم الحديثة أعانتنا في فهم كثير من أحكام الله، لأنهم وجدوا أن كل تكاثر سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الإنسان أيضاً، كلما ابتعد النوعان «الذكورة والأنوثة» فالنسل يجيء قوياً في الصفات. أما إذا كان الزوج والزوجة أو الذكر والأنثى من أي شيء: في النبات، في الحيوان، في الإنسان قريبين من اتصال البنية الدموية والجنسية فالنسل ينشأ ضعيفاً، ولذلك يقولون في الزراعة والحيوان: «نهجن» أي نأتي للأنوثة بذكورة من بعيد. والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يقول لنا: (اغتربوا لا تضْوُوا) وقال: «لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا» . فالرسول يأمرنا حين نريد الزواج ألا نأخذ الأقارب، بل علينا الابتعاد، لأننا إن أخذنا الأقارب فالنسل يجيء هزيلاً. وبالاستقراء وجد أن العائلات التي جعلت من سنتها في الحياة ألا تنكح إلا منها، فبعد فترة ينشأ فيها ضعف عقلي؛ أو ضعف جنسي؛ أو ضعف مناعي، فقول رسول الله: «اغتربوا لا تضووا» أي إن أردتم الزواج فلا تأخذوا من الأقارب، لأنكم إن أخذتم من الأقارب تهزلوا، فإن «ضَوِي» بمعنى «هزل» فإن أردتم ألا تضووا، أي ألا تهزلوا فابتعدوا، وقبلما يقول النبي هذا الكلام وجد بالاستقراء في البيئة الجاهلية هذا. ولذلك يقول الشاعر الجاهلي: أنصح من كان بعيد الهم ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2094 تزويج أبناءٍ بنات العم ... فليس ينجو من ضَوَى وسُقْم ... فقد يضوي سليل الأقارب، وعندنا في الأحياء الشعبية عندما يمدحون واحداً يقولون: «فتوة» أي فتى لم تلده بنت عم قريبة. وفي النبات يقولون: إن كنت تزرع ذرة في محافظة الغربية لا بد أن تأتي بالتقاوى من محافظة الشرقية مثلا، وكذلك البطيخ الشيليان. يأتون ببذوره من أمريكا، فيزرعونها فيخرج البطيخ جميلاً لذيذا، بعض الناس قد يرفض شراء مثل تلك البذور لغلو ثمنها. فيأخذ من بذور ما زرع ويجعل منه التقاوى، ويخرج المحصول ضعيفاً. لكن لو ظل يأتي به من الخارج وإن وصل ثمن الكيلو مبلغاً كبيراً فهو يأخذ محصولاً طيباً. وكذلك في الحيوانات وكذلك فينا؛ ولذلك كان العربي يقول: ما دكّ رءوس الأبطال كابن الأعجمية؛ لأنه جاء من جنس آخر. أي أن هذا الرجل البطل أخذ الخصائص الكاملة في جنس آخر. فلقاح الخصائص الكاملة بالخصائص الكاملة يعطي الخصائص الأكمل، إذن فتحريم الحق سبحانه وتعالى زواج الأم والأخت وكافة المحارم وإن كانت عملية أدبية إلا أنها أيضاً عملية عضوية. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} لماذا؟ لأن هذه الصلة صلة أصل، والصلة الأخرى صلى فرع، الأمهات صلة الأصل، والبنات صلة الفرع، {وأخواتكم} وهي صلة الأخ بأخته إنّها بنوة من والد واحد {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة} . إذن فالمسألة مشتبكة في القرابة القريبة. والله يريد قوة النسل، قوة الإنجاب، ويريد أمرا آخر هو: أن العلاقة الزوجية دائما عرضة للأغيار النفسية، فالرجل يتزوج المرأة وبعد ذلك تأتي أغيار نفسية ويحدث بينهما خلاف مثلما قلنا في قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} ؛ ويكره منها كذا وكذا، فكيف تكون العلاقة بين الأم وابنها إذا ما حدث شيء من هذا؟! والمفروض أن لها صلة تحتم عليه أن يظل على وفاء لها، وكذلك الأمر بالنسبة للبنت، أو الأخت، أو العمة، أو الخالة، فيأمر الحق الرجل: ابتعد بهذه المسألة عن مجال الشقاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2095 ومن حسن العقل وبعد النظر ألا ندخل المقابلات في الزواج، أو ما يسمى «بزواج البدل» ، حيث يتبادل رجلان الزواج، يتزوج كل منهما أخت الآخر مثلا، فإذا حدث الخلاف في شيء حدث ضرورة في مقابله وإن كان الوفاق سائداً. فحسن الفطنة يقول لك: إياك أن تزوج أختك لواحد لأنك ستأخذ أخته، فقد تتفق زوجة مع زوجها، لكن أخته قد لا تتوافق مع زوجها الذي هو شقيق للأخرى. وتصوروا ماذا يكون إحساس الأم حين ترى الغريبة مرتاحة عند ابنها لكن ابنتها تعاني ولا تجد الراحة في بيت زوجها. ماذا يكون الموقف؟ نكون قد وسعنا دائرة الشقاق والنفاق عند من لا يصح أن يوجد فيه شقاق ولا نفاق. والحكمة الإلهية ليست في مسألة واحدة، بل الحكمة الإلهية شاملة، تأخذ كل هذه المسائل، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} والمحرم هنا بطبيعة الحال هن الأمهات وإن علون، فالتحريم يشمل الجدة سواء كانت جدة من جهة الأب، أو جدة من جهة الأم. وما ينشأ منها. وكل واحدة تكون زوجة لرجل فأمها محرمة عليه، «وبناتكم» وبنات الابن وكل ما ينشأ منها، وكذلك بنات البنت، {وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} . ولماذا يحرم الحق {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ؟ لأنها بالإرضاع أسهمت في تكوين خلايا فيمن أرضعته؟ ففيه بَضْعَة منها، ولهذه البَضْعَة حُرمة الأمومة، ولذلك قال العلماء: يحرم زواج الرجل بامرأة جمعه معها رضاعة يغلب على الظن أنها تُنشئ خلايا، وحلل البعض زواج من رضع الرجل منها مصة أو مصتين مثلا، إلا أن أبا حنيفة رأى تحريم أي امرأة رضع منها الرجل، وأفتى المحققون وقالوا: لا تحرم المرأة إلا أن تكون قد أرضعت الرجل، أو رضع الرجل معها خمس رضعات مشبعات، أو يرضع من المرأة يوما وليلة ويكتفى بها، وأن يكون ذلك في مدة الرضاع، وهي بنص القرآن سنتان، {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} . وهذه المسألة حدث الكلام فيها بين سيدنا الإمام علي - رضوان الله عليه وكرم الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2096 وجهه - وسيدنا عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حينما جاءوا بامرأة ولدت لستة شهور وكان الحمل الشائع يمكث تسعة أشهر، وأحيانا نادرة يولد الطفل بعد سبعة أشهر، لكن أن تلد امرأة بعد ستة شهور فهذا أمر غير متوقع. . ولذلك أراد عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن يقيم الحد عليها؛ لأنها ما دام ولدت لستة أشهر تكون خاطئة، لكنْ سيدنا علي - رضوان الله عليه وكرم الله وجهه - أدرك المسألة. قال: يا أمير المؤمنين؛ لماذا تقيم عليها الحد؟ فقال عثمان بن عفان: لأنها ولدت لستة أشهر وهذا لا يكون. وأجرى الله فتوحاته على سيدنا علي، وأجرى النصوص على خياله ساعة الفتيا، وهذا هو الفتح، فقد يوجد النص في القرآن لكن النفس لا تنتبه له، وقد تكون المسألة ليست من نص واحد. بل من اجتماع نصين أو أكثر، ومن الذي يأتي في خاطره ساعة الفتيا أن يطوف بكتاب الله ويأتي بالنص الذي يسعفه على الفتيا، إنه الإمام علي، وقال لسيدنا عثمان: الله يقول غير ذلك، قال له: وماذا قال الله في هذا؟ قال: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] . إذن فإتمام الرضاعة يكون في حولين كاملين أي في أربعة وعشرين شهرا، - والتاريخ محسوب بالتوقيت العربي - والحق سبحانه قال أيضا: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] . فإذا كان مجموع أشهر الحمل والرضاع، ثلاثين شهرا، والرضاع التام أربعة وعشرون شهرا، إذن فمدة الحمل تساوي ستة أشهر. هكذا استنبط سيدنا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرم الله وجهه - والإنسان قد يعرف آية وتغيب عنه آيات، والله لم يختص زمنا معينا بحسن الفتيا وحرم الأزمنة الأخرى، وإنما فيوضات الله تكون لكل الأزمان، فقد يقول قائل: لا يوجد في المسلمين من يصل بعمله إلى مرتبة الصحابة، ومن يقول ذلك ينسى ما قاله الحق في سورة الواقعة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2097 {والسابقون السابقون أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} [الواقعة: 10 - 14] . أي أن الآخرين أيضا لن يحرموا من أن يكون فيهم مقربون قادرون على استيعاب النصوص لاستنباط الحكم، إذن فالرضاع: مصة أو مصتان؛ هذا مذهب، وعشر رضعات مذهب آخر، وخمس رضعات مشبعات مذهب ثالث، وأخذ جمهور الفقهاء بالمتوسط وهو خمس رضعات مشبعات تحرمن الزواج، لكن بشرط أن تكون في مدة الرضاع، فلو رضع في غير مدة الرضاعة، نقول: إنه استغنى بالأكل وأصبح الأكل هو الذي يعطيه مقومات البنية. إذن فمسألة الرضاع متشعبة؛ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . والمحرم من الرضاع هو: الأم من الرضاع، والبنت من الرضاع، والأخت من الرضاع، والعمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، وهكذا نرى أنها عملية متشعبة تحتاج من كل أسرة إلى اليقظة، لأننا حين نرى أن بركة الله لا تحوم حول كثير من البيوت لا بد أن ندرك لها أسبابا، أسباب البعد عن استقبال البركة من الله. . فالإرسال الإلهي مستمر، ونحن نريد أجهزة استقبال حساسة تحسن الاستقبال، فإذا كانت أجهزة الاستقبال خربة، والإرسال مستمراً فلن يستفيد أحد من الإرسال، وهب أن محطة الإذاعة تذيع، لكن المذياع خرب، فكيف يصل الإرسال للناس؟ إذن فمدد الله وبركات الله المتنزلة موجودة دائما. . ويوجد أناس لا يأخذون هذه البركات؛ لأن أجهزة استقبالها ليست سليمة، وأول جهاز لاستقبال البركة أن البيت يبنى على حل في كل شيء. . يعني: لقاء الزوج والزوجة على حل، وكثير من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2098 الناس يدخلون في الحرمة وإن لم يكن بقصد، وهذا ناشئ من الهوس والاختلاط والفوضى في شأن الرضاعة، والناس يرضعون أبناءهم هكذا دون ضابط وليس الحكم في بالهم. وبعد ذلك نقول لهم: يا قوم أنتم احتطتم لأولادكم فيما يؤدي إلى سلامة بنيتهم، فكان لكل ولد ملف فيه: شهادة الميلاد، وفيه ميعاد تلقي التطعيمات ضد الدفتريا، وشلل الأطفال وغير ذلك. فلماذا يا أسرة الإسلام لا تضعون ورقة في هذا الملف لتضمنوا سلامة أسركم، ويكتب في تلك الورقة من الذي أرضع الطفل غير أمه، وساعة يأتي للزواج نقول: يا موثق هذا ملفه إنه رضع من فلانة، في هذا الملف تُدْرج أسماء النساء اللاتي رضع منهن. . فنبني بذلك أسرة جديدة على أسس إيمانية سليمة، بدلا من أن نفاجئ رجلا تزوج امرأة، وعاشا معا وأنجبا وبعد ذلك يتبين أنهما رضعا معا، وبذلك تصير المسألة إلى إشكال شرعي وإشكال مدني وإشكال اجتماعي ناشيء من أن الناس لم تُعد لمنهجها الإيماني ما أعدته لمنهجها المادي. إذن فلا بد من التزام كل أسرة أن تأتي في ملف ابنها أو بنتها وتضع ورقة فيها أسماء من رضع منهن المولود. وعلى كل حال لم تعد هناك الآن ضرورة أن نأتي بمرضعة للأولاد، فاللبن الجاف من الحيوانات يكفي ويؤدي المهمة، وصرنا لا ندخل في المتاهة التي قد تؤدي بنا في المستقبل إلى أن الإنسان يتزوج أخته من الرضاعة أو أمه من الرضاعة، أو أي شيء من ذلك، وبعد ذلك تمتنع بركة الله من أن تمتد إلى هذه الأسرة. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة} . ويقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . وجاء القرآن بالأمور البارزة فيها فقط، {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} فإذا تزوج رجل من امرأة ولها أم، بالله أيتزوج أمها أيضا؟ إنها عملية غير مقبولة، {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} . الربيبة هي بنت المرأة من غير زوجها، فقد يتزوج رجل من امرأة كانت متزوجة من قبل وترملت أو طلقت بعد أن ولدت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2099 بنتا. هذه البنت يسمونها «ربيبة» وزوج الأم الجديد سيُدخلها في حمايته وفي تربيته، وبذلك تأخذ مرتبة البنوة. والأمر هنا مشروط: {مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فما دام الرجل قد عقد على المرأة ولم يدخل بها تكون بنتها غير محرمة. أما العقد على البنت حتى دون دخول فإنه يحرم الأمهات. {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} أي زوجة الابن، وكلمة {مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} تدل على أنه كان يطلق لفظ «الأبناء» على أناس ليسوا من الأصلاب، وإلا لو أن كلمة «الأبناء» اقتصرت في الاستعمال على أولاد الإنسان من صلبه، لما قال: {أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} . إذن كان يوجد في البيئة الجاهلية أبناء ليسوا من الأصلاب هم أبناء التبني، وكانت هذه المسألة شائعة عند العرب، فكان الرجل يتبنى طفلا ويلحقه بنسبه ويطلق عليه اسمه ويرثه. وجاء الإسلام ليقول: لا، لا يصح أن تنسب لنفسك من لم تنجبه، لأنه سيدخل في مسألة أخوة لابنتك مثلا، وسيدخل على محارمك، ولذلك أنهى الله هذه المسألة، وجاء هذا الإنهاء على يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد كانت المسألة متأصلة عند العرب. ونعلم أن زيد بن حارثة خُطف من أهله، وبعد ذلك بيع على أنه رقيق، واشتراه حكيم بن حزام. وأخذته سيدتنا خديجة وبعد ذلك وهبته لسيدنا رسول الله. وصار زيد بن حارثة مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعندما علم أهل زيد أن ولدهم الذي خُطف قديما موجود في مكة جاءوا إليها، فرأوا زيد بن حارثة، ولما سألوه أن يعود معهم قال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنا أخيره بين أن يذهب معكم أو أن يبقى معي، انظروا إلى زيد بن حارثة كيف صنع به إيمانه وحبه لسيدنا رسول الله: قال: ما كنت لأختار على رسول الله أحداً. وظل مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأراد الرسول أن يكرمه على العادة التي كانت شائعة فسماه «زيد بن محمد» وتبناه. إذن فالمسألة وصلت إلى بيت النبوة. التبني وصل بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2100 وأراد الله أن ينهى هذه المسألة فقال سبحانه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] . هذا يدل على أن صرامة التشريع لا تجامل أحداً حتى ولا محمدا بن عبد الله وهو رسول، {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} . وبعض الناس الذين يتسقطون للقرآن يقولون: إن رسول الله كان عنده إبراهيم وكان عنده الطيب وكان عنده القاسم، ونقول: أكان هؤلاء رجالا؟! لقد ماتوا أطفالا، والكلام {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} ، وهب أنهم كبروا وصاروا رجالا، أقال من رجالكم أم من رجاله؟ قال: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} أي لا يمنع أن يكون أبا أحد من رجاله، هو أبو القاسم وأبو الطيب وأبو إبراهيم هم أولاده فافهموا القول. وهذه المسألة أخذت ضجة عند خصوم الاسلام والمستشرقين والحق سبحانه وتعالى وإن كان قد عدل لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتعديل الله لرسوله يشرف رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن من الذي يعدل لمحمد؟ إنه الله الذي أرسله. ويقول: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} . ومفهوم هذه العبارة أن المحرمة إنما هي حليلة الابن من الصلب. وقوله: {مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} يدل على أنه كان هناك أبناء ليسوا من الصلب، إذن فالتبني كان موجوداً قبل نزول هذا الحكم، وأراد الله أن يبطل عادة التبني، وكانت متغلغلة في الأمة العربية، فأبطلها على يد سيدنا رسول الله، لا مشرعا ينقل حكم الله فحسب، ولكن مطبقا يطبق حكم الله في ذاته وفي نفسه حتى يأخذ الحكم قداسته، ويجب أن نفطن إلى أن فكرة التبني كانت في ذاتها تهدف إلى أن ولداً نجيبا يلحقه رجل به ليعطيه كل حقوق أولاده كلون من التكريم. ولذلك علينا أن نلحظ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تصرف بالكمال البشري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2101 في إطار العدل البشري، والعدل هو: القسط، وساعة تبنى زيد بن حارثة وسماه زيد بن محمد إنما كان يهدف إلى أن يعوضه والده، لأن زيداً اختار رسول الله على أبيه، إذن فكان ذلك التبنى من رسول الله كمالا وعدلا بشريا بالنسبة للوفاء لواحد آثر اختياره على اختيار أهله فإذا أراد الله أن يصوب فيكون كمالا إلهيا وعدلا إلهيا، فلا غضاضة عند أحد أن يُصوِّب الكمال البشري بالكمال الإلهي، ولا أن يصوب العدل البشري والقسط البشري بالعدل الإلهي والقسط الإلهي، وأنزل الله وهو أحكم القائلين هذا الحكم بعبارة تعطي ذلك كله. {} [الأحزاب: 5] . أي: إن دعاءهم لآبائهم {أقسط عند الله} . وكلمة «أقسط» إياكم أن تكونوا بعدتم ونأيتم عن «عظيم» و «أعظم» ، إنك ساعة تأتي بصيغة التفضيل يكون المقابل لها وصفا من جنسها، ف «أعظم» المقابل لها «عظيم» ، و «أقسط» المقابل لها «قِسْط» ، فما فعله رسول الله هو قِسْطٌ وعدل، ولكن ما عدله الله أقسط مما صنعه رسول الله. إذن فيجب أن نفطن إلى أن الكمال البشري والعدل البشري شيء، والكمال الإلهي والعدل الإلهي شيء آخر. ومن نقله الله من عدل بشريته إلى عدل ألوهيته يكون قد تلقى نعمة كبرى. وإذا ما حاول المستشرقون أن يأخذوا هذه المسألة على أن ربنا عدل له ويحاولوا أن يلصقوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطأ ما، نقول لهم: أنتم لا تحسنون تقدير الأمر ولا تفهمون المراد من ذلك، فالذي صوب هو الله الذي أرسله، وقد صوب له فعلا فعله في إطار البشرية، وقال الحق: {هو أقسط عند الله} ومن الذي يجعل البشر متساوين مع الله في القسط والعدل والكمال؟ إن هناك قصة طار بها المستشرقون فرحا وكذلك يروجها خصوم الإسلام من أبناء الإسلام؛ لأن من مصلحة خصوم الإسلام، وكذلك الذين لا يحملون من الإسلام إلا أسمه؛ يرجون أن هذا الدين يحتوي على أكاذيب - والعياذ بالله - فما دام الواحد منهم لا يقدر أن يحمل نفسه على منهج الدين لا يكون له مندوحة ولا نجاة إلا أن يقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2102 هذا الدين غير صحيح؛ لأن هذا الدين إن كان صحيحا فسوف يهلك هو ومن على شاكلته، فيكذبون أنفسهم وينكرون على الدين أملاً في النجاة في ظنهم إذ لا منجي ولا أمل لهؤلاء إلا أن يكون الدين كذبا كله. لننظر إلى القصة التي طار بها المستشرقون فرحا: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وكان عبد المطلب له بنت اسمها: أميمة بنتا اسمها «برّة» ، وغير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اسمها، لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان له ملحظ في الأسماء، اسمها «برة» وغير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اسمها، لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان له ملحظ في الأسماء، اسمها «برّة» والاسم جميل لأنه من البر وهو صفة تجمع كل خصال الخير، لكن رسول الله كره أن يقال فيما بعد: خرج رسول الله من عند «برّة» فسماها «زينب» . «برّة» هذه هي بنت أميمة فهي ابنة عمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وزيد ابن حارثة - كما قلنا - كان طفلاً ثم خُطف وَسُرِق، وبيع وانصرف إلى ملكية رسول الله، وبعد ذلك أراد رسول الله أن يكرمه على ما يقتضيه كماله البشري وعدله البشري فسماه «زيد بن محمد» . وعندما أراد زيد بن محمد أن يتزوج. . زوّجه رسول الله من «برة» على مضض منها، لأنه مَوْلى، وهي بنت سيد قريش. وكان ملحظ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه يريد أن يجعل من المسلمين مزيجاً واحداً، فلا فرق بين مَوْلى وسيد، وزوَّج بنت عمته لزيد، وبعد الزواج لم ينشأ بينهما ودّ، وكل هذه تمهيدات الأقدار للأقدار. بالله لو أنها كانت أخذته عن حب وكان بينهما وئام، وبعد ذلك أراد الله أن يشرِّع فهل يشرع على حساب قلبين متعاطفين متحابين ليمزقهما؟ لا، المسألة - إذن - تمهيد من أولها، فلم تكن لها رغبة فيه. وعندما يجد الرجل أن المرأة ليس لها رغبة فيه، تهيج كرامته، وخصوصا أنه صار ابنا بالتبني لرسول الله، ويكون رفض امرأةٍ له مسألة ليست هينة، وتصعب عليه نفسه، فيأتي لرسول الله شاكياً، وقال له: لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2103 تعجبني معاشرة «برّة» وأريد أن أفارقها، وكان ذلك تمهيداً من الله سبحانه لأنه يريد أن ينهى مسألة التبني، فقد كانوا في الجاهلية يحرمون أن يتزوج الرجل امرأة ابنه المتبني، ولذلك يقول الحق: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] . وما دام يقول له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} فالكلام إذن قد جاء معبراً عن رغبة زيد في أن يفارقها، لكن خصوم الإسلام وأبواقهم من المسلمين يقولون في قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} إن محمداً كان معجباً بالمرأة ويريد أن يتزوجها، ويخفى هذه الحكاية. نقول لهم: كونوا منطقيين وافهموا النص، فربنا يقول: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} ، أنتم أخذتم منها أن النبي كان يريد أن يتزوجها. والحق قال: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} . فإذا كنت تريد أن تعرف ما أخفاه رسول الله، فاعرف ما أبداه الله، هذه هي عدالة الاستقبال، وبدلا من أن تقول هذا الكلام كي تشفي مرض نفسك انظر كيف أعطاك ربنا من تفاصيل الحكاية. قال سبحانه: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} فماذا أبدى ربنا؟ وحين يبدي ربنا أمراً يكون هو عين ما أخفاه رسوله، فلما ذهب زيد للنبي وقال له: أريد أن أفارق «برّة» قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} لأن رسول الله عَلِم مِنَ الله أنه يريد أن يزوجه «برة» التي هي امرأة زيد الذي تبناه كي ينهى مسألة التبني، وأن امرأة المتبني لا تحرم على الرجل، ويطبقها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على نفسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2104 لكنْ هناك أناس مازال عندهم مرض في قلوبهم، وأناس منافقون، والرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أراد أن يكون هذا الأمر وارادا من الله في قرآنه. فلو كان قد قال هذا الأمر بمجرد الإيحاء الذي جعله الله بينه وبينه لقالوا: هذا كلام منه هو؛ لذلك قال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لزيد: أمسك عليك زوجك، فينزل ربنا الأمر كله قرآنا، فلم يقل محمد: ألهمَني ربنا، أو ألقَى في رُوعي، لا، جاء هذا الأمر قرآنا، ولذلك يقدم الحق سبحانه وتعالى لهذه المسألة في سورة الأحزاب فيقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} [الأحزاب: 36 - 37] . فالله أنعم على زيد بالإسلام وأنعمت أنت يا رسول الله عليه بالتبني فلا تخش الناس أن يقولوا: طلق المرأة من زيد ليتزوجها. كأن زواج «زيد» من «زينب» ، كان لغاية واحدة وهي أن تكون «برة» التي سماها رسول الله «زينب» منكوحة لزيد الذي تبناه رسول الله بدليل: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} أي أدى المهمة، فأردنا أن نعطي الحكم: «زوّجنا» فمن الذي زوَّج؟ إنه الله، وليس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي تزوج. فإن كنتم تريدون أن تصعدوا المسألة فاتركوا رسول الله في حاله، وصعدوها إلى ربنا، فقوله سبحانه: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} يدل على أن أصل الزواج من البداية ممهد له، فالغاية منه أن يقضي زيد منها وطرا وهو متبنى رسول الله، ويكون هذا الزواج عن كره منها، إنها غير موافقة عليه، وتنتقل المسألة عند زيد إلى عزة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2105 ويقول: لا أريدها. ويذهب إلى الرسول ويقول: أريد أن أطلق «برّة» فيقول له الرسول: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} كأن الغاية من النكاح أن يقضي زيد منها وطرا وتنتهي الحكاية بالنسبة لزيد، ويأتي الحكم بالنسبة لرسول الله فيقول ربُّنا «زوجناكها» . فالذي يريد أن يمسك المسألة لا يمسكها على الرسول، لكن عليه أن يصعدها إلى ربنا، {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} . كأن العملية جاءت من أجل أن ما أبداه ربنا في زواج الرجل من مطلقة الولد المتبنى إذا قضى منها وطرا، هذا ما أبداه ربنا، إن الله حكم بأن الذي أخفاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيبديه، إن الوحي هو الذي بيّن السبب الباعث على زواج الرسول بزينب إنه قوله تعالى: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} . فالعلة في هذه العملية: يا ناس، يا محمد، يا زيد، يا زينب، أو يا من يحب أن يرجف، العلة في كل ذلك علة إلهية من كمال إلهي وعدل إلهي يتركز في قوله سبحانه: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} ، والأدعياء: هم الذين يتبنونهم من غير ولادة. وما دام ربنا يريد أمرا فلا بد أن يفعل، وأنتم آمنتم بأنه رسول، وإن لم تؤمنوا بأنه رسول يكون تكذيبكم برسالته أكبر من أنكم تنقدون تصرفه، فإن كنتم مكذبين أنه رسول، فما شأنكم إذن؟ إن تكذيبكم له كرسول هو أشد من أن تنقدوا تصرفا من تصرفاته بأنه تزوج ممن كانت امرأة ابنه المتبنى. وإن آمنتم بأنه رسول، فهذا الرسول مبلغ عن الله. إذن ففعل الرسول المبلغ عن الله هو الميزان للأعمال لا ما تنصبونه أنتم من موازين. أتقولون للرسول الذي أرسله ربنا كي يبلغ منهجه ويطبق هذا المنهج ويكون هو ميزاناً للتصرفات، تقولون له: سنأخذ تصرفاتك ونعيدها على الميزان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2106 الذي نضعه؟ ما كان يصح أن يفعل أحد هذا، فإن قلت ذلك فقد عملت الميزان من عندك، ونقلت الأمر إلى غير الحق، وهذا أول خطأ؛ فالأصل في الرسول أن كل فعل له هو الكمال، ولا تأتي أنت بميزان الكمال وتأتي للرسول وتقول له: كيف فعلت هذه العملية؟ لأنك عندما تقول ذلك فقد نصبت ميزان كمال من عندك، وتأخذ تصرف الرسول لتزنه بميزان الكمال من عندك، وهذا مناقض للحق لأنك آمنت بأنه رسول. وبعد ذلك يأتي بالقضية العامة ليقول سبحانه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 40] . وكلمة {أبا أحد} أي لم يكن أباً لأحد، ماذا تفهم منها؟ نفهم منها أنه أبوكم كلكم، {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ} لأنه أبو الجميع، بدليل أن أزواجه أمهاتكم، ومحرمات عليكم، فهو إذن والدكم كلكم؛ إذن فخذ بالك من دقة الأداء {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} وبمنطق الواقع هو أب لكم كلكم؛ لذلك هو لا يأخذ واحداً فقط ويقول: هذا ابني، لا، هو أب لكم كلكم. وكل المؤمنين أولاده بدليل أن أزواجه أمهات لهم، قد يقول واحد: لقد كان عنده أبناء. نقول له: إن أبناءه لم يبلغوا سن الرجولة، وهب أنهم بلغوا سن الرجولة حتى باعتبار ما سيكون فهؤلاء ليسوا رجالكم ولكنهم رجاله. {ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين} والرسالة وختم النبوة به فوق شرف الأبوة. وجاء الحق بذلك حتى لا يحزن زيد، فرسول الله قد شرفه، وإن شرفك يا زيد أنك كنت تدعى ابن محمد، فما يشرفك أكثر أنك مؤمن بمحمد كرسول، فالعظمة في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه جاء رسولاً. ولذلك قلنا: إن هذه جعلت بنوة الدم بلا قيمة عند الأنبياء، ونجد أن النبي جاء بسلمان وهو من فارس وليس من قبيلته ولا هو بعربي وقال: « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2107 سلمان منا آل البيت» . وقول الحق: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} بمفهوم العبارة ونضحها الذوقي والأدائي والأسلوبي أنه أبوكم كلكم، فلا ينفرد به أحد دون الآخر، {ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} وبعدما كان زيدٌ ابنَ محمد، أصبح زيدا ابن حارثة، ومحمد هو رسول الله، وما دمت أنت مؤمنا به - يا زيد - فرسول الله هذه تعوض إلغاء الأبوة بالتبني بالنسبة لك، ثم إنك داخل في الأبوة العامة من رسول الله للمؤمنين؛ لأنك آمنت به كرسول، إذن فعندما نحقق في هذه العبارة نجد أنه يُسلِّي زيداً أيضا. وخير من هذا - أنك يا زيد - إن فقدت بين الناس اسم زيد ابن محمد، وكنت تجعل ذلك شرفاً لك، فأنت الوحيد من صحابة رسول الله الذي يُذكر في القرآن باسمه الشخصي، وتصبح كلمة «زيد» قرآنا يُذْكر ويُتلى، ويتُعبد بتلاوته، ومحفوظا على الألسنة؛ ومرفوع الذِّكر، إذن فقد عوضك الله يا زيد، فقد قال الحق: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} وهب أنه بقي زيد ابن محمد، فما الذي يحدث؟ سنقرأها في السيرة، لكن يرتفع شرف ذلك عندما نقرأها في كتاب الله المعجزة المتعبد بتلاوته، الذي ضمن الله حفظه، فقد ضمن الله تخليد اسم زيد إلى أن تقوم الساعة، إذن فذكره كزيد ابن محمد في حياته أوْلى أو ذكر زيد في القرآن؟ إن ذكر اسمه في القرآن أولى، {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} . إذن فقول الحق سبحانه: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} يدل على أن حلائل الأبناء المتبنين حل لكم، بعد أن كانوا - في الجاهلية - يحرمون ذلك، ويقول الحق من بعد ذلك: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} وتحريم الجمع في الزواج بين الأختين لأن بينهما رحماً يجب أن تظل معه المودّة والرحمة والصفاء، لكن إذا كانتا تحت رجل واحد تحدث عداوة، {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} وهذا الجزء من الآية {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} مع استثناء الحق. في قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} قد حصل في فهمهما والمراد منهما خلاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2108 ونقول أولا المرأة في ملك اليمين ليس لها حق قِبَلَ سيدها في أن يطأها أو يستمتع بها، فملك اليمين لا يوجب على السيد أن يجعل إماءه أمهات أولاد. إن الأمام عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرّم الله وجهه - وسيدنا عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أخذ كل واحد منهما موقفاً، فسيدنا عثمان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين؟ فقال «لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرّمتهما آية» فتوقف رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ولم يفت. أما سيدنا علي فقد حرم الجمع في وطء الأختين بملك اليمين، أما التملك من غير وطء فهو حلال، وهذا هو الذي عليه أهل العلم بكتاب الله ولا اعتبار برأي من شذ عن ذلك من أهل الظاهر. ويتابع الحق: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} أي أن هذا الأمر ما دام قد سلف قبل أن يشرع الله، فهو سبحانه من غفرانه ورحمته لم يؤاخذنا بالقانون الرجعي، فلا تجريم إلا بنص ولا عقوبة إلا بتجريم، وما دام الحكم لم يأت إلا الآن فيطبق من الآن ولا يصح أن يجمع أحدٌ أختين تحته في نكاح أو في وطء بملك يمين، ولا يجمع أيضا بينهما في زواج من إحداهما ووطء بملك يمين لأخرى. ويقول الحق من بعد ذلك: {والمحصنات مِنَ النسآء ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2109 وقول الحق: {والمحصنات مِنَ النسآء} هو قول معطوف على ما جاء في الآية السابقة من المحرمات، أي سيضم إلى المحرمات السابقات المحصنات من النساء، ومن هن المحصنات من النساء؟ الأصل في الاشتقاق عادة يوجد معنى مشتركا. فهذه مأخوذة من «الحصن» ، وهو مكان يتحصن فيه القوم من عدوهم، فإذا تحصنوا فيه امتنعوا على عدوهم. . أما إذا لم يكونوا محصنين فهم عرضة أن يُغير عليهم عدوهم ويأخذهم، هذا هو أصل الحصن، والاشتقاقات التي أخذت من هذه كثيرة: منها ما جاء في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] . و {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} يعني أنها عفت ومنعت أي إنسان أن يقترب منها، وهنا قوله: {والمحصنات} في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، المقصود بها المتزوجات، فما دامت المرأة متزوجة، فيكون بضعها مشغولاً بالغير، فيمتنع أن يأخذه أحد، وهي تمتنع عن أي طارئ جديد يفد على عقدها مع زوجها. هذا معنى {والمحصنات مِنَ النسآء} ، فالمحصنات هنا هن العفيفات بالزواج، والحق يقول: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] . فما دامت الإماء قد أحصن بالزواج، هل يكن من المحصنات كالحرائر؟ لا، فهذه غير تلك، فهن لا يدخلن في المحصنات من الحرائر، وإلا لو دخلن في المحصنات يكون الحكم واحداً، فهو سبحانه يقول: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} ، وأصل الإحصان وهو العفة. . توصف به الحرة؛ لأن الحرة عادة لا يقربها أحد. وهذه امرأة أبي سفيان في بيعة النساء قالت: وهل تزني الحرة؟ كأن الزنا كان خاصا بالإماء؛ لأنهن المهينات وليس لهن أب أو أم أو عرض، قد يجترئ عليها أي واحد، وليس لها شوكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2110 ولا أهل، ولذلك جاء عقابها نصف عقاب الحرة؛ لأن الأمة يحوم حولها من الناس من تسوّل له نفسه فعل الفاحشة. إذن فالإحصان يُطلق ويراد به العفة، ويطلق الإحصان ويراد به أن تكون حرة، ويطلق الإحصان ويقصد به أن تكون متزوجة، وتُطلق المحصنات على الحرائر. فالوضع العام للحرة هو الذي يجعل لها أهلاً ولا يجترئ عليها أحد، لكن هَبْ أن امرأة متزوجة ثم حدث خلاف أو حرب بين قومها وبين المؤمنين وصارت أسيرة لدى المسلمين مع أنها متزوجة بطريقتهم في بلادها، وهي بالأسر قد انتقلت من هذا الزواج وجاءت في البيئة الإسلامية وصارت مملوكة، ومملوكيتها وأَسْرُها أسقطت عنها الإحصان، فقال: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} . إذن فهي بملك اليمين يسقط عنها الإحصان، وللمسلم أن يتزوجها أو أن يستمتع بها إذا دخلت في ملكه وإن كانت متزوجة لأن هناك اختلافاً في الدارين، هي في دار الإسلام، وخرجت من دار حرب فصارت ملك يمين، ولا يكون هذا إلاَّ بعد استبرائها والاستيثاق من خلو رحمها من جنين يكون قد جاءت به من قومها لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سبايا أوْطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض» وهذا تكريم لها لأنها عندما بعدت عن زوجها وصارت مملوكة ملك يمين فلم يرد الحق أن يعضلها بل جعلها تتمتع بسيدها وتعيش في كنفه كي لا تكون محرومة من التواصل العاطفي والجسدي، بدلاً من أن يلغ سيدها في أعراض الناس. {والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} و {كِتَابَ الله} يعني: كَتَبَ الله ذلك كتاباً عليكم، وهو أمر مسجل موثق، وكما هو كتاب عليكم فهو لكم أيضاً، ويقول الحق: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} . إذن فالمحرمات هن: محرمات نسب، ومحرمات رضاع، ومحرمات إحصان بزواج. {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أي أحل لكم أن تتزوجوهن، ولذلك قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ} أي تطلبوا {بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ} والمال نعلم أنه ثمرة الحركة. والحركة تقتضي التعب والمشقة، وكل إنسان يحب ثمرة عمله، وقد يدافع عنها إلى أن يموت دون ماله؛ لأن المال ما جاء إلا ثمرة جدّ، وحتى إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2111 ما جاء المال عن ميراث؛ فالذي وّرثك أيضاً ما ورَّثك إلا نتيجة كدّ وتعب، وعرفنا أن الذي يتعب مدّة من الزمن تساوي عشر سنوات قد يرزقه الله ما يكفيه أن يعيش بعدها مرتاحاً، والذي يتعب عشرين سنة قد يرزقه الله ما يكفيه أن يعيش ولده مرتاحاً، والذي يتعب ثلاثين سنة يعيش حفيده مرتاحا. إذن فكل ما تراه من مال موروث كان نتيجة جدّ وكدّ ومشقة من الآباء، وإذا ما قال الحق: {أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ} دلّ على أن مقابل البضع يكون من جهة الرجل. . {أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ} التي قال عنها سيدنا رسول الله: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» . وما دام المال عزيزاً على الإنسان وأخذه من طريق الحركة وطريق الجدّ وطريق العرق فيجب ألا ينفقه إلا فيما يعود عليه بالخير العاجل ولا ينسى الخير الآجل، فإن هو حقق به خيراً عاجلاً ثم سها وغفل عن شرّ آجل فهو لم يضع المال في موضعه. {أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ} و «محصنين» كما عرفنا لها معان متعددة. . «محصنين» أي متعففين أن تَلِغُوا وتقعوا في أعراض الناس. بأموالكم، أي ضع مالك الذي كسبته بكدّ فيما يعود عليك بالخير العاجل والآجل، فلا تلغوا به في أعراض الناس؛ لأنه من الممكن أن يبتغي إنسان لقاء امرأة بأمواله لكنه غير محصن، ونقول له: أنت حققت لذة ونفعاً عاجلاً ولكنك ذهلت عن شرّ آجل، يقول فيها ربنا: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ومنه أخذ السِفاح. فإياك أن تدفع أموالك لكي تأخذ واحدة تقضي معها وطراً. فكلمة «محصنين» تعني التزام العفة، وشرح الحق كلمة محصنين بمقابلها وهو: مسافحين، من السفح وهو: الصب، والصب هطول ونزول الماء بقوة، فالماء قد ينزل نقطة نقطة، إنما السفح صبّ، ولذلك سمي سفح الجبل بذلك لأن الماء ينزل من كل الجبل مصبوباً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2112 هنا يلاحظ أن الحق حين يتكلم عن الرجال يقول: «محصنين» بكسر الصاد، وحين يتكلم عن النساء يقول: «محصَنات» بالفتحة. لم يقل «محصِنات» بالكسرة، لأن العادة أن الذكورة هي الطالبة دائماً للأنوثة، والأنوثة مطلوبة دائما. {غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} والاستمتاع هو إدراك متعة للنفس، والمتعة توجد أولا في الخطبة، فساعة يخطب رجل امرأة فهذا استمتاع، وساعة يعقد عليها وساعة تزف له، هذه كلها مقدمات طويلة في الاستمتاع، لكن الاستمتاع ليس هو الغرض فقط، يقول لك: إذا استمتعت بهن فلا بد أن تعطيهن مهورهن، ولذلك إذا تزوج رجل بامرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها نقول له: ادفع نصف المهر؛ لأنك أخذت نصف المتعة، فلو أن المتعة هي العملية الجنسية فقط لم يكن قد أخذ شيئا وبالتالي فلا شيء عليه من المهر، لكن نقول: إن المتعة في أنه تقدم إلى بنت فلان وخطب وعقد، كل هذه مقدمات متعة، فعندما يكون ذلك فإنه يكون قد استمتع بعض الشيء. الحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نبني حياة الأسرة على طهر، وعلى أمن ملكات، فأنت تجد الرجل حين يكون بين أهله لا يجد غضاضة في أن يغلق عليها الباب، لكن تصور وجوده مع امرأة دون زواج، فالملكات النفسية تتصارع فيه، ويتربص، ويمكننا أن ننظر رجفته إذا سمع أي شيء، لأن ملكاته ليست منسجمة، هو سيمتع ملكة واحدة. لكن الملكات النفسية الباقية ملكات مفزعة، مما يدل على أن ما يفعله ليس أمرا طبيعيا، وما دام ليس أمرا طبيعيا فالملكات النفسية تناقضه، الحق سبحانه وتعالى يريد أن تُبِنى الأسرة على طهر وعلى أمن، وهذا الأمن النفسي يعطي لكل ملكات النفس متعة. وقلنا من قبل إن الإنسان إذا كان له بنت ثم رأى شابا يمر كثيرا على البيت ويلتفت كثيرا إلى الشرفة، ثم يقع بصر والد البنت عليه، ماذا يكون موقفه؟ تهيج كل جوارحه، فإذا ما جاء الولد أو أبوه وطرق الباب وقال: يا فلان أنا أريد أن أخطب ابنتك لنفسي، أو أريد ابنتك لابني. ماذا يكون موقف والد الفتاة؟ إنه السرور والانشراح وتصبح الملكات راضية والنفس مطمئنة، ويتم اعلان البهجة وهو الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2113 يدعو الناس ويقيم فرحا؛ لأن الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى حينما شرع الالتقاء، أعطى في النفس البشرية وفي ذراتها رضا بهذا الحكم بالالتقاء. ولذلك رُوى: «جَدَعَ الحلال أنف الغيْرة» . أي أن من يغار على ابنته هو الذي يوجه الدعوات لزواجها، فكأن الغيرة فيها حمية، وإن طُلِبَ عرض عن غير طريق خالق الأعراض فلا بد أن تهيج النفس، فإن طلبها على وفق ما شرع خالق الأعراض تطمئن النفس. وهذه عملية قد يكون من الصعب تصورها، فما الذي يسبب الرضا، ومن الذي يدفع في القلب الحمية والغضب والثورة؟ إنه - سبحانه - هو الذي يفعل ذلك. والإنسان عليه أن يلتفت إلى أن كلاً منا مكون من ملكات متعددة، فعقد الزواج وقول: «زوجني» و «زوجتك» وحضور الشهود، ماذا يعمل في ذرات تكوين النفس لكي تُسر؟ إنها إرادة الحق. وهذا شيء معروف وأنت حين يكون لك إنسان تعرفه فقط، والإلف السيال بينك وبينه مالز في أوله ما يكفي عندما تقابله أن تلقي عليه السلام وينتهي الأمر، لكنْ هناك إنسان آخر لا يكفي هذا السيال الودي بينك وبينه، بل لا بد أن تسلم عليه بيدك؛ لأن هناك جاذبية ومودة ولكل منهما تأثير. إذن فعملية الود والولاء أمر يصنع تغييرا كيماويا في النفس، ويكون التنافر إذا ما جاء اللقاء عن طريق ما حرم الله، والذي يأتي عن طريق ما شرع الله يحقق التجاذب. والشاعر عندما خاطب من يحبه قال: بأبي من وددته فافترقنا ... وقضي الله بعد ذاك اجتماعا وتمنيته فلما التقينا ... كان تسليمه عليَّ وداعا كأن الشاعر يريد تطويل أمد التسليم ومسافته كي يغذي ما عنده من الود، وكأنه يريد أن يقول: أنا التقيت مع من أوده فاختفى في واختفيت فيه، وهذا ناشيء من الامتزاج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2114 إذن فالتكوين العاطفي أو السيال أوجده الله كسيال التقاء. هذا إذا ما كان على شرع الله، أما في الحالة الأخرى فهو سيال كراهية. وما الذي يسبب ذلك؟ إنه عطاء من الله وهو خالق الرجل وخالق المرأة، فساعة يجيء اللقاء على وفق ما شرع الله فلا تستبعد أن يعدل الخالق الذرات، فعندما يحدث الامتزاج فلا بد أن الوفاء يأتي كنتيجة طبيعية وكذلك الولاء، ويتحقق الانسجام هذا إيجاب، أما إذا كان اللقاء على غير طريق الله فلا انسجام فيه وهذا سلب. إذن فالحق سبحانه وتعالى يبني الأسرة على هذا المعنى. وأنتم تعلمون أن الالتقاءات التي تحدث عن غير طريق الله إنما تحدث في الخفاء، ومنكورة الثمرة، فإن جاء منها أثر وحمل فسيلقى الوليد في الشارع ويكون لقيطا وقد يميتونه، إنما الثمرة التي تأتي بالحل فالكل يفرح بها. فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذلكم أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} والاستمتاع أشياء كثيرة، وجاء الشيعة في قوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . وقالوا: هذا نكاح المتعة بدليل أنه سبحانه سمى ما أخذ في نظير ذلك أجراً ونقول: كلمة «أجر» هذه واردة في الزواج، فسيدنا شعيب عندما جاءه سيدنا موسى عليه السلام قال له: أعطني أجر ثماني حجج. وسيأتي في الآية نفسها التي يتقولون بها ويقول: «وآتوهن أجورهن بالمعروف» . فسمى المهر «أجراً» أيضا، فلماذا تأخذون هذا المعنى؟ هم يقولون: نكاح المتعة حدث، ونقول لهم: نكاح المتعة حدث ولننظر إلى أسبابه. إن هذا النكاح قد حصل على يد مشرع وله حكمة، ولكن ماذا بعد أن أنهى المشرع هذا الحكم وانتقل إلى الرفيق الأعلى؟ لقد أنهى الحكم، إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحل زواج المتعة في فترة وجيزة حينما كانوا في غزوة من الغزوات، وذهب قوم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنهم يريدون أن يبنوا حركة حياتهم على الإيمان الناصع. كان من الممكن أن يواروا هذه المسألة عن الرسول، إنهم قالوا له: يا رسول الله أنستخصي؟ أي نخصي أنفسنا؟ فما دام الجهاد يَطلب منا أن نكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2115 في هذا الموقع بعيدا عن أهلنا فلنستخص حتى لا يكون عندنا رغبة. فأباح لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زواج المتعة؛ ولكنه أنهاه، والدليل على أنه أنهاه، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وأنتم تعلمون منزلته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من التشريع في أحكام الله، إنه كان يقترح الاقتراح فينزل القرآن موافقا له، يقول عمر: ما يجيء واحد ليستمتع إلى أجل إلا رجمته. إذن فانتهت المسألة، وسيدنا علي - كرم الله وجهه - أقر نَهْي سيدنا عمر، وقالوا: إن ابن عباس قال به: لكنه قال: إنني كنت قد أخطأت فيه، ونعلم أن صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يجلسوا في فصول تعليمية لسماع الوحي، بل كان كل منهم يذهب إلى رسول الله بعد أن يفرغ من عمله، فهذا سمع وذلك لم يسمع. وهذا هو السبب في أن هذا يروى وذاك لم يرو، فسيدنا ابن عباس قال: إنني كنت أعرف مسألة المتعة، ولم يصح عندي خبر منعها إلا في آخر حياتي. إذن فقول الشيعة: إن المتعة موجودة هو نتيجة استدلال خاطئ، فقوله سبحانه: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} علينا أن نقرنه بقوله أيضاً في المهور في الآية التالية: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} لأن هناك فرقاً بين الثمن وبين الأجر، فالثمن للعين، والأجر للمنفعة من العين، ولم يملك الرجل بمهره المرأة. إنما ملك الانتفاع بالمرأة، وما دام هو ملْكَ انتفاع فيقال له أجر أيضاً. {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} أي أن الذي فرض ذلك هو ربنا. {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} ونلحظ هنا أن هناك فرقاً بين أن يشرع الحق لحق، وأن يترك باب الفضل مفتوحا، فمن حقها أنها تأخذ المهر. لكن ماذا إن تراضت المرأة مع الرجل في ألا تأخذ المهر وتتنازل له عنه؟ أو أن يعطيها أكثر من المهر؟ هذا ما يدخل في قوله تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} ، فلا لوم ولا تثريب فيما يتراضى به الزوجان من بعد الفريضة، وكلمة «تراضيتم» تدخل في قوله سبحانه: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2116 وفي عصرنا نجد أن المرأة تأخذ مهرها من الرجل وتجهز منه أثاث البيت، مع أن المفروض أن يجهز الرجل لزوجته البيت وأن يبقى المهر كاملاً لها، ولكن التعاون هو الذي يعطي العطف والتكاتف. ويذيل الحق الآية: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} إذن فكل أحكام الله مبنية على العلم بما يصلح خلقه، ولا يغيب عنه أمر كي يؤخر تشريعه، فتأخير التشريع يعني: أن الذي شرع غاب عن ذهنه جزئيات ما كانت في باله ساعة شرع، وحين يأتي الواقع يأتي له بجزئيات لم تكن موجودة، فيضطر إلى إصدار تشريع جديد يستدرك به ما لم يكن في باله. والذين يقولون: إن التشريع الإلهي لا يغطي حاجة البشر نقول لهم: من الذي سيغطيه؟ أنتم يا مفكرون أتعدلون على الله؟ إن الله يكشفكم أنكم تأتون بتقنينات، وبعد ذلك يظهر عيبها وعوارها وأخطاؤها فتضطرون أن تعدلوا، فسبحانه عليم حكيم. فإن أخر حكما عن ميعاده فقد اقتضت الحكمة أن يكون كذلك. ومثال ذلك تحريم الخمر، لم يجيء به مرة واحدة، لأن الشيء الذي تحكمه العادة والإلف، لا بد فيه من التريث، وأن يصدر التشريع على مراحل، وكل مرحلة تسهل المسألة بالنسبة لما سبقها، ويكون الأمر صعبا إذا كان التشريع دفعة واحدة لأن ترك العادة دون تدرج يكون عسيرا شاقا؛ لأن أهم شيء في الخمر أنها تقود إلى الاعتياد، بدليل أن مدمن الخمر عندما يمر عليه الوقت يضطرب فيأخذ كأسا ليستريح، وأول مرحلة في التحريم أن الحق كسر الاعتياد، وما دامت هي عادة متغلغلة فمن الصعب جدا أن ينزعها صاحبها من نفسه مرة واحدة. فأولا جاء الأمر كعظة، وبعد ذلك يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} . وما دامت لا تشربها وأنت تصلي فكم مرة تصلي؟ خمس مرات في النهار، إذن فعودك أن تترك وقتا من الأوقات غير ملتبس بالخمر، وتكون قد تعودت على ترك الخمر طوال النهار، وبعد ذلك يتدرج فيقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2117 لكن الأحمق عادة يرجح الإثم ويفعله، وما دام سبحانه قال: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} إذن فالإثم يترجح. وبعد ذلك جعلها بعلمه - سبحانه - أمراً نهائيا، والحكمة شاءت أن يكون التحريم بالتدريج. ويطمئننا الحق على أن علمه وحكمته منوط بها إخراج الأحكام، ولذلك قال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] . وسبحانه عليم لا يخفى عليه شيء، ويعلم أن امرأة أحبت زوجها لدرجة أن هذا الأجر ليس له قيمة، أو رجل أحب زوجته أيضاً لدرجة أن النقود ليس لها قيمة عنده، وما دام سبحانه حكيم. فهو قد يجري الأمور لا بحتمية ما افترض، ولكن بإبقاءٍ على فضل المتعاملين. ويقول الحق بعد ذلك: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2118 والاستطاعة تعني أن يدخل الشيء في طاعتي فلا يعصى ولا يتأبى علي، وافرض أنني أمسكت قطعة حديد ولويتها، هنا تكون قطعة الحديد قد دخلت في طوعي، الآخر، فالذي لم يتقبل الله منه القربان قال: {لأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة: 27] . فماذا كان ردُّ الذي تلقى التهديد؟ قال: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} [المائدة: 28 - 30] . ما معنى «طوعت له» ؟ طوعت يعني: جعلته في استطاعته، وعندما نمعن النظر في {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} نجد أن «الهاء» تشير إليه هو، وذلك يدل على أن الإنسان فيه ملكات متعددة؛ ملكة تقول: اقتله، وملكة أخرى تقول له: لا تقتله. ضميره يقول له: لا تفعل، والنفس الأمارة بالسوء تقول له: اقتل، ويكون هو مترددا بين الأمرين. وقوله الحق « {فَطَوَّعَتْ لَهُ} دليل على أن نفسه كانت متأبية عليه، لكن النفس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2119 الأمارة بالسوء ظلت وراءه بالإلحاح حتى أن نفسه الفاعلة طوعت له أن يقتل أخاه، ومع أن نفسه طوعت له أن يقتل أخاه إلا أنه أصبح بعد ذلك من النادمين، وبعدما أخذ شهوته من القتل نَدم، ويأتي هذا الندم على لسانه: {يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] . أنت الذي قتلته، لكنك أصبحت من النادمين. لماذا؟ لأن ملكات الخير دائما تُصعد عمل الخير وتحبط عمل الشر. والإنسان قد يبدأ شريرا، وإن كانت ملكاته ملكات خير غالبة، فهو ينزل من هذا الشر العالي ويخففه، وإن كانت ملكات الشر غالبة فهو يبدأ في الشر قليلا ثم يصعده، فيقول في نفسه: فلان فعل فيَّ كذا وأريد أن أصفعه صفعة، وبعد ذلك قد يرفع من شره فيقول:» أو أضربه ضربة «. لكن إذا كان الإنسان خيِّراً، فيقول:» فلان كاد لي، أريد أن أضربه رصاصة أو أضربه صفعتين أو أوبخه «إنه ينزل من الشر ويصعد من الخير. كما في قصة سيدنا يوسف وإخوته حين قالوا: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 8 - 10] . إنهم أسباط، وأولاد النبي يعقوب، فيقللون من الشر، يخففونه مباشرة قائلين: {أَوِ اطرحوه أَرْضاً} يعني يلقونه في أرض بعيدة، إذن فخففوا القتل في نفس واحد، كيف تم هذا الانتقال من القتل إلى اطرحوه أرضا؟ ثم خففوا الأمر ثانية حتى لا يأكله سبع أو يتوه، فقالوا: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2120 إذن فقوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ} أي من لم يستطع دخول الشيء في طوعه أو أن تطوله يداه، وهذا هو المقصود بالطول، «فطالته يده» يعني صار في استطاعته، وفلان تطول عليّ، أي تفضل عليّ بشيء، «وفلان تطاول عليّ» أي ما كان يصح أن يجتريء عليّ، وكلها من الطول، و «طولا» : تعني قدرة تطول به الزواج بمن تحب أي أنت لا تملك مالا ولا تستطيع الطول، فهناك مرحلة أخرى، لا داعي للحرة لأن مهرها غالٍ غالبا؛ فخذ من الإماء الأسيرات لأن مؤنتهن ونفقتهن خفيفة، وليس لها عصبة ولا أهل يجادلونك في المهر، فقال: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات} . . والذي نلمحه في الآية أن نكاح ما ملكت اليمين يكون لغير مالكها؛ لأن مالكها لا يحتاج ذلك، إنه يستمتع بها ويتغشاها؛ لأنها ملك يمينه وليست مملوكة للغير. إذن فقد أباح الله للمسلم أن ينكح مما ملكت يمين غيره على شرط أن يكون ذلك بإذن مولاها؛ لأنها بالزواج تقتطع جزءاً من وقتها وخدمتها لمن يملك ورقبتها، فلا بد أن يُستَأذَن حتى يكون أمر انقطاعها إلى الزوج في بعض خدماته مما هو معلوم لأوليائهن، وأمر أيضا سبحانه ألا نستهين بأنها مملوكة ومهينة فلا نأتيها مهرها. بل يجب أن يُؤدي لهؤلاء مهورهن بما يعرف، أي بالمتعارف عليه؛ لأن ذلك عوض البضع، فإذا كان الحق قد أمر بأن نستأذن مواليهن وأمر بأن نأتيهن أجورهن، هنا بعض الإشكال لأَنَّ المملوكة لا تملك؛ لأن العبد وما ملكت يداه لسيده. نقول له: نعم، ولكن إذا قلت: العبد وما ملكت يداه لسيده فلا بد أن تحقق لها ملكا أولا ثم يكون ما تملكه لسيدها. . أما أن تتعداها وتعطي المال لسيدها فإنها في هذه الحالة لم يتحقق لها مهر، فقولك: العبد وما ملكت يداه، أي أعطها فترة وفرصة لتكون مالكة بأن تُعطي الأجر تكريما لها، أما كون ما لها لسيدها فهذا موضوع آخر. وبعد ذلك تذهب لتتزوجها إن ذلك يصح، فهل نفهم من ذلك أنك إن استطعت طوْلا لا تنكح الإماء؟ لا. وهل هذا يقلل من شأن الإماء؟ لا. لماذا؟ انظر للحكم العالية التي لا يقولها إلا رب. الله يريد أن يصفي مسألة الرق، فحين يأتي واحد ويتزوج أمة مملوكة لغيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2121 فأولادها يتبعونها في الرق. فالأولاد في الدين تتبع خير الأبوين، وفي الحرية والرق يتبع الأولاد والأم، فإذا ما تزوج إنسان أَمَةً مملوكة لغيره فأولادها الذين سيأتون يكونون عبيدا. وحين يتركها لسيدها ويتزوج غيرها من الحرائر، فمن تلده من سيدها يكون حرا، إذن فسبحانه يريد أن يصفي الرق، هذه واحدة، الشيء الآخر أن الزواج: التقاء الذكر بالأنثى ليكونا نواة أسرة، فإذا ما كان الزوج والزوجة أكفاء. فالزوج لا يجد في نفسه تعاليا على الزوجة، والزوجة لا تجد في نفسها تعاليا على الزوج؛ لأن كل واحد منهما كفء للآخر، وهذه تضمن اتزان الحياة واتزان التعامل، لكن حين يتزوج واحد أمةً ليس لها أهل فقد يستضعفها وقد يستعلي عليها. وقد يذلها. وقد يعيرها، وحين يكون لها أولاد قد يقولون لهم: ليس لكم خال مثلا. والمشرع يريد أن يبني حياة أسرية متزنة، ولذلك اشترط الكفاءة، وقال: {والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] . وبعض من الناس تفهم عندما ترى طيبة فلا بد أن يتزوجها رجل طيب، نقول لهم: إن هذا تشريع والتشريع تكليف وعرضة أن يطاع وعرضة أن يعصى، فسبحانه حين يشرع أن الطيبات يكن للطيبين والخبيثات للخبيثين، فإن طبقتم التشريع تكون المسائل مستقيمة، وهذا يحمل الرد على من يقولون: ما دام ربنا يقول: {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} فكيف يتزوج فلان بفلانه وأحدهما طيب والآخر خبيث؟ ونقول: إن هذا الحكم ليس في قضية كونية حادثة، بل هو قضية تشريعية تقتضي منا أن نتبعه وأن نجعل الطيبين للطيبيات والخبيثين للخبيثات ليتحقق التوازن. فإن كان خبيثا وقال لها: أنت كذا وكذا تقول له: أنت كذا وكذا. فلا يقول هذه كي لا تقول له مثلها، أما الإنسان الطيب فهو يلين جانبه مرة وهي طيبة وتلين جانبها مرة. {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} كلمة {المحصنات} تعني هنا الحرائر؛ لأنها لو كانت متزوجة فلن تكون محل تزويج لآخر. {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات} وكلمة «فتى» نطلقها في الحر على من له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2122 فتوة وشباب، ونطلق كلمة فتاة على أي أَمَة ولو كانت عجوزاً، وعلمنا رسول الله ألا نقول: هذا عبدي وهذه أمتي. وإنما نقول: «فتاي» و «فتاتي» . {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} ويتساءل البعض: وهل يتزوج الإنسان ممن يملكها؟ نقول له: لا. إنها حلال له فهي مملوكة له ملك يمين ويستطيع أن يكون له منها ولد، إذن فتكون ما ملكت أيمان غيركم، لأن الله يخاطب المؤمنين على أنهم وحدة بنيانية، وقال رسول الله عليه السلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» . ويقول الحق: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] . ويقول في موضع آخر: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله} [النور: 61] . فهل يسلم المؤمن على نفسه أو يسلم على من دخل عليهم؟ إن الحق يريد بالتشريع أن يجعل المؤمنين كالجسد الواحد، ولذلك قال أيضا: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . أي لا تقتلوا غيركم، والمعنى هو أن الوحدة الإيمانية يجب أن تجعلنا متكاتفين في وحدة. {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} . وقد تقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2123 إن إيمان ملك اليمين ضعيف وتجعلها علة. يقول لك الحق: لا {والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} ولعل أمة خير في الإيمان منك؛ لأن هذه مسألة دخائل قلوب، وأنت يكفيك أن تعلم الظاهر. والحق سبحانه وتعالى حين يعالج الأمر يعالجه معالجة رب. يعلم واقع ما خلق ويعطي كل مطلوبات المخلوق، هو أولا أوضح: أنتم إن كنتم لا تستطيعون طولا أن تنكحوا المحصنات فانكحا الإماء، وهذا من أجل مزيد من تصفية الرق. بعد ذلك يقول: {والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ} فإن كنت ستتزوج يجب أن تجعل نصب عينيك أمرا هو: أن {بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ} . أي أنكم جميعا من آدم. وما دمت قد آمنت، فالإيمان سوَّى بينكما، فإذا ذهبت لتتزوج فلا بد أن تضع هذا نصب عينيك، إنه سبحانه يعالج واقعا. ويقول بعد ذلك: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} . وهذا إشعار بأن من تحت يده فتاة بملك يمينه فعليه أن يعاملها معاملة الأهل ليعوّضها عما فقدته عند أهلها هناك، ولتشعر أنها في حضانة الإسلام مثلما كانت في حضانة أهلها وآبائها أو أكثر. إذن فالذي يملك لا بد أن يجعل نفسه من الأهل، وبذلك يزيد الحق سبحانه وتعالى من أبواب تصفية الرق، وأوضح: فإن لم يُدخل واحد منكم مَن يملكه في هذه المصافي فسوف يبقيه رقيقاً، وإذن فعليه أن يعطمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه ما لا يطيق، فإن كلفه ما لا يطيق فيدك بيده. وعندما يوجد معك إنسان تلبسه من لبسك وتطعمه من أكلك، وعندما يعمل عملاً يصعب عليه فأنت تساعده، فأي معاملة هذه؟ إنها معاملة أهل. انظر كم مسألة يعالجها الحق: يعالج طالب الزواج ويعالج المملوكة، ويعالج السادة، إنه تشريع ربّ الجميع. فلا يشرع لواحد على حساب آخر. وما دامت ملك يمين ولها سيّد فهذا السيد له مصالح لا بد أن تستأذنه، فقد لا يستطيع أن يستغني عنها لأنها تخدمه، فقال: {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} ، لكن في المهور قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2124 {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف} فالأمة تنكح بإذن من يملكها كي يعرف أن هناك من دخل شريكا له في العملية ويأخذ البضع وهو الزوج، وحين يُستأذن السيد ويزوّجها فهو يعلم أنها لم تعد له، وبذلك لن يأخذها أحد من خلف ظهره، وهو بالاستئذان والتزويج يرتب نفسه على أن البضع قد أغلق بالنسبة له، وبقيت له ملكية الرقبة. أما ملك البضع فهو للزوج. {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف} فإياكم أن تقولوا: هذه مملوكة يمين وأي شيء يرضيها ويكفيها، لا. فلها مهر بالمعروف أي بالمتعارف الذي يعطيها ميزان الكرامة في البيئة، {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} وقلنا: إن المحصنة هي العفيفة، {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} والمسافحة؛ هي من تمارس وتزاول عملية الزنا، ويسمونها: امرأة عامة، ومتخذات أخدان: أي يتخذن عشاقا وأخدانا. {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} أي إذا تزوجت الإماء وجاءت الواحدة منهن بفاحشة فلها عقاب. أما إن لم تحصن فليس عليهن حاكم ويقوم سيدها بتعزيرها وتأديبها؛ لأن الأمة عادة مبتذلة، لكن عندما تتزوج تصير محصنة، فإن أتت بفاحشة نقول لها: أنت لك عقابك الخصوصي، لن نعاقبك عقاب الحرّة، لأن الحرة يصعب عليها الزنا، لكن الأمة قد لا يصعب عليها أن يحدث منها ذلك، فليس لها أب ولا أخ ولا أسرة، فقال: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} ، أي نصف ما على الحرائر من العذاب. لكن الخوارج أخذوا الكلمة في معنى من معانيها ليخدم قضية عندهم وقالوا: إن {المحصنات} هن المتزوجات، هم يريدون أن يأخذوها بمعنى المتزوجات كي يقولوا: ما دامت الأمة عليها نصف ما على المتزوجة، إذن فالمتزوجة ليس عليها رجم؛ لأن الرجم لا ينصف. . والخوارج أخذوا هذه وقالوا: إن القرآن لا يوجد فيه رجم واكتفوا بجلد الزانية مائة جلدة. ونقول لهم: أنتم أخذتم المحصنة على معنى أنها المتزوجة، ونسيتم {وَمَن لَّمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2125 يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات} . . فالمحصنات هن الحرائر، فلماذا أخذتم المحصنات هناك بمعنى الحرائر والمحصنات هنا بمعنى المتزوجات؟! إن عليكم أن تأخذوها بمعنى الحرائر ولا حجة لكم في مثل هذا الباطل. وبذلك تسقط الحجة، فالدليل إذا تسرب إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. ثم نبحث بحثاً آخر، نقول: يقول الحق: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} لو أن الحكم على إطلاقه لما قال الحق: {مِنَ العذاب} ، فكأن الذي عليها فيه النصف هو العذاب، وما هو العذاب؟ العذاب هو إيلام من يتألم، والرجم ليس فيه عذاب لأنه عملية إنهاء حياة، والآية تبين المناصفة فيما يكون عذاباً، أما ما لا يكون عذاباً فهو لا ينصّف والحكم غير متعلق به. فالعذاب إنما يأتي لمن يتألم، والألم فرع الحياة. والرجم مزيل للحياة، إذن فالرجم لا يعتبر من العذاب، والدليل على أن العذاب مقابل للموت أن الحق سبحانه وتعالى حينما حكى عن سيدنا سليمان وتفقده الطير قال: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 20 - 21] . فالذبح وإزهاق الحياة مقابل للعذاب، فقوله: {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} فالمتكلم فيه الآن العذاب وليس الرجم، وليس إزهاق الحياة وبهذا يسقط الاستدلال. والذين يقولون: إن آيات القرآن لا تدل على رجم نقول لهم: ومن الذي قال لكم إن القرآن جامع لكل أحكام منهج الله في الإسلام وأنه فصل كل شيء؟ . . القرآن لم يجيء كتاب منهج فقط، وإنما جاء معجزة وكتاب منهج للأصول، ثم ترك للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يبين للناس ما نزل إليهم فضلا على أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنص القرآن عنده تفويض من الله أن يشرع، وتلك ميزة تميّز بها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاتم الأنبياء والمرسلين فالله قد أعطاه الحق في أن يشرع، بدليل أنه سبحانه قال في صلب القرآن الذي يشتمل على أصول منهج الإسلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2126 {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . إذن فللرسول عمل مع القرآن، وإلا فليقل لي من يدّعي أنّ في القرآن كل حكم من أحكام دين الله، من أين أخذ تفصيل حكم الصلوات الخمس؟ ومن أي آية أخذ أن الصبح ركعتان؟ وأخذ الظهر أربعاً وأخذ العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، من أين أخذها؟! إذن لا يوجد شيء من ذلك، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن القرآن جاء كتاب معجزة وفيه منهج يتعلق بالأصول. وما دام المنهج الذي تعلق بأصول الأشياء قد أعطى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشرع، إذن فتشريعه مأمور به ومأذون فيه من صلب القرآن. ولذلك إذا جاء لك حكم من الأحكام وقال لك المتعنت: هات لي هذا الحكم من القرآن، ونظرت في كتاب الله فلم تجد، فقل له: دليل الحكم في القرآن هو قول الله: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} ، وأي حكم من الأحكام يأتي ولا تجد له سنداً من كتاب الله ويقال لك: ما سنده؟ قل: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} . والمنهج أوامر ونواهٍ. إذن فالطاعة أن تمتثل أمراً وتجتنب نهياً، تلك هي الطاعة، كل منهج أو دين أمر ونهي، فامتثل الأمر واجتنب النهي. وأنت إذا تصفحت القرآن وجدت آيات الطاعة المطلوبة من المؤمن بمنهج الله والذي شهد بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله تتمثل في الأمر والنهي. فإذا ما استقرأت القرآن وجدت - كما قلنا سابقاً - أن الحق سبحانه وتعالى يقول مرة في الطاعة: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} [آل عمران: 32] . ولم يكرر الحق هنا أمر الطاعة، فالمطاع هو المكرر، ف «أطيعوا» أمر واحد، نطيع من؟ . . الله والرسول. المطاع هنا هو الله والرسول، ومرة يكرر أمر الطاعة فيقول: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [المائدة: 92] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2127 ورمة ثالثة يقول: {وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] . ومرة رابعة يقول: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59] . وأدخل هنا أولي الأمر أيضاً، إذن فمرة يأمر بالطاعة ويكرر المطاع فقط. أي: يوحد أمر الطاعة، ويكرر المطاع {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} ، فوحد أمر الطاعة وكررالمطاع، ومرة يكرر أمر الطاعة، ويكرر معها المطاع: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} ، ومرة يقول: {وَأَطِيعُواْ الرسول} فإذا قال لك: «أطيعوا الله والرسول» فالأمر قد توارد فيه حكم الله وحكم الرسول. إذن فتطيع فيه الله والرسول، وإذا كان الله أمر إجماليٌّ وللرسول أمر تفصيليٌّ كالصلاة والزكاة والحج، إذن فتطيع الله وتطيع الرسول. وإذا لم يكن لله أمر فيه بل جاء من باطن التفويض في قوله سبحانه: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} ، فهذا الأمر أطيع فيه الرسول، لأنه جاء في آية أخرى قوله: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} ، لماذا؟ لأن الرسول عمل بالتفويض الذي أعطاه الله له حسب قول الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2128 لقد قلنا: إن الطاعة امتثال أمر واجتناب نهي. . والموجود هنا «آتاكم» و «نهاكم» ؛ ف «آتى» هذه جاءت بدل وما أمركم والنهي موجود بلفظة {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} الأمر هو «آتاكم» ، ولماذا لم يقل: وما أمركم به الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا؟ ولماذا لم يختصر فيقول: وما آتاكم الرسول فخذوه؟ {لأن الإتيان من الرسول إما أن يكون قولاً، وإما أن يكون فعلاً، ولكن أيكون المنهيّ عنه فعلاً يفعله الرسول؟} لا يمكن. إذن فالنهي لا يتأتى إلا نهياً ومنعا من الفعل، لكن الإيتاء يكون قولاً أو فعلاً؛ لأنه عندما يقول لك: لا تشرب الخمر، فماذا كان يفعل النبي كي نأخذه من الفعل؟ إن الرسول قطعا لم يشرب الخمر. إذن فقول الرسول وفعله يتأتى في المأمور به، وأما في المنهي عنه فلا يتأتى إلا قولاً. بالله أمِنَ الممكن أن يأتي بهذا عقل بشرى؟ لا يمكن، ولا يقولها إلا الله. ثم نبحث بحثاً آخر يا خوارج. إن الرسول إنما جاء ليبلغ عن الله - ومراد التبليغ أن يعلمنا بالحكم، لنؤدي مدلولة، فإذا جاء حكم قولاً بالنص، فالذي يشرحه لنا هو ما يفعله الرسول، وحين يفعله الرسول أيوجد مجال للكلام في هذا النص؟ لا يوجد، بل تكون المسألة منتهية. إذن فالفعل أقوى ألوان النص في الأوامر؛ لأن الأمر قد يأتي كلاماً نظرياً، وقد يتأول فيه البعض. لكن عندما يفعل الرسول يكون الحكم لازماً؛ لأن الذي فعل هو المشرع. أرجم رسول الله أم لم يرجم؟ قد فعل رسول الله ذلك، وفعله هو نص عمليّ. إنّ الفعل ليس نصاً قوليّاً يُتأول فيه. لقد رجم الرسول ماعزاً والغامدية ورجم اليهودي واليهودية وكانا قد أحصنا بالزواج والحرية. . وفعل الرسول هو الأصل في الحكم. فدليل الخوارج إذن قد سقط به الاستدلال وبقي ما فعله المشرع وهو الرسول المفوض من الله في أن يشرع قولاً أو فعلاً أو تقريراً، أي يرى أحداً يفعل فعلاً فيقرّه عليه. ثم نبحثها بالعقل: إذا كنت تريد ألا يوجد في الزنا حد إلا الجلد، أتسوي بين من لم يتزوج ومن تزوج؟ إن المتزوجة لها عرض ولها زوج ولها نسب ونسل. هل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2129 هذه مثل تلك التي لم تتزوج؟! إن هذا لا يتأتى أبدا بالعقل، إذن فحكم الرجم موجود من فعل الرسول، والدليل الذي استدل به الخوارج هو دليل تسرب إليه الاحتمال. والدليل إذا تسرب إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ} . ومن هو المقصود ب «ذلك» ؟ المقصود به إباحة نكاح الإماء لِمن لم يجد طوْلا أن ينكح من الحرائر. وما هو «العنت» ؟ «العنت» هو المشقة والجهد، وإرهاق الأعصاب، وتلف الأخلاق والقيم، لأن الإنسان إذا هاجت غرائزه إما أن يعف وإما أن ينفلت. فإن انفلت فقد تسرب الفساد إلى قيمه وإلى خلقه، وإن لم ينفلت والتزم، ماذا يحدث؟ سيقع بين أنياب المرض النفسي وتأتيه الأمراض العصبية. فأباح له الله أن يتزوج الأَمَةَ، إن لم يجد طوْلا في الزواج من الحرائر. وبذلك يكون مفهوم الآية: إن الذي لا يخشى العنت فليس ضروريا أن يتزوج الأَمَةَ. وليس هذا تزهيداً في الأَمَةِ بل فيه احترام لها، لأنها إن تزوجت ثم ولدت ممن تزوجته فسيصبح ولدها عبدا، والله يريد أن يصفي الرق والعبودية، فيوضح له: دعها لسيدها فإن أعجبته وَحَلَت في عينيه ووطئها وجاءت منه بولد فستكون هي والولد من الأحرار إنهما قد دخلا في دائرة الحرية. إذن فالحق يريد أن يصفي الرق، ثم قال: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي وصبركم عن نكاح الإماء. وأنتم في عفة وطهر عن مقارفة الإثم إن ذلك خير لكم من زواجهن، فنكاح الحرائر أفضل. ويذيل الحق الآية: بقوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إنه (غفور) لما قد بدر وحصل منكم من ذنوب استغفرتم ربكم منها {رحيم} بكم فلا يعاجلكم بالعقوبة شفقة عليكم وحبا في رجوعكم إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2130 ويقول الحق من بعد ذلك: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2131 ماذا يبين لنا؟ إنه - سبحانه - يبين القوانين الحاكمة لانتظام الحياة. . وقلنا إنه لا يمكن أن يوجد تجريم إلا بنص ولا توجد عقوبة إلا بتجريم. فقبلما يعاقبك على أمر فهو يقول لك: هذه جريمة ويُنص عليها، إنه لا يأتي ليقول لك: فعلت الشيء الفلاني وهذه عقوبته؛ لأنك قد تقول له: فعلت هذا الفعل من قبل ولم أعرف أنه جريمة وعليه عقوبة. إذن فلا يمكن أن تعاقب إلا إذا أجرمت، ولا يمكن أن تجرم إلا بنص، فيريد الله أن يبصركم ببيان ما تصلح به حركة حياتكم، والله آمن عليكم من أنفسكم، لأنه هو سبحانه الذي خلق وهو يعلم من خلق. إن سبحانه - وحده - الذي يقنن ما يصلح مخلوقه، أما أن يخلق هو وأنت تقنن فهذا اعتداء؛ لأنه سبحانه يقنن لما يعلم - ولله المثل الأعلى - وقلنا سابقا: إن المهندس الذي يصنع التليفزيون هو الذي يضع له قانون الصيانة؛ لأنه هو الذي صمم الآلة، وهو الجدير بأن يضع لها قانون صيانتها، فيعلمنا: المفتاح هذا لكذا، وهذا للصورة وهذا للصوت. إن الذي خلق الإنسان هو الذي يضع قانون صيانته المتمثل في «افعل ولا تفعل» ، وترك سبحانه أمورا لم يرد فيها افعل ولا تفعل، وهي متروكة على الإباحة، تفعله أو لا تفعله، إنه سبحانه: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ} ، والسنة هي الناموس الحاكم لحركة الحياة. والحق يقول: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2131 والرسل سبقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . وعرفنا الذين أطاعوا رسلهم ماذا حدث لهم، والذين كذبوا رسلهم ماذا حدث لهم. لقد قال الحق في شأنهم: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] . فالله يريد أن يبين لنا سنن من قبلنا، أي الطرائق التي حُكموا بها، وماذا حدث لأهل الحق وماذا حدث لأهل الباطل. إذن فهو ليس تقنينا أصم، بل هو تقنين مسبوق بوقائع تؤكده وتوثقه، {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وهو سبحانه يبين ويوضح ويتوب، {والله عَلِيمٌ} لأنه خالق، {حَكِيمٌ} يضع الأمر في موضعه والنهي في موضعه. فالحكمة هي: وضع الشيء في موضعه، وسبحانه يضعه عن علم، فالعلم يقتضي اتساع المعلومات، والحكمة هي وضع كل معلوم في موقعه. وبعد ذلك يقول سبحانه: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2132 سبحانه قال في الآية السابقة: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ، وبعد ذلك يقول: {وَيَهْدِيَكُمْ} ، وبعد ذلك: {يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ، فلماذا جاء أولا ب {يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وجاء هنا ثانيا ب {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2132 نقول: التوبة لا بد أن تكون مشروعة أولا من الله، وإلا فهل لك أن تتوب إلى الله من الذنب لو لم يشرع الله لك التوبة؟ أتصحُّ هذه التوبة؟ إنه سبحانه إذن يشرع التوبة أولا، وبعد ذلك أنت تتوب على ضوء ما شرع، ويقبل هو التوبة، وبذلك نكون أمام ثلاث مراحل: أولا مشروعية التوبة من الله رحمة منه بنا، ثم توبة العبد، وبعد ذلك قبول الله التوبة ممن تاب رحمة منه - سبحانه - إذن فتوبة العبد بين توبتين من الرب: توبة تشريع، وتوبة قبول. {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ، ما دام سبحانه قد شرع التوبة أيشرعها ولا يقبلها؟! لا، فما دام قد شرع وعلمني أن أتوب فمعنى ذلك أنه فتح لي باب التوبة، وَفْتَحُ باب التوبة من رحمة العليم الحكيم بخلقه؛ لأن الحق حينما خلق الإنسان زوده دون سائر الأجناس بطاقة من الاختيارات الفاعلة، أي أن الإنسان يستطيع أن يفعل هذه أو يفعل تلك، وجعل أجهزته تصلح للأمر وللنهي، فالعين صالحة أن ترى آية في كون الله تعتبر بها، والعين - أيضا - صالحة أن تمتد إلى المحارم. واللسان صالح أن تسب به، وصالح أن تذكر الله به قائلا: لا إله إلا الله وسائر أنواع الذكر. واليد عضلاته صالحة أن ترفعها وتضرب بها، وصالحة لأن تقيل وترفع بها عاثرا واقعاً في الطريق. هذا هو معنى الاختيار في القول وفي الفعل وفي الجوارح، فالاختيار طاقة مطلقة توجهها إرادة المختار، وإذا نظرت إلى اليد تجد أنك إذا أردت أن ترفعها، فإنك لا تعرف شيئاً عن العضلات التي تستعملها كي ترفع اليد. فالذي يرفع يده ماذا يفعل؟ وما العضلات التي تخدم هذا الرفع؟ وأنت ترى ذلك مثلاً في الإنسان الميكانيكي أو تراه في رافعة الأثقال - الونش - التي ترفع الأشياء، انظر كم عملية لتفعل ذلك؟ أنت لا تعلم شيئاً عن هذه المسألة في نفسك، لكنك بمجرد أن تريد تحريك يدك فأنت تحركها وتطيعك. وعندما يريد المهندس أن يحرك الإنسان الآلي فهو يوجهه بحسابات معينة ليفعل كذا وكذا، أما الإنسان فيحرك اليد أو القدم أو العين بمجرد الإرادة. والحق حين يسلب قدرة الإنسان - والعياذ بالله - يصيبه بالشلل، إنه يريد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2133 فلا تنفعل له اليد أو غيرها ولا يعلم ما الذي تعطل إلى أن يذهب إلى الأطباء ليبحثوا في الجهاز العصبي، ويعرفوا لماذا لم تنفذ أعصابه الأوامر، إنها عملية طويلة. إذن فالإنسان - عندما يريد الحركة - يوَجِّه الطاعة المخلوقة لله فقط، فليس له فعل في الحقيقة، فأنا إنْ أثابني الله وجازاني على طاعة فذلك لأنيّ وجهت الآلة الصالحة للفعل إلى عمل الخير، وعندما تسمع أنه لا أحد بيده أن يفعل شيئاً فهذا صحيح؛ لأن أحداً لا يعرف كيف يفعل أي شيء، إنه فقط يريد، فإن وجهت الطاقة للفعل فهذا عملك أنت. فمعنى الاختيار - إذن - أن تكون صالحاً للفعل ومقابل الفعل وهو الانتهاء والترك. وعندما يبين الحق سبحانه وتعالى لك وينزل لك المنهج الذي يقول لك: وجه طاقتك لهذه ولا توجهها لهذه، معنى ذلك أن طاقتك صالحة للاثنين. إذن فأنت مخلوق على صلاحية أن تفعل وألا تفعل، وما تركه المنهج دون أن يقول لك فيه «افعل» ولا «تفعل» فإن فعلته على أي وجه لا يفسد به الكون ولا تفسد به حركة حياتك فهذا هو المباح لك. وحينما شرع الحق سبحانه التوبة أوضح: أنه إذا انفعل مريد لعمل شيء فوجه طاقته لعمل شيء مخالف، قد تكون شهوته أو شٍرّته قد غلبت عليه، فتوجه في ساعة ضعف إلى عمل شرّ؛ لذلك شرعت التوبة لماذا؟ لأننا لو أخرجنا هذا الإنسان من حظيرة المطيعين بمجرد فعل أول عمل شرّ لصارت كل انفعالاته من بعد ذلك شروراً، وهذا هو الذي نسميه «فاقداً» ، فيشرع الحق: إن فعلت ذنباً فلا تيأس، فنحن سنسامحك ونتوب عليك. فساعة شرع الله التوبة رحم المجتمع من شراسة أول عاصٍ، فلو لم تأت هذه التوبة لكثرت المعاصي بعد أول معصية. ومقابل قول الحق: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وتنبيهه أن الذنوب التي فعلت قبل ذلك يطهرك منها بالتوبة، مقابل ذلك الذين يتبعون الشهوات ويريدون منك أن تأتي بذنوب جديدة؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ} والميل هو ملطق عمل الذنوب. إنك بذلك تميل عن الحق؛ لأن الميل هو انحراف عن جادة مرسومة لحكيم، والجادة هي الطريق المستقيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2134 هذه الجادة من الذي صنعها؟ إنه الحكيم. . فإذا مال الإنسان مرة فربنا يعدله على الجادة مرّة ثانية، ويقول له: «أنا تبت عليك» ، إنه - سبحانه - يعمل ذلك كي يحمي العالم من شرّه، لكن الذين يتبعون الشهوات لا يحبون لكم فقط أن تميلوا لمرّة واحدة، بل يريدون لكم ميلاً موصوفاً بأنه ميل عظيم. لماذا؟ . . لأن الإنسان بطبيعته - كما قلنا سابقاً - إن كان يكذب فإنه يحترم الصادق، وإن كان خائناً فهو يحترم الأمين، بدليل أنه إن كان خائناً وعنده شيء يخاف عليه فهو يختار واحداً أميناً ليضع هذا الشيء عنده. إذن فالأمانة والصدق والوفاء وكل هذه القيم أمور معترف بها بالفطرة، فساعة يوجد إنسان لم يقو على حمل نفسه على جادة اليم، ووجد هذا الإنسان واحداً آخر قدر على أن يحمل نفسه على جادة القيم فهو يصاب بالضيق الشديد، وما الذي يشفيه ويريحه؟ إنه لا يقدر أن يصوِّب عمله وسلوكه ويقوّم من اعوجاج نفسه؛ لذلك يحاول أن يجعل صاحب السلوك القويم منحرفاً مثله، وإن كانت الصداقة تربط بين اثنين وانحراف أحدهما فالمنحرف يستخذي أمام نفسه بانحرافه، ويحاول أن يشد صديقه إلى الانحراف كي لا يكون مكسور العين أمامه. وهو لا يريده منحرفاً مثله فقط بل يريده أشد انحرافاً؛ ليكون هو متميزاً عليه. إذن فالقيم معترف بها أيضاً حتى لدى المنحرفين، واذكروا جيداً أننا نقرأ في سورة يوسف هذا القول الحكيم: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 26] . هم في السجن مع يوسف، لكن لكلٍ سبب في أنَّهم سجنوه، فسبب هؤلاء الذين سألوا يوسف هو أنهم أجرموا، لكن سبب وجود يوسف في السجن أنه بريء والبريء كل فكره في الله، أما الذين انحرفوا ودخلوا معه السجن عندما ينظرون إليه يجدونه على حالة حسنة، بدليل أن أمراً جذبهم وهمّهم في ذاتهم بأن رأوا رؤيا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2135 فذهبوا لمن يعرفون أنه إنسان طيب برغم وجوده معهم في السجن، فقد أعجبوا به بدليل أنهم قالوا له: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} . ومن يقول: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} لا بد أن تكون عنده قدرة على تمييز القيم، ثم قاسوا فعل يوسف عليها فوجدوها حسنة، وإلا فكيف يُعرف؟ . إذن فالقيم معروفة عندهم، فلما جاء أمر يهمهم في ذاتهم ذهبوا إلى يوسف. ومثال ذلك: هناك لص لا يمل من السرقة ولا يكف عنها، وبعد ذلك جاء له أمر يستدعيه للسفر إلى مكان غير مأمون، فاللص في هذه الحالة يبحث عن إنسان أمين ليقضي الليل عنده ولا يذهب للص مثله. إذن فالقيم هي القيم، وعندما قال أصحاب يوسف في السجن: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} ، استغل سيدنا يوسف هذه المسألة ووجدهم واثقين فيه فلم يقل لهم عن حكايتهم ابتداء ويؤول لهم الرؤيا، بل استغل حاجتهم إليه وعرض عليهم الإيمان قال: {ياصاحبي السجن أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39] . لقد نقلهم من حكايتها لحكايته، فما داما يريدان استغلال إحسانه فلماذا لا يستغل حاجتهما له ويعظهما ويبشرهما بدين الله؟ وكأنه يقول لهما: أنتما جئتما إلي لأنكما تقولان إنني من المحسنين. وأنتما لم تريا كل ما عندي بل إن الله أعطاني الكثير من فيضه وفضله، ويقول الحق على لسان يوسف: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 37] أي أن يوسف الصديق عنده الكثير من العلم، ويقر لهما بفضل الله عليه: فليس هذا العلم من عندي: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي} [يوسف: 37] . وبعد ذلك يدعوهما لعبادة الإله الواحد كي يستنجدا به بدلاً من الآلهة المتعددة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2136 التي يتخذانها معبودا لهما وهي لا تضر ولا تنفع. {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39] . إذن فالقيم واحدة، والله يريد أن يتوب عليكم، ولكن الذين يتبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً، حتى لا تكونوا مميزين عليهم تميزاً يحقّرهم أمام أنفسهم، فهم يريدون أن تكونوا في الانحراف أكثر منهم، لأنهم يريدون أن يكونوا متميزين في الخير أيضاً ويقولون لأنفسهم: «إن كنا شريرين فهناك أناس شرٌّ منا» . ثم يقول الحق سبحانه: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2137 فسبحانه بعد أن قال: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ليبصر، و {يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ليغفر، والآن يقول: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ليسر، وهي ثلاثة أمور هامة. ويقول سيدنا ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وعن أبيه -: «في سورة النساء ثماني آيات لأمة محمد هي خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب: الأولى قول الحق: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26] . والثانية هي قول الحق: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} [النساء: 27] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2137 والثالثة هي قول الحق: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [النساء: 28] . والرابعة هي قول الحق: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31] . والخامسة هي قول الحق: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48] . والسادسة هي قوله سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 110] . والسابعة هي قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 40] . {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً} [النساء: 147] . هذه هي الآيات الثماني التي لم تؤت مثلها أ] أمة إلا أمة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. ومنها قول الحق: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} . وما هو ضعف الإنسان؟ . الضعف هو أن تستميله المغريات ولا يملك القدرة على استصحاب المكافأة على الطاعة أو الجزاء على المعصية، لأن الذي تتفتح نفسه إلى شهوة ما يستبعد غالباً - خاطر العقوبة، وعلى سبيل المثال، لو أن السارق وضع في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2138 ذهنه أن يده ستقطع إن سرق، فسيتردد في السرقة، لكنه يقدر لنفسه السلامة فيقول: أنا أحتال وأفعل كذا وكذا كي أخرج. إذن فضعف الإنسان من ناحية أن الله جعله مختارا تستهويه الشهوات العاجلة، لكنه لو جمع الشهوات أو صعد الشهوات فلن يجد شهوة أحظي بالاهتمام من أن يفوز برضاء ولقاء الله في الآخرة. وقول الحق: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} نلحظ فيه أن التخفيف مناسب للضعف، والضعف جاء من ناحية أن الإنسان أصبح مختاراً وخاصة في أمور التكليف، فالذي جعل فيه الضعف جعله مختاراً يفعل كذا أو يفعل كذا ولكل أمر مغرياته.، ومغريات الشهوات حاضرة. ومغريات الطاعة مستقبله فهو يغلب دائماً جانب الحاضر على جانب المستقبل. ويقول الحق من بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2139 وعندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفت خلقه إلى أن يؤمنوا به يلفتهم إلى الكون، ويلفتهم إلى ما خلق الله من ظواهر ليتأكدوا أن هذه الظواهر لا يمكن أن تكون قد نشأت إلا عن قادر عليم حكيم، فإذا ما انتهوا إلى الإيمان به استقبلوا التكليف الذي يتمثل في افعل كذا ولا تفعل كذا، فحين يخاطبهم بالتكليف يجعل لأمر. التكليف مقدمة هي أنك ألزمت نفسك في أن تدخل إلى هذا التكليف، ولم يرغمك الله على أن تكون مكلفاً، وإنما أنت دخلت إلى الإيمان بالله باختيارك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2139 وطواعيتك. وما دامت قد دخلت على الإيمان باختيارك وطواعيتك فاجعل إيمانك بالله حيثية كل حكم يحكم به الله عليك. من افعل كذا ولا تفعل كذا، ولا تقل: لماذا أفعل كذا يا رب، ولماذا لا أفعل كذا يا رب؟ بل يكفي أن تقول: الذي آمنت به إلها حكيماً قادراً هو سبحانه مأمون على أن يأمرني وأن ينهاني. ولذلك يجيء الحق دائما قبل آيات التكليف بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} فهو لم يكلف مطلق الناس، وإنما كلف من آمن به. إذن فحين يكلف من آمن به لا يكون قد اشتط وجار عليه لأنه قد آمن به بمحض اختياره. وإذا لفتَّ إنسانا ونبهته وأمرته بأمر تكليفي مثل صَلَّ، أو امتنع عن فعل المنكر فقال لك: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} هنا يجب أن تقول له: أنت لم تفهم معنى قول الحق: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} فأصل التدين والإيمان بالله ألاّ يكرهك أحد عليه، بل ادخل إلى الإيمان بالله باختيارك، لكن إذا دخلت إلى الإيمان بالله فالتزم بالسماع من الله في «افعل» و «لا تفعل» فحين يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} فهو يعطينا حيثيات التكليف، أي علة الحكم. فعلّة الحكم أنك آمنت بالله آلهاً حكيماً قادراً. وما دمت آمنت بالله إلهاً حكيماً قادراً فسلم زمام الأوامر والنواهي له سبحانه، فإن وقفت في أمر بشيء أو نهى عن شيء فراجع إيمانك بالله. إذن فقوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} أي أنك حر على أن تدخل في الإيمان بالله أو لا تدخل، لكن إذا ما دخلت فإياك أن تكسر حكماً من أحكام الله الذي آمنت به، وإن كسرت حكماً من أحكام الله تدخل معنا في إشكال ارتكاب السيئات أو الذنوب. والأحكام التي سبقت للذين آمنوا هي أحكام تعلقت بالأعراض وبإنشاء الأسرة على نظام طاهر نقي كي يأتي التكاثر تكاثراً نقياً طاهراً، وتكلمت الآيات عن المحرمات من النساء وكذلك المحللات؛ وها هو ذا سبحانه يتكلم عن المال، وهو الذي يقيم الحياة، والمال كما نعرف ثمرة الجهد والمشقة، وكل ما يتمول يعتبر مالاً، إلا أن المال ينقسم قسمين: مال يمكن أن تنتفع به مباشرة، فهناك من يملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2140 الطعام، وآخر يملك الشراب، وثالث يملك أثوابا، وهذا نوع من المال ينتفع به مباشرة، وهناك نوع آخر من المال، وهو «النقد» ولا ينتفع به مباشرة، بل يُنتفع به بإيجاد ما ينتفع به مباشرة. وهكذا ينقسم المال إلى رزق مباشر ورزق غير مباشر. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة الحياة، لأنه بحماية حركة الحياة يغري المتحرك بأن يتحرك ويزداد حركة. ولو لم يحم الحق حركة الحياة، وثمرة حركة الحياة فماذا يقع؟ تتعطل حركة الحياة. وإننا نلاحظ أن كل مجتمع لا يؤمن فيه على الغاية والثمرة من عمل الإنسان تقل حركة العمل فيه، ويعمل كل واحد على قدر قوته. ويقول لنفسه: لماذا أعمل؟ لأنه غير آمن. لكن إذا كان آمناً على ثمرة حركته يغريه الأمن على ماله على أن يزيد في حركة العمل، وحين تزيد حركة العمل فالمجتمع ينتفع وإن لم يقصد المتحرك. فليس ضرورياً أن يقصد الإنسان بكل حركته أن ينفع المجتمع. لا، اجعله يعمل لنفع نفسه. لقد ضربنا هذا المثل سابقاً: إنسان مثلاً عنده آلاف الجنيهات وبعد ذلك وضعها في خزانة ثم تساءل: لماذا أضعها في خزانة؟ لماذا لا أبني بها بيتاً آخر وأكري منه شقتين، فسيأتيني منه عائد؟ هل كان المجمع في بال مثل هذا الإنسان؟ لا، إن باله مشغول بمصلحته؛ لذلك فلنجعل مصلحة كل إنسان في باله، وهنا سيستفيد المجتمع بحركته قصد أو لم يقصد. لأنه ساعة يأتي ليحفر الأساس سيعطي أناساً أجورهم؛ وساعة يأتي بالطوب يشتريه بثمن، وساعة يبني يعطي المهندس والعمال أجورهم؛ لذلك أقول: اعمل لنفسك في ضوء شرع الله، وسينتفع المجتمع قهراً عنك. ومن العجيب أنك تريد أن تنفع نفسك فيُبَيِّنَ لك ربنا: أنت ستنفع غيرك قبل أن تنتفع بعائد المنزل الذي بنيته، ولا تظن أن أحداً سيأخذ رزق ربنا ولن يجريه على الخلق، لا، إن المجتمع سينتفع بالرغم منك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2141 إذن فمن حظ المجتمع أنْ نصون حركة الحياة. ونؤمن كل متحرك في الحياة على ماله. لكن إن كنا حاكمين يجب أن تكون أعيننا مبصرة: أيكسب من حلّ أم لا؟ فإذا كان الكسب حلالاً نشكره، أما إذا كان يكسب من حرام، فنحن نسائله، وإن عمل على غير هذا توقفت حركة الحياة، وإن توقفت حركة الحياة فهذا أمر ضار بالذين لا يقدرون على الحركة، لماذا؟ لأن الله قسم المواهب على الناس، فليس كل واحد من الناس يملك الطموح الحركي، ولا يملك كل إنسان فكراص يخطط به، فقد لا يكون في المجتمع إلا قلة تخطط، والباقون هم جوارح تنفعل للفكر المخطط، والفكر يعمل لجوارح كثيرة، فكذلك يكون هناك مفكر واحد هو الذي يضع خطة ينتفع بها الكثير من الناس. إذن فلا بد أن نرعي حركة المتحرك وننميها؛ لأن المجتمع ينتفع منها، وإن لم يقصد المتحرك إلا مصلحة نفسه، صحيح أن الي ليس في باله إلا نفسه إنما يحبط ثواب عمله، وصحيح أن من يضع الناس في باله إنما يُعطي ثمرة عمله ويأخذ ثواباً أيضاً من الله. والحق سبحانه وتعالى يأتي في مسائل المال ويوضحها توضيحا تامّاً ليحمي حركة الحياة ويُغري الناس بالحركة - وبذلك يتعدد المتحركون وتتعدد الحركات، ويستفيد المجتمع، فقال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} وساعة تجد أمراً لجماعة في جمع مأمور به فقسّم الأفراد على الأفراد. مثال ذلك: عندما نقول لجماعة: اركبوا سياراتكم أي: ليركب كل واحد منكم سيارته، والمدرس يدخل الفصل ويقول للتلاميذ: أخرجوا كتبكم. أي أن كل تلميذ عليه أن يخرج كتابه. فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، وقول الحق: {لاَ تأكلوا} فهذا أمر لجمع. و «أموالكم» أيضاً جمع، فيكون معناه: لا يأكل كل واحد ماله، وكيف لا يأكل كل واحد منكم ماله؟ - يوضح الحق: «بالباطل» . فيكون مطلوبا من كل واحد منكم ألا يأكل ماله بالباطل. والإنسان يأكل الشيء لينتفع به. والحق يوصيك ويأمرك: إياك أن تصرف قرشاً من مالك وتضيعه إلا في حق، هذا إذا كنا سنقابل المفرد، فلا يأكل واحد منكم ماله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2142 بالباطل، بل يوجهه إلى الأمر النافع، الذي ليس فيه حرمة، والذي لا يأتي بعذاب في الآخرة. وإذا كان المراد أن لا أحد يأكل مال الآخر، فسنوضحه بالمثل الآتي: لنفترض أن تلميذا قال لمدرسه: يا أستاذ قلمي كان هنا وضاع. فيقول الأستاذ للتلاميذ: لا تسرقوا أقلامكم، فهل معني ذلك أن الأستاذ يقول: لا يسرق كل واحد قلمه أو لا يسرق كل واحد قلم أخيه، إذن فيكون المعنى الثاني: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ} ، أي لا يأكل كل واحد منك مال أخيه بالباطل. وكيف يقول: «أموالكم» ؟ وما دام ما لهم فليس عليهم حرج؟ لا؛ لأن معناها المقصود: لا يأكل كل واحد منكم مال أخيه. ولماذا لم يقل ذلك وقال: «أموالكم» ؟ لأن عادة الأوامر من الحق ليست موجهة إلى طائفة خُلِقت على أن تكون آكلة، وطائفة خُلِقت على أن تكون مأكولة، بل كل واحد عرضة في مرة أن يكون آكلاً لمال غيره؛ ومرة أخرى يكون ماله مأكولاً. فأنا إذا أكلت مال غيري فسوف يأكل غيري مالي. فأكون قد عملت له أسوة ويأكل مالي أيضاً، فكأنه سبحانه عندما يقول لك: لا تأكل مالك إنما ليحمي لك مالك. إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يصنع من المجتمع الإيماني مجتمعاً واحداً. ويقول إن المال الذي عند كل واحد هو للكل. وأنك إن حافظت على مال غيرك حافظ غيرك على مالك. وأنت إن اجترأت على مال غيرك فسيجترئ المجموع على مالك. وأنت ساعة تأكل مال واحد تجرِّيء آلاف الناس على أن يأكلوا مالك. وحين لا تأكل مال غيرك كأنك لم تأكل مالك. {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} وكلمة «أكل» معناها: الأخذ؛ لأنّ الأكل هو أهم ظاهرة من ظواهر الحياة؛ لأنها الظاهرة المتكررة، فقد تسكن في بيت واحد طوال عمركن وتلبس جلباباً كل ستة أشهر، ولكن أنت تتناول الأكل كل يوم، وحينما نزلت الآية قال المسلمون: نحن لا نأكل أموالنا بالباطل. وتحرجوا أن يأكلوا عند إخوانهم. وبعد ذلك رفع الأمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأوضح أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2143 أكل التكارم ليس بالباطل - أنزل الله قوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} [النور: 61] . هذه رفعت عندهم الحرج، إنما ساعة سمعوا أكل الباطل قالوا: لا آخذ حاجة من أحد إلا بمقابل. وما هو «الباطل» ؟ . . الباطل هو أن تأخذ الشيء بغير حقه. مثال ذلك الربا، لأن معنى «ربا» أن واحداَ عنده فائض وآخر يحتاج، والمحتاج ليس عنده الأصل أنطلب منه أن يرد الأصل وزيادة، ويعطي الزيادة لمن عنده؟ كيف يتأتيّ هذا؟ هذا هو الآخذ بالربا، أو الأخذ بالسرقة، بالاختلاس أو بالرشوة أو بالغش في السلع، كل ذلك هو أكل مال بالباطل، وساعة تريد أن تأكل مالاً بالباطل؛ كأنك تريدج أن تتمتع بثمرة عمل غيرك، وأنت بذلك تتعود على التمتع بثمرة عمل غيرك، وتضمحل عندك قدرة العمل ويصير أخذك من غير أخذاً لماله كَرْهاً وبغير وجه حق وبذلك تتعطل حركة متحرك في الحياة وهو ذلك العاطل «البلطجي» ، ويخاف المتحرك في الحياة وهو من تُفرض عليه الإتاوة فيقل ويضعف نشاطه في الحياة، كيف يكون شكل هذا المجتمع؟ إن المجتمع في هذه الحالة سيعاني من كرب وصعوبات في الحياة. فقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} هو أمر لكل مسلم: لا ترابِ، ولا تسرق، ولا تغش، ولا تدلس، ولا تلعب ميسراً، ولا تختلس، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2144 ولا ترتش؛ لأن كل هذه الأمور هي أكل أموال بالباطل. وعندما ندقق في مسألة لعب الميسر نجد أمراً عجيباً؛ فالذين يلعبون الميسر يدعون أنهم أصدقاء، وينتظر بعضهم بعضاً ويأكلون معاً، وكل واحد منهم يجلس أمام الآخر وهو حريص أن يأخذ ما في جيبه، فأي صداقة هذه؟ إذن فساعة يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} ، وساعة يأمرك الحق: إياك أن يصعب عليك التكليف؛ لأنه شاق عليك، ولكن قدر ما يأخذه منك التكليف من تضييق حركة تصرفك، وما يعطيك التكليف من تضييق حركة الآخرين، الحق قال لك: لا تأخذ مال غيرك لكي لا يأخذ غيرك مالك، وبذلك تكسب أنت ويكسب كل المجتمع، فحين يصدر أمر لإنسان أن يكف يده عن السرقة فهو أمر للناس جميعاً كي يكفوا عن سرقة هذا الإنسان؛ لذلك فحين تستقبل أي حكم عن الله لا تنظر إلى ما أخذه الحكم من حريتك، ولكن انظر إلى ما أعطاه الحكم لصالحك من حرية الآخرين. ومثال ذلك: حين يوضح الحق وينهي عن النظر إلى المرأة الأجنبية فإياك أن تمد عينك إلى محارم غيرك، هو أمر لا يخصك وحدك، ولكنه أمر لملايين الناس ألا يمدوا عيونهم إلى محارمك، وعندما توازن الأمر فأنت الذي تكون أكثر كسباً. إنني لذلك أقول دائماً: لا تنظر إلى ما في التكليف من مشقة أو إلى ما أخذ منك، ولكن انظر فيه إلى ما يعطي لك؛ فإن نظرت هذه النظرة وجدت كل تكليف من الحق هو ربح لك أنت. وإلا لو أننا أطلقنا يدك في الناس جميعاً لا بد أن تقدر أننا نطلق أيدي الناس جميعاص فيك. وأنت إذا أطلقت يدك في الناس فلن تؤثر فيهم مثلما يؤثرون فيك لو أطلقوا أيديهم فيك فيما يخصك، فمن مصلحتك ألا تطلق يدك في الناس. {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} وكلمة {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} أي إلاّ في النفعية المتبادلة تبادل الأعواض، فشيء عوض شيء. وجاءت التجارة؛ لأن التجارة هي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2145 الحلقة الجامعة لأعمال الحياة؛ فالتاجر هو وسيط بين من ينتج سلعة ومن يستهلكها. والسلع في حركتها إنتاج واستهلاك. والإنتاج قد يكون زراعيا أو صناعياً أو خدمياً. إذن فالتجارة جامعة لذلك كله. وكلمة {عَن تَرَاضٍ} تدل على أن رضا النفس البشرية في الأعواض مشروط، حتى ما أخذ بسيف الحياء يكون حراما؛ لذلك أقوال: على كل واحد أن يغربل إيمانه، وينظر هل حياته في أعواض الأموال وأعواض التجارة وأعواض المبادلات مستوية أو غير مستوية؟ فإن لم تكن مستوية؛ فعلية أن يفكر فيها قليلاً حتى يُعطي كل ذي حق حقه. وحتى لا يدخل في دائرة حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها» . ويتابع الحق: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} وهنا أيضاً مقابلة جمع بجمع، ويعني: لا يقتل كل واحد منكم نفسه، وهذا ما يفعله المنتحر - ولا يقتل نفسه إلا إنسان وجد نفسه في ظرف لا يستطيع في حدود أسبابه أن يخرج منه. ونقول له: أنت نظرت لنفسك كإنسان معزول عن خالق أعلى، لكن المؤمن لا يعزل نفسه عن خالقه؛ فساعة يأتيه ظرف فوق أسبابه ولا يقوي عليه فعليه أن يفكر: وهل أنا في الكون وحدي؟ لا، إن لي ربّاً. وما دام لي رب فأنا لا أقدر وهو - سبحانه - يقدر، وهنا يطرد فكرة الانتحار؛ لأن المنتحر هو إنسان تضيق أسبابه عن مواجهة ظروفه فيقتل نفسه. وإن فائدة الإيمان أنه ساعة يأتي ظرف عليك وتنتهي أسبابك تقول: إن الله لن يخذلني وهو يرزقني من حيث لا أحتسب، ويفتح لي أبواباً ليست في بالي، وضربنا مثلاً كي نقرب المعنى، وقلنا: هب أن إنساناً يسير في الطريق ومعه «جنيه واحد» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2146 في جيبه، ثم ضاع الجنيه، وليس في بيته إلا هو؛ لذلك يحزن جداً على ذلك الجنيه. لكن من يضيع منه «جنيه» وعنده في البيت خمسة «جنيهات» فالمصيبة تكون خفيفة، كذلك من فقد أسبابه فعليه أن يخفف الأمر على نفسه فلا ييأس، فَلِمَ يقتل نفسه؟ الله يقول في الحديث القدسي: «بادَرَني عبدي بنفسه حرمت عليه جنتي» . وهل أنت من وهبت الحياة لنفسك؟ لا، ولذلك فواهب الحياة هو الذي يأخذها، ومن ينتحر لا يدخل الجنة، لأنه لم يتذكر أن له إلهاً. ولنذكر هنا موقف قوم موسى عليه السلام عندما خرجوا، وطاردهم قوم فرعون. فماذا قال قوم موسى؟ قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] . وهذا كلام صحيح فأمامهم البحر ومن ورائهم فرعون، وهم قد قالوا ذلك بأسبابهم وبشربتهم. لكن ماذا قال سيدنا موسى. {قَالَ كَلاَّ} [الشعراء: 62] . و «كلا» هذه نفي، وكيف يقول موسى: «كلا» وما رصيدها؟ إنه لم يقل: «كلا» ببشريته، ولكن قالها برصيده من الإيمان بالإله العظيم فقال: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} . إذن فقوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} أي ولا يقتل كل واحد منكم نفسه؛ لأنك لا تقتل نفسك إلا إذا ضاقت أسبابك عن مواجهة ما تعانيه، وهذا يدل على أنك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2147 عزلت نفسك عن ربك، ولو ظللت على الإيمان بأن لك خالقاً لانفرجت عنك الكروب، وأي مسألة تأتي تقول: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} . إن الإيمان يعطيك صلابة استقبال الصعاب. وقد تأخذ {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} معنى آخر أي، ولا تؤدوا بأنفسكم لأن تقتلوا، أي لا تلق بنفسك إلى التهلكة، أو {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} على أن المؤمنين هم وحدة إيمانية، أو أنّ المشرع لهذه الوحدة قال: الذي يَقْتَل فإياك أن تقتل نفسك، أي لا تقتل غيرك حتى لا يصير الأمر إلى أن تَقْتُل نفسك لأنه سيتقص منك. فقوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} يعني: لا تفعلوا ما يؤدي بكم إلى القتل، ويحنن الحق الإنسان على نفسه وليس على الناس فحسب، فلا يقول لك: لا تَقْتُل حتى لا تُقْتَل، لأنه سبق أن قال: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] . وعندما يعرف القاتل أنه إن قَتَلَ يُقْتَل، فهو يتجنب ذلك، ونلحظ أن الحق قال في آية أخرى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61] . وهل أنا سأسلم على نفسي أو على الناس الداخل عليهم؟ إن الإنسان يسلم على هؤلاء الناس، وعندما تقول: «السلام عليكم» ، يعني الأمان لكم. فسيقولون لك: «وعليكم السلام» فكأنك قد سلمت على نفسك. أو أن الحق قد جعل المؤمنين وحدة واحدة، ومعنى «وحدة» يعني أن ما يحدث لواحد يكون للكل. إذن فقوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} أي ولا يقتل واحد منكم نفسه، فتصلح {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} بمعنى: ولا يقتل واحد منكم نفسه بأن ينتحر، هذه واحدة، ولا يقتل واحدٌّ منكم نفسه بأن يلقي بها إلى التهلكة، أو لا يقتل واحد منكم نفسه بأن يقتل غيره فيقتل قصاصاً، أو لا تقتلوا أنفسكم يعني: لا يقتل أحد منكم نفس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2148 غيره لأنكم وحدة إيمانية وليس واحداً بعينه هو المأمور بل الكل مأمور، فلا يقتل واحد منكم نفس غيره. ويذيل الحق الآية: {إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} . وبالله، ساعة ينهاني الحق عن أن أقتل نفسي أو أقتل غيري، أليست هذه منتهي رحمة الصانع بصنعته؟ إنها منتهى الرحمة. ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2149 «ذلك» : «ذا» وحدها للإشارة، و «الكاف» للخطاب، والخطاب إذا أُفرد، فالمراد به خطاب الله لرسوله، والمؤمنون في طي ذلك الخطاب. ومرة يقول: «ذلكم» أي أنه يخاطبنا نحن، مثل {ذلكم أزكى لَكُمْ} [البقرة: 232] . وذلك إشارة لما تقدم مباشرة في الآية الخاصة بقتل النفس، وكذلك ما قبلها وهو أكل الأموال. والبعض يأخذها لكل ما تقدم من أول قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ، والبعض الآخر يأخذها من أول الأوامر والنواهي من أول السورة إلى هنا، وكلها تصح. {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً} . والعدوان هو التعدي، والتعدي قد يكون ظلماً وقد يكون نسياناً. ومن يتعدي بالظلم يكون عارفاً ويأخذ حق غيره، أما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2149 التعدي بالنسيان فيقتضي أن يراجع الإنسان سلوكه، لماذا؟ لأن العاقبة مريرة. وقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} والفعل إذا أسند لفاعله أخذ قوته من فاعله. فعندما يقول لك أحد: إن عملت هذه فابني الصغير سيصفعك صفعة، وهو قول يختلف عن التهديد بأن يضربك شاب قوي، لماذا؟ لأن قوة الحدث نأخذها من فاعل الحدث، من الذي يُصْلي المعتدي النار؟ إنه الله، وسبحانه سيجعله يصطلي بها. ويقول الحق: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} لأن فعل الله ليس عن معالجة بل ينفذ فوراً. ونعلم أن فعل المعالجة هو كل فعل يحتاج لوقت، فهناك عمل يحتاج لساعة وكل دقيقة من هذه الساعة تأخذ جزئية من العمل، وعندما تقسم العمل لستين جزئية، ينتهي العمل في ساعة، وإن كان العمل ينتهي في عشرة أيام تقول له: أسقط أوقات الراحة وعدم مزاولة العمل، وقسم العمل على الباقي من الوقت. هذا هو ما يسمى علاجاً؛ لأن ذلك من عمل الإنسان، لكن عمل الله يختلف، فالحق يقول للشيء: {كُن فَيَكُونُ} إذن فكل فعل على الله يسير ما دامت المسألة: {كُن فَيَكُونُ} قال سبحانه: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] . وسبحانه يوضح: أنا لا أُوجِد كل واحد مثلما خلقت آدم وأشكله وأخلقه ثم أبعثه، لا، بل كل الخلق كنفس واحدة. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2150 هذه الآية هي إحدى ثماني آيات قال عنها ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في هذه السورة - سورة النساء - ثماني آيات خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، وقلنا: إن هذه الآيات تبدأ بقوله سبحانه: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ، {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ، {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ، ثم جاءت: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} . و «الاجتناب» ليس معناه عدم مزاولة الحدث أو الفعل، ولكن عدم الاقتراب من مظان الحدث أو الفعل حتى يسدّ المؤمن على نفسه مخايلة شهوة المعصية له وتصوره لها وترائيها له. هذه الآيات الكريمات كانت خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، لأنها تحمي من حمق الاختيار الذي وجد في الإنسان حين لا يلتزم بمنهج الله، ولو أن الإنسان كان مسيَّراً وَمُكْرَهاً على الفعل لارتاح من هذا الاختيار. وتعب الإنسان جاء من ناحية أن اغترّ بمزيته على سائر خلق الله، والميزة التي ميِّز الله بها الإنسان هي العَقل الذي يختار به بين البديلات. بينما سائر الأجناس كلها رضيت من الله أن تكون مسخرة مقهورة على ما جعلها له بدون اختيار. ونعرف أن الحق قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] . فالإنسان قد ظلم نفسه، لأنه أرجح نفسه عند اختيار الشهوة أو اختيار مرادات منهج الله، بينما المقهورون أو المسخرون ليست عندهم هذه المسألة. وكل كائن منهم يقوم بعمله آلياً وارتاح من حمق الاختيار - فهذه الآيات طمأنت الإنسان على أنه إن حمق اختياره في شيء فالله يريد أن يتوب عليه، والله يريد أن يخفف عنه. والله يريد إن اجتنب الكبائر أن يرفع عنه السيئات ويكفرها. كل هذه مطمئنات للنفس البشرية حتى لا تأخذها مسألة اليأس من حمق الاختيار، فيوضح: أنا خالقك وأعرف أنك ضعيف لأنَّ عندك مسلكين: كل مسلك يغريك، تكليف الله بما فيه من الخير لك وما تنتظره من ثواب الله في الآخرة يُغري، وشهوة النفس العاجلة تُغري. وما دامت المسألة قد تخلخلت بين اختيار واختيار فالضعف ينشأ؛ لذلك يوضح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2151 سبحانه: أنا أحترم هذا فيك لأنه وليد الاختيار، وأنا الذي وهبت لك هذا الاختيار. والحق حين وهب الاختيار لهذا الجنس الذي هو سيد الأجناس كلها، يُحبُّ أن يأتي لربه راغباً محبّاً: لأن هناك فارقاً بين أن يسخَّر المسخَّر ولا يستطيع أن ينفلَت عما قدر له أن يعمله، وتلك تؤديها صفة القدرة لله، لكن لم تعط الله صفة المحبوبية؛ لأن المحبوبية أن تكون مختاراً أن تطيع ومختاراً أن تعصي ثم تطيع، هذه صفة المحبوبية، والله يريد من الإنسان أن يثبت بطاعته صفة المحبوبية له سبحانه، فالإنسان المحب لمولاه برغم أنه مختار أن يفعل الطاعة أولا يفعلها ينحاز بالإيمان إلى جانب الطاعة. {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} كأن الله بعد تكليفاته في أمور الأعراض والأموال وتكليفاته في الدماء من قتل النفس وغيرها، أوضح: إياكم أن تستقبلوا الأشياء استقبالاً يجعلكم تيأسون من أنكم قد تعجزون عن التكليف لبعض الأمور، فأنا سأرضى باجتناب الكبائر من المساوي: فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، والجمعة للجمعة كفارة، ومن رمضان لرمضان كفارة، لكن بشرط ألا يكون عندكم إصرار على الصغائر لماذا؟ لأنك إن قدرت ذلك فقدر أنك لا تقدر على استبقاء حياتك إلى أن تستغفر، فلا تقل: سأفعل الذنب ثم أستغفر، هذه لا تضمنها، وأيضا تكون كالمستهزئ بربّه. {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} - في السيئات يقول: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وقلنا: إن «الكفر» هو الستر «أي يسترها - ومعنى نسترها يعني لا نعاقب عليها، فالتكفير إماطة للعقاب، والإحباط إماطة للثواب. فإن ارتكب إنسان أمراً يستحق عليه عقاباً وقد اجتنب الكبائر يكفر عنه الله أي يضع ويستر عنه العقاب، أَماّ مَن عمل حسنة ولم يقبلها الله، فهو يحبطها، إذن فالتكفير - كما قلنا - إماطة العقاب، و» الإحباط «إماطة للثواب كما في قوله: {فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2152 أي ليس لهم على تلك الأعمال ثواب؛ لأنهم فعلوها وليس في بالهم الذي يعطي الثواب وهو الله. بل كان في بالهم الخلق، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (فعلت ليقال وقد قيل) . أنت فعلت ليقال وقد قيل، وقالوا عنك إنك محسن كبير، قالوا: إنك بنيت المسجد، وقرأوا اللافتة التي وضعتها على المسجد وسط احتفال كبير. ويقول الحق: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] . أنت فعلت ليقال وقد قيل؛ ولذلك فالذين عملوا مثل هذه ووضعوا لافتات من رخام عليهم أن يفطنوا لهذا الأمر، وإن كان الواحد منهم حريصاً على أنه يأخذ الثواب من يد الله فليرفع هذه اللافتة ويسترها وتنتهي المسألة، فالله سبحانه وتعالى يحب ممن يتصدق أن يكون كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شأن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله منهم: » ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه «. فأنت حين تتصدق لماذا تفضح من يتقبل الصدقة. والحق يقول: {إِن تَجْتَنِبُواْ} ، و» الاجتناب «هو إعطاء الشيء جانباً، ولذلك يقولون: فلان ازورّ جانبه عني، أي أنه عندما قابلني أعطاني جانبه، والمراد في قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ} هو التباعد، والحق ساعة يطلب منك ألا تصنع الحدث ويطلب منك بأسلوب آخر أن تجتنبه، فهذا يدل على أن الاجتناب أبلغ، لأن الاجتناب معناه ألا تكون مع المنهي عنه في مكان واحدٍ فعندما يقول الحق: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2153 وعندما يقول: {واجتنبوا قَوْلَ الزور} [الحج: 30] . فاجتنبوه أي: ابتعدوا عنه. لماذا؟ لأن حمى الله محارمه. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه. .» . والحق يقول: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . واجتنابه يكون بألا توجد معه في مكان واحد يخايلك ويشاغلك ويتمثل لك، فعندما تكون مثلاً في منطقة الذين يشربون الخمر يقول لك الحق: اجتنبها. أي لا تذهب إليها؛ لأن الخمر عندما توجد أمامك وترى من يشربون وهم مستريحون مسرورون. . فقد تشربها، لكن عندما تجتنب الخمر ومجالسها فأنت لا تقع في براثنها وإغرائها، ولذلك قلنا: إن الاجتناب أبلغ من التحريم، وهناك أناس يبررون الخمر لأنفسهم ويقولون: إن الخمر لم يرد فيها تحريم بالنص!! نقول لكل واحد منهم: حسبك أن شرب الخمر قُرن بالرجس من الأوثان، فالحق يقول: {واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36] . فاجتناب الطاغوت ليس معناه ألا تعبده، بل إياك أن تراه، إذن فاجتناب الخمر ليس بألا تشربها، بل إياك أن تكون في محضرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2154 «والكبائر» جميع «كبيرة» ، وما دام فيه «كبيرة» يكون هناك مقابل لها وهي «صغيرة» و «أصغر» ، فالأقل من «الكبيرة» ، ليس «صغيرة» فقد؛ لأن فيه «صغيرة» ، وفيه «أصغر» من «الصغيرة» وهو «اللمم» . والحق يقول: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} و «السيئات» منوطة بالأمر الصغير وبالأصغر، لكن هذه المسألة وقف فيها العلماء، قالوا: معنى ذلك أننا سنغري الناس بفعل السيئات ما داموا قد اجتنبوا الكبائر فقد يفعلون الصغائر. نقول: لا، فالإصرار على الصغيرة كبيرة من الكبائر؛ لذلك لا تجز الصغائر لنفسك؛ فالحق يُكَفّر ما فلت منك فقط؛ ولذلك يقول الحق: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} [النساء: 17] . يفعلون الأمر السيء بدون ترتيب وتقدير سابق وهو سبحانه قال بعد ذلك: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} [النساء: 18] . إذن فمعنى أنك تصرّ على صغيرة وتكررها إنّها بذلك تكون كبيرة، وإن لم نجتنب الكبائر ووقعنا فيها فماذا يكون؟ . يقول العلماء الذين جعلهم الله هبات لطف ورحمة على الخلق: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. فإن أخذت هذه فخذ تلك، خذ الاثنتين، فلا كبيرة مع الاستغفار، ومقابلها لا صغيرة مع الإصرار. وحينما أراد العلماء أن يعرفوا الكبيرة قالوا: الكبيرة هي ما جاء فيها وعيد من الله بعذاب الآخرة، أو جاء فيها عقوبة كالحد مثلاً فهذه كبيرة، والتي لم يأت فيها حد فقد دخلت في عداد السيئة المغفورة باجتناب الكبيرة أو الصغيرة أو الأصغر. وأن سيدنا عمرو بن عبيد عالم من علماء البصرة وزاهد من زهادها، وهو الذي قال فيه أحد الخلفاء: كلهم طالب صيد غير عمرو بن عبيد، أي أن كل العلماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2155 يذهبون إلى هناك ليأخذوا هبات وهدايا إلا عمرو بن عبيد، إذن فقد شهد له، هذا العالم عندما أراد أن يعرف مدلول الكبيرة، وأصر ألا يعرف مدلولها بكلام علماء، بل قال: أريد أن أعرفها من نص القرآن، الذي يقول لي على الكبيرة يأتيني بنص من القرآن. ودخل ابن عبيد البصري على سيدنا أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، ونعرف سيدنا جعفر الصادق وهو أولى الناس بأن يُسأل؛ لأنه عالم أهل البيت، ولأنه قد بحث في كنوز القرآن وأخرج منها الأسرار وعاش في رحاب الفيض، فقال ابن عبيد: هذا هو من أسأله، فلما سلّم وجلس قرأ قول الله سبحانه: {الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم} [النجم: 32] . ثم سكت!! فقال له سيدنا أبو عبد الله جعفر الصادق: ما أسكتك يا بن عبيد؟ قال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله. وانظروا إلى الثقة بمعرفة كنوز القرآن، ساعة قال له: «أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله» قال أبو عبد الله: نعم، أي على خبير بها سقطت، أي جئت لمن يعرفها، ثم قال: «الشرك بالله، قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} [المائدة: 72] . وأضاف: واليأس من رحمة الله فإن الحق قال: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87] . وهكذا جاء سيدنا أبو عبد الله جعفر الصادق بالحكم وجاء بدليله، وأضاف: ومن أمن مكر الله؛ لأنه سبحانه قال: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2156 والكبيرة الرابعة: عقوق الوالدين؛ لأن الله وصف صاحبها بأنه جبار شقي قال تعالى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [مريم: 32] . وقتل النفس. قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] . وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. قال تعالى: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] . وأكل الربا. قال تعالى: {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} [البقرة: 275] . والفرار يوم الزحف، أي إن هوجم المسلمون من أعدائهم وزحف المسلمون فرّ واحد من الزحف. فقد قال تعالى في شأنه: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} [الأنفال: 16] . وأكل مال اليتيم. قال تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] . والزنا. قال تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2157 {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 68 - 69] . وكتمان الشهادة. قال تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] . واليمين الغموس وهو أن يحلف إنسان على شيء فَعَله وهو لم يفعله أو أقسم أنه لم يفعله، وهو قد فعله، أي القسم الذي لا يتعلق بشيء مستقبل. قال تعالى: {ِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] . والغلول أي أن يخون في الغنيمة. قال تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 161] . وشرب الخمر؛ لأن الله قرنه بالوثنية. قال تعالى: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . وترك الصلاة؛ لأن الله قال: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} [المدثر: 42 - 43] . ونقض العهد، وقطيعة الرحم وهو مما أمر الله به أن يوصل. قال تعالى: {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2158 وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولئك هُمُ الخاسرون} [البقرة: 27] . إذن فكل هذه، هي الكبائر بنص القرآن، وكل كبيرة معها حكمة، عرضها لنا سيدنا ابن عبيد لأنه خاطب عالما، فإذا ما نظرنا إلى الاستنباط الذي جاء به سيدنا ابن سيدنا «جعفر الصادق» عندما سأله، ثم يجيبه بهذا الترتيب وبشجاعة من يقول لابن عبيد. . «نعم» أي إن جوابك عندي، ثم يذكرها رتيبة بدون تفكير، وهذا دليل على أنها مسألة قد اختمرت في ذهنه، وخصوصاً أنها ليست آيات رتيبة مسلسلة متتابعة! بل هي آيات يختارها من هنا ومن هناك، مما يدل على أنه يُعايش أسرار القرآن. لقد نشأ هذا الرجل في بيت سيدنا جعفر الصادق وهو الذي وضع للمؤمن منهجاً بحيث لا يصيبه شيء في نفسه إلا وجد له علاجاً ودواء في كتاب الله، إنه وجد أن الزوايا التي تعكِّر على الإنسان أَنّه يخاف من شيء، والذي يخاف من شيء يكون هذا الشيء - غالبا - محدوداً معروفاً. أنا أخاف من الشيء الفلاني، ولكنَّ واحداً يصيبه غمّ وهمّ لا يدري سببه، فيقول لك: أنا مغتمّ دون أعرف السبب. إذن ففيه انقباض لا يعرف سببه، وهناك مثلاً إنسان يكيد له أناس كثيرون ويمكرون ويأتمرون به، وهناك ثالث يحب الدنيا ويريد أن تكون الدنيا عنده، كل هذه هي مشاغل النفس البشرية: أن تخاف من شيء، أن تغمّ من شيء، أن تشفق من مكر بك وكيد لك، أن تتطلب أمراً من أمور الدنيا، وسيدنا جعفر هو الذي قال: عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله سبحانه: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173] . انظر لاستنباط الدليل، الذي يقوله سيدنا جعفر: فإني سمعت الله بعقبها يقول: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2159 انظر دقة الأداء، يقول: سمعت الله، ولم يقل: قرأت، كأن الإنسان ساعة يقرأ قرآنا لا بد أن يتأكد أن الله هو الذي يتكلم. وجلال القديم يغطي على جدية الحادث، فالذي يقرأ أمامك حادث، لكنه يقرأ كلام الله، إذن فجلال القديم يغطي على جدية الحادث. ويضيف سيدنا جعفر: وعجبت لمن اغتم ولم يفزع إلى قول الله سبحانه: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] . ثم يقول: فإني سمعت الله يعقبها يقول: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88] . ويضيف سيدنا جعفر: وعجبت لم مُكِرَ به ولم يفزع إلى قول الله سبحانه: {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} [غافر: 44] . فإني سمعت الله بعقبها يقول: {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} [غافر: 45] . وعجبت لمن طلب الدنيا كيف لا يفزع إلى قول الله سبحانه: {مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} [الكهف: 39] . فإني سمعت الله بعقبها يقول: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} [الكهف: 39 - 40] . هذه هي الاستنباطات الإيمانية، والاستنباطات هنا كالاستنباطات هناك، وإذا ما نظرت إلى الاستنباطات التي قالها سيدنا جعفر تجدها تغطي زوايا النفس الاجترائية؛ لأن التكليف حينما يأتي يحدّ حركة الإنسان عن الشهوات، فالآيات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2160 جاءت لتحدّ من الاجتراء، وتجدها تأخذ بالقمة من أول الاجتراء على الوحدانية في الألوهية إلى قطيعة الرحم، وقد غطت الآيات كل جوانب الاجتراءات في النفس البشرية، أول اجتراء: هو الشرك. . لأنه قال: «إن الشرك لظلم عظيم» والظلم الذي نعرفه: أنك تحكم بشيء للغير وليس من حقه، فبالله عندما تحكم أن ربنا له شريك، أليس هذا أعظم الظلم، وهو ظلم لنفسك، فإياك أن تظن أنك تظلم الله؛ لأن ربنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ ولذلك يقول في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» . إن هذا ظلم لنفسك؛ لأنك حين تعتقد أنّ لله شركاء فقد أتعبت نفسك تعب الأغبياء. واقرأ قول الله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [الزمر: 29] . فعبد مملوك لعشرة أسياد، ويا ليت العشرة الأسياد متفقون، بل هذا يقول له: اذهب، وهذا يقول له: تعال، إذن فقد أتعب نفسه وأرهقها. إذن فقد ظلمها. . قال تعالى: {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] . إن الإيمان بإله واحد يجعلك غير خاضع إلا لوجهة واحدة، ولا أوامر من جهة أخرى أبداً، إذن فقد أرحت نفسك، وهذه قضية يثبتها الواقع؛ لأن الله قد أنزل في قرآنه المحفوظ المتلو المقروء: {لا إله إلا أَنَاْ} [طه: 14] . فالمؤمن يقول: هذه كلمة صدق، والكافر يقول - والعياذ بالله -: هذه الكلمة غير صدق، والمسألة على أي تقدير منتهية، واحد جاء وأخذ الكون وقال: لا يوجد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2161 إله إلا أنا، والذي أخذ منه الكون إله ولكن أَعَلِمَ أن الكون أخذ منه أم لم يعلم بذلك؟ إن لم يكن قد دري تكون مصيبة في هذا الإله، وإن كان قد دري فما الذي أسكته؟ فالمسألة - إذن - محلولة، هذه مسألة الشرك. إن الإيمان بوحدانية إله جاءت لتريح النفس البشرية من كثرة تلفتاتها إلى آلهة متعددين، إنّه هو الحق، وهو الذي ينفع ويضر، إنكم حين تكونون لإله واحد كمثل العبد يكون لمالك واحد، أما عندما تعبدون آلهة متعددين تكونون كمثل العبد الذي له شركاء وياليتهم متفقون؛ بل هم مختلفون. بعد ذلك يأتي في المرحلة الثانية وهي: اليأس من رَوْح الله، و «الرَّوْح» من «الرائحة» وهي النسيم، فساعة تكون في ضيق والجو حار تلتفت لتجد واحة فتأوي إلى ظلها وهوائها وتلجأ إلى حضنها، هذه الراحة يعطيها الله لمن لا ييأس من روْح الله فتعطيه صلابة إيمانية لاستقبال أحداث الحياة؛ لأن الحياة أغيار، وأحداثها متعددة، وللعالم وللكون الظاهر سنن في الأسباب والمسببات. هَبْ أن أسبابك ضاقت بشيء ولم يعد عندك أسباب له أبداً، فالذي لا يؤمن بإله قوي يخرق الأسباب، ماذا يفعل؟ ينتحر كما قلنا. إذن فاليأس من روْح الله هو من جعل قوة الله العليا التي خلقت النواميس متساوية مع النواميس بحيث إذا ضاقت وعزت أسبابها البشرية في شيء يئس منها، أما المؤمن فنقول له: أنت لا تيأس؛ لأنك مؤمن بإله قادر فوق النواميس؛ فالذي ييأس من روْح الله كأنه يعطل طلاقة القدرة الإلهية على النواميس الكونية، إنّ الله، هو خالق هذه النواميس. فعندما ييأس إنسان من روح الله، يكون قد سوّى الله - بطلاقة قدرته - بالنواميس، إنّ الذي تأباه النواميس فسبحانه قادر أن ييسره. وبعد ذلك جاء ب «عقوق الوالدين» وهما الخلية الأولى التي يواجهها الإنسان، وهما السبب المباشر في إيجادك؛ لأنك حين تعق وتعصي من كان سبباً مباشراً لوجودك تكون قد عققت وعصيت من كان سبباً أولياً لوجودك، وهو الله الذي لم تره، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2162 إذن فاحترامهما والبرّ بهما ليس - فقط - لأنهما سبب في وجودك وإنما - أيضا - لأنهما ربياك صغيراً فعليك بالبر بهما، وهذا يحثك ويدفعك إلى أن تحفظ الجميل لمن كان سبباً في إيجادك، وتربيتك، وعندما ترقيها وتتساءل: من أوجد أباك؟ جدّك؟ تصل إلى أين؟ لا يمكن أن تكون لها نهاية إلا أن تتصل بمن لا نهاية له، وهو أن الله قد خلق آدم. ثم قال: قتل النفس، والقتل هو نقض بنية الكائن، وهو يختلف عن الموت، فالموت أن يموت الإنسان وبنيته سليمة، لكن إن تلقى ضربة على رأسه فهو يموت منها، هذا هو نقض البنية سواء أكان الضرب بحجر أم برصاصة أم بأي شيء. ولنقرأ القرآن بإمعان، إنَّ الحق يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] . فالموت هو سلب الحياة بدون نقض بنية، وهذا لا يجريه إلا الله، إنما القتل بهدم البنية، فأي إنسان يستطيع أن يفعله، فتخرج الروح بإذن الله، وليس معنى ذلك أن أحداً عجّل بأجل القتيل، لا، ولكنه تدخل في بنيان أقامه الله فهدمه، ولو لم يتدخل أحد في بنيان الله ليهدمه لكان أجله قد جاء. إذن فالقاتل يُعاقب لأنه تدخل في هدم البنية وهو يعرف أن هذه الروح لا تحل إلا في بنيان له مواصفات خاصة تقتضي أن يكون المخ سليماً، وكذلك القلب، وبقية أجزاء الجسم. لكن حين يجيء الأجل يموت الإنسان ولو لم ينقض أحد البنية. وضربنا مثلاً لنقرِّب هذا الأمر - ولله المثل الأعلى: إنّ هذه الروح نشبهها بالكهرباء، فأنت لا تعرف الروح ولم ترها ولم تسمعها ولم تشمّها ولم تذقها، إذن فبأي وسيلة من وسائل الإدراك أنت لا تعرفها. لكنك تعرف أنها تدير حياة جسمك كله، بدليل أن الروح عندما تُسحب من الجسم يصير رِمّة. وقد جعلها الله كدليل ذاتي في النفس البشرية على وجود إله لا تدركه الأبصار وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2163 يدرك الأبصار، تقول: لا نرى الله. نقول لك: نعم، فهو سبحانه يقول: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] . إن الحق لا يطالبك بأن تبصر ما في الكون فقط من آيات، بل إن الأدلة لا تتعداك أنت أولاً، فروحك التي تدير جسمك أين هي؟ ما شكلها؟ ما لونها؟ ما رائحتها؟ أتعرف؟ لا، ولكنها موجودة فيك وأنت لا تراها، فكيف تطلب أن ترى إلهاً وقد خلق شيئاً لم تقو على أن تراه؟ أمخلوق لا تقدر أن تراه، وبعد ذلك تريد أن ترى خالقه. إذن فمن عظمته أنه لا يُدْرَك، ويقول الحق سبحانه وتعالى عن لحظة تنزل الروح في الجسم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72] . لأنه سيكون إنساناً سوياً، فإن شبهنا تلك الروح بالكهرباء - ولله المثل الأعلى - هل تعرف ما هي هل رأيتها؟ . لم ترها، هل أحد عرفها؟ الذين اكتشفوها، أعرفوا ما هي؟ لم يعرفوا، إنما نعرفها بآثارها، فساعة نرى المصباح منيراً نقول: جاءت الكهرباء، وساعة تدور المروحة تقول: الكهرباء جاءت. إذن فأنت تعرفها بآثارها، كذلك تعرف الشخص أنه مات عندما لا تجد له حركة. وعندما تخف الحركة وتَخْفُت يقولون: خذ الحركة من شيء إن وقف يكون الموت، وليس من اليد، لأن اليد قد لا تتحرك لإصابتها بالشلل، بينما الإنسان مازال حيا؛ ولذلك هات المرأة وضعها أمام مخرج النفس، فإن وجدت بخاراً على المرآة فهذا يعني أن هذا الإنسان مازال حياً، وفيه روح، وكذلك عندما ينكسر المصباح الكهربائي فالكهرباء لا تعمل عملها؛ لأن الكهرباء لا تظهر إلا في قالب من هذا النوع، زجاجة مفرغة الهواء مصنوعة بشكل خاص إن انكسرت أو تلفت يذهب النور. إذن فعندما نهدم الجسم لا تجد الروح الوعاء الذي تظهر فيه، فكذلك المصباح الكهربائي إن انكسر تكون الكهرباء موجودة في الأسلاك إنما لا يوجد نور وعندما تأتي بمصباح جديد يأتي النور، كذلك الروح لا تظهر إلا في الجسد الذي له مواصفات خاصة، هذا وإن القتل هو دليل عجز القاتل، لأن القاتل حين يقتل خصمه فهذه شهادة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2164 منه أنه أعجز من خصمه، صحيح أنه قد قدر عليه وضربه وأماته وهذا مظهر قدرة بشرية حمقاء. لكن في الواقع أن هذا عجز. إن معنى القتل ونقض الحياة أن القاتل يعلن أمام الملأ أنه لا يستطيع أن يواجه حركة حياة خصمه، ولا يرتاح إلا إذا مات هذا الإنسان، إذن فقد شهد القاتل حين يقتل بعجزه. فلو علم القاتل أن قتله لنفس أخرى ليس دليل قدرة وقوة له ولكنها شهادة عجز، وأنه لا يمكن أن يواجه حياة هذا الحي إلا بأن يميته لما قتله، والحق يحمي النفس البشرية من القتل حتى لا يكون أي إنسان مهددا، وحتى لا تتعطل الخلافة التي أرادها الله في الكون. ثم تأتي كبيرة أخرى وهي: قذف المحصنات الحرائر، ونعرف أن ركناً من أركان المجتمع السليم أن تظل الحرائر مصونات كي لا يعاني النشء والنسل الذي ينسل منهم من ظن الريبة والعار، وحين لا تظن النفس البشرية بريبة فهي تواجه الحياة بمنتهى طلاقتها وبمنتهى قدرتها؛ لذلك فالذي يحب أن تشيع الفاحشة ويقذف المحصنات والحرائر بغير ما اكتسبن فهو يحدث زلزلة في المجتمع، زلزلة في نسب أفراد المجتمع، ويضاربها من ليس له ذنب، يضار بها الأولاد الصغار، وما ذنبهم وقد قال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18] . وبعد ذلك قال: أكل الربا؛ لأن الربا يصنع خللاً إقتصادياً فهو يحمل غير الواجد أن يزيد ثروة الواجد. والزنا كبيرة من الكبائر والحق يقول: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] . فالزنا يجعل العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة استمتاع فقط، والعلاقة الأولى التي أرادها الله حينما أوجد حواء لآدم هي أن تكون المرأة سكناً وليست أداة استمتاع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2165 فقط، والاستمتاع إنما جاء لحفظ النوع وأطلقه في النفس البشرية؛ لأن آثار هذا الاستمتاع تبعتها طويلة من تربية للأطفال الذين تطول طفولتهم ويحتاجون لرعاية، ولو لم يربطها بهذا الاستمتاع لكان كثير من الناس يزهد في الأولاد. وكذلك الفرار يوم الزحف كبيرة من الكبائر، لأن الفرار يصنع خللاً في المجتمع الإيماني؛ لأن معنى الزحف أن أعداء الإسلام أغاروا علينا، وما داموا قد أغاروا علينا فكل مسلم يقف على ثغرة من ثغور الإسلام، حتى لا يمكِّن أعداء الإسلام من ديار الإسلام، ولتظل كلمة الله هي العليا، ففرار المسلم يعطي أسوة على ضعف الإيمان في النفس، ولذلك لا تغتروا بأن هذا صار مؤمناً وذاك صار مؤمناً، فلو كان مؤمناً حقاً ووثق بالغاية فهو لا يهاب القتال؛ لأنه إن قتل صار شهيداً ومبشراً من الله بكذا وكذا؛ لذلك فالفرار في يوم الزحف يعطي أسوة سيئة ليس في الحرب فقط، بل سيعطي شيوع خلخلة إيمانية في النفس البشرية، والحق سبحانه وتعالى أوضح أن المؤمن عندما يدخل الحرب يرغب في أحد أمرين كلاهما حسن: النصر أو الشهادة، فقال سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} [التوبة: 52] . والمؤمن يتربص بالكافر ليحقق ما قاله الله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] . فإذا كان الحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمن أن يثبت يقين إيمانه بأن يفقد الحياة التي هي سبب التمسك بمظاهر الحياة لأنه ذاهب لحياة أحسن، ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يحب للمؤمنين أن يقدموا على عمليات انتحارية إلا حين تكون هناك مظنة للنصر بدليل قوله الحق: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [الأنفال: 16] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2166 فالإنسان لا يدخل في معركة وهو غير مستعد لها، أو ليس لديه مظنة النصر، إنه إن فعل ذلك فإنما ينقص المسلمين واحداً، فماذا أفادنا؟ إن على المؤمن أن يقبل على الاستشهاد بثمن يخصه وهو الجنة، وبثمن يُبقي للجماعة الأمان أو النصر. وبعد ذلك: واليمين الغموس. واليمين الغموس تمثل قضية من قضايا خلل المجتمع؛ لأن اليمين الغموس هي السبب الذي يغمس صاحبه في النار؛ لأنه حلف على شيء أنه كان وهو لم يكن، أو على شيء لم يكن وهو قد كان، وبهذا يتسلل الكذب إلى الصدق، ولا يعرف القاضي التمييز حين يفصل في الحقوق، هناك إنسان يكذب ويسشهد ويحلف اليمين أن هذا حدث ويؤدي ذلك إلى ضرر بالغير، فمن يريد أن يظلم لن يعدم شاهدين على باب المحكمة يحلفان له، عندئذ يصبح الإنسان غير مطمئن إلى حركة حياته ولا إلى مصالحه. وتأتي كبيرة أخرى وهي الغلول. وتعني أن المسلمين حين يلتحمون بأعدائهم ويأخذون منهم الغنائم وهي ما نسميها «السَلَب» . . وهي أسلحة الأعداء وما عندهم من أشياء. . فبالله من يدخل معركة بهذا الشكل ويجد غنيمة ويأخذها، أيكون قد نقض عملية الحرب في سبيل الله أم لا؟ إنه ينقض عملية الحرب في سبيل الله، إن الحرب في سبيل الله شرعت لتكون كلمة الله هي العليا، ولذلك يقول الحق: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 161] . لقد قلنا: إن كان قد غلّ بقرة. . فسيحملها يوم القيامة، وسيكون لها خوار. . وإن غل في أسمنت فسيأتي حامله يوم القيامة، ومن غلّ في حديد أو استورد لحوما فاسدة أو سمكا نتنا فإنه سيأتي وهو يحمله يوم القيامة. ثم تأتي كبيرة وهي شهادة الزور. فشهادة الزور أيضا ركن من أركان فساد المجتمعات كلها؛ لأنها لا تجعل المؤمن مطمئنا على حقه. أما السحر فهو كبيرة تهدد المجتمع بما يفزع كيانه؛ لأنه ينتهي إلى قوة خفية، إذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2167 ليس أمام الذي يتعرض للإصابة به عدو مباشر يواجهه، حتى يرتب لنفسه الحماية منه. ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة: 102] . أي ليس له نصيب في الآخرة، وربما يقول قائل: إذا كانت هذه مضرة السحر في هدم كيان المجتمع وتفزيعه، فلماذا وجد؟ نقول له: إن الكائنات مخلوقة لله، وكل كائن له قانون، وقد يكون قانون كائن أخف وأسرع من قانون آخر، فأفراد الجنس الواحد محكومون بقانون واحد. وحين يوجد لأفراد الجنس الواحد قانون يحكم حركته يكون قد وجد في ذلك الجنس تكافؤ الفرص، بمعنى أن لك فرصة هي لغيرك. أما أن توجد لك فرصة ولا توجد لغيرك، فهذا يمثل خللاً في تكافؤ الفرص في الجنس الواحد. إن تكافؤ الفرص هو الأمر الذي يحمي المجتمع، بأن تكون فرصك أنت وفرصي أنا متساوية، فيكون صاحب الحركة في مادة الكون هو الذي يتغلب، وبذلك لا آخذ أنا فرصة غير موجودة عندك. فتكافؤ الفرص هو الذي يرحم البشرية. وإذا كانت قوة الشرق تتمثل في الشيوعية في روسيا قد سقطت وبقيت قوة في الغرب تتمثل في أمريكا، فهناك قوي جديدة تحاول أن تعدل الميزان، اليابان، ألمانيا الموحدة، وأوروبا التي تبحث عن الوحدة، وكل ذلك من أجل أن تتوازن القوي في الفرص المادية الموجودة. وهذا هو ما يحمي الكون من الدمار؛ لأن أي واحد يفكر في أي شر جارف يخاف من رد الفعل، ويخاف أن يردوا عليه بشر أشد، ولو تيقنوا أن واحدة أقوي من الأخرى لجاء الخراب، إذن فحماية الجنس البشري إنما تنشأ من تكافؤ الفرص بين أفراده، ولكن الإنسان جنس، والجن جنس آخر، والإنس والجن مكلفان من الله، فعنصر الاختيار موجود فيهما، ولذلك حكي القرآن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} [الجن: 1 - 2] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2168 وعندما قسموا قال القرآن: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} [الجن: 11] . إذن فهم مثلنا. . لكنهم لهم قانون ولنا قانون: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] . إذن فقانون الجن أنه يرى الإنسان، والإنسان لا يراه، وقانونه أخف من قانون الإنسان؛ لأن كل جنس يستمد قانونه من جرثومة تكوينه الأولى، فنحن البشر مخلوقون من طين. . أي أن لنا مادية محسة وكثيفة. والجن مخلوق من النار، والمخلوق من مادة الطين مثلنا، النبات والحيوان، تفاحة مثلاً مخلوقة من مادة الطين لأنها أخذت عناصر غذائها وتكوينها من تربة الأرض وخصوبتها. هب أنها خلف جدار وأنت جالس. أيتعدّى طعمها لك؟ أتتعدّى رائحتها لك؟ أيتعدّى لونها لك؟ لا، إذن فالجرمية المحيزة لا تجعلك تنتفع به. لكن هب أن ناراً موضوعة وراء الجدار، وبعد مضي مدة ستشعر بالحرارة، أي أن الحرارة قد نفذت. والجن له شفافية وله خفة في قانونه وفي انتقاله ولا توجد مثل هذه الشفافية والخفة للإنسان، ولذلك لاحظوا أن الحق سبحانه وتعالى حينما أراد أن يبين لنا هذا، ضرب لنا المثل بسيدنا سليمان عليه وعلى نبينا السلام الذي سخر الله له الجن: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] . وحينما اجتمع في جنوده ومن حوله من الناس قال: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [النمل: 20] . وبعد ذلك جاءه الهدهد وقال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2169 وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 22 - 23] . وهذا كله ليس بمهم، إنما المهم هو قول الهدهد: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} [النمل: 24] . وهذا ما يهم سيدنا سليمان كرسول. فسيدنا سليمان يتميز بأنه رسول وملك، فجاء بالملكية أولاً: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} هذه مقومات المُلك، أما المسألة التي تهم سيدنا سليمان: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} ، والسجود للشمس من دون الله ضايق الهدهد وهو الطائر، كأن الهدهد عارف لقضية التوحيد وقضية الإيمان بدليل أنه غضب ثم يقول: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25] . إذن فهو يعرف من الذي يستحق السجود، ولاحظ أنه جاء ب «الخَبْء» لأن طعامه دائماً من تحت الأرض، ينقر ويُخرج رزقه. واستمرت القصة حتى قال سليمان لمن يجلس معه: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] . وهذا يدل على أن سليمان عليه السلام كان على علم بأن بلقيس - ملكة سبأ - في الطريق إليه، ومعنى أن يقول: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} معناها أن الذي يتصدّى لهذا الأمر عليه أن يذهب من عند بيت المقدس إلى اليمن ويحلّ ويحمل العرش ويأتي به قبل أن تأتي بلقيس. بالله هل من قانون بشري يأتي به؟ وكيف ذلك؟ . ولذلك لم يتكلم إنسيُّ عادي، فالإنس العادي يعرف أن قانونه البشري لا يقدر على تلك المهمة، لأن سليمان قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2170 {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي} ، وما دام قال ذلك فقد علم أنهم في الطريق. فهل يذهب إنسان عادي ويحلّ العرش ويحمله ويأتي به قبل أن يأتوا؟ لا، ولذلك عرفنا من هذه قول الحق: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . وهنا يتصدّى أحد الأذكياء من الجن قائلاً: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] . ومن يقول ذلك ليس بجن عادي، فالجن أيضاً فيهم عفاريت أذكياء وفيهم من هو عاجز قليل الذكاء، مثل الإنسان، ومن قال ذلك أكد أنه قادر على أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يقوم سليمان من مقامه، فكم يمكث من الوقت؟ لا نعرف، تُرى هل يجلس سليمان مع القوم ساعتين أو ثلاث ساعات لا نعرف، إذن فتأخذ هذه العملية زمن مقامه، لكن ها هو ذلك الإنْسيّ الذي أعطاه الله فتحاً من الكتاب وعلماً يقول: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] . الإنسيّ العادي لم يتكلم، والعفريت من الجن قال: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} أما الإنسيّ الذي أعطاه الله الفتح من الكتاب فقد قال: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ولذلك انظر إلى الأداء العاجل في القرآن أداء الحركة: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} [النمل: 40] . فالمسألة حدثت على الفور. والمهم لنا هنا أن نعرف أن الجن قال: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} ، ومنها نعرف أن له قانوناً في الحركة والسرعة، والإنسان الذي وهبه الله علماً بالكتاب له قدرة وحركة. إذن فكل جنس من الأجناس له القانون المناسب له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2171 وقد يقف بعض الناس كما وقف كثير من سطحيي المفكرين قائلين: ما الجن والملائكة والعالم الخفيّ الذين تحدثوننا به؟ نقول: ألا تؤمن إلا بالمحُسّ بالنسبة لك؟ فما رأيك في الميكروبات التي ظهرت الآن بعدما اختُرع المجهر؟ لقد كانت موجودة، أكنت تعرفها؟ لقد كانت غيباً عنك، فلماذا لا تأخذ من أن شيئاً لم يكن موجوداً تحت حسّك وغير مُدرٍك بإدراكك، كان موجوداً وكنت لا تملك آلة إدراكه، لماذا لا تأخذ من ذلك دليلاً على وجود أجناس غير مُدركة، وعندما يحدثك القرآن عن هذه الأجناس غير المدركة تتساءل عنها؟ فما المشكلة في هذا؟ وبعد ذلك عندما يقول سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الشريف: «وإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» . قد تتساءل: وهل الشيطان يجري مجرى الدم، أهو سائل أم ماذا؟ نقول: هو خلق لطيف خفيّ له قانونه الخاص، فربنا فضح الفكر الملحد وفضح التشكيك في الغيبيات التي يذكرها الله، واكتشفنا أن هناك مخلوقات هي الميكروبات، وهي من الجنس المادي من الطين، لكنها ضئيلة جداً، وماذا يفعل الميكروب؟ إنه ينفذ في الجسم ولا تدري أنت به وهو داخل في جسمك، وبعد ذلك ماذا يفعل في حرارتك؟ وماذا يفعل في جسمك؟ - فعندما يقول لك الرسول المبلغ عن الله: إن الشيطان سيجري منك مجري الدم فما التناقض في هذا؟ إذا كان هناك شيء من مادتك ضئيل ولا تعرف كيف دخل، ولا تشعر به وهو داخل، ثم يقلب ميزانك في الحرارة ويمارس العبث بكل جسمك، فتهيج الكرات البيضاء لتقاومه وتخرج الصديد. أي تناقض إذن؟ إن ربنا ترك من غيبيات كونه المادي ما يثبت صدقه في التحدث بغيبيات أخرى: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ، لقد جاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2172 الحق بواحد من الإنس حتى لا يظنن الجن أنه أخذ خفة قانونه وشفافيته وسرعته من عنصر تكوينه بل إنه أخذها بإرادة المكون - سبحانه - إذن فالمسألة ليست عنصرية بل هي إرادة الله إنه - جلت قدرته - أوضح: أنا أستطيع أن أجعل من الجنس القوي بقانونه وهو الجن محكوماً لواحد من الإنس، ويجعله يعمل ما يريده. ولم يطلقها الله كطاقة ممنوحة لكل البشر حتى لا تحدث فتنة عند من يعرفها؛ لأنها ستعطيه فرصة ليست موجودة عند غيره. وقد يطغي بها وهذا هو السحر. وأوضحنا ذلك عند قوله سبحانه: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102] . فتنة، لماذا؟ ، لأنك تأخذ فرصة ليست موجودة لغيرك، وعندما توجد عندك فرصة ليست موجودة لغيرك فأنت لا تضمن نفسك أن تستعملها في الضار فقد تستعملها في ذلك؛ فستذهب بك إلى النار. والحق يقول: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} [البقرة: 102] . إذن فالحق سبحانه وتعالى من طلاقة قدرته يعطي للجنس الضعيف وهو الإنسان شيئا يستطيع به أن يسخرّ الأقوى وهو الجن، والجن يعرف هذه الحكاية. ولذلك فكل الذين يتمثل لهم الجن لا يَأتي ويَدوم بل يَأتي لمحة خاطفة؛ لأنه لا يستطيع أن يستقر على صورته التي يتمثل فيها، فلو تمثل بإنسان أو بحيوان مثلا لحكمته الصورة، وإن حكمته الصورة، واستطاع من يراه أن يطلق عليه رصاصة من «مسدسه» لقتله! ولذلك الجن يأتي لمحة مثل ومضة البرق ويختفي، إنها طلاقة قدرة الحق التي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2173 يمكن أن تعطي للجنس الأقل - الإنسان - قوة القدرة على أن يُسخِّر الجنس الأقوى - الجن -، لكن هذه ليست في مصلحة الإنسان، ولذلك فالمؤمن من الجنّ يقول: أنا أكتفي في جنسي بقانوني، فربما يجعلني عدم تكافؤ الفُرص طاغياً، لأن من يملكون هذه القُدرة يطغون في الناس. والذي يقوم بعمل تكره به المرأة زوجَها ويكره به الزوج امرأته هو نفسه من يَحِلّ مثل هذ العمل، وَمن مصلحته أن تستمر هذه الحكاية. ولذلك لا أحد يتغلب على تلك المسألة إلا إذا استحضر قول الحق: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} فالسحر وارد بنص القرآن، لكن يجب أن تعلم أن هذه ليست طبيعية في السحرة ولا ذاتية فيهم، وإذا أراد الله ألا يضار الإنسان بالسحر فلن ينفع السحر، وإن اتسعت المعرفة بهذا الأمر تكون فتنة للناس، والذي يتبع هؤلاء السحرة ويذهب لهم ليفكّوا له السحر، ويذهب لهم ليسحروا له الخصوم، وينفتن فيهم يعيش طوال عمره مُرهقاً مصداقاً لقوله الحق: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] . صحيح أنهم يقدرون أن يسحروا، لكن ذلك السحر يزيد المتسبب فيه رهقاً وتعباً. وعلى المؤمن أن يحمي نفسه بهذا الدعاء: «اللهم قد أقدرت بعض خلقك على السحر، واحتفظت لذاتك بإذن الضر، فأعوذ مما أقدرت عليه بما احتفظت به» . عندئذ لن يخافهم ولن يجدوا سبيلاً لهم إليه، فهم يستغلون الضعيف فقط، والسحر يُوجد عدم تكافؤ فرص، ويفتن الناس في الناس، ويؤدي إلى إخلال توازن المجتمع. وبعد ذلك تجيء كبيرة منع الزكاة، والحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا أن نُزكي، إنما يلفتنا إلى أننا لم نأت بشيء من عندنا؛ فالعقل الذي يخطط للعمل مخلوق لله، والجوارح التي تعمل مخلوقة لله، والأرض التي تعمل فيها أو الصنعة التي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2174 نصنعها مخلوقة لله. إذن فكل حاجة لله، لكنه أوضح لك: سأحترم عملك، وعليك أن تعطي أخاك الفقير بعضاً مما رزقتك به. ويقول قائل: ما دام هو ربُّ الكلّ، فلماذا يترك واحداً فقيراً؟ نقول: لكي يُثبت الأغيار في الكون، ويعرف الغنيّ أن الفقر قد يلحقه، ويعرف القوي أن الضعف قد يلحقه، إذن فالمسألة جاءت لنظام الكون، فيحُنن الخالق قلب الواجد على المعدم ليعطيه، فيوم تمنع الزكاة يظهر أثر ذلك في الكون لأنها مسألة محسوبة بحساب دقيق، ولذلك فإذا رأيت واحداً جوعان بحق فاعرف أن واحداً ضيع زكاته فلم يؤدها، وإن رأيت عورة في المجتمع فاعرف أن فيه حداً مضيّعاً لله، لأن ربنا جعل المجتمع متساوياً والنقص هنا يكمّله من هناك، فإن رأيت نقصاً عاماً فاعرف أن فيه حقاً لله مضيعاً. وبعد ذلك حدثنا سيدنا جعفر الصادق عن كبيرة ترك الصلاة، ونعرف أن الصلاة هي إعلان دوام الولاء للإله الواحد، فأنت تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مرّة واحدة في العمر، وتُزكيّ إن كنت واجداً وقادراً مرّة واحدة في السنة، وتحجُ مرّة واحدة في العمر، وتصوم شهراً واحداً في السنة، وإن كنت مريضاً لا تصوم وقد يسقط عنك هذا الركن إذا كان هناك مرض لا يرجى شفاؤه أو أصبح الشخص لا يقوى على الصوم لكبر سنه، وإذا كنت فقيراً لا تزكي، فقد سقطت الزكاة عنك أيضاً، وإن كنت غير مستطيع فلا تحج ويسقط عنك الحج. ها هي ذي ثلاثة أركان لك عذر إن لم تفعلها. وبقي ركنان اثنان من أركان الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والصلاة، وشهادة أن لا إله إلا الله يكفي أن تقولها في العمر مرة، فماذا بقي من أركان الإسلام؟ بقيت الصلاة، ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الصلاة عمود الدين» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2175 إذن فترك الصلاة معناه: أنه تمرد على إعلان العبودية والولاء للحق. وقد طلبها الله في اليوم خمس مرات، وحتم الجماعة فيها في يوم الجمعة في الأسبوع. لماذا؟ حتى يرانا كل العبيد لله عبيداً لله. فلا يعبد واحد ربنا سراً وبعد ذلك لا يرى أحد منا أحداً فكلنا نسجد لله ولا بد من إعلان الولاء لله، فيوم تُترك الصلاة ينعدم إعلان الولاء له - سبحانه -. ومن العجيب أن الصلاة فرضها الله عليك بأنك تذهب له خمس مرات في اليوم، هذا بالأمر والتكليف، وإن لم تذهب تأثم إنه ما أغلق الباب اذهب له في أي وقت تجده في استقبالك في أي مكان تقف وتقول: الله أكبر تكون في حضرة ربنا، وقلنا سابقاً: إن من له السيادة في الدنيا حين تطلب لقاءه تقدم طلباً حتى تلقاه. ويحدد لك الميعاد، وبعد ذلك يسألك أحد رجاله: ستتكلم في ماذا. وقد يقف المسئول أو السيد في الدنيا وينهي المحادثة. لكن ربنا ليس كذلك. أنت تذهب له في أي وقت وفي أي زمان وتطيل كما تحب ولن ينهي المقابلة إلا إذا أنهيتها أنت. ولذلك يقولون: حسبُ نفسي عزاً بأني عبد ... يحتفي بي بلا مواعيد ربّ هو في قدسه الأعزُّ ولكن ... أنا ألقَى متى وأيْن أُحِبّ صحيح هو يأمرني أن ألقاه خمس مرات في اليوم، لكن الباب مفتوح للقائه في أي وقت، وأوضحنا سابقاً - ولله المثل الأعلى - هب أن صنعة تعرض على صانعها خمس مرات كل يوم - أيوجد فيها عطب؟ لا. وأنت تعرض على خالقك وصانعك كل يوم خمس مرات. والصنعة العادية يُصلحها صانعها بسلك أو بمسمار أو بوصلة يضعها، أما أنت المخلوق لله وربّك غيب وهو يُصلح جهازك بما يراه مناسباً. وبعد ذلك بقي من الكبائر نقض العهد وقطيعة الرحم، ونقض العهد لا يجعل إنساناً يثق في وعد إنسان آخر. فينتشر التشكك في نفوس الجماعة الإيمانية بعضها من بعض، والوعد قد يحل مشاكل للناس/المعْسرين، فعندما يقول قادر لغير قادر: أعدك بكذا. ويعطيه ما وعده به، فإن وعده المدين بسداد الدين وأخلفه مرة فلن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2176 يصدقه بعد ذلك. وإن وعده وصدق ثم وعده وصدق ثم وعده وصدق، يصبح صادقاً، وكل ما عند الناس يصبح عنده، ولذلك يقولون: من يأخذ ويعطي يكون المال ماله. وبعد ذلك تأتي كبيرة قطيعة الرحم: لأن الحق سبحانه وتعالى اشتق للرحم اسماً من اسمه فهو القائل في الحديث القدسي: «أنا الرحمن خلقت الرحِم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» . ونعلم جميعاً حكاية سيدنا معاوية عندما دخل عليه الحاجب وقال له: يا أمير المؤمنين هناك واحد بالباب يقول: إنه أخوك، فيقول معاوية للحاجب: أي إخوتي هو؟ ألا تعرف إخوتي؟ فقال الحاجب: إنه يقول: إنه أخوك. فلما دخل الرجل، سأله معاوية: أأنت أخي؟ قال: نعم فقال معاوية: وأي إخوتي أنت؟ . فقال: أنا أخوك من آدم! فقال معاوية: رَحِمٌ مقطوعة، لأكونن أول من وصلها. تلك هي الكبائر التي ذكرها سيدنا جعفر الصادق وهي تمثل ما يمكن أن يكون نقضاً للمجتمع كله من أساسه، فكل كبيرة تنقض ناحية من نواحي المجتمع، وهذا يخالف الإيمان، لأن الإيمان هو منهج إن اتبعناه جميعاً عشنا في أمن. والإسلام أيضاً منهج إن اتبعناه جميعاً عشنا في سلام، فيوم تأتي - أيها المسلم - كبيرة من هذه الكبائر فأنت تزلزل بها ركناً من الأركان، وحينئذ لا يكون هناك أمان ولا سلام، ولذلك يقول الحق سبحانه: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} وعندما ندقق في كلمة {تُنْهَوْنَ عَنْهُ} نلتفت إلى أن أصل الفضائل: أن تسلب نقيصة وأن توجب كمالاً، فقبلما توجب الكمال بالأوامر اسلب النقائص بالنواهي؛ ولذلك يقولون: التخلية قبل التحلية. {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} و «نكفر» أي نستر، لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2177 الكفر هو الستر، وقلنا: إن التكفير للذنوب إماطة للعقاب، والإحباط إماطة للثواب، {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} فلن نسقط عنكم العذاب فقط بل نعطيكم المدخل الكريم - يقول الحق: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] . وقد كان يكفي ألا تعاقب، لكنك حينما تتجنب الكبائر لا يسقط عنك العقاب فقط، بل يدخلك الله مدخلاً كريماً، والمدخل الكريم يتناسب مع من يدخلك في مدخله، فانظر، إلى المدخل الكريم من الله وما شكله؟ يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قال الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرأوا إن شئتم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} » . وبذلك تنتقل الصورة إلى شيء جديد، وهو: التوازن بين أفراد الجنس الإنساني، كل هذا الكلام كي يُحفظ الجنس الإنساني مع بعضه، وبعد ذلك يريد الله أن يقيم توازناً ومصالحة إيمانية بين نوعي الجنس الإنساني فيه ذكورة وفيه أنوثة. ونعرف أن كل جنس من الأجناس لا ينقسم إلى نوعين إلا إذا كان فيه قدر مشترك يجمع النوعين من الجنس، وفيه شيء مفترق يجعل هذا نوعاً وهذا نوعاً ولو لم يكن فيه شيء مفترق لما كان نوعين، إذن فما دام الجنس الواحد نوعين فلا بد أن يجمعهما في شيء مشترك، وما دام الجنس الواحد قد انقسم لنوعين فكل نوع له مهمة. والذكورة والأنوثة هما نوعان لجنس البشر، فالذكر والأنثى يشتركان في مطلوبات الجنس، وبعد ذلك ينفردان في مطلوبات النوع، وبعد ذلك كل نوع ينقسم إلى أفراد. والأفراد أيضاً ليسوا مكررين، بل فيه قدر مشترك يجمع كل الأفراد، وبعد ذلك كل واحد له موهبة وله ريادة وله شطارة في مجال كذا أو كذا، وبذلك يتكامل أفراد الجنس البشري. وما دام الجنس البشري قد انقسم لنوعين، فيكون للرجال خصوصية وللنساء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2178 خصوصية. وربنا سبحانه وتعالى لا يأتي حتى في البنية العامة ليجعل الجنسين مستويين في خصائص البنية، صحيح البنية واحدة: رأس وجذع وأرجل، إنما يأتي ويميز بنية كل نوع بشيء، الرجل له شكل مميز، والمرأة لها شكل مميز. ولذلك فالذين يقولون: نسوي الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل نقول لهم: المرأة لها تكوين خاص، والرجل له تكوينه الخاص، فإذا سويت المرأة بالرجل أعطيت لها مجالات الرجل، وبقيت مجالاتها التي لا يمكن للرجل أن يشاركها فيها، معطلة لا يقوم بها أحد. إذن فأنت حملتها فوق ما تطيق وأنت مخطئ؛ لأنك تأتيها بمتاعب أخرى. إن الحق سبحانه وتعالى ساعة يخلق جنساً، وساعة يقسم الجنس إلى نوعين، يوضح: تنبهوا أن كل نوع له مهمة وفيه شيء مشترك، المشترك بين الأنوثة والذكورة، ما هو؟ إن هذا إنسان وذلك إنسان، وإن هذا من ناحية الإيمان مُطالب منه أن يكون له عقيدة إيمانية ولا أحد يسيطر على الآخر في عقيدته الإيمانية، الاثنان متساويان فيها، ولا يفرضها واحد على الآخر، وضرب الله سبحانه وتعالى لنا مثلاً على تشخص الذكورة وتشخص الأنوثة في الأمر الأولى للإيمان، وإن اختلفت في الأمر الثانوي للأحكام، فيقول: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} [التحريم: 10] . وهذان رسولان، ومع ذلك لم يستطيعا إقناع زوجتيهما بالتوحيد إذن فكل إنسان له حرية العقيدة والتعقل، ولا أحد تابع لآخر في هذه المسألة أبداً. ويقول الحق: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11] . فرعون الذي ادعي الألوهية لم يقدر أن يرغم إمرأته على أن تكفر والحق سبحانه وتعالى قال فيها: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2179 {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] . إذن ففي مسألة العْقيدة الكل فيها سواء، الذكورة والأنوثة، فيها عقل وفيها تفكير. ولعل المرأة تشير برأي قد يعزّ على كثير من الرجال. ولنا المثل من زوج رسول الله (أم سلمة) وموقفها في صلح الحديبية فعندما يأتي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليعقد المعاهدة، ويحزن أصحابه ومنهم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الذي قال: أنقبل الدنية في ديننا فيقول له سيدنا أبو بكر: الزم غرزك يا عمر إنه رسول الله. فدخل رسول الله مغضباً، طبعاً من حمية عمر وحزن الصحابة، لأنها مسألة تعز على النفس البشرية، لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يذهب فيجد أم سلمة فيقول لها: هلك المسلمون «ألا ترين إلى الناس آمرهم بالأمر فلا يفعلونه وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي؟ فقالت يا رسول الله: لا تلمهم فإنه قد داخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصْلح ورجوعهم بغير فتح يا نبي الله اخرج إليهم ولا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتدعو حالقك فيحلقك» . لقد وقّع رسول الله صلح الحديبية وانتهت المسألة. ولكن رحمة الله بالمؤمنين الذين وقفوا أمام رسول الله في هذه المسألة، ورحمة الله لهم بأم سلمة أوضح لهم الرسول: سأبين لكم: أنتم لو دخلتم مكة وفيها أناس مسلمون لاتعرفونهم إنهم يكتمون إيمانهم وإسلامهم، والبيت الكافر قد يكون فيه واحد مسلم، وقد تقتلون أناساً مسلمين لا تعرفونهم فتصيبكم معرة أي ما تكرهونه ويشق عليكم مصداقاً لقول الحق تعالى: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] . لو تزيلوا أي لو تميز المؤمنون في منطقة لعاقبنا الكافرين عقابا شديداً. إذن لقد أوضح لهم العلة، فرضي الكل، ولنا أن نلتفت إلى أن المسألة جاءت من سيدتنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2180 أم سلمة، وهذا دليل على أن الله لا يمنع أن يكون لامرأة عقل وتفكير ناضج، ولذلك نجد القرآن يؤكد ذلك في قصة بلقيس، لقد فكرت بلقيس في الرجل الآتي ليزلزل ملكها؛ يا ترى هل هو طالب ملك، فجاء على لسانها في القرآن الكريم. {قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ} [النمل: 29 - 32] . فماذا قال القادة؟ قالوا: لا، هذه ليست مسألتنا، وجاء القرآن بقولهم: {قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] . كان رجل الحرب يُؤتمر فقط، يحارب أو لا يحارب، لكن الذي يقدر هذا هم الساسة الذين ليس عندهم حمية وحركية القتال. نقول لقائد الجند: أنت تنتظر الأمر، وتجعل الساسة الهادئين يفكرون في عواقب الأمور؛ لذلك قال قادة الجند لبلقيس: {نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ} لقد وضعوا الأمر في رقبتها وهي امرأة، ففكرت: سأجرب وأختبره وأنظر أهو طالب مُلك أم صاحب دين - فأرسلت هدية له، فلما جاءته الهدية جاء القرآن بما قاله سيدنا سليمان عندما تلقي الهدية: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36] . فعرفت بلقيس أن المُلْك ليس هدفه، وبعد ذلك عرفت أنه صاحب رسالة، فقالت: أذهب له وأسلم، انظر أداء العبارة القرآنية عندما تصور إيمان ملكه قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2181 يعني: أن وهو أصحبنا عبيداً لله، هذه رفعة الإيمان؛ فلا غضاضة ما دامت هي وهو عبيداً لإله واحد، وبلقيس امرأة ولم يحرمها ربنا من الرأي الحسن أيضاً ومن الأداء الجميل، وهي عندما ذهبت ووجدت عرشها وقد جاء به من عنده علم من الكتاب وأقامه، لقد تركت العرش في بلدها وجاءت إلى سليمان فوجدت عرشها، وكان لا بد أن يلتبس عليها الأمر، وقالوا لها: أهكذا عرشك؟ : {فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42] . فأجابت إجابة دبلوماسية وكياسة: {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42] . هي امرأة ولم يحرمها الله من تميز الفكر؛ لذلك لا يصح أن نحرم المرأة من أن يكون لها فكر. لكن المهم أن تعلم أن لها حدوداً في إطار نوعيتها، ولا تعتبر النقص في شيء للرجل أنه نقص فيها، فإذا ما كان عندها كمال لا يوجد عند الرجل فلتعلم أنه حتى في البنية يختلف الرجل عن المرأة؛ الرجل فيه خشونة وفيه صلابة وفيه قوة، والمرأة فيها رقة وفيها ليونة ومستميلة، ولها عاطفة فياضة، وفيض حنان، والرجل فيه صلابة حزم وعزم، إذن فكل واحد معدّ لمهمة. فلا يقولن أحد: أنا ناقص في هذه، لكن انظر غيرك إنه ناقص في ماذا وهو عندك أيضاً كامل. ويأتي الدين ليوضح: يا مؤمنون. . الحرير حرام على الذكور وحلال للإناث الذهب حرام على الذكور وحلال للإناث، أي تدليل أكثر من هذا؟ لقد حرم على الرجال التمتع بالحرير والذهب وأعطاهما للنساء، والدين يطلب أن تكون المرأة سكناً للرجل، فالمفروض أن الرجل هو الذي يتحرك حركة الحياة خارجاً، وعندما يعود لمنزلة فهو يسكن لزوجه، والذي يصقل السيف ويحده، مثل الشجاع الذي يضرب به تماماً كل له عمل يكمل عمل الآخر، وكذلك الرجل عندما يدخل منزله ويجد حياته مرتبة بفضل جهد زوجته فهو يرتاح ويشكر لها ما شاركته من أعباء الحياة. ويقول الحق من بعد ذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2182 {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2183 الحق سبحانه وتعالى خلق الكون وفيه أجناس، وكل جنس يشمل أنواعاً أو نوعين، وتحت كل نوع أفراد. فإذا ما رأيت جنساً من الأجناس انقسم إلى نوعين، فاعلم أنهما يشتركان في مطلوب الجنس، ثم يختلفان في مطلوب النوع، ولو كانا متحدين لما انقسما إلى نوعين. كذلك في الأفراد. وإذا نظرنا إلى الجماد وجدنا الجماد جنسا عاما ولكنه انقسم إلى عناصر مختلفة، لكل عنصر من هذه العناصر مهمة مختلفة، فمثلاً إذا أردنا إقامة بناء، فهذا البناء يتطلب رملاً، ويتطلب أسمنتاً، ويتطلب آجُراً، ويتطلب حديداً، فجنس الجماد كله مشترك في إقامة البناء، ولكن للأسمنت مهمة، وللجبس مهمة، وللرمل مهمة، وللمرو - وهو الزلط - مهمة، فلا تأخذ شيئا في مهمة شيء آخر. وكذلك انقسم الإنسان إلى نوعين، إلى ذكورة تتمثل في الرجال، وإلى أنوثة تتمثل في النساء، وبينهما قدر مشترك يجمعهما كجنس، ثم بينهما اختلاف باختلاف نوعيهما. فلو أردت أن تضع نوعاً مكان نوع لما استطعت. إذن فمن العبث أن يخلق الله من جنس نوعين، ثم تأتي لتقول: إن هذا النوع يجب أن يكون مثل هذا النوع. وأيضاً نعرف ذلك عن الزمن، فالزمن ظرف للأحداث، أي أن كل حدث لا بد له من زمن، لكن لكل زمن حدث يناسبه. فالزمن وهو النهار ظرف للحدث في زمنه، والليل أيضاً ظرف للحدث في زمنه. ولكن الليل حدثه السكون والراحة، والنهار حدثه الحركة والنشاط. فإن أردت أن تعكس هذا مكان هذا أحلت وجمعت بين المتناقضين. لقد أوضحنا أن الله يلفتنا إلى شيء قد نختلف فيه نختلف فيه بشيء قد اتفقنا عليه، فيبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2183 لك: هذا الذي تختلف فيه ردّه إلى المتفق عليه. فالزمن لا خلاف في أنك تجعل الليل سكناً ولباساً وراحة وهدوءاً، والنهار للحركة. وكل الناس يصنعون ذلك. فالحق سبحانه وتعالى يوضح: كما جعل الزمن ظرفاً لحركة إلا أن حركة هذا تختلف عن حركة هذا، وهل معنى ذلك أن الليل والنهار نقيضان أو ضدان أو متكاملان؟ إنهما متكاملان؛ لأن راحة الليل إنما جُعلت لتصح حركة النهار. فأنت تنام وترتاح لتستأنف نشاطاً جديداً. إذن فالليل هو الذي يعين النهار على مهمته. . ولو أن إنساناً استيقظ ليلة ثم جاء صباحاً لما استطاع أن يفعل شيئاً. إذن فما الذي أعان حركة النهار؟ . . إنه سكون الليل، فالحق سبحانه وتعالى بيّن: أن ذلك أمر متفق عليه بين الناس جميعاً متدينين وغير متدينين. . فإذا اختلفتم في أن الذكورة والأنوثة يجب أن يتحدا في العمل والحركة والنوع نقول لكم: لا، هذا أمر متفق عليه في يجب أن يتحدا في العمل والحركة والنوع نقول لكم: لا، هذا أمر متفق عليه في الزمن، فخذوا ما اتفقتم عليه دليلاً على صحة ما اختلفتم فيه. ولذلك ضرب الله المثل فقال: {والليل إِذَا يغشى} [الليل: 1] . فعندما يغشي الليل يأتي السكون، وقال الحق بعد ذلك: {والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 2] {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 3 - 4] . أي أن لكل جنس مهمة. وهكذا نعرف أن الإنسان ينقسم إلى نوعين: الذكورة والأنوثة وفيهما عمل مشترك وخاصية مشتركة. وأن كلا منهما إنسان له كرامة الإنسان وله حرية العقيدة فلا يوجد رجل يرغم امرأة على عقيدة، وضربنا المثل بامرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2184 إذن فالقدر المشترك هو حرية الاعتقاد، فلا سلطان لنوع على نوع، وكذلك حرية التعقل في المهمات، وعرفنا كيف أن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أشارت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزوة الحديبية إشارة أنقذت المسلمين من انقسام فظيع أمام حضرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعرفنا قصة بلقيس - ملكة سبأ - التي استطاعت أن تبرم أمراً تخلى عنه الرجال، إذن فمن الممكن أن يكون للمرأة تعقل وأن يكون للمرأة فكر، وحتى قبل أن يوجد الإسلام كانت هناك نساء لهن أصالة الرأي، وحكمة المشورة في نوع مهمتها. فمثلاً يحدثنا التاريخ أن ملك «كندة» سمع عن جمال امرأة اسمها «أم إياس» بنت عوف بن محل الشيباني، فأراد أن يتزوجها، فدعا امرأة من «كِندة» يقال لها: «عصام» وكانت ذات أدب وبيان وعقل لسان، وقال لها: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف. أي أرسلها خاطبة. فلما ذهبت إلى والدة «أم إياس» واسمها «أمامة بنت الحارث» وأعلمتها بما جاءت له. وأرسلت الأم تستدعي الابنة من خيمتها، وقالت لها: هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض شأنك فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه من وجه وخلق ونَاطقِِيها فيما استنطقتك به. فلما اختلت «عصام» بالبنت فعلت مثل ما أمرتها أمها. وكشفت للخاطبة «عصام» عن كل ما تريد من محاسنها، فقالت الخاطبة كلمتها المشهورة: «ترك الخداع» ما انكشف القناع «، وصار هذا القول مثلاً، أي أن القناع عندما يزول يرى الإنسان الحقيقة، وعادت الخاطبة» عصام «إلى الملك فسألها: ما وراءك يا» عصام «إنه يسأل: أي خبر جئت به من عند» أم إياس «؟ . فقالت: أبدي المخض عن الزبد. والمخض هو: هزّ الحليب في القربة ليفصل الزبد عن اللبن. وذلك يعني أن رحلتها قد جاءت بنتيجة. فقال لها: أخبريني. قالت: أخبرك حقاً وصدقاً. ووصفتها من شعرها إلى قدمها وصفاً أغرى الملك. فأرسل إلى أبيها وخطبها وزفت إليه. وفي ليلة الزفاف نرى الأم العاقلة توصي ابنتها في ميدان عملها، في ميدان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2185 أمومتها، في ميدان أنوثتها، قالت الأم لابنتها:» أي بنية، إن النصيحة لو تركت لفضل أدب لتركت لذلك منك - أي أنها كأم تثق في أدب ابنتها ولا تحتاج في هذا الأمر لنصيحة - ولكنها معونة للغافل وتذكرة للعاقل. إنك غداً ستذهبين إلى بيت لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه. فكوني له أمةً يكن لك عبداً. واحفظي عني عشر خصال تك لك ذخراً «. وانظروا إلى الخصال التي استنبطتها المرأة من ميدان رسالتها، تستمر كلمات الأم:» أما الأولى والثانية: فالمعاشرة له بالسمع والطاعة والرضا بالقناعة، وأما الثالثة والرابعة: فالتعهد لموقع عينه وموضع أنفه فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح. والخامسة والسادسة: التفقد لوقت طعامه والهدوء عند منامه فإن تنغيص النوم مغضبة، وحرارة الجوع ملهبة. أما السابعة والثامنة: فالتدبير لماله والإرعاء على حشمه وعلى عياله. وأما التاسعة والعاشرة: فألا تفشي له سرّاً ولا تعصي له أمراً؛ فإنك إن أفشيت سرّه لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، وإياك بعد ذلك والفرح إن كان ترحاً والحزن إن كان فرحاً «. فذهبت أم إياس بهذه النصائح إلى زوجها وأنجبت له البنين والبنات وسعدت معه وسعد معها. تلك نصيحة من أم تدل على منتهى التعقل، ولكن في أي شيء؟ . في ميدان مهمتها. إذن فالمرأة يمنحها الله ويعطيها أن تتعقل ولها ميدان ولا يأتي هذا التعقل غالباً إلا في ميدانها. ولأن ميدان الرجل له حركة تتطلب الحزم، وتتطلب الشدة، والمرأة حركتها تتطلب العطف والحنان؛ والأمثال في حياتنا اليومية تؤكد ذلك، إن الرجل عندما يدخل بيته ويحب أن ينام، قد يأتي له طفله صارخاً باكياً، فيثور الأب على زوجته ويسب الولد ويسب أمه، وقد يقول ألفاظاً مثل:» اكتمي أنفاسه إني أريد أن أستريح «. وتأخذ الأم طفلها وتذهب تربت على كتفه وتسكته، ويستجيب لها الطفل، فهذه مهمة الأم، ولذلك نجد أن الأحداث التاريخية العصيبة تبرز الرجل في مكانه والمرأة في مكانها. فمثلاً: سيدنا إبراهيم عليه السلام أسكن هاجر وابنها إسماعيل بوادٍ غير ذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2186 زرع، قالت له: أتتركنا في مكان ليس فيه حتى الماء، أهذا نزلته برأيك أم الله أنزلك فيه؟ . قال لها: أنزلني الله هذا المكان. فقالت له: ساذهب كما شئت فإنه لا يضيعنا. هذه المهمة للمرأة. هاجر مع طفل في مكان ليس فيه مقوم الحياة الأول وهو الماء. فانظروا عطفها وحنانها، ماذا فعلت؟ لقد سعت بين الصفا والمروة، صعدت الجبل إلى أن أنهكت قواها. إن الذي يذهب إلى الحج أو العمرة ويجرب الأشواط السبعة هذه يعرف أقصى ما يمكن أن تتحمله المرأة في سبيل ابنها؛ لأن هذا موقف عطف وحنان، ابنها يريد أن يشرب. وكأن الله قال لها: إنك قد سعيت ولكني سأجعل رزقك من حيث لا تحتسبين، أنت سعيت بين الصفا والمروة، والماء ينبع تحت قدمي ولدك. إذن فصدقت في قولها: إنه لا يضيعنا، ولو أن سعيها جاء بالماء لظننا جميعاً أن السعي هو الذي يأتي بالماء، ولكن اسع ولا تعتقد في السعي، بل اعتقد في الرزّاق الأعلى، تلك مسألة ظاهرة في أمنا هاجر. وحينما جاء موقف الابتلاء بالذبح، اختفت هاجر من المسرح، وجاء دور سيدنا إبراهيم بحزمه وعزمه ونبوته. ورأي في الرؤيا أنه يذبح ابنه، أين أمه في هذا؟ اختفت من المسرح؛ لأن هذا موقف لا يتفق مع عواطفها وحنانها. إذن فكل واحد منهما له مهمة. والنجاح يكون على قدر هذه المهمة. ولذلك يقول الحق: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} فساعة ترى جنساً أخذ شيئاً وجنساً آخر أخذ شيئاً، إياك تشغل بالك وتتمنى وتقول: «أريد هذه» ، ولكن اسأل الله من فضله؛ لأن كلمة «ولا تتمنوا» هي نهي عن أن تتمنى ما فضل الله به بعضا على بعض، ولذلك يقول: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} . وما دمت تسأل الله من فضله؛ فهنا أمل أن يعطيك. وقد يرى البعض هنا مشكلة فيتساءل: كيف ينهانا الله عن أن نتمنى ما فضل الله به بعضنا على بعض فقال: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} مع أن فضل الله من شأنه أن يفضل بعضنا على بعض بدليل قوله: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فضلاً على أنني أطمع في أن أسأل الله ليعطيني؛ لأنه - سبحانه - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2187 ما أمرنا بالسؤال إلاّ ليعطينا. ونقول: لا، التمني عادة أن تطلب شيئاً يستحيل أو لم تجر به العادة، إنما السؤال والدعاء هو مجال أن تأتي إلى شيء تستطيع الحصول عليه، فأوضح: لا تذهب إلى منطقة التمني، ولذلك ضربوا المثل للتمني ببيت الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوماً ... فأخبره بما فعل المشيب تمنىّ الشاعر أن يعود الشباب يوماً فهل هذا يتأتى؟ إنه لا يتأتى. أو أن يقول قائل: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها، هل يمكن أن يحدث ذلك؟ لا. ولكن هذا القول يدل على أن هذا الشيء محبوب وإن كان لم تجر به العادة، أو هو مستحيل، إذن فالسؤال يجب أن يكون في حدود الممكن بالنسبة لك. والحق يوضح: لا تنظروا إلى ما فضل الله به بعضكم على بعض. وما دام الله قد فضل بعضاً على بعض فليسأل الإنسان لا في منطقة ما فضل الله غيره عليه ويطلبه لنفسه ويسلبه من سواه، ولكن في منطقة أن توفق في إبراز ما فضلك الله به؛ ولذلك نجد الحق في آيات التفضيل يقول: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} [النحل: 71] . وما هو الرزق؟ هل هو نقود فقط. لا. بل الرزق هو كل ما ينتفع به، فالحلم رزق، والعلم رزق، والشجاعة رزق، كل هذا رزق، وقوله الحق: {مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} يجعلنا نتساءل: من هو المفضل ومن هو المفضل عليه؟ لأنه قال: «بعضكم» . لم يبينها لنا، إذن فبعض مفضل وبعض مفضل عليه. وسؤال آخر: وأي بعض مفضل وأي بعض مفضل عليه؟ إن كل إنسان هو فاضل في شيء ومفضول عليه في شيء آخر، فإنسان يأخذ درجة الكمال في ناحية، وإنسان يفتقد أدنى درجة في تلك الناحية، لكنه يملك موهبة أخرى قد تكون كامنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2188 ومكتومة. وهذا يعني التكامل في المواهب، وهذا التكامل هو أسنان الحركة في المجتمع. لننتبه إلى التروس، نحن نجد الترس الزائد يدخل في الترس الأقل، فتدور الحركة، لكن إذا وضعنا ترساً زائدا مقابل ترس زائد مثله فلن تحدث الحركة. إذن فلا بد أن يكون متميزا في شيء والآخر متميزاً في شيء آخر فيحدث التكامل بينهما، ومثل ذلك قلنا: الليل والنهار، الليل يعينني على حركة النهار، وقلنا: إن السيف في يد الفارس يضرب به ويقتل، ولو لم يسنّه خبير في الحدادة ويشحذه ويصقله لما أدى السيف مهمته، وقد لا يستطيع هذا الخبير في صقل السيوف الذهاب للمعركة، وقد يخاف أن يضرب بالسيف، لكن له فضل مثل فضل المحارب بالسيف. إن كل واحد له مهمة يؤديها، والأقدار تعطي الناس مواهبهم المتكاملة وليست المتكررة المتعاندة، وما دامت المواهب متكاملة فلا أحسد من تفوّق عليّ في مجال ما؛ لأنني أحتاج إليه، وهو لا يحسدني إن تفوقت عليه في موهبة أو عمل لأنه يحتاج إلى، إذن فأنا أريده أن يتفوق، وهو يريدني أن أتفوق، وذلك مما يحبب الناس في نعم ومواهب الناس، فأنا أحب النعمة التي وهبها الله للآخر، وهو يحب النعمة والموهبة التي عندي. مثال ذلك عندما نجد رجلا موهوبا في تفصيل الملابس ويحيك أجود الجلابيب فالكل يفرح به، وهذا الرجل يحتاج إلى نجار موهوب ليصنع له باباً جيداً لدكانه، ومن مصلحة الاثنين أن تكون كل نعمة عند واحد محمودة، ولذلك سمانا الله «بعضا» و «بعضا» ويتكون الكل من بعض وبعض، فأنت موهوب في بعض الأمور ولا تؤدي كل الأمور أبداً، ولكن بضميمة البعض الآخر نملك جميعاً مواهب بعضنا بعضا. ويتابع الحق: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن} فمهمة النجاح للرجل أو المرأة هو أن يكون كل منهما صالحاً ومؤديا للمهمة التي خُلق من أجلها، بعد ذلك يكون حساب الثواب والعقاب وكل واحد على قدر تكليفه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2189 فالثواب والعقاب يأتي على مقدار ما يقوم كل مخلوق مما كلف به. والمثال على اختلاف مهمة الرجل عن مهمة المرأة، يتجلى في أننا نجد الرجل عندما تغضب امرأته أو تمرض، ويكون عنده ولد رضيع، فهل يستطيع هو أن يرضع الطفل؟ طبعاً لا؛ لأن لكل واحد مهمة؛ فالعاقل هو من يحترم قدر الله في خلقه، ويحترم مواهب الله حين أعطاها، وهو يسأل الله من فضله، أي مما فضله به ليعطي له البركة في مقامه. وحين يقول الحق: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن} نلحظ أن هذه تساوي تلك تماماً. {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} ومن واسع علمه سبحانه أنه وزع المواهب في خلقه حتى يتكامل المجتمع ولا يتكرر؛ لأن تكرار المجتمع هو الذي يولد الشقاق، أما تكامله فيولد الوفاق، وسبب نزول الآية {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} أن النساء قلن: إننا لم يكتب علينا الجهاد وأعطانا ربنا نصف الرجل من الميراث، وقد أوضح الحق من قبل للمرأة أنها أخذت نصف الرجل لأنها محسوبة على غيرها ولن تصرف وتنفق من دخلها على نفسها، بل سيصرف الرجل وينفق عليها، والمسألة بذلك تكون عادلة. وكذلك قال الرجال: ما دام الله قد فضلنا في الميراث، وأعطانا ضعف نصيب المرأة فلعله يفضلنا في الآخرة ويعطينا ضعف ثوابها، فيصنع الرجل العمل الواحد ويريد الضِّعف! . وانظر لذكاء المرأة، حينما قالت: ما دام ربنا أعطانا نصف ميراثكم فلماذا لا يعطينا نصف العقوبة إذن؟ فأوضح لهم الله: اهدأوا {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} أي أن على كل واحد أن يرضي بما قسمه الله له. وبعد ذلك يقول الحق: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2190 وساعة ترى لفظة «لكل» وتجدها منونة، فاعرف أن هناك حاجة مقدرة، وأصلها «لكل إنسان» وحذف الاسم وجاء بدلاً منه التنوين، مثل قوله: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 83 - 84] . ونجد التنوين في «حينئذٍ» أي حين بلغت الروح الحلقوم، فحذف حين بلغت الروح الحلقوم وعوض عنها التنوين في «حينئذٍ» إذن فالتنوين جاء بدلاً من المحذوف. وقول الحق: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} ، و «الموالي» جمع «مَوْلى» . وقبل أن تنزل آيات الميراث، آخى النبي بين الأنصار والمهاجرين، فكانوا يتوارثون بهذه المؤاخاة، وكان هناك شيء اسمه «مولى المناصرة» وهو أن يستريح اثنان لبعضهما ويقول كل منهما للآخر: أنا أخوك وأنت أخي، حربي حربك، وسلمي سلمك، ودمي دمك، وترث مني وأرث منك، وتعقل عني وأعقل عنك، أي أن فعلتُ جناية تدفع عني، وإن فعلتَ أنت جناية أدفع عنك. مؤاخاة. هؤلاء كان لهم نصيب في مال المتوفي، فالحق يبيّن: لكل إنسان من الرجال والنساء جعلنا ورثة يرثون مما ترك الوالدان، والأقربون. . أي لهم نصيب من ذلك ولأولياء المناصرة بعض من الميراث كذلك. فإياكم أن تأتوا أنتم وتقولوا: لا، لا بد أن تعطوهم نصيبهم الذي كان مشروطاً لهم وهو السدس. لكن ظل ذلك الحكم؟ لا لقد نسخ وأنزل الله قوله: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2191 فما دام الله قد قال: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} . أي ولكل إنسان من الموالي شيء من آثار ما ترك الوالدان والأقربون. فإياكم أن تقولوا: هم ذهبوا فلا نعطيهم شيئا، لا ما كانوا متفقين فيه وعقدوا أيمانهم عليه آتوهم نصيبهم مصداقاً لقوله الحق: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} فالله شهيد على هذه. وشهيد على أنكم تنفذون أو لا تنفذون. وبعد ذلك جاء ليتكلم في قضية متصلة بقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} فقال: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2192 {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} ، أول ما نلتفت إليه أن بعضهم لم يفسروا الآية إلاّ على الرجل وزوجته على الرغم من أنَّ الآية تكلمت عن مطلق رجال ومطلق نساء، فليست الآية مقصورة على الرجل وزوجه، فالأب قوام على البنات، والأخ على أخواته. ولنفهم أولاً {الرجال قَوَّامُونَ} وماذا تعني؟ وننظر أهذه تعطي النساء التفوق والمركز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2192 أم تعطيهن التعب. والحق سبحانه وتعالى يطلب منا أن نحترم قضية كونية، فهو الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه وأوضح القضية الإيمانية {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} والذي يخالف فيها عليه أن يوضح - إن وجد - ما يؤدي إلى المخالفة، والمرأة التي تخاف من هذه الآية، نجد أنها لو لم ترزق بولد ذكر لغضبت، وإذا سألناها: لماذا إذن؟ تقول: أريد ابناً ليحمينا. كيف وأنت تعارضين في هذا الأمر؟ ولنفهم ما معنى «قوَّام» ، القوَّام هو المبالغ في القيام. وجاء الحق هنا بالقيام الذي فيه تعب، وعندما تقول: فلان يقوم على القوم؛ أي لا يرتاح أبدا. إذن فلماذا تأخذ {قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} على أنه كتم أنفاس؟ لماذا لا تأخذها على أنه سعى في مصالحهن؟ فالرجل مكلف بمهمة القيام على النساء، أي أن يقوم بأداء ما يصلح الأمر. ونجد أن الحق جاء بكلمة «الرجال» على عمومها، وكلمة «النساء» على عمومها، وشيء واحد تكلم فيه بعد ذلك في قوله: {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} فما وجه التفضيل؟ إن وجه التفضيل أن الرجل له الكدح وله الضرب في الأرض وله السعي على المعاش، وذلك حتى يكفل للمرأة سبل الحياة اللائقة عندما يقوم برعايتها. وفي قصة آدم عليه السلام لنا المثل، حين حذر الحق سبحانه آدم وزوجته من الشيطان، إبليس الذي دُعي إلى السجود مع الملائكة لآدم فأبى، وبذلك عرفنا العداوة المسبقة من إبليس لآدم، وحيثيتها: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] . وأوضح الحق لآدم: إذا هبطت إلى الأرض فاذكر هذه العداوة. وأعلم أنه لن يتركك، وسيظل يغويك ويغريك؛ لأنه لا يريد أن يكون عاصياً بمفرده، بل يريد أن يضم إليه آخرين من الجنس الذي أبى أن يسجد هو لأبيهم آدم يريد أن يغويهم، كما حاول إغواء آدم: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة} [طه: 117] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2193 وهل قال الحق بعدها: فتشقيا أو فتشقى؟ قال سبحانه: {فتشقى} [طه: 117] . فساعة جاء الشقاء في الأرض والكفاح ستر المرأةوكان الخطاب للرجل. وهذا يدل على أن القوامة تحتاج إلى تعب، وإلى جهد، وإلى سعي، وهذه المهمة تكون للرجل. ونلحظ أنه ساعة التفضيل قال: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} لقد جاء ب «بعضهم» لأنه ساعة فضل الرجل لأنه قوّام فضل المرأة أيضاً لشيء آخر وهو كونها السكن حين يستريح عندها الرجل وتقوم بمهمتها. ثم تأتي حيثية القوامة: {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . والمال يأتي نتيجة الحركة ونتيجة التعب، فالذي يتعب نقول له: أنت قوّام، إذن فالمرأة يجب أن تفرح بذلك؛ لأنه سبحانه أعطى المشقة وأعطى التعب للجنس المؤهل لذلك. ولكن مهمتها وإن كانت مهمة عظيمة إلا أنها تتناسب والخصلة المطلوبة أولاً فيها: الرقة والحنان والعطف والوداعة. فلم يأت بمثل هذا ناحية الرجل؛ لأن الكسب لا يريد هذه الأمور، بل يحتاج إلى القوة والعزم والشدة، فقول الله: «قوامون» يعني مبالغين في القيام على أمور النساء. ويوضح للنساء: لا تذكرن فقط أنها حكاية زوج وزوجة. قدرن أن القيام يكون على أمر البنات والأخوات والأمهات. فلا يصح أن تأخذ «قوام» على أنها السيطرة؛ لأن مهمة القيام جاءت للرجل بمشقة، وهي مهمة صعبة عليه أن يبالغ في القيام على أمر من يتولى شئونهن. {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فإذا كان الزواج متعة للأنثى وللذكر. والاثنان يستمتعان ويريدان استبقاء النوع في الذرية، فما دامت المتعة مشتركة وطلب الذرية أيضا مشتركا فالتبعات التي تترتب على ذلك لم تقع على كل منهما، ولكنها جاءت على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2194 الرجل فقط ... صداقاً ونفقة حتى ولو كانت المرأة غنية لا يفرض عليها الشرع حتى أن تقرض زوجها. إذا فقوامه الرجال جاءت للنساء براحة ومنعت عنهن المتاعب. فلماذا تحزن المرأة منها؟ ف {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} أي قائمون إقامة دائمة؛ لأنه لا يقال قوّام لمطلق قائم، فالقائم يؤدي مهمة لمرة واحدة، لكن «قوّام» تعين أنه مستمر في القوامة. {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وما دمنا نكدح ونتعب للمرأة فلا بد أن تكون للمرأة مهمة توازي ذلك وهي أن تكون سكناً له، وهذه فيها تفضيل أيضاً. لقد قدم الحق سبحانه وتعالى في صدر الآية مقدمة بحكم يجب أن يُلتزم به؛ لأنه حكم الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه، فأوضح القضية الإيمانية: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} ثم جاء بالحيثيات فقال: {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ويتابع الحق: {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} والمرأة الصالحة هي المرأة التي استقامت على المنهج الذي وضعه لها من خلقها في نوعها، فما دامت هي صالحة تكون قانتة، والقنوت هو دوام الطاعة لله، ومنه قنوت الفجر الذي نقنته، وندعو ونقف مدة أطول في الصلاة التي فيها قنوت. والمرأة القانتة خاضعة لله، إذن فحين تكون خاضعة لله تلتزم منهج الله وأمره فيما حكم به من أن الرجال قوامون على النساء، {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} وحافظات للغيب تدل على سلامة العفة. فالمرأة حين يغيب عنها الراعي لها والحامي لعرضها كالأب بالنسبة للبنت والابن بالنسبة للأم، والزوج بالنسبة للزوجة، فكل امرأة في ولاية أحد لا بد أن تحفظ غيبته؛ ولذلك فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما حدد المرأة الصالحة قال في حديث عن الدنيا: «الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2195 لقد وضع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قانوناً للمرأة الصالحة يقول فيه: «خير النساء التي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره» . وأي شيء يحتاج الرجل إليه أحسن من ذلك. وكلمة «إن نظرت إليها سرّتك» إياك أن توجهها ناحية الجمال فقط، جمال المبنى، لا، فساعة تراها اجمع كل صفات الخير فيها ولا تأخذ صفة ولا تترك صفة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حذرنا من أن نأخذ صفة في المرأة ونترك صفة أخرى، بل لا بد أن نأخذها في مجموع صفاتها فقال: «تنكح المرأة لأربع: لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» . المطلوب ألا تنظر إلى زاوية واحدة في الجمال، بل انظر إلى كل الزوايا، فلو نظرت إلى الزاوية التي تشغل الناس، الزاوية الجمالية، لوجدتها أقل الزوايا بالنسبة إلى تكوين المرأة؛ لأن عمر هذه المسألة «شهر عسل» - كما يقولون - وتنتهي، ثم بعد ذلك تبدو المقومات الأخرى. فإن دخلت على مقوم واحد وهي أن تكون جميلة فأنت تخدع نفسك، وتظن أنك تريدها سيدة صالون! ونقول لك: هذه الصفة أمدها بسيط في عمر الزمن، لكن ما يبقى لك هو أن تكون أمينة، أن تكون مخلصة، أن تكون مدبرة؛ ولذلك فالفشل ينشأ في الأسرة من أن الرجال يدخلون على الزواج بمقياس واحد هو مقياس جمال البنية، وهذا المقياس الواحد عمره قصير، يذهب بعد فترة وتهدأ شِرَّته. وبعد ذلك تستيقظ عيون الرجل لتتطلع إلى نواحي الجمال الأخرى، فلا يجدها. فيحدث الفشل؛ لذلك لا بد أن تأخذ مجموعة الزوايا كلها. إياك أن تأخذ زاوية واحدة، وخير الزوايا أن يكون لها دين. وكذلك المقياس بالنسبة لقبول المرأة للزوج، أيضاً خير الزوايا أن يكون له دين، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2196 «إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» . وعندما استشار رجل سيدنا الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: زَوّجها من ذي الدين، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها. إذن فالدين يرشدنا: لا بد أن ننظر إلى المسألة التي سيكون لها عمر طويل في الحياة الممتدة، وبعد ذلك إذا أرادت أن تكون ناجحه فعليها أن ترى إطار نوعيتها وتنبغ فيه، ومن الممكن إن كان عندها وقت أن توسع دائرة مهمتها في بيتها، فإذا كان عندها أولاد فعليها أن تتعلم الحياكة وتقوم بتفصيل وحياكة ملابسها وملابس أولادها فتوفر النقود، أو تتعلم التطريز كي لا تدفع أجرة، أو تتعلم التمريض حتى إذا مرض ولدها استطاعت أن تمرضه وترعاه، أن تتعلم كي تغني عن مدرس خصوصي يأخذ نقوداً من دخل الأسرة، وإن بقي عندها وقت فلتتعلم السباكة لتوفر أجرة السباك إذا فسد صنبور ماء، أو تتعلم إصلاح الكهرباء لتصلح مفتاح الإضاءة. وتستطيع المرأة أن تقوم بأي عمل وهي جالسة في بيتها وتوفر دخلا لتقابل به المهام التي لا تقدر أن تفعلها، والمرأة تكون من «حافظات الغيب» ليس بارتجالٍ من عندها أو باختيار، بل بالمنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب؟ فما المنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب؟ تحافظ على عرضها وعلى مال زوجها في غيبته، فتنظر المنافذ التي تأتي منها الفتنة وتمتنع عنها، لا تخرج إلى الشوارع إلا لحاجة ماسة أو ضرورة كي لا ترى أحداً يفتنها أو يفتن بها؛ لأن هذه هي مقدمات الحفظ، ولا تذهب في زحمة الحياة، وبعد ذلك نقول لها: «حافظي على الغيب» بل عليها أن تنظر ما بيّنه الله في ذلك. فإن اضطررت أن تخرجي فلتغضي البصر؛ ولذلك قال سبحانه: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2197 فالمرأة إن لم تغض النظر يحدث التفات عاطفي؛ لأن كل شعور في الإنسان له ثلاث مراحل: مرحلة أن يدرك، ومرحلة أن يجد في نفسه، ومرحلة أن ينزع، أي يحول الأمر إلى سلوك، ونضرب دائماً المثل بالوردة. وأنت تسير ترى وردة في بستان وبمجرد رؤيتك لها فهذا إدراك، وإذا أعجبتك الوردة وعشقتها وأحببتها فهذا اسمه وجدان. وإذا اتجهت لتقطفها فهذه عملية نزوعية، فكم مرحلة؟ ثلاث مراحل: إدراك، فوجدان. فنزوع. ومتى يتدخل الشرع؟ الشرع يتدخل في عملية النزوع دائماً. يقول لك: أنت نظرت الوردة ولم نعترض على ذلك، أحببتها وأعجبتك فلم نقل لك شيئاً، لكن ساعة جئت لتمدّ يدك لتأخذها قلنا لك: لا، الوردة ليست لك. إذن فأنت حرّ في أن تدرك، وحرّ في أن تجد في نفسك، إنما ساعة تنزع نقول لك: لا، هي ليست لك، وإن أعجبتك فازرع لك وردة في البيت، أو استأذن صاحبها مثلاً. إذن فالتشريع يتدخل في منطقة النزوع، إلا في أمر المرأة فالتشريع يتدخل من أول الإدراك؛ لأن الذي خلقنا علم أننا إن أدركنا جمالاً، نظرنا له، وستتولد عندنا مواجيد بالنسبة للأشياء التي نراها ونشتهيها، وساعة يوجد إدراك واشتهاء، لا يمكن أن ينفصل هذا عن النزوع؛ لأنك - كرجل - مركب تركيباً كيميائياً بحيث إذ أدركت جمالاً ثم حدث لك وجدان واشتهاء، فالاشتهاء لا يهدأ إلا بنزوع، فيبيّن لك الشرع: أنا رحمتك من أول الأمر، وتدخلت من أول المسألة. وكل شيء أتدخل فيه عند النزوع إلا المرأة فقد تدخلت فيها من أول الإدراك؛ لذلك أمر الحق الرجل أن يغض البصر، وكذلك أمر المرأة. لماذا؟ لأنك إن أدركت فستجد، وإن وجدت فستحاول أن تنزع ونزوعك سيكون عربدة في أعراض الناس، وإن لم تنزع فسيبقى عندك كبت؛ لذلك حسم الحق المسألة من أولها قال: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2198 خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30 - 31] . فامنعو المسألة من أول مراحلها لماذا؟ لأنني عندما أرى وردة، ثم قالوا لي: هي ليست لك فلا تقطفها، فلا يحدث عندي ارتباك في مادتي، لكن عندما يرى الرجل امرأة جميلة وتدخل في وجدانه فسيحدث عنده النزوع؛ لأن له أجهزة مخصوصة تنفعل لهذا الجمال، ولذلك يوضح لك الحق: أنا خالقك وسأتدخل في المسألة من أول الأمر، فقوله: {بِمَا حَفِظَ الله} أي بالمنهج الذي وضعه الله للحفظ: ألا أعرض نفسي إلى إدراك، فينشأ عنه وجدان، وبعد ذلك أفكر في النزوع، فإن نزعت أفسدت، وإن لم تنزع تعقدت، فيأتي شرّ من ذلك، هذا معنى: {بِمَا حَفِظَ الله} ، يعني انظروا إلى المنهج الذي وضعه الله لأن تحفظ المرأة غيبة زوجها، وهي تحفظه ليس بمنهج من عندها. بل بالمنهج الذي وضعه خالقها وخالقه. وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى حينما يربّى من عبده حاسة اليقظة قال: {واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} فالنشوز لم يحدث بل مخافة أن يحدث، فاليقظة تقتضي الترقب من أول الأمر، لا تترك المسألة حتى يحدث النشوز، و «النشوز» من «نشز» أي ارتفع في المكان. ومنه «النشز» وهو المكان المرتفع، وما دام الحق قد قال: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} فالمعنى هنا: مَن تريد أن تتعالى وتوضع في مكانة عالية؟؛ ولذلك فالنشاز حتى في النغم هو: صوت خارج عن قواعد النغم فيقولون: هذه النغمة النشاز، أي خرجت عن قاعدة النغمة التي سبقتها. وكذلك المرأة المفروض فيها أنها تكون متطامنة، فإن شعرت أن في بالها أن تتعالى فإياك أن تتركها إلى أن تصعد إلى الربوة وترتفع. بل عليك التصرف من أول ما تشعر ببوادر النشوز فتمنعه، ومعنى قوله: {واللاتي تَخَافُونَ} يعني أن النشوز أمر متخوف منه ومتوقع ولم يحدث بعد. وكيف يكون العلاج؟ يقول الحق: «فعظوهن» أي ساعة تراها تنوي هذا فعظها، والوعظ: النصح بالرقة والرفق، قالوا في النصح بالرقة: أن تنتهز فرصة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2199 انسجام المرأة معك، وتنصحها في الظرف المناسب لكي يكون الوعظ والإرشاد مقبولاً فلا تأت لإنسان وتعظه إلا وقلبه متعلق بك. ولنفترض أن ابناً طلب من والده طلباً، ولم يحضره الأب، ثم جاءت الأم لتشكو للأب سلوك الابن، فيحاول الأب إحضار الطلب الذي تمناه الابن، ويقول له: - تعال هنا يا بني، إن الله قد وفقني أن أحضر لك ما طلبت. وفي لحظة فرح الابن بالحصول على ما تمنى، يقول له الأب: لو تذكرت ما قالته لي أمك من سلوكك الرديء لما أحضرته لك. ولو سب الأب ابنه في هذه اللحظة فإن الابن يضحك. لماذا؟ لأن الأب أعطى الابن الدرس والعظة في وقت ارتباط قلبه وعاطفته به. ولكن نحن نفعل غير ذلك. فالواحد يأتي للولد في الوقت الذي يكون هناك نفور بينهما، ويحاول أن يعظه؛ لذلك لا تنفع الموعظة، وإذا أردنا أن تنفع الموعظة يجب أن نغير من أنفسنا، وأن ننتهز فرصة التصاق عواطف من نرغب في وعظه فنأتي ونعطي العظة. هكذا «فعظوهن» هذه معناها: برفق وبلطف، ومن الرفق واللطف أن تختار وقت العظة، وتعرف وقت العظة عندما يكون هناك انسجام، فإن لم تنفع هذه العظة ورأيت الأمر داخلاً إلى ناحية الربوة؛ والنشوز فانتبه. والمرأة عادة تَدِل على الرجل بما يعرف فيه من إقباله عليها. وقد تصبر المرأة على الرجل أكثر من صبر الرجل عليها؛ لأن تكوين الرجل له جهاز لا يهدأ إلا أن يفعل. لكن المرأة تستثار ببطء، فعندما تنفعل أجهزة الرجل فهو لا يقدر أن يصبر، لكن المرأة لا تنفعل ولا تستثار بسرعة، فأنت ساعة ترى هذه الحكاية، وهي تعرفك أنك رجل تحب نتائج العواطف والاسترسال؛ فأعط لها درساً في هذه الناحية، اهجرها في المضجع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2200 وانظر إلى الدقة، لا تهجرها في البيت، لا تهجرها في الحجرة، بل تنام في جانب وهي في جانب آخر، حتى لا تفضح ما بينكما من غضب، اهجرها في المضجع؛ لأنك إن هجرتها وكل البيت علم أنك تنام في حجرة مستقلة أو تركت البيت وهربت، فأنت تثير فيها غريزة العناد، لكن عندما تهجرها في المضجع فذلك أمرٍ يكون بينك وبينها فقط، وسيأتيها ظرف عاطفي فتتغاضى، وسيأتيك أنت أيضاً ظرف عاطفي فتتغاضى، وقد يتمنى كل منكما أن يصالح الآخر. إذن فقوله: {واهجروهن فِي المضاجع} كأنك تقول لها: إن كنت سَتُدِلِّينَ بهذه فأنا أقدر على نفسي. ويتساءل بعضهم: وماذا يعني بأن يهجرها في المضاجع؟ . نقول: ما دام المضجع واحداً فليعطها ظهره وبشرط ألا يفضح المسألة، بل ينام على السرير وتُغلق الحجرة عليهما ولا يعرف أحد شيئاً؛ لأن أي خلاف بين الرجل والمرأة إن ظل بينهما فهو ينتهي إلى أقرب وقت، وساعة يخرج الرجل وعواطفه تلتهب قليلاً، يرجع ويتلمسها، وهي أيضاً تتلمسه. والذي يفسد البيوت أن عناصر من الخارج تتدخل، وهذه العناصر تورث في المرأة عناداً وفي الرجل عناداً؛ لذلك لا يصح أن يفضح الرجل ما بينه وبينه المرأة عند الأم والأب والأخ، ولنجعل الخلاف دائماً محصوراً بين الرجل والمرأة فقط. فهناك أمر بينهما سيلجئهما إلى أن يتسامحا معاً. {فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن} وقالوا: إن الضرب بشرط ألا يسيل دما ولا يكسر عظما. . أي يكون ضرباً خفيفاً يدل على عدم الرضا؛ ولذلك فبعض العلماء قالوا: يضربها بالسواك. وعلمنا ربنا هذا الأمر في قصة سيدنا أيوب عندما حلف أن يضرب امرأته مائة جلدة، قال له ربنا: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] . والضغث هو الحزمة من الحشيش يكون فيها مائة عود، ويضربها ضربة واحدة فكأنه ضربها مائة ضربة وانتهت. فالمرأة عندما تجد الضرب مشوباً بحنان الضارب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2201 فهي تطيع من نفسها، وعلى كل حال فإياكم أن تفهموا أن الذي خلقنا يشرع حكماً تأباه العواطف، إنما يأباه كبرياء العواطف، فالذي شرع وقال هذا لا بد أن يكون هكذا. {واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن} أي ضرباً غير مبرح، ومعنى: غير مبرح أي ألا يسيل دماً أو يكسر عظماً ويتابع الحق: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} . فالمسألة ليست استذلالاً. بل إصلاحا وتقويما، وأنت لك الظاهر من أمرها، إياك أن تقول: إنها تطيعني لكن قلبها ليس معي؛ وتدخل في دوامة الغيب، نقول لك: ليس لك شأن لأن المحكوم عليه في كل التصرفات هو ظاهر الأحداث. أما باطن الأحداث فليس لك به شأن ما دام الحق قال «» أطعنكم «؛ فظاهر الحدث إذن أن المسألة انتهت ولا نشوز تخافه، وأنت إن بغيت عليها سبيلاً بعد أن أطاعتك، كنت قوياً عليها فيجب أن تتنبه إلى أن الذي أحلها لك بكلمة هو أقوى عليك منك عليها وهذا تهديد من الله. ومعنى التهديد من الله لنا أنه أوضح: هذه صنعتي، وأنا الذي جعلتك تأخذها بكلمتيّ» زوجني. . زوجتك «. . وما دمت قد ملكتها بكلمة مني فلا تتعال عليها؛ لأنني كما حميت حقك أحمى حقها. فلا أحد منكما أولى بي من الآخر، لأنكما صنعتي وأنا أريد أن تستقر الأمور، وبعد هذا الخطاب للأزواج يأتي خطاب جديد في قول الحق من بعد ذلك: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2202 وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} يعني أن الشقاق لم يقع بعد، إنما تخافون أن يقع الشقاق، وما هو «الشقاق» ؟ الشقاق مادته من الشق، وشق: أي أبعد شيئاً عن شيء، شققت اللوح: أي أبعدت نصفيه عن بعضهما، إذن فكلمة «شقاق بينهما» تدل على أنهما التحما بالزواج وصارا شيئاً واحداً، فأي شيء يبعد بين الاثنين يكون «شقاقاً» إذ بالزواج والمعاشرة يكون الرجل قد التحم بزوجه هذا ما قاله الله: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] . ويتأكد هذا المعنى في آية أخرى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] . وهذا يعني أن المرأة مظروفة في الرجل والرجل مظروف فيها. فالرجل ساتر عليها وهي ساترة عليه، فإذا تعدّاهما الأمر، يقول الحق: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} من الذين يخافون؟ . . أهو وليّ الأمر أم القرابة القريبة من أولياء أمورها وأموره؟ أي الناس الذين يهمهم هذه المسألة. {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} إنهم البيئة والمجال العائلي، إذن فلا ندع المسائل إلى أن يحدث الشقاق، كأن الإسلام والقرآن ينبهنا إلى أن كل إناس في محيط الأسرة يجب أن يكونوا يقظين إلى الحالات النفسية التي تعترض هذه الأسرة، سواء أكان أباً أم أخاً أم قريباً عليه أن يكون متنبهاً لأحوال الأسرة ولا يترك الأمور حتى يحدث الشقاق بدليل أنه قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا} وهذا القول هو لوليّ الأمر العام أيضاً إذا كانت عيونه يقظة إلى أنه يشرف على علاقات كل البيوت، ولكن هذا أمر غير وارد في ضوء مسئوليات ولي الأمر في العصر الحديث. إذن فلا بد أن الذي سيتيسر له تطبيق هذا الأمر هم البارزون من الأهل هنا وهناك، وعلى كل من لهم وجاهة في الأسرة أن يلاحظوا الخط البياني للأسرة، يقولون: نرى كذا وكذا. ونأخذ حَكَماً من هنا وحكماً من هناك وننظر المسألة التي ستؤدي إلى عاصفة قبل أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2203 تحدث العاصفة؛ فالمصلحة انتقلت من الزوجين إلى واحد من أهل الزوج وواحد من أهل الزوجة، فهؤلاء ليس بينهما مسألة ظاهرة بأدلتها، ولم تتبلور المشكلة بعد، وليس في صدر أي منهما حُكْمٌ مسبق، ويجوز أن يكون بين الزوجين أشياء، إنما الحكَم من أهل الزوج والحكَم من أهل الزوجة ليس في صدر أي منهما شيء، وما دام الاثنان ستوكل إليهما مهمة الحكم. فلا بد أن يتفقا على ما يحدث بحيث إذا رأى الاثنان أنه لا صلح إلا بأن تطلق، فهما يحكمان بالطلاق، والناس قد تفهم أن الحكم هم أناس يُصْلِحُون بين الزوجين فإن لم يعجبهم الحكم بقي الزوجان على الشقاق، لا. فنحن نختار حكماً من هنا وحكماً من هناك. إن ما يقوله الحكمان لا بد أن ننفذه، فقد حصرت هذه المسألة في الحكمين فقال: {إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} . . فكأن المهمة الأساسية هي الإصلاح وعلى الحكمين أن يدخلا بنية الإصلاح، فإن لم يوفق الله بينهما فكأن الحكمين قد دخلا بألا يصلحا. إن على كل حكم أن يخاف على نفسه ويحاول أن يخلص في سبيل الوصول إلى الإصلاح؛ لأنه إن لم يخلص فستنتقل المسألة إلى فضيحة له. الذي خلق الجميع: الزوج والزوجة والحكم من أهل الزوج والحكم من أهل الزوجة قال: {إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} فليذهب الاثنان تحت هذه القضية، ويصرّا بإخلاص على التوفيق بينهما؛ لأن الله حين يطلق قضية كونية، فكل واحد يسوس نفسه وحركته في دائرة هذه القضية. وحين يطلق الله قضية عامة فهو العليم الخبير، ومثال ذلك قوله: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] . إنه سبحانه قال ذلك، فليحرص كل جندي على أن يكون جندياً لله؛ لأنه إن انهزم فسنقول له: أنت لم تكن جندياً لله، فيخاف من هذه. إذن فوضع القضية الكونية في إطار عقدي كي يجند الإنسان كل ملكاته في إنجاح المهمة، وعندما يقول الله: {إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} ، فإياك أن تغتر بحزم الحكمين، وبذكاء الحكمين، فهذه أسباب. ونؤكد دائماً: إياك أن تغتر بالأسباب؛ لأن كل شيء من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2204 المسبب الأعلى، ولنلحظ دقة القول الحكيم: {يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} فسبحانه لم يقل: إن يريدا إصلاحاً يوفقا بينهما. بل احتفظ سبحانه لنفسه بفضل التوفيق بين الزوجين. ويذيل سبحانه الآية: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} أي بأحوال الزوج، وبأحوال الزوجة، وبأحوال الحكم من أهله، وبأحوال الحكم من أهلها، فهم محوطون بعلمه. وعلى كل واحد أن يحرص على تصرفه؛ لأنه مسئول عن كل حركة من الحركات التي تكتنف هذه القضية؛ فربنا عليم وخبير. وما الفرق بين «عليم» و «خبير» ؟ . . فالعلم قد تأخذه من علم غيرك إنما الخبرة فهي لذاتك. وبعد أن تكلم الحق على ما سبق من الأحكام في الزواج وفي المحرمات، وأخذنا من مقابلها المحللات، وتكلم عمن لا يستطيع طولاً وتكلم عن المال. . وحذرنا أن نأكله بالباطل، وتكلم عن الحال بين الرجل والمرأة، وبعد ذلك لفتنا الحق ووجهنا ونبهنا إلى المنهج الأعلى وهو قوله سبحانه: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2205 وعندما يقول لنا الحق: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} أي: إياكم أن تدخلوا في قضية من هذه القضايا؟ على غير طاعة الله في منهجه. . والعبادة هي: طاعة العابد للمعبود، فلا تأخذها على أنها العبادات التي نفعلها فقط من: الصلاة والصوم والزكاة والحج؛ لأن هذه أركان الإسلام، وما دامت هذه هي الأركان والأسس التي بني عليها الإسلام، إذن فالإسلام لا يتكون من الأركان فقط بل الأركان هي الأسس التي بني عليها الإسلام، والأسس التي بني عليها البيت ليست هي كل البيت؛ لذلك فالإسلام بنيان متعدد. فالذين يحاولون أن يأخذوا من المصطلح التصنيفي، أو المصطلح الفني في العلوم ويقولون: إن العبادات هي: الصلاة وما يتعلق بها. . والزكاة والصوم والحج؛ لأنها تسمى في كتب الفقه «العبادات» فلقد قلنا: إن هذا هو الاسم الاصطلاحي، لكن كل أمر من الله هو عبادة. ولذلك فبعض الناس يقول: نعبد الله ولا نعمل. نقول لهم: العبادة هي طاعة عابد لأمر معبود، ولا تفهموا العبارة على أساس أنها الشعائر فقط، فالشعائر هي إعلان استدامة الولاء لله. وتعطي شحنة لنستقبل أحداث الحياة، ولكن الشعائر وحدها ليست كل العبادة، فالمعاملات عبادة، والمفهوم الحقيقي للعبادة أنها تشمل عمارة الأرض، فالحق سبحانه وتعالى قال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9] . كأنه أخرجهم من البيع إلى الصلاة، ولم يخرجهم من فراغ بل أخرجهم من حركة البيع، وجاء ب «البيع» لأنه العملية التي يأتي ربحها مباشرة؛ لأنك عندما تزرع زرعاً ستنتظر مدة تطول أو تقصر لتخرج الثمار، لكن البيع تأتي ثمرته مباشرة، تبيع فتأخذ الربح في الحال. والبيع - كما نعلم - ينظم كل حركات الحياة، لأن معنى البيع: أنه وسيط بين منتج ومستهلك، فعندما تبيع سلعة، هذه السلعة جاءت من منتجٍ، والمنتج يبحث عن وسيط يبيعها لمستتهلك، وهذا المستهلك تجده منتجاً أيضاً، والمنتج تجده أيضاً مستهلكاً. فالإنتاج والاستهلاك تبادل وحركة الحياة كلها في البيع وفي الشراء، وما دام هناك بيع ففيه شراء. فهذا استمرار لحركة الحياة. والبائع دائماً يحب أن يبيع، لكن المشتري قد لا يحب أن يشتري؛ لأن المشتري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2206 سيدفع مالاً والبائع يكسب مالاً، فيوضح الله: أتركوا هذه العملية التي يأتي ربحها مباشرة، ولبّوا النداء لصلاة الجمعة. لكن ماذا بعد الصلاة؟ يقول الحق: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] . إذن فهذا أمر أيضاً. فإن أطعنا الأمر الأول: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} فالأمر في {فانتشروا فِي الأرض} يستوجب الطاعة كذلك. إذن فكل هذه عبادة، وتكون حركة الحياة كلها عبادة: إن كانت صلاة فهي عبادة، والصوم عبادة، وبعد ذلك. . ألا تحتاج الصلاة لقوام حياة؟ لا بد أن تتوافر لك مقومات حياة حتى تصلي. وما هي مقومات حياتك؟ إنها طعام وشراب ومسكن ومَلْبس، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذن فجماع حركة الحياة كلها سلسلة عبادة، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] . إذن فكل عمل يؤدي إلى عمارة الكون واستنباط أسرار الله في الوجود يعتبر عبادة لله؛ لأنك تخرج من كنوز الله التي أودعها في الأرض ما يلفت الناس إلى الحقيقة الكونية التي جاء بها الإيمان. وإياك أن تظن أن العبادة هي فقط العبادة التصنيفية التي في الفقه «قسم العبادات» و «قسم المعاملات» . . لا، فكله عبادة، لكن الحركات الحياتية الأخرى لا تظهر فيها العبادة مباشرة؛ لأنك تعمل لنفعك، أما في الصلاة فأنت تقتطع من وقتك، فسميناها العبادة الصحيحة؛ لأن العمليات الأخرى يعمل مثلها من لم يؤمن بإله، فهو أيضا يخرج للحياة ويزرع ويصنع. ولماذا سموها العبادات؟ لأن مثلها لا يأتي من غير متدين. إنما الأعمال الأخرى من عمارة الكون والمصلحة الدنيوية فغير المتدين يفعلها ولكن كل أمر لله نطيعه فيه اسمه عبادة. هذا مفهوم العبادة الذي يجب أن يتأكد لنا أن نخلص العمل بالعقول التي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2207 خلقها الله لنا بالطاقات المخلوقة لنا، في المادة المخلوقة وهي الأرض وعناصرها لنرقي بالوجود إلى مستوى يسعدنا ويرَضِيَ اللَّهُ عَنْه. {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} . بعدما قال كل هذا الكلام السابق، لفتنا ربنا إلى قضية يجب أن نلحظها دائما في كل تصرفاتنا هي أن نأتمر بأمر الله في منهجه، وألا نشرك به شيئاً؛ لأن الشرك يضر قضية الإنسان في الوجود، فإن كنت في عمل إياك أن تجعل الأسباب في ذهنك أمام المسبب الأعلى. . بل اقصد في كل عمل وجه الله. ويضرب الحق المثل لراحة الموحد ولتعب المشرك فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] . فهذا عبد مملوك لجماعة، والجماعة مختلفة ومتشاكسة، وهو لا يعرف كيف يوفق بين أوامر كل منهم التي تتضارب، فإن أرضي هذا، أغضب ذاك. إذن فهو عبد مبدد الطاقة موزع الجهد، مقسم الالتفاتات، ولكن العبد المملوك لواحد، لا يتلقى أمراً إلا من سيد واحد ونهياً من السيد نفسه. والحق يشرع القضية لعباده بصيغة الاستفهام، وهو العليم بكل شيء ليجعل المؤمن به يشاركه في الجواب حتى إذا ما قال الحق: «هل يستويان» ؟ هنا يعرضها الإنسان على عقله ويريد أن يجيب، فماذا يقول؟ سيجيب بطبيعة الفطرة وطبيعة منطق الحق قائلاً: لا يا رب لا يستويان. إذن فأنت أيها العبد المؤمن قد قلتها، ولم يفرضها الله عليك. وقد طرحها الحق سبحانه سؤالاً منه إليك؛ حتى يكون جوابك الذي لن تجد جواباً سواه. فإذا ما كنت كذلك أيها العبد المؤمن قد ارتحت في الوجود وتوافرت لك طاقتك لأمر واحد ونهي واحد، هنا تصبح سيداً في الكون، فلا تجد في الكون من يأخذ منك عبوديتك للمكون. وتلك هي راحتنا في تنفيذ قول الله: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2208 لأن الإشراك بالله - والعياذ بالله - يرهق صاحبه. ويا ليت المشركين حين يشركون يأخذون عون الله، ولا يأخذون عون الشركاء. لكن الله يتخلى عن العبد المشرك، لأنه سبحانه يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» . الحق إذن يتخلى عن العبد المشرك. وليت العبد المشرك يأخذ حظه من الله كشريك. . وإنما ينعدم عنه حظ الله؛ لأن الله غني أن يشرك معه أحدا آخر. وهكذا يكون المشرك بلا رصيد إيماني، ويحيا في كد وتعب. ويردف الحق سبحانه وتعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين فيأتي قوله - جل شأنه -: {وبالوالدين إِحْسَاناً} والوالدان هما الأب والأم؛ لأنهما السبب المباشر في وجودك أيها المؤمن. وما دامت عبادتك لله هي فرع وجودك، إذن فإيجادك من أب وأم كسببين يجب أن يلفتك إلى السبب الأول؛ إن ذلك يلفتك إلى من أوجد السلسلة إلى أن تصل إلى الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام. {وبالوالدين إِحْسَاناً} . . انظر إلى المنزلة التي أعطاها الله للوالدين، وهما الأب والأم. والخطاب لك أيها المسلم لتعبد الله، والتكليف لك وأنت فرع الوجود؛ لأن الخطاب لمكلف، والتكليف فرع الوجود، والوالدان هما السبب المباشر لوجودك، فإذا صعّدت السبب فالوالدان من أين جاءا؟ . . من والدين، وهكذا حتى تصل لله، إذن فانتهت المسألة إلى الواحد؛ لأن التكليف من المُكلِّف إلى المُكلَّف فرع الوجود. والوجود له سبب ظاهري هما «الوالدان» ، وعندما تسلسلها تصل لله إنه - سبحانه - أمر: اعبدني ولا تشرك بي شيئا، وبعد ذلك. . {وبالوالدين إِحْسَاناً} . . كلمة «الإحسان» تدل على المبالغة في العطاء الزائد. . الذي نسميه مقام الإحسان. . {وبالوالدين إِحْسَاناً} . . الحق سبحانه وتعالى حينما قرن الوالدين بعبادته، لأنه إله واحد ولا نشرك به شيئا، لم ينكر أو يتعرض لإيمانهما أو كفرهما؛ لأن هناك آية أخرى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2209 يقول فيها: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] . صحيح لا تطعهما ولكن احترمهما؛ لأنهما السبب المباشر في الوجود وإن كان هذا السبب مخالفاً لمن أنشأه وأوجده وهو الله - جلت قدرته - {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} والمعروف يصنعه الإنسان فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، إياك أن يكون قلبك متعلقاً بهما إن كانا مشركين، لكن صاحبهما في الدنيا معروفاً؛ ولذلك قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا} أي انظر مصلحتهما في أمور الدنيا معروفاً منك. والمعروف تصنعه فيمن تحب وفيمن لا تحب. والحق يقول: {وبالوالدين إِحْسَاناً} . . ويكررها في آيات متعددة. . فقد سبق في سورة البقرة أن قال لنا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً} [البقرة: 83] . وبعد ذلك تأتي هذه الآية التي نحن بصددها. . {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً} . وبعد ذلك يأتي أيضاً قوله سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً} [الأنعام: 151] . وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2210 ويأتي أيضاً في سورة العنكبوت فيقول: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] . لكن إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها، فإن كان الوالدان مشركين فلا بد أن نعطف عليهما معروفا. . والمعروف كما أوضحنا يكون لمن تحب ومن لا تحب، ولكن الممنوع هو: الودادة القلبية؛ ولذلك قال: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] . ولا يوجد تناقض أو شبه تناقض بين الآية التي نحن بصددها وبين آية سورة المجادلة. وهناك آيات تكلم فيها الحق وقرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين، وهناك آيتان جاء الأمر فيهما بالتوصية وبالوالدين استقلالا. وذلك في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف: 15] . وفي قوله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] . ففيه «إحسان» وفيه «حسن» ، «الإحسان» : هو أن تفعل فوق ما كلفك الله مستشعراً أنه يراك. فإن لم تكن تراه فإنه يراك، و «الإحسان» من «أحسن» ، فيكون معناها أنه ارتضى التكليف وزاد على كلفه. وعندما يزيد الإنسان على ما كلفه الله أن يصلي الخمس المطلوبة ثم يجعلها عشرة، ويصوم شهر رمضان، ثم يصوم يومي الاثنين والخميس أو كذا من الشهور، ويزكي حسب ما قرر الشرع باثنين ونصف في المائة وقد يزيد الزكاة إلى عشرة في المائة، ويحج ثم يزيد الحج مرتين. إذن فالمسألة أن تزيد على ما افترض الله، فيكون قد أدخلك الله في مقام الإحسان؛ لأنك حين جربت أداء الفرائض ذقت حلاوتها. وعلمت مما أفاضه الله عليك من معين التقوى ومن رصيد قوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2211 {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} [البقرة: 282] . علمت أن الله يستحق منك أكثر مما كلفك به؛ ولذلك فبعض الصالحين في أحد سبحاته قال: «اللهم إني أخشى ألا تثيبني على الطاعة لأنني أصبحت أشتهيها» . . أي صارت شهوة نفس، فهو خائف أن يفقد حلاوة التكليف والمشقة فيقول: يا رب إنني أصبحت أحبها، ومفروض منا أننا نمنع شهوات أنفسنا لكنها أصبحت شهوة فماذا أفعل؟ إذن فهذا الرجل قد دخل في مقام الإحسان واطمأنت نفسه ورضيت وأصبح هواه تبعا لما أمر به الله ورضيه. ولذلك يجب أن نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن المتقين قال: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15 - 16] . لماذا هم محسنون يا رب؟ . يقول الحق: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] . وهل كلفني الله. ألا أهجع إلا قليلاً من الليل؟ إن الإنسان يصلي العشاء من أول الليل وينام حتى الفجر، هذا هو التكليف، لكن أن تحلو للمؤمن العبادة، ويزداد الإيمان في القلب والجوارح، ويأنس العبد بالقرب من الله، فالحق لا يَرُدَّ مثل هذا العبد بل إنّه يستقبله ويدخله في مقام الإحسان: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2212 وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 16 - 18] . وربنا لم يكلفهم بذلك، إنما كلفهم فقط بخمسة فروض. ونعرف قصة الأعرابي الذي قال للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل عليّ غيرها؟ قال له: لا، إلا أن تَطّوَّعَ، وذكر له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الزكاة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطّوّع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أفلح إن صدق» . وبذلك دخل هذا الأعرابي في نطاق المفلحين. إذن فالذي يزيد على هذا يدخله الله في نطاق المحسنين. {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 17 - 19] . ولنلحظ دقة الأداء، إن الحق لم يذكر أن للمحرومين في أموال المحسنين حقاً معلوماً. لماذا؟؛ لأن الحق سبحانه - ترك للمحسن الحرية في أن يزيد على نسبة الزكاة التي يمنحها للسائل والمحروم، وحينما يتكلم سبحانه عن مطلوب الإيمان يقول: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم} [المعارج: 24 - 25] . إذن فالذي يزيد على ذلك ينتقل من مقام الإيمان ليدخل في مقام الإحسان. كأنه يقول لك في الآية التي نحن بصددها: إياك أن تعمل مع والديك القدر المفروض فقط، بل ادخل في برّهما والإنعام عليهما والتلطف بهما والرحمة لهما وذلّة الانكسار فوق ما يطلب منك، ادخل في مقام الإحسان، ثم يأتي في آية أخرى ليرشدنا بعد أن أدخلنا في مقام الإحسان، إنّه يصف ذلك الإحسان بشيء آخر وهو «الحسن» : الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2213 {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنبكوت: 8] . وما هو المقابل «للحسن» ؟ إنه «القبح» ، إذن فالحق أدخلنا في مقام الجمال مرة، وفي مقام الإحسان مرة أخرى، وهنا أكثر من ملحظ يجب ألا يغيب عن بال المسلم، أولاً: نجد أن المفروض في الشائع الغالب أنّ الوالدين يربيان أبناءهما، ومن النادر أن يصبح الولد يتيماً ويربيه غير والديه، فقال: الحظ سبب التربية بعد الوجود، فسبب الوجود: يوجب عليك أن تعطيهما حقوقهما وفوق حقوقهما وتدخل في مقام الإحسان، ولكنه جاء في آية وعلل ذلك فقال: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] . لقد جاء الحق بالتربية حيثية في الدعاء لهما وفي البر التوصية بهما، لكن لو أن إنساناً أخذ فيك منزلة التربية ولم يأخذ فيك سببية الإيجاد، أله حق عليك أن يكون كوالديك؟ إن الحق يقول: {كَمَا رَبَّيَانِي} ، فإذا كان والدي لهما هذا الحق، فكذلك من قام بتربيتي من غير الوالدين له هذا الحق أيضاً! ما دام جاء الحق بالوالدين في علة الإحسان: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} . . فمرة نلحظ أنه لا يجيء بمسألة التربية كي نعلم أن الوالدين هما سبب الوجود، ومرة يلفتنا إلى أن من يتولى التربية يأخذ حظ الوالدين، وشيء آخر: وهو أن الحق سبحانه وتعالى حينما وصى بالوالدين إحسانا، جاء في الحيثيات بما يتعلق بالأم ولم يأت بما يتعلق بالأب: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] . هنا جاء الحق بالحيثيات للأم وترك الأب بدون حيثية، وهذا كلام رب؛ لأن إحسان الوالدة لولدها وجد وقت أن صار جنيناً. فهي قد حافظت على نفسها وسارت بحساب وحرص فانشغلت به وهو مازال جنيناً. وحاولت أن توفر كل المطالب قبلما يتكون له عقل وفكر. بينما والده قد يكون بعيداً لا يعرفه إلا عندما يكبر ويصير غلاماً ليربيه لكفاح الحياة، أما في الحمل والمهد فكل الخدمات تؤديها الأم ولم يكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2214 للطفل عقل حتى يدرك هذا، إنما بمجرد أن وجد العقل وجد أباه يعايشه ويعاشره، وكلما احتاج إلى شيء قالت له الأم: أبوك يحققه لك، وكل حاجة يحتاج إليها الطفل يسأل أباه أن يأتيه بها، وينسي الطفل حكاية أمه وحملها له في بطنها وأنها أرضعته وسهرت عليه؛ لأنه لم يكن عنده إدراك ساعة فعلت كل ذلك، فمن الذي - إذن - يحتاج إلى الحيثية؟ إنها الأم، أما حيثية إكرام الأب فموجودة للإنسان منذ بدء وعيه لأنه رأى كل حاجته معه؛ لذلك قال الحق: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] . والطفل لا يعرف حكاية الحمل هذه، وعندما يتنبه يجد أن والده هو الذي يأتي بكل حاجة، وما دام أبوه هو الذي في الصورة، فتكون الحيثية عنه موجودة، والأم حيثيتها مغفولة ومستورة، فكان لا بد من أن يذكرنا الله بالحيثية المتروكة عند الإنسان مكتفياً بالحيثية للأب الموجودة والواضحة عند الابن، ولذلك تجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما يوصيّ قال: أمك ثم أمك ثم أمك، وبعد ذلك قال: ثم أبوك. كما جاء في الحديث: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك» . ولو حسبتها تجدها واضحة، وأيضا فالأبوة رجولة، والرجولة كفاح وسعي. والأمومة حنان وستر، فهي تحتاج ألا تخرج لسؤال الناس لقضاء مصالحها، أبوك إن خرج ليعمل فعمله شرف له. إنما خروج الأم للسعي للرزق فأمر صعب على النفس، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وبالوالدين إِحْسَاناً} . . أو «بوالديه حسنا» إنها. . مقرونة في ثلاث آيات بعبادة الله وعدم الإشراك به، ثم أفردهما بالإحسان في آيتين، ويلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2215 {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] . لكن هذا لا يمنع أن تعطيهما المعروف وما يحتاجان إليه، ونلحظ أن الحق لم يأت لهما بطلب الرحمة وهما على الشرك والكفر كما طلبها لهما في قوله: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] . لأنهما وإن ربي جسد الولد فلم يربيا قلبه وإيمانه، فلا يستحقان أن يقول: ارحمهما؛ لأن الحق أراد أن يسع الولد والديه في الدنيا وإن كانا على الكفر. والحق سبحانه وتعالى حينما يريد أن يشيع الإحسان في الكون كله، يبتدئ بالأقرب فالقريب فالجار، فقال: {وبالوالدين إِحْسَاناً وَبِذِي القربى} . إذن ففيه دوائر. ولو أن كل واحد أحسن إلى أبوية. فلن نَجد واحداً في شيوخته مهيناً أبداً، لذلك يوسع سبحانه دوائر الهمّة الإيمانية فجاء بالوالدين ثم قال بعدها: {وَبِذِي القربى} أي صاحب القربى، وما القربى؟ إن كل من له علاقة نَسَبيَّة بالإنسان يكون قريباً. هذه هي الدائرة الثانية، ولو أن كل إنسان موسعاً عليه وقادراً أخذ دائرة الوالدين ثم أخذ دائرة القربى فستتداخل ألوان البر من أقرباء متعددين على القريب الواحد، وما دامت الدوائر ستتداخل، فالواحد القريب سيجد له كثيرين يقومون على شأنه فلا يكون أحد محتاجا. وبعد ذلك يتكلم سبحانه عن اليتامى، واليتيم - كما نعلم - هو: من فقد أباه ولم يبلغ مبلغ الرجال، إنه يحتاج إلى حنان أولي. ولكن بعد أن يبلغ مبلغ الرجال فهو لا يُعتبر يتيماً؛ فقد أصبح له ذاتية مستقلة؛ ولذلك يتخلى عنه الوصف باليتيم، والذي تموت أمه لا نسميه «يتيماً» ، لكن اليتيم في الحيوانات ليس من فقد أباه بل من فقد أمه، وإن كانت طفولة الحيوانات تنتهي بسرعة؛ لأن والدة الحيوان هي التي ترعاه في طفولته القصيرة نسبياً. إذن فيتم الحيوان من جهة الأم، والإنسان يتمه هو فَقْد الأب؛ لأن الإنسان أطول الحيوانات طفولة لأنه مُربيَّ لمهمة أسمى من الحيوانية، وعرفنا من قبل أنك عندما تأتي لتزرع - مثلاً - فِجلاً. . فبعد خمسة عشر يوماً تأكل منه، لكنك حينما تزرع نخلة أو تزرع شجرة «مانجو» تمكث كذا سنة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2216 حتى تثمر. . إذن فطول مدة الطفولة وعدم النسل للمثل يتوقف على المهمة الموكلة للشيء، فإن كانت مهمته كبيرة، تكن مدة طفولته أطول. والله سبحانه وتعالى يريد أن يوسع دائرة الإحسان. فإياك أن تقتصر على الوالدين فقط أو أصحاب القربى فقط. خذ في الدائرة أيضاً «اليتيم» ، لأن اليتيم فقد أباه، ثم يرى كثيراً من زملائه وأقربائه لهم آباء، ولو لم يوصّ الحق سبحانه وتعالى بهذا اليتيم لنشأ هذا الولد وفي قلبه جذوة من الحقد على المجتمع، وقد يتمرد على الله، ويتساءل: لماذا لا يكون لي أب وكل واحد من أقراني له أب يأتيه بحاجته، لكن حين يرى أنه فقد أباً واحداً ثم وجد في الجو الإيماني آباء متعددين فهو لا يسخط على أن الله أمات أباه. إن الذين يخافون أن يموتوا ويتركوا من بعدهم ذرية ضعافا، عليهم بالإحسان إلى اليتيم. فلو رأى الواحد منا يتيماً يُكَرم في بيئة إيوة إيمانية لما شغل نفسه ولما خاف أن يموت ويترك ولداً صغيراً، بل يقول الإنسان لنفسه: إن المجتمع فيه خير كثير، وبذلك يستقبل الإنسان قدر الله بنفس راضية، ولا يؤرق نفسه، وهذه مسألة تشغل الناس فنقول لكل إنسان قادر: إذا كنت في بيئة إيمانية. واليتيم يجد رعاية من آباء إيمانيين متعددين فسينشأ اليتيم وليس فيه حقد؛ ولذلك يقول الحق: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] . لأنك إن رأيت المجتمع الإيماني قد رعى أيتام غيرك فستكون على ثقة من أنه يرعى أيتامك، فإن جاء الموت أو لم يأت فلا تشغل نفسك به، لكن إذا رأى الإنسان يتيماً مضيعاً، فهو يعض على أسباب الحياة ويريد أن يأتي بالدنيا كلها لولده، ونقول لمثل هذا الأب: اعمل لابنك بأن تضع ما تريد أن تدخره له في يد الله؛ لأن الذي خلق آمن من المخلوق؛ ولذلك قلنا من قبل: إن سيدنا معاوية وسيدنا عمرو بن العاص كانا يجلسان - في أخريات حياتهما - يتكلمان معاً، فيقول عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين: ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال معاوية: أما الطعام فقد سئمت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2217 أطيبه، وأما اللباس فقد مللت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في يوم صائف تحت ظل شجرة. وهذه كلمة تعطي الإنسان طموحات إيمانية في الكون، فبعدما صار معاوية خليفة وأميراً للمؤمنين والكل مقبل عليه قال: حظي في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف، وهذه توجد عند ناس كثيرين. كأن الطموح انتهى إلى ما يوجد عند كل أحد: شربة ماء بارد، ثم قال معاوية لعمرو: وأنت يا عمرو. ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال عمرو بن العاص: بقي لي أرض خوارة - يعني فيها حيوانات تخور مثل البقر - فيها عين خرارة. . أي تعطي ماءٌ وفيراً لتروي الأرض، وتكون لي في حياتي ولولدي بعد مماتي، وكان هناك خادم يخدمهما اسمه «وردان» . أراد أمير المؤمنين أن يلاطفه فقال له: وأنت يا وردان، ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ انظروا إلى جواب العبد كي تعرفوا أن الإيمان ليس فيه سيد ومسود، فقال له: حظي يا أمير المؤمنين: «صنيعة معروف أضعه في أعناق قومٍ كرام لا يؤدونه إليّ في حياتي» أي لا يرون هذا الجميل لي. حتى تبقي لعقبي في عقبهم. إذن فحظه صنيعة معروف يضعه في أعناق قوم كرام لا يؤدونه إليه في حياته حتى تكون لعقبة أي لمن سيترك من أولاده. كأنه يفهمنا أنه لا شيء يضيع، فكما تمد يدك يمد غيرك يده لك، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعطينا هذه المنزلة فيقول: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا،» وأشار بإصبعيه متجاورين «، أيّ منزلة هذه، فبالله بعد ذلك ألا يبحث كل واحد منّا عن يتيم يكفله لكي يكون مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الجنة. وهذه المنزلة كانت أمنية كل صحابي. فقد جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو محزون فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا فلان مالي أراك محزونا؟ «فقال: يا نبيَّ الله شيء فكرت فيه فقال:» ما هو؟ «قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونزل عليه جبريل بهذه الآية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2218 {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] . فبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبشره» . فالحق يقول لهؤلاء: لا تحزنوا، فما دمتم تحبون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتفرحون في الدنيا لأنكم معه فلا تخشوا مسألة وجودكم معه بالجنة فسوف أبعثكم معه في الجنة، فالمرء مع من أحب، ولذلك أقول لكل مسلم: ابحث عن يتيم تكفله كي تأخذ المنزلة الإيمانية، المنزلة العلية في الآخرة. فقد قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبّابة والوسطى وفرّج بينهما» . فقل لي: إذا عاملنا اليتيم في ضوء هذه التعاليم فماذا يحدث؟ سينتشر التكافل في المجتمع. ويقول الحق بعد ذلك: «والمساكين» . . ونعرف أن المساكين. . كما قال الفقهاء عنهم وعن الفقراء: إن كلهم في حاجة، فهل المسكين هو من لا يملك حاجة، أو الفقير هو الذي لا يملك حاجة أو يملك دون حاجته. كأن يكون إيراده مثلاً عشرة بينما حاجتهُ تحتاج إلى عشرين؟ المهم أنه يكون محتاجاً. وكلمة «فقير» مأخوذة من فقار الظهر أي مصاب بما يقصم الوسط والظهر. وهو اسم معبر. و «مسكين» أيضاً اسم معبر من المسكنة والسكن أي ليس له استعلاء في شيء. . مغلوب ومقهور. . فاللفظ نفسه جاءه معبراً، و «الجار» كلمة «جار» تعني: عدل، كقولنا: جار عن الطريق أي عدل عنه، فكيف أسمى من في جانبي «جاراً» ؟ لأن مَن في جانبك حدد مكاناً له من دنيا واسعة، فيكون قد ترك الكثير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2219 وجاء للقليل، وأصبح جارك، أي أنه عدل عن دنيا واسعة وجاء جانبك، فيسموا الجار لمن جار، أي عدل عن كل الأمكنة الواسعة وجاء إلى مكان بجانبك. وهذا الجار يوصي به الله سبحانه وتعالى كما أوصي بالقريب، وباليتيم وبالمسكين، للجار حقوق كثيرة؛ لذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما جاء في الحديث: «الجيران ثلاثة: فجار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا. وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق: فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم» . ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حق الجار: «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» «. أي سيجعل له من الميراث، وما هي حدود الجار؟ حدوده: الأقرب بابا إليك، إلى أربعين ذراعاً، وقالوا: إلى أربعين داراً، هنا يقول الحق: {والجار ذِي القربى} . فأعطاه حق القربى وحق الجوار، وقال؛ {والجار الجنب} . لأن فيه جاراً قريباً وجاراً بعدياً وقوله:» الجنب «أي البعيد، {والصاحب بالجنب} » الصاحب «هو المرافق.» بالجَنْب «أي بجانبه. قالوا: هو الزوجة أو رفيق السفر؛ لأن الرفقاء في السفر مع بعضهم دائماً، أو التابع الذي يتبعك طمعاً فيما عندك من الرزق سواء كان الرزق مالاً أو علماً أو حرفة يريد أن يتعلمها منك؛ فهو الملازم لك، والخادم أيضاً يكون» بالجنب «وكل هذا يوسع الدائرة للإحسان، ولو حسبت هذه الدوائر لوجدتها كلها متداخلة. وها هو ذا النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يقول لأبي ذَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2220 «يا أبا ذر إذا طبختَ مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» . والمهم أن تتواصل مع جارك، أو الجار ذي القربى: أي الذي قربته المعرفة، وكثير من الجيران يكون بينهم ودّ، وهناك جار لا تعرف حتى اسمه، فهذا هو «الجار الجنب» ، و «الصاحب بالجنب وابن السبيل» وابن السبيل، فقد تقول مثلاً: فلان بن فلان، كأنك لا تعرف أباه، أو تقول: فلان ابن البلد الفلانية أي لا تعرف عنه شيئاً سوى أنه منسوب لبلد معين، وعندما تقول: ابن سبيل تعني أنه غريب انقطعت به كل الأسباب حتى الأسباب التي يمكن أن تعرفه بها، فساعة تراه تقول «ابن السبيل» أي ابن طريق، ولا تَجد مكانا ينسب إليه إلا الطريق، لا يجد أبا ينسب إليه، لا يجد أمّا، لا يجد قبيلة، لا تعرف عه شيئا. {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وسبق أن تكلمنا عن ملك اليمين وقلنا: إن الإسلام إنما جاء لا ليشرع رقاً. . ولكن جاء لينهي رقاً، ويسد منابعه التي كانت موجودة قبل الإسلام، ولا يبقى إلا منبع واحد. هذا المنبع الواحد هو الحرب المشروعة، ولماذا لم يطلقهم؟ . لأن الحرب المشروعة عرضة أن يأخذ الخصوم من أبنائي وأنا آخذ من أبنائهم، فلا أطلق أبناءهم إن جاءوا في يدي حتى يطلقوا أبنائي الذين في أيديهم، ويصير الأمر إلى المعاملة بالمثل، التي انتهى إليها العالم الحديث وهي تبادل الأسرى. وقد نهانا الإسلام في ملك اليمين عن أن يقال: «عبدي» بل يقال: فتاي. ولا يقال: «أمتي» بل يقال: فتأتي، حتى التسمية أراد الشرع أن يهذبها، كي لا تنصرف العبودية إلا لله. الحق سبحانه وتعالى جاء بالإسلام والرق كان موجوداً، وله ينابيع متعددة فوق العشرين، وليس له إلا مصرف واحد هو إرادة السيد، فجاء الإسلام ليصفي الرق، وأول تصفية لشيء هو أن تسد منابعه. وبدل أن يكون مجرد مصرف واحد، وهي رغبة السيد، جعل له الإسلام مصارف متعددة، إذن فنكون قد حددنا المنابع في نبع واحد، وعددنا المصارف. . فالذنب بينك وبين الله تكفره بأن تعتق رقبة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2221 أي أحدثت ظهاراً مثلا تُعتق رقبة، وهذه رغبة من يريد أن يصفي الرق، فإذا لم توجد عند أي مالك أسباب لتصفية الرق وظل الفتى أو الفتاة تحت يمينه، فالإسلام يرشدك ويهديك: ما دمت لم تؤثر أن تعتقه واستبقيته فأحسن معاملته، أطعمه مما تطعم وألبسه مما تلبس، ولا تكلفه ما لا يطيق، فإن كلفته فيدك معه، وهات لي واحداً يلبس من ملابس سيده ويأكل مثله وعندما يعمل عملاً فوق طاقته تجدُ يَد السيد بيده. . أليست هذه هي المعاملة الطيبة! قال الله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . وبعد ذلك يجيء الحق سبحانه وتعالى في ختام الآية بما يدك كبرياء ذي الإحسان، فإياك أن تكون النعمة أو البذل الذي ستبذله يعطيك في نفسك غرور الاستعلاء؛ لأن غرور الاستعلاء هذا يكون استعلاء كاذباً. وأنت إذا استعليت على غيرك بأعراض الحياة، فهذه الأعراض تتغير، ومعنى «أعراض» أنها تأتي وتزول. فالذي يريد أن يستعلي ويستكبر فعليه أن يستعلي ويستكبر بحاجة ذاتية فيه؛ ولذلك لا يوجد كبرياء إلا الله، إنما الأغيار من البشر. فنحن نرى من كان قوياً يصير إلى ضعف، ومن كان غنياً يصير إلى فقر، ومن كان عالماً يصبح كمن لا يعلم: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج: 5] . فلا كبرياء إذن لمخلوق، ومن يريد أن يستعلي ويتكبر على غيره فليتكبر - كما قلنا - بحاجة ذاتية فيه، أي بشيء لا يسلب منه، والخلق كلهم في أغيار، والوجود الإنساني تطرأ عليه الأغيار، إذن فاجعل الكبرياء لصاحبه، وإياك أن تظن أنه عندما قلنا لك: اعمل كذا وأحسن لذي القربى واليتامى والمساكين، إياك أن تحبط هذه الأعمال بأن تستعلي بها؛ لأنها موهوبة لك من الله، وما دامت موهوبة لك من الله فاستح؛ لأن الذي يتكبر هو الذي لا يجد أمام عينه من هو أكبر منه. هات واحداً يتكبر لأن عنده مليوناً من الجنيهات ثم دخل عليه واحد آخر عنده أكثر منه ماذا يفعل؟ إنه يستحي ويتضاءل، ولا يتكبر الإنسان إلا إذا وجد كل الموجودين أقل منه، لكنه لو ظل ناظراً إلى الله لعلم أن الكبرياء لله وحده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2222 إذن فعندما يتكبر المتكبر، إنما يفعل ذلك لأن الله ليس في باله. لكن لو كان الحق المتكبر بذاته في باله لاستحي، فإذا كان في بالك من يعطيك لاستحييت. إذن فمعنى المتكبر أن ربنا غائب عن باله؛ لذلك يقول الحق في ختام الآية: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} وما «الاختيال» ؟ وما «الفخر» ؟ إن المادة كلها تدل على زهو الحركة، ولذلك نسمي الحصان «خيلا» ؛ لأنها تتخايل في حركتها، وعندما يركبها أحد تتبختر به؛ ولذلك نسمي الخيلاء من هذه. إّن «الاختيال» : حركة مرئية، «والفخر» حركة مسموعة، فالحق ينهي الإنسان عن أن يمشي بعنجهية، كما نهاه عن أن يسير مائلا بجانبه ولا أن يعتبر نفسه مصدراً للنعمة حتى لا ينطبق عليه قوله سبحانه: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 9 - 10] . أما الفخر فهو أن يتشدق الإنسان بالكلام فيحكي عما فعل وكأنه مصدر كل عطاء للبشر، والخيلاء والفخر ممنوعان، وعلى المسلم أن يمتنع عن الحركة المرئية وعن كلام الفخر، ولماذا جاء الحق بهذا هنا؟ إنه جاء به حتى لا يظن عبد أنه يحسن إلى غيره من ذاتيته، إنه يحسن مما وهبه الله. ولا يصح أن تستخدم من أحسنت إليهم وتتخذهم عبيداً؛ لأنّك تحسن عليهم. وعندما تنظر إلى سيادتك على هؤلاء لأنك تعطيهم، فلماذا لا تنظر إلى سيادة من أعطاك؟ إنك عندما تفعل ذلك وتنظر إلى سيادة خالقك فإنك قد التزمت الأدب معه وبعدت عن الاختيال والفخر بما قدمت لغيرك، يقول الحق: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء: 36] . وبعدما قال الحق: {وبالوالدين إِحْسَاناً} قال: {وَبِذِي القربى واليتامى} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2223 وتحدث عن البذل والأريحية والجود والسماح وبسط اليد، أتى سبحانه بالحديث عن المقابل وهو: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2224 وما معنى البخل؟ إنه مشقة الإعطاء. فعندما يقطع حاجة من خاصة ماله ليعطيها لغيره يجد في ذلك مشقة ولا يقبل عليها، لكن الكريم عنده بسط يد، وأريحية. ويرتاح للمعروف، إذن فالبخل معناه مشقة الإعطاء، وقد يتعدى البخل ويتجاوز الحد بضن الشخص بالشيء الذي لا يضر بذله ولا ينفع منعه؛ لأنه لا يريد أن يعطي. وهذا البخل والشح يكون في نفس البخيل؛ لأنه أولاً قد بخل على نفسه، فإذا كان قد بخل على نفسه، أتريد أن يجود على الناس؟ والشاعر يصور بخيلاً اسمه «عيسى» ويريد أن يذمه؛ لأنه بخيل جداً، ويظهر صورة البخل بأنه ليس على الناس فقط بل على نفسه أيضاً، فيما لا يضر بذله ولا ينفعه منعه. وما دام يقتر على نفسه فسيكون تقتيره على غيره أمراً متوقعاً: يقتر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد فلو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد إنه بخيل لدرجة أنه يفكر لو استطاع أن يتنفس من فتحة أنف واحدة لفعل؛ حتى لا يتنفس بفتحتي أنفه. والشاعر الآخر يأتي بصورة أيضاً توضح كيف يمنع البخيل نفسه من الأريحية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2224 والإنسانية فيقول: لو أن بيتك يا بن عم محمد ... إبر يضيق بها فضاء المنزل وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قد قيمصه لم تفعل فالشاعر يصور أن سيدنا يوسف لو جاء إلى هذا البخيل وقال له: أعطني أبرة لكي أخيط قد القميص الذي مزقته زِليخاء، وهذا البخيل عنده بيت يمتلئ فِناؤه بالإبر، لضن البخيل ورفض. إذن فالبخيل: هو من يضيق بالإعطاء، حتى أنه يضيق بإعطاء شيء لا يضر أن يبذله ولا ينفعه أن يمنعه، ويقول الحق عن البخلاء: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180] . فالحق يجعل للبخيل مما بخل به طوقاً حول عنقه، ولو أن البخيل قد بذل قليلاً، لكان الطوق خفيفاً حول رقبته يوم القيامة. لكن البخيل كلما منع نفسه من العطاء ازداد الطوق ثقلاً. ولقد قال الحق أيضاً عن الذين يكنزون الذهب والفضة: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35] . فإن كان اكتنازهم لكميات كبيرة فما سيحمى على النار منها يكون كثيراً، ويكوَوْن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2225 به. إذن فالإنسان لا بد أن يخفف عن نفسه الكيّ، والذين يبخلون لا يكتفون بهذه الخسيسة الخلقية في نفوسهم بل يحبُّون أيضاً أن تتعدى إلى سواهم كأنهم عشقوا البخل، ويؤلمهم أن يروا إنساناً جواداً؛ يقول لك البخيل: لا تنفق؛ لأنه يتألم حين يرى إنساناً جواداً، ويريد أن يَكون الناس كلهم بخلاء؛ كي لا يكون أحد أحسن منه. إنه يعرف أن الكرم أحسن، بدليل أنه يريد أن يَكون الناس كلهم بخلاء، والبخل: ضن بما أوتيته على من لم يُؤت. وهل البخل يكون في المال فقط؟ . لا، بل يكون في كل موهبة أوتيتها وتنقص عند غيرك ويفتقر إليها، إن ضننت بها فأنت داخل في البخل. إن الذي يبخل بقدرته على معونة العاجز عن القدرة، والذي يبخل بما عنده من علمٍ على من لا يعلم، هذا بخل، والذي يبخل على السفيه حتى بالحلم هذا بخل أيضاً، فإن كانت عندك طاقة حلم فابذلها. إذن فالبخل معناه: أنك تمنع شيئا وهبه الله لك عن محتاجه، معلم - مثلا - عنده عشرة تلاميذ يتعلمون الصنعة، ويحاول أن يستر عنهم أسرار الصنعة؛ يكون قد بخل. {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} والآية معناها يتسع لكل أمر مادي أو قيمي. ونحن نأخذها أيضاً في المعاني العالية، فالذين أوتوا الكتاب كانوا يعرفون صفته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلما جاءهم مصدقاً لما معهم كفروا برسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكتموا معرفتهم به عن الناس، وكتموا معرفتهم بما جاء به من علم وهو الصادق المصدوق. وهذا بخل في القمة، وبعد ذلك استمروا يأمرون الناس بالبخل. وأنتم تعرفون أن الأنصار كانت عندهم الأريحية الأنصارية، وساعة ذهب إليهم المهاجرون، قاسموهم المال، حتى النعمة التي غرس الله في قلب المؤمن الغيْرة عليها من أن ينالها أحد حتى ولو كان كارهاً لها، وهي نعمة المرأة؛ لأن الرجل حتى وإن كره امرأته فهو يغار أن يأخذها أحد، ولكن الأنصار اقتسموا الزوجات، فكم من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2226 رجل كان متزوجاً من أكثر من واحدة، طلق زوجة ليزوجها لمهاجر، فالحق سبحانه وتعالى يصعد أريحية الأنصار حتى أن الأنصاري يأتي بالمهاجر ويقول له: انظر إلى إحدى زوجتي أو إحدى زوجاتي فاختر ما يروقك فأطلقها وتتزوجها. أية أريحية سامية هذه؟ فإذا كنت ذا نعمة وأنت مؤمن فأنت تحب أن تعدي أثر نعمتك إلى غيرك، فإذا كان عندك سيارة فاخرة قد تحب أن تتصدق بها، لكن المرأة، لا. لكن هذه الأريحية جاءت من الأنصار وقالوا: هؤلاء مهاجرون وتاركون أهلهم. وكان هذا ارتقاءً إيمانياً في ذات الأنصار. لقد جاء إليهم المهاجرون وفيهم شباب يمتلئون فتوة، وكانت قريش قد منعت أهليهم عنهم، ليس معهم زوجات. فيقول الأنصاري: لماذا لا أطلق إحدى زوجاتي، وليتزوجها أخي المهاجر لأنفس عن عواطفه. وأقل ما فيها أن أمنع نظره أن يتحول حراماً. لكنَّ اليهود والمشركين والمنافقين يقولون لهم: لا تنفقوا على من عند رسول الله. ويقول القرآن الكريم في هذا الموقف: {هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] . لقد أخطأوا الظن بمن آمنوا برسول الله، ظنوا أنهم ن لم ينفقوا عليهم فسيرتدون عن إيمانهم. ونسوا أن المؤمنين المهاجرين قد تركوا أموالهم وتركوا بلادهم، فمن ترك أمواله للهجرة في سبيل الله أيكفر به عندما لا يجد شيئاً؟ لا؛ لأنه ترك كل شيء في سبيل الله. وها هوذا سيدنا مصعب بن عمير المدلل في قريش، وكانت أمه تغدق عليه النعمة وهو صاحب العطور، وبعد ذلك يذهب إلى المدينة، فيلبس جلد شاة، فينظر له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لأصحابه: انظروا كيف صنع الإيمان بصاحبكم، فعندما يقول المنافقون كعبد الله بن أبيّ للأنصار: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا، يظنون أن المؤمنين يمكن أن يبيعوا إيمانهم بلقمة وكأنهم نسوا أن الذي يبيع إيمانه باللقمة هو من يُحمل على مبدأُ باطل، لكن من يعتنق ويعتقد مبدأ حق يجد حلاوته في النفس، وأجره مدخر عند ربه. إنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2227 لا يتحول عنه. قال علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «فجئت المسجد، فطلع علينا مصعب بن عمير في بردة له مرقوعة بفروة، وكان أنعم غلام بمكة وأَرْفَهَ، فلما رآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر ما كان فيه من النعيم، ورأى حاله التي هو عليها فذرفت عيناه عليه، ثم قال: أنتم اليوم خير أم إذا غُدي على أحدكم بجفنة من خبز ولحم؟ فقلنا: نحن يومئذ خير نُكفَي المؤنة ونتفرغ للعبادة، فقال:» بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ «. وقلنا: يجب أن تذكروا جيداً أن من حلاوة اليقين وحلاوة الإيمان أن المؤمن يضحّي بكل شيء في سبيل رفعة الإيمان. لكن أصحاب المبادئ الباطلة لا يدخلون غيرهم فيها إلا إن دفعوا الثمن مقدماً، أي أنهم يشترونهم. فإذا رأيت مبدأ من المبادئ يشتري البشر فاعرف أنه مبدأ باطل. . ولو كان مبدأ حق لدفع الإنسان من أجل أن يدخل فيه نفيس ماله، بل ويضحي في سبيله بنفسه أيضا. ومن عجائب مبادئ الإسلام أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما أخذ العهد لنفسه في بيعة العقبة، قال له الأنصار: فإن نحن وفَّينا بهذا فماذا يكون لنا؟ كأنهم يقولون: أنت أخذت مَالك فماذا يبقى لنا؟ . . انظروا إلى سمو الإيمان، ويقين المصطفى بأن الإيمان نفسه جائزة، فهل بشرهم بأنهم سيملكون الأرض؟ هل بشرهم بأن هؤلاء المستضعفين هم الذين سيمكنون فيها؟ لا، بل قال لهم: لكم الجنة. فلو قال لهم: لكم سيادة الدنيا، لكان في ذلك نظر، صحيح أن الدنيا دانت وخضعت لهم، لكن منهم من مات قبل أن تدنو له الدنيا وتذل، فأين صدق النبوءة؟ إذن فقد قال لهم عن الشيء المضمون، الشيء الذي يجد المؤمن فيه نفسه من فور أن يموت. قال لهم: لكم الجنة. فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2228 عصابة من أصحابه -: «تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف، فمن وَفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه» . لم يغرهم بأنهم سيكونون أصحاب سلطان، ولم يقل لهم: أنتم ستجلسون على البُسُط والدنيا ستدين لكم، إنما قال لهم في أول البيعة: لكم الجنة، فإياكم أن يطمع أحد منكم في شيء إلا في الجنة؛ ولذلك فالأنصار محبوبون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولما كانت غزوة حنين وأعطى المهاجرين بعضاً من الغنائم ولم يكن للأنصار منها شيء، وجد الأنصار في نفوسهم. فلفتهم رسول الله لفتة إيمانية وقال لهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم» فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت أمرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شِعباً آخر لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار «. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً» . أي سمّو إيماني هذا؟ لكن المنافقون قالوا للأنصار: لا تنفقوا أموالكم على من عند رسول الله حتى ينفضّوا. لكنّ المؤمنين لم ينفضّوا. إنهم قد تركوا النعيم والأموال في مكة وجاءوا إلى الهجرة، فهم لم يأتوا ليأخذوا نعيماً مظنوناً محدوداً قليلاً، وحسبهم ما وعدوا به من نعيم متيقن عريض باق. لقد عرفوا بالإيمان أن نعيم الدنيا إما أن تفوته بالموت وإمّا أن يفوتك بالتقلب، لكن نعيم الآخرة ليس له حدّ ينتهي عنده، ولا يفوتك ولا تفوته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2229 ثم سبحانه يقول: {وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} ، وساعة ترى شيئاً يكتم شيئاً، لا بد أن تفهم منها أن هذا الكتم معناه: منع شيء يريد أن يخرج بطبيعته، وكما يقولون: اكتم الدم فلو لم تكتمه يستطرق. كأن المال أو العلم يريد أن يخرج للناس ولكن أصحابه يكتمونه. وكأن الفطرة الطبيعية في كل رزق سواءً أكان رزقاً مادياً أم رزقاً معنوياً أنه يستطرق؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة الإنسان، فعندما يأتي إنسان ويحوز شيئاً مما هو مخلوق لخدمة الإنسان ويحجبه فهو بذلك يمنع الشيء، المكتوم من رسالته؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة بني آدم، فعندما نعوقه عن هذه الخدمة فالشيء يحزن، وليتسع ظنكم إلى أن الجمادات تحزن أيضاً. {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} [الدخان: 29] . فالسماء والأرض لهما بكاء، ليس بكاء دموع إنما بكاء يعلم الله كنهه وحقيقته، إذن فقوله: {وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} . كأنه يقول: ما آتاه لك الله من فضله ليس ملكك، وليس ذاتية فيك، فأنت لم تأت به من عندك. وانظر إلى الكون حولك تجده كله أغيارا، ألم تر في حياتك قادراً أصبح عاجزاً؟ ألم تر غنياً أصبح فقيراً؟ فالدنيا دول، وما من واحد إلا ويمر أمام عينيه وفي تاريخه وفي سماع من يثق بكلامه أنه «كان» هناك غنيٌّ ثم صار فقيراً، فلماذا لا تعتبر بالأغيار التي قد تمر بك، وبعد أن كان يُطلب منك أن تعطي، صرت في حال يطلب الحق سبحانه من غيرك أن يعطيك، ادخر لنفسك الآن - بالخير تبذله - حتى إذا جاءتك الأغيار تجد لك ما ينتظرك. {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} انظر ماذا فعل فيه البخل، إنه جعل صاحبه كافراً؛ لأن البخيل ستر نعمة كان من الممكن أن تتسع له ولغيره، فجاء له بالشيء الذي يخيف: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} «أعتدنا» أي أعددنا وهيأنا. فالمسألة موجودة وقد أعدت، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما يتكلم عن الجنة يقول: «عُرضت عليّ الجنة لو مددتُ يدي لتناولت من قطوفها» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2230 هذه ثقة اليقين في أنها مسألة جاهزة وليست تحت الإعداد، ومن الذي أعد؟ إنه الله، قوي القوي، قدرة القدر هي التي تُعد، وهو يعدها على قدر سعة قدرته، عذاب مهين؛ لأنه قد يتطاول أحد ويقول: أنا أتحمل العذاب، كما قال الشاعر: وتجلدي للشامتين أريهمو ... أني لريب الدهر لا أتضعضع فسبحانه يوضح: لن يلقى البخيل العذاب فقط، بل سيلقى عذابا مهينا. ثم يأتي الحق سبحانه بالمقابل، يأتي بغير البخيل، فيقول: {والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ... .} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2231 إن هذه الآية الكريمة تتحدث عن الذي ينفق، لكن الغاية غير واضحة عنده. الغاية ضعيفة لأنه ينفق رئاء الناس، إنه يريد بالإنفاق مراءاة الناس؛ ولذلك يقول العارفون بفضل الله: اختر من يثمن عطاءك. فأنت عندما تعطي شيئاً لإنسان فهو يثمن هذا الشيء بإمكاناته وقدراته، سواء بكلمة ثناء يقولها مثلاً أو بغير ذلك، لكن العطاء لله كيف يُثَمِّنه سبحانه؟ لا بد أن يكون الثمن غالياً. إذن فالعاقل ينظر لمن سيعطي النعمة، ولنا الأسوة في سيدنا عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عندما علم التجار أن هناك تجارة آتية له، جاء كل التجار ليشتروا منه البضاعة ثم يبيعوها ليربحوا وقال لهم: جاءني أكثر من ثمنكم، وفي النهاية قال لهم: أنا بعتها لله - إذن فقد تاجر سيدنا عثمان مع الله، فرفع من ثمن بضاعته، فالذي يعطي لرئاء الناس نقول له: أنت خائب؛ لأنك ما ثمنت نعمتك، بل ألقيتها تافهة الثمن، ماذا سيفعل لك الناس؟ هم قد يحسدونك على نعمتك ويتمنون أن يأخذوها منك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2231 فلماذا ترائيهم؟ إذن فهذه صفقة فاشلة خاسرة؛ ولذلك قال الحق: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] . وما دام سبحانه هو الذي اشترى فلا بد أن الثمن كبير؛ لأنه يعطي النعيم الذي ليس فيه أغيار، ففي الجنة لا تفوت النعمة مؤمناً، ولا هو يفوتها. فالذي يرائي الناس خاسر، ولا يعرف أصول التجارة؛ لأنه لم يعرف طعم التجارة مع الله؛ ولذلك شبه عمله في آية أخرى بقوله: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً} [البقرة: 264] . و «الصفوان» هو المروة وجمعه مرو وهي حجارة بيض براقة، والمروة ناعمة وليست خشنة. لكنْ بها بعض من الثنايا يدخل فيها التراب؛ ولأن المروة ناعمة جداً فقليل من الماء ولو كان رذاذاً يذهب بالتراب. والذي ينفق ماله رئاء الناس هو من تتضح له قضية الإيمان ولكن لم يثبت الإيمان في قلبه بعد، فلو كنت تعلم أنك تريد أن تبيع سلعة وهناك تاجر يعطيك فيها ثمنا أغلى فلماذا تعطيها للأقل ثمنا؟ إنك إن فعلت فقد خبت وخسرت فأوضح لك الحق: ما دمت تريد رئاء الناس إذن فأنت ليس عندك إيمان بالذي يشتري بأغلى، فتكون في عالم الاقتصاد تاجرا فاشلاً، ولذلك قلنا: ليحذر كل واحد حين يعطي أن يخاف من العطاء، فالعطاء يستقبله الله بحسن الأجر، ولكن عليه ألا يعطي بضجيج ودعاية تفضح عطاءه؛ ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» . إنّ العبد الصالح حين يعطي فهو يعلم أن يده هي العليا ويده خير من اليد السفلى، فليستر على الناس المحتاجين سفلية أيديهم، ولا يجعلها واضحة. ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يضيق مجال الإعطاء فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2232 {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271] . فإبداء الصدقات لا مانع منه إن كان من يفعل ذلك يريد أن يكون أسوة، المهم أن يخرج الرياء من القلب لحظة إعطاء الصدقة، فالحق يوضح: إياك أن تنفق وفيك رئاء، أما من يخرج الصدقة وفي قلبه رياء فالله لا يحرم المحتاجين من عطاء معطٍ؛ لأنه سبحانه يؤكد: خذوا منه وهو الخاسر؛ لأنه لن يأخذ ثواباً، لكن المجتمع ينتفع. إن الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس هم من الذين {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله} لأنه سبحانه هو المعطي، وهو يحب أن يضع المسلم عطاءه في يده {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} فلو كانوا يؤمنون باليوم الآخر لرأوا الجزاء الباقي، فأنت إذا كنت تحب نعمتك فخذ النعمة وحاول أن تجعلها مثمرة. . أي كثيرة الثمار، فالذي لم يتصدق من ماله ولم ينفقه حتى على نفسه يكون قد أنهى مسألة المال وعمر ماله معه عند هذا الحد، أما الذي أنفقه في سبيل الله فسيجده في الآخرة، فيكون قد أطال عمر ماله. فالبخيل هو عدو ماله؛ لأنه لم يستطيع أن يثمره، ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث: «إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمةٍ جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يُقال: فلان قارئ فقد قيل ذلك، ويؤتي بصاحب المال ... .» . لكن هل قال لك الدين: لا تفعل؟ لا، افعل لينتفع الناس بالرغم منك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2233 والبخيل عندما يُكَثَّر ماله يكون قد حرّم على نفسه هذا المال ثم يأتي ابن له يريد أن يستمتع بالمال، ولذلك يقال في الريف: مال الكُنزي للنزُهي، ولا أحد بقادر أن يخدع خالقه أبداً!! فسبحانه يوضح: أنا أعطيتك نعمة أنت لم تعطها لأحد، لكني سأيسر السبيل لطائع لي، إياك أن تظن أنك خدعتني عندما بخلت، فبخلك يقع عليك. إذن فأنت قد ضيقت رزقك بالبخل ولو أنفقت لأعطاك الله خيراً كثيراً «وما أنفقتم من شيء فهو يخلقه» لكنك تركته لورثتك وسيأخذونه ليكون رزقهم متسعاً، وأيضاً فإنك حين تمنع المال عن غيرك فأنت قد يسرت سبيلاً لمن يبذل. كيف؟ لنفترض أن إنساناً كريماً، وكرمه لا يدعه يتوارى من السائل، والناس لها أمل فيه. وبعد ذلك لم ينهض دخله بتبعاته، فإن كان عنده «فدانان» فهو يبيع فداناً ليفرج به على المحتاجين، وعندما يبيع الفدان سيشتريه من يكتنز، فيكون المكتنز قد يسَّر سبيلاً للكريم، فإياك أن تظن أنك قادر على خداع من خلقك وخلق الكون وأعطاك هذه النعمة، وهذا يشبه صاحب السيئة الذي منّ الله عليه بالتوبة والرجوع إلى الله، إننا نقول له: إياك أن نعتقد أنك اختلست شهوة من الله أبداً. أنت اختلست شهوة ستلهبك أخيراً، وتجعلك تفعل حسنات مثلها عشرين مرة، لأنه سبحانه قد قال: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] . فأنت لن تضحك على خالقك لأنه سيجعلها وراءك، فتعمل خيراً كثيراً، كذلك البخيل نقول له: ستيسر سبيلاً لكريم بذّال، والحق سبحانه وتعالى بيّن في آخر الآية السبب الذي حمله على ذلك، إن الأسباب متعددة. لكن تجمعها كلمة «شيطان» ، فكل من يمنعك من سبيل الهدى هو شيطان، ابتداءً من شهوات نفسك وغفلة عقلك عن المنهج، إنّها قرين سوء يزين لك الفحشاء، ويزين لك الإثم، إنّ وراء كل هذه الأمور شيطانا يوسوس إليك، وكل هؤلاء نسميهم «شيطاناً» لأن الشيطان هو من يبعدك عن المنهج، وهناك شياطين من الجن، وشياطين من الإنس، فالنفس حين تحدث الإنسان ألاّ يلتزم بالمنهج؛ لأن التزامه بالمنهج سيفوت عليه فرصة شهوة - هي شيطان. إنّ النفس التي ترى الشهوة العاجلة وتضيع منها شهوة آجلة لا حدود لها - هي شيطان. فالشيطان إذن هو الذي جعلهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2234 يبخلون ويأمرون الناس بالبخل. . وهذا الشيطان وساعة يكون قريناً للإنسان، فمعنى ذلك أنه مقترن به، والقِرن بكسر القاف - هو من تنازله. وكلمة «قَرْن» تطلق أيضاً على فترة من الزمن هي مائة عام؛ لأنها تقرن الأجيال ببعضها، فالشيطان قرين أي ملازم لصاحبه ومقترن به، فيقول الحق: {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً} ، أي بئس هذا القرين لأنه القرين الذي لا ينفعني ولا يصدني عن مجال ضار. ولذلك فالناس قد يحب بعضهم بعضا في الدنيا لأنهم يجتمعون على معصية. أما في الآخرة فماذا يفعلون؟ يقول الحق: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] . لأن المتقين يعين بعضهم بعضا على الطاعة، فالواحد منهم يقول لصاحبه: كنت تعينني على الطاعة، كنت توجهني وتذكرني إن غفلت، فيزداد الحب بينهما. لكن الإنسان يلعن من أغواه وأول من نلعن يوم القيامة نلعن الشيطان، وكذلك الشيطان أول ما يتبرأ يتبرأ منّا؛ ولذلك فعندما تحين المجادلة نجد الشيطان يقول لمن أغواهم وأضلهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] . والسلطان هو: القوة العالية التي تجبر مَنْ دونها، فالإنسان تُجبر مادته وبنيته بسلطان القهر المادي، ويُقهر في اعتقاداته بالدليل والحجة. والإكراه في المادة إنما يتحكم في القالب، لكنه لا يتحكم في القلب، فقد تكون ضعيفاً أمام واحد قوي ولكنك تمسك له سوطا وتقول له: اسجد لي. اخضع، فيسجد لك ويخضع. وأنت بذلك تقهر القالب، لكنك لم تقهر القلب، هذا هو السلطان المادي الذي يقهر القالب، لكن إذا جاء لك إنسان بالحجج وأقنعك، فهذا قهر إقناع، وقدرة قهر العقول بالإقناع نوع من السلطان أيضاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2235 إذن فالسلطان يأتي من ناحيتين: سلطان يقهر القالب، وسلطان يقهر فقه القلب، فسلطان القالب يجعلك تخضع قهراً عنك، وسلطان الحجة والبرهان يجعلك تفعل برضي منك، والشيطان يقول لمن اتبعوه: يا من جعلتموني قريناً لكم لا تفارقوني، أنتم أغبياء؛ فليس ليَ عليكم سلطان، وما كان ليَ من القوة بحيث أستطيع أن أرغمكم على أن ترتكبوا المعاصي، وما كان عندي منطق ولا حجة لكي أقنعكم أن تفعلوا المعاصي، ولكنكم كنتم غافلين، أنا أشرت لكم فقط فلست أملك قوة أقهر مادتكم بها، ولا برهان عندي لأسيطر على عقولكم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] . إذن فالخيبة منكم وأنتم، ولذلك يقول الحق: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] . ماذا يعني «مصرخكم» ؟ إنها استغاثة واحد في أزمة لا يقدر عليها وضاقت به الأسباب، عندئذ يستنصر بغيره، فيصرخ على غيره، أي يناديهم لإنقاذه ولنجدته، فالذي يستجيب له ويأتي لإنقاذه يقال له: أزال صراخه، إذن فاصرخه يعني سارع وأجاب صرخته، والشيطان يقول: إن استنجدتم بي فلن أنجدكم وأنتم لن تنجدوني، فكل واحد منا عرف مسئوليته وقدرته. وبالنسبة للإنسان فقد قال الحق: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] . فمن يتخذ الشيطان قريناً، «فساء قرينا» وكلمة «ساء» مثل كلمة «بئس» كلتاهما تستعمل لذم وتقبيح الشيء أي، فبئس أن يكون الشيطان قريناً لك؛ لأن الشيطان أخذ على نفسه العهد أمام الله ألا يغوي من يطيعه سبحانه ويغوي مَن سواهم من الناس أجمعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2236 وعندما نتأمل الآية، نجد أن الحق يقول: {والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً} . فالآية إذن تتناول لونا من الإنفاق يحبط الله ثوابه. فنفقة المرائي تتعدى إلى نفع غيره لكن لا ينتفع المرائي منها، بل تكون قد أنقصت من ماله ولم تثمر عند ربه. والحق يلفتنا إلى أن ذلك كله راجع إلى معوقات الإيمان الذي يتطلب من الإنسان أن يكون في كل حركات حياته على منهاج ربه، هذه المعوقات تظهر في النفس البشرية وفي شهواتها التي تزين الإقبال على المعصية للشهوة العاجلة، وتزين الراحة في ترك الأوامر، والشيطان أيضاً يتمثل في المعوقات، والشيطان كما نعلم: اسم للعاصي من الجنس الثاني من المكلفين وهم الجن ويتمثل في إبليس وفي جنوده، ويطلق على كل متمرد من الإنس يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} وأنت حين تريد أن تعرف المعوق أهو من نفسك أن تأتيها وحدها، أم معصية إن عزّ عليك أن تفعلها فأنت تنتقل إلى معصية سواها؟ هل هي معصية ملازمة أو معصية تنتقل منها إلى غيرها؟ فهب أن إنساناً كانت معصية نفسه في أن يشتهي ما حُرّم عليه، أو أن يسرق مال غيره، نقول له: أوقفت في المعصية عند هذه بحيث لا تتعداها إلى غيرها؟ يقول نعم. فبقية المعاصي لا ألتفت إليها. نقول: تلك شهوة نفس، فإن كانت المعصية حين تمتنع عليك من سرقة مثلاً فأنت تلتفت إلى معصية أخرى. فهذا لون من المعاصي ليس من حظ النفس، وإما هو حظ الشيطان منك؛ لأن الشيطان يريد العاصي عاصياً على أي لون من المعصية، فإن عزّ عليه أن يلوي زمامه إلى لون من المعصية، انتقل إلى معصية أخرى لعلّه يصادف ناحية الضعف فيه. لكن النفس حين تشتهي فإنها تشتهي شيئاً بعينه، فأنت إذن تستطيع أن تعرف المعوق من قبل نفسك أم من قبل الشيطان، فإن وقفت عند معصية واحدة لا تتعداها وتلح عليك هذه المعصية، وكلما عزّ عليك باب من أبوابها تجد باباً آخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2237 لتصل إليها، فتلك شهوة نفسك. وإن عزّت عليك معصية تنتقل إلى معصية أخرى فهذا من عمل الشيطان؛ لأن الشيطان لا يريد عاصياً من لون واحد، وإنما يريدك عاصياً على إطلاقك. وعداوة الشيطان - كما نعلم - هي عداوة مسبقة؛ فقد امتنع اليشطان عن السجود لآدم بحجة أنه خير من آدم. وحذر الله آدم. ولا بد أن آدم عليه السلام قد نقل هذا التحذير لذريته وأَعْلَمَهٌم أن الشيطان عدو. ولكن الغفلة حين تسيطر على النفوس تفسح مجالا للشيطان لينفذ إلى نفس الإنسان، والشيطان - كما نعرف - للطائع ليفسد عليه طاعته، ولهذا يقول الله عنه: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] . إذن فمقعد الشيطان ليس في الخمارة أو في مكان فساد، إنما يجلس على باب المسجد، لكي يفسد على كل ذاهب إلى الطاعة طاعته. وهذا معنى: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} ؛ ولذلك كانوا يقولون: إن الطوائف الأقلية غير المسلمة في أي بلد إسلامي لا تحدث بينهم الشحناء، ولا البغضاء، ولا حرق الزروع ولا سمّ الشيطان ضمن أن هؤلاء وصلوا إلى قمة المعصية فابتعد عن إغوائهم، أما المسلمون فهم أهل الطريق المستقيم، لذلك يركز الشيطان في عمله معهم، إذن فما دام عمل الشيطان على الطريق المستقيم فهو يأتي لأصحاب منهج الهداية، أما الفاسق بطبيعته، والذي كَفَرَ كُفر القمة فالشيطان ليس له عمل معه؛ لأنه فعل أكثر مما يطلب الشيطان من النفس البشرية. والحق سبحانه وتعالى يقول: {والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس} أي: أنفقوا وأنقصوا ما لهم فلماذا المراءاة إذن؟ لأن الشيطان قرينهم، وعندما ينفقون فهذا عمل طاعة، ولماذا يترك لهم هذا العمل ليسلم الثواب لهم؟ فلا بد أن يفسد لهم هذا العمل الذي عملوه، وهو يقول: {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً} مثل هذا القرين أيمدح أم يذم؟ إنه يذم بطبيعة الحال؛ ولذلك قال الله: {فَسَآءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2238 قِرِيناً} أي بئس ذلك القرين، فالقرين الذي يلفتك عن فعل الخير هو الذي بعد أن أنقص مالك بالنفقة أفسد عليك الثواب بالرياء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2239 وقوله سبحانه: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} وأي تبعه ومشقة وضرر عليهم من الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ إنه سبحانه لم يستفهم منهم عما يصيبهم من ذلك ولكنه - جل شأنه - يَذُمُّهُمْ ويوبخهم ويصمهم بالجهل والغفلة عما ينفعهم. فالتلميذ الذي يلعب، فيرسب تقول له: وماذا عليك لو أنك ذاكرت؟ {يعني أي ضرر عليك في هذا، إذن فمعنى ذلك أنها لا تقال إلا لإنسان في قدرته أن يفعل الفعل، فمثل هذا التلميذ يقدر أن يذاكر. لكننا لا نأتي لإنسان فيه صفة لا دخل له فيها كالقصر في القامة مثلاً ثم نقول لك: ماذا عليك لو كنت طويلاً؟} هذا قول لا ينفع ولا يصح. إذن فماذا عليك. لا تقال إلا لمن في قدرته الاختيارية أن يكون كذلك، أما من لا يكون في قدرته ألا يكون كذلك فلا تقال له. ونقول ذلك لأن طائفة الجبريّة قالت: إن الذي كفر لا يقدر أن يؤمن فالكافر يظل كافراً، لكنهم لم يلتفتوا إلى قول ربنا: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر} فمعنى هذا القول أن الباب مفتوح. وإلا لو كانوا ملزمين بالكفر لما قال ربنا: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} . وهذه الآية لا ترد فقط على مذهب الجبريَّة، بل تهدم مذهب الجبريَّة كله. فالإنسان ليس مجبراً على فعل وتنتهي المسألة، وكما يقولون: كالريشة في مهب الريح. ومثلما قال الشاعر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2239 ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء نقول لهم: أنتم نسبتم لله - والعياذ بالله - الظلم، فالله سبحانه وتعالى لم يطلب من الإنسان أن يؤمن به إلا وقد أودع فيه قوة اختيارية تختار بين البديلات. وأنتم لم تفطنوا إلى حقيقة كتابة كل شيء أزلاً فأخذتم منها الشيء الذي لا بد للناس أن تنفذه ولم تلتفتوا إلى أن هناك فرقاً بين أن يكون قد كتب ليلزم، وأن يكون قد كتب لأنه علم. هو سبحانه كتب لماذا؟ لأنه علم أزلاً أن عبده سيختار كذا ويختار كذا. إذن فالكتابة ليست للإلزام ولكن لسبق العلم. والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير. وحتى نوضح ذلك نقول: إن الصفات نوعان: صفة تكشف الأشياء على ما هي عليه بصرف النظر عن أن تقهر أو لا تقهر، والقدرة صفة إبراز وليست صفة انكشاف، ومثال ذلك عميد الكلية الذي يأتي فيقول لأستاذ مادة من المواد: جاءت لي مكافأة للطالب النابغ في مادة كذا، فاصنع اختباراً للطلاب حتى نعطي هذه الجائزة لمن يستحقها. فيقول أستاذ المادة: لا ضرورة للاختبار لأنني أعلمهم وأعرف مواقعهم من الجدّ ومواقعهم من الاجتهاد ومواقعهم من فقه العلم، فلان هو الأول وأعطه الجائزة، فلا يقنع عميد الكلية ويضع هو اختباراً أو يأتي بأساتذة آخرين يضعون الاختبار دون هذا الأستاذ. وبعد ذلك يفوز الطالب الذي حدده الأستاذ مسبقاً بالدرجة الأولى. أساعة أجاب الطالب عن الأسئلة التي وضعت له. أكان مع الطالب الذي فاز بالمركز الأول من يرغمه على أن يكتب المادة العلمية التي جعلته يحصل على الجائزة؟ لا. فلماذا قال الأستاذ عنه ذلك؟ لأنه علم بمن عنده قدرة من العلم. لقد حكم الأستاذ أولاً لأنه يعلم. ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فالحق سبحانه وتعالى أعطى للناس الاختيار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2240 بين البديلات، لكنه أوضح: أنا أعلم أن عبدي سيختار كذا وكذا. إذن فهذا سبق علم لا قهر قدرة. فالقدرة لها تأثير والعلم لا تأثير له ولا قهر. وقول الله هنا: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله} فقوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} تعني أي ضرر يلحقهم. كلمة «عليهم» دائماً تكشف للإنسان ما عليه؛ لذلك لا يقول «لهم» بل يقول: أي ضرر كان يلحقهم لو أنهم آمنوا بالله؛ ولذلك يقول الحق: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] . لم يقل سبحانه: الذين يتيقنون. بل إن مجرد الظن بلقاء الله جعلهم يعملون الأعمال الصالحة، فما بالك إذا كان العبد متيقناً؟ إن المتيقن يقوم بالعمل الصالح من باب أولى. ولذلك فهذه المسألة أخرجت «المعرّي» عما أتهموه به من أنه ينكر البعث، صحيح أنه في أول حياته قال: تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يُعاد لنا سَبْكُ فقالوا: إن قوله «لا يعاد له سبك» معناه أنه ينفي قدرة الحق على أن يبعثنا مرة ثانية، مع أنه من الممكن أن يتأول فيها، أي لا يعاد لنا سبك في حياتنا هذه، ونحن لا نرى من مات يعود مرة ثانية. ونقول كذلك: إن هذه قالها في أول حياته. ولكنه قال في آخر الأمر: زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجساد قلت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما فهو يطلب من الطبيب والمنجم أن يكفا عن إفساد العقول بالشك. وهب أنه اعتقد ألا بعث، وواحد آخر اعتقد أن فيه بعثاً، نقول له: إما أن يجيء بعث فيكذب من قال: لا بعث، وإما ألا يجيء بعث، فإذا لم يجيء البعث، ما الذي ضر من آمن بالبعث؟ وإذا جاء البعث فمن الذي خسر؟ سيخسر من أنكره، إذن فالذي ينكر البعث يخسر ولا يكسب، لكن من قال: إن هناك بعثاً لا يخسر، وهكذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2241 وقول الحق: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} إنه تساؤل عن أي ضرر كان يلحقهم {لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله} إن من يعطي الصدقة ويضعها في يد الله يستثمرها عند المعطي، لكن عندما يقوم بذلك رئاء الناس فهو يثمر عند من لا يعطي، وبذلك يكونون قد خسروا أموالهم وخسروا تثمير الأموال في يد الله بالثواب في الآخرة. {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً} . وعلم الله متغلغل وسبحانه يعلم الخفايا. وسبحانه محيط بكلّ شيء علما؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2242 والظلم: الأصل فيه محبة الانتفاع بجهد غيره، فعندما تظلم واحداً فهذا يعني أنك تأخذ حقه، وحقه ما جاء به بجهده وعرقه، وتأخذه أنت بدون جهد ولا عرق. ويتبع هذا أن يكون الظالم قوياً. لكن ماذا عن الذي يظلم إنساناً لحساب إنسان آخر؟ إنه لم ينتفع بظلمه ولكن غيره هو الذي انتفع. وهذا شرّ من الأول: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله عليه السلام قال: «بادروا بالأعمال ستكون فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمنا ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا» . لأن ظلم إنساناً لنفع عبد آخر ولم يأخذ هو شيئاً لنفسه. إذن فالظلم إما أن يكون الانتفاع بثمرة جهد غيرك من غير كد، وإما أن تنفع شخصا بجهد غيره، والله سبحانه وتعالى إذا نظرنا إليه - وهو قوة القوى - إذا أراد أن يظلم - وحاشا لله أن يظلم - فماذا يكون شكل ظلمه؟ إن الظلم يتناسب مع قوة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2242 الظالم، إذن فقوة القوى عندما تظلم فظلمها لا يُطاق، ثم لماذا يظلم؟ وماذا يريد أن يأخذ وهو من وهب؟ إنه سبحانه مستغنٍ، ولن يأخذ من هذا ليعطي ذاك، فكلهم بالنسبة له سواء؛ لأنه سبحانه لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، كلهم متساوون، فلماذا يظلم؟ إن الظلم بالنسبة لله محال عقلياً ومحال منطقياً، فلا يمكن لله أن يضيع عمل حسنة ولا أن يضاعف سيئة. فهذه لا تتأتى، وتلك لا تتأتى، والله واهب كل النعم للناس جميعاً. وما دام هو من وهب كل النعم، فسبحانه غير منتفع بآثاره في خلقه. إن الحق سبحانه وتعالى ينفي عن نفسه الظلم في قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] . فكلمة «ظلاّم» مثل قولنا: فلان «أكّال» وفلان «نوّام» وهي تختلف عن قولنا: فلان نائم، يعني نام مرة، ولكن «نوام» فهذا يعني مداومته على النوم كثيراً، أي أنه إما أن يكون مبالغاً في الحدث، وإما أن يكون مكرراً للحدث، فالمبالغة - كما نعرف - تأتي مرة لأن الحدث واحد لكنه قوي، ومرة يكون الحدث عادياً لكنه مكرر، هذه هي المبالغة، فقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ} نفي للمبالغة، وهذا لا يقتضي نفي غير المبالغة. ونقول: الله لو ظلم لكان ظلمه مناسبا قدرته فيكون كبيراً كثيراً، ولو كان ظالما لشمل ظلمه وعَمّ الخلق جميعا فيكون كذلك كبيراً كثيراً ولكن الله - سبحانه - يقول: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} . وسبحانه يحسب السيئة سيئة واحدة. أما الحسنة فيضاعفها، {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} «مثقال» : يعني ثقل ووزن، والثقل هو: مقدار جاذبية الأرض للشيء. فعندما يكون وزن الشيء قليلاً وتُلقيه من أعلى، فهو ينزل ببطء، أما الشيء الثقيل فعندما تلقيه من أعلى فهو ينزل بسرعة؛ لأن قوة الجاذبية له تكون أقوى، والإنسان منا حين ينظر إلى كلمة «مثقال» ؛ ويعبر عنها بأنها وزن، فمعيار الميزان هنا «الذرة» . وما «الذرة» ؟ قال العلماء فيها: هي رأس النملة الصغيرة التي لا تكاد تُرى بالعين المجردة، أو النملة نفسها. هذه مقولة، أو الذرة كما قال ابن عباس حين سُئل عنها: أخذ شيئاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2243 من تراب الأرض ثم نفخه، فلما نفخ تطاير التراب في الهواء، فقال لهم: كل واحدة من هذه اسمها «ذرة» وهو ما نسميه «الهباء» ، ونحن الآن الموجودين في مكان واحد لا نرى شيئاً من الجو، لكن انظر إلى حزمة ضوئية - أي ثقب تدخل منه أشعة الشمس - فساعة ترى ثقباً يُدخل أشعة الشمس ترى غباراً كثيراً يسبح. والمهم أنك لا تراه جارياً إلا في شعاع الشمس فقط، فهو كان موجوداً ونستنشقه، فما الذي جعلني لا أراه؟ . لأنه بلغ من الصغر واللطف مبلغاً فوق طوق العين أن تراه، فالذرة واحدة من هذا الغبار، واسمه «الهباء» وواحدة الهباء هي الذرة. إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أن كل شيء موزون إلى أقل درجات الوزن وهو الذرة، وهي الهباء، ونحن لا نراها إلا في نور محجوز، لأننا في النور القوي لا نرى تلك الذرات، بل نراها فقط في نور له مصدر واحد ونافذ، والحق سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، وهذا تمثيل فقط؛ لأن الذرة يمكن أن تكبر، فالذي يكبر يمكن أن يصغر، وقال الحق ذلك ولم يكن عند الإنسان المقياس الذي يُفتّت به الذرة، وقد حدث أن استطاع الإنسان ذلك، فبعد الحرب العالمية الأولى صنعت ألمانيا اسطوانات تحطيم الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ كما كان يصفه الفلاسفة قديماً، ومعنى جزء لا يتجزأ أي لا يمكن أن يأتي أقل منه. ولم يلتفتوا إلى أن أي شيء له مادة إن كان يقبل التكبير فهو أيضاً يقبل التصغير. والمهم أن توجد عند الإنسان الآلة التي تدرك الصغر. ومثال ذلك عندما صعدت الأقمار الصناعية وأخذوا من الجو صورة لمدينة نيويورك؛ خرجت الصورة صغيرة لمدينة نيويورك. بعد ذلك كبروا الصورة؛ فأخرجوا أرقام السيارات التي كانت تسير! . كيف حدث هذا؟ لقد كانت الصورة الصغيرة تحتوي تفاصيل أكثر دقة لا تراها العين المجردة، وعندما يتم تكبيرها يتضح كل شيء حتى أرقام السيارات وضحت بعد أن كانت غير ظاهرة، وإن كنت موجوداً في نيويورك في هذه الساعة أكنت تظهر بها؟ لا يمكن أن تظهر. . لماذا؟ . . لأن صورتك صغرت إلى الحد والقدر الذي لا يمكنك أن تراها وهي بهذا الحجم وهكذا، فالنور عندما يكون محزوماً، فالحزمة الضوئية التي تدخل إلى مكان ما، لها من القوة التي تظهر ذرة الهباء الذي لم تكن تراها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2244 إذن فنور من الله مخلوق ظهرت فيه الذرة، أيخفي على نور الخالق ذرة؟ لا يمكن أن تخفي عليه سبحانه ذرة؛ لأن النور الذي خلقه أظهر الذرة والهباء الذي كان موجوداً ولا نراه، فلن يخفي على نور النور ذرة في الأرض. وهكذا نعرف أن المسألة بالنسبة لله عملية قطعية، وعندما اخترعوا اسطوانة تحطيم الجوهر الفرد كانت مثل عصارة القصب، ونحن نعرف أن عود القصب يوضع بين عمودين من الحديد. والعمود الواحد اسمه «اسطوانة» وعندما يضيقون الاسطوانتين ثم يمررون عود القصب بينهما، فلا بد أن تكون المسافة بينهما ضيقة حتى إذا نفذ عود القصب يُعصر، إذن فكلما ضيقت بين الاسطوانتين يزداد العصر، وما دامت الاسطوانتان تجري كل واحدة منهما على الأخرى فهنا فراغ ضئيل جداً، وحاول العلماء الألمان تضييق الاسطوانتين تضييقاً يفتت لنا هذه الذرة، ونجحوا، وأصبح هناك شيء آخر أقل من الذرة. وظن السطحيون الذين يتربصون بالإسلام وبكتاب الله الدوائر، ويريدون أن يجدوا فيه منفذاً. قالوا: إن الله قال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} . على أنها أقل شيء وظهر أن هناك أقل من مثقال ذرة؛ لأن الذرة تحطمت. وقلنا لهؤلاء: أنتم أخذتم آية ونسيتم آيات، فالقرآن قد جاء معجزة ليواجه مجتمعات شتى من لدن رسول الله إلى أن تقوم الساعة، فلا بد أن يكون فيه ما يشبع العقول من لدن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن تقوم الساعة. ولو أن عطاء القرآن صُب مرة واحدة في عصر الرسالة لجاءت القرون التالية وليس للقرآن عطاء. فأراد ربنا أن يكون القرآن هو المعجزة والمنهج المتضمن للأحكام والكليات، وهذه أمور مفهومة بالنسبة لعهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإلى أن تقوم الساعة. لكن لا يزال هناك كونيات ونواميس للحق في الوجود لم تظهر بعد، فسبحانه يعطي كل عصر على قدر اتساع فهمه. وعندما نعرف أسرار قضية كونية لا يزيد علينا حكم، فعندما نعرف قضية مثلاً كقضية الذرة وتفتيتها ووجود إشارات لها في القرآن الكريم لا يزيد ذلك علينا أي حكم. بل ظلت الأحكام كما هي. فالأحكام واضحة كل الوضوح؛ لأن من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2245 يفعلها يثاب، ومن لا يفعلها يعاقب. والناس الذين ستقوم عليهم الساعة مثل الناس الذين عاصروا حضرة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لذلك لا بد أن تكون الأحكام واحدة، فمن ناحية أن القرآن كتاب أحكام فهذا أمر واضح وضوحاً لا زيادة فيه، ولم يفهم المعاصر لرسول الله حكماً ثم جاء الإنسان في زماننا ليفهم حكماً آخر، بل كل الأحكام سواء. والقرآن كمعجزة هو أيضاً معجزة للجميع. ولا بد أن تكون هناك معجزة لكل جيل. ولكل عصر، ويأتي الإعجاز في الآيات الكونية التي لو لم نعرفها فلن يحدث شيء بالنسبة للأحكام. مثال ذلك: لو لم نعرف أن الأرض تدور أكان انتفاعنا بالأرض يقل؟ لا. . فنحن ننتفع بالأرض سواء أعلمنا كرويتها أم لم نعلم، لكن الحق سبحانه وتعالى يواجه العقول بما يمكن أن تطيقه. فإذا ما ارتقت العقول وتنورت واستنارت بمقتضى طموحاتها العلمية في الكون. فالقرآن إن لم يؤيدها فهو لا يعارضها. وعندما فتتوا الذرة قال المشككون: إن ربنا يضرب بالذرة المثل لأصغر شيء {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} لكن هناك ما هو أقل من الذرة. ونرد عليهم: أنتم نظرتم إلى آية ونسيتم آيات. أنتم لم تنتبهوا - كما قلنا - إلى أن من فتتوا الذرة إلى إلكترونات وأيونات وموجب وسالب حاولوا بعد ذلك أن يفتتوا ما فُتت. والآية التي نحن بصددها الآن: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أرضت العقول التي تعرف الذرة الأصلية هذه واحدة، ولماذا لا نسمع قول الله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] . إذن فهناك ذرة وهناك أصغر من الذرة، ولم تأخذوا في بالكم أن «أصغر» هذه أفعل تفضيل، ولا يوجد أصغر إلا إن وجد صغير، إذن فهناك ذرة، وهناك صغير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2246 عن الذرة، وهناك أصغر من الصغير، فهناك إذن ثلاث مراحل، فإن فتتوها فلنا رصيد في القرآن يقول بالصغر، فإن فتتتم المفتت، فلنا رصيد في القرآن بأصغر؛، لأن كل أصغر لا بد أن يسبقه صغير، وإن كنت ستفتت المفتت فما زال عندنا رصيد من القرآن يسبق عقولكم في الابتكار، فإن قلت تفتيت جاز، وإن قلت تجميع جاز؛ لأنها أصغر وأكبر، تفتيت أو تجميع، والمعقول أنك تقول: لا يغيب الأصغر والصغير، والذرة كذلك لا تغيب فكيف يعبر عن الأكبر بأنه لا يغيب مع أنه ظاهر وواضح؟ . ونقول لك: إن المتكلم هو ربنا، فالشيء لا يدرك إما لأنه لطيف في غاية الدقة بحيث لا تتعلق به الباصرة فلا يُرى، وأيضاً لا يُدرك لأنه كبير بصورة أكبر من أن تحيط به الباصرة، فحين ترى جبلاً كبيراً على بعد اثنين من الكيلو مترات أو ثلاثة فأنت لا تدركه؛ لأنه أكبر من أن يحيط به إشعاع بصرك، ولكن الأمر بالنسبة لله يختلف فلا يوجد صغير يَدِقُّ لا يراه، ولا كبير يكبر لا يراه، إذن فلا بد أن تأتي {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ} . وفي آية أخرى يقول سبحانه: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرحيم الغفور} [سبأ: 2] . وانظروا إلى دقة الحق في الدر على الإنكار للساعة وهي قضية كونية تنسحب على كل العصور. . فيقول سبحانه: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3] . كان يكفي أن يقول: إن الساعة آتية، لكنه أوضح: اعرفوا أن الساعة آتية، وكل ما فعلتموه معروف، ولماذا يقولون: لا تأتي الساعة؟ إن هذا لون من تكذيب النفس لأنهم لم يعملوا على مقتضى ما يتطلبه قيام الساعة، فالذي لم يعمل لذلك يود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2247 لأن من مصلحته ذلك - أن تكون مسألة الساعة كذب؛ لأنه قد عمل أشياء يخاف أن يحاسب عليها، فجاء سبحانه بالآية لكي تردّ على المقولة وعلى الدافع للمقولة. وكل مقولة لها دافع. لقد كان الدافع لمقولتهم هو إسرافهم على أنفسهم فلم يقدموا عملاً صالحاً فمن مصلحتهم الآمالية ألا تأتي الساعة، كي لا يعاقبوا، وسبحانه يعلم أزلا ما فعلوا وردّ على المقولة وردّ على الدافع الذهني للمقولة، فأوضح سبحانه: أنا عالم كل أمر ولن يغيب عني عمل من أعمالكم. وقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} يعني: وإن يكن الوزن لحسنة يضاعفها الله، وعندما يحدثنا سبحانه عن الحسنة وأنها تُضاعف ثم لا يتكلم عن السيئة فها يدل على أن السيئة بمثلها، والحق قد تكلم عن المضاعفة للحسنة في كثير من الآيات {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} . وفي آية أخرى يقول الحق: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] . وبعد ذلك يقول: {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 261] . ففيه فرق بين نظام حساب الحسنات ونظام حساب السيئات، فالحسنة تضاعف لعشر أمثالها لسبعمائة ضعف، هذا هو نظام الحساب، وإرادة خالق هذا النظام تعطي كما تريد، إذا كنا نحن - كبشر - عندما توظف واحداً نقول: أنت تدخل السلم الوظيفي، وتبدأ السلم الوظيفي من أول درجاته ثم تترقي درجة بعد درجة، ثم يأتي رئيس الدولة ليعينك في درجة أعلى من ذلك بكثير، فما بالنا بحساب الرب الأعلى؟ إنه يعطي بعملية حسابية فيها زيادة فضل؛ ولذلك قال بعد هذه الآية: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} أي إنه سبحانه يعطي من عنده ذلك الأجر العظيم، وهذا اسمه «محض الفضل» وكيف يسميه الله أجراً مع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2248 أنه زائد؟ لأن هذا الفضل جاء تابعا للأجر، فإذا لم يعمل الإنسان هذا العمل فإنه لا يستحق أجرا، وبالتالي فلا ينال فضلاً وحين يضرب الله الأمثال للناس فذلك لتقريب المعاني؛ لأن الله قاله والله صادق فيما يقول، فيعطي الحق سبحانه وتعالى مُثلاً إيناسية في الكون، حتى لا تستبعد أن الحسنة تذهب لهذه الأضعاف المضاعفة. فيوضح لك: هذه الأرض أمامك هات حبة واحدة وضعها في الأرض تخرج لك سبع سنابل وكل سنبلة فيها مائة حبة فإذا كانت الأرض - وهي مخلوقة لله - أعطت سبعمائة ضعف، فكم يعطي من خلق الأرض؟ إنه يعطي بغير حساب. إذن فكلمة «من لدنه» هذه تعطيك الباب الواسع الذي يتناسب مع الله. فالأرض تعطيك على قدر جهدك، وعلى قدر العناصر الغذائية الموجودة فيها. . والذي عنده وبيده الخير وخلق كل الكون يوضح: إذا كان خلق من خلقي يعطي حتى الكافر، سبعمائة ضعف فالذي خلق هذا يعطي للمؤمن أجراً للحسنة بلا حدود؛ ولذلك فالإيناسات التمثيلية في الكون يتركها الله لتقرب للعقل المعنى البعيد الذي قد يقف فيه. فالإنسان منا مادة: هي البدن وتحل فيه الروح. وعندما تسحب الروح من البدن، ماذا يصير؟ يصير الجسد رِمة، ويتحلل لعوامله الأولى وتنتهي منه مظاهر الحياة. إذن فالروح هي السبب في الحركة، وفي أن كل جهاز يقوم بعمله، وفي النمو، وعندما تسحب الروح ينتهي الأمر، إن الروح هي التي تدير كل هذا الجسم، والروح لا لون لها، ولا أحد يراها، ولا يشمها كائن، فكيف ندركها إذن؟ نقول: إن الجوهر الذي يدخل في جسدك ويعطيه الحركة فيديره. أنت لا تراه ولا تحسّه، وهو غيب بالنسبة لك، فإذا حُدّثت أن ربك غيب فلا تتعجب، فروحك التي بين جنبيك لا تعرف كُنهها، وعليك إذن أن تصدق عندما يقال لك: ربك ليس بمحدود بمكان وعنما يقول سبحانه: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103] . فكلنا نقول: نعم هذا كلام صحيح؛ لأنه إذا كان هناك مخلوق لله وهو الروح لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2249 تدركه الأبصار، أفتريد أن يُدرَك من خَلَقَ؟ لا يمكن وهو سبحانه من عظمته أنه لا يُدَرك. وسبحانه يقول: {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ونقف عند كلمة «من لدنه» . ونعرف أن فيه فرقا بين الإتيان بالناموس - وهو النظام الموضوع - والعطاء المباشر، وعندما يقول الحق: «من لدنه» فهذا يعني أن الوسائط تمتنع. ونعلم قصة سيدنا موسى عندما ذهب ليقابل العبد الصالح قال تعالى في وصف العبد الصالح: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} [الكهف: 65] . وهذا يعني أن العبد الصالح قد تعلم ليس بوساطة أحد. بل من الله مباشرة، بدليل أن الذي جاء ليتعلم منه وتعلم منه ثم وقف معه في أمور جاءت على خلاف ما تجري به النواميس والعادات فكلمة «من لدنا» تعني تجاوز الحجب، والوسائط، والأنظمة. والحق سبحانه يحترم أصل عملك ويسمي عطاءه لك «أجراً» ؛ لأنه أعطى من لدنه بعدما أعطى له النصيب المقدر كأجر، وهذا الأجر موصوف بأنه عظيم؛ لأنه مناسب للمعطي. ثم يقول الحق: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2250 وساعة تسمع كلمة «كيف» فاعرف أن هناك شيئا عجيبا، تقول مثلاً: أنت سببت السلطان فكيف إذا واجهوك ووجدته أمامك ماذا تفعل؟ كأن مواجهة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2250 السلطان ذاتها مسألة فوق التصور. . فكل شيء يتعجب منه يؤتى فيه ب «كيف» ، ومثال ذلك قوله الحق: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] . وهذا يعني تعجيبا من مصيبة وكارثة هي الكفر بالله، فقولوا لنا: كيف جاءت هذه؟ إنها مسألة عجيبة، ونقول: فكيف يكون حال هؤلاء الكافرين، كيف يكون حال هؤلاء العٌصاة، في يوم العرض الأخير، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} و «الشهيد» هو: الذي يشهد ليقرر حقيقة، ونحن نعلم أن الحق أخبرنا: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] . وهذا النذير شهيد على تلك الأمة أنه بلغها المنهج، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شهيد على أمته أنه بلغ، فقوله: {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء} من هم؟ ننظر قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} وهو رسولها الذي بلغ عن الله منهجه، وكيف يكون الموقف إذا جاء وقال: أنا أبلغتهم الموقف ولا عذر لهم لأنني أعلمتهم به، {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد - صلى الله عليك وسلم {على هؤلاء} فهل المعنى ب «هؤلاء» هم الشهداء الذين هم الرسل أو على هؤلاء المكذبين لك؟ وتكون أيضاً شهيداً على هؤلاء مثلما أنت شهيد على أمتك؟ إن كلا من الحالين يصح، لماذا؟ لأن الله جاء بكتابه المعجزة وفيه ما يثبت أن الرسل قد بلغوا أممهم، فكأن الرسول حين سُجل في كتابه المعجزة وكتابه المنهج أن الرسل قد بلغوا أممهم فهو سيشهد أيضاً: هم بلغوكم بدليل أن ربنا قال لي في كتاب المعجزة وفي المنهج. ويكون رسولنا شهيداً على هؤلاء المكذبين الذين أرسل إليهم وهم أمة الدعوة فالمعنى هذا يصلح، وكذلك يصلح المعنى الآخر. ولا يوجد معنى صحيح يطرد معنى صحيحا في كتاب الله، وهذه هي عظمة القرآن. إن عظمة القرآن هي في أنه يعطي إشعاعات كثيرة مثل فص الماس، فالماس غالٍ ونفيس؛ لأنه قاسٍ ويُكسر به وكل ذرة فيه لها شعاع، المعادن الأخرى لها إشعاع واحد، لكن كل ذرة في الماس لها إشعاع؛ ولذلك يقولون إنه يضوي ويتلألأ، فكل ذراته تعطي إشعاعاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2251 والحق سبحانه وتعالى يوضح: أن حال هؤلاء سيكون فظيعاً حينما يأتي يوم العرض يوم القيامة، ويقولون: إننا بلغناكم، أو الحق سبحانه وتعالى عرض هذه المسألة بالنسبة للرسل وأممهم، وبالنسبة لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمته أو للأمم كلها، فنحن أيضاً سنكون شهداء: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] . وهذه ميزة لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن أمة محمد هي الأمة الوحيدة التي أمنها الله على أن يحملوا المنهج إلى أن تقوم الساعة، فلن يأتي أنبياء أبداً بعد رسول الله، فيقول: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} إذن فنحن بنص هذه الآية أخذنا امتداد الرسالة. عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اقرأ عليّ القرآن فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ . قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} فقال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان الدموع» . فإذا كان الشهيد بكى من وقع الآية فكيف يكون حال المشهود عليه؟ الشهيد الذي سيشهد بكى من الآية، نعم؛ لأنك تعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ملئ قلبه رحمة بأمته؛ ولذلك قلنا: إن حرص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أمته جعل ربه يعرض عليه أن يتولى أمر أمته، بعد أن علم سبحانه مدى عنايته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذه الأمة: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2252 فأمر أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقلقه جداً على الرغم من أن الحق سبحانه قد أوضح له: أنت عليك البلاغ وليس عليك أن تهدي بالفعل، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرف هذا. إنما حرصه ورحمته بأمته جعله يحب أن يؤمنوا، وعَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خاف على أمته من موقف يشهد فيه عليهم ضمن من سيشهد عليهم يوم الحشر. فلما رأى الحق سبحانه وتعالى أن رسوله مشغول بأمر أمته قال له: لو شئت جعلت أمر أمتك إليك. وانظر إلى العظمة المحمدية والفهم عن الله، والفطنة، فقال له: لا يا رب. أنت أرحم بهم مني. وكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول للخالق: «أتنقل مسألتهم في يدي وأنا أخوهم، إنما أنت ربي وربهم، فهل أكون أنا أرحم بهم منك؟ لقد كان من المتصور أن يقول رسول الله: نعم أعطني أمر أمتي لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: يا رب أنت أرحم بهم مني. فكيف يكون ردّ الرب عليه؟ . قال سبحانه: فلا أخزيك فيهم أبداً، وسبحانه يعلم رحمة سيد البشر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمته» . عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قول الله عَزَّ وَجَلَّ في إبراهيم: «رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني. .» وقول عيسى عليه السلام: «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فسأله فأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما قال وهو أعلم، فقال الله:» يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك «. {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} أي كيف يكون حال هؤلاء العصاة المكذبين. . {إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} أنه أدّى وبلغ عن الله مراده من خلقه. {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2253 ويقول الحق من بعد ذلك: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2254 وساعة ترى «يومئذ» وتجد فيها هذا التنوين فاعلم أنه عوض عن شيء محذوف والمحذوف هنا أكثر من جملة ويصبح المعنى: يوم إذْ نجيء من كل أمة بشهيد وتكون أنت عليهم شهيداً، في هذا اليوم {يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول} لأنهم فوجئوا بعملية كانوا يكذبونها، فلم يكونوا معتقدين أن الحكاية جادة، كانوا يحسبون أن كلام الرسول مجرد كلام ينتهي، فعندما يفاجئهم يوم القيامة ماذا يكون موقفهم؟ {يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} وما معنى {تسوى بِهِمُ الأرض} ؟ كما تقول: سأسوِّي بفلان الأرض؛ أي تدوسه دوسة بحيث يكون في مستوى الأرض. {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} . فكيف لا يكتمون الله حديثا؟ وهو قد قال في آية أخرى: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] . قال الحق ذلك عنهم لأن الأمر له مراحل: فمرة يتكلمون، ويكذبون، فهم يكذبون عندما يقولون: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . وسيقولون عن الأصنام التي عبدوها: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2254 إذن فقوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} دليل على أن الحديث مندفع ولا يقدر صاحبه أن يكتمه. فالكتم: أن تعوق شيئاً يخرج بطبيعته من شيء آخر فتكتمه. والواحد منهم في الآخرة: لا يقدر أن يكتم حديثاً؛ لأن ذاتية النطق ليست في أداة النطق كما كان الأمر في الدنيا فقط، بل سيجدون أنفسهم وقد قدموا إقرارات بخطاياهم، وبألسنتهم وبجوارحهم؛ لأن النطق ليس باللسان فقط، فاللسان سيشهد، والجلود تشهد، واليدان تشهدان، بل كل الجوارح تشهد. إذن فالمسألة ليست تحت سيطرة أحد، لماذا؟؛ لأن هناك ما نسميه «ولاية الاقتدار» ، ومعناها أن: هناك قادراً، وهناك مقدور عليه. ولكي نقرب الصورة، عندما توجد كتيبة من الجيش وعليها قائد. وبعد ذلك قامت الكتيبة في مهمة، والقانون العام في هذه المهمة: أن يجعل لهذا القائد قادرية الأوامر وعلى الجنود طاعته؛ وألا يخالفوا الأوامر العسكرية، فإذا أصدر هذا القائد أمراً تسبب في فشل معركة ما، وذهب الجنود للقائد الأعلى منه، ويسمونه الضابط الأعلى من الضابط الصغير، فيكون للجنود معه كلام آخر، إنهم يقدرون أن يقولوا: هو الذي قال لنا ونفذنا أوامره. أقول ذلك لتقريب المعنى لحظة الوقوف أمام الحق سبحانه وتعالى. فحينما خلق سبحانه الإنسان خلق جوارحه منفعلة لإرادته، وإرادته مكيفة حسب اختياره. فإرادة الطائع إطاعة أمر واجتناب نهي، وإرادة العاصي على العكس؛ لا يطيع الأمر ولا يتجنب المنهي عنه فواحد أراد أن يشرب الخمر، فرجله مشت، ولسانه نطق لِلرَّجُلِ الذي يعطيه الكأس، ويده امتدت وأخذت الكأس وشرب، والجوارح التي تقوم بهذه العملية هي خاضعة لقادرية إرادته، فقد خلقها ربنا هكذا، وبعد ذلك، حين تذهب إلى من دبر هذا الأمر في الآخرة تقول له: يا رب هو عمل بي كذا وكذا، لماذا؟ لأن قادرية الإرادة امتنعت: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . وليس لي ولا لأحد إرادة في الآخرة، وما دام ليس لي إرادة فاليد تتكلم وتعترف: عمل بي كذا وكذا وكنت يا رب مقهورة لقادرية إرادته التي أعطيتها له فمبجرد ما يريد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2255 فأنا أنفذ. عندما أراد أن أضرب واحداً لم أمتنع. ويعترف اللسان بسبّه لفلان، أو مدحه لآخر، إذن فكل هذه ولاية القادرية من الإرادة على المقدورات من الجوارح. لكن إذا ما ذهبت إلى من وهب القادرية للإرادة؛ فلا يوجد أحد له إرادة. فكأن الجوارح حين تصنع غير مرادات اللله بحكم أنها خاضعة للمريد وهو غير طائع تكون كارهة؛ لذلك تفعل أوامر صاحبها وهي كارهة، فإذا ما انحلت إرادته وجدت الفرصة فتقول ما حدث: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] . «يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تُسوَّي بهم الأرض» ، لأن الكافر سيقول: {ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] . ويقول الحق بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2256 هنا ينقلنا الحق من الأوامر، من العبادات وعدم الإشراك بالله، من التحذير من النفقة رئاء الناس وأنه سبحانه لا يظلم أحداً وأننا كلنا سنجتمع أمامه يوم لا ظل إلا ظله، بعد ذلك أراد أن يصلنا به وصل العِبادية التي تجعلك تعلن ولاءك لله في كل يوم، خمس مرات، وسبحانه يريدك أن تقبل عليه بجماع عقلك وفكرك وروحك بحيث لا يغيب منك شيء. هو سبحانه يقول: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} ولم يقل: لا تصلوا وأنتم سكارى؟ أي لا تقاربوا الصلاة ولا تقوموا إليها واجتنبوها، وفيه إشارة إلى ترك المسكرات، فما معنى {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} ؟ معنى ذلك أنهم إذا كانوا لا يقربون الصلاة إذا ما شربوا الخمر، فيكون تحريم المسكرات لم يأت به التشريع بعد، فقد مرّ هذا الأمر على مراحل؛ لأن الدين حينما جاء ليواجه أمة كانت على فترة من الرسل أي بعدت صلتها بالرسل، فيجيء إلى أمر العقائد فيتكلم فيها كلاماً حاسماً باتّاً لا مَرْحليَّة فيه، فالإيمان بإله واحد وعدم الشرك بالله هذه أمور ليس فيها مراحل، ولا هوادة فيها. لكن المسائل التي تتعلق بإلف العادة، فقد جاءت الأوامر فيها مرحلية. فلا نقسر ولا نكره العادة على غير معتادها بل نحاول أن نتدرج في المسائل الخاضعة للعادة ما دام هناك شيء يقود إلى التعود. إن الحق سبحانه وتعالى من رحمته بمن يشرع لهم جعل في مسائل العادة والرتابة مرحليات، فهذه مرحلة من المراحل: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} والصلاة هي: الأقوال والأفعال المعروفة المبدوءة بالتكبير والمنتهية بالتسليم بشرائطها الخاصة، هذه هي الصلاة، اصطلاحياً في الإسلام وإن كانت الصلاة في المعنى اللغوي العام هي: مطلق الدعاء. و «سُكارى» جمع «سكران» وهو من شرب ما يستر عقله، وأصل المسألة مأخوذة من السَّكرْ ما سد به النهر؛ فالماء حين ينساب يضعون سداً، هذ السد يمنع تدفق الماء، كذلك الخمر ساعة يشربها تمنع تدفق الفكر والعقل، فأخذ من هذا المعنى، {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} المفهوم أن الصلاة تأخذكم خمسة أوقات للقاء الله، والسَّكر والخُمار؛ وهو ما يمكث من أثر المسْكِر في النفس، وما دام لن يقرب الصلاة وهو سكران فيمتنع في الأوقات المتقاربة بالنهار. إذن فقد حملهم على أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2257 يخرقوا العادة بأوقات يطول فيها أمد الابتعاد عن السَّكَر. وما داموا قد اعتادوا أن يتركوها طوال النهار وحتى العشاء، فسيصلي الواحد منهم العشاء ثم يشرب وينام. إذن فقد مكث طوال النهار لم يشرب، هذه مرحلة من المراحل، وأوجد الحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة مرحليات تتقبلها النفس البشرية. فأول ما جاء ليتكلم عن الخمر قال: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] . ويلاحظ هنا أن السَّكَر «مقدم، على الرزق الموصوف بالحسن، ففيه سكر وفيه رزق. كأنهم عندما كانوا يأكلون العنب أو البلح فهذا رزق، ووصف الله الرزق بأنه حسن. لكنهم كانوا أيضاً يأخذون العنب ويصنعون منه خمراً، فقدم ربنا» السَّكَرَ «لأنهم يفعلون ذلك فيه، ولكنه لم يصفه بالحسن، بل قال: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} ، لكن كلمة رزق وُصفت بالحسن. بالله عندما نسمع {سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} ألا نفهم أن كونه سكراً يعني غير حسن، لأن مقابل الحسن: قبيح. وكأنه قال: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا أي شرابا قبيحا ورزقاً حسناً، ولاهتمامكم أنتم بالسكر، قدمه، وبعد ذلك ماذا حدث؟ عندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يأتي بحكم تكون المقدمة له مثل النصيحة؛ فالنصيحة ليست حكماً شرعياً، والنصيحة أن يبين لك وأنت تختار، يقول الحق: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] . هو سبحانه شرح القضية فقط وأنت حر في أن تختار فقال: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ولكن الإثم أكبر من النفع، فهل قال لنا ماذا نفعل؟ لا؛ لأنه يريد أن يستأنس العقول لترجح من نفسها الحكم، وأن يصل الإنسان إلى الحكم بنفسه، فسبحانه قال: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} فما دام الإثم أكبر من النفع فما مرجحات البدائل؟ مرجحات البدائل تظهر لك حين تقارن بين بديلين ثم تعرف أقل البديلين شرّاً وأكثر البديلين خيراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2258 فحين يقول الحق: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} إذن فهذه نصيحة، وما دامت نصيحة فالخير أن يتبعها الإنسان ويستأمن الله على نصيحته. لكن لا حكم هنا، فظل هناك ناس يشربون وناس لا يشربون، وبعد ذلك حدثت قصة من جاء يصلي وقرأ سورة الكافرون، ولأن عقله قد سدّ قال: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فوصلت المسألة ذروتها وهنا جاء الحكم فنحن لا نتدخل معك سواء سكرت أم لا، لكن سكرك لا يصح أن يؤدي بك أن تكفر في الصلاة، فلا تقرب الصلاة وأنت مخمور. هذا نهي، وأمر، وتكليف. {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} وما دام لا نقرب الصلاة ونحن سكارى فسنأخذ وقتا نمتنع فيه، إذن ففيه إلف بالترك، وبعد ذلك حدثت الحكاية التي طلبوا فيها أن يفتي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر الخمر، فقالوا للنبي: بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزل قوله الحق: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] . إذن فقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} مرحلة من مراحل التلطف في تحريم الخمر، فحرمها زمناً، هذا الزمن هو الوقت الذي يلقى الإنسان فيه ربه، إنّه أوضح لك: اعملها بعيداً، لكن عندما تأتيني فعليك أن تأتي بجماع فكرك وجماع عقلك، {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} فكأن هذه أعطتنا حكماً: أن الذي يسكر لا يعرف ماذا يقول، هذه واحدة، وما دام لا يعرف ما يقوله، إن كان في المسائل العادية فليقل ما يقول، إنما في العبادة وفي القرآن فلا يصح أن يصل إلى هذا الحدّ، وعندما تصل إلى هذا الحدّ يتدخل ربنا فيقول: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} . ثم جاء بحكم آخر: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ} ومعروف ما هي الجنابة: إنها الأثر الناتج من التقاء الرجل بالمرأة. ويقال: إنها اللذة التي يغيب فيها الفكر عن خالقه، وهذه لذة يسمونها «جماع اللذات» ؛ لأنها تعمل في البدن تلك الرعشة المخصوصة التي تأخذ خلاصات الجسم؛ ولذلك قيل: إنه نور عينيك ومخّ ساقِك فأكثر منه أو أقلل يعني أنا أعطيك هذه القدرة وأنت حرّ ونحن نغتسل لنعيد النشاط إلى النفس البشرية، وليس لأحد شأن بهذه المسائل ما دامت تتم في ضوء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2259 شريعة الله وشأننا في ذلك أن نأتمر بأمر ربنا ونغتسل من الجنابة سواء فهمنا الحكمة من وراء ذلك أو لم نفهم. {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} إذا كان المراد بالصلاة، فلا تقربوا الصلاة، بالسكر أو بالجنابة ولم يقل: «لا تصلوا» . والصلاة مكانها المسجد، فقول: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً} ، أي لا تقربوا الصلاة، والقرب عرضة أن يكون ذهابا للمسجد، فكأنه يقول: لا تذهب إلا إذا كان المسجد لا طريق للماء إلا منه. {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ} أي كان عندكم عذر يمنع من الماء. {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط} ، و «الغائط» هو: الأرض الوطيئة، الهابطة قليلاً، وكانوا يقضون فيها حاجاتهم، وأصبح علماً على قضاء الحاجة، وكل واحد منا يكنى عنها بأشياء كثيرة فيقول واحد: أنا أريد أن أذهب إلى «بيت الماء» ويتساءل آخر أين «دورة المياه؟» وفي هذا بلطف في الإخبار عن عملية تستقذرها النفس؛ ولذلك نقول في العبارات الشائعة: أنا ذاهب - أعمل زي الناس - يعني أنا لست بدعاً أن أقضي حاجتي، فكل الناس تعمل هذا. فربنا سبحانه وتعالى يقول: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} ومن رحمة الله بأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومن لطف الحق بها أن التشريع جاء ليقبل عليه الإنسان؛ لأنه تشريع فلا تقل لي مثلا: أنا أتوضأ لكي أنظف نفسي ولكننا نقول لك: هل تتوضأ لتنظف نفسك وعندما تفقد الماء تأتي بتراب لتضعه على وجهك؟ فلا تقل لي النظافة أو كذا، إنّه استباحة الصلاة بالشيء الذي فرضه الله، فقال لي: توضأ فإن لم تجد ماءً فتيمم، أينقلني من الماء الذي ينظف إلى أن أمسح كَفَّيَّ بالتراب ثم ألمس بهما وجهي؟! نعم؛ لأن المسألة أمر من الله فُهمت علّته أو لم تُفهم؛ ولذلك فالنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يقول: «أعطيت خمساً لم يُعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجُعلت لي الأرض مسجداً طهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2260 وبعثت إلى الناس عامة» . {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} ، أي أن تكون واثقاً أنه ليس عليه نجاسة، {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} ، المسألة فيها «جنب» وفيها كذا وكذا. . «وتيمم» ، إذن فكلمة {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} ليس ذلك معناه أن التيمم خَلَف وبديل عن الوضوء فحسب، ففي الوضوء كنت أتمضمض، وكنت أستنشق، وكنت أغسل الوجه، وكنت أغسل اليدين، وأمسح الرأس والأذنين. . مثلاً، وأنا أتكلم عن الأركان والسنن. وفي هذه الآية يوضح الحق: ما دامت المسألة بصعيد طيب وتراب فذلك يصح سواء أكانت للحدث الأصغر أم للجنابة، إذن فيكفي أن تمسح بالوجه واليدين. {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} ، وبعض العلماء قال: ضربة واحدة، وبعضهم قال: ضربتان وكلها تيسير. وهذا التخفيف مناسب لكلمة العفو، فيقول الحق: {إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} ولكن ماذا حدث هنا ليذكر المغفرة؟ لأنه غفر وستر علينا المشقة في ضرورة البحث عن الماء ويسر ورخص لنا في التيمم. ويقول الحق بعد ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2261 حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد قضية من قضايا الكون ليمهد لقضية من قضايا العقائد التي تحرس نظام الكون فهو يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2261 بقوله: «ألم تر» . والرؤية عمل العين - وعمل العين متعلق بانكشاف الأحداث التي تتعرض لها العين - والشيء المرئي دليله معه؛ لأن الشيء المسموع دليله يؤخذ من صدق قائله، وصدق قائله أمر مظنون، أيكذب أم يصدق؟ أما المرئي فدليله معه؛ ولذلك قالوا: ليس مع العين أين، أي أنك إذا رأيت شيئاً فلا تقل: أين هو، وليس الخبر كالعيان، فالخبر الذي تسمعه ليس كالمشاهدة، إذن فالمشاهدة دليلها معها، فلا يقال: دلل على أن فلاناً يلبس جلباباً أبيض وأنت تراه. إذن فحين يريد الحق أن يؤكد قضية يقول: أرأيت. ولذلك فأنت إذا حدثت إنساناً عن انحراف إنسان آخر. قد يصدقك وقد لا يصدقك، لكن إذا ما رأيت الإنسان يلعب ميسراً أو يشرب خمراً ثم تقول لمن حدثته من قبل: أرأيت من قلت لك عليه، كأن الرؤية دليل. والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: «أرأيت» ننظر إلى الأمر، فإذا كان مشهوداً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: «أرأيت» ننظر إلى الأمر، فإذا كان مشهوداً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يراه بذلك تكون «أرأيت» على حقيقتها، كما يقول له: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} [العلق: 9 - 10] . هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد رآه، فتكون «أرأيت» على حقيقتها أم ليست على حقيقتها؟ ولماذا يأتي بهمزة الاستفام «أرأيت» ؛ على الرغم من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد رأى من ينهى إنساناً عن الصلاة ولماذا لم يقل: «رأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى» ، لا؛ لأن الحق يريد أن يؤكد الخبر بمراحل. فمرة يكون الخبر خبراً تسمعه الأذن، ومرة يكون رؤية تراه، ومرة لا يقول له: أنت رأيت، ولكن يستفهم منه ب «أرأيت» لكي ينتظر منه الجواب. وبذلك يأتي الجواب من المخاطب نفسه وليس من المتكلم، وهذه آكد أنواع البيان وآكد ألوان التحقيق، فحين يخاطب الحق سبحانه وتعالى بقوله: «أرأيت» نقول: أكان ذلك مشهداً لرسول الله رآه، فتكون الرؤية على حقيقتها. فإذا كان الأمر لم يكن معاصراً لرسول الله ثم يخاطب الله رسوله بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] . ونعلم أن أصحاب الفيل كانوا عام ميلاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو حين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2262 يخاطب رسوله لم يكن المشهد أمامه «ف {ألم تر} هنا بمعنى أعلمت. ولماذا عدل هنا عن أعلمت إلى قوله: «ألم تر» ؟ . لأن الحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله بأمر منه فهو يوضح له: إن أخبرتك بشيء فاعلم أني أصدق من عينك، فإذا قال سبحانه: «ألم تر» فهذا يعني أنك علمت من الحق سبحانه وتعالى، وإخبار الحق ليس كإخبار الخلق؛ لأن إخبار الخلق يحتمل الصدق والكذب، لكن إخبار الحق لا يعني إلا الصدق، إذن فرؤية عينك قد تخونك؛ لأنك قد تكون غافلاً فلا ترى كل الحقيقة، لكن إذا أخبرك الحق سبحانه وتعالى فسيخبرك بكل زوايا الحقيقة. إذن فإخبار الحق أوثق وآكد من رؤية العين وسبحانه عندما قال: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} [العلق: 9 - 10] . هذه مثلت الأولى، وحين قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] . كأنك تراهم الآن، ف «ألم تر» تعني كأن المشهد أمامك. إذن فوسائل تأكيد الأشياء: خبر من خلق يحتمل الصدق ويحتمل الكذب. هذه واحدة، ورؤية من خلق تحتمل أنها استوعبت كل المرئي أو أحاطت ببعضه، أو خبر من خالق أحاط بكل شيء، فيجب أن يكون الخبر من الخالق أوثق الأخبار في تصديقهم. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} جاءت هذه الآية ورسول الله يعاصره قوم من اليهود. ورأى منهم بالفعل أنهم أوتوا نصيباً من الكتاب؛ لأنهم أهل الكتاب، ومع ذلك يشترون الضلالة؛ ولا يقولون الحق، فيكون هذا أمرا مشهديا بالنسبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وحينما أرسل الله محمداً جعله ختاماً للأنبياء وختم به ركب النبوة، وهذا يعني: أن النبوة كان لها ركب. وفي كل عصر من العصور يأتي نبي على مقدار اتساع الحياة، وعلى مقدار التقاء الكائنين في الحياة، وعلى مقدار الداءات والأمراض التي تأتي في المجتمع، ولكن الله علم أزلاً أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيأتي في فترة ورسالته ومنهجه ينتظم ويضم كل قضايا الزمن إلى أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2263 تقوم الساعة. وهو زمن يعلم الله أن فوارق المواصلات فيه ستنتهي، وفوارق الحواجز فيه ستنتهي، فيحدث الخبر في أدنى الشرق وأعلاه فتسمعه في أدنى الغرب وأعلاه، والخبر في الغرب تسمعه في الشرق. والداء يوجد مرة في أمريكا وبعد يوم أو يومين يوجد في أي بلد من البلاد. إذن فالمسافات انتهت، وجعلت المواصلات العالم كقطعة واحدة، إذن فالداءات في المجتمع القديم لعسر الاتصال كانت تنعزل انعزالاً إقليمياً وكل داء في جماعة قد لا يصل إلى الجماعة الأخرى، فهؤلاء لهم داء لا يصل إلى الجماعة الأخرى؛ لذلك كان الحق يرسل رسولاً لكل جماعة ليعالج داءاتها، لكن إذا التحم العالم هذا الالتحام؛ فلا بد أن يأتي رسول واحد جامع للناس جميعاً؛ لأن قضايا الداءات ستكون واحدة. ونحن نرى الآن كل يوم عجبا، كلما تحدث حادثة هناك نجدها عندنا. إذن فلا بد أن تتوحد الرسالة. وحين تتوحد الرسالة فلا يأتي رسول ليستدرك بعد ذلك، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء خاتماً؛ ولذلك أخذ الله العهد على كل رسول أن يبشر قومه بأنه سيأتي رسول خاتم ليكون عند أهل كل ديانة خَلْفية تطمئنهم على أنه إذا جاء رسول، فقد عرفوا خبر مقدمه ويقولون: لقد قالت لنا رسلنا؛ ولذلك قال الحق: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] . ثم قال: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2264 إذن فرسول الله مشهود له من كل الرسل؛ ولذلك أكد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ديانات كل الرسل. وجاء دينه بديانات كل الرسل؛ لأنهم معه على منهجه الذي نزل به، والذين يلتحمون بالإيمان بالسماء بواسطة الرسل السابقين؛ إذا ما جاءهم خبر رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد يجعلهم تعصبهم لدينهم ينصرفون عنه، فأعطاهم الحق الخميرة الإيمانية وأوضح لهم: سيأتي رسول خاتم فتنبهوا يا كل الأقوام إذا ما جاء الرسول الخاتم فلا بد أن تؤمنوا به. وكان عندهم في كتبهم الدلالات والإخبارات. إذن فالله أعطاهم نصيباً من الكتاب. وانظروا إلى دقة الأداء القرآني: {أَلَمْ تَرَ} يا محمد {إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} جاء هذا القول وهو يحمل لهم عذرهم إن فاتهم شيء من الكتاب؛ لأنه سيقول في آية أخرى. {ْوَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 13] . وما داموا قد نسوا فهم معذورون، لكن من عندهم كفاية في العلم من الذين {أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} ، كان المفروض فيهم أن تكون آذانهم مستشرفة إلى صوت داعية الحق الخاتم، وهذا كان معروفا لهم من قبل؛ لذلك يقول لنا ربنا: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 89] . فهم كانوا يقولون لعبدة الأوثان من العرب: نحن في انتظار النبي الخاتم الذي سيرسله الله لنسبقكم إلى الإيمان به، فإذا ما سبقناكم إلى الإيمان به وظللتم على كفركم، سنقتلكم به قتل عاد وإرم. إذن فهم معتصمون بالإيمان بالسماء، فقل لي: إذا قالوا هذا القول، وهم معروفون أنهم أهل كتاب فلماذا كفروا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ إن كفار قريش لم يقولوا: إننا أهل كتاب، بل كانوا على فترة من الرسل، فكان المفروض أنه إذا جاء الرسول تسابق أهل الكتاب إلى الإيمان به لأنه سبق لهم أن توعدوا به العرب. لقد أعطاهم الله منزلة عالية لكنهم من لؤمهم لم ينتفعوا بها؛ فيقول الحق: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2265 لقد جعلكم الحق شهوداً على صدق الدعوة، هو شاهد وأنتم شهود، وهذه منزلة كبيرة، لكنهم لم يلتفتوا إلى تلك المنزلة وركبوا سفينة العناد الغارقة: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] . ولكن يجب أن نفطن إلى أن الحق سبحانه وتعالى حينما يرسل قضية عقدية في الكون فيخالفها مخالف يظن أنه يضار الله، نقول له: لا أنت تفعل ذلك لشهوة في نفسك. لكن الحق سيجعلها لنصرة الدين الخاتم، وتكون أنت مغفلاً في هذا الموقف. فإياك أن تظن أنك قادر أن تصادر مرادات الله حين كذبت بمحمد وجعلك ربنا تقول هذه الكلمة للمشركين من قريش، فانتظر ماذا ستفعل هذه الكلمة؟ . لكي تعرف أنت بإنكارك ماذا قدمت للإيمان. أنت فهمت أنك صادمت الإيمان. لا. أنت أيدت ونصرت الإيمان لكن بتغفيل! وعليك وزر. فلما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأعلن دعوته من ربه. قال العرب المشركون الوثنيون: إن هذا النبي هو الذي توعدتنا به اليهود، فهيا نسبق إلى الإيمان به قبل أن يسبقونا. إذن أخدموا الإيمان أم لا؟ . لقد خدموا الإيمان. إذن فلا يظنن عاصٍ إنه يقدر أن يطفيء نور الله؛ لأن الله يتم نوره ولو كره الكافرون. ومثال لذلك عندما غير ربنا القبلة ويوضح: يا محمد أنا أعرف أنك مستشرف ومتشوق إلى أن تتوجه إلى الكعبة، وأنا قد وجهتك أولاً لبيت المقدس لمعنى. ولكن أنا سأوجهك للكعبة وعليك أن تلاحظ أنني حين أوجهك إلى الكعبة سيقول السفهاء «وهم اليهود» : {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] . فهم يتساءلون: ما الذي جعلهم يتركون القبلة التي كانوا عليها؟ فإن كانت قبلة إبراهيم هي الكعبة فلماذا لم يتجه إليها من أول الأمر؟ هم سيقولون هذا الكلام. ونزل به قرآن يتلى ويسجل. ومن تغفيلهم ساعة تغيرت القبلة قالوا ذلك القول أيضاً، ولم يلتفتوا إلى أن الحق قال من قبل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2266 {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ} [البقرة: 142] . فعلى الرغم من ذكائهم إلا أنهم قالوا هذا الكلام، مما يدل على أن الكفر مظلم والكافر في ظلام فلا يعرف كيف ينصر نفسه. وجعل الله الكفر وسيلة للإيمان. فلو أنهم كانوا أذكياء بحق أصحاب بصيرة لكانوا بمجرد أن قال القرآن: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} ، لجمعوا بعضهم وقالوا: القرآن قال: إننا سنقول كذا وكذا، فهيَّا لا نقول كي يكون القرآن غير صادق. لكنهم لم يقدروا على ذلك. إذن فالكافر مغفل. هم يظنون أنهم بكفرهم يطمسون الإيمان بالله. لا؛ لأن الله جعل الكفر وسيلة للإيمان، والحديث الشريف يقول: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» . فالحق سبحانه وتعالى يبيّن: هؤلاء أوتوا نصيباً من الكتاب، وكان المفروض لمن أوتوا نصيباً من الكتاب أن يكونوا أول من آمن. لكنهم لم يؤمنوا، هذه أول مرتبة، وليتهم اقتصروا في الشرّ على هذه، وبذلك تقف المسألة وتظل معلقة بهم، ولكنهم يشترون الضلالة، ليس فقط في نفوسهم بل يريدون أن يُضلوا غيرهم، وهذه هي المرحلة الثانية، فهناك من يَضِل في ذاته وهو حرّ، لكن أن يحاول إضلال غيره فهذا كفر مركب. أنت ضَلَلْت وانتهيت، فلماذا تريدني أن أضل؟ لأن الضال أو المنحرف أو الذي ليس على طريق مستقيم إنما يعرف الطريق المستقيم جيداً. ولكن الصعوبة في أنه لا يستطيع أن يحمل نفسه عليه. فإذا ما وجد إنساناً مؤمناً فهو يستصغر نفسه، «لماذا آمن هو وأنا لم أؤمن» ؟ إذن فلا أقل من أن يحاول جذبه في صفه حتى لا يكون هو المنحرف الوحيد، فإذا رأيت مثلاً في بلد من البلاد بعض المنحرفين، ويرون واحداً مستقيماً فهم يتضاءلون أمامه، وينظرون إليه نظرة حقد، ويقولون: لماذا هو مستقيم؟ لا بد أن نسحبه للانحراف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2267 ولذلك يجب على المستقيمين أن ينتبهوا جيداً إلى أن شياطين الإنس لن تتركهم في طاعتهم، بل إنهم سيحاولون أن يستميلوهم؛ لأنه يعزّ عليهم أنهم لا يقدرون على أنفسهم ويحزّ في نفوسهم أكثر أن يجدوا بشراً مثلهم قد قدر على نفسه واستقام. ولذلك يقولون: هيا نكون كلنا معاً في المعصية حتى لا يرفع أحد رأسه على الآخر. فلنكن كلنا كذابين حتى لا يوجد فينا واحد صادق يذلنا. والكذاب كلما رأى الصادق يشعر أن هناك حربة تنغرز في قلبه!! والخائن ساعة يرى الأمين تكون الرؤية حربة تنزل في قلبه؛ فيريد أن يكون الكل مثله، هذه معنى {يَشْتَرُونَ الضلالة} . والحق يقول لهم: أنتم أحرار بشرائكم الضلالة وستجدون الجزاء في النار، فلماذا تريدون أن تضلوا الناس؟ إذن فيجب أن ينتبه أهل الطاعة إلى هذا الأمر، وعندما يستهزئ أحد من طاعتهم فعليهم أن يلتفتوا إلى قول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29 - 30] . وهذا ما يحدث إذا رأى بعض المنحرفين واحداً يذهب إلى المسجد أو يصلي، يقولون له: «خذنا على جناحك» ويسخرون منه ويستهزئون، لأنهم ساعة يرونه مقبلاً على الطاعة وهم غير قادرين على أن يكونوا طائعين يتضاءلون أمام أنفسهم؛ لذلك يريدون أن يكون الكل الكل غير طائع، وهذه هي الصورة التي نراها الآن، وعندما يقابل هؤلاء أهاليهم يتضاحكون بسرور من أنهم ضايقوا مؤمناً، ويقولون: قابلنا مؤمناً واستهزأنا به، ويتابع الحق. {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 30] . فالله سبحانه وتعالى يوضح لنا: أن هؤلاء المستهزئين بالدين يتهمون المتدينين بأنهم على ضلال. فإياكم أن تيأسوا أمام هؤلاء، إياكم أن تهزموا أمام هؤلاء لأنني سأنتقم عياناً من هؤلاء، وذلك يأتي يوم الآخرة ويقول الله بعد أن ينزل بهم النكال والعذاب: {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2268 فالحق يتساءل ليأتي الجواب على ألسنتنا، والسؤال هو: هل قدرنا أن نجازيهم على ما فعلوه فيكم؟ فاسخروا أنتم منهم، واضحكوا عليهم كما سخروا منكم في الدنيا. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} وهم اليهود: {يَشْتَرُونَ الضلالة} ، وساعة تسمع كلمة «يشتري» أعرف أن هناك معاوضة ومبادلة، سلعة وثمنا، فيشترون الضلالة بماذا؟ ماذا سيدفعون؟ الحق يقول في آية أخرى: {اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] . أي أنهم دفعوا الهدى ثمناً وأخذوا الضلالة سلعة، وعادة ما ندفعه يضيع من يدنا، وما نشتريه نأخذه لنا. فحين تشتري سلعة بجنيه. فالجنيه يضيع، بعد أن كان معك أولاً، فحين يقول: {اشتروا الضلالة بالهدى} فهل كان معهم هدى وقدموه وأخذوا الضلالة؟ {نعم، كان معهم هدى الفطرة. فكل واحد عنده هدى الفطرة. إياك أن تظن أن العقل الواعي ينتظر رسولاً ليدله على الله، إنما هو ينتظر رسولا ليبلغه مرادات الله منه، ذلك أن الإيمان بالله أمر من أمور الفطرة، فالإنسان عندما يتفتح وعيه يجد أشياء في الكون تخدمه، خدمة مستقيمة رتيبة، ولا تتخلف عن خدمته أبداً، هناك شمس تطلع كل يوم، وهواء يمر، أرض عندما تزرعها تعطيك خيراً كثيرا. ألك قدرة على شيء من هذا؟ هل ادعي إنسان مثلك أن له قدرة عليه؟ كل هذه الكائنات أنت تطرأ عليها، ولم تأت بها. وعندما يولد الإنسان ويرى كل هذه النعم موجودة. ألا يؤمن بأنها من عطاء خالق؟ الإنسان فوجيء عندما ولد بوجود النعم. وأيضاً آدم عندما خلق فوجيء بالنعم موجودة، إذن فهو طرأ عليها، بالله ما دام هو قد طرأ عليها ألا يفكر من الذي أقام هذه النعم له؟ كان لا بد أن يفكر من الذي صنع له كل هذه النعم، وضربنا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2269 قبل مثلاً بمن انقطعت به الوسائل وهو في الصحراء ولم يجد ماءً ولم يجد طعاماً، ثم يئس فنام، ثم استيقظ فوجد مائدة عليها أطايب الطعام، بالله قبلما يأكل ألا ينظر ويفكر ويقول في نفسه: من الذي أعدّ وأقام تلك المائدة؟ أنت - إذن - وارد على الكون بخيره كله، ولا أحد قال لك: أنا الذي فعلته، لا أبوك ولا جدك ولا جد جدك قال هذا، فلا بد أن تنتبه إلى أن له خالقاً. إذن فالذين اشتروا الضلالة بالهدى، أكان معهم هدى فقدموه وأخذوا الضلالة؟} نعم كان معهم هدى الفطرة، ولذلك حين سئل الإمام علي - كرّم الله وجهه -: أعرفت ربك بمحمد أم عرفت محمداً بربك؟ قال: لو عرفت محمداً بربي ما احتجت إلى رسول، إذن فلا يصلح أيضاً أن يقال لأحد «عرفت ربك بمحمد» ؛ لذلك قال علي كرم الله وجهه: ولكني عرفت ربي بربي، وجاء فبلغني مراد ربي مني. إذن فقوله: {الذين اشتروا الضلالة} ماذا فعلوا؟ باعوا هدى الفطرة واشتروا الضلالة. وهنا يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يَشْتَرُونَ الضلالة} . ولم يأت ب «هدى» هنا، وهذا يدل على أن الفطرة انطمست عندهم انطماسا بحيث لم يقدموا ثمناً للضلالة من الهدى. {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} والإرادة هي: أن يرجح الشخص المختارُ حكماً على حكم، ومثال ذلك: أنت أمامك جوربان مثلا، فلك أن تختار واحداً منهما، لكن لو كان أمامك جورب واحد فإرادتك لا ترجح. إن الإرادة ترجح اختيارا على اختيار، وما معنى «تضلوا» ؟ الضلال يطلق بإطلاقات متعددة، فحواها كلها أن هناك أمراً من الحق ليس على بالك، فهل يحدث ذلك لأنك نسيته أو عرفته وتعمدت أن تتركه؟ . فالذي نسي هذا الأمر معذور. لكنْ هناك إنسان آخر يعرف هذا الأمر لكنه تعمد أن يتركه، إذن فالضلال يطلق مرة على النسيان كما في قول الحق: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} [البقرة: 282] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2270 فالضلال هنا نسيان لكن هناك من يضل لأنه يفتقد المنهج الحق ويتشوف ويتطلع إليه ليتبعه، كما في قوله: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7] . أي أن المسائل متشعبة على الإنسان فيرى هذا وذاك، فأوضح الحق لك: لا تتعب نفسك لأني سأعطيك السبيل المستقيم. إذن فالضلالة لها معان متعددة، وفحواها جميعاً أنها لا توصلك إلى الغاية، والحق سبحانه وتعالى حينما يعرض قضية إيمانية عقدية معنوية يستعمل فيها الألفاظ التي يستعملها الناس في الكونيات، ولذلك فما هو السبيل؟ . السبيل - عندنا - هو الطريق، وكلنا حتى غير المؤمنين يعرفون أن الطريق يُصنع ليوصل إلى غاية، ولكن لا بد أن نعرف الهدف أولاً وبعد ذلك نرصف الطريق ونعبّده، ففيه فرق بين السبب الدافع والواقع. نحن قبلما نرصف الطريق نرى إلى أين يذهب؟ إذن فالغاية أولاً وبعد ذلك نلتمس أقصر طريق يوصلنا إلى المطلوب، وعندما نكتشف أقصر طريق يوصلنا للمطلوب نمهده ونعبّده لكيلا نتعب الناس، إذن فالسبيل هو: الطريق الموصل إلى الغاية. ولذلك أوضح لنا الحق أن الطريق إلى الإيمان مستقيم كي لا يأخذ مسافات، فالخط المستقيم هو أقصر الخطوط. إننا لا بد أن نعرف الغاية قبل أن نعرف السبيل إلى الغاية. وآفة الدنيا وأهلها أنهم يعيشون فيها ولا يعرفون غاياتهم النهائية، إنما يعرفون غايتهم الجزئية، فالطالب يريد أن يتعلم كي يكون موظفا، لكي يتزوج ويقيم أسرة، والتاجر يتاجر لكي يعمل كذا، هذه هي الغايات الجزئية، والذكي هو من لا يذهب للغايات القريبة المنتهية، بل ينظر إلى الغايات الاخيرة، لأن الناس تختلف في الغايات المنتهية، فواحد يعيش خمسين سنة، وآخر يعيش ستين عاماً، وثالث يعيش لمدة سنة، إذن فلا بد أن تنظر إلى الغاية التي سيذهب لها الكل، وآفة الناس أنها تعمل للدنيا، يعني للغايات القريبة، برغم أن «الدنيا» تعني الأقل والأتفه، ولذلك اسمها «الدنيا» ، وما دامت «دنيا» إذن فهناك «عليا» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2271 إن تعب الناس يأتي من أنها تعمل للغايات الدنيا؛ لذلك نقول لكل إنسان: انظر الغاية العليا التي سيكون الكل شركاء فيها، والكل لا بد أن يصل لها. فإذا ما عرفنا الغاية العليا نجونا من إرهاق قصر النظر والغرق في الغايات المحدودة، مثلاً: أنت تبعث ابنك ليتعلم من سن الحضانة ثم إلى الروضة ثم الابتدائي ثم الإعدادي ثم الثانوي ثم التعليم العالي ثم يتخصص في مجال معين في التعليم العالي، وتصل سنوات عمره إلى العشرين سنة ليتخرج ويتوظف ويقدر أن يعيش بكده وعرقه، والأب يعمل لهذه الغاية، وقد لا يصل الابن إلى الوظيفة، وقد يُتعب الابن والده ولا يكمل تعليمه وبذلك تفلت منه الغاية. لكن نحن نريد الغاية التي لا تفلت، فأنت الآن تعيش في أسباب خلقها لك الحق، فاجعل غايتك أن تعيش مع الحق. إنك في الدنيا تعيش مع الأسباب التي خلقها لك الحق، لكنك في الآخرة ستكون مع الحق نفسه. أنت في الدنيا تعيش بالأسباب، ولكنك تعيش في الآخرة بالمسبب، ومهما ارتقت أسبابك. فأنت لن تستطيع أن تصل إلى مستوى رفاهة الآخرة. صحيح أنه إذا ارتقت حياتك في الدنيا فقد تضغط على زر في الحجرة ويأتيك فنجان قهوة، أو تضغط على زر فيأتيك الأكل، ولكن قل لي مهما ارتقت الحياة أيوجد بحيث إذا خطر الشيء على بالك يأتيك؟ لا يمكن، وهذا ما سيكون لنا في الآخرة، إذن فهذه هي الغاية الحسنة، ونحن نعيش في الدنيا مع أسباب الله الممدودة لنا، أما في الآخرة فسوف نعيش مع الله ولذلك أوضح سبحانه: سأعطي المؤمن والكافر الأسباب في الدنيا، فالكافر عندما يزرع يجد نتاجاً، وعندما يبحث في الكون وينظر أسراره فالأسرار تتكشف له؛ لأن الأسباب خلقها الله لمن يأخذ بها سواء أكان مؤمناً أم كافراً. لكن المسبب لا يذهب له إلا من آمن به، أما الكافر فقد آمن بالأسباب فأخذ الأسباب، ولم يمنعها الله منه: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] . إذن فهل غايتك أن تبقى مع الأسباب أو تذهب إلى المسبب انظر إلى غايتك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2272 الدنيا القريبة، ستجد أنها قد تنتهي قبل أن تصل إليها ويكون تعبك قد ذهب هباء. ولذلك أخفى الله الموت وأسبابه وزمنه كي يختبر الإنسان، فهناك من يحقق كل ما رغب فيه وفي آخر الأمر تنتهي المسألة بالموت، وهو قد أخذ الهباء لأنه لم يؤمن بالمسبب، هب أنه أخذ الدنيا كلها عنده، نقول له: سيأتيك الموت، يعني إما أن تفارق أنت النعمة وإما أن تفارقك النعمة، ولكن في الحياة الآخرة أنت لا تفارق النعمة ولا النعمة تفارقك فهذه - إذن - هي الغاية الحقة، غاية العقلاء. ومتعتك في دنياك كما قلنا على قدر أسبابك أما متعتك في الآخرة فهي على قدر المسبب، وسبحانه لا يقادر قدره ولا أحد يماثله في فعله. والعاقل هو من ينظر إلى الغاية البعيدة. إذن فالسبيل لا يمكن أن يكون طريقاً إلا إذا علمت الغاية، والذي يجعل الناس تتعب في الدنيا، أنهم لا يعرفون إلا الغايات القريبة، ولذلك سماها «الدنيا» ولا يوجد اسم أدنى من ذلك لها، وكان يجب أن يوحي هذا الاسم بأنها فانية وهناك باقية. إذن فقبلما ترسم السبيل لا بد أن تحدد الغاية. وبعدما تحدد الغاية تختار السبيل الذي يوصلك للغاية، وهكذا نعرف أن هناك فرقا بين واقع ودافع، الشيء الدافع هو أن تنصب الغاية أولاً وتحددها، فالتلميذ يجتهد كي ينجح، وينجح لكي يأخذ حظه في الحياة، وهذه الغاية لا بد أن توجد في ذهنه قبلما يتعلم، وعندما يتصور النجاح ولذته في ذهنه فهو يبدأ في المذاكرة، وعندما يذاكر يصل إلى الغاية وهي النجاح، فالغاية نوعان: غاية دافعة، وغاية واقعة، فالغاية الدافعة تسبق الطريق، والغاية الواقعة تتأخر عن الطريق، ومن الذي يحدد الغاية؟ إن الذي يحدد غاية كل شيء هو من صنعه، وغايتك أنت من الذي يحددها؟ أنت تحدد الغايات الدنيا، أما الغايات العليا فعليك أن تتركها للأعلى ليحددها وهو الله. وما دام هو سبحانه الذي يحددها لأنك صنعته وخَلقه؛ لذلك تسأله: أنت سبحانك الذي تعلم موقعها فهيئ لنا الطريق الذي يوصلنا لها. لا بد إذن من الإيمان إذا ما كانت الغاية هي أن تعيش مع الحق، والسبيل هو المنهج: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] . أي أن سبلكم أنتم لا توصلكم إليَّ؛ لأنكم حددتموها بغاياتكم، أمّا أنا فقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2273 حددت السبيل بغايتي فمن أراد أن يصل إليّ فلينظر إلى طريقي. وكلمة «السبيل» ، و «الطريق» كلها أمور حسية، والحق يستعملها لنا ليدلنا على المعاني العقدية والمعاني المعنوية يوضحها - سبحانه - بأمور حسية أمامنا، وعندما توجد في مفترق طرق وتريد أن تصل إلى المنطقة الفلانية. فانحرافك بمقدار ملليمتر واحد في بداية الطريق، يبعدك عن الهدف، وكلما أمتد بك السير اتسع المشوار وتبعد المسافة، فأنت تتوه، ونمثل لهذا بشيء بسيط جداً: كلنا نركب القطارات، والقطارات تسير على قضبان مستقيمة. فإذا أردنا أن نحول القطار فنحن لا نرفعه ونضعه على قضيب آخر، بل نأتي بتحويلة لا تتجاوز اثنين من الملليمتر ونقربها إلى حد الالتصاق في القضيب الأصلي، وهذا ما يفعله «المحولجي» ، فينحرف القطار لينتظم الخط وليصل إلى المحطة المطلوبة. ولفتنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى ذلك بما رواه سيدنا حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حينما قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حديثين قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال - أي أن الإيمان فطري - ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة. ثم حدثنا رسول الله عن رفع الأمانة قال: «ينام الرجل النومة فتغيض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت - وهو اللسعة التي توجد أثراً على الجلد - ثم ينام الرجل النومة فتغيض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجْل» (والمجل هو أثر الجمرة التي تظل مدة طويلة على جلد الإنسان فتسبب ورماً فيه مياه - كجمر دحرجته على رجلك فنفط - أي انتفخ - فتراه منتبراً وليس به شيء) فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد يوجد أحد منهم يؤدي الأمانة حتى يقال: «إن في بني فلان رجلاً أميناً» . ويستمر سيدنا حذيفة قائلاً: ولقد مر عليّ زمان وما كنت أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردنه علىّ دينه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2274 ولئن كان نصرانياً ليردنه عليّ ساعيه - أي المحتسب - وأما الآن فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً. إن الإيمان فطري. إنّ قصارى ما يعطيك هذا الإيمان الفطري أن وراء هذا الكون الدقيق قوة عظمى؛ فالكون المنظم، الرتيب، الذي لا يدخل تحت طاقتك ولا تحت قدرتك، هذا الكون يسير على أحسن نظام. والقوة العظمى القادرة التي وراء ذلك الكون تتصف بالقدرة، وبالعلم، وبالحكمة، وبكل صفات الكمال. لكن أيعطيك فكرك وعقلك اسم هذه القوة؟ لا يمكن أن يعطي العقل اسم هذه القوة. أيعطيك فكرك وعقلك مرادات هذه القوة؟ إنك لا تستطيع أن تعرف مرادات هذه القوة إلا برسول ترسله ليبلغ عنها. والرسول عندما يأتي تقول: إن القوة التي تبحثون عنها، والتي آمنتم بها إيماناً مجملاً اسمها «الله» . فلا بد أن نصدق الرسول. فالعقل لا يقول لنا اسم القوة الخالقة. ولكن الذي يقول لنا اسم هذه القوة هو البلاغ، ويعطينا الحق هذا البلاغ من خلال الرسول بكل مراداته من وجودنا. وهذا هو أقصر طريق للوصول إلى الحق بعيداً عن تعقيدات الفلسفة أو تعقيدات المنطق، وسفسطة الجدل، هذا الطريق الذي يثبت أن من يعبد أي قوة غير الله لا حق له في مثل هذه العبادة. فالذي يعبد الشمس مثلاً هل يستطيع أن يقول لنا ما هو منهج الشمس الذي تطلبه من الإنسان؟ وماذا قالت لمن يعبدها جزاءً للفعل الحسن أو عقاباً على الفعل السيئ؟ ماذا تستطيع هذه الشمس أن تفعل لمن لا يعبدها؟ . إنها لا تملك ثواباً ولا عقاباً، ولا منهج لها، وإله بلا منهج لا يصلح أن يكون إلهاً. فالإله لا بد له من منهج يدل الناس على صواب الفعل وينهي عن سوء الفعل ويملك سلطان الثواب والعقاب. والشمس لا تملك منهجاً تعطيه، وكذلك الحجر أو القمر. إذن فهذه الأشياء مخلوقة بدورها من قبل خالق ولا تصلح أن تكون آلهة. ووجود الرسل المبلغين عن الله دليل على صدق الدعوة. فالحق سبحانه وتعالى يعطينا إيماناً بوجوده من خلال المنهج. . ونحن قبل البلاغ نعرف أن هناك قوة خالقة لا نعرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2275 اسمها ولا مرادها؛ ولذلك فعندما يأتي الرسول بالبلاغ فهذه رحمة من الله بالخلق. أما من يحاول أن يخطط بعقله لحياته بدون الرسول فنقول له: أنت تصيب نفسك وروحك بالتعب ولن تصل إلى شيء. ونضرب هذا المثل دائماً - ولله المثل الأعلى - هب أننا نجلس في غرفة والباب مغلق ثم طرق الباب طارق. هنا نتفق نحن الجلوس في الغرفة في أن وراء الباب طارقاً. ولكن إذا أردنا تحديد هذا الطارق وتعيينه فسنختلف فيقول قائل: إنه رجل. . ويقول آخر: لا إنه امرأة. ويقول ثالث: لا. إنه طفل. ويقول رابع: هذا بشير. ويقول خامس: هذا نذير. ويقول سادس: إنه القادم لنا بالقهوة. ويقول السابع: إنه رجل مكلف بالقبض علينا. هكذا نتفق على أن طارقاً بالباب ونختلف في تحديد «من الطارق» . وهكذا الكون، الكون وراءه قوة هائلة وعندما يحاول الإنسان أن يقول اسم هذه القوة بعقله أو مرادات هذه القوة فهذا يسبب الخلاف. ولكن حينما ترسل القوة عن نفسها رسولاً ليقول: إن القوة الخالقة اسمها الله ومرادات الله كذا، ففي ذلك حسم للخلاف. إن الذي أرهق الفلاسفة ووصل ببعضهم إلى دهاليز التيه، هو أن بعضهم لم يكتف بتعقل القوة التي خلقت الكون. بل إنهم أرادوا أن يتصوروا القوة وما هياتها ومراداتها. ونقول: إن نظرة الفلاسفة إلى الخالق لا تصلح؛ لأنهم بتلك النظرة يظلون في التيه، ولكن البلاغ عن طريق رسول هو الذي يحسم هذه المسألة. والحديث الذي رواه لنا سيدنا حذيفة عن الأمانة يصور لنا مهمة الإيمان وكيف يتعلم المؤمن من القرآن والسنة، وعندما يهمل هذا العلم، فما الذي يحدث؟ إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يمثل لنا مراحل فقدان الأمانة. وينبهنا: احذروا من أن تتسلل الانحرافات بنومة قليلة، ثم إلى أخرى أكبر منها، ثم إلى ثالثة أكبر وأوسع. وشرحنا ذلك بمثل الانحراف المقصود لقطارات السكك الحديدية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2276 إن قوله الحق سبحانه: {يَشْتَرُونَ الضلالة وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} كي لا ينفردوا - وحدهم - بالضلال، والحق سبحانه يعطينا مناعة ضد كلامهم، فهم لهم حظّ من علم الكتاب وهذا قد يجعلنا نحسن الظن بأن لهم صلة بالسماء؛ لأنهم أتباع رسل، فسبحانه يوضح لنا: هؤلاء يريدون أن تضلوا السبيل ويتخذوا من نصيب الكتاب الذي عندهم وسيلة كي يضلوكم. وفي عصرنا نجد أن أعدى أعداء أي عقيدة ليسوا أعداءها الظاهرين وإنما أعداؤها من أنفسهم. لأن عدوّي الظاهر الكافر يجابهني وأنا واثق أنه يريد أن يدس لديني ويدلس ويحرف فيه، لكن عندما يكون هناك مسلم مثلي يأتي ليكلمني فربما آخذ كلامه على أنه مسلم؛ ولذلك فخصوم الإسلام يئسوا أن يواجهوا الإسلام مواجهة صريحة؛ ولذلك نجد الغرب قد توقف الآن عن مسألة الاستشراق، وما بقي من الاستشراق فهذا هو القديم. وكان المستشرق من هؤلاء يؤلف كتاباً؛ ساعة يقرأه المسلم قد يقول: إنه رجل يعمل على خدمة العلم وعلى خدمة الثقافة، وخدمة سنة رسول الله. وقد يكتفي هذا المؤلف بأن يدس في الكتاب الواحد فكرة واحدة بعد أن يجعل القارئ يثق فيه. وعندما علموا أننا فطنا لهذا دخلوا علينا بالمستغربين. وهم أناس منا ذهبوا إلى الغرب فأخذوا الداءات من هناك وجاءوا فبثوها في مناهج تعليمنا، وفي برامجنا، وفي وسائل الإعلام، وفي الصحافة، والواحد من هؤلاء المستغربين يفعل ذلك وهو مسلم، فيكون محل ثقة، ووجد الغرب أيسر طريق لهم الآن أن يدخلوا إلينا عن طريق بعض المسلمين الذين أوتوا نصيباً من الكتاب؛ لأن الإنسان سيكون مطمئناً إلى أن هؤلاء مسلمون؛ فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا: أن خصومك الظاهرين أهون عليك من خصومك المنسوبين إلى دينك؛ لأن هؤلاء يدخلون عليك بالثقة الأولى، ثقة انتسابهم للإسلام؛ ولذلك يوضح لنا ربنا هذا الأمر لأنه قد يتعب ويصيب المؤمنين بالعنت لذلك يقول: {أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} . وهم يعيشون على هذه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2277 ويقول الحق بعد ذلك: {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2278 فقد يكون عندكم علم بالأعداء فيقال: أنتم عالمون بأعدائكم. لكن الله أعلم بالأعداء جميعا؛ لأنه قد يكون لك عداوة بينك وبين نفسك، أو عداوة من زوجتك، أو عداوة من أولادك أو كل هذه العدوات جميعها أو بعضها. وهؤلاء في ظاهر الأمر لا يمكن للإنسان أن يتبين عداوتهم جميعا، لكن الله أعلم بهم وبما يخفون؛ لذلك يقول: {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} . وجاء بها بعد قوله: {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} أي مخافة أن نقول: إن هؤلاء أهل كتاب أو مسلمون مثلنا وكذا وكذا. وما دام الله هو الأعلم بالأعداء. فهو لن يخدعنا ولن يغشنا، فيجب أن ننتبه إلى ما يقوله الحق من أنهم أعداؤنا، ويقول بعدها: {وكفى بالله وَلِيّاً} وحين يقول هذا، فالقول يعني أنك لا تريد وليّاً بعد ذلك، كما يقولون: كفاني فلانٌ؛ أي أنك قد تحتاج إلى هذا وهذا ثم تقول: لكنَّ فلانا عرفته فكفاني عن كل ذلك، أي لا يحوجني إلى أحد سواه؛ لأنني أجد عنده الكفاية التي تكفيني في كل حركة حياتي. {وكفى بالله وَلِيّاً} . . نعم كفى به وليّاً لأن غيره من البشر إنما يملكون الأسباب، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الأسباب، فيملك ما هو فوق الأسباب. ولذلك يقول مطمئنا لنا: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2] . و «الولي» دائماً هو من يليك مباشرة أي أنه قريب منك. {وكفى بالله نَصِيراً} إذن فهناك قريب، وهناك أيضاً نصير، فقد يكون هناك من هو قريب منك ولا ينصرك، لكن الله وليّ ونصير، فما دامت المسألة مسألة معركة {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وكفى بالله وَلِيّاً وكفى بالله نَصِيراً} ، كأن الحق ينبهنا: إياكم أن تقولوا إننا نلتمس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2278 النصرة عند أحد، اصنعوا ما في استطاعتكم أن تصنعوه ثم اتركوا ما فوق الاستطاعة إلى الله. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى أوضح لنا: إياكم أن تتخذوا من أعدائكم أولياء، وإياكم أن تقولوا؛ ماذا نفعل ونحن ضعفاء، ونريد أن نكون في حمى أحد، وماذا نفعل في أعدائنا؟ لا تقولوا ذلك؛ لأن الله أعلمنا: أنا أنصركم بالرعب بأن أُلْقِيَ في قلوب أعدائكم الخوف فينهزموا من غير سبب وفيهم قوة وغلبة، فإن لم يكن عندكم أسلحة فسأنصركم بالرعب. وما دام سينصرنا بالرعب فهذه كافية؛ لأنه ساعة ينصرني بالرعب؛ يلقي عدوى سلاحه وأنا آخذه؛ ولذلك قال: اعملوا ما في استطاعتكم، ولم يقل: أعدوا لخصومكم ما تحققون به النصر، فهو سبحانه قادر على أن ينصرنا بالرعب: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله} [آل عمران: 151] . وما دام ألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فوسائلهم كلها تكون للمؤمنين وتنتهي المسألة. ويقول الحق بعد ذلك: {مِّنَ الذين هَادُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2279 تكلم الحق في سورة النساء عن الخلق الأول وأوضح: أنني خلقتكم من نفس واحدة وهي «آدم» وبعد ذلك خلقت منها زوجها، ثم بثثت منهما رجالا كثيراً ونساء، والبث الكثير للرجال والنساء لتستديم الخلافة للإنسان، لكن كيف يأتي ذلك؟ أوضح سبحانه: أريد مجتمعاً قوياً، وإياكم أن يضيع فيه اليتيم. وبعد ذلك ما دمت أريد استدامة هذا الاستخلاف فليأخذ الأيتام نصيباً، وتكلم - سبحانه - عن التركة، ثم تكلم عن السفهاء غير المؤتمنين على مالهم، وبعد ذلك تكلم عن كيفية الزواج. إذن فكل هذه العملية ليبني لنا نظام حياة متكاملاً؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي دوام هذه الخلافة بالتكاثر، والتكاثر لا يؤدي مراده إلا إذا كان تكاثر أقوياء، أما تكاثر الضعاف فهو لا ينفع. فإن كان فيكم يتيم لا بدأن تلاحظوه، وإن كان فيكم سفيه لا يستطيع أن يدبر ماله فدبروا أنتم له ماله، واجتهدوا لتتركوا من حركة حياتكم للناس الذين سيأتون بعدكم إلى أن تقوى نفوسهم على الحركة. وأوضح سبحانه منهاج الميراث، وأمر سبحانه: أن تزاوجوا، لكن للتزاوج شروطه وقد أوضحها، ثم أعطانا المنهج العام: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً} ، ووضح هذه الأحكام كلها. وبعد ذلك ما الحكمة في أنه - سبحانه - يرجع بنا مرة ثانية لليهود؟ الحق سبحانه وتعالى يوفي الأحكام، وإلقاء الأحكام شيء وحمل النفس على مراد الله في الأحكام شيء آخر، فيوضح لنا: أن هناك ناساً ستعلم الحكم لكنها لا تقدر أن تحمل نفسها عليه، فإياكم أن تكونوا كذلك. واعلموا أن هناك أناساً عندهم نصيب من الكتاب أيضاً، ويعلمون مثلكم تماماً، إنما اشتروا الضلالة، إذن فهو شَرَح لنا؛ إنّه الواقع الملموس ولا يأتينا - سبحانه - بكلام خبري أو إنشائي، قد تقول: يحدث أو لا يحدث، إنّه يأتيك بأحداث من واقع الكون، وينبهنا: إياكم أن تكونوا مثلهم، فقال: {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} والتحريف: أنك تأتي باللفظ الذي يحتمل معنيين: معنى خير، ومعنى شرّ، ولكنك تريد منه الشرّ، مثل الذي يقول: «السام عليكم» - والعياذ بالله - «هي في ظاهرها أنه يقول: السلام عليكم، لكنه يقول: السام. يعني» الموت «، إذن ففي اللفظ ما يُلحظ مَلحظً الخير، ولكن العدو يميله إلى الشرّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2280 ومثل هذا ما قالوه للنبي:» قالوا راعنا «وهي من المراعاة، لكنهم كانوا يأخذونها من الرعونة، فيأتي الأمر: اترك الكلمة التي تحتمل المعنيين. واقطع الطريق على الكلمة التي تحتمل التوجهين؛ لأن المتكلم، قد يريد بها خيراً وقد يريد بها شرّاً، فمعنى تحريف الكلام أي أن الكلام يحتمل كذا ويحتمل كذا. والمثال على ذلك: الرجل الذي ذهب لخياط ليخيط له قَباء - وكان الخياط كريم العين - أي له عين واحدة - فلم يُعجب الرجُل بِخياطة القَباء فقال: والله ما دمتُ أفتضح بهذا الثوب الذي خاطه لي أمام الناس فلا بد أن أقول فيه شعراً يفضحه في الناس، فقال: خاط لي عمرو قَباء ... ليت عينيه سواء فقوله: ليت عينيه سواء يظهر ماذا؟ . هل يا ترى يتمنى له أن تكون عينه المريضة مثل السليمة؟ أو يتمنى أن تكون العين السليمة مثل المريضة؟ إذن فالكلام يحتمل الخير والشر، ومثلما حكوا لنا أن واحداً من الولاة طلب من الخطيب أن يسب سيدنا عليّاً - كرم الله وجهه وآله - وأن يلعنهم على المنبر. فقال الخطيب: اعفني. فقال الوالي: لا، عزمت عليك إلاَّ فعلت. فقال له الخطيب: إن كنت عزمت على إلاّ فعلتُ، فسأصعد المنبر وأقول: طلب مني فلان أن أسب عليّاً فقولوا معي يلعنه الله. فقال له: لا تقل شيئاً. فقد فهم الوالي مقصد الخطيب وقدرته على استعمال الكلام على معنيين. والحق يقول: {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} . وأريد أن تنتبهوا إلى أن أسلوب القرآن يأتي في بعض المواقع بألفاظ واحدة، ولكنه يعدل عن عبارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2281 إلى عبارة، فيخيل لأصحاب النظر السطحية أن الأمر تكرار، ولكنه ليس كذلك، مثلما يقول مرة: {يشترون الضلالة بالهدى} ومرة لا يأتي بالهدى كثمن للضلالة ويقول: {يَشْتَرُونَ الضلالة} ، ولم يلتفتوا إلى أن هدى الفطرة مطموس عندهم هنا، ومثال آخر هو قول الحق: {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] . وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، فكأن المسألة لها أصل عندهم، فالكلام المنزل من الله وضع - أولا - وضعه الحقيقي ثم أزالوه وبدَّلوه ووضعوا مكانه كلاما غيره مثل تحريفهم الرجم بوضعهم الحد مكانه. أما قوله: {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه الحق ووضعوه موضع الباطل، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما اقتضته شهواتهم، فكأنه كانت له مواضع. وهو جدير بها، فحين حرفوه تركوه كالغريب المنقطع الذي لا موضع له، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم، ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم. {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} . فهم يقولون قولاً مسموعاً «سمعنا» ثم يقولون في أنفسهم «إنّا عصينا» . فقولهم: «سمعنا وعصينا» ففي نيتهم «عصينا» ، إذن فقولهم «سمعنا» يعني سماع أذن فقط. إنما «عصينا» فهي تعني: عصيان التكليف، وهم قالوا بالفعل سمعنا جهرا وقالوا عصينا سِرّاً أو هم قالوا: سمعنا، وهم يضمرون المعصية، «واسمع غير مسمع» ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي يُسْمِعُكم، بدليل أنكم قلتم: سمعنا، فماذا تريدون بقولكم: اسمع؟ هل تطلبون أن يسمع منكم لأنه يقول كلاماً لا يعجبكم وستردون عليه، أو أنتم تريدون استخدام كلمة تحتمل وجوهاً فتقلبونها إلى معانٍ لا تليق، مثل قولكم: «غير مُسْمع» ما يسرّك، أو «غير مسمع» أي لا سمعت؛ لأنهم يتمنون له - معاذ الله - الصمم، وقد تكون سباباً من قولهم: أسمع فلان فلاناً إذا سبّه وشتمه، فالكلام محتمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2282 {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} لم يقولوا: «راعنا» من الرعاية بل من الرعونة، فقال: لا. اتركوا هذا اللفظ؛ لأنهم سيأخذون منه كلمة يريدون منها الإساءة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - و «اللي» : هو فتل الشيء، والفتل: توجيه شقي الحبل الذي تفتله عن الاستقامة، وهذا الفتل يعطيه القوة، وهم يعملون هذه العمليات لماذا؟ لأنهم يفهمون أنها تعطي قوة لهم. {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين} ، وما داموا يلوون الكلام عن الاستقامة فهم يريدون شرّاً، لأن الدين جاء استقامة، فساعة يلويه أحد فماذا يرد؟ . . إنه يريد {وَطَعْناً فِي الدين} ، {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا} ، وبدلاً من إضمار المعصية يقولون: {وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا} بدلاً من «راعنا» ، ف «انظرنا» لا تحتمل معنى سيئاً. إذن فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يخبر أحباب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن خصومه يأتون بالألفاظ محتملة لذم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لذلك يوضح: احذروا أن تقولوا الألفاظ التي يقولونها؛ لأنهم يريدون فيها جانب الشر وعليكم أن تبتعدوا عن الألفاظ التي يمكن أن تحول إلى شرّ. فلو قالوا سمعنا وأطعنا {واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن} ، وساعة تسمع كلمة «لكن» فلتعلم أن الأمر جاء على خلاف ما يريده المشرع؛ لأنه يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ} ، لكنهم لم يقولوا، إذن فالأمر جاء على خلاف مراد المشرع. {وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} و «اللعن» هو: الطرد والإبعاد، فهل تجنىَّ الله عليهم في لعنهم وطردهم؟ لا. هو لم يلعنهم إلا بسبب كفرهم، إذن فلا يقولن أحد: لماذا لعنهم الله وطردهم وما ذنبهم؟ نقول: لا. هو سبحانه لعنهم بسبب كفرهم، إذن فالذي سبق هو كفرهم، وجاء اللعن والطرد نتيجة للكفر. {وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} . وساعة تسمع نفي حدث «لا يؤمنون» ثم يأتي استثناء «إلا» ، فهو يثبت بعض الحدث، تقول مثلاً لا يأكل إلا قليلاً، كلمة «لا يأكل» نفت الأكل، «وإلا قليلاً» أثبتت بعض الأكل، فهو سبحانه يقول: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} . والإيمان حدث يقتضي محدثاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2283 هو: من آمن، إذن، فعندي حدث وفاعل الحدث، فساعة تسمع استثناء تقول: هذا الاستثناء صالح أن يكون للحدث، وصالح أن يكون لفاعل الحدث، كلمة {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} تعني: فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً؛ لأنهم يؤمنون قليلاً بالصلاة، وبأنهم لا يعملون يوم السبت، أما بقية مطلوبات الإيمان فليست في بالهم ولا يؤدونها، أو فلا يؤمنون إلا قليلاً فقد يكون بعض منهم هو الذي يؤمن، وهذا صحيح عندما نقوله؛ لأن بعضا منهم آمن بالفعل، ونجد أيضاً أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيكون إيمانهم قليلاً بالحدث نفسه. وهناك أناس منهم بعدما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتُلى القرآن ورأوا صورته فوجدوه مثلما وُصف عندهم تماما فآمنوا، ولكن هل آمن كل يهود، أو آمن قليل منهم؟ آمن قليل منهم مثل: عبد الله بن سَلاَم، وكعب الأحبار، إنما عبد الله بن صُورْيَا، وكعب بن أسد، وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود فلم يؤمنوا. إذن فإن أردت أن بعضاً «قليلاً منهم» هو الذي آمن فهذا صحيح، ويصح أيضاً أن الكافرين منهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وفي ذلك تعبير من الحق سبحانه وتعالى نسميه «صيانة الاحتمال» ؛ لأن القرآن ساعة ينزل بمثل هذا القول فمن الجائز - وهذا ما حدث - أن هناك أناساً من اليهود يفكرون في أنهم يعلنون الإيمان برسول الله، فلو قال: «فلا يؤمنون» فقد لكان من الصعب عليهم أن يعلنون الإيمان - لكن عندما يقول: «إلا قليلاً» فالذي عنده فكرة عن الإيمان يعرف أن الذي يخبر هذا الإخبار عالم بدخائل النفوس، فصان بالاحتمال إعلان هؤلاء القلة للإيمان. ويقول الحق بعد ذلك: {يَا أَيُّهَآ الذين ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2284 نعلم أن كل التشريعات التي جاءت من السماء لا يوجد فيها تضارب؛ فالمشرع واحد. ولن يشرع اليوم شريعة ثم يأتي رسول آخر يشرع شريعة أخرى جديدة. فأصول الاديان كلها التي جاء بها ركب الرسالات واحدة، ولا تختلف إلا في بعض الأحكام التي تتطلبها ظروف العصور، وفي التشريع الواحد تتطور الأحكام وخصوصاً ما يتعلق بالعادات. وما كان الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده يأتي المسألة من المسائل تعرض الناس فيها لعادة فتمكنت منهم تلك العادة، وأصبحت تقودهم أن يفعلوها ثم يأتي لينهيها بكلمة. لم تأت الكلمة الفصل إلا في العقيدة. لكن المسائل التي تحتاج لينهيها بكلمة. لم تأت الكلمة الفصل إلا في العقيدة. لكن المسائل التي تحتاج إلى التعود فالحق يتلطف في أن يخرجها خروجاً ميسوراً، بمعنى أنه يجعلها مرحليات كي لا توجد فجوة الانتقال. ويمكننا أن نشبه فجوة الانتقال: مثلما يكون هناك من يدخن السجائر، ويصل معدل تدخينه في اليوم مائة سيجارة، فإذا قلنا له: اجعله خمسين سيجارة، ثم ثلاثين، وهكذا، وبذلك نكون قد وزعنا عادته على بعض الزمن، وبدلاً من أن تكون المسافة بين السيجارة والسيجارة عشر دقائق أو نصف ساعة فلنجعلها ساعة فنكون قد كسرنا جزءاً من الاعتياد، وكذلك مرحليات الأمور الاجتماعية التي تنشأ من رتابة التعود. إن الحق سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} . فالحق يوضح: لم نأت بحاجة جديدة، بل كلها مما عندكم. قد يقول قائل: ما دامت مما عندهم فما الداعي لها؟ . نقول: لأن هناك جديداً في أقضية العصر التي لم تكن موجودة عندهم، والذي زاد هو معالجة تلك الأقضية الجديدة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2285 ولكن أصل الإيمان موجود بالقرآن المعجز الذي ينزل من السماء؛ بالمعجزة بالتوحيد، والقضايا العقدية، كل هذه لا يوجد فيها خلاف. {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب} إلزام لهم بالحجة، وتعني: نحن لا نكلمكم بكلام لا تعرفونه؛ لأنه يقول: {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} إنّهم يعلمون ما معهم جيداً، فكان من الواجب أن يقارنوا ويوازنوا ما جاء لهم من جديد على يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما عندهم، فإن وجدوه مصدقاً لما عندهم فقد انتهت المسألة. ثم انظر إلى التهديد {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} سبحانه يناديهم: بادروا، كما نقول مثلاً: «الحق نفسك وآمن» ويقول الحق: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} . والطمس هو: المحو. فالشيء الذي طمس هو الذي مُحي بعدما كان شيئاً مميزاً، وكلمة «وجوه» وردت في القرآن بمعانٍ متعددة، فتطلق مرة في البدن على ما يواجه وهو «الوجه» كما في قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] . ونطلق الكلمة مرة على القصد والنية والوجهة، قال تعالى: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} [البقرة: 112] . و «أسلم وجهه» تعني قصده ووجهته ونيته. إذن فمرة يطلق الوجه على الوجه الذي به المواجهة، ومرة يطلق على القصد، وما العلاقة بين القصد، والنية، والوجه؟ . لأن الإنسان إذا قصد شيئاً اتجه إليه بوجهه، وسار له. إذن فالوجه يطلق على هذه الجارحة «الوجه» ، ويطلق على القصد والنية. وما دام يطلق بإطلاقين فيطلق على الوجه المعروف فينا، ويطلق على القصد والنية التي توجهنا فالاثنان يصحان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2286 وقوله: {نَّطْمِسَ وُجُوهاً} لأنه سبحانه أوضح: أنا مكرمكم وجعلت لكم سمات تميزكم، بشكلها: حواجب، وعينين، وأنفاً جميلاً، وفَماً، بحيث إنك لو أردت أن تخلق هذه الخلقة، لما استطعت، وسبحانه يعلن: أنا أقدر أن أطمس هذه الوجوه التي تميزكم، بحيث أردها على الأدبار، فيكون الوجه مثل القفا، وتصبح كقطعة اللحم، هذا إن أردنا بقوله: «وجوهاً» ، الوجه الذي في البدن. وإن أردنا بالوجه «القصد» نقول: الذين يشترون الضلالة، والذين يريدون ان تضلوا السبيل، والذين يحرفون الكلام عن مواضعه، والذين يقولون: «راعنا» ، والذين يقولون: «اسمع غير مسمع» . أليس لهم وجهة؟ وما وجهتهم في هذا الموقف وما قصدهم؟ إن قصدهم هو صرف أنفسهم وصرف الناس عن اتباع محمد، فكأنه يقول لهم: بادروا وآمنوا قبل أن نطمس ونمحو قصدكم فلا يصل إلى منتهاه مِنْ صدكم عن الإيمان برسول الله، الحقوا أنفسكم قبل أن يحدث ذلك ونلعنكم ونطردكم من رحمتنا، ولذلك نجد سيدنا عبد الله بن سلام عندما سمع الآية، ذهب إلى رسول الله ويده على وجهه وقال: والله لقد خفت قبل أن أسلم أن يُطْمس وجهي. وهذا دليل على أنه آمن بأن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنفاذ. وفي عهد سيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - نجد كعب الأحبار يذهب له، ولم تكن الآية قد بلغته، فلما بلغته ذهب إلى سيدنا عمر وهو واضع يده على وجهه خائفاً أن يُطمس وجهه قبل أن يعلن إسلامه. وذلك دليل على يقينه من أن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنفاذ. وقد يقول قائل: ولكنْ منهم أناس لم يؤمنوا ولم يحدث لهم هذا الطمس. نقول: أهو قال سنطمس الوجوه فقط؟ لا، بل قال أيضاً: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت} ويكفي أن هناك أناساً اعتقدوا أن الطمس قد يجيء وهم من وجوه أهل الكتاب ومن أحبارهم، فالذين آمنوا برسول الله من هؤلاء كانوا يعلمون كيد اليهود، فسيدنا عبد الله بن سلام قبل أن يسلم قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2287 أنا أحب أن أسلم، ولكني أخشى إن أسلمت أن يقول اليهود فيَّ شرّاً فقبل أن أُسلم أسألهم عني، فسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحبار اليهود: ماذا تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وحبرنا ومجدوه، فلما سمع ابن سلام منهم هذا الكلام قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فقالوا: هو ابن كذا وابن كذا وسبوه، فقال ابن سلام: يا رسول الله ألم أقل لك: إنهم قوم بهت. فقد روى «أن عبد الله بن سلام لما سمع بمقدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتاه فنظر إلى وجهه الكريم فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول شرائط الساعة؟ وما أول طعام ياكله أهل الجنة؟ والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال عليه السلام:» أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته «فقال: أشهد أنك رسول الله حقا فقام ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيُّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر» قال سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ما سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} . {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} فإن أردنا طمس الوجه حقيقة، فهو الأمر الذي خاف منه عبد الله بن سَلام وكعب الأحبار، هذا ذهب إلى رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2288 وذاك ذهب إلى عمر، وكل منهما كان يمسك وجهه خشية أن يطمس، إذن فقوله: {نَّطْمِسَ وُجُوهاً} أي نجعلها مثل «القفا» مجرد قطعة لحم من غير تمييز، أو نحول بينهم وبين قصدهم أي لا نمكنهم من الوصول إلى ما يريدون من صدهم الناس عن الإيمان برسول الله. . {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ} أو أن نطردهم من رحمتنا ومن ساحة إيماننا، فيقول الحق: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} [البقرة: 7] . ما داموا هم قد كفروا نقول لكل منهم: ألم تكن تريد أن تكفر؟ والله سيزيد لك الختم على قلبك وسنعينك على هذه الحكاية أيضاً قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} [البقرة: 10] . فإذا كنت أنت تريد هذه فسنعطيك ما في نفسك {فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت} وسبحانه يخاطب اليهود، واليهود يعرفون قصة السبت ويعرفون أنها واقعة حدثت، وطردهم الله وأهلكهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً عظيماً. إذن فهو لا يأتيهم بمسألة وعيد بدون رصيد، لا، فهذا وعيد يسبقه رصيد. . أنتم - يا معشر يهود - تؤمنون به وتذكرونه وله تاريخ عندكم {كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت} ، وقصة أصحاب السبت معروفة وإن كانت ستأتي في سورة أخرى، و «السْبت» وهو السكون والراحة، ومنه السُّبات أي النوم، فسبت يسبت يعني سكن واستقر وارتاح. {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت} ، واللعن قالوا فيه: إنه الطرد والإهانة، وقالوا في معناه: إنه الإهلاك. والذين يحاولون أن يشككوا في مفهومات آيات القرآن يقولون: أنتم لا تقفون عند معنى واحد للكلمة، إما أن يراد كذا، وإما أن يراد كذا. نقول لهم: أنتم ليست لكم ملكة في اللغة حتى وإن تعلمتم اللغة فتعلمكم للغة تعلم صنعة لا تعلم ملكة. وتعلم الصنعة يعطيك القاعدة ولكن لا يعطيك قدرة وضع اللفظ في معناه الحقيقي ولا بيان المراد منه - واللعن - إذا كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2289 معناه الطرد - كان يجب أن تفهموا أن الطرد يقتضي طارداً، ويقتضي مطروداً ويقتضي مطروداً منه. ومن الذي يَطْرد؟ . ومن الذي يُطرد؟ وعن أي شيء يُطرد؟ . حين تأخذون المعنى على هذا الوضع لا تجدون غضاضة في أن تتعدد معاني الطرد. فهب أنك تجلس للأكل ثم جاءك كلبك الذي تعتز به للحراسة ليحوم حول مائدتك، ماذا تصنع له؟ . تطرده عن المائدة، ذلك طرد. وهب أنّ ابنك مثلاً صنع شيئاً وعندك ضيوف فأردت أن تخرجه من المجلس وقلت له: اذهب عند أمك، هذا طرد. وإذا كان ذنب الابن كبيراً ولك سيطرة فأنت قد تخرجه من البيت فلا يجلس فيه، وهذا طرد. وإذا كان ذنب الابن لا يُحتمل فأنت تخرجه من الحياة كلها فتكون قد أبعدته من الحياة كلها. إذن فكل ذلك طرد. فإن أردنا الخزي والهوان يتأتى اللعن، وإن أردنا الإهلاك فقد هلك منهم الكثير في المعارك ونالوا الخزي؛ لأننا سبينا نساءهم وبناتهم، وقهرناهم، وأهلكناهم، وأخرجناهم من ديارهم إلى بلاد الشام وإلى أذرعات، وأهلكهم الله بالموت. إذن فكل معاني الطرد تتأتى. فقد جاء يمس كل الذي حدث لهم، ولكنه يختلف باختلاف الطارد، وباختلاف المطرود، وباختلاف المطرود منه. وحين يقول الحق: {كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت} فهذا يدل على أن اللعن له أشياء مختلفة، أنا سآخذ منها لعن أصحاب السبت، والسبت يوم من أيام الأسبوع، أي وحدة زمنية في الأسبوع، ونلحظ أن بقية أيام الأسبوع السبعة فيها إشارات إلى العدد، يوم الأحد يعني واحداً ويوم الاثنين تعني اثنين. وهكذا في الثلاثاء والأربعاء والخميس، ففيه خمسة أيام بأعداد موجودة إلا يومين اثنين لم يؤثر فيهما العدد: يوم «الجمعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2290 ويوم» السبت «، وهذان اللفظان أخذا معاني غير العددية، ولكنهما يأخذان معنى العددية بالبعدية أو القبلية. يعني عندما نقول مثلاً» الخميس «فيكون يوم الجمعة يعني» ستة، إنما لم يقل «ستة» وقال «الجمعة» ويوم «السبت» يكون سبعة، إذن فأنت تستطيع أن تصنع العدد البعدي بعد الأعداد: واحد. اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، لكننا نجد أن لهما اسمين مختلفين؛ لأن في كل واحد منهما حدثاً غلب العددية. ف «الجمعة» للاجتماع، فتركنا كلمة «ستة» وأخذنا بدلا منها «الجمعة» ، و «السبت» للسكون؛ لأن مادتها في اللغة: سبت يسبت، أي سكن وهداً ولم يتحرك، مثل قول الحق: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} [النبأ: 9] . أي سكوناً وهدوءاً. والحق سبحانه وتعالى حين يريد ابتلاء بعض خلقه ليعْلَم منازلهم منازلهم من الإيمان واليقين والانصياع لأوامر الحق، يأتي فيحرم حدثاً في زمن وهو مباح في غير ذلك الزمن، فقد يحرم الصيد في أحد الأيام وكان مسموحاً بأن يصطادوا في كل يوم. وكانوا يأتون بالسمك كرزق من البحر، فجاء في هذا اليوم خصوصاً وقال لهم: لا تصطادوا في هذا اليوم، أي أن يسكنوا عن الحركة، هذا هو «السبت» بمعنى السكون، و «أصحاب السبت» هم الجماعة الذين اجتمعوا على حادثة تتعلق بالسبت أو تتعلق بالسكون، أي تتعلق بعدم العمل وبعدم الحركة، وقضية أصحاب السبت شرحها الحق وتكلم عنها إجمالياً في سورة البقرة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت} [البقرة: 65] . وقوله هنا: {كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت} ، لكن القصة بالتفصيل ذكرها الحق سبحانه وتعالى وقال مخاطباً رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالله الآمر، والرسول هو الذي سأله الله أن يسأل، والمسئولون هم أصحاب الحكاية وهم اليهود، وحين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2291 يطلب الحق خبراً مؤكداً من الأخبار، قد يلقيه خبراً فيصدقه أهل اليقين الذين يثقون في الله ويصدقونه، وقد لا يتركه خبراً، بل يأتي به في صيغة الاستفهام؛ لأنه واثق أن المستفهم منه لا يجد جواباً إلا الحق الذي يريده سبحانه وتعالى، وعندما يقول ربنا لنبيه: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] . ذلك حدث لا يستطيعون إنكاره، وكان من الممكن أن يقص الله الحدث من عنده، ولكنه يريد أن يوثق الحدث توثيقاً لا يحتمل إنكار منكر ولا مكابرة مكابر، فأوضح: أنا لا أقول عن الحدث، ولكن يا محمد اسألهم أنت عن هذه الحادثة فسيكون جوابهم جواباً مطابقاً لما حدث؛ لأنها مسألة واضحة لا تنكر. {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} . والقِرَى هو أن تكرم واحداً مقبلاً عليك كضيف مثلاً. ولكن ليس عندك ما يعطيه «قرى كاملاً» أي ما يقيم حياته لأيام أو شهور، بل عندك «قَرْيَة واحدة» أي أكلة واحدة تكفيه لوجبة واحدة، فما دام قد مر عليك فأنت تعطيه قرية واحدة - وجبة واحدة - فإن كانت البلد «أم القرى» : فيكون فيها حاجات كثيرة؛ أو لأنها أعظم القرى شأناً والقَرْية التي جاء ذكرها في سورة الأعراف يتم تعريفها بأنها: «حاضرة البحر» والحاضر هو القريب. فيقال: حضر فلان أي أصبح على مقربة مني، و «الحاضرة» أيضاً هي: التي إن طلبت فيها شيئاً وجدته، كما قال شوقي - رحمة الله عليه: ليلي بجانبي كل شيء إذن حضر. فكذلك «الحضر» معناه: أن كل حاجة فيها موجودة، أما البادية فحاجاتها تكون على قدر أهلها فقط، ولذلك ف «حضر» ضد «بادية» وأخذوا منها «الحواضر» مثل العواصم الآن، إذن فقوله «حاضرة البحر» تأخذها بمعنى قريبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2292 من البحر، أو أنها هي البلد المتحضر على البحر، أو الجامعة لأنواع الخير على البحر، وهي التي كانت بين «مدين» و «الطور» واسمها «أيلة» . وقصتهم: أن الله أراد أن يبتليهم بشيء وهو: تحريم الصيد في ذلك اليوم، وما دامت «حاضرة البحر» ، فرزقهم على الصيد، فقال: لا تصطادوا في هذا اليوم، ولكن الله حين يريد أن يحكم الابتلاء ليعلمَ علم إبراز لخلقه مدى تنفيذهم للابتلاء، وإلا فهو عالم ماذا سيفعلون. فقال: لا تصطادوا في هذا اليوم. قد يقول قائل: لماذا حرم هذا الحدث في ذلك الزمن؟ . نقول له: أنت تريد أن تعلم من الله أن كل تحريم له مضارة، نقول لك: لا، فقد يكون تحريم ابتلاء واختبار، ولذلك قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] . «الطيبات» هي الحلال، لكنهم هم فعلوا ما يستحقون عليه العقاب، فقلنا لهم: ما دمتم تجاوزتم حدودكم وأخذتم ما ليس حلاً، فجعلتموه حلاً فلا بد أن أجعل من الحل الذي هو لكم حراماً عليكم، هذه مقابل تلك، فلماذا اجترأت على محرم فأحللته؟ وما دمت قد فعلت ذلك ولم ترتض تحليلي وتحريمي فأنا سآخذ شيئاً من الذي كان حلاً لك وأحرمك منه. إذن فلا يتطلب من كل تحريم أن يكون فيه مضارة، إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يكون الإيمان له أصول ثابتة، ولذلك يقول: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ خَسِرَ الدنيا والأخرة ذلك هُوَ الخسران المبين} [الحج: 11] . إذن فالحق لا يريد من الناس أن يعبدوه على حرف. . أي على طرف من الدين بل في وسطه وقلبه. . أي أنهم على قلق واضطرابات في دينهم لا على سكون وطمأنينة، كالذي على طرف العسكر والجيش. . فإن أحسٍّ بظفر ونصر وغنيمة سكن واطمأن، وإلاِّ فرّ وطار على وجهه. هو يريد منك إيماناً حقاً، ولذلك فبعض الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2293 يقول: سأزكي لأزيد من مالي. نقول له: اخرج من بالك ظنك أن مالك سيزيد، بل أنت تزكي لأن الله طلب منك أن تزكي. أما أن يزيد مالك فهذا شيء آخر، فلعل الله يبتلي إيمانك ويريد أن يرى: أأنت مقبلٍ على الحكم لأن الله قاله، أم لأنه سيعطيك ربحاً زائداً؟ وسبحانه حين يعطي ربحاً زائداً ستزكيه أيضاً، لكن هو يريد من يقبل على الحكم لأنه سبحانه قد قاله. وقد حرم الحق سبحانه وتعالى عليهم الصيد يوم السبت بظلم منهم، وكان من الجائز جداً ألاَّ يكون هناك مغريات على المخالفة، ولكنه أراد أن يبلوهم بلاءً حقاً فيأتي في اليوم المحرم فيه الصيد ويُكْثِر من السمك، ترى السمكة ظاهرة مثل شراع المركب، وهذا معناه إغراء بالمخالفة، فلو لم يظهر السمك في هذا اليوم لكانت المسألة عادية، لكنهم حين ينظرون السمك وقد «شرع» مثل المراكب سابحاً في الماء، {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} . إذن فالابتلاء جاء من أكثر من زاوية: يوم سبتهم تأتي الحيتان شُرَّعاً، وفي غير يوم السبت لا تأتي، وهذا الأمر يجعلهم في حالة قلق. فلو كانوا على اليقين والإيمان لالتزموا بالأمر. والله سبحانه وتعالى يريد أن يمحصهم التمحيص الدقيق، فماذا هم فاعلون؟ هم يريدون أن ينفذوا الأمر، إنما طمعهم المادي يصعب عليهم ألا يصطادوا هاذا السمك الذي يأتيهم يوم السبت، ولو أنهم وثقوا بعطاء الله في المنع لنجحوا في الاختبار. ذلك أن الحق قد يجعل في المنع عطاء، لكن مَن الذي يتنبه لذلك؟ لم يقولوا: ما عند الله خير من هذا السمك الشُّرع الذي يأتينا ويلفتنا. لكنهم احتالوا حيلاً، مثلاً: صنعوا من الإسلاك والحبال «مصايد» و «جُبًى» . و «ملاقف» يحجزون بها هذا السمك الشُّرع في الماء ثم يأتون في اليوم التالي فيجدونه محبوساً، وظنوا أنهم بذلك احتالوا على الله ولم يتفهموا معنى الصيد، فالصيد هو جعل السمك في حيازتك، وما دمت قد عملت بحيث تتمكن من حيازة السمك في أي وقت تكون قد اصطدت. إذن فهم يحتالون على الله؛ ولذلك قال سبحانه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2294 {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164] . وهذا دليل على وجود عناصر خير فيما بينهم، وقالت عناصر الخير: اتقوا الله. فقال لهم آخرون: لِمَ تعظون قوماً لله مهلكهم، إذن فهناك ثلاث جماعات: جماعة خالفوا، وجماعة أرادوا أن يعظوهم كي لا يقعوا في المخالفة، وجماعة لاموا من يعظونهم وقالوا: دعوهم ليهلكهم الله أو يعذبهم. . «الله مهلهكم أو معذبهم عذاباً شديداً» ، فقالت الجماعة التي تعظ: نحن نريد بالوعظ أن يكون لنا عذر أمام الله بأننا لم نسكت على المنكر ونحن نعمل لأنفسنا. «قالوا معذرة إلى ربكم» وأيضا فلعلهم يتقون ربّهم بترك ماهم فيه من المعصية والفسق. فماذا حدث؟ . . يقول الحق: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] . وما دام قد قال: «أنجينا» ، فهناك مقابلها وهو «أهلكنا» ، إذن فجاء هنا «اللعن» بمعنى الهلاك. ويختم الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} نعم لأن الحق سبحانه وتعالى بقدرته الشاملة وصفات جلاله الكاملة، لا يتخلف شيء في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2295 وجوده عن أمره، فإذا وعد بشيء فلا بد أن يحدث، فأمر الله غير أوامر البشر، فأوامر البشر هي التي تتخلف أحياناً سواء أكانت وعداً أم وعيداً، لأنك قد تعد إنساناً بخير، ولكنك ساعة آداء الخير لا تستطيعه، فتكون قدرتك هي التي تحتاج إلى أداء الخير. أو توعد إنساناً وتهدده بشرّ، وستعمل فيه كذا غداً، وقد يأتيك غداً مرض يقعدك فلا تستطيع إنفاذ وعيدك. إذن فأنت قد لا تستطيع إنفاذ شيء من وعدك ولا شيء من وعيدك؛ لأن قدرتك من الأغيار، وما دامت قدرتكم من الأغيار فقد توجد أو لا توجد. لكن الحق سبحانه وتعالى إذا قال بوعد أو قال بوعيد أيوجد شيء يغير هذا؟ لا. إذن فساعة يقول ربنا بوعد أو وعيد فاعرف أن هذا سيحدث في الوعد، أما في الوعيد فإن الله قد يتجاوز عنه كرما وفضلا ما عدا الشرك بالله. ونعرف أن الحق سبحانه وتعالى يوزع الأحداث على الزمن، فلا زمن يقيده؛ لأنه يملك كل الزمن، أما أنت كواحد من البشر فتتكلم عن الحدث حسب زمانه. فإن كان هناك حدث قد حصل قل أن تتكلم أنت عنه، فتقول: فعل «ماض» . أي أن الحدث قد وقع في زمن قبل زمن تكلمك، وإن كان الحدث يقع في وقت تكلمك، كان الفعل «مضارعا» ، والمضارع صالح للحال وللاستقبال، تقول: فلان يأكل. وذلك يعني أنه يأكل الآن. وإن قلت: «سيأكل» - أي أنه سيأكل بعد قليل، فإذا قلت عن أمر مستقبل إن هذا الأمر سيحدث، أتملك أنت أن يحدث؟ لا. إذن فالكلام منك على الاستقبال قد يكذب وقد يصدق، لكن إذا قال الحق وأخبر عن أمر مستقبل وعبّر عنه بالفعل الماضي فمعنى ذلك أنه حادث لا محالة؛ ولذلك فالزمن عند ربنا مُلغى. وعندما نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] . «وأتى» هذه فعل ماض، وقوله: «أتى» يدل على أنه أمر قد حدث قبل أن يتكلم، وقوله: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} دلّ على أنه لم يحدث، فالذي يشكك في القرآن يقول: ما هذا الذي يقوله القرآن.؟ يقول: «أتى» وهو لم يأت؟ . . نقول له: هذا الكلام عندك أنت. لكن إذا قال الله: إنه «أتى» فهو آتٍ لا محالة، فاحكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2296 على الحدث المستقبل من الله على أنه أمر كائن كما يكون كائناً ماضياً، ما دام قال فلا رادّ لأمره. {أتى أَمْرُ الله} فهي تعني سيأتي. ولا توجد قدرة في خلقه تصرف مراده أو تعجزه عن أن يفعل. وقوله سبحانه: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} جاء لأنه قال من قبل «أو نلعنهم» هذه مستقبل. وقد يقول قائل: أن «نلعنهم» تعني أن اللعنة لم تأت وقد لا تحدث، ونقول: لا؛ لأن أمر الله كان مفعولاً، فإياك أن تأخذ «نلعن» هذه التي للمستقبل كي تطبقها عند ربنا، لأن الحق سبحانه وتعالى يوضح لك: أنت الذي عندك المستقبل، والمستقبل قد يقع منك أو لا يقع؛ لأنك لا تملك أسباب نفسك، تقول: سأعمل الشيء الفلاني غداً. وقد يأتي غداً وتكون أنت غير موجود هذه واحدة، أو تقول: سأقابل فلانا. وفلان هذا قد لا يكون موجوداً فقد يموت، أو قد يتغير رأيك ويأتيك الشيء الذي كنت تطلبه قبل أن تتكلم مع ذلك الإنسان، أو قد تقول: أنا سأنتقم من فلان، وعندما يأتي وقت الانتقام يهدأ قلبك. إذن فأنت لا تملك شيئاً من هذا، فلا يصح أن تجادل؛ ولذلك يعلمنا الله الأدب مع الأحداث ومع الكون ومع المكون، ويخرجنا عن أن نكون كذابين فيقول لرسوله: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 - 24] . يعلمك الحق ذلك حتى لا تكون كذاباً، فإن قلت: أنا فاعل ذلك غداً ثم لا تفعله، وما دمت لا تفعله فتكون كذاباً مجترئاً؛ لأنك افترضت في نفسك القدرة على الوجود. وكل حدث من الأحداث مثلما قلنا: يحتاج إلى «فاعل» ، ويحتاج إلى «مفعول» يقع عليه، ويحتاج إلى «زمن» ويحتاج إلى «سبب» ، ويحتاج إلى «قدرة» تبرزه في المستقبل، قل لي بالله عليك: ماذا تملكه من عناصر الفعل؟ أنت لا تملك وجود نفسك ولا تملك وجود المفعول ولا تملك السبب، ولا تملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2297 القدرة، ولا تملك شيئاً، فأدباً منك عليك أن تقول: «إن شاء الله» فإن لم يحدث تقول: أنا قلت إن شاء الله وهو لم يشأ، فتكون قد خرجت من التبعة، ولم تكن كذاباً. إذن فقول الحق: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} لأنه قال: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} . و «نلعن» هذا فعل مضارع ويأتي من بعد ذلك، فواحد قد يقول: إنه سبحانه قال: سيلعن، فهل ستحقق اللعنة؟ نقول له: نعم؛ لأنه قال: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} . وكذلك ساعة تقرأ أو تقول: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} . فعليك أن تضيف: ولا يزال غفوراً رحيماً، لأن صفة الرحمة لم توجد له ساعة وجد المرحوم، لا. بل معنى «رحيم» أنه سبحانه يرحم غيره والذي وُجد ليتلقى رحمته سبحانه إنما جاء بعد أزليَّة رحمة الله ومغفرته. فسبحانه أزليّ قديم. والصفة أزلية وقديمة بقدمه - سبحانه قبل أن يوجد من يرحمه، وهو لا تأتيه أغيار. وما دام سبحانه رحيماً قبل أن يُوجِدَ مرحوماً له فإذا أوجد مرحوماً له، أتنحلّ الصفة أم تبقى؟ إنها باقية دائماً فكان الله ولا يزال غفوراً رحيماً، {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} نعم، لأنه قد يفعله بأسبابه وقد يفعله بدون أسباب فالأمر متروك لمشيئته فإما أن يوجد الشيء من غير سبب أو يوجده بسبب، والشيء الموجود بالسبب مخلوق بالمسبب فسبحانه خلق الأسباب. وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه إلى قضية عقدية أساسية في صلة الإنسان بالحق سبحانه وتعالى. يقول: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2298 هذه من أرجي الآيات في كتاب الله، ولذلك فحينما سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما موجبات الإيمان؟ أي ما الذي يعطينا الإيمان؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2298 «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» . وعن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» . ونحن نقول إن من يشرك بالله فهو يرتكب الخيانة العقدية العظمى، وقد أخذنا هذا المصطلح من القوانين الوضعية، وإن كانت القوانين الوضعية ليس غرضها أن تؤكد قضايا دينية، لكن غفلتهم تجعلنا نلتقط منها أنها تؤكد القضايا الدينية أيضاً. هب أن جماعة قاموا بحركة، وبعد ذلك استغل واحد منهم الحركة في نفع خاص له، وواحد آخر استغل الحركة في أن تكون له لا للآخر، أي ينقلب عليه، فالأول القائم على النظام يسميها خيانة عظمى، أما من لا يقاوم بغرض خلع الحاكم ولكنّه يظلم الناس فقد يعاقبه الحاكم على ما حدث منه وليس على الخيانة العظمى. إذن ففي قانون البشر أيضاً خيانة عظمى، وفيه انحراف وهو الذي لا يتعرض للسيادة، لكن أي حركة تتعرض للسيادة يكون فيها قطع رقاب، وكل أمر آخر إنما يؤخذ بدرجة من العقوبة تناسب ذنبه. فالحق سبحانه وتعالى يوضح: أصل القضية الإيمانية أن الله سبحانه وتعالى يريد منكم أن تعترفوا بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له، وحين تعترف بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له. فأنت تدخل حصن الأمان، ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الشريف: «أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك منهما إلا دخل الجنة» . وأبو ذر عندما قال للنبي في محاورة بينهما حول هذه الآية، قال له: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق (ثلاثا) » الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2299 ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر. لقد كان أبو ذر غيوراً على حدود الله، فهل ساعة قال رسول الله: على رغم أنف أبي ذر؛ هل هذه أحزنت أبا ذر؟ لا لم تحزنه، ولذلك عندما كان يحكيها ويقولها: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن رغم أنف أبي ذر وهو مسرور، لماذا؟ لأنها فتحت باب رحمة الحق، لأنه إذا لم يكن هذا فما الفارق بين من اعتقدها وقالها وبين من لم يقلها؟ فلا بد أن يكون لها تمييز. وكل جريمة موجودة في الإسلام - والحق سبحانه قد جرمها - فهذا يعني أنها قد تحدث. مثال ذلك. . يقول الحق تبارك وتعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وهذا يعني أنه من الجائز أن يسرق المؤمن، وكذلك قد يزني في غفلة من الغفلات، وفي أسس الاستغفار يأتي البيان الواضح: من الصلاة للصلاة كفارة ما بينهما، الجمعة للجمعة كفارة، الحج كفارة، الصوم كفارة. عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر» . أي أن ربنا قد جعل أبواباً متعددة للمغفرة وللرحمة، وهو سبحانه يقول: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} وهذه المسألة ليست لصالحه إنما لصالحكم أنتم حتى لا تتعدد آلهة البشر في البشر ويرهق الإنسان ويشقى من كثرة الخضوع لكل م كان قويا عنه، فأعفاك الله من هذا وأوضح لك: لا، اخضع لواحد فقط يكفك كل الخضوع لغيره، واعمل لوجه واحد يكفك كل الأوجه، وفي ذلك راحة للمؤمن. إن الإيمان إذن يعلمنا العزة والكرامة، وبدلاً من أن تنحني لكل مخلوق اسجد للذي خلق الكون كله بصفات قدرته وكماله، فلم تنشأ له صفة لم تكن موجودة هل أنتم زدتم له صفة؟ لا. فهو بصفات الكمال أوجدكم وبصفات الكمال كان قيوماً عليكم، فأنتم لم تضيفوا له شيئاً، فكونك تشهد أن لا إله إلا الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2300 ما مصلحتها بالنسبة لله؟ إن مصلحتها تكون للعبد فحسب. ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يجتمعوا كل أسبوع مرة؛ لأنك قد تصلي فرضاً فرضاً في مصنعك أو في مزرعتك أو في أي مكان، إنما يوم الجمعة لا بد أن تجتمع مع غيرك، لماذا؟ لأنه من الجائز أنك تذل لله بينك وبينه، تخضع وتسجد وتبكي بينك وبين الله، لكنه يريد هذه الحكاية أمام الناس، لترى كل من له سيادة وجاه يسجد ويخشع معك لله. وفي الحج ترى كل من له جاه ورئاسة يؤدي المناسك مثلك، فتقول بينك وبين نفسك أو تقول له: لقد استوينا في العبودية، فلا يرتفع أحد على أحد ولا يذل له بل كلنا عبيد الله ونخضع له وحده. إذن فالمسألة في مصلحة العبد، {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ، لأنه لو غفر أن يشرك به لتعدد الشركاء في الأرض، وحين تعدد الشركاء في الأرض يكون لكل واحد إله، وإذا صار لكل واحد إله تفسد المسألة، لكن الخضوع لإله واحد نأتمر جميعاً بأوامره يعزنا جميعا. . فلا سيادة لأحد ولا عبودية لأحد عند أحد، فقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} . . هذا لمصلحتنا. {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} . وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أتى وحشيٌّ وهو قاتل سيدنا حمزة في غزوة أحد، أتى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله فقال رسول الله: «أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله قال: فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت هل يقبل الله مني توبة؟ فصمت رسول الله حتى نزلت: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 68 - 70] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2301 فتلاها عليه فقال: أرى شرطاً فلعليَّ لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48] . فدعا به فتلاعليه قال: فلعلِّي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} [الزمر: 53] . فقال نعم: الآن لا أرى شرطاً فأسلم. إذن فالمسألة كلها تلطف من الخالق بخلقه، واعتبار عمليات الغفلة عمليات طارئة على البشر، وما دام الحق يقنن تقنينات فمن الجائز أنها تحدث، لكن إذا حدثت معصية من واحد ثم استغفر عنها، إياك أن تأتي بسيرتها عنده مرة أخرى وتذكره بها وافرض أن واحداً شهد زوراً، افرض أن واحداً ارتكب ذنباً، ثم استغفر الله منه وتاب. إياك أن تقول له: يا شاهد الزور؛ لأنه استغفر من يملك المغفرة، فلا تجعله مذنباً عندك؛ لأن الذي يملكها انتهت عنده المسألة. لماذا؟ لكيلا يذلّ الناس بمعصية فعلت، بل العكس؛ إنّ أصحاب المعاصي الذين أسرفوا على أنفسهم يكونون في نظر بعض الناس هينين محقرين. ولذلك نقول: إن الواحد منهم كلما لذعته التوبة وندم على ما فعل كُتبت له حسنة، فعلى رغم أنه ذاق المعصية لكنه مع ذلك تاب عنها، وهذا هو السبب في أن الله يبدل سيئاتهم حسنات، وعندما نعلم أن ربنا يبدل سيئاتهم حسنات فليس لنا أن نحتقر المسرفين على أنفسهم. بل علينا أن نفرح بأنهم تابوا، ولا نجعل لهم أثرا رجعيا في الزلة والمعصية. {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} و» الافتراء «هو الكذب المتعمد. لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2302 هناك من يقول لك قضية على حسب اعتقاده، وتكون هذه القضية كاذبة، كأن يقول لك: فلان زار فلاناً بالأمس. هو قال ذلك حسب اعتقاده بأن قالوا له أو رأى أثر للزيارة، على الرغم من أن مثل هذه الزيارة لم تحدث فيكون كذباً فقط، أما الشرك فهو تعمد الكذب على الله وهذا يطلق عليه: {افترى إِثْماً عَظِيماً} لأنه مخالف لوجدانية الفطرة، كأن وجدانية الفطرة تقول: لا تقل إلا ما تعرفه فعلاً وأنت متأكد بل عليك ألا تخالف فطرتك متعمدا وتجعل لله شريكا. والحق سبحانه وتعالى عندما يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إما أن تكون هذه الكلمة صادقة فننتهي، وإما ألا تكون صادقة - والعياذ بالله - أي أن هناك أحداً آخر معه، وهذا الآخر سمع أن هناك واحداً يقول: لا إله إلا أنا. أسكت أم لم يسمع؟ إن لم يكن قد سمع فيكون إلهاً غافلاً، وإن كان قد سمع فلماذا لم يعارض ويقول: لا، لا إله إلا أنا، ويأتي بمعجزة أشد من معجزة الآخر ولم يحدث من ذلك شيء إذن فهذه لا تنفع وتلك لا تنفع، ف «لا إله إلا الله» حين يطلقها الله ويأتي بها رسول الله ويقول الله: أنا وحدي في الكون ولا شريك لي، ولم ينازعه في ذلك أحد فالمسألة صادقة لله بالبداهة ولا جدال. {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} والافتراء كما يكون في الفعل وفي الكلام ويكون في الاعتقاد أيضاً. «إثم عظيم» ، وهذا يعني أن هناك إثما غير عظيم، «الإثم العظيم» هو الذي يُخلّ قضية عقدية واحدة في الكون تشمل الوجود كله هي أنه لا إله إلا الله. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عوْداً على هؤلاء اليهود: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2303 وتقدم أن أشرنا إلى قول الحق: «ألم تر» ، فإن كانت الصورة التي يخاطب عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرئية أمامه تكن الرؤية على حقيقتها، وإن لم تكن مرئية أمامه وكان مراد الحق سبحانه أن يعْلمه بها وهي غير معاصرة لرؤياه فالحق يقول: «أَلَمَ تَرَ» يعني: ألم تعلم، وكأن العلم بالنسبة لخبر الله يجب أن يكون أصدق مما تراه العين؛ لأن العين قد تكذبه والبصر قد يخدعه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} و «التزكية» هي أولاً: التطهير من المعايب وهذا يعني سلب النقيصة، وبعد ذلك إيجاب كمالات زائدة فيها نماء، والتزكية التي زكُّوا بها أنفسهم أنهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] . وجاء الرد عليهم في هذه القضية بقوله الحق: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18] . يعني: إن كنتم أحباءه وأبناءه فلماذا يعذبكم؟ إذن فهذه قضية باطلة، ثم ما فائدة أن تقولوها لنا؟ أنملك لكم شيئاً؟ إذا كنتم تكذبونها على مَن يملك لكم كل شيء وهو الله - سبحانه - فما لنا نحن بكم؟ والتزكية التي فعلوها أنهم مدحوا أنفسهم بالباطل وبرأوا أنفسهم من العيوب وادعوا أنهم أبناء الله وهم ليسوا أبناء الله وليسوا أحباءه، وقالوا أيضاً: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] . وتلك أيضاً قضية باطلة، وهنا نسأل: هل إذا زكى الإنسان نفسه بحق تكون تلك التزكية مقبولة؟ . نقول: علينا أن نسأل: ما المراد منها؟ إن كان المراد منها الفخر تكن باطلة، لكن تكون التزكية للنفس واجبة في أمر يحتم ذلك. مثاله: عندما تركب جماعة زورقاً ويكون القائد أو من يجدف أو يمسك الشراع متوسط الموهبة، ثم قامت عاصفة ولا يقوي متوسط الموهبة على قيادتها هنا يتقدم إنسان يفهم في قيادة الزوارق أثناء العواصف ويقول لمتوسط الموهبة: ابتعد عن القيادة فأنا أكثر فهماً وكفاءة وقدرة منك على هذا الأمر ويزحزحه ويمسك القيادة بدلاً منه، هذه تزكية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2304 للنفس، وهي مطلوبة؛ لأن الوقت ليس وقت تجربة، وهو يزكي نفسه بحق، إذن فهناك فرق بين التزكية بالباطل وبين التزكية بالحق. ونحن نعلم قصة سيدنا يوسف، ونعلم قصة رؤيا الملك حيث رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف!! وكان المفروض العكس، انظر إلى الملحظية؛ لأن سنين الجدب ستأكل سنين الخصب، لكن من الذي يتنبه إلى رموز الرؤيا. فتعبير الرؤيا ليس علماً. بل هبة من الله يمنحها لأناس ويجعلهم خبراء في فك رموز - شفرة - الرؤيا، ودليل ذلك أن الملك قال هذه الرؤيا للناس فقالوا له: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} ، و «أضغاث» مفردها «ضغث» وهو الحشيش المخلوط والمختلف، لكنهم أنفصفوا فقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44] . لقد أنصفوا في قولهم. لأن الذي يقول لك: لا أعلم فقد أفتى، فما دام قد قال: لا أدري فسيضطرك إلى أن تسأل لكن سواه، إن قال لك أي جواب فستكتفي به وتتورط، إذن فمن قال: لا أدري فقد أجاب. فهم عندما قالوا: أضغاث أحلام فقد احتالوا واحتاطوا لأنفسهم أيضا وقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ} ، وكان الحق سبحانه وتعالى قد صنع التمهيد ليوسف وهو في السجن عندما دخل عليه الفتيان: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] . ما الذي جعل الفتيين يعرفان أن يوسف المسجون هذا يعرف تأويل الأحلام؟ لقد قالا وأوضحنا العلة: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2305 ومعنى ذلك أنهما شهدا سمته وسلوكه، وعرفا أنه إنسان مسالم، فلما حَزَبَهما واشتد عليهما أمرٌ يتعلق بذاتهما قالا: لا يوجد أحسن من هذا الإنسان نسأله، وقلت ولا أزال أكررها: إن القيم هي القيم، والصادق محترم حتى عند الكذاب، والذي لا يشرب الخمر محترم عند من يشرب بدليل أنهما عندما حَزَبهما أمر قالا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} . وهل يحكم واحد على آخر أنه محسن إلا إذا كان عنده مقياس يعرف به الحسن ويميزه عن القبح؟ وعندما قالا ذلك الأمر لسيدنا يوسف، كان من الممكن أن يجيبهما إلى تأويل رؤياهما، ولكن هذه ليست مهمته، بل فكر: لماذا لا يستغل هو حاجتهما إليه لأمر يتعلق بشخصيهما، وبعد ذلك ينفذ إلى مرادة هو منهما قبل أن ينفذا إلى مرادهما منه، فهو نبي ومن سلالة أنبياء فأوضح لهما: وماذا رأيتما من إحساني؟ إن عندي أشياء كثيرة: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} [يوسف: 37] . فقد زكى نفسه، لكن انظروا لماذا زكى نفسه؟ هو يريد أن يأخذ بيدهما إلى ربه هو، بدليل أنه قال: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي} [يوسف: 37] . إذن فالتزكية هنا مطلوبة، وقد ردّها لله، وأعلن أن تلك ليست خصوصية لي، بل كل واحد من خلق الله يستطيع أن يكون مثلي: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} [يوسف: 37] . وبعد ذلك قال: {واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2306 إذن فمن الممكن أن تكونوا مثلي إذا ما اتبعتم هذا الطريق، بعد ذلك قال لهم: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39] . إذن فهو زكى نفسه أمامهما لكي يأخذهما إلى جانب من زَكَّى، وهو الحق سبحانه وتعالى، وبعد ذلك عندما علم الملك قال: ائتوني به أستخلصه لنفسي، ويكون مقرباً مني. ثم بعد ذلك جاءت سنون الجدب التي تنبأ بها أولاً في تفسير الرؤيا، وأشار عليهم بضرورة الادخار من سنين الخصب لسنين الجدب، لقد كانت التجربة إخباراً لأشياء ستحدث، فلما وقعت علم أن المسألة ليست تجارب بل هي مسألة دقيقة. . فقال للملك: {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} [يوسف: 55] . إذن فقد زكى نفسه، وجاء بالحيثية: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] . لأن هذه المسألة تحتاج حفظاً وعلماً، فهي أمر غير خاضع للتجريب، فيجرب واحد فيخيب، ويجرب آخر فيخيب، لا، إنها تحتاج لحفظ وعلم، ومثال ذلك أيضاً عندما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسم الغنائم، قال له المنافقون: اعدل يا محمد! فيقول لهم: والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، فهو يزكي نفسه، إذن فمتى تكون التزكية مطلوبة؟ أولاً: أن تكون بحق، وأن يكون لها هدف عند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2307 من يعلم التزكية وإلى من يعطيك التزكية ويثني عليك بما فيك وما أنت أهل له فتكون هذه تزكية صحيحة؛ ولذلك يقول الحق: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 32] . لأنك تزكي نفسك عند الذي سيعطي الجزاء وهو يعلم، إذن فمن الحمق أن يزكي الإنسان نفسه في غير المواقف التي يحتاج فيها الأمر إلى تزكية تكون لفائدة المسلمين لا لفائدته الخاصة، والحق يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 49] . إنّ الحق سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فمن الممكن أن واحداً يتصنع ويتكلف في نفسه مدّة من الزمن أمامك، لكن هناك أشياء أنت لا تدركها، لكن ربنا عندما يزكي تكون تزكيته، عن علم وعن خبرة، ومع ذلك أحين يزكون أنفسهم، أهذه محت حسناتهم؟ لا. فعل الرغم من أنهم زكوا أنفسهم فالحق لن يأخذهم هكذا، ويضيع حسناتهم ولكنهم «لا يظلمون فتيلا» وهذه مطلق العدالة. ونعرف أن القرآن نزل بلسان عربي على نبي عربي، والذين باشروه أولاً عرب، ونعرف أن أغلب إيحاءاته كانت متوافقة مع البيئة، وكان عندهم «النخل» وهي الشجرة المفضلة؛ لأنها شجرة لا يسقط ورقها، وكل ما فيها له فائدة، فلا يوجد شيء في النخلة إلا وفيه فائدة. عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثَلُ المسلم، حدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البادية ووقع في نفسي أنها النخلة» قال عبد الله فاستحييتُ، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2308 «هي النخلة» قال عبد الله: فحدّثْتُ أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحبُّ إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا «. وللنخلة فوائد كثيرة، فكل ما نأخذه منها نجد له فائدة حتى الليف حولها يحمل الجريد نأخذه ونصنع منه مكانس وليفاً و» مقاطف «و» كراسي «. وحينما يطلب سبحانه وتعالى مثالاً على شيء معنوي فهو يأتي بالشيء المحس في البيئة العربية. {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} و «الفتيل» من «الفتلة» ومن معناها: الشيء بين الأصابع، فأنت حين تدلك أصابعك مهما كانت نظيفة يخرج بعض «الوساخات مِثل الفتلة» ، أو «الفتيل» هو: الخيط في شق نواة البلحة ونواة التمرة، جاء سبحانه وتعالى في القرآن بثلاثة أشياء متصلة بالنواة. ب «الفتيل» هنا، وجاء ب «النقير» : وهو النقرة الصغيرة في ظهر النواة ومأخوذة من المنقار، كأنها منقورة، وجاء ب «قطمير» : وهي القشرة التي تلف النواة، مثل قشرة البيض الداخلية وهي قشرة ناعمة، إذن ففي النواة ثلاثة أشياء استخدمها الله. الفتيل و «النقير» ، و «القطمير» . والحق يقول: {فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} [النساء: 53] . إذن فالحق سبحانه وتعالى أخذ من النواة ثلاثة أشياء ويعطينا من الشيء المحس أمامنا أمثالاً يراها العربي في كل وقت أمامه ويأخذ الحق أيضاً أمثالا من السماء فيأتينا بمثل: «الهلال» ، يقول في الهلال وهو صغير: {كالعرجون القديم} [يس: 39] . فسباطة البلح فيها شماريخ، وفيها يد تحمل الشماريخ، فهذا اسمه «العرجون» ، والعرجون عندما يكون جديداً يكون مستقيماً، لكنه كلما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2309 قَدُمَ ينثني وينحني، فجاء لهم من الهلال في السماء وأعطاهم مثالاً له في الأرض «كالعرجون القديم» ، والعرب قد أخذوا أمثالاً كثيرة، لكن هناك حاجات قد لا يُتنبه إليها مثل قول العربي: وغاب ضوء قُمَيْر كنت أرقبه ... مثل القُلاَمَة قد قُدَّتْ من الظُّفر فساعة تقص أظافرك تجدها مقوسة. لكن هذه المسألة لا يتنبه لها كل واحد، فهو جاء بشيء واضح وقال:: «كالعرجون القديم» إذن فالحق سبحانه وتعالى حين يعطي مثالاً لأمر معنوي فهو يأتي من الأمر المحس أمامك ليقرب لك المعنى، وعندما تأكل التمرة لا تلتفت إلى الفتيلة مما يدل على أنها شيء تافه، والنقير والقطمير كذلك. إذن فربنا أخذ من النواة أمثلة، وأخذ من النخلة أمثلة كي يقرب لنا المعاني. {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} . ويقول الحق بعد ذلك: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2310 وقول الحق {انظُرْ} هي أمر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكل خطاب لرسول الله هو خطاب لأمته، وعرفنا من قبل أن «الافتراء» : كذب متعمد {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} في قولهم عندما أرادوا أن يزكوا أنفسهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] . وقولهم: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2310 {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} ، لماذا؟ لأنك إن تكذب على مثلك ممن قد يصدقك فهذا معقول، لكن إن تكذب على إله فهذه قحة؛ لذلك قال الحق: {وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} . إذن فالكذب مطلقاً هو إثم والكذب المبين: هو الكذب على الله، والمهم أنه لم يُفدك. ثم يقول الحق بعد ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين ... } الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2311 قوله: {أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} يعني عندهم صلة وعلاقة بالسماء وبالرسل، وبالكتب المنزلة من السماء على الرسل التي تحمل مناهج الله، ولو كانوا أناساً ليس لهم مثل هذا الحظ لكان كلامهم هذا معقولاً لانقطاع أسباب السماء عنهم. إنما هؤلاء عندهم نصيب من الكتاب، وأولى مهمات الكتب السماوية أن تربط المخلوق بالخالق، وربط المخلوق بالخالق هو ترتيب لقدرات المخلوق وتنميتها؛ لأن أسباب الله في الكون قد تعزّ عليك، وقد تقفر يدك منها. فإذا لم يكن لك إله تلجأ إليه عند عزوف الأسباب انهرت، وربما فارقت حياتك منتحراً، لكن المؤمن بالله ساعة تمتنع عنه أسبابه يقول: لا تهمني الأسباب، لأن عندي المسبب. إذن فالإيمان بالله يعطيك قوة. والإيمان بالله يقف المؤمنين على أرض صُلبة، فمهما عزّت أسبابك وانتهت فاذكر المسبب. وحين تذكر المسبب تجد آفاق حياتك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2311 رحبة، فالذين ينتحرون إنما يفعلون ذلك لأن الأسباب ضاقت عليهم، وعلموا أنه لا مناص من أنهم في عذاب. لكن المؤمن يقول: يا رب، ومجرد أنه يقول: يا رب، فهذا قول يريحه حتى قبل أن يجاب؛ لأنه التفت إلى مسبب الأسباب حين عزّت عليه الأسباب. وساعة يلتفت إلى مسبب الأسباب عند امتناع الأسباب فهو يأخذ قوة الإيمان من حيث لا يحتسب، إنك بمجرد أنك قلت: يا رب تجد نفسك قد ارتاحت؛ لأنك وصلت كل كيانك بالخالق، وكيانك منه ما هو مقهور لك، ومنه ما هو غير مقهور لك. والكيان نفسه سيأتي في الآخرة ويشهد على الإنسان. ستشهد الأرجل والجلود وغيرها من الأبعاض. لأنها في الدنيا كانت مقهورة لإرادتي، أنا أقول ليدي: افعلي كذا، ولرجلي: اسعي لكذا، وللساني: سب فلاناً، فالله سخر الجوارح وأمرها: يا جوارح أنت خاضعة لإرادة صاحبك في الدنيا. لكن في يوم القيامة أيكون لي إرادة على جوارحي؟ لا، ستتمرد عليّ جوارحي: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] . وتقول الجوارح لنا: أنتم استخدمتمونا في الدنيا وحملتمونا أن نفعل أشياء نحن نكرهها، فدعونا اليوم لنشهد، إنها تخرج أسرارها؛ لأن الملك الآن للواحد القهار: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . انتهت سيطرة الإنسان وليس لأحد غير الله إرادة على الأبعاض. إذن فالنصيب من الكتاب هو أول شيء يربط المخلوق بالخالق، فإذا ارتبط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2312 المخلوق بالخالق قويت أسبابه، ويستقبل الأحداث بثبات، ويأتيه فرج ربنا، وعندما نقرأ القرآن يجب أن نلتفت إلى اللقطات العقدية فيه، فقد عرفنا مثلاً: أن سيدنا موسى عندما أراد أن يأخذ بني إسرائيل من فرعون ويخرج بهم، وقبل أن يصل بهم إلى البحر تنبه لهم قوم فرعون وجاءوا بجيوشهم، وكان قوم فرعون من ورائهم والبحر من أمامهم، فقال قوم موسى إيماناً بالأسباب: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] . بالله أأحد يكذِّب هذه المقولة؟! لا، فماذا قال موسى عليه السلام؟ لم يقل مثلما قال قومه، ولكنه نظر للمُسبب الأعلى فقال بملء فيه: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] . وهل تُكذَّب مقولته؟ لا لا تُكذب؛ لأنه لم يقل: «كَلاَّ» اعتماداً على أسبابه. فليس من محيط أسبابه أن يخرج من مثل هذا الموقف، بل قال: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ، ماذا قال له الله؟ قال له: {اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63] . لم يقل له: اهجم عليهم واغلبهم، لا. بل قال: {اضرب بِّعَصَاكَ البحر} ؛ كي يعطي الشيء ونقيضه، ولتعرف أن مرادات الحق سبحانه وتعالى تعطي الشيء ونقيضه، ولا أحد من البشر يقدر أن يصنع مثل ذلك، فلما قال له: اضرب بعصاك البحر، ضرب موسى البحر بالعصا، وكان موسى يعلم قانون الماء استطراقا وسيولة، لكن ها هي ذي المعجزة تتحقق: {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2313 و «الطود» هو الجبل، والجبل فيه صلابة، والماء فيه رخاوة. فكيف انتقلت الرخاوة إلى صلابة؟ إن الماء مهمته الاستطراق، أي لا يمكن أن توجد منطقة منخفضة والماء أعلاها، بل لا بد أن ينفذ منها، وعندما أطاع موسى أمر الله أراد أن يطمئن بأسباب البشر، فأراد أن يضرب البحر كي يعود البحر مثلما كان؛ حتى لا يأتي قوم فرعون وراءه فقال له ربنا: {واترك البحر رَهْواً} [الدخان: 24] . أي: اتركه كما هو على هيئته قارّاً ساكنا؛ لأنني أريد أن يغريهم ما يرون من اليبس في البحر فينزلوا، فأعيد الماء إلى استطراقه وأُطْبِِقهُ عليهم، فأكون قد أنجيت وأهلكت بالشيء الواحد. يقول الحق: {الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت} وكيف ذلك؟ بعد موقعة أُحد جاء حُيَيّ بن أخطب وكعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق، وأبو رافع. هؤلاء هم صناديد اليهود، وأخذوا أيضاً سبعين من اليهود معهم ونزلوا على أهل مكة، ونقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله. وبعد ذلك نزل كعب ابن الأشرف - زعيمهم - على أبي سفيان وقال له: نريد أن نتعاهد على أننا نقف أمام محمد. فقال أبو سفيان: أنت صاحب كتاب، وعندك توراة، وعندك إيمان بالسماء، وعندك رسول، ونحن ليس عندنا هذا، و «محمد» يقول: إنه صاحب كتاب ورسول، إذن فبينكما علاقة الاتصال بالسماء، فما الذي يدرينا أنك متفق معه علينا في هذه الحكاية؟ إننا لا نؤمن مكرك، ولن نصدق كلامك هذا إلا إذا جئت لآلهتنا وأقمت مراسم العبادة عندها فسجدت لها. و «الجبت والطاغوت» هما صنمان لقريش، وذهب إليهما اليهود أصحاب التوراة الذين عندهم نصيب من الكتاب وخضعوا لهما، أو «الجبت» هو كل من يدعو لغير الله سواء أكان شيطاناً أم كاهناً أم ساحراً، فإذا كان هذا هو «الجبت» ف «الطاغوت» من «طغى» وهو اسم مبالغة وليس «طاغياً» . . بل «طاغوت» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2314 وهو الذي كلما أطعته في ظلم ارتقى إلى ظلم اكثر. . وسواء أكان الجبت والطاغوت صنمين أم إلهين من الآلهة التي يتبعونها، المهم أن وفد اليهود خضعوا لهم وسجدوا، لكي تصدق قريش عداء اليهود لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وبعد ذلك سأل كعب بن الأشرف أبا سفيان: ماذا فعل محمد معكم؟ قال له: فارَق دين آبائه، وقطع رحمه وتركهم وفر إلى المدينة، ونحن على غير ذلك. نحن نسقي الحجيج، ونقري الضيف، ونفك العاني - الأسير - ونصل الرحم، ونعمر البيت ونطوف به. وعظّم أبو سفيان في أفعال قريش {، فقال الذين أوتوا الكتاب - لعداوتهم لمحمد - قالوا لأبي سفيان وقومه: أنتم أهدى من محمد سبيلا} ويوضح ربنا: يا محمد انظر لعجائبهم؛ إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، ومع ذلك فعداوتهم لك ووقوفهم أمام دينك وأمام النور الذي جئت به، جعلهم ينسون نصيبهم من الكتاب، ويؤمنون بالجبت والطاغوت؛ وهم القوم أنفسهم الذين كانوا يقولون للعرب قديماً: إنه سيأتي نبي منكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. لكن ها هم أولاء يذهبون ويؤمنون بالطاغوت والجبت، فهل عند مثل هؤلاء شيء من الدين؟ إن الحق سبحانه يريد أن يطمئن رسول الله بأن هؤلاء انعزلوا عن مدد السماء، فإن نشب بينك وبينهم حرب أو خلاف فاعلم أن الله قد تخلى عنهم لأنهم تركوا النصيب من الكتاب الذي أوتوه. وإياك أن يأتي في بالك أن هؤلاء أصحاب كتاب. إن الحق يطمئن رسوله أنه سبحانه قد تخلي عنهم وأن الله ناصرك - يا محمد - فلا يغرنك أنهم أصحاب مال أو أصحاب علم أو أصحاب ثروات، فكل هذا إلى زوال؛ لأن حظهم من السماء قد انقطع؛ ولأن الشرك قد حازهم وملكهم وضمهم إليه وقد جعلوا العداوة لك والانضمام إلى الكفار الذين كانوا يستفتحون عليهم، ببعثك ورسالتك، ثمناً لأن يتركوا الإيمان. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2315 {أولئك الذين ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2316 وقوله: «أولئك» هي اسم إشارة مكون من «أولاء» التي للجمع، ومن «الكاف» التي هي لخطاب رسول الله، ونحن - المسلمين - في طي خطابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، «أولئك» هي للذين أوتوا نصيبا من الكتاب ويؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أو «أولئك» لكل من اليهود والمشركين، ولنأخذها إشارة لهم جميعاً، في قوله تعالى: {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} و «اللعن» إما أن يكون «الطرد» ، وإما أن يكون «الخزي» وإما أن يكون «الإهلاك» . وكيف يلحق الله الخزي بالكافرين؟ لأنك تجد المد الإسلامي كل يوم يزداد، وهم تتناقص أرضهم: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] . {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} . . إذن فالطارد هو الله، فحين يكون الطارد مساوياً للمطرود، ربما صادف من يعينه، لكن إذا كان الطارد هو الله فلا معين للمطرود، {وَمَن يَلْعَنِ الله} أي من يطرده ربنا {فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى ما دام قد طرده. . فسبحانه يُدخل في رُوع الناس كلهم أن يتخلوا عنه لأي سبب من الأسباب فلا ينصره أحد {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} . ويقول الحق بعد ذلك: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ... } الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2316 وما هي حكاية قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} ؟ إنه - سبحانه - يصفهم بفرط البخل وشدة الشح، أي أنهم - في واقع الأمر - ليس لهم ملك الدنيا وليس لهم - أيضا - ملك الله؛ فالملك له وحده - جل شأنه - يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ولكنهم لو أعطوا ملك الدنيا وملك الله لبخلوا وضنوا بما في أيديهم. كما جاء في قوله سبحانه: {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق وَكَانَ الإنسان قَتُوراً} [الإسراء: 100] . أي أنكم تخشون الإنفاق حتى لا تقل الأموال عندكم، فلو أخذتم خزائن ربنا فستقولون لو أخذنا منها وأعطينا الناس لقلَّت! وفحوى العبارة: أن كل هؤلاء سواء أكانوا كفار قريش أم كبراء اليهود، كانوا يحافظون على مكانتهم وأموالهم؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء ليسوي بين الناس، فمن الذي يحزن؟ الذي يحزن هم الذين كانت لهم السيادة لأنهم لا يريدون أن تتساوى الرءوس، وياليتهم عندما أخذوا السيادة جعلوها خيراً للناس، لكنهم لم يفعلوا. فلو كان لهم الملك والأموال لن يُعطوا للناس نقيراً؛ لأن الإنسان بطبيعته لا ينزل عن جبروته؛ لأن هذا الجبروت يعطيه سلطاناً، وما دام الجبروت أعطاه سلطاناً فلا يلتفت إلى حقيقة الإيمان، فإن خير الخير أن يدوم الخير، فليس فقط أن تكون في خير وسلطة لكن اضمن أنه يدوم، وهذا الدوام ستأخذه بعمر الدنيا وأمدها قليل وعمرك فيها غير مضمون، إذن فدوام الخير هناك في الآخرة: {لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33] . فأنتم إن كنتم تحرصون على هذا الجاه، وتريدون أن يكون لكم هذا الملك والجاه والعظمة فهل أنتم تعطون الناس من خيركم هذا حتى يكون هناك عذر لكم في الحرص على المال بأن الناس تستفيد منكم؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2317 فلماذا تريدون أن يديم ربنا عليكم هذه وأنتم في قمة البخل والشح؟ لا يمكن أن يديمها عليكم. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الفجر يوضح هذه العملية: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] . إذن فالذي عنده نعمة يقول: {ربي أَكْرَمَنِ} ، والذي ليس عنده نعمة يقول {ربي أَهَانَنِ} ، فيقول الحق تعقيباً على القضيتين (كلا) . وما دام سبحانه يقول تعقيباً على القضيتين: (كلا) فمعنى هذا أن كلا الطرفين كاذب؛ فأنت تكذب يا من قلت: إن النعمة التي أخذتها دليل الإكرام، وأنت كذاب أيضاً يا من قلت: عدم المال دليل الإهانة، فلا إعطاء المال دليل الإكرام، ولا سلب المال دليل الإهانة. وهي قضية غير صادقة وخاطئة من أساسها. وقال الحق في حيثيات ذلك: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} [الفجر: 17] . أي عندكم المال ولا تكرمون اليتيم، إذن فهذا المال هو حجة عليكم، فهو ليس إكراما لكم بل سيعذبكم به. ويضيف سبحانه: {وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} [الفجر: 18] . فكيف يكون المال - إذن - إكراماً وهو سيأتيك بمصيبة؟ فعدمه أفضل؛ فالمال الذي يوجد عند إنسان ولا يرعى حق الضعفاء فيه هو وبال وشرّ؛ لأن الحق يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2318 {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 180] . فإن بخلت كثيراً فستطوّق بغُل أشد؛ ولذلك عندما يشتد عليه الغُلّ يقول: يا ليتني خففت هذا الغل، والحق يتساءل في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لماذا يتفقون مع معسكر الشرك، ويتركون النصيب الذي أعطوه من الكتاب، ويذهبون ليقولوا للذين كفروا: أنتم أهدى من محمد سبيلاً مع أنهم يعلمون بحكم ما عندهم من نصيب الكتاب أن محمداً على حق؟ لقد كانوا يحافظون على سيادتهم، ومعسكر الشرك يحافظ على سيادته، ونعلم أن اليهود كانوا في المدينة من أصحاب الثروات، وكانوا يعيشون على الربا، وهم أصحاب الحصون، وأصحاب الزراعات وأصحاب العلم، إذن فقد أخذوا كل عناصر السيادة. وعندما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تزلزلت كل هذه المسائل من تحت أقدامهم، وحزنوا. وكذلك كفار قريش: كانت لهم السيادة على كل الجزيرة، فلا يستطيع أحد من أي قبيلة في الجزيرة أن يتعرض لقافلة قريش؛ لأن القبائل تخاف من التعرض لهم، ففي موسم الحج تذهب كل القبائل في حضن قريش. والمهابة المأخوذة لهم جاءت لهم من البيت الحرام الذي حفظه الله ورعاه وهزم من أراده بسوء وردّ كيده ودمره تدميرا تاما. كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1 - 5] . وعلّة هذه العملية تأتي في السورة التالية لها، وهي قوله سبحانه: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 1 - 2] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2319 فلولا أنه سبحانه جعل هذا البيت لعبادته لانتهى وانتهت منهم السيادة فلا يقدرون أن يذهبوا إلى رحلة الشتاء ولا إلى رحلة الصيف؛ ولذلك يقول سبحانه: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} [قريش: 3] . فسبحانه الذي جعل لهم السيادة والعزّ. وهو: {الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] . وجاء لهم بثمرات كل شيء، وآمنهم من خوف حين تسير قوافلهم في الشمال وفي الجنوب. {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك} فإذا كان لهم هذا النصيب، فلا يأتون الناس نقيرا أي لا يعطونهم الشيء التافه. ويقول الحق بعد ذلك: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2320 والحسد هنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن ربنا قد اصطفاه واختاره للرسالة، ولذلك قال بعض منهم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2320 {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . إذن فالقرآن مقبول في نظرهم، لكن الذي يحزنهم أنه نزل على محمد، وهذا من تغفيلهم، وهو مثل تغفيل من قالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] . لقد تمنوا الموت والقتل رميا بالحجارة من السماء ولم يتمنوا اتباع الحق، وهذا قمة التغفيل الدال على أنها عصبية مجنونة، ولذلك يقول الحق: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] . وسبحانه يؤكد لنا أنه يختص برحمته من يشاء، فلماذا الحسد إذن؟ إنهم يحسدون الناس أن جاءهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولو أنهم استقبلوا ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استقبالاً عادلاً بعين الإنصاف لوجدوا أن كل ما جاء به هو كلام جميل. من يتبعه تتجمل به حياته. وكان مقتضي من آتاهم الله من فضله علماً من الكتاب أن يبشروا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما دعاهم إلى ذلك نزل عليهم في كتابهم وأن يكونوا أول المصدقين به، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل كذبوا وصدوا عن سبيله وَفَضَّلوا عليه الكافرين الوثنيين. فقالوا إنهم أهدى من محمد سبيلاً. والحق سبحانه وتعالى حين يتفضل على بعض خلقه بخصوصيات يحب سبحانه أن تتعدى الخصوصيات إلى خلق الله؛ لأننا نعرف أن في كل خلق من خلق الله خصوصية مواهب، فإذا ما تفضل المتفضل بموهبته على الخلق تفضل بقية الخلق عليه بمواهبهم، إذن فقد أخذ مواهب الجميع حين يعطي الجميع. وهؤلاء قوم آتاهم الله نصيباً فبخلوا وضنّوا، وليتهم ضنّوا على أمر يتعلق بهم، بل على الأمر الذي وصلهم بالإله، وهو أنهم أصحاب كتاب عرفوا عن الله منهجه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2321 وعرفوا عن الله ترتيب مواكب رسله، فيريد الحق سبحانه أن يقول لهم: أنتم أوتيتم نصيباً من الكتاب فلم تؤدوا حقه، وأيضاً أنكم لو ملكتم الملك فإنكم لن تؤدوا حقه، ولن تعطوا أحداً مقدار نقير وهو النقرة على ظهر النواة، ولذلك قال: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} [النساء: 53] . إذن فلا هم في المعنويات والقيم معطون، ولا هم في الماديات معطون. فإذا كانوا قد بخلوا بما عندهم من القيم فهم أولى أن يبلخوا بما عندهم من المادة، وبذلك صاروا قوماً لا خير فيهم أبداً. ثم يوضح الحق: إذا كان هؤلاء قد أوتوا نصيباً من الكتاب يعرِّفهم سمات الرسول المقبل الخاتم فما الذي منعهم أن يؤمنوا به أولاً ويؤيدوه؟ . لا شك أنه الحسد، على الرغم من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء مصدقاً لما معهم، إنهم لا شك حسدوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والحسد لا يتأتى إلا عن قلب حاقد، قلب متمرد على قسمة الله في خلقه؛ لأن الحسد كما قالوا: هو أن تتمنى زوال نعمة غيرك، ويقابله «الغبطة» وهي أن تتمنى مثل ما لغيرك، فغيرك يظل بنعمة الله عليه، ولكنك تريد مثلها. وأنت إن أردت مثلها من الله فلا بد أن تغبطه، والحق يقول: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96] . ولذلك يجب أن يكون الناس في عطاء الله غير حاسدين وغير حاقدين. لكن بعض الناس ربما حسدوا غيرهم من الذين يعطيهم الأغنياء رغبة في أن يكون ذلك لهم وحدهم فإنك إن كان عندك كَمٌّ من المال ثم اتصل بك قوم في حاجة فأعطيتهم منه، ربما قال الآخرون ممن يرغبون في عطائك ويأملون في خيرك: إنك ستنقص مما عندك بقدر ما تُعطي هؤلاء؛ لأن ما عندك محدود، ولكن هنا العطاء ممن لا ينفد ما عنده، إذن فيعطيك ويعطي الآخرين ولا ينقص مما عنده شيء. إذن فالغبطة أمر بديهي عند المؤمن؛ لأنه يعلم أن عطاء الله لواحد لا يمنع أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2322 يعطي الآخر، ولو أعطي سبحانه كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخْيط إذا غمس في البحر، وذلك كما جاء في الحديث القدسي: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخْيط إذا أدخل البحر» . {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ} ، فالحسد - كما عرفنا - هو: أن يتمنى إنسان زوال نعمة غيره، هذا التمني معناه أنك تكره أن تكون عند غيرك نعمة، ولا تكره أن يكون عند غيرك نعمة إلا إذا كنت متمرداً على من يعطي النعم. إن أول خطأ يقع فيه الحاسد هو: ردّه لقدر الله في خلق الله، وثاني ما يصيبه أنه قبل أن ينال المحسود بشرّ منه؛ فقلبه يحترق حقداً. ولذلك قالوا: الحسد هو الذنب أو الجريمة التي تسبقها عقوبتها؛ لأن كل جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحسد، فقبل أن يرتكب الحاسد الحسد تناله العقوبة؛ لأن الحقد يحرق لبه وربما قال قائل: وما ذنب المحسود؟ . . ونقول: إن الله جعل في بعض خلقه داء يصيب الناس، والحسد يصيبهم في نعمهم وفي عافيتهم. وما ذنب المقتول حين يوجه القاتل مسدسه ليقتله به؟ هذه مثل تلك. فالمسدس نعمة من نعم الله عند إنسان ليحمي نفسه به، وليس له أن يستعمله في باطل. وهب أن الله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان شيئاً يكره النعمة عند غيره، فلماذا لا يتذكر الإنسان حين يستقبل نعمة عند غيرك أن يقرنها بقوله: (ما شاء الله لا قوة إلا الله) . فلو قارنت كل نعمة عند غيرك بما شاء الله الذي لا قوة إلا به لرددت عن قلبك سم حقدك. إنك ساعة ترى نعمة عند غيرك وتقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فأنت تتذكر أن الإنسان لم يعط نفسه أي نعمة. إنما ربنا هو الذي أعطاه، وسبحانه قادر على كل عطاء، ومن الممكن أن يحسد الإنسان. لكن الذي يجد الحسد في نفسه ويريد أن يطفئه، عليه أن يردّ كل شيء إلى الله، وما دام قد ردّ كل شيء إلى الله فقد عمل وقاية لنفسه من أن يكون حاسداً. ووقاية للنعمة عند غيره من أن تكون محسودة، والحق سبحانه وتعالى بين لنا ذلك في قوله سبحانه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2323 {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5] . إذن فمن الممكن أن يمتلئ قلب أي واحد منا بالحقد على نعمة وبعد ذلك يحدث منها حسد، وعلى كل واحد منا أن يمنع نفسه من أن يدخل تيار الحقد على قلبه؛ لأن تيار الحقد يحدث تغييراً كيماوياً في تكوين الإنسان، وهذا التغيُّر الكيماوي هو الذي يسبب التعب للإنسان، وما يدرينا أن هذا التوتر الكيماوي من النعمة عند غيره تجعل في نفس الإنسان وفي مادته تفاعلات، وهذه التفاعلات يخرج منها إشعاع يذهب للمحسود فيقتله؟ لأن الحق سبحاه وتعالى يقول: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5] . وعندما تستعيذ بالله من شر الحاسد ألاّ يصيبك، قد يصيبك، ولكن استعاذتك من شره تعني أنه إن أصابك فعليك أن تسترجع، فتقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون» وتعلم أن ذلك خير لك؛ فإن أصابك في نعمة فاعلم أن هذه المصيبة فيها خير، فالحاسد إذا أصابك في شيء من نعم الله عليك، فالشر هو أن تحرم الثواب عليها!! . . فالمصاب هو من حرم الثواب، فإذا جاءت مصيبة لأي واحد وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. . اللهم إنك ربي وإنك لا تحب لي إلاّ الخير لأني صنعتك ولم تجر عليّ إلاّ الخير. . لكنني قد لا أستطيع أن أفهم ذلك الخير. إن المسلم إذا صنع ذلك فالله سبحانه وتعالى يبين له فيما بعد أنها كانت خيراً له، فإن أصابه في ولده وقال: من يدريني لعل ولدي الذي أماته الله كان سيفتنني فأكفر أو أسرق له وآخذ رشوة من أجله. لكن الله أخذه مني ومنع عني ذلك الشرّ، أو أن النعمة قد تطغيني، وقد تجعلني أتجبر على الناس، وقد تجعلني أتطاول وأعتدي على الخلق، فيقول لي ربنا: امرض قليلا واهدأ. وهكذا نرى أن المصاب لا بد أن يتوقع الخير وأن يسترجع وأن يقول: لا بد أنه سيأتيني من الابتلاء خير، وقد يقول قائل: نحن نقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2324 وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5] . نقرأ ونكرر هذه السورة ولم يعذنا الله من شرّ الحاسدين. ويحسدنا الحاسدون أيضاً { نقول له: أنت لم تفهم معنى قوله: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} . إنك تفهمه على أساس ألا يصيبك حسده، لا. . إن حسده قد يصيبك، لكن عليك أن تعرف قدر الله في تلك الإصابة وتقول: يا رب إنك أجريتها عليّ لخير عندك لي. فإن فعلتَ ذلك فقد كفيت شرّاً. ونحن نعيش في عالم نرى فيه أنه كلما ارتقت الدنيا في العلم بيّن لنا ربنا آيات في كونه وفي أسرار الوجود تقرب لنا كثيراً من المعاني؛ فالذين يصنعون الآن أسلحة الفتك والتدمير، كلما يلطف السلاح ويدق ولا يكون داخلاً تحت مرائي البصر، كان عنيفاً ويختلف عن أسلحة الأزمنة القديمة حيث كان الإنسان يرمي آخر بحجر، ثم آخر يرمي بمسدس، ثم صار في قدرة دولة أن تصنع قنبلة ذرية لا ينوب أي فرد منها إلا قدر رأس مسمار لكنها تقتل، إذن فأسلحة الفتك كلما لطفت - أي دقت - عنفت. ونرى الآن أن الأسلحة كلها بالإشعاع، والإشعاع ليس جِرْماً، وعمل الإشعاع نافذ لكن لا يوجد له جرم، وكما يقول الأطباء: نجري العملية من غير أن نسيل دماً بوساطة الأشعة، ومثال ذلك أشعة الليزر، إذن فكلما دقّ السلاح كان عنيفا وفتاكاً. وهذا مثال يوضح ذلك: لنفرض أنك أردت أن تبني لك قصراً في خلاء، ثم مرّ عليك صديق فقال: لماذا لم تضع لنوافذ الدور الأول حديداً؟ تقول له: لماذا؟ . فيقول لك: هنا سباع وذئاب. فتضع الحديد ليمنع الذئاب، وآخر يمرّ على قصرك فيقول: إن فتحات الحديد واسعة وهنا توجد ثعابين كثيرة، فتضيق الحديد. وثالث يقول: هناك بعوض يلسع ويحمل الميكروبات. فتضع سلكاً على النوافذ. إذن فكلما دقّ العدو كان عنيفاً فيحتاج احتياطاً أكبر. ونحن نعلم أن الميكروب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2325 الذي لا يُرى يأتي فيفتك بالناس، فالآفة التي تصيب الناس كلما لطفت، - أي دقت وصغرت - عنفت، فلو كانت ضخمة فمن الممكن أن يدفعها الإنسان قليلاً قليلاً، لكن عندما تصل إلى مرتبة من الدقة والصغر، هنا لا يستطيع الإنسان أن يدفعها. وأفتك الميكروبات هي التي تدِق لدرجة أن الأطباء يقولون عن بعض الأمراض: لا نعرف لها فيروساً؛ بمعنى أن هذا الفيروس المسبب للمرض صار دقيقاً جداً حتى عن معايير المجاهر. إذن فما الذي يجعلنا نضيق ذرعاً بأن نقدر أن هناك شرارة من ميكروب تخرج من كيماوية الإنسان الحاقد الحاسد الذي تشقيه النعمة عند غيره، وشرارة الميكروب هذه مثل أشعة الليزر تتجه لشيء فتفتك به} {ما المانع من هذا؟} إننا نفعل ذلك الآن ونسلط الأشعة على أي شيء، والأشعة هي من أفتك الأسلحة في زماننا، ولماذا لا نصدق أن كيماوية الحاسد عندما تهيج يتكون منها إشعاع يذهب إلى المحسود فيفتك به؟ ومثلها مثل أي نعمة ينعمها ربنا عليك، وبعد ذلك تستعملها في الضرر. ومثال ذلك الرجل الذي عنده بعض من المال؛ ومع ذلك يغلي حقداً على خصومه. فيشتري مسدساً أو بندقية ليقتلهم؛ إنه يأخذ النعمة ويجعلها وسائل انتقام، وهذا يأتي من هيجان الغريزة الداخلية المدبرة لانفعالات الإنسان. إذن فهؤلاء القوم عندما جاء رسول الله مصدقاً بما عندهم، ما الذي منعهم أن يصدقوه؟ لا شك أنهم حسدوه في أن يأخذ هذه النعمة، ونظروا إلى نعمة الرسالة على أنها مزية للرسل، وهل كان ذلك صحيحا؟ حقا إنها مزية للرسل ولكنها مع ذلك عملية شاقة عليهم، والناس في كل الأمم - ما عدا الأنبياء - يورثون أولادهم ما لهم، أما الأنبياء فلا يورثون أولادهم. إنهم لا يأتوا ليأخذوا جاهاً، أو ليستعلوا على الناس، بل كلِّفوا بمتاعب جمة. إذن فأنتم تنظرون إلى السلطة التي أعطاكم الله إياها في مسألة علم الدين. وتجعلونها أداة للترف والرفاهية وللعنجهية والعظمة، وحين يجيء رسول لكي ينفض عنكم ويخلصكم من هذه السيطرة، ماذا تفعلون؟ أنتم تحزنون؛ لأنكم أقمتم لأنفسكم سلطة زمنية ولم تجعلوا أنفسكم في خدمة القيم، وأخذتم عظمة السيطرة فقط، فلما جاء رسول الله يريد أن يزيل عنكم هذه السيطرة قلتم: لا. لن نتبعه. فإذا كنتم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2326 تحسدون النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على الرسالة وجعلتموها مسألة يُدَلِّله الله بها أو أنها تعطية سيطرة، فلماذا الحسد على سيدنا محمد وقد أعطى الله سيدنا إبراهيم الملك، وأعطى لداود الملك، وأعطى لسليمان الملك، وأعطى ليوسف الملك، فلماذا الحسد إذن عندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يكرم الفرع الثاني من إبراهيم وهو إسماعيل عليه السلام؟ لقد كرم الله سبحانه الفرع الأول في إسحاق وجاء من إسحاق يعقوب، ومن يعقوب يوسف، ثم جاء موسى وهارون ثم داود وسليمان، كل هؤلاء قد كرموا، وعندما يكرم سبحانه الفرع الثاني لإبراهيم وهو ذرية إسماعيل ويرسل منهم رسولاً، تحزنون وتقفون هذا الموقف؟ لماذا لا تنظرون إلى أن إسماعيل وفرعه أتى من ذرية إبراهيم، ولماذا اعتبرتم الرسالة والنبوة نعمة مدللة، ولم تنتبهوا إلى أنها عملية قاسية على الرسول؟ لأن عليه أن يكون النموذج التطبيقي على نفسه وعلى آله، ولا أحد من أهله يتمتع بذلك بل العكس؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إنا معشر الأنبياء لا نورث» . ويَحْرِم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آل بيته من الزكاة. ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيضاً: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس» . وهكذا نرى أنه لم يكن يعمل لنفسه ولا لأولاده. ويتابع الحق: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} و «الكتاب» هو المنهج الذي ينزل من السماء، و «الحكمة» هي الكلام الذي يقوله الرسول مفسراً به منهج الله، ومع ذلك آتاهم الله الملك أيضاً. فسيدنا يوسف صار أميناً على خزائن الأرض، وأصبح عزيز مصر، وسيدنا داود، وسيدنا سليمان آتاهما الله الملك مع النبوة. إذن ففيه نبوة وفيه ملك، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعطاه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2327 ربنا النبوة ولم يعطه الملك فما وجه الحسد منكم له؟! . ثم ماذا كان موقفكم من أنبيائكم الذين أعطاهم الله النبوة والملك؟ يجيب الحق: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2328 وقوله سبحانه: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ} . والمقصود الإيمان بما جاء في منهج إبراهيم والرسل الذين جاءوا من بعده الذين آتاهم الله النبوة والملك، أو «منهم» أي من أهل الكتاب الذين نتكلم عنه من آمن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار مثلاً، {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي أن منهم من كفر بمنهج الله؛ لذلك يقول سبحانه بعدها: {وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} فكأن نتيجة الصدّ عن المنهج أنّه لا يأتي بعده إلا العذاب بجهنم ليصلوا بنارها، وتكون مسعرة عليهم جزاءً على ما فعلوا. وبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى موكب الرسل حينما أرسله الله على تتابع في كونه، جاء ليذكر الناس بالمنهج، فالمنهج هو الأصل الأصيل في مهمة آدم وذريته؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] . وينقل آدم إلى ذريته معلوماته عن حركة الحياة وعن الحق وعن المنهج. إلا أن الله قدّر الغفلة في خلقه عن منهجه؛ فهذه المناهج تأتي دائماً ضد شهوات النفس الحمقاء العاجلة، لكن لو نظرت إلى حقيقة المنهج الإلهي فأنت تجده يعطي النفس شهوات لكنها مُعلاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2328 مثال ذلك عندما يقول: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . وكل واحد عنده أشياء ويحتاج إليها، لكنه يجد أخاه المؤمن يحتاج إليها أكثر منه فيؤثره على نفسه، أهو يفضله عن نفسه؟ لا؛ لكنه يعطي هذا الشيء القليل في الفانية كي يأخذه في الباقية، فأخذ شهوة نفسه لكن بشهوة معلاة، والذي قلنا له: غض طرفك عن محارم غيرك. ظاهر هذا الأمر أننا نحجبه عن شهوة يشتهيها، لكننا ساعة نحجبك عن شهوة تشتهيها في حرام الفانية، نريد أن نحقق لك شهوة في حلال الخالدة. فأيهما أعشق للجَمَالِ؟ الذي ينظر بتفحص للمرأة الجميلة وهي تسير، أم الذي الذي يغض عينه عنها؟ الأعشق للجمال هو الذي غض بصره. إن الدين لم يأت إلا ضد النفس الحمقاء التي تريد عاجل الأمر وإن كان تافهاً. ويوضح له: كن للآجل ومعه؛ لأنه يبقى فلا يتركك ولا تتركه، أما أي شهوة تأخذها في هذه الدنيا فإما أن تتركها وإما أن تتركك، لكن في الآخرة لا تتركها ولا تتركك. لقد عرف الصالحون الورعون كيف يستفيدون، لكنّ الآخرين هم الحمقى الذين لم يستفيدوا، فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الحسرة تكون لمن أراح نفسه بشهوة عاجلة ثم أعقبها العذاب الآجل المقيم، فهذه هي الخيبة الحقة، فالدنيا دار الأغيار، يأتي للإنسان فيها ما يؤلمه وما يسره، وليس فيها دوام حال أبداً؛ لأنها دنيا الأغيار، وما دامت دنيا الأغيار فيكون كل شيء فيها متغيراً. . وما دام كل شيء فيها متغيراً. إذن فالذي في نعمة قد يصيبه شيء من الضر، والذي في قوة قد يصيبه شيء من الضعف، والذي في ضعف قد تأتيه قوة، وإلا لو ظل الضعيف ضعيفاً وظل القوى قوياً لما كانت الدنيا أغياراً. ولذلك يقولون: احذر أن تريد من الله أن يتم عليك نعمته كلها؛ لأنها لو تمت لك النعمة كلها وأنت في دار الأغيار فانتظر الموت؛ فتمام النعمة هو صعود لأعلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2329 منطقة في الجبل وأنت في دار الأغيار، فهل تظل على القمة؟ لا، بل لا بد أن تنزل، فإياك أن تُسرَّ عندما تبلغ المسألة ذروتها؛ لأنه سبحانه وتعالى يوضح: إنكم لا بد أن تأخذوا هذه الدنيا على أنها معبر، والذي يتعب الناس أنهم لا يحددون الغاية البعيدة، بل إنهم يحددون الغايات القريبة. إن من حمق بعض الناس أن يحزن الواحد منهم على فراق حبيب أو قريب له، وخذها بالمنطق: ما غايتنا جميعاً؟ إنها الموت ونعود إلى خالقنا. وهل عندما نعود إلى خالقنا نحزن؟ لا، بل يجب أن نسر؛ لأننا في الدنيا مع الأسباب، أما بعد أن ننتقل إلى الآخرة فنكون مع المسبب. ففي الدنيا تكون مع النعمة وستصبح بعد ذلك مع المنعم، فما يحزنك في هذا؟ إن هذا يحزنك ساعة أن كنت مع النعمة ولم تُراع المنعم، لكن لو كنت مع النعمة وراعيت المنعمَ لسررت أنك ذاهب للمنعم. وإن كانت المسألة هي أن تصل إلى المنعم الحق ونكون في حضانته فلماذا الحزن إذن؟ ومن الحمق أن بعض الناس لا تعامل الحق سبحانه وتعالى كما يعاملون أنفسهم. هب أن إنساناً من غايته أن يخرج من أسوان إلى القاهرة، إذن فالقاهرة هي الغاية. ثم جاء واحد وقال له: سنذهب سيراً على الأقدام، وقال الآخر: أنا سآتي بمطايا حسنة نركبها. وقال ثالث: سآتي بعربة، وقال رابع: سنسافر بطائرة وقال خامس. سنسافر بصاروخ، إذن فكل وسيلة تقرب من الغاية تكون محمودة، وما دامت غايتنا أن نعود إلى الحق فلماذا نحزن عندما يموت واحد منا؟ أنت - إذن - تحزن على نفسك ولا تحزن على من مات، إن الذي يموت بعد أن يرعى حق الله في الدنيا يكون مسروراً لأنه في حضانة الحق ومع المنعم، وأنت مع النعمة الموقوتة إنّه يسخر منك لأنك حزنت، ويقول: انظر إلى الساذج الغافل، كان يريدني أن أبقى مع الأسباب وأترك المسبب! إننا نجد الذين يحزنون على أحبائهم لا يرونهم في المنام أبداً؛ لأن الميت لا تأتي روحه لزيارة من حزن لأنه ذهب إلى المنعم، وعلى الناس أن تدرك الغاية من الوجود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2330 بأن تكون مع أسباب الحق في الدنيا ثم تصير مع الحق، والموت هو النقلة التي تنقلك من الأسباب إلى المسبب، فما الذي يحزنك في هذا؟ نحن نقصِّر عليك المسافة. . فبدلاً من أن تقابلك عقبات الطريق، وقد تنجح أو لا تنجح، وبعضهم يقول: مات وهو صغير ولم ير الدنيا، نقول لهم: وهل هذه تكون خيراً له أو لا؟ أنت مثلاً كبرت وقد تكون مقترفاً للمعاصي؛ فلعل الله أخذ الصغير حتى لا يعرضه للتجربة، ضع المسألة أمامك واجعلها حقيقة. «عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مرّ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا. قال:» انظر ما تقول؛ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغوْن فيها فقال: «يا حارث عرفت فالزم، ثلاثا» . ولنا العبرة في سيدنا حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حينما سأله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له: كيف أصبحت؟ أي كيف حالك الإيماني؟ قال حذيفة: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها - أي أن الذهب تساوي مع الحصى، هذه هي مسألة الدنيا - وأضاف حذيفة: وكأني أنظر أهل الجنة في الجنة ينعمون، وإلى أهل النار في النار يعذبون. وساعة لا تغيب عن بال سيدنا الحارث صورة الآخرة، فهو يسير في الحياة مستقيماً. . فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «عرفت فالزم» . الحق سبحانه وتعالى حين يذكر لنا بعض الأحكام يذكر لنا أيضاً خبر بعض الناس الذين يتمردون على الأحكام، ثم يذكرنا بحكاية الجنة والنار؛ ولذلك يقول لنا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2331 {إِنَّ الذين كَفَرُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2332 و «نصليهم» من الاصطلاء، قد يقول قائل: ما دام يصلي النار وكلنا يعرف أن نار الدنيا حين تحرق شيئاً ينتهي إلى عدم، وحين ينتهي إلى عدم إذن فلا يوجد ألم! ونقول: لتنتبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا الأمر {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} . . إذن فالعذاب ليس كنار الدنيا، لأن نار الدنيا تحرق وتنتهي المسألة، أما نار الآخرة فإنها عذاب سرمدي دائم مكرر {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} . . فإذا ما حرّقت الجلود فإن جلوداً أخرى ستأتي، أهي عين الأولى أم غيرها؟ وحتى أوضح ذلك: أنت عندما يكون عندك خاتم مثلاً، ثم تقول: أنا صنعت من الخاتم خاتماً آخر، فالمادة واحدة أيضاً، فهل التعذيب للجلود أو للأعضاء؟ إن العذاب دائماً للنفس الواعية، بدليل أن الإنسان قد يصيبه ورم فيه بعض الصديد «دُمّل» يتعبه ولا يقدر على ألمه. . وبعد ذلك يغفل فينام، بمجرد أن ينام فلا ألم. لكن عندما يستيقظ يتألم من جديد. إن فالألم ليس للعضو بل للنفس الواعية، بدليل أننا عندما ارتقينا في الطب، قلنا إن النفس الواعية نستطيع أن نخدرها بحيث يحدث الألم ولا تشعر به، ويفتح «الدُّمل» بالمشرط ولا يحس صاحبه بأي ألم. وهكذا تجد أن الجلود والأعضاء ليس لها شأن بالعذاب، إنما هي موصلة للمعذب، والمعذَّب هي النفس الواعية. . بدليل أنها ستشهد علينا يوم القيامة. . تشهد الجلود والجوارح، وستكون آلة لتوصيل العذاب. . ومسرورة لأنها توصل لهم العذاب. إنه نظام إلهي فلا تتعجبوا من القرآن، فإن العلم كلّما تقدم هدانا إلى شيء من آيات الله في الكون. أنتم - الآن - تخدرون النفس الواعية وتشقُّون الجسد بالمشارط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2332 كما يحلو لكم فلا يحدث له ألم، وعرفتم أن الألم ليس للعضو، إنما الألم للنفس الواعية، إذن فكل الجوارح هي آلات توصِّل الألم للنفس الواعية، وتكون مسرورة؛ لأن النفس الواعية تعذب، هذه يشبهونها - مثلا - بواحد عنده «حكة» في جلده، فيهرش، والهرش يسيل دمه فيكون مستلذاً. إذن فقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} أي أن الجلود تبدل وتنشأ جلود أخرى من نفس مادتها توصل العذاب للنفس الواعية، وهكذا. {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} . ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى أنزل كتاباً هو القرآن، وجعله معجزة ومنهجا، وهذه هي الميزة التي امتاز بها الإسلام. فمنهج الإسلام هو عين المعجزة، وكل رسول من الرسل كان منهجه شيئاً ومعجزته كانت شيئا آخر. إن سيدنا موسى منهجه التوارة ومعجزته: العصا، وسيدنا عيسى منهجه: الإنجيل، ومعجزته: إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، لكن معجزة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت القرآن؛ لأن دينه سيكون الامتداد النهائي لآخر الدنيا، ولذلك جعل الله منهجه هو عين معجزته، لتكون المعجزة دليلاً على صدق المنهج في أي وقت، ولا يستطيع واحد من أتباع أي نبي سابق على رسول الله أن يقول: إن معجزة الرسول الذي أتبعه هي منهجه؛ لأن معجزات الرسل السابقين على رسول الله كانت عمليات كونية انتهت مثل عود كبريت احترق، فمن رآه رآه وانتهى، لكن المسلم يستطيع أن يقف ويعلن بملء فيه: إنَّ محمداً رسول الله وصادق، وتلك معجزته. فمعجزة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باقية بقاءً أبدياً، ومتصلة به أبداً. أما معجزة كل رسول سبق رسول الله فقد آدت مهمتها لمن رآها وانتهت، وانفصلت معجزة كل رسول سابق على رسول الله عن منهجه. والمنهج القرآني فيه أحكام، والأحكام معناها؛ افعل كذا، ولا تفعل كذا. وهي واضحة كل الوضوح منذ أن أنزل الله القرآن على رسوله وحتى تقوم الساعة. ومن فعل مطلوب الأحكام يثاب، ومن لم يفعله يعاقب. وكل الناس سواسية في مطلوب الأحكام إلى أن تقوم الساعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2333 أما الآيات الله الكونية التي لا تتأثر. . فأي فائدة للإنسان إن عرفها أو لم يعرفها: فقد طمرها الله وسترها في القرآن مع إشارة إليها، لأن العقل المعاصر لنزول الكتاب لم يكن قادرا على استيعابها في زمن الرسالة. ولو أن القرآن جاء بآية واضحة تقول: إن الأرض كروية وتدور، بالله ماذا كان المعاصرون لرسول الله يقولون؟ إن بعضاً من البشر الآن يكذبون ذلك، فما بالنا بالبشر المعاصرون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذين لو قال لهم رسول الله ذلك لانصرفوا عن اتباع ما جاء به. لقد كانوا يستفيدون من كروية الأرض، مثلما يستفيد منها الفلاح أو البدوي، ومثلما يستفيد الناس الآن الذين لم يدرسوا الكهرباء برؤية التليفزيون وضوء المصباح الكهربائي وغير ذلك من الاستخدامات، دون معرفة علمية بتفاصيل ذلك، إنّ الشمس تسطع على الدنيا فيتبخر الماء من الأنهار والمحيطات والبحار ليصير سحاباً، ثم ينزل المطر من السحاب. وكل هذه الآيات الكونية لم يعط الله أسرارها إلا بقدر ما تتسع العقول، وترك في كتابه ما يدل على ما يمكن أن تنتهي إليه العقول الطموحة بالبحث العلمي. وعندما نتعرف نحن - المسلمين - على اكتشاف علمي جديد في الكون، نقول: إن القرآن قد أشار له، لكن قبل ذلك لا يصح أن نقول ذلك حتى لا يكذب الناس هذا الكتاب المعجز، فسبحانه القائل: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] . لو أن القرآن قال: إن كل شيء في الوجود يتكاثر، وفيه موجب وفيه سالب، ذكر وأنثى، أكانوا يصدقون ذلك؟ . لا؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الذكر والأنثى إلا في الرجل والمرأة، ويعرفون ذلك في الحيوانات؛ وأيضاً في بعض النباتات مثل النخل، لكن هناك نباتات كثيرة لا يعرفون حكاية التكاثر فيها، ومثال ذلك القمح الذي نزرعه ونأكله، وكذلك الذرة، لم يكونوا عارفين بأن عنصر الذكورة يوجد في «الشواشي» العليا في كوز الذرة وأن الهواء يضرب تلك الشواشي فتنزل منها حبوب اللقاح فيخرج الحب، ولذلك نجد الزّارع الذكي هو الذي يفتح «كوز الذرة» من أعلاه قليلاً حتى يتيح لحبوب اللقاح أن تصل إلى موقعها. وقد يفتح الفلاح أحد «كيزان الذرة» فيجد حبة ميتة وسط الحبوب المتراصة ويكشف أنها حبة ليس لها خيط أي لم تتصل بحبوب اللقاح وهو ما يقولون عنه في الريف «سنة عجوز» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2334 إذن فكل تكاثر له ذكورة وأنوثة، ولذلك يقول ربنا: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] . وكنا نعرف الأزواج في الأنفس، ثم عرفناها في النبات، وجاء الحق ب {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} لِتُدخل كل شيء، وتكشف الموجب والسالب في الكهرباء، وصرنا نعرف أن كل كائن فيه ذكر وأنثى، وكلما تقدم العلم فهو يشرح الآيات الكونية. ومن رحمة الحق سبحانه بعقول الأمة المكلَّفة برسالة محمد لم يشأ أن يجعل نواميسه في الكون واضحة صريحة حتى لا تقف العقول فيها وتعجز عن فهمها، وخاصة أن الكتاب واجه أمّة أمّيَّة؛ ليست لها ثقافة. وهب أنه واجه العالم المعاصر، إن هناك قضايا في الكون لا يعلمها العالم المعاصر، فلو أن القرآن تعرض لها بصراحة لكانت سبباً من الأسباب التي تصرف الناس عن الكتاب. والقرآن جاء كتاب منهج، والمعجزة أمر جاء لتأييد المنهج، فلم يشأ أن يجعل من المعجزة ما يعوق عن المنهج، لكنه ترك في الكون طموحات للعقل المخلوق لله والمادة الكونية المخلوقة لله، وكل يوم يكتشف العقل البشري أشياء، وهذا الاكتشاف لا يأتي من فراغ، بل يأتي من أشياء موجودة. إذن فلو رددت أدق أقضية العلم التي يصل إليها العقل المعاصر، ونسبتها في الكون لرجعت إلى الأمر البديهي. فلا يوجد صاحب عقل ابتكر أو جاء بحاجة جديدة، إنما هو أعمل عقله في موجود فاستنبط من مقدمات الموجود قضية معدومة، ثم أصبحت القضية المعدومة مقدمة معلومة ليستنبط منها من يجيء بعد ذلك. ولذلك فالعلماء عادة قوم يغلبهم طابع التهذيب عندما يقولون: اكتشفنا الأمر الفلاني، يعني كأنه كان موجوداً. إن الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا فكرة تقرب لنا الفهم، فنحن عندما كنا نتعلم الهندسة مثلاً؛ عرفنا أن الهندسة مكونة من نظريات، تبدأ من نظرية «واحد» ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2335 وتنتهي إلى ما لا نهاية، وحين جاء لنا مدرس ليبرهن لنا على نظرية «مائة» ، استخدم في البرهان على ذلك النظرية التسع والتسعين، وعندما كان يبرهن على النظرية «التسع والتسعين» استعمل ما قبلها. إذن فكل برهان على نظرية يستند إلى ما قبلها، والعقل الواعي المفكر المستنبط هو الذي يرتب المقدمات ويستخلص منها النتائج. وكل شيء في الكون يشترك فيه كل الناس. لكن العقل الذي يرتب ويستنبط يخيل إليه وإلى الناس أنه جاء بجديد، وهو لم يأت بجديد. بل ولَّد من الموجود جديداً، مثال ذلك الطفل عندما يولد من أبويه، هل هما جاءا به من عدم؟ لا، بل جاء الولد من تزاوج، وعندما نسلسل الأمر نصل إلى آدم، فمن الذي جاء بآدم؟ . إنه الله. إذن فالبديهيات التي في الكون هي خميرة كل علم تقدمي وهي من صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعاً، وكل نظرية مهما كانت معقدة في الكون منشؤها من الأمر البديهي، مثال ذلك البخار؛ عندما اكتشفوه وقبل أن يسيروا به الآلات ماذا حدث؟ . كان هناك من يجلس فالتفت فوجد الإناء الذي به الماء يغلي ثم وجد غطاء الإناء يرتفع وينخفض، وعندما تعرف على السرّ، اكتشف أن كل بخار يستطيع أن يعطي. قوة دافعة، وبذلك بدأ عصر البخار. إذن فهو ذكي، وقد أخذ اكتشافه من بديهية موجودة في الكون، فإياك أن تغتر وتقول: إن العقل هو الذي اخترع، ولكن العقل عمل بالجهد في مطمورات الله في الوجود، ورتب ورتب ثم أخرج الاكتشاف. لذلك فعندما يبتكر العقل البشري شيئاً جديداً نقول له: أنت لم تبتكر، بل اكتشفت فقط، والحق سبحانه وتعالى يترك هذه العملية في الوجود. ويقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53] . والبشرية عندما تكتشف شيئاً جديداً، نقول لهم: القرآن مسّها وجاء بها، فيقولون: عجباً هل فعل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرناً، على الرغم من أنه نزل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2336 ليخاطب أمة أمية، وجاء على لسان رسول أميّ. ونقول: نعم. والآية التي نحن بصددها فيها هذا: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: 56] . والجلود والأحاسيس شرحناها من قبل، ونظرية «الحسّ» - كما نعرف - شغلت العلماء الماديين، وأرادوا أن يعرفوا كيف نحسّ؟ منهم من قال: نحن نحسّ بالمخ. نقول لهم: لكن هناك مسائل لا تصل للمخ ونحس بها، بدليل أنه عندما يأتي واحد أمام عيني ويوجه أصبعه ليفتحها ويثقبها يصل أصبعه أغلق عيني أي أن شيئاً لم يصل للمخ حتى أحسّ. وبعض العلماء قال: إن الإحساس يتم عن طريق النخاع الشوكي والحركة العكسية، ثم انتهوا إلى أن الإحساس إنما ينشأ بشعيرات حسية منبطحة مع الجلد؛ بدليل أنك عندما تأخذ حقنة في العضل، فالحقنة فيها إبرة، ويكون الألم مثل لدغة البرغوث يحدث بمجرد ما تنفذ الإبرة من الجلد، وبعد ذلك لا تحس. إذن فمركز الإحساس في الإنسان هو الشعيرات الحسية المنبطحة على الجلد، بدليل أن ربنا أوضح: أنه عندما يحترق الجلد يمتنع الإحساس، فأنا أبدل لهم الجلد ليستمر الإحساس: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي صارت محترقة احتراقاً تاما وتعطلت عن الإحساس بالألم، آتيهم بجلد آخر لأديم عليهم العذاب؛ لأنه هو الذي سيوصل للنفس الواعية فتتألم، إذن فالآية مسّت قضية علمية معملية، لو أن القرآن تعرض لها بصراحة وجاء بصورة في الإحساس تقول: يا بني آدم محلّ الإحساس عندكم الجلد، لما فهموا شيئاً. لكنه تركها لتنضج في العقول على مهل. {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} . فتكون علّة التبديل للجلود التي أحرقت بجلود جديدة كي يدوم العذاب ويذيل الحق الآية: {إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} والعزيز: هو الذي لا يُغلب ولا تَقدر أن تحتاط من أنه يهزمك أبداً، فقد يقول كافر: لقد تلذذنا بالمعصية مرة لمدة خمس دقائق، ومرة لمدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2337 ساعتين فيما يضيرني أن يحترق جلدي وتنتهي المسألة!! نقول له: لا إن الذي يعذبك لا يُغلب فسوف يديم عليك العذاب بأن يبدل لك الجلد بجلد آخر، وسبحانه حكيم. فالمسألة ليست مسألة جبروت يستعمله، لا. هو يستعمل جبروته بعدالة. وبعد أن جاء بالعذاب أو بالجزاء المناسب لمن رفضوا الإيمان، لم ينس المقابل؛ لكي يكون البيان للغايتين: غاية الملتزم وغاية المنحرف. ولذلك يقول الحق بعد ذلك: {والذين آمَنُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2338 وفي هذه الآية يصف الحق ثواب الفئة المقابلة للفئة السابقة وهم الذين آمنوا، ونعلم أن آخر موكب من مواكب الرسالة هو رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن فأمة سيدنا محمد هي أقرب الأمم إلى لقاء الله. فالأمم من أيام آدم أخذت زمناً طويلاً، لكننا نحن المسلمين قريبون، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين» . ولذلك لم يقل الحق في الآية: سوف ندخلهم. بل قال: {سَنُدْخِلُهُمْ} ، أما مع الآخرين فاستخدم سبحانه «سوف» لأنها بعيدة، أو أن هذا كناية وإشارة من الله لإمهال الكفار ليتوبوا، وعندما يقرب لنا سبحانه المسافة فإنه يغرينا بالطاعة، المسألة ليست بعيدة، بل قريبة؛ لذلك يعبر عنها: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2338 إن كلمة «الجنة» مأخوذة من «الجَن» ، والستر، و «الجَنّة» هي البستان الذي به شجرة إذا سار فيه الإنسان يستره، وهو غير البساتين الزهرية التي تخرج زهراً قريباً من الأرض تمثل ترفا للعيون فقط، أما الجنة ففيها أشجار عالية كثيفة بحيث لو سار فيها أحد يُستر، ففيها الاقتيات وفيها كل شيء، فهي تسترك عن أن تلتفت إلى غيرها لأن فيها ما يكفيك، فالذي عنده حاجة لا تكفيه يتطلع إلى ما يكفيه، لكن من عنده حاجة تكفيه فقد انستر عن بقية الوجود، والحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة عن شيء هو الآن عنا غيب، وسيصير بإذن الله وبمشيئته مشهداً، ونحن نعرف أن الجنة بها كل ما تتمناه النفس، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: قال الله عَزَّ وَجَلَّ: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» مصداق ذلك في كتاب الله {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . ونعلم أن الكائنات الوجودية يعرفها الإنسان بما يناسب إدراكه. . فقال: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت» ، والعين حين ترى تكون محدودة، لكن السمع دائرته أوسع من الرؤية، لأنه سيسمع ممن رأى، إنه سمع فوق ما رأى، إذن فدائرة الإدراكات تأتي أولاً: بأن يرى الإنسان، ثم بأن يسمع، وهو يسمع أكثر مما يرى، وعلى سبيل المثال قد أرى أسوان لكنني أسمع عن أمريكا، فدائرة السماع أوسع. وبعد ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ولا خطر على قلب بشر» أي أن ما في الجنة أكبر من التخيلات، إذن فكم صفة هنا للجنة؟ الأولى قوله: ما لا عين رأت. والعين مهما رأت فدائرتها محدودة، والثانية: قوله: ولا أذن سمعت فدائرتها أوسع قليلاً. والثالثة: قوله: ولا خطر على قلب بشر، وهذا أوسع من التخيلات، فإذا كنت يا حق سبحانك ستعطينا في الجنة: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فبأي الألفاظ يا ربي تؤدي لنا هذه الأشياء، وألفاظ اللغة إنما وضعت لمعانٍ معروفة، وما دمت ستأتي بحاجة لم ترها عين، ولم تسمعها إذن ولم تخطر على قلب بشر، فأي الألفاظ ستؤدي هذه المعاني؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2339 لقد أوضح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنّه لا توجد ألفاظ؛ لأن المعنى يُعرف أولاً ثم يوضع له اللفظ، فكل لفظ وضع في اللغة معروف أن له معنى، لكن ما دامت الجنة هذه لم ترها عين، ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على قلب بشر، فلا توجد كلمات تعبر عنها، لذلك لم يقل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن الجنة هكذا بل قال: «مثل الجنة» أما الجنة نفسها، فليس في لغتنا ألفاظ تؤدي هذه المعاني، وحيث إن هذه المعاني لا رأتها عين ولا سمعتها أذن ولا خطرت على قلب بشر؛ لذلك فليس في لغة البشر ما يعطينا صورة عن الجنة، وأوضح الحق سبحانه: سأختار أمراً هو أحسن ما عندكم وأعطيكم به مثلاً فقال: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [محمد: 15] . ونحن نرى الأنهار، والحق يطمئننا هنا بأن أنهار الجنة ستختلف فهو سبحانه سينزع منها الصفة التي قد تعكر نهريتها؛ فقد تقف مياه النهر وتصبح آسنة متغيرة، فيقول: {أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} ، إذن فهو يعطيني اسماً موجودا وهو النهر، وكلنا نعرفه، لكنه يوضح: أنا سأنزع منه الأكدار التي تراها في النهر الحادث في الحياة الدنيا، وأيضاً فأنهار الدنيا تسير وتجري في شق بين شاطئين، لكن أنهار الجنة سترى الماء فيها وليس لها شطوط تحجز الماء لأنها محجوزة بالقدرة. . وستجد أيضاً أنهاراً من لبن لم يتغير طعمه. إن العربي كان يأخذ اللبن من الإبل ويخزنه في القِرَب، وبعد ذلك ترحل الإبل بعيداً إلى المراعي وإلى حيث تسافر، وعندما كان الأعرابي يحتاج إلى اللبن فلم يكن أمامه غير اللبن المخزن في القرب، ويجده متغير الطعم لكنْ لا يجد غيره؛ لذلك يوضح الحق: سأعطيكم أنهاراً من لبن من الجنة لم يتغير طعمه، ثم يقول: «وأنهار من خمر» وهم يعرفون الخمر ولنفهم أنها ليست كخمر الدنيا؛ لأنه يقول « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2340 مثل» . . ولم يقل الحقيقة فقال: أنهار من خمر لكنها خمر «لذة للشاربين» ، وخمر الدنيا لا يشربها الناس بلذة، بدليل أنك عندما ترى من يشرب كأس خمر. . فهو يسكبه في فمه مرة واحدة! ليس كما تشرب أنت كوباً من مانجو وتتلذذ به، إنه يأخذه دفعة واحدة ليقلل سرعة مروره على مذاقاته لأنه لاذع ومحمض؛ وتغتال العقول وتفسدها. لكن خمر الآخرة لا اغتيال فيها للعقول. إذن فحين يعطيني الحق مثلاً للجنة. . فهو ينفي عن المثل الشوائب، ولذلك نجد الأمثال تتنوع في هذا المجال؛ فالعربي عندما كان يمشي في الهاجرة، ويجد شجرة «نبق» ويقال لها: «سدر» كان يعتبرها واحة يستريح عندها، ويجد عليها النبق الجميل، فهو يمد يده ليأكل منها لكنّه قد يجد شوكاً فيتفادى الشوك، وفي بعض الأحيان تشكه شوكة، وعندما لا يجد في هذا الشجر شوكا يقول: هنا «سدر مخضوض» أي شجرة نبق لا شوك فيها، والحق يأتي بكل الآفات التي في الدنيا وينفيها عن جنة الآخرة. {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} وكان العرب يأخذون العسل من الجبال فالنحل يصنع خلاياه داخل شقوق الجبال، وعندما كانوا يخرجون العسل من الجبال يجدون فيه رملاً وحصى، فأوضح الحق: ما يعكر عليك العسل هنا في الدنيا أنا أصفيه لك هناك، ومع أنه مثل لكنه يصفيه أيضاً، ولماذا مثَّل؟ . . لأنه ما دام نعيم الجنة «لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» . فتكون لغة البشر كلها لا تؤدي ما فيها. . لكنه - سبحانه - يعطينا صورة مقربة، ويضرب الله المثل بالصورة المقربة للأشياء التي تتعالى عن الفهم ليقربها من العقل، ومثال ذلك عندما أراد سبحانه أن يعطينا صورة لتنوير الله للكون، وليس لنور الله الذاتي، بل لتنوير الله للكون، فيقول: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35] . إنه يعطينا مثلاً مقرباً لأن لغتك ليس فيها الألفاظ التي تؤدي الحقيقة، ولذلك يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2341 {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} [التوبة: 100] . وما دامت جنات ففيها شجر ملتف وعالٍ، ونحن نعرف أن الشجر لا بد أن يكون في منطقة فيها مياه؛ لذلك قال: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} لأن ما يجري تحتها قد يكون آتيا من مكان آخر، ويكون منبعها من مكان بعيد وتجري الأنهار تحت جنّتك، وقد تظن أن بإمكان صاحب النبع أن يسدّها على جنتك، فيشرح الحق: لا هي جاءت من تحتها مباشرة. ويقول الحق عن أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَآ} وهو سبحانه وتعالى يخاطب قوماً شهدوا بعض النعيم في دنياهم من آثار نعمة عليهم، لكنهم شهدوا أيضاً أن النعمة تزول عن الناس، أو شهدوا أناساً يزولون عن النعمة، فقال سبحانه عن جنة الآخرة: {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} فلا هي تزول عنهم ولا هم يزحزحون عنها. ويعطينا سبحانه أيضاً صورة من النعيم الذي يوجد عندنا في الدنيا لكنه يزول أيضاً أن نزول نحن عنه: {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} وأزواج جمع «زوج» ، وعندما يصف الحق سبحانه وتعالى جمعاً فهو يأتي في الصفة بجمع أيضاً مثل قوله: {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] . لأن «قدور» جمع «قِدر» ولم يقل هنا: وأزواج مطهرات وجاء بها مفردة لأن الرجل في الدنيا قد يتزوج بأكثر من واحدة فينشأ بين الزوجات المتعددات ظلال الشقاق فكأنهن متنافرات، فقال: إنهن كلهن سيكنَّ أزواجاً على صورة واحدة من الطهر، وليس في أي منهن ما يعكر صفو الأزواج كما يكون الأمر في الدنيا، ولا يقولن واحد: «كيف تقبل المرأة أن يكون لها ضرَة في الآخرة؟» لأن الحق سبحانه نزع من الصدور كل ما كان يكدر صفو النفوس في الدنيا فقال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2342 إذن فكأنهن - وإن تعددن - في سياق واحد من الطهر مما لا يعكر صفو الزوج، إنّه يعجبك شكلها، ستعجبك، أخلاقها ليس فيها عيب ولا نقص مما كان يوجد في الدنيا إنها مطهرة من ذلك كله. إذن فهو يعطيني خلاصة ما يمكن أن يتصور من النعيم في الأزواج. ويكمل الحق: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} . ولغة العرب إذا أرادت أن تؤكد معنى فهي تأتي بالتوكيد من اللفظ نفسه، فيقول العربي مثلاً: «هذا ليل أليل» أي ليل حالك، وعندما يبالغ في «الظل» يقول: «ظليل» . وما هو «الظل» ؟ . «الظل» هو: انحسار الشمس عن مكان كانت فيه أو لم تدخله الشمس أصلاً كأن يكون الإنسان داخل كهف أو غار مثلاً. إن كلمة ظل ظليل يعرفها الذين يعيشون في الصحراء، فساعة يرى الإنسان هناك شجرة فهو يجلس تحتها ويتمتع بظلها، والظل نفسه قد يكون ظليلاً، مثال ذلك «الخيام المكيفة» التي يصنعونها الآن، وتكون من طبقتين: الطبقة الأولى تتعرض للشمس فتتحمل السخونة، والطبقة الثانية تحجز السخونة، ويسمون هذا السقف «السقف المزدوج» . ويوجد خاصة في الأماكن العالية؛ لأن الشقة على سبيل المثال التي تعلوها أدوار تكون محمية، لكن الشقق الموجودة في آخر دور خصوصاً في البلاد الحارة تكون السخونة فيها صعبة وشديدة؛ لذلك يصنعون سقفاً فوق السقف، وبذلك يكون الظل نفسه في ظل. ولماذا الإنسان يسعد بالظل تحت شجرة أكثر من سعادته بالظل في جدار؟ لأن الظل في جدار مكون من طبقة واحدة، صحيح أنه يمنع عنا الشمس لكنه أيضاً يحجب الهواء، لكن الجلوس في ظل الشجرة يتميز بأن كل ورقة من أوراق الشجرة فوقها ورقة، وأوراقها بعضها فوق بعض، وكل ورقة في ظل الورقة الأعلى. ولأن كل ورقة خفيفة لذلك يداعبها الهواء، فتحجب عن الجالس تحت الشجرة حرارة الشمس، وتعطيه هواء أيضاً، هذا هو معنى قوله: {ظِلاًّ ظَلِيلاً} . ولذلك فعندما أراد الشاعر أن يصف الروضة قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2343 وقانا لفحةَ الرمضاءِ وادٍ ... سقاه مضاعف الغيث العميم نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم يصد الشمس أنىّ واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم والشاعر هنا يصف الموقف حين يسير الإنسان في صحراء ثم ينزل في وادٍ به دوح وهذا الدوح يَحنو على الإنسان حنو الأم على طفلها في سن الفطام. وأنه قد سقاهم من مائة ما يلذ. وتصد الشمس عنهم الأشجار الكثيفة ولكن النسيم يمر بين أوراق الشجر. وهكذا نفهم أن كلمة «ظل ظليل» ، أي أن الظل في ذاته مظلل. وبعد أن تكلم الحق عن الغايات التي تنتظر الصنفين من خلقه: الصنف الذي يتأبى على منهج الله، والصنف الذي يتطامن لمنهج الله: الصنف الأول أعد له الله النار التي تشوي جلوده ويبدله جلوداً غيرها ليذوق العذاب، والصنف المؤمن الذي أعد الله له الجنة ذات المواصفات المذكورة. وبعدما يجعل الغاية واضحة في ذهننا من الكلام عن النار والكلام عن الجنة يلفتنا إلى حكم جديد؛ لأن النفس تكون كارهة للنار ومحبة للجنة، وعندما يأتي حكم جديد تتعلق النفس به وتنفذه؛ لأنها قريبة العهد، بالترهيب من النار والترغيب في الجنة، فيجعل الحق هذا الأمر مرة تذييلاً لما تقدم، ومرة أخرى يجعله تمهيداً لما يأتي؛ كي تستقبل الأحكام الجديدة في ذهنك وتتضح لك الغاية التي تنتظر مَن التزم، والغاية التي تنتظر من انحرف. وعندما يأتي الحكم والغاية متضحة في الذهن ومهيئة للإنسان فالتكليف يوضع في بؤرة الشعور؛ لأن هناك حاجات كثيرة تعلمها النفس البشرية، ورحمة الله بالخلق أن هذا الرأس الذي فيه حافظة، وفيه ذاكرة، وفيه مخيلة، لا يقدر أن يستوعب كل المعلومات في بؤرة الشعور مرة واحدة، ولا يمكن أن يجيء لك معنى جديد إلا إذا تزحزح المعنى الذي كنت مشغولاً به في ذهنك قليلاً عن بؤرة الشعور وذهب إلى حاشية الشعور، فإن بقي المعنى في مكان فلن يأتي لك خاطر جديد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2344 إذن فبؤرة الشعور هي التي فيها ما أنت الآن بصدده فلا يمكن أن تتداخل الأفكار في البؤرة الشعورية، ولذلك عندما تريد أن تستدعي حاجة في بؤرة الشعور. فالمعاني تتداعى كي تأتي بما في حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور. وساعة يأتي ما تريده في بؤرة الشعور يذهب الخاطر الأول. إياك أن تظن أن العقل البشري يستطيع أن يواجه في بؤرة الشعور كل المعلومات، لا. فمن رحمة الله أنه وضع لشعورك نظاما تخزن فيه معلوماتك، ولذلك فأنت قد تتذكر حاجة من عشر سنوات، فإذا كانت قد ذهبت من فكرك فكيف تذكرتها؟ . إذن فهي موجودة لكنها موجودة في الحواشي البعيدة للشعور. . وعندما تداعت المعاني خرجت الخاطرة أو الحادثة إلى بورة الشعور؛ ثم تؤدي مهمتها وتذهب؛ وتأتي أخرى في بؤرة الشعور. إن هذا البشري فيه قوة وطاقة يختزن فيها الأحداث، وعلى الرغم من ذلك تختلف قدرات الناس، فهناك من يحفظ قصيدة من عشر مرات، وهناك ذهن يحفظ من مرتين، وهناك من يحفظ من ثلاث مرات. إن الذهن كآلة التصوير «الفوتوجرافي» يلتقط من مرة واحدة، والمهم فقط أن تكون بؤرة شعورك خالية ساعة الالتقاط. فإن كانت بؤرة شعورك خالية من غيرها تلتقطها. أنت تكرر القصيدة أو الآية أو الكلمة كي تحفظها؛ لأنك لو قدرت أن تجعل بؤرة شعورك مع النص لحفظت النص مباشرة، لكنك لا تحفظ النص؛ لأن هناك خواطر تأتيك فتخطف التركيز، وتكون بؤرة الشعور مشغولة بسواها فلا تستطيع أن تحفظ المعلومة الجديدة، فتكرر الحفظ إلى أن تصادف كل جزئية من جزئيات الشعر أو القصيدة أو الآية خلو بؤرة الشعور؛ لذلك يقولون: هناك طالب يحفظ ببطء، وآخر يحفظ بسرعة، إن الذي يقدر أن يركز ذاكرته لما هو بصدده، فذهنه يلتقط ما يقرأ من مرة واحدة أما الذي لا يركز فإن حفظه يكون بطيئا. وأضرب هذا المثل، وقد يكون أغلبنا مر به، وخصوصاً من تعرض للعلم وللامتحانات: هب أنك طالب في امتحان، وبعد ذلك دق الجرس لتدخل مكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2345 الأمتحان، ثم جاء زميل لك وقال لك: القطعة الفلانية سيأتي منها سؤال، وأنت لم تكن قد ذاكرتها، هنا تخطف أي كتاب وتقرؤها بإمعان، فهل وأنت في هذه الحالة تفكر في ماذا ستأكل على الغداء؟ أو تفكر في من كان معك بالأمس؟ لا؛ لأن الوقت ضيق ولن يتركز فكرك إلا في هذه القطعة التي تقرؤها ثم تدخل الامتحان فتجد سؤالاً في القطعة التي ذاكرتها من دقائق ولمدة قصيرة فتضع الإجابة الصحيحة، وقد لا يعرفها مَن ذاكرها لمدة شهر؛ لأنه ذاكرها وباله مشغول، أما أنت فتضع إجابة السؤال كما يجب لأنك ذاكرتها وليس في ذهنك غيرها؛ لأن الوقت ضيق وكانت بؤرة شعورك محصورة فيها. ومثال آخر: نجد تلميذاً من التلاميذ يشكو من عدم فهمه من أستاذه لكن هناك تلميذ آخر يفهم، والتلميذ الذي لا يفهم هو من انصرف ذهنه عنه في أثناء الشرح في مسألة بعيدة عن العلم الذي يدرسه، وعندما يجيء درس جديد، فهو يفاجأ بمعلومات لا بد أن تستقر وتبني على معلومات سابقة كان ذهنه مشغولاً عنها، فلما شرح المدرس الدرس الجديد، قال التلميذ الذي لا يفهم: ماذا يقول هذا المدرس؟ . لكن التلميذ المنتبه له والذي يربط المعلومات بعضها ببعض؛ يفهم ما يقوله المدرس، ولذلك فالأستاذ الجيد لا بد أن يثير الانتباهات دائماً لطلابه، بمعنى أن يفاجئهم، يقول مثلاً كم جملة ثم يقول للتلميذ: قم، ماذا قلت الآن؟ فيجلس كل تلميذ وَهو عُرضة أن يُسأل، فيخاف أن يُحرجه الأستاذ، فينتبه للدرس ويجعل بؤرة شعوره مع المدرس دائماً. فالحق سبحانه وتعالى بعدما تكلم عن النار وعن الجنة وجعل هذا الأمر مستقراً في بؤرة شعورهم ينزل الأحكام بعد ذلك، ولذلك تجد دائماً بعد أن يذكر سبحانه الجنة والنار يأتي بعدها بأمهات الأحكام التي إذا نفذوها نالوا الجنة وابتعدوا عن النار. فبعدما شحنت بؤرة الشعور بالجنة والنار بالغاية المنفرة والغاية المرغبة، هنا يأتي الحكم، فيقول الله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2346 وقوله سبحانه: {أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} ، أوجز الله فيها كل تكاليف السماء لأهل الأرض، لأن الأمانات هي: الأمانة العليا وهي الإيمان بالله، والأمانة التي تتعلق ببني الجنس، والأمانة التي على النفس لكل الأجناس. ومعنى الأمانة هو: ما يكون لغيرك عندك من حقوق وأنت أمين عليها، إن شئت فعلتها، وإن شئت لم تفعلها، أنت تقول: أنا أودعت عند فلان أمانة، هذه الأمانة لو كانت بإيصال لما كانت أمانة؛ لأن هناك دليلاً، ولو كان ما أودعته عند ذلك الإنسان عليه شهود لا تكون أمانة. فالأمانة: أن تودع عنده شيئاً، وضميره هو الحكم، إن شاء أقر بما عنده لك حين تطلبه، وإن شاء لم يقر به، قال الحق: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] . فما هي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبت أن تحملها ثم حملها الإنسان، وعلة تحمله لها أنه كان ظلوماً جهولاً؟ إن الكون كما نعلم فيه أجناس، أدناها الجماد، وأوسطها النبات، وأعلى من الأوسط الحيوان ثم الإنسان، والإنسان هو سيد هذه الأجناس، لأنها تخدمه جميعها، لكن الجماد والنبات والحيوان لا اختيار لأي منها في أن يفعل أو لا يفعل، وإنما كل جنس منها قد خلق لشيء ليؤديه، ولا اختيار له في أن يمتنع عن الأداء. الأرض والسماوات والجبال لم تقبل أن تكون مختاره أو أن تحمل أمانة وتكون المسألة فيها راجعة إلى اختيارها إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل. وأشفقت الأرض والسماوات والجبال من حمل الأمانة لعدم الثقة بحالة النفس وقت أداء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2347 الأمانة. فيجوز أن يعقد الكائن العزم عند تحمل الأمانة أن يؤديها، ولكن عند أدائها لا يملك نفسه، فربما خانته نفسه وجعلته لا يقر بها. لقد احتاطت السماوات والأرض والجبال وقالوا: لا نريد هذه الأمانة ولا نريد أن نكون مختارين بين أن نفعل أو نترك، نطيع أو نعصي، وإنما يا رب نريد أن نكون مسخرين لما تحب دون اختيار لنا. فسلمت الأرض والسماوات والجبال، لكن الإنسان بما فيه من فكر يرجع الاختيار بين البديلات قال: أنا أقبلها وإن فكري سيخطط لأدائها. ولم يلتفت الإنسان ساعة تحمله الأمانة إلى حالة أدائه لها. ومثال ذلك: من الجائز أن يعرض عليك إنسان مبلغاً من المال كأمانة عندك، فأخذته وأنت واثق أنك ستؤديه حين يطلبه منك، ولكنك ساعة الأداء قد لا تملك نفسك، فقد تمر بك ظروف فتصرف شيئاً من المال، أو أن تكون - والعياذ بالله - قد خربت ذمتك. إذن فالإنسان لا يملك نفسه وقت الأداء وإن ملك نفسه وقت الأخذ، فالذين يحتاطون يقولون: أبعد عنا تحمل الأمانة، فلا نريد أن نحمل لك شيئاً ولكن الإنسان قبل تحمل الأمانة؛ لأنه «كان ظلوما جهولا» ظلم نفسه وجهل بحالته وقت الأداء، إذن فالأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان هي أمانة الاختيار التي يترتب عليها التكليف من الله. ؟ إن التكليف محصور في «افعل» و «لا تفعل» ، فإن شئت فعلت في «افعل» ، وإن شئت لم تفعل في «لا تفعل» . وإن شئت العكس، ومعنى ذلك أن الأمانة في هذا المعنى مقصورة على ما طلبه الله من الإنسان وقت العرض. لكنها لم تتعرض للأمانات التي توجد بيننا، والأمانة كذلك هي ما يتعلق بذمتك بحق غيرك؛ لذلك فحين يعطي إنسان إنساناً شيئاً يصير الآخذ مؤتمناً فإن شاء أدى وإن شاء لم يؤد. لكن هناك أمانات أخرى لم يعطها إنسان لإنسان، وإنما أعطاها رب الإنسان لكل إنسان، فالعلم الذي أعطاه الله للناس أمانة. فهل الذي علمك علماً وأعطاه لك وبعد ذلك قال لك: أدّه لي، كمثل من يكون مأموناً على مال؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2348 نقول للعالم: العلم ليس من عندك حتى تعطيه لغيرك وبعد ذلك يرده لك ولكن الله يجازيك عليه ثواباً وكذلك في الحلم والشجاعة، ولا تتضح هذه المسائل بين العبد والعبد إلا في المال، لكن في بقية الأشياء؛ نقول لك: أنت أمين عليها أمام خالقك، وقد أمنك ربنا على هذه الأشياء كي تؤديها إلا من لا يعلم، فأمنك على قدرةٍ وأمرك: أعطها لمن لا يقدر، وأمنك على علم وأوضح لك: أعطه لمن لا علم له. . إذن فمن الذي أعطاك هذه الأمانة؟ الله. فليس ضرورياً أن تكون الأمانة من صاحبها الذي أعطاها لك لتردها إليه، فالأمانة: ما تصير مأموناً عليه مِمن خَلَقَ أو من مخلوق، فأدها، والأمانة بهذا المعنى أمرها واسع، فاستحقاق الله للتوحيد أمانة عندك، أهليتك للتكليف من الله حين كلفك أمانة عندك، وأهليتك في المواهب المختلفة أمانة عندك، فكل إنسان عنده موهبة هو أمين عليها ولا بد أن يؤديها وينقل آثارها لم لا توجد عنده هذه الموهبة. فربنا أعطى هذا الإنسان قوة عضل، وأعطى ذلك قوة فكر، وأعطى ثالثاً قوة حلم، وأعطى رابعاً علماً. كل هذه الأشياء أمانات أودعها الله في خلقه ليتكامل الخلق، فحين يؤدي كل إنسان أمانته لكل إنسان يصبح كل إنسان عنده مواهب كل الآخرين. والحق سبحانه وتعالى حينما يقول: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} نتذكر على الفور قمة الأمانة أن تعبده ولا تشرك به أحداً، والأمانة في التكاليف التي كلفك الله بها؛ لأنها أمانة لغيرك عندك، وأمانة عندك لغيرك. فحين يكلفك الله بألا تسرق، يكون قد كلف الناس كلهم ألا يسرقوك. إن كل أمانة عند غيرك تقابلها أمانة عندك، فإن أديت مطلوبات الأمانة عندك أدى المجتمع الذي يحيط بك الأمانة التي عنده، وهكذا تكون الأمانة هي: أداء حق في ذمتك لغيرك. وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} قيل نزلت في عثمان ابن طلحة ابن أبي طلحة وكان سادن - خادم - الكعبة وحين دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2349 مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى عليُّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجتمع له السقاية والسِّدانة فنزلت هذه الآية فأمر أن يرده إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ويعتذر له فقال عثمان لعلي: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال لقد أنزل الله فيك قرآنا وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان وهبط جبريل وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن السِّدانة في أولاد عثمان أبداً. وهذا يقابل الأمانة شيء بعد ذلك اسمه العدل، فلو أدى كل واحد ما لغيره عنده من حق لما احتجنا إلى عدل، فالعدل إنما ينشأ من خصومة وتقاضٍ، والتقاضي معناه: أن واحداً أنكر حق غيره. فلو أدى كل واحد منا ما في ذمته من حق لغيره لما وجد تقاضٍ، ولما وجدت خصومة فلا ضرورة إلى العدل حينئذٍ. ولكن الحق الذي خلق الخلق وعلم الأغيار فيهم قدر أن بعض الناس يغفل عن هذه القضية وينشأ منها أن الإنسان قد لا يعطي الحق الذي في ذمته لغيره، فقضي سبحانه بشيء آخر اسمه «العدل» . ولو أن المسألة الأولى انتهت لما احتجنا للعدل. إذن فالعدل هو علاج للغفلة التي تصيب البشر من الأغيار التي تطرأ على نفوسهم، فشاء الله أن يقول: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} ، في الأولى لم يقل: إذا أئمنتم فأدوا، لا. بل قال: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ} . فإذا حدثت منكم غفلة عن هذه فما الذي يحمي هذه المسألة؟ هنا يأتي العدل وهو أن تقضي بحق في ذمة غيرك لغيره، أي ليس في ذمتك أنت؛ لأنك تحكم كي ترجح مسألة وتضع الأمر في نصابه. وبذلك نعرف أن مطلوبات أداء الأمانة تكون في شيء عندك تؤدية لغيرك، لكن مطلوبات العدل: تكون في أشياء في ذمة غيرك لغيرك. ولذلك قال الحق: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} ، وكما أن آية أداء الأمانة عامة، كان لا بد أن تكون آية العدل عامة أيضاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2350 إن قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} ليست خاصة للحاكم فقط، بل إنّ كل إنسان مطالب بالعدل، فلو كنت مُحَكَّماً من طرف قوم ورضوا بك أن تحكم فاحكم بالعدل حتى ولو كان الحكم في الأمور التي يتعلق بها التكريم والشرف والموهبة؛ فليس ضرورياً أن يكون الحكم بالعدل في أمر له قيمة مادية، مثلاً: سيدنا الإمام علي - رضوان الله عليه وكرم الله وجهه - يرى غلامين يتحاكمان إلى ابنه الحسن؛ ليحكم بينهما أي الخطين أجمل من الآخر، وهذه المسألة قد ينظر لها الناس على أنها مسألة تافهة لكنها ما دامت شغلت الطفلين وأراد كل واحد منهما أن يكون خطه أجمل، فلا بد أن يكون الحكم بالعدل. فقال الإمام على لابنه الحسن: يا بني انظر كيف تقضي، فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة. إن هذا يعطينا صورة في دقة العدل حتى ولو كان الأمر صغيراً. وفي مباريات كرة القدم تجد الحكم الذي يقول هذه اللعبة تحتسب هدفاً أو لا تحتسب، هذا الحكم يحتاج إلى مهارة لأنه سيترتب عليها فوز فريق أو هزيمته، بدليل أنك حتى وأنت تراقب الكرة ثم وجدت الحكم لم يحتسب خطأ تثور عليه. وهنا أتساءل: لماذا طبقتم قانون الجد في اللعب، ثم تركتم الجد بدون قانون؟ وهذا ما يحدث. نحن ننقل قوانين الجد إلى اللعب، ونترك الجد في بعض الأحيان بدون قانون، ولو اعتنينا بهذه كما اعتنينا بتلك. لتساوت الأمور، فالعدل إذن هو حق في ذمة غير لغير حتى ولو كانت مباراة في اللعب، وما دام الأمر قد شغل طرفين، وجعل بينهما نزاعاً وخلافا وتسابقاً فعليك أن تنهي هذا الخلاف بالعدل. ويتابع الحق: {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} و «نعما» يعني نعم ما يعظكم به الله، أي لا يوجد أفضل من هذه العظة التي هي: أداء الأمانة والحكم بالعدل، فبهذا تستقيم حركة الحياة. فإذا أدى الناس الأمانة فلا نزاع ولا خلاف، وإذا أدوا عدالة الحكم فإن كان هناك خلاف ينتهي. وقال العلماء: إذا علم المجتمع أن عدلا يحرس حقوق الناس عند الناس فلن يجرّيء ذلك ظالماً على أن يظلم بعد ذلك، فيقول الظالم: فلان ظلم ولم يحاكم، فيغري ذلك الظالم أن يزيد في ظلمه، لكن ساعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2351 يرى الناس أحداً يأخذ حق غيره ثم جاء الحاكم فردعه، ورد الحق لصاحبه فلن يظلم أحد أحداً. وسبحانه في أمره هذا لا حاجة له في أن تفعلوا أو لا تفعلوا، فهي أشياء لا تؤثر عنده في شيء، إنما هي في مصالحكم أنتم بعضكم مع بعض، وأحسن ألوان الأمر هو ما لا يعود على الآمر بفائدة، لأن الأمر إذا ما كان فيه عود بالفائدة على الآمر قد يشكك في الأمر. لكن أن تأمر بأمر ليس لك فيه فائدة فهذا قمة العدل. وقد يوجد إنسان يأمر بما لا فائدة له فيه، لكنه قد لا يكون واسع العلم ولا واسع الحكمة، والأمر هنا يختلف لأن الله سبحانه وتعالى ليس له مصلحة في الأمر، هذه واحدة، وأيضاً فهو - سبحانه - واسع العلم والحكمة؛ لذلك كانت هذه العظة مقبولة جداً، وهي نعمة من الله وأما ما عداها فبئست العظة؛ لأن الله لا ينتفع بأمره هذا وهو مأمون على العباد جميعاً، والثانية: أنه قد يوجد غير لا ينتفع بالأمر ولكنه قاصر العلم وقاصر الحكمة فلا نعمت العظة منه، فقوله: {إِنَّ الله نِعِمَّا} يعني: نعم ما يعظكم به الله أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بالعدل. ونلحظ الأداء البياني في القرآن في قوله: «تؤدوا» هذه للجماعة، وهذا يعني أن كل واحد مطالب بهذا الحكم أولا، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} ، فيكون كل واحد مطالباً بالحكم أيضاً، كأن مهمتكم الأمانية ليست مقصورة على أن تصونوا حقوقكم بينكم وبين أنفسكم، لا، فأنتم مكلفون بأن تصونوا الحقوق بين الناس والناس ولو لم يكونوا مؤمنين. إن قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس} . يُفهم منها أيضاً حماية حقوق من آمن بالإسلام ومن لم يؤمن بدين الإسلام؛ لأن الحق جل وعلا يريد منا أن نؤدي الأمانة إلى «أهلها» ، ولم يقل «أهلها» المؤمنين أو الكافرين. إن كلمة «الناس» هذه تدل على عدالة الأمر من إله هو رب للجميع، فسبحانه هو الذي استدعى الإنسان للدنيا، والإنسن منه مؤمن ومنه كافر. لكن أحداً لا يخرج عن نطاق الربوبية لله، فربنا يُربُّ ويرعى كل إنسان - مؤمناً كان أو كافراً - هو يرزق الجميع ولذلك أمر الكون: يا كون أعط من فَعَلَ الأسبابَ الغاية من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2352 المسببات إن كان مؤمناً أو كافراً. وهذا هو عطاء الربوبية، إنه - سبحانه - رزق الإنسان وسخر الأشياء له، فهو لم يسخر الكون للمؤمن فقط وإنما سخره للمؤمن وللكافر، فكذلك طلب منا أن نؤدي الأمانة للمؤن والكافر، وطلب منا أن نعدل بين المؤمن والكافر. ولنا في الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأسوة الحسنة، فقد حدث أن «طعمة ابن أُبيرق» أحد بني ظُفر سرق درعا من جارٍ له اسمه «قتادة بن النعمان» ، في جراب دقيق والاثنان مسلمان، إلا أن منافذ الحق لمرتكب الجريمة ضيقة مهما ظن اتساعها، مثلما نقول: «الجريمة لا تفيد» ، فوضع الدرع المسروقة في جراب كان فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب وهو يسير من بيت قتادة بن النعمان وخبأ الدرع عند يهودي اسمه «زيد بن السمين» ، فلما فطن قتادة بن النعمان لضياع الدرع قال: سرق الدرع. سرق الدرع. فتتبعوا الأثر فوجدوه إلى بيت طعمة ابن أبيرق، فحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه. فتتبعوا الأثر ثانية فوجدوا الدرع عند اليهودي «زيد بن السمين» فقال اليهودي دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود، ورفع الأمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجاء بنو ظفر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبريء اليهودي فهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يفعل وأن يعاقب اليهودي فأنزل الله عليه حكمه الفصل: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النساء: 105 - 107] . أي لا تكن يا محمد مدافعاً عن الخائنين واستغفر الله إن كان هذا الخاطر قد جال برأسك بأن ترفع رأس مسلم على يهودي؛ لأن الحق أولى من المسلم؛ فما دام هو قبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2353 أن يخون فلا تجادل عنه، ولماذا طلب بنو ظفر التغاضي عن جريمة مسلم وإلصاقها بيهودي؟ أيستخفون من الناس ولا يستخفون من الله؟ وافرض أن هذه برأتهم عند الناس. أتبرئهم عند الله؟ ويقول في آية أخرى: {هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة} [النساء: 109] . إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} لا بد أن نأخذه على أنه مطلب تكليفي من الله للمسلمين حتى يشيع في كل الناس ولا يخص المؤمنين يتعاملون به فيما بينهم، وإنما يشمل أيضا ما بين المؤمنين والكافرين، وما بين الكافرين بعضهم مع بعض إن ارتضوا حكم رسول الله. {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} وحين ترون تذييل آية بصفتين من صفات الحق أو باسمين من أسماء الحق، فلا بد أن تعلموا أن بين الصفتين أو بين الاسمين وبين متعلق الآية علاقة، وهنا يعلمنا الحق أنه سميع وبصير. بعد أداء الأمانة، والحكم بالعدل بين الناس، لأن الرسول شرح ذلك حين أمر من يقضي بين الناس أن يسوي بين الخصمين في لحظى ولفظه أي لا ينظر لواحد دون الثاني، ولا يكرم واحداً دون الآخر، فيسوي بين الاثنين وما دام سيسوي بين الاثنين، فلا بدْ أن تكون النظرة واحدة، والألفاظ واحدة. روى أن يهوديا خاصم سيدنا عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فنادى أمير المؤمنين عليا فقال: «قف يا أبا الحسن» فبدا الغضب على عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فقال له عمر: «أكرهت أن نسوي بينك وبين خصمك في مجلس القضاء؟ فقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» لا. لكني كرهتُ منك أن عظمتني في الخطاب فناديتني بكنيتي ولم تصنع مع خصمي اليهودي ما صنعت معي «. إذن فحين يقول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لأبي موسى الأشعري:» آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك «. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2354 فلا بد أن يقوم بتلك التسوية كل حاكم أو محكم بين خصمين فلا يميز ولا يرفع خصما على خصمه. و» اللحظ «عمل العين. وهذا يحتاج إلى بصير، واللفظ يحتاج إلى أذن تسمع، أي إلى سميع، فقال: {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} . لماذا قدم سبحانه هنا سميعاً على بصير؟ لأن ما يُسمع فيه تعبير واضح. أما النظرة فلا يعرفها إلا من يلاحظ أنه ينظر بحنان وإكبار، وهل وجدت له سبحانه صفة السمع بعد أن وجد ما يسمعه، وهل وجدت له صفة البصر بعد أن وجد ما يبصره؟ أو أن صفة السمع أزلية قديمة قبل أن يخلق خلقاً يسمع منه، وأن صفة البصر أزلية قديمة قبل أن يخلق خلقاً ليبصر أفعالهم؟ إنه سبحانه قديم أزلاً، موجود قبل كل موجود. وصفاته قديمة بقدمه. إذن ففيه فرق بين أن تقول: سميع وبصير، وسامع ومبصر، فأنت تكون سامعاً إذا وجد بالفعل من يٌسْمع، إذن فما معنى كلمة» سميع «؟ أن يكون المدرِك على صفة يجب أن تدرك المسموع إن وجد المسموع وإن لم يوجد المسموع فهو ليس سامعاً فقط، إنما هو سميع، وكذلك بصير. وأضرب المثل - ولله المثل الأعلى، وهو منزه عن كل تشبيه - الشاعر الذي يقول القصيدة، إنه قبلما يقول القصيدة كان شاعراً في ذاته وقال القصيدة بوجود ملكه الشعر في ذاته. والحق سبحانه وتعالى» غفَّار «قبل أن يخلق الخلق، أي أنه على صفة تدرك الأمر إن وجد. . وهو غفار قبل أن يوجد الخلق ويرتكبوا ما يغفره، وهو» سميع بصير «أزلاً. أي قبل أن يخلق الخلق الذين سينشأ منهم ما يٌُبْصر وينشأ منهم ما يُسْمع. ويقول الحق بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2355 هذه الآية كثر كلامنا فيها، وفي كل مناسبة من المناسبات جاء الكلام عنها، ولكن علينا أيضاً أن نعيد بشيء من الإيجاز ما سبق أن قلناه فيها، الله سبحانه وتعالى يقول: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} ، ولماذا أطيع الله وأطيع الرسول؟ لأن فيه الحيثيات المقدمة، فأنت عندما ترى حكما من القاضي تجد أن هناك حيثيات الحكم أي التبرير القانوني للعقوبة أو للبراءة؛ فيقول القاضي: بما أنه حدث كذا فقانونه كذا حسب المادة كذا. هذه هي الحيثيات. و «الحيثيات» مأخوذة من: حيث إنه حدث كذا فحكمنا بكذا. أو حيث إنه لم يحدث كذا فحكمنا بكذا، إذن فحيثيات الحكم معناها: التبريرات التي تدل على سند الحكم لمن حكم. هنا يقول سبحانه: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} . وهل الحق سبحانه وتعالى قال: يا أيها الناس أطيعوا الله وأطيعوا الرسول؟ لا. لم يقل ذلك، لقد قال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} . إذن فما دمت قد آمنت بالله إلهاً حكيماً خالقاً عالماً مكلِّفاً فاسمع ما يريد أن يقوله لك، فلم يكلف الله مطلق أناس بأن يطيعوه، إنما دعا مطلق الناس أن يؤمنوا به. ومن يؤمن يقول له: أطعني ما دمت قد آمنت بي. إذن فحيثية الطاعة لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نشأت من الإيمان بالله وبالرسول. وهذه عدالة كاملة؛ لأنه سبحانه لا يكلف واحداً أن يفعل فعلاً إلا إذا كان قد آمن به - سبحانه - مكلِّفاً، آمن به أمراً، أما الذي لا يؤمن به فهو لا يقول له: افعل كذا ولا تفعل كذا، إنه سبحانه يطالبه أن يؤمن به أولاً، فإذا ما آمن به يقول له: استمع إلى، ولذلك تجد كل تكليف يصدر بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} . إن حيثية إطاعة الله وإطاعة الرسول هي: الإيمان به، هذه هي الحيثية الإيمانية الأولى، أما إن جال ذهنك لتدرك سر الطاعة، فهذا موضوع آخر، ولذلك أوضح: إياكم أن تقبلوا على أحكام الله بالبحث فيها أولا فإن اقتنعتم بها أخذتموها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2356 وإن لم تقتنعوا بها تركتموها، لا. إن مثل هذا التصرف معناه أنك شككت في الحكم. بل عليك أن تقبل على تنفيذ أحكامه؛ لأنه سبحانه قالها وأنت مؤمن بأنه إله حكيم. لكن هل ذلك يمنع عقلك من أن يجول ليقهم الحكمة؟ نقول لك: أنت قد تفهم بعض الحكمة، ولكن ليست كل الحكمة؛ لأن كمالات حكمة الله لا تتناهى، فقد تعرف جزءاً من الحكمة وغيرك يعرف جزءاً آخر، ولذلك قالوا: إن الفرق بين أمر البشر للبشر، وأمر الله للمؤمنين به شيء يسير جداً هو: أمر الله للبشر تسبقه العلة وهي أنك آمنت به، أما أمر البشر للبشر فأنت تقول لمن يأمرك: أقنعني لماذا أفعل هذه؟؛ لأن عقلك ليس أرقى من عقلي. فأنت لا تصنع شيئا إلا إذا اقتنعت به. وتكون التجارب قد أثبتت لك أصالة رأى من تستمع له وأنه لن يغشك. وهكذا نرى أن طاعتنا لله تختلف عن طاعتنا للمخلوق؛ فنحن نطيع الله لأننا آمنا به وحينما يطلب سبحانه منا أن نطيعه، ننظر هل هذه الطاعة لصالحنا أو لصالحه؟ فإذا وثقنا أنه بكل صفات الكمال الموجودة له خلقنا؛ إذن فسبحانه لا يريد صفة جديدة تكون له؛ لأنه لم يخلقنا إلا بصفات الكمال فيه، وسبحانه قد خلقك دون أن يكون لك حق الخلق عنده، خلقك بقدرته، وأمدك لاستبقاء حياتك بقيوميته، فحين يطلب منك الإله الذي يتصف بتلك الكمالات شيئا فهو يطلبه لصالحك، كما ترى أي إنسان من البشر - ولله المثل الأعلى - يُعني بصنعته ويحب أن تكون صنعته متميزة، فكذلك الحق سبحانه وتعالى يريد أن يباهي بهذا الخلق. ويباهي بهذا الخلق ليس بالإكراه على أن يفعلوا ما يأمر به بالتسخير لا. بل بالمحبوبية لأمر الله وأن نعلن بسلوكنا. نحن نحبك يا ربنا. وإلا فأنت - أيها الإنسان - قد تختار أن تكون عاصيا. وما دمت مخيرا أن تكون عاصياً ثم أطعت، فهذه تثبت لله صفة المحبوبية لأنه؛ - كما تعرف - هناك فرق بين من يقهر بقدرته ومن يعطيك الاختيار حتى تأتيه وأنت محب، على الرغم من أنه قادر على أن يقهرك. فساعة قال الحق: {أَطِيعُواْ الله} معناها: أنه لم يطلب منا شططاً، وكيف نطيع الله؟ أن نطيعه في كل أمر، وهل أَمَرَ اللهُ خَلْقَه منفردين؟ . لا، بل أمرهم كأفراد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2357 وكجماعة، وأعطاهم الإيمان الفطري الذي يثبت أن وراء الكون قوة أخرى خلقته. وهذه القوة لا يعرف أحد اسمها، ولا مطلوباتها، أو ماذا ستعطي لمن يطيعها؛ إذن فلا بد أن يوجد مُبلِّغ. ولذلك فأنا أرى أن بعض الفلاسفة قد جانبوا الصواب عندما قالوا: إن العقل كاف في إدراك الدين، وأقول لهم: لا. العقل كاف في إدراك من ندين له، ولكن العقل لا يأتي لنا بكيفية الدين ومنهجه. لذلك لا بد من بلاغ عنه يقول: افعلوا كذا وكذا وكذا، نقول لهؤلاء الفلاسفة: إن العقل كافٍ في استنباط وجود قوة وراء هذا الكون، أما شكل هذه القوة، واسمها وماذا تريد؛ فلا أحد يعرف ذلك إلا أن يوجد مبلِّغ عن هذه القوة، ولا بد أن تكون القوة التي آمنت بها بفطرتك قد أرسلت من يقول: اسمه كذا، ومطلوبه كذا، إذن فقوله: {أَطِيعُواْ الله} يلزم منها إطاعة الرسول. وبعد ذلك قال: {وَأُوْلِي الأمر} هنا لم يتكرر لهم الفعل، فلم يقل: وأطيعوا أولي الأمر لنفهم أن أولي الأمر لا طاعة لهم إلا من باطن الطاعتين: طاعة الله وطاعة الرسول، ونعلم أن الطاعة تأتي في أساليب القرآن بثلاثة أساليب «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول» و «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول» ، وأطيعوا الرسول فقط. إذن فثلاثة أساليب من الطاعة. الأسلوب الأول: أطيعوا الله والرسول؛ فأمر الطاعة واحد والمطاع هو الله والرسول. والأسلوب الثاني: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول. والأسلوب الثالث: أطيعوا الرسول، نعم. فالتكليفات يأمر بها الحق سبحانه وتتأكد بحديث من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو فعله أو تقريره، وهنا تكون الطاعة في الأمر لله وللرسول، أو أن الحق قد أمر إجمالاً والرسول عين تفصيلاً؛ فقد أطعنا الله في الإجمال وأطعنا الرسول في التفصيل فتكون الطاعة لله، وتكون الطاعة للرسول، أو إن كان هناك أمر لم يتكلم فيه الله وتكلم الرسول فقط. ويثبت ذلك بقول الحق: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2358 {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] . وقوله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . إذن فهذه تثبت أن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاثة ملاحظ في التشريع: ملحظ يشرع فيه ما شرع الله تأكيداً له أو أن الله قد شرع إجمالاً، والرسول عين تفصيلا. والأمثلة على ذلك: أن الله فرض علينا خمس صلوات، وفرض علينا الزكاة، وهذه تكليفات قالها ربنا؛ والرسول يوضحها: النصاب كذا، والسهم كذا، إذن فنحن نطيع ربنا في الأمر إجمالاً، ونطيع الرسول في الأمر التفصيلي، أو أنّ الأمر لم يتكلم فيه الله حكماً، وإنما جاء من الرسول بتفويض من الله، ولذلك فإن قال لك أي إنسان عن أي حكم من الأحكام: هات دليله من القرآن ولم تجد دليلاً من القرآن فقل له: دليل أي أمر قال به الرسول من القرآن هو قول الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . هذا دليل كل أمر تكليفي صدر عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقد يقول قائل: هناك فارق بين الأمر الثابت بالسنة والفرض. نقول: لا تخلط بين السنة وهي الأمر الذي إن فعلته تثاب وإن لم تفعله لا تعاقب، والفرض الذي يجب على المكلفَّ أن يفعله، فإن تركه أثم وعوقب على الترك، وهذا الفرض جاء به الحق وأثبته بالدليل كالصلوات الخمس وعدد الركعات في كل صلاة، فالدليل في الفرض هنا ثبت بالسنة وهذا ما يسمى سنية الدليل؛ وهناك فرق بين سنية الحكم كأن يصلي المسلم قبل الظهر ركعتين وقبل الصبح ركعتين وفرضية الحكم كصلاة الصبح والظهر. . إذن ففيه فرق بين الشيء الذي إن فعلته تثاب عليه وإن لم تفعله لا تعاقب عليه والشيء الذي يفرض عليك أداؤه، فإن تركته أثمت وعوقبت، وأما سنية الدليل فهي شرح ما جاءت به الفروض شرحاً تطبيقياً ليتبعه المسلمون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2359 أما الأمر بطاعة أولى الأمر فقد جاءت بالعطف على المطاع دون أمر بالطاعة، مما يدل على أن طاعة وليّ الأمر ملزمه إن كانت من باطن طاعة الله وطاعة رسوله، وفي ذلك عصمة للمجتمع الإيماني من الحكام المتسلطين الذين يحاولون أن يستذلوا الناس بقول الله: {وَأُوْلِي الأمر} ويدعون أن طاعتهم واجبة، يقول الواحد منهم: ألست ولي أمر؟ . فيرد العلماء: نعم أنت ولي أمر ولكنك معطوف على المطاع ولم يتكرر لك أمر الطاعة، فدلّ ذلك على أن طاعتك واجبة إن كانت من باطن الطاعتين. فإن لم تكن من باطن الطاعتين فلا طاعة لك، لأن القاعدة هي «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ، هكذا قال أبو حازم لمسلمة بن عبد الملك حينما قال له: ألسنا ولاة الأمر وقد قال الله: {وَأُوْلِي الأمر} . قال: ويجب أن نفطن أيضاً إلى أنها نزعت في قوله سبحانه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} . إذن فالحاكم المسلم مطالب أولاً بأداء الأمانة، ومطالب بالعدل، ومطالب أيضاً أن تكون طاعته من باطن طاعة الله وطاعة رسوله. فإن لم تكن فيه هذه الشروط، فهو حاكم متسلط. {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} إذن فالتنازع لا بد من أن يكون في قضية داخلة في نطاق مأمورات الطاعة، ويجب أن يكون لها مردّ ينهى هذا التنازع {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} . والذين يعرفون هذه الأحكام هم العلماء، فإن تنازع المحكوم مع الحاكم نذهب إلى العلماء ليبينوا لنا حكم الله في هذه المسألة، إذن فإن أريد ب «أولي الأمر» الحاكم، نقول له: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} أي على الحاكم أن يتبع ما ثبت عن الله والرسول، والحجة في ذلك هم العلماء المشتغلون بهذا الأمر، وهم الملاحظون لتنفيذ حكم الله بما يعرفونه عن الدين. والحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا ذلك، يريد أن ينهي مسألة التنازع، لأن التنازع يجعل حركات الحياة متضاربة، هذا يقول بكذا وذلك يقول بكذا، فلا بد أن نرده إلى مردّ أعلى، والحق يقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . إذن فقد يكون المراد بأولى الأمر «العلماء» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2360 نقول إن الآية الأولى عامة وهي التي جاءت بها طاعة ولي الأمر ضمن طاعة الله والرسول، والثانية التي تخص الاستنباط يكون المقصود بأولى الأمر هم العلماء. وأولوا الأمر في القضية الأولى التي عندما نتنازع معهم في أمر نرده إلى الله والرسول هم الذين يشرفون على تفنيذ أحكام الله، وهذه سلطة تنفيذية، أما سلطة العلماء فهي تشريعية إيمانية. {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} إذن فالذي لا يفعل ذلك يجازف بأن يدخل في دائرة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ونقول لكل منهم: راجع إيمانك بالله واليوم الآخر - ابتداءً في تلقي الحكم، وإيمانا باليوم الآخر - لتلقي الجزاء على مخالفة الحكم، فالحق لم يجعل الدنيا دار الجزاء. وينبهنا الحق في ختام الآية: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي في ذلك خير للحكام وللمحكومين معاً؛ لأن الخير هو أن يقدر الإنسان ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وكل شهوة من الشهوات إن قدَّرت نفعها فلن تنفعك سوى لحظة ثم يأتي منها الشر. والتأويل هو: أن تُرْجع الأمر إلى حكمه الحقيقي، من «آل» يئول إذا رجع {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} تعني أحسن مَرْجعاً وأحمد مغبة وأجمل عاقبة؛ لأنك إن حرصت بما تريد على مصالح دنياك، فما ترجع إليه سيكون فيه شر لك. إذن فالأحسن لك أن تفعل ما يجعلك من أهل الجنة، أو «وأحسن تأويلا» في الاستنباط، لأن العلماء سيأخذونه من منطلق مفهوم قول الله وقول الرسول، وأنت ستأخذها بهواك، وفهمك عن الله يمنعك من الشطط ومن الخطأ. فإن كنتم تريدون الخير فلاحظوا الخير في كل أحيانه وأوقاته، ولا ينظر الإنسان إلى الخير ساعة يؤدي له ما في هواه، ولكن لينظر إلى الخير الذي لا يأتي بعده شر. وإذا ما نظرنا تاريخ الكثير من الحكام ووجدناهم قد أمنوا على انتقادهم في حياتهم بما فرضوه من القهر والبطش، فلما ماتوا ظهرت العيوب، وظهرت الحملات، إن الواجب على من يحكم أن يعتبر بما سمع عمن حكم قبله. فالذي حكم قبله كمم الأفواه وكسر الأقلام، وبعدما انتهى، طالت الألسنة وكتبت الأقلام، فيجب أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2361 نحسن التأويل وأن ننظر إلى المرجع النهائي، فمن استطاع أن يحمي نفسه في حياته بسطوته وجبروته لا يستطيع أن يحمي تاريخه وسمعته. إنه بعد أن انتهت السطوة والجبروت قيل فيه ما قيل، ونحن مازلنا في الدنيا ولم نذهب إلى الآخرة بعد؛ فإذا كان هذا هو جزاء الخلق. فما شكل جزاء الحق إذن؟! {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي مرجعاً وعاقبة. ويقول الحق بعد ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2362 نعرف أن {أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم، إن كان المعلوم قد سبق الحديث عنه، أو إن كان المعلوم ظاهراً حادثاً بحيث تراه، ونعرف أن الحق عبّر ب {أَلَمْ تَرَ} في كثير من القضايا التي لم يدركها المخاطب وهو سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ليدلنا على أن ما يقوله الله - وإن كان خبراً عما مضى - يجب أن تؤمن به إيمانك بالمرئى لك الآن، لأن الله أوثق في الصدق من عينك؛ فعينك قد تخدعك، لكن حاشا أن يخدعنا الله. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} والمراد هم المنافقون وبعض من أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. «والزعم» : مطية الكذب، فهم {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2362 وهو القرآن؛ {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} ، وهو التوراة والإنجيل و {يُرِيدُونَ} بعد ادعاء الإيمان؛ {أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت} ، والتحاكم إلى شيء هو: الاستغاثة أو اللجوء إلى ذلك الشيء لينهي قضية الخلاف. فعندما نقول: «تحاكمنا إلى فلان» ، فمعنى قولنا هذا: أننا سئمنا من آثار الخلاف من شحناء وبغضاء، ونريد أن نتفق إلى أن نتحاكم، ولا يتفق الخصمان أن يتحاكما إلى شيء إلا إذا كان الطرفان قد أجهدهما الخصام، فهما مختلفان على قضية، وأصاب التعب كُلاًّ منهما. {يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت} . «الطاغوت» - كما عرفنا - هو الشخص الذي تزيده الطاعة طغياناً، فهناك طاغٍ أي ظالم، ولما رأى الناس تخافه استمرأ واستساغ الظلم مصداقاً لقول الحق: {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54] . وهذا اسمه «طاغوت» مبالغة في الطغيان. والطاغوت يطلق على المعتدى الكثير الطغيان سواء أكان أناساً يُعبدون من دون الله ولهم، تشريعات ويأمرون وينهون، أم كان الشيطان الذي يُغري الناس، أم كان حاكماً جبّاراً يخاف الناس شرّه، وأي مظهر من تلك المظاهر يعتبر طاغوتاً. وقالوا: لفظ الطاغوت يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع فتقول رجل طاغوت، ورحلان طاغوت، ورجال طاغوت، يأتي للجمع كقوله الحق: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257] . ويأتي للمفرد كقوله الحق: {وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء: 60] . إذن فمرة يأتي للجمع ومرة يأتي للمفرد، وفي كل حكم قرآني قد نجا سبباً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2363 مخصوصاً نزل من أجله الحكم، فلا يصح أن نقول: إن حكماً نزل لقضية معينة ولا يُعدَّى إلى غيرها، هو يُعدَّي إلى غيرها إذا اشترك معها في الأسباب والظروف، فالعبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السبب. لقد نزلت هذه الآية في قضية منافق اسمه «بشر» . حدث خلاف بينه وبين يهودي، وأراد اليهودي أن يتحاكم إلى رسول الله، وأراد المنافق أن يتحاكم إلى «كعب بن الأشرف» ، وكان اليهودي واثقاً أن الحق له ولم يطلب التحاكم إلى النبي حباً فيه، بل حباُ في عدله، ولذلك آثر مَن يعدل، فطلب حكم رسول الله، أما المنافق الذي يعلن إسلامه ويبطن ويخفي كفره فهو الذي قال: نذهب إلى كعب بن الأشرف الطاغوت، وهذه تعطينا حيثية لصدق رسول الله في البلاغ عن الله في قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} . وكون اليهودي يريد أن يتحاكم إلى رسول الله، فهذه تدل على ثقته في أن رسول الله لن يضيع عنده الحق، ولم يطلب التحاكم إلى كبير من كبراء اليهود مثل «كعب بن الأشرف» لأنه يعرف أنه يرتشي. ويختم الحق الآية: {وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} فهما حين يتحاكمان إلى الطاغوت وهو «كعب بن الأشرف» ؛ وبعد ذلك يقضي لمن ليس له حق، سيغري مثل هذا الحكم كل من له رغبة في الظلم أن يظلم، ويذهب له ليتحاكم إليه! فالضلال البعيد جاء هنا لأن الظلم سيتسلسل، فيكون على القاضي غير العادل وزر كل قضية يُحكم فيها بالباطل، هذا هو معنى {ضَلاَلاً بَعِيداً} ، وليت الضلال يقتصر عليهم، ولكن الضلال سيكون ممتداً. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2364 وعندما نسمع قول الحق: {تَعَالَوْاْ} ، فهذا يعني نداء بمعنى: اقبلوا، ولكن كلمة «أقبلوا» تعني الإقبال على المساوي لك، أما كلمة: «تعالوا» فهي تعني الإقبال على الأعلى. فكأن لقضايا البشر تشريعاً هابطاً؛ لأنه من صناعة العقل البشري، وصناعة العقل البشري في قوانين صيانة المجتمعات - على فرض أننا أثبتنا حسن نياتهم وإخلاصهم - تكون على قدر مستوياتهم في الاستنباط واستقراء الأحداث. لكن التشريع حينما يأتي من الله يكون عالياً؛ لأنه - سبحانه - لا تغيب عنه جزئية مهما صغرت، لكن التقنين البشري يوضع لحالة راهنة وتأتي أحداث بعدها تستوجب تعديله، وتعديل القانون معناه أن الأحداث قد أثبتت قصور القانون وأنه قانون غير مستوعب للجديد، وهذا ناشيء من أن أحداثاً جدّت لم تكن في بال من قنّن لصيانة المجتمع، وكان ذهن مشرع القانون الوضعي قاصراً عنها، كما أن تعديل أي قانون لا يحدث إلا بعد أن يرى المشرع الآثار الضارة في المجتمع، تلك الآثار التي نشأت من قانونه الأول، وضغطت أحداث الحياة ضغطاً كبيراً ليعدّلوا في الأحكام والقوانين. أما تشريع الله فهو يحمي المجتمع من أن تقع هذه الأحداث من البداية، هذا هو الفارق بين تشريع وضعي بشري جاء لينقذنا من الأحداث، وتشريع رباني إلهي يقينا من تلك الأحداث. فالتشريع البشري كمثل الطب العلاجي. أما التشريع السماوي فهو كالطب الوقائي، والوقاية خير من العلاج. لذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بالتشريعات التي تقينا وتحمينا من شرّ الأحداث، أي أنه يمنع عن الإنسان الضرر قبل أن يوجد؛ وبذلك تتحقق رحمته سبحانه لطائفة من البشر عن أن تعضّهم الأحداث، بينما نجد للقانون الوضعي ضحايا، فيرق قلب المشرعين بعد رؤية هؤلاء الضحايا ليضعوا التعديل لأحكام وضعوها من قبل، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2365 ففي القانون الوضعي نجد بشراً يقع عليهم عبء الظلم لأنه قانون لا يستوعب صيانة الإنسان صيانة شاملة، وبعد حين من الزمن يتدخل المشرعون لتعديل قوانينهم، وإلى أن يتم التقنين يقع البشر في دائرة الغبن وعدم الحصول على العدل. أما الخالق سبحانه فقد برأ وخلق صنعته وهو أعلم بها؛ لذلك لم يغبن أحداً على حساب أحد؛ فوضع تشريعاته السماوية، ولذلك يقول الحق: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . «شفاء» إذا وجد الداء من غفلة تطرأ علينا، «ورحمة» وذلك حتى لا يأتي الداء. الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} . إنه - سبحانه - يضع من الأحداث ما يفضحهم فيتصرفون بما يكشف نفاقهم، وبعد ذلك يخطرهم الرسول ويعرف عنهم المجتمع أنهم منافقون. وهم {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} أي يُعرضون عنك يا رسول الله لأنهم منافقون، وكل منافق عنده قضيتان: قضية لسانية وقضية قلبية؛ فهو باللسان يعلن إيمانه بالله وبرسول الله، وفي القلب تتعارض ملكاته عكس المؤمن أو الكافر، فالمؤمن ملكاته متساندة؛ لأن قلبه انعقد على الإيمان ويقود انسجام الملكات إلى الهدى، والكافر أيضاً ملكاته متساندة؛ لأنه قال: إنه لم يؤمن ويقوده انسجام ملكاته إلى الضلال، لكن المنافق يبعثر ملكاته!! ملكة هنا وملكة هناك، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار، الكافر منطقي مع نفسه، فلم يعلن الإيمان؛ لأن قلبه لم يقنع، وكان من الممكن أن يقول كلمة الإيمان لكن لسانه لا يرضي أن ينطق عكس ما في القلب، وعداوته للإسلام واضحة. أما المنافق فيقول: يا لساني. . أعلن كلمة الإيمان ظاهراً؛ كي أنفذ من هذا الإعلان إلى أغراضي وأن تطبّق عليّ أحكام الإسلام فانتفع بأحكام الإسلام، وأنا من صميم نفسي إن وجدت فرصة ضد الإسلام فسأنتهزها. ولذلك يقول الحق: {فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2366 والمنافقون يواجهون تساؤلاً: لماذا ذهبتم للطاغوت ليحكم بينكم وتركتم رسول الله؟ . فقالوا: نحن أردنا إحساناً، وأن نرفق بك فلا تتعب نفسك بمشكلاتنا، ونريد أن نوفق توفيقاً بعيداً عنك كيلا تصلك المسائل فتشق عليك، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً على حكمك؛ وهم يقولون هذا بعد أن انفضحوا أمام الناس. {فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ} والمصيبة هي الأمر يطرأ على الإنسان بما يضرّه في عُرفه؛ ولأنهم منافقون فهم يريدون أن يكون هذا النفاق مكتوماً، فإذا جاءت حادثة لتفضحهم صارت مصيبة. على الرغم من أنّ الحادثة في واقعها ليست مصيبة. فعندما نعرف المنافقين ونظهرهم أمام أنفسهم وأمام الناس فنحن نكفي أنفسنا شرّهم. وهم يريدون بالنفاق أموراً لأنفسهم. وهكذا يكون الكشف لنفاقهم مصيبة بالنسبة لهم، هم يرون النفاق نفعاً لهم، فبه يستفيدون من أحكام الإسلام وإجرائها وتطبيقها عليهم، وعندما ينفضح نفاقهم يشعرون بالمصيبة، مثلهم كمثل الذي ذهب ليسرق، ثم فوجئ وهو داخل المكان ليسرق أن الشرطة موجودة لتقبض عليه، وهذا في الواقع نعمة لأنها تضرب على أيدي المجرم العابث، لكنها بالنسبة له مصيبة. وعندما تحدث لهؤلاء المنافقين مصيبة فهم يحلفون بالله كذباً لأنهم يريدون استدامة نفاقهم. . ويحاولون أن يعتذروا عما حدث، يحلفون بالله إنهم بالذهاب إلى الطاغوت وأرادوا الإحسان والتوفيق بينهم وبين خصومهم. لكن الحق يعلم ما يخفون وما يعلنون. فيقول سبحانه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2367 {أولئك الذين ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2368 وناهيك بعلم الله، ولذلك يقول ربنا: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30] . يعني: نحن لو شئنا أن نقول لك من هم لقلنا لك ودللناك عليهم حتى تعرفهم بأعيانهم، ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم لعلهم يتوبون، ولتعرفنهم من فحوى كلامهم وأسلوبهم. {أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ} لقد ذهبوا ليتحاكموا إلى الطاغوت، وقد ذهبوا إلى هناك لعلمهم أنهم ليسوا على حق، ولأنهم إن ذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسيحكم بالحق، والحق يضارُّهم ويُضايقهم، فهل كانوا بالفعل يريدون إحساناً وتوفيقاً، أو كانوا لا يريدون الحق؟ . لقد أرادوا الحكم المزور. لذلك يأتي الأمر من الحق لرسوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ؛ لأنك إن عاقبتهم فقد أخذت منهم حقك، والله يريد أن يبقي حقك ليقتص - سبحانه - لك منهم، وأعرض أيضاً عنهم لأننا نريد أن يُظهر منهم في كل فترة شيئاً لنعلم المجتمع الإيماني اليقظة إلى أن هناك أناساً مدسوسين بينهم، لذلك لا بد من الحذر والتدبر. كما أنك إذا أعرضت عنهم أسقطتهم من حساب دعوتك. «وعظهم» أي قل لهم: استحوا من أفعالكم. {وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} أي قل لهم قولاً يبلغ الغاية من النفس البشرية ويبلغ الغاية من الوعظ، أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2368 يوعدهم الوعيد الذي يخيفهم كي يبلغ من أنفسهم مبلغاً، أو {وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} أي أفضح لهم ما يسترون؛ كي يعرفوا أن الله مطلعك على ما في أنفسهم فيستحوا من فعلهم ولا يفعلوه، قل لهم ذلك بدون أن تفضحهم أمام الناس؛ لأن عدم فضحهم أمام الناس يجعل فيهم شيئا من الحياء، وأيضاً لأن العظة تكون ذات أثر طيب إذا كان الواعظ في خلوة مع الموعوظ فيناجيه ولا يفضحه، ففضح الموعوظ أمام الناس ربما أثار فيه غريزة العناد، لكن عندما تعظه في السرّ يعرف أنك لا تزال به رحيماً، ولا تزال تعامله بالرفق والحسنى. {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ} وإنك لو فعلت ذلك علناً فستعطي الأسوة لغيرك أن يفعل. والله قد أطلعك على ما في قلوب هؤلاء من الكفر أما غيرك فلا يطلعه الله على غيب ولو رمى أحداً بذنب أو كفر فلعله لا يصادف الحق والواقع وتشريعنا يقول لنا: «ادرأوا الحدود بالشبهات» . والتطبيق لهذا التشريع نجده عندما يتم القبض على سارق، لكن هناك شبهة في الاتهام، هذه الشبهة يجب أن تفسر في صالح المتهم، وندرأ الحد لوجود شبهة؛ فليس من مصلحة المسلمين أن نقول كل يوم: إننا قطعنا يد سارق أو رجمنا زانية. لكن إذا افتضحت الجرائم وليس في ارتكابها شبهة والمسألة واضحة فلا بد أن نضرب على أيدي المجرمين. فنحن ندرأ الحد بالشبهة حتى لا نلحق ضرراً أو ننال من بريء، ونطق الحد حتى يرتدع كل من تسول له نفسه أمراً محرّما حتى لا يرتكب الأمر المحرّم. وعندما يقام الحدّ في أي بيئة، فإنه لا يقام إلا لفترة قليلة وتتراجع بعدها الجرائم، ولا يرى أحد سارقاً أو زانياً. إذن فقول الله: {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} يعني: قل لهم ما يهددهم تهديداً يصل إلى أعماق نفوسهم، أو {وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ} بأن تكشف مستورات عيوبهم أو قل لهم في أنفسهم بينك وبينهم؛ لأن هذا أدعي إلى أن يتقبلوه منك ولا يوغر صدورهم ويثير فيهم غريزة العناد. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2369 {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2370 الغرض من إرسال الحق للرسول هو أن يعلم الناس شرع الله المتمثل في المنهج، وأن يهديهم إلى دين الحق. والمنهج يحمل قواعد هي: افعل، ولا تفعل، وما لا يرد فيه «افعل ولا تفعل» من أمور الحياة فالإنسان حرّ في اختيار ما يلائمة. وأي رسول لا يأتي بتكليفات من ذاته، بل إن التكليفات تجيء بإذن الله. وهو لا يطاع إلا بإذن من الله. فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بطاعة الله إلا إن يفوّض من الله في أمور أخرى، وقد فوّض الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . فالمؤمنون برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذن - عليهم طاعة الرسول في إطار ما فوّضه الله والله أذن له أن يشرع. ويتابع الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} . وظلم النفس: أن تحقق لها شهوة عاجلة لتورثها شقاء دائماً. وظلم النفس أشقى أنواع الظلم، فمن المعقول أن يظلم الإنسان غيره، أما أن يظلم نفسه فليس معقولاً. وأي عاصٍ يترك واجباً تكليفياً ويقبل على أمرٍ منهي عنه، قد يظن في ظاهر الأمر أنه يحقق لنفسه متعة، بينما هو يظلم نفسه ظلماً قاسياً؛ فالذي يترك الصلاة ويتكاسل أو يشرب الخمر أو يرتكب أي معصية نقول له: أنت ظلمت نفسك؛ لأنك ظننت أنك تحقق لنفسك متعة بينما أورثتها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2370 شقاءً أعنف وأبقى وأخلد، ولست أميناً على نفسك. والنفس - كما نعلم - تطلق على اجتماع الروح بالمادة، وهذا الاجتماع هو ما يعطي النفس الإنسانية صفة الاطمئنان أو صفة الأمارة بالسوء، أو صفة النفس اللوامة. وساعة تأتي الروح مع المادة تنشأ النفس البشرية. والروح قبلما تتصل بالمادة هي خيّرة بطبيعتها، والمادة قبلما تتصل بالروح خيرة بطبيعتها؛ فالمادة مقهورة لإرادة قاهرها وتفعل كل ما يطلبه منها. فإياك أن تقول: الحياة المادية والحياة الروحية، وهذه كذا وكذا. لا. إن المادة على إطلاقها خيّرة، طائعة، مُسَخَّرة، عابدة، مُسبِّحة. والروح على إطلاقها كذلك، فمتى يأتي الفساد. . ساعة تلتقي الروح بالمادة ويوجد هذا التفاعل نقول: أنت يا مكلف ستطمئن إلى حكم الله وتنتهي المسألة أم ستبقى نفسك لوّامة أم ستستمرئ المعصية وتكون نفسك أمارة بالسوء؟ فمَن يظلم مَن إذن؟ . إنه هواك في المخالفة الذي يظلم مجموع النفس من روحها ومادتها. فأنت في ظاهر الأمر تحقق شهوة لنفسك بالمخالفة، لكن في واقع الأمر أنك تتعب نفسك، {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} . ولنعلم أن هناك فرقاً بين أن يأتي الفاحشة إنسانَ ليحقق لنفسه شهوة. وأن يظلم نفسه، فالحق يقول: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} [آل عمران: 135] . إذن فارتكاب الفاحشة شيء وظلم النفس شيء آخر، «فعل فاحشة» قد متع إنسان نفسَه قليلاً، لكن من ظلم نفسه لم يفعل ذلك. فهو لم يمتعها ولم يتركها على حالها، إذن فقد ظلم نفسه؛ لا أعطاها شهوة في الدنيا؛ ولم يرحمها من عذاب الآخرة، فمثلاً شاهد الزور الذي يشهد ليأخذ واحدٌ حقَّ آخر، هذا ظلم قاسٍ للنفس، ولذلك قال الرسول: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2371 الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بِعرضٍ من الدنيا» . {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله} . وظلم النفس أيضاً بأن يرفع الإنسان أمره إلى الطاغوت مثلاً، لكن عندما يرفع الإنسان أمره للحاكم، لا نعرف أيحكم لنا أم لا؛ وقد يهديه الله ساعة الحكم. إن قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ} فالمسألة أنهم امتنعوا من المجيء إليك يا رسول الله؛ فأول مرتبة أن يرجعوا عما فعلوه، وبعد ذلك يستغفرون الله؛ لأن الذنب بالنسبة لعدم مجيئهم للرسول قبل أن يتعلق بالرسول تعلق بمن بعث الرسول، ولذلك يقولون: إهانة الرسول تكون إهانة للمرسِل؛ فصحيح أن عدم ذهابهم للرسول هو أمر متعلق بالرسول ولكن إذا صعدته تجده متعلقاً بمن بعث الرسول وهو الله، لأن الرسول لم يأت بشيء من عنده، وبعد أن تطيب نفس الرسول فيستغفر الله لهم، إذن فأولاً: يجيئون، وثانياً: يستغفرون الله وثالثاً: يستغفر لهم الرسول. وبعد ذلك يقول سبحانه: {لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} إذن فوجدان الله تواباً رحيماً مشروط بعودتهم للرسول بدلاً من الإعراض عنه ثم أن يَستغفروا الله؛ لأن الله ما أرسل من رسول إلا ليطاع بإذنه، فعندما تختلف معه لا تقل: إنني اختلفت مع الرسول؛ لا. إنك إن اختلفت معه تكون قد اختلفت مع من أرسله وعليك أن تستغفر الله. ولو أنك استغفرت الله دون ترضية الرسول فلن يقبل الله ذلك منك. فلا يقدر أحد أبداً أن يصلح ما بينه وبين الله من وراء محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وحين يفعلون ذلك من المجيء إلى الرسول واستغفارهم الله واستغفار الرسول لهم سيجدون الله تواباً رحيماً، وكلمة «توّاب» مبالغة في التوبة فتشير إلى أن ذنبهم كبير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2372 إن الحق سبحانه وتعالى خلق خلقه ويعلم أن الأغيار تأتي في خواطرهم وفي نفوسهم وأن شهواتهم قد تستيقظ في بعض الأوقات فتنفلت إلى بعض الذنوب، ولأنه رب رحيم بين لنا ما يمحص كل هذه الغفلة، فإذا أذنب العبد ذنباً أَرَبُّهُ الرحيم يتركه هكذا للذنب؟ لا. إنه سبحانه شرع له العودة إليه؛ لأن الله يحب أن يئوب عبده ويرجع إليه وإن غفل بمعصيته. إن الحق سبحانه وتعالى يعلمنا كيف نزيل عنا آثار المعاصي، فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ} فالعلاج من هذه أن يجيئوك لأنهم غفلوا عن أنك تنطق وتبلغ من قِبَل الحق في التشريع وفي الحكم، وبعد المجيء يستغفرون الله ويستغفر لهم الرسول، تأييداً لاستغفارهم لله، حينئذ يجدون الله تواباً رحيماً. ويقول الحق بعد ذلك: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2373 إذن لا بد أن نستقبل الإيمان بالإقبال على كل ما جاء به رسول الله، فساعة حكّم المنافقون غيره برغم إعلانهم للإسلام جاء الحكم بخروجهم من دائرة الإيمان، وعلى المؤمنين أن يتعظوا بذلك. ونلحظ في قول الحق: {فَلاَ وَرَبِّكَ} وجود «لا» نافية، وأنه - سبحانه - أقسم بقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ} ، ونعلم أن المنافقين قد ذهبوا فحكَّموا غير رسول الله، مع أنهم شاهدون بأنه رسول الله فكيف يشهدون أنه رسول الله، ثم يحكمون غيره ولا يرضون بقضائه؟ وتلك قضية يحكم الحق فيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2373 فيقول: لا. هذه لا تكون أبداً. إذن ف «لا» النافية جاءت هنا لتنفي إيمانهم وشهادتهم أنه رسول الله؛ لأنهم حكَّموا غيره. فإذا ثبت أنهم شهدوا أنه رسول الله ثم ذهبوا لغيره ليقضي بينهم إذا حدث هذا. فحكمنا في القضية هو: لا يكون لهم أبداً شرف شهادة أنه رسول الله. وبعد ذلك أقسم الحق فقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ونحن الخلق لا نقسم إلا بالله، لكنه سبحانه له أن يقسم بما شاء على ما يشاء، يقسم بالمادة الجبلية: {والطور} [الطور: 1] . ويقسم بالذاريات: {والذاريات ذَرْواً} [الذاريات: 1] . والذاريات هي الرياح، ويقسم بالنبات: {والتين والزيتون} [التين: 1] . ويقسم بالملائكة: {والصافات صَفَّا} [الصافات: 1] . ولكنك إن نظرت إلى الإنس فلن تجده أقسم بأحد من سيد هذا الكون وهو الإنسان إلا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأقسم بحياته فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2374 و «لعمرك» يعني: وحياتك يا محمد إنهم في سكرتهم يعمهون، أي هم في غوايتهم وضلالهم يتحيرون فلا يهتدون إلى الحق، وأقسم الله بعد ذلك بنفسه، فقال: {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] . وساعة يقول: «فورب السماء والأرض» . فلا بد أن يأتي بربويته لخلق عظيم نراه نحن، ولذلك قال: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] . يعني إذا فكرت أيها الإنسان في خلق السماوات والأرض لوجدته أكبر من خلق الناس. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} وهذا تكريم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ودليل على أن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ذو منزلة عالية، إياكم أن تظنوا أنه حين قال: «لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس» أن محمداً قد دخل في الناس، إنّه سبحانه يوضح: لا، سأقسم به كما أقسمت بالسماء والأرض، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} ، ولماذا يقسم برب السماء والأرض؛ لأن الربّ له قدرة عظيمة هائلة، فهو يخلق ويربي، ويتعهد ويؤدب. إن خلق السماوات والأرض يكفي فيها الخلق وناموس الكون والتسخير. لكن عندما يخلق محمداً فلا يريد الخلق والإيجاد فقط، بل يريد تربية فيها ارتقاءات النبوة مكتملة فيقول له: فوربك الذي خلقك، والذي سواك، والذي رباك، والذي أهَّلَكَ لأن تكون خير خلق الله وأن تكون خاتم الرسل، ولأن تكون رحمة الله للعالمين، يقسم بهذا كله فيقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أبعد ما يدخل سبحانه فينا هذه المهابة بالقسم برب رسول الله نقول: لا نحكم محمداً ومنهجَه في حياتنا؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2375 إذن فقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} وحَكَّم كل مادتها مثل «الحُكْم» و «التحكيم» و «الحكمة» و «التحكم» وكل هذا مأخوذ من الحَكَمَة وهي حديدة اللجام الذي يوضع في فم الفرس يمنعه به صاحبه أن يشرد، ويتحكم فيه يميناً ويساراً، فكذلك «الحِكْمَة» تعوق كل واحد عن شروده في أخذ حق غيره، فالتحكيم والحكم، والحكمة، كلها توحي بأن تضع الشيء في موضعه الصحيح. وكلمة «شجر» مأخوذة من مادة (الشين والجيم والراء) وإذا رأيتها فافهم أنها مأخوذة من الشجر الذي تعرفه. وهناك نباتات تكبر فيلتصق بعضه ببعض فتتشابك، كما نرى مثلاً شجراً متشابكاً في بعضه، وتداخلت الأفرع مع بعضها بحيث لا تستطيع أيها الناظر أن تقول: إن هذه ورقة هذه الشجرة أو ورقة تلك الشجرة. وإذا ما أثمرتا وكانتا من نوع واحد لا تقدر أن تقول: إن هذه الثمرة من هذه الشجرة، ولا هذه الثمرة من تلك الشجرة، أي أن الأمر قد اختلط. «وشجر بينهم» أي قام نزاع واختلاط في أمر، فأنت تذهب لتفصل هذه الشجرة عن تلك، وهذه الثمرة عن تلك الثمرة، وساعة ترى أشجاراً من نوع واحد، وتداخلت مع بعضها واختلطت، لا يعينك إن كنت جاني الثمرة أن تكون هذه الثمرة التي قطفتها من هنا أو من هناك، فأنت تأخذ الثمرة حيث وجدت، لا يعنيك أن تكون من هذه أو من تلك، وإن كنت تستظل تحت شجر لا يعنيك أن تعرف هل جاء هذا الظل من ورق هذه الشجرة أو من تلك الشجرة، فهذه فائدة اختلاط المتساوي، لكن إذا أردت ورقة شجرة من نوع معين فأنتقيها لأنني أريدها لأمر خاص. والخلق كلهم متساوون فكان يجب إن اختلطوا أن تكون المسألة مشاعاً بينهم، لكن طبيعة النفس الشُحّ، فتنازعوا، ولذلك فالقاضي الذكي يقول للمتخاصِمَيْن: أتريدان أن أحكم بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل؟ فيفزعان ويقولان: أهناك خير من العدل؟ . يقول: نعم إنه الفضل، فما دامت المسألة أخوة واحدة، والخير عندك كالخير عندي فلا نزاع، أمَّا إذا حدث الشجار فلا بد من الفصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2376 ومن الذي يفصل؟ . إنه سيدنا رسول الله بحكم قول الحق: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . . فالإيمان ليس قوله تقال فحسب وإنما هو قولة لها وظيفة، فأن تقول لا إله إلا الله وتشهد أن محمداً رسول الله فلا بد أن لهذا القول وظيفة، وأن تُحكِم حركة حياتك على ضوء هذا القول، فلا معبود إلا الله، ولا آمر إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا مشرع إلا الله، فهي ليست كلمة تقولها فقط! وينتهي الأمر، ثم عندما يأتيك أمر يحتاج إلى تطبيقها تفرّ منه. {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} بمنهج الإسلام {حتى يُحَكِّمُوكَ} فهذا هو التطبيق {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ولا يصح أن يحكموك صورياً، بل لا بدّ أن يحكموك برضا في التحكيم، {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} أي ضيقاً {مِّمَّا قَضَيْتَ} . فعندما يحكم رسول الله لا تتوانوا عن حكمه ولا تضيقوا به {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} أي يُذْعِنُوا إذعاناً. إذن فالإيمان لا يتمثل في قول يقال وإنما في توظيف ذلك القول. بأن تلجأ إليه في العمليات الحركية في الحياة، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} حتى يترجم الإيمان إلى قضية واقعية اختار الحق لها أعنف ساعات الحرج في النفس البشرية وهي ساعة الخصومة التي تولد اللدد والميل عن الحق، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} لأنه قد يجد حرجاً ولا يتكلم. وانظروا إلى الثلاثة: الأولى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ} ، هذه واحدة، {فاستغفروا الله} هذه هي الثانية، {واستغفر لَهُمُ الرسول} هذه هي الثالثة، هذه ممحصات الذنوب، والذي يدخلك في حظيرة الإيمان ثلاثة أيضاً: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} هذه هي الأولى، {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ} هذه هي الثانية، و {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} هذه هي الثالثة. إذن فالقولان في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: دخول حظيرة إيمان، وخروج من غلّ ذنب. وهنا وقفة لا أبالغ إذا قلت: إنها شغلتني أكثر من عشر سنين، هذه الوقفة حول قول الله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} ذلك يا رب تمحيص من عاصر رسولك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2377 فما بال الذين لم يعاصروه؟ فأين الممحص الذي يقابل هذا لمن لم يعاصر حضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والرسول إنما جاء للناس جميعاً، فكيف يوجد ممحص لقوم عاصروا رسول الله ثم يحرم من جاءوا بعد رسول الله من هذا التمحيص؟ هذه مسألة ظلت في ذهني ولا أجد لها جواباً، إلا أني قلت: لقد ثبت عندي وعند بعض أهل العلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال مطمئنا المؤمنين في كافة العصور: (حياتي خير لكم تُحْدِثون ويُحْدَثُ لكم فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم تُعْرض عليَّ أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرتُ لكم) . انظر إلى التطمين في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تعرض عليّ أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم» . فاستغفار الرسول لنا موجود. إذن فما بقي منها إلا أن نستغفر الله، وما بقي إلا «جاءوك» أي يجيئون لسنتك ولما تركت منها ف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو القائل: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض» . فكما كان الأحياء يجيئونه، فنحن نجيء إلى حكمه وسنته وتشريعه، وهو يستغفر لنا جميعا، إذن فهذه منتهية، فبقي أن نستغفر الله قائلين: نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم ونتوب إليه. . نفعل ذلك إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2378 وقوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} أي لا يجدوا حرجاً عندما يذعنون لأي حكم تكليفي أو حكم قضائي، والحكم التكليفي نعرفه في: افعل ولا تفعل، أما الحكم القضائي فهو عندما يتنازع اثنان في شيء وهذا يقتضي أن نقبل الحكم في النزاع إذا ما صدر عن رسول الله أو عن منهجه. إذن فلا بد أن نسلم تسليماً في الاثنين: في الحكم التكليفي، وفي الحكم القضائي. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2379 وهنا يساوي الحق بين الأمر بقتل النفس والأمر بالإخراج من الديار، فالقتل خروج الروح من الجسد بقوة قسرية غير الموت الطبيعي، والإخراج من الديار هو الترحيل القسري بقوة قسرية خارج الأرض التي يعيش فيها الإنسان، إذن فعملية القتل قرينة لعملية الإخراج من الديار فساعة يُقتل الإنسان فهو يتألم، وساعة يخرج من وطنه فهو يتألم، وكلاهما شاق على الإنسان، ويأتي الحق بهذين الحكمين اللذين سبقا في قوم موسى عليه السلام، فالحق يقول: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2379 ويقال: إن قوم موسى عندما سمعوا هذا الحكم قام سبعون ألفاً منهم بقتل أنفسهم، ونعلم أيضاً أن قوم موسى أخرجوا من ديارهم وذهبوا في التيه. يقول سبحانه وتعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض} [المائدة: 26] . أي لا يدخلونها ولا يملكونها. والحق هنا يوضح: أن الإسلام لم يأت بمثل ما جاءت به الشرائع السابقة التي كانت التوبة فيها تقتضي قتل النفس، تلك الشرائع التي رأت أن النفس تغوي صاحبها بمخالفة المنهج فلا بد أن يضيعها. ومن لطف الله سبحانه لم يصدر علينا مثل هذا الحكم، ولذلك فسيدنا عبد الله ابن مسعود، وسيدنا عمار بن ياسر، وثابت بن قيس؛ كل هؤلاء قالوا: والله لو أمرنا بهذا لفعلنا، وقال سيدنا عمر: والله لو أمرنا بهذا لفعلنا والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك. إذن فهذا لطف، إنه بيّن لهم: لو كتبنا عليهم أن يقتلوا أنفسهم أو يخرجوا من ديارهم كما حدث لقوم موسى. ماذا كانوا يفعلون؟ لكن ربنا استجاب لدعائهم. {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] . لقد استجاب الحق لهم، لكن ماذا كان يحدث منكم لو كتب عليكم ذلك؟ وسبب هذه الحكاية أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له ابن عمة اسمه «الزبير بن العوام» وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وهناك واحد آخر اسمه «حاطب بن أبي بلتعة» كانا في المدينة، ومن زار المدينة المنورة يجد هناك منطقة اسمها «الحرة» وأرضها من حجارة سوداء كأنها محروقة، وفيها بعض «الحيطان» أي: البساتين؛ لأنهم يسمون البستان «حائطاً» ، فقد كانوا يخافون من طغيان السيل فيبنون حول الأرض المزروعة حائطاً، يرد عنها عنف السيل ويحدد الحيازة فيها، فكان لحاطب بن أبي بلتعة أرض زراعية منخفضة عن أرض الزبير بن العوام، فالسيل يأتي أولاً من عند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2380 أرض الزبير ثم ينزل إلى أرض حاطب، ونعلم أن الأمطار تنزل ومتفرقة في مكان ثم يتجمع الماء في جدول صغير يسمونه «شراج» ومنه يروون بساتينهم. فلما جاء السيل وأرادوا أن يرووا بساتينهم حدث خلاف بين الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، فأرض الزبير تعلو أرض حاطب وحاطب يريد أن تمر المياه لأرضه أولاً ثم يروي الزبير أرضه بعد ذلك. فلما تحاكما إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حكم للزبير فقد كان الحق معه، ولم يكن الرسول ليلوي الحق لمجرد القرابة، فمن الناس من يحكم بالظلم ليشتهر بين الناس بالعدل، فقد يتخاصم ابنه مع واحد آخر والحق مع ابنه، فلكيلا يقول الناس: إنه جامل ابنه. يحكم على ابنه! وهذا ليس عدلاً؛ فالعدل أن تحكم بالحق ثم تطلب من ابنك أن يتنازل عن حقه ليصبح عطاؤه لغيره فضلاً. فالشجاعة هي أن تحكم بالحق، وهناك شجاعة أقوى وهي أن تحكم بالحق، وإن كان على نفسك، لأن الحق أعز من نفسك. ونص هذه الواقعة كما أوردها الإمام البخاري في صحيحه بسنده قال: «حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بَدْراً إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شراج من الحرة كان يسقيان به كلاهما فقال رسول الله عليه وسلم للزبير: اسقِ يا زبير ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله آنْ كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال: اسق ثم احبس حتى يبلغ الجدر فاستوعى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل ذلك أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة: قال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . فلما حكم رسول الله للزبير بأن يسقي زرعه ثم يرسل الماء إلى جاره لم يعجب ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2381 حاطب بن أبي بلتعة، فقال: لأن كان ابن عمتك، والعربي يقول الكلمة ويترك لنباهة السامع أن يستنبط الباقي، وكأنه يعني: حكمت له لأنه ابن عمتك. لوى شدقية، فتغير وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لحظة علمه أن ابن أبي بلتعة لم يقدر عدالة الحق والحكم. . وكان كثير من الناس ممن كانوا يتصيدون للإسلام يقولون: هو قد حكم أولاً أن يروي الزبير ثم يطلق الماء لحاطب، فلما غضب حاطب بن أبي بلتعة قال له: اسق يا زبير واستوف حقك، وخذ من الماء ما يكفيك ثم أرسله لجارك، فقالوا: لماذا حكم أولاً بأن يسقي ثم يرسل الماء إلى جاره ثم عدل في الحكم؟ الناس لم تفهم أن أرض الزبير عالية بينما أرض حاطب منخفضة، وأنتم إذا نظرتم إلى أي وادٍ؛ تجدون الخضرة والخصب في بطن الوادي وليس في السفح؛ لأن الماء وإن جاء من الأرض العالية سينزل إلى الأرض المنخفضة، وإذا رويت المنخفض أولا وأعطيته لا يصيب العالي شيء. إذن فالحكم الأول كان مبنياً على التيسير والفضل من الزبير، والحكم الثاني جاء مبنيّاً على العدل، ورسول الله بالحكم الثاني - وهو أن يستوفي الزبير حقه ويأخذ من الماء ما يكفيه - كأنه قال له: سنعدل معك بعدما كنا نجاملك، فقال الحق سبحانه وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} . وإذا كان هذا هو الأمر فكيف لو فعلنا بهم مثلما فعل الرسول من الأمم السابقة؟ عندما أمروهم أن يقتلوا أنفسهم أو أن يخرجوا من ديارهم، هذا الحكم لم ينفذه إلا عدد قليل منهم وهم الثابتون في الإيمان. وهكذا نعلم أن الحق لم يخل الأمة من ممتثلين ملتزمين يؤدون أمر الله كما يجب. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} ولو فرضنا أن الله قال: اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ثم بعد ذلك فعلوه لوجدوا في ذلك الخير عما كان في بالهم؛ لأن الناس يجب أن تفطن إلى أن تسأل نفسها ما غاية المؤمن حين يؤمن بإله؟ وما غاية هذا الإيمان؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2382 أنت في دنياك تعيش مع أسباب الله المخلوقة لك، وحين تنتقل إلى الله تعيش مع المسبب، فما الذي يحزنك عندما قال لك: اقتل نفسك؟ إنه قال لك: اقتل نفسك لماذا؟ لأنك تنتقل للمسبب وتحيا دون تعب. إن الحكم من الله هو ارتقاء بالإنسان، ونحن في حياتنا الدنيا نجد من يدق الجرس فيأتيه الطعام، ويدق الجرس فيأتيه الشاي، ويدق الجرس فتأتيه الحلوى. لكن لا يمكن أن ترتقي الدنيا إلى أن يوجد ارتقاء بحيث إذا خطر الشيء ببال الإنسان وُجد الشيء أمامه، فلا يدق جرساً ولا يجهد نفسه، فبالله الذي يعيش في الأسباب ثم نريد أن ننقله إلى أن يعيش مع المسبب، فهل هذه تحزنه؟ لا؛ لأنهم سيجدون: خيرا أكثر. إنك: لو قارنت الأمر لوجدت الدنيا عمرها بالنسبة لك مظنون، ومحدود، ونعيمك على قدر إمكاناتك. لكنك حين تنتقل إلى لقاء الله لا تكون محدوداً، لا بعمرك ولا بامكاناتك بل تعيش زمناً ليس له حدود، وتنعم فيه على قدر سعة فضل الله. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} . . وهذا الخير أشد تثبيتاً لغيرهم؛ لأن من يرونهم ينفذون حكم الله. فلا بد أنهم وثقوا أنهم سيذهبون إلى خير مما عندهم. إذن فهو يثبت من بعدهم. أو المعنى: لو أنهم فعلوا ما أمروا به من اتباع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وطاعته والانقياد له يراه ويحكم به لأنه الذي لا ينطق عن الهوى لكان ذلك خيرا لهم في دنياهم وأخراهم وأقوى وأشد تثبيتا واستقرار للإيمان في قلوبهم وأبعد عن الاضطراب فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2383 فهم إذا فعلوا ما يوعظون به، {وَإِذاً لأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً} وساعة تسمع « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2383 من لدنَّا» اعرف أنها ليست من شأن ولا فعل الخلق. بل من تفضل الخالق. فالحق سبحانه وتعالى يرسل لنا منهجه بوساطة الرسل، لكنه يوضح أن بعضاً من الناس منحهم عطفاً وأعطاهم من لدنه علماً، فهو القائل: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] . أي أن العلم الذي أعطاه الله لذلك العبد لم يَعْلَمْه موسى، وعطاء الله للعلم خاضع لمشيئته، ونعرف من قبل أن الحسنات والأعمال لها نظام، فمن يعمل خيراً يأخذ مقابلة كذا حسنة، ولكنْ هناك أعمال حسناتها من غير حساب ويجازي عليها الحق بفضله هو. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نحن نجد ذلك متمثلاً لنا في كثير من تصرفاتنا، تقول لابنك مثلاً: يا بني كم أجرك عندي من هذا العمل؟ فيقول لك: مائة جنيه. فتقول له: هذه مائة هي أجرك، وفوقها خمسون من عندي أنا، ماذا تعني «من عندي أنا» هذه؟ إنها تعني أنه مبلغ ليس له دخل بأجر العمل. {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ} لقد عرفنا من قبل أن هناك فرقاً بين القتل والموت، صحيح أن كليهما فيه إذهاب للحياة، لكن الموت: إذهاب للحياة بدون نقض البنية للجسم، ولكن القتل: إذهاب للحياة بنقض البنية كأن يكسر إنسان رأس إنسان آخر، أو يطلق رصاصة توقف قلبه، وهذا هدم للبنية، والروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات، والروح لم تذهب أولاً. بل إن البنية هدمت أولاً. فلم تعد صالحة لسكنى الروح، والمثل المعروف هو مصباح الكهرباء: إنك إن رميت عليه حجراً صغيراً، ينكسر وينطفئ النور برغم أن الكهرباء موجودة لكنها لا تعطي نوراً إلا في وعاء له مواصفات خاصة، فإذا ذهبت هذه المواصفات الخاصة يذهب النور، فتأتي بمصباح جديد له المواصفات الخاصة الصالحة فتجد النور قد جاء. وكذلك الروح لا تسكن إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإن جئت لهذه المواصفات الخاصة وسيدها المخ، وضربته ضربة قاسية، فقد نقضت البنية، وفي هذه الحالة تغادر الروح الجسد لأنه غير صالح لها، لكن الموت يأتي من غير نقض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2384 للبنية، ومصداق ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] . أي أن هناك أمرين: هناك موت، وهناك قتل، فالموت هو سلب الحياة، والقتل هو سلب الحياة، ولكن القتل سلب الحياة بعد نقض البنية التي تسكن فيها الروح، ويختلف عن الموت لأن الموت هو خروج الروح دون قتل، ولذلك يقولون: مات حتف أنفه. أي مات على فراشه ولم يحدث له أي شيء. والذي يُقتل في الشهادة يقول فيه ربنا: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] . فإذا كان من يقاتل في سبيل الله قد امتثل لأمر الله فسوف يجد فضلاً أكثر، فكيف يكون جزاء من يقتل نفسه امتثالا لأمر ربه؟ إن امتحان النفس يكون بالنفس، وليس امتحان النفس بالعدو. وما الميزة في سيدنا إبراهيم؟ هل قال له الحق: أنا سأميت ولدك؟ أقال له إن واحداً آخر سيقتل ابنك؟ لا، بل قال له: اذبحه أنت. وهذه هي ارتقاء قتل النفس، فيفدي الحق إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم. إذن فإذا جاء الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه فلا بد أن هناك مرتبة أعلى. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً} . ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2385 ونحن أمام أمرين: إما أن يقتلوا، وإما أن يخرجوا من ديارهم، فقوله: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} لمن؟ للذي قُتِل أم لمن خَرَج؟ هو قول لمن أخرج من دياره لأنه مازال على قيد الحياة. ويقول الحق بعد ذلك: {وَمَن يُطِعِ الله ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2386 والفعل هنا: «يطع» والمطاع هو: الله والرسول، أي أن هذا الأمر تشريع الله مع تطبيق رسوله، أي بالكتاب والسنة، وساعة تجد الرسول معطوفاً على الحق بدون تكرير الفعل فاعلم أن المسألة واحدة. . أي ليس لكل واحد منهما أمر، بل هو أمر واحد، قول من الله وتطبيق من الرسول لأنه القدوة والأسوة؛ ولذلك يقول الحق في الفعل الواحد: {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ} [التوبة: 74] . فما أغناهم الله غنىً يناسبه وأغناهم الرسول غنىً يناسبه فالفعل هنا واحد. فالغنى هنا من الله ورسوله؛ لأن الرسول لا يعمل إلا بإذن ربه وامتثالا لأمره، فتكون المسألة واحدة. هناك قضية تعرض لها الكتاب وهي قضية قد تشغل كثيراً من الناس الذين عاصروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان مجلسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2386 لا يُصد عنه قادم، يأتي فيجلس حيث ينتهي به المجلس، فالذي يريد النبي دائما يستمر في جلوسه، والذي يريد أن يراه كل فترة يأتي كلما أراد ذلك فثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان شديد الحب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قليل الصبر عنه، فأتاه يوما ووجهه متغير وقد نحل وهزل جسمه، وعُرِف الحزن في وجهه، فسأله النبي قائلا: ما بك يا ثوبان؟ فقال والله ما بي مرض ولا علة، ولكني أحبك وأشتاق إليك، وقد علمت أني في الدنيا أراك وقتما أريد، لكنك في الآخرة ستذهب أنت في عليين مع النبيين، وإن دخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا. ونص الحديث كما رواه ابن جرير - بسنده - عن سعيد بن جبير قال: «جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو محزون - فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا فلان مالي أراك محزوناً «؟ فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه فقال:» ما هو «؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا تُرفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيئاً فأتاه جبريل بهذه الآية:» ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين «. . فبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليه فبشره. وكيف يأتى هذه على البال؟! إنه إنسان مشغول بمحبته لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وفكر: هل ستدوم له هذه النعمة؟ وتفكر في الجنة ومنازلها وكيف أن منزلة الرسول ستعلو كل المنازل. وثوبان يريد أن يطمئن على أن نعمة مشاهدته للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لن تنتهي ولن تزول منه، إنه يراه في الدنيا، وبعد ذلك ماذا يحدث في الآخرة: فإما أن يدخل الجنة أو لا يدخلها، إن لم يدخل الجنة فلن يراه أبداً. وإن دخل الجنة والنبي في مرتبة ومكانة عالية. فماذا يفعل؟ انظر كيف يكون الحب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالله سبحانه وتعالى يلطف بمثل هذا المحب الذي شغل ذهنه بأمر قد لا يطرأ على بال الكثيرين، فيقول الحق سبحانه وتعالى تطمينا لهؤلاء: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك} أي المطيعون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2387 لله والرسول {مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} والمسألة جاءت خاصة بثوبان، بعد أن نبه الأذهان إلى قضية قد تشغل بال المحبين لرسول الله، فأنت مع من أحببت، ولكن الأمر لا يقتصر على ثوبان. لقد كان كلام ثوبان سبباً في الفتح والتطمين لكل الصديقين والشهداء والصالحين. وهي أصناف تستوعب كل المؤمنين، فأبو بكر الصديق صِدِّيقٌ لماذا؟ لأنه هو: المبالغ في تصديق كل ما يقوله سيدنا رسول الله، ولا يعرض هذا القول للنقاش أو للتساؤل: أي هذه تنفع أو لا تنفع؟ فعندما قالوا لسيدنا أبي بكر: إن صاحبك يدعى أنه أتى بيت المقدس وعاد في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل، ماذا قال أبو بكر؟ قال: إن كان قال ذلك لقد صدق. لم يعلل صدقه إلا ب «إن كان قد قال ذلك» ، فهذا هو الصديق الحق، فكلما قال محمد شيئا صدقه أبو بكر، وأبو بكر - رضوان الله عليه - لم ينتظر حتى ينزل القرآن مصدقا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بل بمجرد أن قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إني رسول. قال أبو بكر: نعم. إذن فهو صديق. لقد كانت هناك تمهيدات لأناس سَبَقوا إلى الإسلام؛ لأن أدلتهم على الإيمان سبقت بعثة الرسول، هم جربوا النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وعرفوه، فَلَمَّا تحدث بالرسالة، صدقوه على الفور؛ لأن التجارب السابقة والمقدمات دلت على أنه رسول، ومثال ذلك: سيدتنا خديجة - رضوان الله عليها - ماذا قالت عندما قال لها النبي: إنه يأتيني كذا وكذا وأخاف أن يكون هذا رَئِيّاً ومَسّاً من الجن يصيبني. فقالت خديجة: «كلا والله ما يُخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» . وهذا أول استنباط فقهي في الإسلام. هذا هو معنى «مع النبيين والصديقين» ، {والشهدآء} هم الذين قتلوا في سبيل الله، لكن على المؤمن حين يقاتل في سبيل الله ألا يقول: أنا أريد أن أموت شهيداً. ويلقي بنفسه إلى التهلكة، إياك أن تفهمها هكذا، فأنت تدافع عن رسالة ولا بد أن تقاتل عدوك بدون أنك تمكنه من أن يقتلك؛ لأن تمكينه من قتلك، يفقد المسلمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2388 مقاتلاً. فكما أن الشهداء لهم فضل؛ فالذين بقوا بدون استشهاد لهم فضل. فالإسلام يريد أدلة صدق على أن دعوته حق، وهذه لا يثبتها إلا الشهداء. لكن هل يمكن أن نصبح جميعاً شهداء؟ ومن يحمل منهج الله إلى الباقين؟ إذن فنحن نريد من يبقى ومن يذهب للحرب، فهذاله مهمة وهذا له مهمة، ولذلك كانت «التقية» وهي أن يظهر رغبته عن الإسلام ويوالي الكفار ظاهرا وقلبه مطئمن بالعداوة لهم انتظاراً لزوال المانع وذلك استبقاء لحياته كي يدافع ويجاهد في سبيل الله.؟ وسببها أن الإسلام يريد من يؤكد صدق اليقين في أن الإنسان إذا قتل في سبيل الله ذهب إلى حياة أفضل وإلى عيش خير، هذا يثبته الشهيد. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى عندما تأتيهم غرغرة الشهادة يريهم ما هم مقبلون عليه، فيتلفظون بألفاظ يسمعها من لم يقبل على الشهادة؛ فهناك من يقول: هبي يا رياح الجنة، ويقول كلمة يتبين منها أن ينظر إلى الجنة كي يسمع من خلفه، ومفرد شهداء، إما شهيد وهو الذي قتل في سبيل الله، وإمّا هي جمع شاهد، فيكون الشهداء هم الذين يشهدون عند الله أنهم بلغوا من بعدهم كما شهد رسول الله أنه بلغهم. والمعاني كلها تدور حول معنى أن يشهد شيئاً يقول به وبذلك نعرف أننا نحتاج إلى الاثنين: من يقتل في سبيل الله، ومن يبقى بدون قتل في سبيل الله؛ لأن الأول يؤكد صدق اليقين بما يصير إليه الشهيد، والثاني يُعطينا بقاء تبليغ الدعوة فهو شاهد أيضاً: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143] . و «الصالحين» والصالح هو المؤهل لأن يتحمل لأن يتحمل مهمة الخلافة الإيمانية في الأرض. فكل شيء يؤدي نفعاً يتركه على حاله، وإن أراد أن يزيد في النافع فليرق النفع منه، فمثلاً: الماء ينزل من السماء، وبعد ذلك يكون جداول، ويسير في الوديان، وتمتصه الأرض فيخرج عيوناً، فعندما يرى عيناً للمياه فهو يتركها ولا يردمها فيكون قد ترك الصالح على صلاحه، وهناك آخر يرقى النفع من تلك النعمة فيبني حولها كي يحافظ عليها. إذن فهذا قد أصلح بأن زاد في صلاحه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2389 وهناك ثالث يقول: بدلاً من أن يأتي الناس من أماكنهم متعبين بدوابهم ليحملوا الماء في القِرَب أو على رءوس الحاملين، لماذا لا أستخدم العقل البشري في الارتقاء بخدمة الناس لينتقل الماء إلى الناس في أماكنهم، وهنا يصنع الصهاريج العالية ويصلها بمواسير وأنابيب إلى كل من يريد ماء فيفتح الصنبور ليجد ما يريد. ومن فعل ذلك يسَّر على الناس، فيكون مصلحاً بأن جاء إلى الصالح في ذاته فزاده صلاحاً. ويختم الحق الآية بقوله: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} . و «أولئك» تعني النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا توجد رفقة أفضل من هذه، والرفيق هو: المرافق لك دائما في الإقامة وفي السفر، ولذلك يقولون: خذ الرفيق قبل الطريق، فقد تتعرض في الطريق لمتاعب وعراقيل؛ لأنك خرجت عن رتابة عادتك فخد الرفيق قبل الطريق. ونعرف أن الأصل في المسائل المعنوية: كلها منقولة من الحسيات، وفي يد الإنسان يوجد المرفق. . يقول الحق: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} [المائدة: 6] . وساعة يكون الواحد مرهقاً ورأسه متعباً يتكئ على مرفقه ليستريح، وساعة يريد أن ينام ولم يجد وسادة يتكئ على مرفقه أيضاً. إذن فالمادة كلها مأخوذة من الرفق، فالرفيق مأخوذ من الرفقو «المرافق» مأخوذة من الرفق لأنها ترفق بالجسم وتريحه، وفي كل بيت توجد المرافق وهي مكان إعداد الطعام وكذلك دورة المياه، وفي الريف تزيد المرافق ليوجد مكان لمبيت الحيوانات التي تخدم الفلاح، وبيوت الفقراء قد تكون حجرة واحدة فيها مكان للنوم، ومكان للأكل، وقد يربط الفقير حماره في زاوية من الحجرة، لكن عندما يكون ميسور الحال فهو يمد بيته بالمرافق المكتملة. أي يكون في المنزل مطبخ مستقل، ومحل لقضاء الحاجة، وحظيرة مستقلة للمواشي، وكذلك يكون هناك مخزن مستقل، وهذه كلها اسمها «مرافق» لأنها تريح كل الناس. إذن فقوله: «وحسن أولئك رفيقاً» مأخوذة من الرفق وهو: إدخال اليسر، والأنس، والراحة، ويكون هذا الإنسان الذي أطاع الله ورسوله بصحبة النبيين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2390 والصديقين، والشهداء، والصالحين. وقد يقول قائل: كيف يجتمع كل هؤلاء في منزلة واحدة؛ على الرغم من اختلاف أعمالهم في الدنيا، أليس الله هو القائل: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] . ونقول: ما دام المؤمن أطاع الله وأطاع الرسول، أليس ذلك في سعيه؟ فهذه الطاعة والمحبة لله ولرسوله هي من سعي العبد؛ وعلى ذلك فلا تناقض بين الآيتين، لأن عمل الإنسان هو سعيه، ويصبح من حقه أن يكون في معية الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. وقد تكون الصحبة تكريما لهم جميعاً ليأنسوا بالصحبة، وهذه المسألة ستشرح لنا قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] . فساعة يرى واحد منزلته في الآخرة أعلى من آخر، إياك أن تظن أنه سيقول: منزلتي أعلى من هذا؛ لأنه ما دام قد ترك الأسباب في الدنيا وعاش مع مسبب الأسباب، فهو من حبه لله يحب كل من سمع كلام ربنا في الدنيا فيقول لكل محب لله: أنت تستحق منزلتك، ويفرح لمن منزلته أعلى منه. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - لنفرض أن هناك فصلاً فيه تلاميذ كثيرة، بعضهم يحب أن ينجح فقط، وبعضهم يحب العلم لذات العلم، وعندما يجد عشاق العلم تلميذاً نجيباً، أيكرهونه أم يحبونه؟ إنهم يحبونه ويسألونه ويفرحون به ويقولون: هذا هو الأول علينا؛ لأنه لا يحب نفسه بل يحب الآخرين، فكذلك المؤمن الذي يكون في منزلة بالجنة ويرى غيره في منزلة أعلى، إياك أن تقول إن نفسه تتحرك عليه بالغيرة، لا. لأنه من حبه لربه وتقديره له يحب من كان طائعاً لله ويفرح له، مثله مثل التلميذ الذي ينال مرتبة عالية فيحب التفوق للآخرين من غير حقد. وهكذا نجد أن الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لا تخدش قول الحق: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2391 وهناك بحث آخر في قوله الحق: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} . ف «اللام» تفيد الملك والحق، كقولنا: ليس لك عندي إلا كذا، أي أن هذا حقك، فقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} أي هي حق للمؤمن وقد حددت العدل في الحق ولم تحدد الفضل، ولذلك قال بعدها: {ذلك الفضل ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2392 فالفضل من الله يستمّد حيثيته من سعى الإنسان، فقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} حددت الحق الذي لك والذي توجبه عدالة التكليف، لكن ربنا لم يقل: إن هذا العطاء لله من الحق والعدل. بل هو من الفضل، والفضل من الله هو مناط فرح المؤمن؛ لأنك مهما عملت في التكليف فلن تؤديه كما يجب بالنسبة لله، ولذلك أوضح سبحانه لنا: تنبهوا. . أنا كلفتكم وقد تعملون وتجتهدون، لكن لا تفرحوا مما سيجمعه هذا العمل من حسنات، ولكن سيكون فرحكم بما يعطيكم ربكم من فضله قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] . وذلك الفضل من الله يرد على من يقول: كيف يجيء «ثوبان» أو مَن دون «ثوبان» ويكون في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء ومع الصالحين، ونقول: لو لم تكن منزلته أدنى لما كان في ذلك تفضل، إنه ينال الفضل بأن كانت طاعته لله ولرسوله فوق كل طاعة، أما حبه لله وللرسول، فهذا من سعيه وعمله بتوفيق الله له - وما توفيقي إلا بالله - والفضل هو مناط فرح المؤمن {ذلك الفضل مِنَ الله وكفى بالله عَلِيماً} . ونحن نرضى ونفرح ونكتفي بعلم الله؛ لأنه سبحانه يرتب أحكامه على علم شامل ومحيط، ويعرف صدق الحب القلبي وصدق الودادة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2392 وصدق تقدير المؤمن لمن زاد عنه في المنزلة. وبعد أن أمّن الحق لنا داخلية وطننا الإيماني، وتجمعنا الإسلامي بالأصول التي ذكرها، وهي: أن نؤدي الأمانات، وإذا أدينا الأمانات فلن نحتاج إلى أن نتقاضى، فإذا غفل بعضنا ولم يؤد أمانة، وحدث نزاع فسيأتي الحكم بالعدل. وبعد ذلك نحتكم في كل أمورنا إلى الله وإلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا نحتكم إلى الطواغيت، وهات لي مجتمعا إيمانيا واحدا يؤدي الأمانة ولا يشعر بالاطمئنان. وعرفنا أن الأمانة هي: حق لغيرك في ذمتك أنت تؤديه، وكل ما عداك غير. وأنت غير بالنسبة لكل ما عداك، فتكون كلها مسألة في الخير المستطرق للناس جميعا، وإذا حدثت غفلة يأتي العدل. والعدل يحتاج حكما، وعندما نأتي لنحكم نحتكم لله وللرسول، وإياك أن تتحاكم إلى الطاغوت. وكان «كعب بن الأشرف» يمثل الطاغوت سابقا، والآن أيضاً يوجد من هم مثل كعب بن الأشرف. بل هناك طواغيت كثيرة. إنك إذا رأيت خللاً في العالم الإسلامي فأعلم أن هناك خللاً في تطبيق التكليف الإسلامي، فكيف تستقيم لنا الأمور ونحن بعيدون عن منهج تكاليف الإسلام المكتملة؟ ولو استقامت الأمور لكانت شهادة بأن هذا المنهج لا ضرورة له. لكن إذا حدث شيء فهذا دليل صدق التكليف. وبعد أن طمأننا على المصير الأخروي مع النبيين والصديقين والشهداء أوضح سبحانه: لاحظوا أن كل رسالة خير تأتي من السماء إلى الأرض ما جاءت إلا لمحاربة فساد وقضاء على فساد طام في الأرض؛ لأن النفس البشرية إما أن يكون لها وازع من نفسها بحيث إنها قد تهم مرة بمعصية ثم توبخ نفسها وتعود إلى المنهج، فتكون مناعتها ذاتية، وإما أن المناعة ليست ذاتية في النفس بل ذاتية في البيئة، فمثلاً نجد واحداً لا يقدر على نفسه. لكنه يجد واحداً آخر يقول له: «هذا عيب» . وهذا يعني أن البيئة مازال فيها خير، وكانت الأمم السابقة قد خلت من المناعة وصارت على هيئة ومسلك واحد وهو ما يصوره الحق بقوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2393 {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] . إذن فقد فسدت مناعة الذات، ولا توجد مناعة في المجتمع، فتتدخل - إذن - السماء. لكن الحق فضل أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وميزها على غيرها من الأمم لأن مناعتها دائماً في ذوات أفرادها. فإن لم تكن في ذوات الأفراد ففي المجموع، فلا يمكن أن يخلو المجتمع الإيماني من فرد يقول: لا. ولذلك لن يأتي رسول بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فلو كانت ستحدث طامة وفسد بها المجتمع ولا نجد فيه من يقول: لا. . لكان ولا بد أن يأتي رسول، لكن محمدا كان خاتم النبيين؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضل أمة محمد بأن جعل وازعها دائماً أما من ذاتها بحيث يرد كل فرد نفسه وتكون نفسه لوّامة، وإمّا مناعة في المجتمع وكل واحد فيه يوصِي، وكل واحد يوصيَ، واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1 - 3] . تواصوا لماذا؟ لأن النفس البشرية أغيار، فقد تهيج نفسي لأخرج عن المنهج مرة؛ فواحد آخر ينهاني، وأنا أردها له وأهديه وأرشده إلى الصراط المستقيم، وواحد آخر أخطأ فأنا أقول له وأنهاه. إذن فقوله: «وتواصوا» يعني: ليكن كل واحد منكم موصيا وموصى. فكلنا يَنظر بعضنا ويلاحظه؛ مَن ضعف في شيء يجد من يقوِّمه، فلا ينعدم أن يوجد في الأمة المحمدية موصٍ بالخير ومُوصى أيضا بالخير، وتوجد في النفس الواحدة أنه موصٍ في موقف ومُوصىً في موقف آخر؛ بحيث لا يتأبى إن وصاه غيره؛ لأنه كان يوصى بالأمس، وكما قالوا: «رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبي» . وبعد أن استكمل الحق بناء البيئة الإيمانية برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وصرتم أنتم آخر الأمم. فهو سبحانه يطمئننا على أن الشر لا يطم عندنا وستبقى فينا مناعة إيمانية حتى وإن لم يلتزم قوم فسيلتزم آخرون. وإن لم يلتزم الإنسان في كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2394 تصرفاته، فسيلتزم في البعض ويترك البعض، ولو لم تتدخل المساء بمنهج قويم لصار العالم متعبا. وكيف يتعب العالم؟ إن العالم يتعب إذا تعطلت فيه مناهج الحق الذي استخلفنا في الأرض. فتطغى مظاهر الجبروت والقوة على مظاهر الضعف. ويتحكم في كل إنسان هواه. وفي عالمنا المعاصر نرى حتى في الأمم التي لا تؤمن بدين لا تترك شعوبها لهوى أفرادها، بل ينظمون الحياة بتشريعات قد تتعبهم، ووضعت الأمم غير المتدينة لنفسها نظاما يحجز هوى النفس، ونقول لهم: أنتم عملتم على قدر فكركم، وعلى قدر علمكم بخصال البشر، وعلى قدر علمكم بالطبائع وأنتم تجنيتم في هذه؛ لأنكم تقننون لشيء لم تخلقوه بشيء لم تصنعوه. وأصل التقنين: أن تقنن لشيء صنعته، كما قلنا: إن الذي يضع برنامج الصيانة لأي آلة هو من صنع الآلة، فالذي صَنَع التليفزيون أيترك الجزار يضع قانون للتليفزيون برنامج الصيانة؟ لا، فمن صنع التليفزيون هو الذي يضع قانون صيانته، فما بالنا بالذي خلقنا؟ إنه هو الذي يضع قانون صيانتي: ب «افعل ولا تفعل» ، فأنتم يا بشر تتحكمون في أشياء بأهواء بعض الناس وتقولون: افعل هذه ولا تفعل هذه، فعلى أي أساس عرفتم شرور المخالفات؟ هل خلقتم أنتم النفس وتعرفون ملكاتها؟ لا. بدليل أنكم تعدلون قوانينكم، ويحدث التعديل - كما قلنا - لأن المشرع يتبين خطأ فيستدرك الخطأ، والمشرع البشرى يخطيء لأنه يقنن لما لم يصنع، فإذا كنا لا نريد أن يظهر خطأ فلنترك التقنين لمن صنع وهو الله. والتاريخ البشرى يؤكد أن الفساد يطم عندما يتعطل منهج السماء، والسماء تتخل برسالة، وكل رسالة جاءت كان لها خصوم وهم المنتفعون بالشر، وهؤلاء لن يتركوا منهج الله يسيطر ليسلبهم هذه الهيمنة والسيطرة والقهر والجبروت والانتفاع بالشر، بل يحاربون رسالات السماء، ويلفتنا الحق إلى أن أهل الشر والناس المنفلتين من مناهج السماء وغير المتدينين، سيسببون لكم متاعب، فبعدما توطنون أنفسكم التوطين الإيماني انتبهوا إلى خصومكم وإلى أعدائكم في الله لقد قال الحق سبحانه وتعالى في هذه القضية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2395 {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2396 لا يقال لك: خذ حذرك إلا إذا كان هناك عدو يتربص بك؛ فكلمة: خذ حذرك «هذه دليل على أن هذا الحذر مثل السلاح، مثلما يقولون: خذ بندقيتك خذ سيفك، خذ عصاك، فكأن هذه آلة تستعد بها في مواجهة خصومك وتحتاط لمكائدهم، ولا تنتظر إلى أن تغير عليك المكائد، بل عليك أن تجهز نفسك قبل ذلك على احتمال أن توجد غفلة منك، هذا هو معنى أخذ الحذر، ولذلك يقول الحق: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . وهذا يعني: إياك أن تنتظر حتى يترجموا عداءهم لك إلى عدوان؛ لأنهم سيعجلونك فلا توجد عندك فرصة زمنية كي تواجههم. فلا بد لكم أيها المؤمنون من أخذ الحذر لأن لكم أعداء، وهؤلاء الأعداء هم الذين لا يحبون لمنهج السماء أن يسيطر على الأرض. فحين يسيطر منهج السماء على الأرض فلن يوجد أمام أهواء الناس فرصة للتلاعب بأقدار الناس. ومن ينتفعون بسيطرتهم وبأهوائهم على البشر فلن يجدوا لهم فرصة سيادة. {فانفروا ثُبَاتٍ أَوِ انفروا جَمِيعاً} أي لتكن النفرة منكم على مقدار ما لديكم من الحذر، و» ثبات «جمع ثُبَة وهي الطائفة أي انفروا سَرِيّة بعد سَرِيَّة و» جميعا «أي اخرجوا كلكم لمواجهة العدو، وعلى ذلك يجب أن نكون على مستوى ما يهيج من الشر. فإن هاجمتنا فصيلة أو سرية، نفعل كما كان يفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فقد كان يرسل سرية على قدر المسألة التي تهددنا، وإن كان الأمر أكبر من ذلك ويحتاج لتعبئة عامة فنحن ننفر جميعا. ولاحظوا أن الحق يخاطب المؤمنين ويعلم أن لهم أغياراً قد تأتي في نفوسهم مع كونهم مؤمنين. فقد تخور النفس عند مواجهة الواقع على الرغم من وجود الإيمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2396 ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 246] . لقد كانوا هم الذين يطلبون القتال، وما داموا هم الذين قد طلبوا القتال فلا بد أن يفرحوا حين يأتي لهم الأمر من الله بذلك القتال؛ لكن الله أعلم بعباده لذلك قال لهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ} [البقرة: 246] . فأوضح لهم الحق أن فكروا جيدا في أنكم طلبتم القتال وإياكم ألا تقاتلوا عندما نكتب عليكم هذا القتال لأنني لم أفرضه ابتداء، ولكنكم أنتم الذين طلبتم، ولأن الكلام مازال نظريا فقد قالوا متسائلين: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} [البقرة: 246] . لقد تعجبوا واستنكروا ألا يقاتلوا في سبيل الله، خصوصاً أنهم يملكون السبب الذي يستوجب القتال وهو الإخراج من الديار وترك الأبناء، لكن ماذا حدث عندما كتب الحق عليهم القتال؟ : {تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [البقرة: 246] . لقد هربت الكثرة من القتال وبقيت القلة المؤمنة. وكانت مقدمات هؤلاء المتهربين من القتال هي قولهم رداً على نبيهم عندما أخبرهم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً فقالوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2397 {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال} [البقرة: 247] . كانت تلك أول ذبذبة في استقبال الحكم، فأوضح لهم الحق السرّ في اصطفاء طالوت، فهو قوي والحرب تحتاج إلى قوة، وهو عالم، والحرب تحتاج إلى تخطيط دقيق؛ فقال سبحانه: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} [البقرة: 247] . وعندما جاءوا القتال أراد الحق أن يمحصهم ليختبر القوي من الضعيف فقال لهم طالوت: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} [البقرة: 249] . والتمحيص هنا ليعرف من منهم يقدر على نفسه وليختبر قوة التحمل عند كل فرد مقاتل، فليس مسموحاً بالشرب من ذلك النهر إلا غرفة يد. فشربوا من النهر إلا قليلاً منهم، هكذا أراد الحق أن يصفيهم تصفية جديدة، وعندما رأوا جيش جالوت {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} [البقرة: 249] . وما الضرورة في كل هذه التصفيات؟ لقد أراد الله ألاَّ يَحْمِلَ الدفاع عن منهجه إلا المؤمنون حقاً، وهم مَنْ قالوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2398 {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] . وقوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 251] . لماذا أعطانا ربنا هذه الصورة من التصفيات؟ كي نفهم أن النفس البشرية حين تواجه بالحكم نظرياً لها موقف، وحين تواجه به تطبيقياً لها موقف ولو بالكلام، وحين تواجه به فعليا يكون لها موقف، وعلى كل حال فقليل من قليل من قليل هم الذين ينصرهم الله. إذن فيريد سبحانه أن يربي في نفسونا أنه جل وعلا هو الذي يهزِم، وهو الذي يَغْلِب مصداقاً لقوله الحق: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] . إذن فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أنا قلت لكم انفروا ثبات أو انفروا جميعاً واعلموا أن النفس البشرية هي بعينها النفس البشرية، وستتعرض للذبذبة حين تواجه الحكم للتطبيق، ولذلك يأتي هنا بقوله الحق: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ ... . .} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2399 فساعة ندعو إنساناً منكم للحرب قد يبطئ ويتخاذل، مثلما قال في آية أخرى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2399 {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض} [التوبة: 38] . و «اثاقلتم» تعني: أن هناك من يتثاقل أي ينزل إلى الأرض بنفسه، وعلينا أن نفرق بين من ينزل بجاذبية الأرض فقط، وبين من يساعد الجاذبية في إنزاله، فمعنى «أثاقل» أي تباطأ، وركن، وهذا دليل على أنه يريد أن يتخاذل، وهؤلاء لا يتاطأوا فحسب بل إنهم أقسموا على ذلك. ومنهم من كان يثبط ويُبَطِّئ غيره عن الغزو كالمنافق عبد الله بن أبيّ. {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} فافهموا وخذوا هذه المناعة ضد من يعوق زحف المنهج قبل أن تبدأ المعركة، حتى إذا وقعت المعركة نكون قد عرفنا قوتنا وأعددنا أنفسنا على أساس المقاتلين الأشداء. لا على من يتباطأون ويتثاقلون، هناك من يفرح ببقائه حياً عندما يرى هزيمة المسلمين أو قتل بعضهم لأنه لم يكن معهم، فيظهر الحق أمثال ذلك ويقول: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} . لقد تراخى وبقي، وعندما تأتيهم المصيبة من قتل، أو من هزيمة يقول لنفسه: الحمد لله أنني لست معهم. إذن تثاقله وتخلفه وتأخره عن الجهاد، كان عن قصد وإصرار في نفسه. وهذه قمة التبجح فهو مخالف لربنا وعلى الرغم من ذلك يقول: أنعم الله عليّ، مثله كمثل الذي يسرق ويقول: ستر الله عليّ، وهذه لهجة من لم يفهم المنهج الإيماني، فيقول: «قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً» . إنه لم يكن معهم ولم يكن شهيداً ويعتبر هذا من النعمة، ولذلك قال بعض العارفين: إن من قال ذلك دخل في الشرك، فالمصيبة في نظره إما قتل وإما هزيمة. ثم ماذا يكون موقف المتخاذل المتثاقل المتباطئ عند الغنيمة أو النصر؟ يقول الحق: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2400 إذن فالعلّة في قوله: يا ليتني كنت معهم ليست رجوعاً عما كان في نفسه أولاً، بل هو تحسرّ أن فاتته الغنيمة، وجاء الحق سبحانه وتعالى هنا بجملة اعتراضية في الآية تعطينا لقطة إيمانية، فيقول: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} . والجمة الاعتراضية هي قوله: كأن لم تكن بينكم وبينه مودة كأن المودة الإيمانية ليس لها ثمن عنده، فلو كان لها أدنى تقدير لكان عليه ألا يقول في البداية: أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً، ولكان مع المقاتلين المسلمين، لكنه يرغب في الفوز والغنيمة فقط، ويبتعد عن المسلمين إذا ما أصابتهم الهزيمة واستشهد عدد منهم. وبذلك يكشف لنا الحق موقف المتخاذلين ويوضح لنا: إياكم أن تتأثروا بهؤلاء حين تنفرون ثباتٍ أو حين تنفرون جميعاً. واعلموا أن فيكم مخذلين وفيكم مبطئين وفيكم متثاقلين، لا يهمهم إلأا أن يأخذوا حظاً من الغنائم، ولذلك يحمدون الله أن هزمتم ولم يكونوا معكم؛ ويحبون الغنائم ويتمنونها إن انتصرتم ولم يكونوا معكم، إياكم أن تتأثروا بهذا وقد أعطيتم هذه المناعة حتى لا تفاجأوا بموقفهم منكم وتكونوا على بصيرة منهم. والمناعات ما هي إلا تربية الجسم، إن كانت مناعة مادية، أو تربية في المعاني، إن حدث مكروه فأنت تملك فكرة عنه لتبني ردّ فعلك على أساس ذلك. ونحن عندما يهاجمنا مرض نأتي بميكروب المرض نفسه على هيئة خامدة ونطعِّم به المريض، وبذلك يدرك ويشعر الجسم أن فيه مناعة، فإذا ما جاء الميكروب مهاجماً الجسم على هيئة نشيطة، فقوى المقاومة في الجسم تتعارك معه وتحاصر الميكروب، فكأن إعطاء حقن المناعة دربة وتنشيط لقوى المقاومة في الجسم، وقد أودعها الله في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2401 دمك كي تؤدي مهمتها، كذلك في المعاني يوضح الحق لكم: سيكون منكم من يفعل كذا وكذا، حتى تعدًّوا أنفسكم لاستقبال هذه الأشياء إعداداً ولا تفاجأون به؛ لأنكم إن فوجئتم به فقد تنهارون. فإياكم أن تتأثروا بهذا ويقول الحق بعد ذلك: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2402 ومادة: «شرى» ومادة «اشترى» كلها تدل على التبادل والتقايض، فأنت تقول: أنا اشتريت هذا الثوب بدرهم؛ أي أنك أخذت الثوب ودفعت الدرهم، وشرى تأتي أيضا بمعنى باع مثل قول الحق: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20] . فالجماعة الذين وجدوا سيدنا يوسف عليه السلام في الجب كانوا فيه من الزاهدين. وبعد ذلك باعوه بثمن بخس، إذن ف «شرى» من الأفعال التي تأتي بمعنى البيع وبمعنى الشراء؛ لأن المبيع والمشتري يتماثلان في القيمة، وكان الناس قديماً يعتمدون على المقايضة في السلع، فلم يكن هناك نقد متداول، كان هناك من يعطي بعض الحب ويأخذ بعض التمر، فواحد يشتري التمر وآخر يشتري الحب، والذي جعل المسألة تأخذ صورة شراء وبيع هو وجود سلع تباع بالمال. وما الفرق بين السلع والمال؟ . السلعة هي رزق مباشر والمال رزق غير مباشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2402 فأنت مثلاً تأكل رغيف الخبز وثمنه خمسة قروش، لكن لو عندك جبل من ذهب وتحتاج رغيفا ولا تجده؛ أينفعك جبل الذهب؟ لا. إذن فالرغيف رزق مباشر؛ لأنك ستأكله، أما الذهب فهو رزق غير مباشر؛ لأنك تشتري به ما تنتفع به. وبذلك نستطيع أن نحدد المسألة؛ فالسلعة المستفاد منها مباشرة هي رزق مباشر، ندفع ثمنها مما لا ننتفع به مباشرة، والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعقد مع المؤمن به صفقة فيها بيع وشراء. وأنتم تعلمون أن البائع يعطي سلعة ويأخذ ثمنا، والشارى يعطي ثمنا ويأخذ سلعة، والحق يقول هنا: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة} [النساء: 74] . فالمؤمن هنا يعطي الدنيا ليأخذ الآخرة التي تتمثل في الجنة والجزاء، ومنزلة الشهداء؛ ولذلك يقول الحق في آية أخرى: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111] . تلك هي الصفقة التي يعقدها الحق مع المؤمنين، وهو سبحانه يريد أن يعطينا ما نتعرف به على الصفقات المربحة، فكل منا في حياته يحب أن يعقد صفقة مربحة بأن يعطي شيئاً ويأخذ شيئاً أكبر منه، ولذلك يقول في آية أخرى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر: 29] . هنا أيضاً تجارة، وأنت حين تريد أن تعقد صفقة عليك أن تقارن الشيء الذي تعطيه بالشيء الذي تأخذه ثم افرق بينهما، ما الذي يجب أن يضحي به في سبيل الآخر؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2403 والحق قد وصف الحياة بأنها «الدنيا» ولا يوجد وصف أدنى من هذا، فأوضح المسألة: إنك ستعطي الدنيا وتأخذه الآخرة، فإذا كان الذي تأخذه فوق الذي تعطيه فالصفقة - إذن - رابحة، فالدنيا مهما طالت فإلى نهاية، ولا تقل كم عمر الدنيا، لأنه لا يعنيك أن يكون عمر الدنيا ألف قرن، وإنما عمر الدنيا بالنسبة لكل فرد: هو مقدار حياته فيها، وإلا فإن دامت لغيري فما نفعي أنا؟ . إذن فقيمة الدنيا هي: مقدار عمرك فيها، ومقدار عمرك فيها مظنون، وعلى الرغم من ارتفاع متوسطات الأعمار في القرن العشرين، لكن ذلك لا يمنع الموت من أن يأخذ طفلاً، أو فتى، أو رجلاً، أو شيخاً. إن عمر الدنيا بالنسبة لكل إنسان هو: مقدار حياته فيها، فلا تقارنها بوجودها مع الآخرين، إنما قارنها بوجودها معك أنت، وهب أنه متيقن ولكنه محدود بسبعين عاماً على سبيل المثال، ستجد أن تنعمك خلالها مهما كبر وعظم فهو محدود. والإنسان منا يظل يُربَّى إلى أن يبلغ الحُلُم. فإذا ما بلغ الحُلُم وأصبحت له حياة ذاتية، أي أن إرادته لم تعد تابعة للأب أو للأم، بينما في طفولته كان كل اعتماده على أسرته، أبوه يأتي له بالملبس فيلبسه؛ وبالمطعم فيأكله، ويوجهه فيتوجه، لكن حينما توجد له ذاتية خاصة يقول لأبيه: هذا اللون لا يعجبني {والأكل هذا لا يعجبني} ! هذه الكلية لن أذهب إليها. ولا توجد للإنسان ذاتية لا إذا وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع أن ينسل مثله، فإذا ما أصبح كذلك نقول له: هذا هو النضج، وهو الذي يجعل لك قيمة ذاتية. إنك إذا زرعت شجيرة بطيخ. فأنت ترعاها سقياً وتنظيماً وتسميداً، وهي مازالت صغيرة وتتعهدها كي لا تخرج مشوهة، حتى تنضج، وساعة تنضج يكون الشغل الشاغل قد انتقل من الشجيرة إلى الثمرة «البطيخة» فيقال صار لها ذاتية؛ لأنك إن شققتها لتأكلها تجد «اللب» قد نضج، وإن زرعته تأتي منه شجيرة أخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2404 ولكن إذا ما قطفت الثمرة قبل النضج فأنت قد تجد «اللب» أبيض لم ينضج بعد، فلا تصلح تلك البذور لأن تأتي وتثمر مثلها، وإذا كان «اللب» نصفه أبيض ونصفه أسود، فهي لم تنضج تماما، أما إذا وجدت «لبّها» أسمر اللون داكناً فهو صالح للزراعة والإثمار، وتجد الحلاوة متمشية مع نضج البذرة. فلو كانت الثمار تنضج قبل البذور لتعجل الخلق أكل الثمرة قبل أن تُربى وتنضج البذور ولانْقَطَعَ النوع؛ لذلك لم يجعل ربنا حلاوة الثمرة إلا بعد أن تنضج البذور، وكذلك الإنسان، والحق يقول: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 59] . وعندما يكون الإنسان طفلاً فنحن نتركه يلهو ويرتع في البيت ويرى هذه وهذه، لكن إذا كان قادراً على نسل مثله واكتملت رجولته فعليه أن يستأذن، وحين يكون الإنسان بهذا الشكل تصير له ذاتية، ولنفترض أنه سيعيش عدداً من السنين تبلغ حوالي الخمسة والخمسين عاماً بعدما صارت له ذاتية ويستطيع النسل إنّه سيقضي مراهقته في التعلم إلى أن يصبح صالحاً لأن يكسب ويعيش ويتمتع، ثم لنسأل: كم سنة سيتمتع؟ سنجدها عدداً قليلاً من السنوات. إذن فالحياة محدودة، والمتعة فيها على قدر إمكاناته، فقد يسكن في شقة من حجرتين أو في شقة مكونة من ثلاث حجرات، أو في منزل خاص صغيراً أو حتى في قصر، وقد يركب أو يمشي على قدميه، باختصار على قدر إمكاناته، أما في الأخرة فالموقف مختلف تماماً، سيسلم نفسه إلى حياة عمرها غير محدود، فإن قارنت المحدود بغير المحدود ستجد الغلبة للآخرة لأنها متيقنة والنعيم فيها على قدر سعة فضل الله وقدرته، فالأحسن لنا أن نبيع الدنيا ونأخذ الآخرة، فتكون هذه هي الصفقة الرابحة التي لا تبور. ولماذا يدخل الله العبد في عملية البيع هذه؟؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعرض عليك الصفقة لتدخل في عملية البيع التي تجهدك إن لم تَقْتُل أو تُقْتَل في سبيل الله لا بد أن يوضح لك كيفية الغاية التي تأخذ بها الفوز في الآخرة، ولن تأخذ هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2405 الفوز بالكلام فقط، ولكن انظر إلى المنهج الذي ستقاتل من أجله، إنّه تأسيس المجتمع الذي يؤدي كل امريء فيه الأمانة، وهذا الأمر لا يحزن منه إلا من يريد أن يأخذ عرق الناس ويبني جسمه من كدهم وتعبهم، وهات مجتمعاً لا يؤمن بالله وقل: يأيها الناس نريد أن يؤدي كل واحد منكم الأمانة التي عنده، نريد أن نحكم بالعدل، فسيفرح أهل هذا المجتمع. إذن فلكي نحمي المجتمع لا بد أن نؤدي الأمانة وأن نقيم العدالة. ومن قبل ذلك أمرنا أن نعبد إلهاً واحداً فلا نتشتت، ثم أوصانا بالوالدين والأقربين، واليتامى والمساكين. قل لي بالله عليك: لو لم يكن هذا دينا من السماء، وكان تشريعاً من أهل الأرض، أهناك أعدل من هذا؟ إن مثل هذا المنهج الذي يكفل أمان الجميع يستحق أن يدافع الإنسان عن تطبيقه. وقبل أن يفرض علينا القتال أوضح سبحانه: هذا هو المجتمع الذي ستقاتلون من أجله، واعلم أنك ساعة تذهب إلى القتال، أقصى ما فيها أن تُقتل، فستأخذ صفقة الآخرة، وقصرت مسافة غاياتك؛ لأن كل شيء إنما يقاس بزمن الغاية له، فإن قتلت فقد قصرت المدة للوصول إلى الغاية، فتصل إلى الجنة، والحمق هو الذي يصيب الناس عندما يموت عزيز أو حبيب فيغرقون في الحزن. نقول لهم: ألسنا جميعاً سائرين إلى هذه الغاية، فلماذا الغرق في الحزن إذن؟ . والحق سبحانه وتعالى يكافئ من يقتل في سبيل الله بحياة في عالم الغيب وفيها رزق أيضاً. وبعض من الناس يظنون أنهم إن فتحوا قبر الشهيد فسيجدونه حياً يُرزق. ونقول لهم: إن الحق لم يقل: إن الشهداء أحياء عندكم، بل أحياء عنده في غالم الغيب. والحق سبحانه يطلب من الذي اقتنع بالإسلام أن ينشره، وأن يعدل المسلمون بين أنفسهم لتنصلح أمورهم، وأن يواجهوا أصحاب الشرّ الذي لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة. ولم تأمر السماء بقتال قبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد كان الرسول من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2406 السابقين على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبلغ قومه برسالته، فإن آمنوا فبها ونعمت وإن لم يؤمنوا تتدخل السماء بالعقاب، بريح صرصر، رجفة، صيحة، خسف الأرض بهم، إغراق، فالرسول قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يبلغ، والسماء تعاقب من لم يؤمن. وما وجد قتال إلا إذا اقترحوا هم القتال، مثل بني إسرائيل، قال الحق: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 246] . هم الذين اقترحوا، لكن القتال الذي يُثَبِّت المبدأ وينشر المنهج لإعلاء كلمة الله، وسيطرة الخلافة الأمنية الإيمانية على الأرض، لم يشرع إلا على يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فكأن الله لم يأمن خلقاً على خلق إلا أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد جعلها أمينة. فأنتم أمناء أن تتولوا عن السماء تأديب المخالف، وبذلك أخذتم المستوى العالي في المنهج والمستوى العالي في الرسالة. وأكرم الله نبيّه فقال: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . فجاء القتال وحارب المسلمون - وهم ضعاف - المجتمعات الفاسدة القوية. والشاعر يقول: فقوى على الضلال مقيم ... وقطيع من الضعاف يُجارِي هذا القتال لو لم يجيء به الدين، أَلاَ تقوم به الأمم التي لا دين لها لإصلاح أمرها؟ إنها تقاتل، فلماذا يكون مباحاً منهم أن يقاتلوا كي يقرروا مبادئهم، وعندما يأتي الدين ليشرع القتال يقولون: لا. هذا دين سيف. نقول لهم: بالله لماذا إذن تحارب الشعوب؟ أنت تجد شعوبا تتحارب وتجد ظلما يحارب ظلما آخر، فإذا ما وجد عدل ليزحزح ظلما نقف في طريقه؟ لا. وذلك حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2407 نعرف أن المسألة مسألة رسالة من السماء لا طغيان ذوات اجتمعوا أو بيتوا مؤامرة لصنع انقلاب يسيطرون به على الناس. لقد جاء الإسلام وآمن به الضعاف الذين لا يملكون أن يقاتلوا، فلم يكن باستطاعتهم أن يحموا حتى أنفسهم؛ ذلك حتى نعرف أن الحق ساعة يأتي، يأتي عادة لا من قوي بل يأتي من ضعيف تعب كثيراً كي يثبت الإيمان، والإسلام نادى ودعا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مكة لكنه لم ينتصر كدين ولم يسطع إلا من المدينة. فمكة بلد محمد وفيها قبيلته قريش التي ألفت السيادة على الجزيرة كلها ولا أحد يستطيع أن يقرب منها بعدوان، ولم تكن هناك قوة تستطيع أن تعترض قوافلها بالتجارة إلى الجنوب أو إلى الشمال. إن أي قبيلة تخاف أن تتعرض لها في الطريق؛ لأن القبائل ستأتي إلى قريش في موسم الحج، وتخاف كل قبيلة من انتقام قريش، فلو أن الإسلام الذي صاح به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انتصر في مكة ربما قالوا: قبيلة عشقت السيادة، ودانت لها أمة العرب فما المانع من أن تطمح في أن يدين لها العالم كله؟ وأراد الحق أن تكون قريش هي أول من يضطهد رسول الله ويحاربه، والضعاف هم الذين يتبعونه، وبعد ذلك يأتي النصر لدين الله من مكان بعيد عن مكة من «المدينة» لتشهد الدنيا كلها أن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد، ولم تخلق العصبية لمحمد الإيمان بمحمد، وها هوذا سيدنا عمر كان يسمع قول الله سبحانه: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] . فيقول: أي جمع هذا ونحن لا نقدر أن نحمي أنفسنا؟ ويقول الحق: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] . فيقول عمر: كيف ونحن لا نقدر أن ندافع عن أنفسنا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2408 وبعد ذلك تأتي موقعة «بدر» فتُثْبِت له صدق هذا، والعجيب أن الآية تنزل وهم لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، فلا يمكن أن يقال: إن هناك مقدمات لذلك بحيث تستنتج النتيجة؛ فالمقدمات لا توحي بأي نصر، لكن ربنا هو الذي قال، ورأوا صحيحاً أن الوليد بن المغيرة ضرُب على أنفه وتركت الضربة علامة على أنفه؛ لأن الذي قال ذلك من قبل قادر على إنفاذ ما يقول بدون قوة تحول دون ذلك أبداً، وهذا يدلنا على اختبار المبادئ. إنك تجد أنّ الذي يؤمن بالمبادئ هو الذي يضحي أولاً، يدفع ماله وقد يدفع دياره، بأن يخرج منها، وقد يدفع نفسه فيقتل، كل ذلك من أجل المبدأ، لكن الأمر يختلف مع المبادئ الباطلة؛ فقبل أن يدخلها واحد نجده يأخذ الثمن. ومن يروجون للمبادئ الباطلة يقولون لمن يغررون به: خذا مالاً وعش واستمتع، واشتر أحسن الثياب. أما أصحاب مبدأ الحق فهم الفقراء الذين يدفعون الثمن، ولهم الحق أن يدفعوا الثمن لأن المثمن غال، لكن في الباطل لا يعرفون مثمناً. والذي ينظر لمبدأ من المبادئ الهدامة، يرى كيف يعيش قادتها، بينما الرعية تحيا في بؤس، فيقول: أنا آخذ الثمن مقدماً؛ والأمر يختلف مع المؤمنين، فهم الذين يدفعون الثمن. لينعموا بالجزاء في الآخرة. والحق سبحانه وتعالى حين يشرع القتال لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشرعه أولا دفاعا، كانوا يطلبون من رسول الله، يقولون: يا رسول الله، إئذن لنا نقاتل على قدر جهدنا، فيقول: «اصبروا فإني لم أومر بالقتال» . وبعد ذلك يؤمر بالقتال كي يدافع عن الخلية الإيمانية بعدما ذهبوا إلى المدينة، ونعلم أن القتال عملية ضرورية في الحياة. فالحق سبحانه هو القائل: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} [البقرة: 251] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2409 وهو القائل: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} [الحج: 40] . إذن فدفع الله بعض الخلق بالخلق أمر ضروري واقعي. وحين يعاب على الإسلام أمر القتال، نقول لهم: إن الحق سبحانه وتعالى حينما شرع هذا القتال فقد شرعه لأن قوى البغي هي التي تحول دون تطبيق منهج من مناهج العدالة المعروفة، ولا يستطيع أحد أن يجادل فيها. ولو لم يكن العدل قادمً من السماء لما كان هناك منهج صالح يحكم الناس، فإذا أراد الله أن يصنع العدل بمنهج أنزله هو، فلماذا يأتي من يقف في الطريق ويقول للرسول: أنت جئت لكي ترغم الناس أن يؤمنوا بمنهجك؟! ويوضح الحق مسيرة الرسول أنه جاء لكي يثبت كرامة الإنسان فهو سيد الأجناس التي تحيط به، فالجماد مسخر، والنبات مسخر، والحيوان مسخر، وليس لأي منهم حرية في أن يقول: افعل ولا تفعل، فلا توجد إرادة ولا اختيار عند كل الأجناس إلا عند الإنسان؛ فالحق هو القائل عن أمانة الاختيار. {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب: 72] . إذن فبأي شيء تميز الإنسان على هؤلاء الأجناس؟ تميز عليهم بالعقل، ومهمة العقل أن يختار بين البديلات، أما إذا كان هناك أمر ليس له بديل، فليس للعقل عمل فيه. ومثال ذلك: هناك مكان نريد أن نذهب إليه، فيوضح لك إنسان: لا يوجد إلا هذا الطريق، فهل تفكر أن تذهب عن طريق آخر؟ طبعا لا، إذن فالعقل لا عمل له إلا الاختيار بين البديلات، فإن لم يكن هناك بديل فلا عمل له. وإذا أراد العقل أن يختار بين البديلات ألا نضمن له حرية الاختيار أم نقيد حرية الاختيار لديه؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2410 إنك إن قيدت حرية الاختيار بالإكراه فقد أخذت النعمة التي أعطيتها له، وجعلته مقهوراً مسخراً مكرهاً؛ ولذلك فالمكره لا يكون له حكم على الأشياء بل هو مجبر ومسخر. وما دمت تقول: إن العقل هو الذي يختار بين البديلات، فلا بد أن يكون حق الاختيار موجوداً، فإن كان في الإنسان عطب كأن يكون مجنونا، فلا اختيار له، وإن كان العقل موجودا لكنه لم ينضج بعد نقول أيضاً: لا اختيار. إذن فلا بد أن يكون العقل موجوداً وناضجا للاختيار بين البديلات، ويكون للإنسان حرية أن يختار، فإن لم يكن العقل موجودا فهو مجنون فلا تكليف له. والمجنون قد سلبه الله أعز ما أعطى للإنسان وهو العقل، لكن أعفاه الله أن يسأله أحد عن شيء، فيفعل دون سؤال، فلا تكليف لمجنون، فالتكليف إذن لصاحب العقل الناضج، وكذلك لا تكليف من قبل البلوغ. إذن فالإسلام جاء ليحمي كرامة الإنسان في حرية الاختيار، ويعرض عليك أمر الإيمان، فالذي حمل السيف، لم يحمله ليجبر أحداً على الإيمان، إنما ليرد كيد من أرادوا قهر الناس، والجزية إنما فرضت لإعفاء غير المسلمين من مسئولية القتال، ولو كان الإسلام يفرض الإيمان على الناس في البلاد التي فتحها لما وجدنا أتباع أي دين في البلاد التي دخلها الإسلام. وهذه شهادة للمسلمين. إن الإسلام لم يجيء ليفرض دينا وإنما جاء ليحمي حرية اختيار الدين؛ والَّذين يقولون: إن الإسلام جاء بالسيف نقول لهم: افهموا جيدا، لقد كان المؤمنون الأوائل ضعافا وظلوا على الضعف مدة طويلة، والبلاد التي فتحت بالإسلام مازال فيها أناس غير المسلمين، وهذا دليل أن الإسلام جاء ليحمي حرية الاختيار: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] . ثم نأتي لنقطة أخرى وهي أن الإسلام لم يأخذ الجزية إلا لأن غير المسلم سيستمتع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2411 بكل خيرات بلاد الإسلام، والمسلم يدافع وأيضا يدفع الزكاة والخراج. إذن فالمسألة عدالة منهج، وعلى ذلك يجب أن نفهم أن قول الحق: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 74] . فالقتال إنما جاء حتى تسيطر مناهج السماء، وسبحانه حينما يقول: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} فهذا يدلنا على أن هناك قتالاً في غير سبيل الله، كأن يقاتل الرجل حمية، أو ليعلم مكانه من الشجاعة، فقال الرجل دائماً حسب نيته، ولذلك تساءل بعض الناس: من الشهيد؟ قال العلماء: هو من قتال لتكون كلمة الله هي العليا فيكون شهيدا. إذن فالقتال مرة يكون في سبيل الله، ومرة يكون في سبيل النفس، ومرة يكون في سبيل الشيطان. يقول الحق: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة} أي يبيعون الدنيا ليأخذوا الآخرة، {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} . إذن فالذي يدخل القتال هو أمام أمرين اثنين: إما أن يُقْتل من الأعداء، وإما إن ينتصر، وهذه هي القضية الجدلية التي تنشأ بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، والمقاتل من معسكر الإيمان يقول لمعسكر الكفر: أنا أقاتل لإحدى الحسنين: إما أن أُقْتل فأصبح شهيداً آخذ حياة أفضل من هذه الحياة، وإما أن أنتصر عليك، فلماذا تتربصون بنا أيها الكفار؟ إن المؤمن يثق أنه فائز بكل شيء؛ فإن قُتل ذهب إلى الجنة وإلى حياة أفضل من حياتكم، وإما أن ينتصر، والحالتان على سواء من الخير. وهذا للاستدلال بأن هذا المنهج يراق فيه الدم، وشهادة لهذا الدين بأنه صحيح، وإلا فلن يذهب أحد للقتال إن لم يكن مقتنعاً بالدين، فكل واحد يعمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2412 لحياته ونفسه، فكل الأمور بالنسبة للإنسان نفعيه حتى في الدين، ولذلك يقولون: لا تكن أنانيا رخيصا بل عليك أن تكون أنانيا غاليا، والدين هو ممارسة لأنانية عليا. ونضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - الذي ليس معه إلا جنيه وهو يحتاج إليه ثم رأى واحدا في حاجة ماسة، فيقول المؤمن لنفسه: لقد أكلت، وقد يكون هذا الإنسان لم يأكل بعد فلأعطه الجنية. بالله أهو يحب الذي أخذ الجنيه عن نفسه؟ لا، بل هو يحب نفسه، لكنها أنانية عليا؛ أنانية معلاة. وسبق أن قلنا: إن الذي يجلس ويرى امرأة جميلة فغض عينه أمره يختلف عن واحدٍ آخر «يبحلق» ويحدّق وينظر إليها بشدة، فايهما يحب الجمال أكثر؟ إن الذي غضَّ بصره هو من يحب الجمال أكثر؛ لأنه لا يريدها لحظة فقط، بل يريدها مستديمة. فما بالنا بالذي يبيع الدنيا ويقتل في سبيل الله ويأخذ الآخرة التي ليس فيها قتل أو أي شيء مكدر؟ إذن فهذه أنانية عليا، والحق سبحانه وتعالى يعاملنا بقانون النفعية، لكنها نفعية عليا وليست نفعية رخيصة أو قصيرة المدى، فيجعلنا نبيع الرخيص بالثمن الغالي. ولقد رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذين يقاتلون في سبيل الله وعرض عليه منظرهم وهو في ليلة الإسراء والمعراج؛ رأى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جماعة يزرعون ويحصدون بعد البذر مباشرة؛ لأن الذي قتل في سبيل الله إنما فعل ذلك إعلاء لكلمة الله، فلا ينتهي قطفه أبدا للخير الذي بذله، وحياته مستمرة في حياة الملايين. {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وعرفنا أن كل مؤمن يقاتل في سبيل الله إنما يقول لمعسكر الكفر ما جاء به الحق في قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2413 فالمؤمن يعلم أنه إما أن يُقتل ويكون شهيداً، وإما أن يَغلب معسكر الكفر. وهو يتربص بالكافرين أن يُصيبهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين، إذن فالمؤمنون رابحون على كل حال، والكافرون خاسرون على كل حال. و «المعرى» قبل أن يهديه الله وكان متشككاً قال: تُحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يُعاد لنا سبك فقالوا: إنه ينكر البعث، فما دام قد جاء بمثل يقول فيه إن الإنسان كالزجاج إن تحطم فلن يستطيع أحد أن يعيده إلى سيرته الأولى، قال ذلك أيام تكبر الفكر، وهذه تأتي في أيام الغرور، ثم جاءت الأحداث لتلويه وتضرب في فكره وينتهي إلى الإيمان، لكن أكان ضامناً أن يعيش حتى يؤمن؟ فلماذا لم يخلص نفسه من مرارة تجربة الشك؟ ولكنه بعد أن آمن قال: «هأنذا أموت على عقيدة عجائز أهل نيسابور. ربنا حَقُّ وربنا سميع وربنا بصير وقال: زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجساد قلت إليكما إن صحّ قولكما فلست بخاسر ... أو صحّ قولي فالخسار عليكما أي إن صحّ قولكما على أنه لا بعث وقمت أنا بالأعمال الطيبة في الدنيا، فماذا أكون قد خسرت؟ إنني لن أخسر شيئاً، وإن صحّ قولي وفوجئتم بالآخرة والبعث فأنا الذي يكسب والخسران والبوار والعذاب عليكما، إذن فإيماني إن لم ينفعني فلن يضرني، وكلامكما حتى لو صح - وهو غير صحيح ولا سديد - فلن يضرني. والحق يقول: {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وسبحانه هنا يطيل أمد العطاء. انظروا دقة الأداء القرآني، لأن الذي يتكلم هو الله، ولنر كيفية ترتيب فعل على فعل، فحين أقول لك: «احضر لي أكرمك» ، فبمجرد الحضور يحدث الإكرام، ولكن إن قلت لك: «إن حضرت إليّ فسأكرمك» ، فهذا يعني أن الزمن يمتد قليلاً، فلن تكرم من فور أن تأتي بل أن تحضر عندي وبعد ذلك تأخذ تحيتك، ويأتيك الإكرام بعد قليل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2414 وإن أردت أنا أن أطيل الزمن أكثر فإني أقول: «إن حضرت إليّ فسوف أكرمك» . إذن فنحن أمام ثلاث مراحل لترتيب الجزاء على الفعل: جزاء يأتي بعد فور حصول الشرط، وجزاء يأتي بعد زمن يسير تؤديه «السين» ، وجزاء يأتي بعد زمن أطول تؤديه. «سوف» . ولم يقل الحق: من يقاتل في سبيل الله نؤتيه أجراً عظيماً، ولم يقل: فسنؤتيه أجراً عظيما، ولكنه قال: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وهذا القول سيبقى ليوم القيامة؛ لذلك كان لا بد أن تأتي «سوف» هنا، وهذا دليل على أنه جزاء موصول لا مقطوع ولا ممنوع. وهكذا نرى إحكام الأداء القرآني، والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن نفسه وذاته، يأتي بأساليب كثيرة: فمرة يأتي بأسلوب الجمع، ونحن نقول، كما علمونا في النحو: «النون للتعظيم» كما في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . لم يقل: أنا أنزلت. . فكل شيء يكون نتيجة فعل من أفعال الله. تأتيه «نون التعظيم» ؛ لأنه سبحانه حين يصنع شيئاً لخلقه من متعة أو من نعيم، يريد صفات كثيرة: قدرة للإبراز، وعلما لترتيب النعمة، وتدبيرا وحكمة، وبسطا، فيقول هنا: «نؤتيه» ، لأن الصفات تتكاتف لتعمل الخير، لكنه حين يتكلم عن ذاته مجرداً عن الفعل. فسبحانه يتكلم بالوحدانية مثل قوله الحق: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني} [طه: 14] . وكذلك قوله الحق: {وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى} [طه: 13] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2415 فساعة يتكلم سبحانه عن ذاته فهو يتكلم بالوحدانية، ولا تقل بالإفراد تأدباً مع الله فليس له شريك أو مثيل، وحينما يتكلم سبحانه عن فعله يأتي بالجمع فيقول: «نحن» وهذه حلت لنا إشكالات كثيرة، مثلما حدث عند قراءة قول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27] . لقد جاء سبحانه في صدر الآية: ب «أنزل» وكان يناسبها أن يأتي بعدها «أخرج» ، لكنه قال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} فلماذا هذه «مفردة» وتلك «جمع» ؟؛ لأنه ساعة قال: «أنزلنا من السماء ماءٌ» لم يكن لأحد من خلقه ولو بالأسباب فعل في إنزال المطر، لكن ساعة أن أنزل المطر، نجد واحداً قد حرث الأرض، وثانياً بذر، وثالثاً روى الأرض، وكل ذلك من أسباب خلقه، فلم يهضم الله خلقه فقال: {أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} ثم بعد ذلك: أنا وخلقي بما أمددتهم ومنحتهم {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} . إذن فلا بد أن ننتبه إلى دلالة الكلمة حين تأتي بالمفرد وحين تأتي بالجمع. وقوله سبحانه: {نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يلفتنا إلى أن كل فعل إنما هو حدث يتناسب مع فاعله أثراً وقوة. فالطفل عندما يصفع آخر لا تكون صفعته في قوة الشاب أو قوة الرجل، فإذا كان الذي يعطي الأجر مثيلاً لك فسيعطيك أجراً على قدره، لكن إذا كان من يعطي هو ربنا، فسيعطي الأجر على قدره، ولا بد أن يكون عظيماً. والأجر هو الشيء المقابل للمنفعة. وهناك فرق بين الأجر والثمن؛ فالثمن مقابل العين، أما الأجر فهو مقابل المنفعة، أنا اشتريت هذه، فهذا يعني أني دفعت ثمناً، لكن إن استأجرت شيئاً فهو لصاحبه ولكن أخذته لأنتفع به فقط، وجزاء الحق لمن يقتل في سبيل الله أهو أجر أم ثمن؟ ، ونلتفت هنا أن الحق قد أوضح: أنا لم أثمن مَن قتل، بل نظرت لعمله، فأخذت أثر عمله، وأعطيته {أَجْراً عَظِيماً} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2416 وبعد ذلك يقول الحق: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2417 والآية تبدأ بالتعجيب، ذلك أنه بعد إيضاح لون الجزاء على القتال في سبيل الله كان لا بد أن يصير هذا القتال متسقاً مع الفطرة الإنسانية، ونحن نقول في حياتنا العادية: وما لك لا تفعل كذا؟ كأننا نتساءل عن سبب التوقف عن فعل يوحي به الطبع، والعقل. فإن لم يفعله الإنسان صار عدم الفعل مستغرباً وعجيباً. فالقتال في سبيل الله بعد أن أوضح الله أنه يعطي نتائج رائعة، فالذي لا يفعله يصبح مثاراً للتعجب منه، ولذلك يقول الحق: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} أي لإعلاء كلمة الله، ومرة يأتي القتال وذلك بأن يقف الإنسان المؤمن بجانب المستضعف الذي أوذي بسبب دينه. ويكون ذلك أيضا لإعلاء كلمة الله. يقول سبحانه: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين} أي أن القتال يكون في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، وفي ذلك استثارة للهمم الإنسانية حتى يقف المقاتل في سبيل رفع العذاب عن المستضعفين، بل إننا نقاتل ولو من باب الإنسانية لأجل الناس المستضعفين في سبيل تخليصهم من العذاب؛ لأنهم ما داموا صابرين على الإيمان مع هذا العذاب، فهذا دليل على قوة الإيمان، وهم أولى أن ندافع عنهم ونخلصهم من العذاب. ويعطينا سبحانه ذلك في أسلوب تعجب: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين} فكأن منطق العقل والعاطفة والدين يحكم أن نقاتل، فإذا لم نقاتل، فهذه المسألة تحتاج إلى بحث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2417 وساعة يطرح ربنا مثل هذه القضية يطرحها على أساس أن كل الناس يستوون عند رؤيتها في أنها تكون مثاراً للعجب لديهم، مثلها مثل قوله الحق: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] . يعني كيف تكفرون بربنا أيها الكفار؟ إن هذه مسألة عجيبة لا تدخل في العقل، فليقولوا لنا إذن: كيف يكفرون بربنا؟ {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين مِنَ الرجال} وكلمة «والمستضعفين» يأتي بعدها «من الرجال» والمفروض في الرجل القوة، وهذا يلفتنا إلى الظرف الذي جعل الرجل مستضعفاً، ومَنْ يأتي بعده أشد ضعفاً. {والمستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} فقد بلغ من اضطهاد الكفار لهم أن يدعوا الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، والقرية هي «مكة» . وقصة هؤلاء تحكي عن أناس من المؤمنين كانوا بمكة وليست لهم عصبية تمكنهم من الهجرة بعد أن هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهم ممنوعون من أن يهاجروا، وظلوا على دينهم، فصاروا مسضعفين: رجالاً ونساءً وولداناً، فالاضطهاد الذي أصابهم اضطهاد شرس لم يرحم حتى الولدان، فيقول الحق للمؤمنين: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان} : وهؤلاء عندما استضعفوا ماذا قالوا؟ . قالوا: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} وعبارة الدعاء تدل على أنهم لن يخرجوا بل سيظل منهم أناس وثقوا في أنه سوف يأتيهم وليّ يلي أمرهم من المسلمين، فكأنها أوحت لنا بأنه سيوجد فتح لمكة. وقد كان. لقد جعل الله لهم من لدنه خير وليّ وخير ناصر وهو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2418 هذه الجماعة من المستضعفين منهم «سلمة بن هشام» لم يستطع الهجرة، ومنهم «الوليد بن الوليد» و «عياش بن أبي ربيعة» ، و «أبو جندل بن سهيل بن عمرو» . وسيدنا ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: لقد كنت أنا وأمي من هؤلاء المستضعفين من النساء والولدان، وكانوا يضيقون علينا فلا نقدر أن نخرج، فمثل هؤلاء كان يجب نصرتهم، لذلك يحنن الله عليهم قلوب إخوانهم المؤمنين ويهيج الحمية فيهم ليقاتلوا في سبيلهم؛ فظلم الكافرين لهم شرس لا يفرق بين الرجال والنساء والولدان في العذاب. {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} وكان رسول الله والمسلمون نصراء لهم. ويقول الحق بعد ذلك: {الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2419 وعرفنا أن الطاغوت هو: المبالغ والمسرف في الطغيان، ويطلق على المفرد وعلى المثنى، وعلى الجمع: فتقول: رجل طاغوت، رجلان طاغوت، رجال طاغوت، والحق يقول: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2419 إذن فالطاغوت يطلق على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع، وهل الطاغوت هو الشيطان؟ . يصح. أهو الظالم الجبار الذي يطغيه التسليم له بالظلم؟ يصحّ، أهو الذي يفرض الشرّ على الناس فيتقوا شرّه؟ يصحّ، وكل تلك الألوان اسمها «الطاغوت» . والأسلوب القرآني يتنوع فيأتي مرة ليقول: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] . وانظر للمقابلة هنا: {الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت} ، هنا {آمَنُواْ} و {كَفَرُواْ} وهنا أيضا في {سَبِيلِ الله} و {فِي سَبِيلِ الطاغوت} هذه مقابل تلك. لكي نعرف العبارات التي ينثرها ربنا سبحانه وتعالى علينا أن ندرك فيها الخطفة الإعجازية، قال في هذه الآية: {الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ} مقابلات؛ لأن الكافر مفهوم أنه طاغوت، ولكن: إذا ذكرت في الثانية مقابلا لمحذوف من الأولى، أو حذفت من الأولى مقابلاً من الثانية، هذا يسمونه في الأسلوب البياني احتباكا كيف؟ ها هوذا قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} أي تقاتل في سبيل الطاغوت، ويقابلها الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولا بد أن تكون مؤمنة. إذن فالكلام كله منسجم، فقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ} وترك صفتها كمؤمنة وقال: {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله} وسنعرف على الفور أنها مؤمنة، وربنا يحرك عقولنا كي لا يعطينا المسائل بوضوح مطلق بل لنعمل فكرنا، كي لا يكون هناك تكرار، ولكي تعرف أنه إذا قال: {فِي سَبِيلِ الله} يعني مؤمناً، وإذا قال: {فِي سَبِيلِ الطاغوت} يكون كافراً. ويتابع الحق: {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان} . أي نصراء الشيطان الذين ينفخون في مبادئه، والذين ينصرون وسوسته في نفوسهم ليوزعوها على الناس، هؤلاء هم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2420 أولياء الشيطان؛ لأن الشيطان - كما نعرف - حينما حدث الحوار بينه وبين خالقه. قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] . لكنه عرف حدوده ولزمها فقال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83] . أي أن من تريده أنت يا رب لا أقدر أنا عليه. وهذه تدلنا على أن المعركة ليست بين إبليس وبين الله، فتعالى الله أن يدخل معه أحد في معركة، بل المعركة بين إبليس وبين الخائبين من الخلق، فعندما قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} دلّ على أنه عرف كيف يُقْسِم ويحلف؛ لأن ربنا لو أراد الناس كلهم مؤمنين لما قدر الشيطان أن يقرب من أحد، لكن ربنا عزيز عن خلقه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن هنا دخل الشيطان، فالشيطان قد دخل من عزّتك على خلقك سبحانك لأنك لو كنت تريدهم كلهم مؤمنين لما استطاع الشيطان شيئاً، بدليل قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} أي أنا لا أقدر عليهم. ودلّ قَسَم الشيطان أنه دارس ومنتبه لمسألة دخوله على العباد فقال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] . إذن فالشيطان لن يأتي على الصراط المعوجّ؛ لأن الذي يسير على الصراط المعوج والطريق الخطأ لا يريد شيطاناً؛ فهو مريح للشيطان، ويعينه على مهمته، فيكون وليّه. فأولياء الشيطان هم كل المخالفين للمنهج، وهم نصراء الشيطان. والحق يأمرنا: {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان} . هؤلاء الذين بينهم وبين الشيطان ولاء، هذا ينصر ذاك، وذاك ينصر هذا، ويطمئننا الحق على ذلك فيقول: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفا} ؛ لأن الشيطان عندما يكيد سيكون كيده في مقابل كيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2421 ربه، فلا بد أن يكون كيده ضعيفاً جداً بالقياس لكيد الله، وليس للشيطان سلطان يقهر قالب الإنسان على فعل، ولا يستطيع أن يرغمك على أن تفعل، وليس له حجة يقنعك بها. والفرق بين من يكره القالب - قالبك -: أنك تفعل الفعل وأنت كاره. كأن يهددك ويتوعدك إنسان ويمسك لك مسدساً ويقول لك: اسجد لي - مثلاً - إذن فقد قهر قالبك. لكن هل يقدر أن يقهر قلبك ليقول: «أحبني» ؟ . لا يمكن. إذن فالمتجبر يستطيع أن يكره القالب لكنه لا يقدر أن يقهر القلب، فالذي يقهر القلب هو الحجة والبرهان، بذلك يقتنع أن يفعل الفعل وليس مرغماً عليه. إذن فالأول يكون قوة، والثاني يكون حجة. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: اعرفوا أن هذا الشيطان ضعيف جداً، فهو لا يملك قوة أن يرغمك فإذا أغواك تستطيع أن تقول له: لن أفعل. . ولا يستطيع أن يأتي لقلبك ويقول لك: لا بد أن تفعل ويحملك على الفعل قهرا عنك. فليس عنده حجة يقنعك بها لتفعل، فهو ضعيف، فلماذا تطيعونه إذن؟ . إنكم تطيعونه من غفلتكم وحبكم للشهوة، والشيطان لا يقهر قلبكم، ولا يقهر قالبكم. بل يكتفي أن يشير لكم!! ، ولذلك سيقول الشيطان في حجته يوم القيامة على الخلق: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] . أي لم يكن لي عليكم سلطان: لا سلطان قدرة أرغمكم على فعلكم بالقالب، ولا سلطان حجة أرغمكم على أن تفعلوا بالقلب، أي أنتم المخطئون وليس لي شأن، إذن فكيد الشيطان ضعيف. و «الكيد» - كما نعرف - هو: محاولة إفساد الحال بالاحتيال، فهناك من يفسد الحال لكن ليس بحيلة، وهناك من يريد أن يفسدها بحيث إذا أمسكت به يقول لك: لم أفعل شيئاً؛ لأنه يفعل الخطأ في الخفاء. ويفسد الحال بالاحتيال. والكيد لا يقبل عليه إلا الضعيف. إن القوي هو من يواجه من يكيد له، فالذي يدسّ السّم لإنسان آخر في القهوة - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2422 مثلاً - هو من يرتكب عملاً لإفساد الحال باحتيال؛ لأنه لا يقدر أن يواجه، أما القوى فهو يتأبى على فعل ذلك، وحتى الذي يقتل واحداً ولو مواجهة نقول له: أنت خائف، أنت أثبت بجرأتك على قتله أنك لا تطيق حياته، لكن الرجولة والشجاعة تقتضي أن تقول: أبقيه وأنا أمامه لأرى ماذا يقدر أن يفعل. إذن فكيد الشيطان جاء ضعيفاً لأنه لا يملك قوة يقهر بها قالباً، ولا يملك حجة يقهر بها قلباً ليقنعك، فهو يشير لك باحتيال وأنت تأتيه: ولا يحتال إلا الضعيف. وكلما كان ضعيفاً كان كيده أكثر، ولذلك كانوا يقولون مثلاً: المرأى أقوى من الرجل لأن ربنا يقول: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] . ونقول لهم: ما دام كيدهن عظيما؛ إذن فضعفهن أعظم، وإلا فلماذا تكيد؟ . ولذلك يبرز الشاعر العربي هذا المعنى فيقول: وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت كذلك قدرة الضعفاء لأن الضعيف ساعة يمسك خصمة مرة. وتمكنه الظروف منه؛ يقول: لن أتركه لأنني لو تركته فسيفعل بي كذا وكذا. لكن القوى حينما يمسك بخصمه، يقول: اتركه وإن فعل شيئاً آخر أمسكه وأضربه على رأسه، إذن فإن كان الكيد عظيماً يكون الضعف أعظم. ويقول الحق بعد ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2423 نعرف أن الحق ساعة يقول: «ألم تر» يعني: إن كانت مرئية في زمنها، فلك أن تتأمل الواقعة على حقيقتها، وإن كانت غير مرئية فمعناها: ألم تعلم، ولكن العلم بإخبار الله أصدق من العين. وحين يقول الحق: {كفوا أَيْدِيَكُمْ} لا بد أن تكون بوادر مدّ الأيدي موجودة، فلن يقال لواحد لم يمد يده: كيف يدك. والكلام هنا في القتال، فيكون قد كفوا أيديهم عن القتال، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جاء في المقابل فقال: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} إذن فقد قيل لهم: {كفوا أَيْدِيَكُمْ} لأن بوادر مدّ الأيدي للقتال قد ظهرت منهم إما قولاً بأن يقولوا: دعنا يا رسول الله نقاتل، وإما فعلاً بأن تهيأوا للقتال. وعندما يقول القرآن: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} دل هذا القول على وجود زمنين بصدد هذه الآية: زمن قيل لهم: كفّوا أيديكم، وزمن كُتِبَ عليهم القتال، فنفهم من هذه أنه كانت هناك بوادر المدّ اليد إلى القتال قبل أن يكتب عليهم القتال والذين قالوا: دعنا نقاتل هم: ابن عوف وأصحاب له، ولو كان الأمر بالقتال متروكا للرسول لكان قد أمرهم بمجرد أن قالوا ذلك. عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة. فقالوا: يا نبي الله، كنا في عزة، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم» فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا، فأنزل الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2424 وهذا دليل على أنه منتظر أمر السماء. وبعد ذلك كتب الله عليهم القتال، فلما كتب عليهم القتال تملص البعض منه. . مصداقاً لقول الحق: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} فلماذا هذه الخشية وهم مؤمنون: هل هذا يعني أنهم خافوا الناس أو رجعوا في الإيمان؟ . كما طلب بعض من بني إسرائيل القتال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} [البقرة: 246] . إذن فعندما تصل المسألة إلى الأمر التطبيقي، قد يدب في نفوسهم الخَوَر والخوف، والحق سبحانه لم يمنع الأغيار أن تأتي على المؤمن، فما دام الإنسان ليس رسولا ولا معصوما فلا تقل: فلان عمل كذا أو فلان عمل كذا؛ لأن فلانا هذا لم يدع أنه معصوم، ولذلك يصح أن تأتي منه الأخطاء، وتأتيه خواطر نفسه، وتأتيه هواجس في رأسه، ويقف أحياناً موقف الضعف، ولذلك عندما يقول لك واحد: فلانة عملت كذا وفلان عمل كذا، قل له: وهل قال أحد إن هؤلاء معصومون؟ وما داموا غير معصومين فقد يتأتي منهم هذا. والله يقول: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} وهذا يعني أنهم ليسوا سواء، ففريق منهم أصابه الضعف، وفريق آخر بقي على شدته وصلابته في إيمانه لم تلن له قناة ولم ينله وهن ولا ضعف، ثم انظر أدب الأداء. لم يقل: فلان أو فلان. بل قال: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} وهذا يستدعي أن يبحث كل إنسان في نفسه، وهذه عملية أراد بها الحق الستر للعبد، وما دام الستر قد جاء من الرب، فلنعلم أن ربنا أغير على عبده من نفسه، ولذلك نقول دائما: ساعة يستر ربنا غيب الناس على الناس فهذا معناه: تكريم للناس جميعا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2425 وهب أن الله أطلعك على غيب الناس أتحب أن يطَّلع الناس على غيبك؟ {لا، إذن فأنت عندما ترى أن ربنا قد ستر غيبك عن الناس وستر غيب الناس عنك فاعرف أن هذه نعمة ورحمة؛ لأن الإنسان ابن أغيار، فيصح أن واحداً أساء إليك في نفسه ولم يرغب أن تعرف ذلك، وأنت أيضاً تريد أن تتخلص منه وتكرهه، فلو أطلعه الله على ما في قلبك، أو أطلعك على ما في قلبه لكانت معركة يجرح فيه كل منكما كرامة الآخر، لكن ربنا ستر غيب خلقه عن خلقه رحمة بخلقه. وأنت أيضاً أيها العبد قد تعصيه ويحب أن يستر عليك، ويأمر الآخرين ألا يتقصوا أخبارٍ معصيتك له. بالله أيوجد رب مثل هذا الرب؟ شيء عجيب؛ فقد تكون عاصياً له ويحب أن يستر عليك، ويأمر غيرك: إياكم أن تتبعوا عورات الناس، فقد يكون عندهم بعض الحياء، ويكونون مستترين في أسمالهم وملابسهم لماذا؟ حتى لا يفقدوا أنفسهم أو يضلوا طريق التوبة لربهم. إذن فالحق يرحم المجتمع، ولكن الخيبة من الناس أنهم يلحون على أن يعلموا الغيب ويبحثوا عمن يكشف لهم الطالع. ونقول لمن يفعل ذلك: يا رجل لقد ستر الله الغيب عنك نعمة منه عليك، فاجعله مستورا كما أراد الله. إن الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} والواحد من هذا الفريق يخشى القتال والقتل، ويخاف من الموت؛ لأنه سيأخذه إلى جزاء العمل الذي عمله في الدنيا، ولذلك نجد أحد الصحابة يقول: أكره الحق. فتساءل صحابي آخر: كيف تكره الحق؟ قال: أكره الموت ومن منا يحبه} ولماذا يخشى الناس القتال؟ لأن الله حين يُميت؛ يُميت بدون هدم بنية، ولكن الأعداء في القتال قد يقطعون جسد الإنسان ويمثلون به، لكن إن استحضر العبد الجزاء على هذه المُثْلَة تهون عليه المسألة. {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2426 القتال} وكأنهم قد نسوا أنهم طلبوا القتال، كي نعرف أن النفس البشرية حين تكون بمنأى عن الشيء تتمناه، وعندما يأتيها تعارضه. {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} فهل جاء هذا الكلام منهم على سبيل الاستفهام؟ يوضح الله لنا ذلك: إنهم يقولون: يا رب لماذا ابتليتنا هذا الابتلاء، وقد لا نقدر عليه في ساعة الخوف من لقاء المعارك:؟ لذلك طلبوا أن يؤجل الله ذلك وأن يجعلهم يموتون حتف أنوفهم لا بيد العدو، وكلمة {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} توضح أن كل واحد منهم يعي تماماً أنه سيموت حتماً، لكن لا أحد منهم يريد أن تنتهي حياته بالقتل. ولماذا تطلبون التأخير؟ أحُباً في الدنيا ومتاعها؟ ويأتي جواب الحق: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} ولا يصح أن تحرصوا عليه أيها المؤمنون حرصاً يمنعكم أن تذهبوا لتقاتلوا، فكلكم ستموتون، وكل منا يجازيه ربنا على عمله، أما الذي يُقتل في سبيل الله فسيجازيه على عمله فوراً، ويعطيه حياة أخرى مقابل الموت. لأنه سيأخذ الشهادة، ولذلك يأمر الحق رسوله بأن يقول: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} إن قارنته بما يصل إليه المرء من ثواب عظيم إن قتل في الحرب جهاداً في سبيل الله. قال بعضهم: إذا كان لا مفر من الموت، فلماذا لا نذهب لنقاتل في سبيل الله، فإن قتلنا فليكن موتنا بثمن زائد عن عملنا، إذن فهذا تربيب وتنمية للفائدة، ولذلك قال الحكيم: ولو أن الحياة تبقى لحي ... لعددنا أضلَّنا الشجعان أي أن الحياة لو كانت تبقى لحي لكان أضل ناس فينا هم الشجعان الذين يقتلون أنفسهم في الحرب، لكن المسألة ليست كذلك، والشاعر العربي يقول: ألا أيها الزاجري أحضر الوغي ... وأن أشهد اللذات هل انت مُخلدي والمتنبي يقول: أرى كلنا يبغى الحياة لنفسه ... حريصا عليها مستهاما بها صبا فحب الجبان النفس ورثه التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2427 إذن فالاثنان يحبان نفسيهما، لكن هناك فرق بين الحب الأحمق والحب الأعمق. وعندما ننظر إلى إجمالي السياق في الآية نجد أن الحق سبحانه يربى - في صدر الإسلام - الفئة المؤمنة تربية إيمانية لا تخضع لعصبية الجاهلية ولا لحمية النفس، ففريق من المؤمنين بمكة الذين ذاقوا الاضطهاد أحبوا أن يقاتلوا، لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبلغهم أنه لم يؤمر بالقتال بعد، وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يصبروا على ما هم فيه حتى يأذن الله بالقتال، وتلك تربية أولى للفئة المؤمنة؛ لأن الإسلام جاء وفي نفوس العرب حمية وعصبية وعزة وأنفة، فكلما أهيج واحد منهم في شيء فزع إلى سيفه وإلى قبيلته وشنها حرباً، فيريد الله سبحانه أن يستل من الفئة المؤمنة الغضب للنفس والغضب للعصبية والغضب للحمية، وأراد أن يجعل الغضب كله لله. وحينما جاء الإذن بالقتال، جاء لا ليفرض على الناس عقيدة، ولا ليكرههم على إسلام، وإنما جاء ليحمي النفس الإنسانية من أن يتسلط عليها الأقوى الذي يريد أن يجعل الأَضعف تبيعاً له، فأراد سبحانه أن يحرر الاختيار في الإنسان فكان القتال حفاظا على كرامة الإنسان أن يكون تبيعاً في العقيدة لغيره، وبعد ذلك يعرض قضية عرضاً عقلياً؛ فمن استجاب له فمرحباً به، ومن لم يستجب فله أن يظل على دينه. وهذا يدل على أن الإسلام دين منع التسلط على عقائد الناس، وضمن لهم الحرية في أن يختاروا ما يحبون من العقائد بعد أن بين لهم الرشد من الغي. وحينما شرع الله القتال فقد شرعه دون أن يكون هناك أدنى تدخل لغضب النفس ولا لحميتها ولا لعزتها، ويشاء الحق سبحانه وتعالى أن يصور العواطف الإنسانية التي تواجه الإسلام ويواجهها الإسلام تصويرا طبيعياً. فبين لنا أن الطبع الإنساني يعالج بالتربية، ولهذا نجد أن بعضاً من الذين طلبوا القتال خافوا: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} . إذن فهناك فرق بين نظرية أن نقاتل، وأن نخوض القتال بالفعل؛ لذلك تجد أن منهم من خاف الذهاب إلى القتال خشية أن يُقتلوا، والقتل كما تعلمون: هدم بنية، ولكن الموت حتف الأنف هو الذي يسحب به الله الروح الإنسانية، دون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2428 هدم بنية أو نقص لها. وأيضا فالقتال يكون مظنة القتل، والخوف من القتال مظنة التراخي في الأجل، فالقتل موت مقرب أمام المقاتل، لكن الموت حتف الأنف علمه عند الله؛ لذلك قالوا: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال} . فهل كان طلبهم للقتال لقصد الحمية، وسبحانه يريد أن يبرئ المؤمن أن يكون قتاله للحمية؛ لأنه جل وعلا يريد أن تكون المعركة إيمانية؛ لتكون كلمة الله هي العليا حتى ولو كان المخالف له صلة نسب أو صلة عصب أو صلة عواطف. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا ذلك؛ لأن الأمة الإسلامية ستواجه عنفا شرسا في تثبيت قاعدة الاختيار الإيماني في البشر، فقال الحق لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن قالوا لك ذلك {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} ، فالحرص على أن يستبقي المؤمن نفسه من القتل ليموت بعد أجل قريب يعني أن يريد أن يأخذ من الحياة فرصة أكبر، فأوضح الحق: لا، ضعوا مقياسا تقيسون به الجدوى، فسبحانه قال: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] . إنه شراء وبيع. وأيضاً قال سبحانه في الصفقة الإيمانية: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] . إذن فالله يعاملنا بملحظ النفعية الإنسانية، واللبق، الفطن، الذكي هو الذي يتاجر في الصفقة الرابحة أو المضمونة أو التي تكون جدواها والفائدة منها أكثر من سواها. فلو أننا قارنا الدنيا، لعلمنا أنها مهما طالت لا تؤثر ولا تزيد في عمر الفرد؛ لأن الدنيا تطول في الزمن، لكنها بالنسبة للأفراد تكون بمقدار عمر كل واحد فيها، لا بمقدار أعمار الآخرين، فإن دامت للآخرين طويلاً، فما دخل الفرد في ذلك؟ إذن فالدنيا بالنسبة للفرد هي زمن محدد، والله يبشر المؤمن الذي يقتل في سبيله أنه يأخذ من الصفقة زمناً غير محدود. وأيضاً فالبقاء في الدنيا بدون قتل وإلى أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2429 يموت الواحد حتف أنفه، هو بقاء مظنون وغير متيقن. ونحن نرى من يموت طفلاً أو شاباً أو كهلاً. أما الآخرة فهي غير محدودة وهي متيقنة. إن النعيم في الدنيا يكون على مقدار تصور الفرد للنعيم وإمكانات الفرد في تحقيق النعيم. وأما النعيم في الآخرة فيكون على المقدار الذي أعده الله لعباده بطلاقة قدرته وسعة رحمته. فإن قارنا صفقة الدنيا بالآخرة لوجدنا أن متاع الدنيا على فرض أنه متاع هو قليل بالنسبة للآخرة. إذن فالحق ينمي فينا قيمة الصفقة الإيمانية، ويعلم أن كل إنسان يحب الخير لنفسه، فلا يظنن أحد أن الدين جاء ليسلبه الحرية، أو ليستذله، فالدين إنما جاء ليربب للمؤمن النفعية وينميها له. ومثال ذلك عندما منع الدين واحداً أن يسرق الآخرين فهو قد منع أيضاً كل الآخرين أن يسرقوا من أي واحد، وبذلك يكسب كل إنسان حماية الدين له، فحين يمنع الواحد عن فعل خطأ في حق الآخرين فهو قد منع الآخرين وهم ملايين أن يخطئوا في حقه. فإذا قال الدين لواحد: لا تمد عينيك إلى محارم غيرك، ففي هذا القول ما يوصي كل غير في الدنيا: لا تمدوا أعينكم إلى محارم فلان، فالكسب العظيم - إذن - يعود على الفرد. وقول الحق: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى} يوضح لنا عظمة الصفقة الإيمانية، وبعد ذلك يؤكد لنا العدل في قوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ونعرف أن الفتيل هو ما فُتل من الأقذار حينما يدعك الإنسان كفيه معاً، فيخرج ناتجا كالفتلة، أو الفتيل هو الفتلة في بطن النواة، أي لا نظلم حتى في الشيء التافه. والعدالة هنا بمشروطها؛ لأن الله أوضح أن من يصنع السيئة يجازي بسيئة مثلها، ومن يصنع حسنة يجازي بعشرة أمثالها أو أكثر. وهكذا لا ترهق العدالة مؤمناً لأنها تأتي بفضلها، فالحسنة بعشر أمثالها أو أكثر، وتحسب الحسنة عند الله في ميزان العدالة بما أخذ من الفضل، فلا يقولن واحد: إن هناك عدلاً من الله بدون فضل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2430 إذن فقول الحق: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} هو بضميمة الفضل إلى العدل. ولذلك نحن ندعو الله قائلين: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل؛ لأن مجرد العدل قد يتعبنا. وندعو الله: وبالإحسان لا بالميزان؛ لأنه لو عاملنا بالميزان قد نتعب. وندعو الله: وبالجبر لا بالحساب، والجبر هو أن يجبرنا الله، وهكذا نرى أن قوله الحق: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} بلاغ من الحق لنا: أننا سنعدل معكم بالفضل فتكون السيئة بواحدة، وتكون الحسنة بعشر أمثالها أو أكثر. وقوله الحق: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} يعين فيما قضي به سبحانه متفضلاً بالفضل مع العدل. وسبحانه يريد أن يطمئننا على أن قضايا الإيمان يجب أن يحافظ عليها، فإياك أن تظن أن عملك هو الذي سيعطيك الجزاء، إنما فضل الله هو الذي سيعطيك الجزاء. يقول الحق: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] . فالفضل هو الذي يُفرح قلب المؤمن. ثم يأتي الحق سبحانه ليرد من بعد ذلك على قضية قالها المنافقون حينما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أحد، ثم قتل من قتل من المسلمين؛ فقال المنافقون: «لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا» ففهموا أن العندية عندهم حصن لهم من الموت، وأن الذهاب إلى القتال هو الذي يجلب الموت. ونعرف أن كل حدث من الأحداث له زمان وله مكان ونسميه الظرف. إن الذين درسوا «الظرف» في النحو يقولون: «ظرف زمان أو ظرف مكان» ، فكل حدث من الأحداث لا بد أن يوجد له زمان ومكان. والزمان في الموت مبهم والمكان في الموت أيضاً مبهم، فظرف حدث الموت زماناً أو مكاناً مبهم، وحين يبهم الله شيئاً؛ فلا تظنوا أنه يريد أن يخفيه ويُغمضه علينا، إن الحق يبهم الأمر ليوضحه أوضح بيان، فالإبهام من عنده أوضح بيان، كيف؟ . إنه سبحانه حين يجهلنا بزمن الموت ويخفيه علينا فمعنى ذلك أن الإنسان قد يستقبل الموت في أي لحظة، وهل هناك بيان أوضح من هذا؟ . فحين جهَّلنا بزمن الموت فهو لم يمنع عنا معرفة زمنه، ولكنه أشاع زمنه في كل زمن، فلا أحد بقادر على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2431 الاحتياط من زمن الموت، وكذلك الحال في مكان الموت. وها هوذا الحق يقول: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2432 والحق هنا يتعرض لقضية الموت مع المكان فقال: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} فالعقل البشري الذي يتوهم أن بإمكانه الاحتياط من الموت - مكاناً عليه أن يعي جيداً أنه لا يستطيع ذلك، فوجود الشخص عند ظرفٍ ما لا يدفع ولا يمنع عنه الموت، فالعندية سواء في معسكر الكفر أو في معسكر الإيمان لن تمنع حدوث الموت. والعندية - كما نعلم - تعطي ظرف المكان. فلطافة تغلغل الموت تخترق أي مكان وزمان ما دام الحق قد قضي به. وأعداء الإنسان في عافيته وفي حياته كثيرون، لكن إن نظرنا إليها في العنف نجدها تتناسب مع اللطف. فكلما لطف عدو الإنسان ودق؛ كان عنيفا، وكلما كان ضخماً كان أقل عنفا. فالذي له ضخامة قد يهول الإنسان ويفزعه، ولكن بإمكان الإنسان أن يدفعه. لكن متى يكون العدو صعباً؟ يكون العدو صعباً كلما صغر ولطف ولا يدخل تحت الإدراك. فيتسلل إلى الإنسان. ومثال ذلك: هب أن واحداً يبني بيتاً في خلاء ويمر عليه إنسان ليبارك له وضع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2432 أساس البيت فيقول لصاحب البيت: إنك لم تحتط لمثل هذا المكان، فهو يمتلئ بالذئاب والثعالب ويجب أن تضع حديداً على النوافذ التي في الدور الأول، وذلك حتى لا تدخل إليك هذه الحيوانات المفترسة. ويضع صاحب البيت حديداً على نوافذ الدور الأول. ويجيء واحد ثان ويقول له: لقد فاتك أن هذا المكان به ثعابين كثيرة وعليك أن تضيق فتحات الحديد، ويفعل ذلك صاحب البيت ليرد الثعابين. ويجيء ثالث لزيارة صاحب البيت فيقول: إنني أتعجب منك كيف تحترس من الذئاب والثعابين ولا تحتاط من ذباب هذه المنطقة؟ . إنه ذباب سام. وهنا يضع صاحب البيت سلكاً على النوافذ. ويجيء واحد رابعٍ ليقول لصاحب البيت؛ في هذه المنطقة حشرات أقل حجماً من الذباب وأكثر عنفاً من البعوض ويمكنها أن تتسلل من فتحات السلك الذي تضعه على نوافذك، فيخلع صاحب البيت السلك المعلق على نوافذ البيت ويقوم بتركيب سلك آخر فتحاته أكثر ضيقاً بحيث لا تمر منه هذه الحشرات. إذن فعدوك كلما لطف ودق عن الإدراك كان عنيفاً. ولذلك فأخطر المكيروبات التي تتسلل إلى الإنسان، ولا يدري الإنسان كيف دخلت إلى جسده ولا كيف طرقت جلده، ولا يعرف إصابته بها إلا بعد أن تمر مدة التفريخ الخاصة بها وتظهر بجسده آلامها ومتاعبها. إنها تدخل جسم الإنسان دون أن يدري، ولا يعرف لذلك زماناً أو مكاناً. ويلفتنا سبحانه إلى أن الشيء عندنا كلما لطف ازداد عنفاً، ولا تمنعه المداخل. فما بالكم بالموت وهو ألطف من كل هذا، ولا أحد يستطيع أن يحتاط منه أبداً. وما مقابل الموت؟ . إنه الحياة حيث توجد الروح في الجسد. وما كنه الروح؟ لا يعرف أحد كنه الروح على الرغم من أنه يحملها في نفسه، ولا أحد يعرف أين تكون الروح أو ما شكلها، ولا أحد يعرف من رآها أو سمعها أو لمسها. وعندما يقبضها الله فإن الحياة تنتهي. والحق هو الذي جعل للحيّ روحاً، وعندما ينفخها فيه تأتي الحياة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2433 إن الحق - سبحانه - يلفتنا وينبهنا إلى ذلك فيترك في بعض ماديتنا أشياء لا يستطيع العلماء بالطب ولا المجاهر أن يعرفوا كنهها وحقيقتها، فنحن لا نعرف - مثلاً - الفيروس المسبب لبعض الأمراض. فإذا كان الله قد جعل للإنسان روحاً يهبه بها الحياة، فلماذا لا نتصور أن للموت حقيقة، فإذا ما تسلل للإنسان فإنه يسلب الروح منه، وبذلك نستطيع أن نفهم قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الملك: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 1 - 2] . إذن فالموت ليس عملية سلبية كما يتوهم بعض الناس، بل عملية إيجابية، وهو مخلوق بسرّ دقيق للغاية يناسب دقة الصانع. ووصف الحق أمر الموت والحياة في سورة الملك وقدم لنا الموت على الحياة؛ مع أننا في ظاهر الأمر نرى أن الحياة تأتي أولاً ثم يأتي الموت. لا، إن الموت يكون أولاً، ومن بعده تكون الحياة. فالحياة تعطي للإنسان ذاتية ليستقبل بها الأسباب المخلوقة، فيحرث الأرض أو يتاجر في الأشياء أو يصنع ما يلائم حياته ويمتع به السمع والبصر، فيظن أن الحياة هي المخلوقة أولاً. ينبهنا ويوضح لنا الحق: لا تستقبل الحياة إلا إذا استقبلت قبلها ما يناقض الحياة، فيقول لنا عن نفسه: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} وهذا ما يسهل علينا فهم الحديث القدسي الشريف الذي يشرح لنا كيف يكون الحال بعد أن يوجد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ويأتي الحق سبحانه بالموت في صورة كبش ويذبحه. عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة فيطلعون خائفين وَجِلِين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه. فيقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2434 نعم رَبَّنَا، هذا الموتُ، ثم يُقال: يا أهل النار، فيطلعون فرحين مستبشرين، أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه. فيُقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم هذا الموت، فيأمر به فيًُذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين» كلاهما «» خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدا «» . وتجسيد الموت في صورة كبش معناه أن للموت كينونة. ويعلمنا الله أنه يقضي على الموت، فنحيا في خلود بلا موت. وينبه الناس الذين كفروا وظنوا أن الذين قتلوا في سبيل الله لو كانوا عندهم لما ماتوا. نقول لهم: العندية عندكم لا تمنع الموت. ولو كان من دنا أجله وحان حَيْنه يسكن في بروج مشيدة لأدركه الموت. أن الأداء القرآني يتنوع؛ فهناك من الأداء ما نفهمه من الألفاظ، وهناك ما نفهمه من الهَدْى الأسلوبي للقرآن؛ لأنه خطاب الرب. فالبشر فيما بينهم يتخاطبون بملكات لغوية وملكات عقلية، لكن عندما يخاطب الحقُّ الخلقَ فسبحانه يخاطب كل ملكات النفس. ولذلك نجد طفلاً صغيراً يحفظ القرآن ويمتلئ بالسرور، فيسأله واحد من الكبار: ما الذي يسرك في حفظ القرآن؟ . فيجيب الصغير: إنني أحس بالانسجام وكفى. هو لا يعرف لماذا يحس بالانسجام من سماع القرآن أو حفظه، فالمتحدث هو الله، وسبحانه بقدرته وجمال كماله يخاطب كل الملكات النفسية. وسبحانه وتعالى يقول: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} أي أينما توجدوا يدرككم الموت. وكلمة «يدرككم» دليل على أن الإنسان عندما تدب فيه الروح ينطلق الموت مع الروح، إلى أن يدركها في الزمن الذي قدره الله. وكلمة «يدرك» توضح لنا أن الموت يلاحق الروح حتى إذا أدركها سلبها وكما قال الأثر الصالح عن ملاحقة الموت للحياة: «حتى إذا أدركها جرت، فلا أحد منكم إلا هو مُدْرَك» ، ولذلك يقول أهل المعرفة والإشراق: «الموت سهم أرسل إليك وإنما عمرك هو بقدر سفره إليك» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2435 وهكذا نعرف أن قوله الحق: «يدرككم» تدل على أن الموت يلاحق حياة الإنسان ويجري وراء روحه حتى يدركها. ويقول الحق: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} . وعندما نبحث في الحروف الأصلية لمادة كلمة «البروج» نستطيع أن نرى المعنى العام لها. والحروف الأصلية في هذه الكلمة هي «الباء» و «الراء» و «الجيم» وكلها تدل على الارتفاع والظهور. فيقال: «هذه امرأة فيها بَرَج» أي أن عيونها واسعة وتحتل قدراً كبيراً من وجهها وتكون واضحة، فالبَرَجُ هو الاتساع والظهور. والإبراج عادة كان بناؤها مرتفاً كحصون وقلاع نبنيها نحن الآن من الأسمنت والحديد. والقصد من «مشيدة» أي أنها بروج تم بناؤها بإحكام، فالشي قد يكون عالياً ولكنه قد يكون هشاً. أما الشيء المشيد فهو من «الشِّيد» وهو «الجص» ، ومن «الشَّيْد» وهو «الارتفاع» ، والمقصود أن لبنات البرج تلتحم أبعاضها وأجزاؤها بالجص فهي مرتفعة متماسكة. إنك إذا رأيت جمعاً وقوبل بجمع فمعنى ذلك أن القسمة تعطينا آحاداً. فساعة يدخل المدرس الفصل يقول لطلابه: أخرجوا كتبكم. فمعنى هذا القول أن يخرجٍ كل تلميذ كتابه. وعلى ذلك يكون القياس. فلو بني كل إنسان لنفسه برجاً مشيداً لجاءه الموت. والجمع مقصود أيضا: أي لو كنتم جميعا معتصمين ببرج محاط ببرج آخر وثالث ورابع، كأنه حصن محصن فالحصون في بعض الأحيان يتم بناؤها وكأنها نقطة محاطة بدائرة صغيرة. وحول الدائرة دائرة أخرى أوسع. وبذلك تجد الحصن نقطة محاطة بعدد من الحصون. والموت يدرك البشر ولو كانوا في برج محاط ببروج. وكلا المعنيين يوضح قدرة الحق في إنفاذ أمره بالموت. وساعة يتكلم سبحانه عن الموت وعن الحياة في الجهاد فهو يريد أن يخرج الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2436 من الظلمات إلى النور؛ لأن الدين هو نور طارئ على ظلمة، والذين يعيشون في الظلام يكونون قد ألفوا الظلمة والفوضى وكل منهم يعربد في الآخرين. وعندما جاء الدين فرّ بعضهم من مجيء النور؛ لأن النور يحرمهم من لذات الضلال؛ ولأن النور يوضح الرؤية. لذلك يوضح سبحانه وتعالى أنه أتى بالموت ليؤدي حاجتين: الحاجة الأولى: أنّ مَن يؤمن عليه أن يستحضر الموت لأن جزاءه لا يكون له منفذ إلا أن يموت ويلقى ربه، ويعلم أن الحاجب بينه وبين جزاء الخالق هو الموت، فساعة يسمع كلمة الموت فهو يستشرف للقاء الله؛ لأنه ذاهب إلى الجزاء. والحاجة الثانية: أن غير المؤمن يخاف الموت ويخشاه ولا يستعد له ويخاف أن يلاقي ربه. إذن فكلمة «الموت» تعطي الرَّغب والرَّهَب. فصاحب الإيمان ساعة يسمع كلمة الموت يقول لنفسه: إن متاعب الدنيا لن تدوم، أريد أن ألقى ربي. ولذلك يجب أن يستحضر المؤمنون بالله تلك القضية. وحين يستحضرون هذه القضية يهون عليهم كل مصاب في عزيز؛ فالإنسان ما دام مؤمناً فهو يعرف أن العزيز الذي راح منه إما مؤمن وإمَّا غير مؤمن، فإن كان مؤمناً فليفرح له المؤمن الذي افتقده؛ لأن الله عجَّل به ليرى خيره، فإن حزنت لفقد قريب مؤمن فأنت تحزن على نفسك. وإن كان الذي ذهب إلى ربه غير مؤمن، فالمؤمن يرتاح من شره. إذن الموت راحة، والذي عمل صالحاً يستشرف إليه، وهذا رَغَب، أما الكافر فهو خائف؛ وهذا رَهَب. ولذلك فمن الحمق أن يحزن الإنسان على ميْت، وعليه أن يلتفت إلى قول الحق: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} . ويتابع الحق: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} . ومثل هذا الكلام أليق بمن؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2437 الذي يقول عن الحسنة إنها من عند الله فهو يؤمن بالله وهذه الكلمة لها في ذهنه تصور. والآية لا تريد هذا الصنف من الناس ولكن بعضهم يريد أن يفرق بين محمد وربه. فينسب الخير والحسنة لله، وينسب الشر والسيئة لمحمد، وعلى هذا فالذين قالوا مثل هذا الكلام إما أن يكونوا من المنافقين الذين أعلنوا إسلامهم وولاءهم لرسول الله وفي قلوبهم الكفر، وإمَّا أن يكونوا من بعض أهل الكتاب لأنهم يؤمنون بالله ولكنهم لا يعترفون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهؤلاء وأولئك ينظرون إلى الأمر الذي فيه خير على أساس أنه من عند الله، ويلقون اتهاماً باطلاً لرسول الله أنه مسئول عن الشرور التي تحدث لهم. كأنهم يريدون أن يقيموا انعزالاً بين محمد وربه. لا. فسبحانه لا يتيح لهم ذلك؛ فقد أنزل قرآناً يتلى إلى أبد الآبدين: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 80] . والحق يقول: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31] . فلا أحد يملك أن يصنع مضارة بين محمد وربه؛ لأن محمداً رسول من عند الله مبلغ لقول الله ومنهجه، وسبحانه يقول: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ} [التوبة: 74] . والحق سبحانه وتعالى لا يرضى عن عبد يستغفر الله فقط، ولكن لا بد أن يذهب العبد ويطلب من رسول الله أن يستغفر له الله، فلا أحد يمكنه أن يقيم صلحاً مع الله من وراء محمد رسول الله، فلا تفرقوا بين أمر الله وأمر رسول الله، ومن يريد أن يصنع مضارة بين الله ورسوله بأن يقول عن الحسنة إنها من عند الله، وأن السيئة من عند محمد، فهذا قول خاسر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2438 ما حكاية هذا القول؟ إنهم إن ذهبوا إلى حرب فغنموا قالوا: «إن الله أسعدنا بالغنائم» . وإن هُزِِموا قالوا: إن محمدا هو الذي أوقع بنا الهزيمة، وكأن لمحمد تصرفاً دون تصرف الله. فإياك أن تُخدع بمن يحاول أن يعزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ربه. إن محمداً قد بعثه الله وأنزل عليه القرآن. وكان رسول الله حين نزلت الدعوة يأمل أن يستجيب له القوم الذين يؤمنون بالله وهم أهل الكتاب. وكانوا أقرب إلى قلبه من القوم الذين لا يؤمنون بالله وهم المشركون، وكان هناك معسكران: معسكر الفرس، ومعسكر الروم، وكان معكسر الفرس يعبد النار - معاذ الله - أما معسكر الروم فهو يؤمن بالله وبالكتب السابقة على رسول الله ولكنه كافر بمحمد. والذي يؤمن بالله كان قريباً إلى قلب محمد ممن كفر بالله، وهذا دليل على أن عصبية محمد قد أتت له من الله. وقد ينصرف المعنى إلى اليهود. فحينما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة كان من المصادفة أن تقل ثمارهم ومزارعهم؛ فقالوا: مزارعنا وثمارنا في نقص منذ قدم هذا الرجل. وهل كان ذلك الأمر مصادفة أو أننا نجد له تعليلاً مادياً؟ فحينما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة أنكروه بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، وسلب مجيئة منهم السلطة الزمنية التي كانت لهم؛ لأنهم كانوا أهل مال، ويتعاملون بالربا ويثيرون العصبية، ويتاجرون من أجل أن تظل لهم السيادة، وهم أهل علم بالكتاب وحاولوا التجارة بكلمات الله. فكانت لهم السيادة من ثلاث جهات: علمياً ومالياً ومنهجياً. وعندما جاء الإسلام ألف بين الأوس والخزرج فبارت أسلحتهم وضاعت منهم السلطة التي صنعوها بالتفرقة، وضاعت منهم سيادة المال؛ لأن الإسلام حرم الربا، وضاعت منهم سيادة المنهج لأن الإسلام كشف تحريفهم للكتاب وأنزل الله كتابا - وهو القرآن - غير قابل للتحريف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2439 وهكذا انتهت وسائل السيطرة، لذلك وقعوا في الحزن وانشغلوا بهذا الهم. وكان الواحد من اليهود لا يسارر الآخر من اليهود ولا يناجيه إلا في أمر محمد. وما دامت هذه المسألة قد شغلتهم إلى هذه الدرجة فلا بد أنها قد شغلتهم عن الزراعة والاهتمام بها. هم انشغلوا عن الأسباب فكانت النتيجة هي ما حدث. ولكنهم حاولوا إلصاق ذلك برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان من الصعب عليهم أن يفهموا الأمر الحادث لهم، وإمّا أن يكون تفسير ذلك هو أن السماء أرادت لهم عقاباً لأنهم حاولوا المكر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك شغل وقتهم عن الأخذ بالأسباب. وإمّا أن يكون ذلك من آفة سماوية فلماذالم يلتفتوا إلى أن دين محمد هو المنقذ لهم مما هم فيه؟ لقد كانوا يستعزون به. لكنهم لم يؤمنوا به (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فنزل بهم أكثر من عقاب. فالذين كانوا يتعاملون مع اليهود بالربا امتنعوا عن ذلك، وكذلك نقصت الزروع والثمار. إذن فالمسألة جاءتهم بنقص من الأموال؛ فقالوا ما قاله الله مما أورده الحق على ألسنتهم: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} . أي كل من الحسنة والسيئة من عند الله وما الحسنة وما السيئة؟ الحسنة هي الظفر والغنيمة والسراء والرخاء والخصب. والسيئة هي الهزيمة والقتل والضراء والبؤس والجدب. هذا ما فهموه، ونحن - المؤمنين - نفهم الحسنة فهماً دقيقاً؛ فالحسنة في الشرع هي ما يأمر به الله، والسيئة هي ما ينهى عنه الله؛ بدليل أن المؤمن قد يصاب في عزيز لديه ثم يقف موقفاً إيمانياً في استقبال هذه المصيبة ويقول: «إن حزني لن يرده فالأفضل أن أكسب به الجنة» . ويزيد على ذلك: «يكفيني عزاءَّ الأجرُ عليه، فأنا لم أكن سآخذ منه طيلة حياته مثل الأجر الذي سآخذه في صبري على مصيبتي فيه» . إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينبهنا بقوله: إياك أن تظن أن الحسنة هي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2440 ما تستطيبه نفسك، أو أن السيئة هي ما تشمئز منها نفسك، لا، فالمصاب في عُرْف الشرع هو من حُرم الثواب. ولذلك جاء القول: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} أي أن الحسنة والسيئة من عند الله. وهل يصنع الله سيئة؟ ونقول: نستغفر الله، فالسيئة في نظر الإنسان والحسنة في نظر الإنسان، وكلها من عند الله، ولكن إذا نسينا الفعل إلى الله فكل ما يصدر عنه حسن، وافتقاد المقاييس الصحيحة هو الذي يتعب. وعندما نحاول أن نحسب مثل تلك الأمور بحساب الكمبيوتر تستقيم لنا النتائج. ومثال ذلك: تلميذ أهمل في المذاكرة، وفي حضور الدرس لذلك فهو يرسب آخر العام، ولكنه ينظر إلى الرسوب على أنه سيئة، ولكنها في عرف الحق عموماً حسنة. وحينما وضع الله قانون أن من لا يستذكر يرسب، فهذا إحياء للحسنة في آلاف غيره، ويكون الراسب نموذجاً واضحاً ووافياً وتطبيقيا، وخاضعاً لسنة الكون. وكذلك الذي لم يزرع أرضه أو تكاسل عن الحرث أو أهمل الري، فهو يأتي يوم الحصاد ولا يُؤْتي ثماراً وهذا أمر سيئ بالنسبة له، أما بالنسبة لقضية الحق الكونية في ذاتها فهي حسنة؛ لأن ذلك يدفع كل واحد إلى عدم إهمال أي سبب من الأسباب؛ فالمصاب بنتيجة عمله يفسر المصيبة على أنها سيئة؛ لأن فيها مساءة وإضراراً به، فالمصاب بنتيجة عمله يفسر المصيبة على أنها سيئة؛ لأن فيها مساءة وإضرارا به، ولكن لو قاس مسها له بما فعله لوجد أن ذلك هو سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. وحين يضع الحق سبحانه وتعالى سنناً في كونه فالذي يأخذ بالأسباب يعطيه، ويحرم سبحانه من لا يأخذ بالأسباب. وعندما نقيس الأمور بهذا المقياس نرى الناجح هو المجدّ، والمتكاسل هو الراسب، والنتيجة كلها من عند الله تقنيناً كونيا. والحق سبحانه وتعالى حينما يعرض أقوال طرف فإن كان مقراً بما فيه يتركه من غير تعليق عليه، وإن كانت قضية باطلة يكر عليها بالحجة ليبطلها ويدحضها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2441 وهذا يلفتنا إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن نلف قضايا الخصوم لفاً بحيث لا نعرفها، ولكنه يعرض قضية الخصوم عرضا ثم يكر عليها بالنقد ليربى - كما قلنا - المناعة الإيمانية، حتى لا تفاجئ قضية كفرية عقيدة إيمانية؛ فسبحانه يعرض قضايا الكفار ويوضح لنا: سيقولون كذا فقولوا لهم كذا. مثال ذلك: عندما قالوا: إن الله اتخذ ولداً قال الحق: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5] . فهو سبحانه يعرض قضايا الخصوم؛ لأن الذي يحاول أن يلف قضية الخصوم يكون مشفقاً منها، لكن من يعرضها ينبه عقل السامع إليها ليبطلها ويقول: «هاي هي ذي نقاط الضعف في هذه القضية» . وحينما قالوا: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} أرادوا بهذا القول أن يصنعوا مضارة بين الله ورسوله، فأوضح الحق سبحانه؛ قل لهم يا محمدُ: «كل من عند الله» ، وتتجلى دقة الحق سبحانه في أنه جعل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكيلاً في البلاغ عنه، وكان من الممكن أن يسوق الحق القضية بدون «قل» . لكنه سبحانه أراد في هذه أن يوسط رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أنه يقول: «قل كل من عند الله» . و «كل» تعني: كُلاً من الحسنة ومن السيئة. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن قضايا الوجود تتسق مع فطرة الإيمان. ولقد وقع خلاف طويل بين العلماء في أفعال العباد، وتساءلوا: هل يفعل العبد أي فعل بنفسه، أو أن الله هو الذي يجري على عباده الأفعال؟ . فإذا كان العبد هو الذي يفعل الفعل فمن العدالة أن يتلقى الثواب أو العذاب جزاء ما قدم. وإذا كان الله هو الذي يجري كل الأفعال فلماذا يعذبه الله؟ . ودخل العلماء في متاهة كبيرة. وهنا نقول: يجب أن تفهم أن الحق حينما خلق الكون جعل فيه سُنناً، ومن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2442 عجيب الأمر أن السُنن تنتظم وتشمل وتضم المؤمن والكافر مما يدل على أنه لا أحد في كون الله أولى بربوبية الله من الآخر، فحتى الذين لا يؤمنون بالله أدخلهم الحق في ربوبيته فأمر الأسباب التي خلقها استجيبي لمن يخدمك وأعطيه المسببات ولا تلتفتي إلى أنه مؤمن أو كافر لأنني أنا الذي خلقته وأوجدته في الكون، وما دمت أنا الذي أوجدته في الكون فلا بد أن أتكفل بكل ما يقيم حياته، وأنا سأعرض منهجي، وأقول لعبادي: أنا أحب هذا الفعل وأنا أكره هذا الفعل فمن يؤمن بي فسيكون له وضعٌ آخر، سيكون عبداً لله. إذن فالله بالألوهيّة مناط التكليف لمن يؤمن به، والرب بالربوبية مناط الخلق والرزق وقيومية الاقتيات للخلق جميعا، لكل العباد؛ فالسنن والنواميس الكونية تخدم الكل، بدليل أن بعض السنن كانت تحب أن تتمرد لأنها عصبية إيمانية لله. عندما ترى الله يعطي بعضاً من عباده وهم غير مؤمنين به. فالسنن والنواميس كجنودٍ لله نجدها متأبية على ابن آدم من عدم شكره لله، لكن الحق يوضح للخلق المسخر: هم خلقي وأنا الذي استدعيتهم للوجود. فصنع الحق نواميس للكون تؤدي مهمتها للمؤمن وللكافر جميعا، ثم أنزل سبحانه تكليفاً بوساطة الرسل. ويوضح: أنا أحب كذا وأكره فالذي يحبني يعمل بتكليفي. إذن فمناط الربوبية غير مناط الألوهية. مناط الربوبية خلق من عَدم وإمداد من عُدم. ومناط الألوهية طاعة، والطاعة تقتضي أمراً ونهياً. فكل ما كان من مدلول الأمر والنهي - الذي هو التكليف - فهذه مطلوبات الألوهية. وكل ما كان من مطلوبات السنن الكونية فهو من مناط الربوبية. والسنن الكونية لا تتخلف أبداً. فمثلا الذي يريد أن ينجح في مادة من المواد في مدرسة ما. . لا بد أن يحصل على خمسين بالمائة من مجموع الدرجات. ومن يريد أن ينجح في مادة أخرى لا بد أن يحصل على أربعين بالمائة. وحين تنطبق هذه الشروط على طالب ما. فهل هذا الطالب هو الذي أنجح نفسه أو أن القانون هو الذي أعطاه النجاح؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2443 إن القانون هو الذي أعطاه النجاح. وصحيح أن القانون لم يقل للطالب وهو يكتب الإجابة: إن مستوى إجابته سيحقق له درجات النجاح، إنّه قد بذل جهداً في التحصيل الدراسي، وحقق له هذا الجهد النجاح في نطاق ما تم تقديره. فالقانون لا ينجح أحداً، ولا يتسبب في رسوب أحد، ولكن الطالب الذي يبذل جهداً ينجح، والطالب الذي لا يبذل جهداً يرسب. وعلى ذلك فكل شيء في الوجود له قانونه. إن اليد المخلوقة لله، لو نظرنا إلى حركتها، لا نعرف كيف تزاول مهمتها. وعندما يرفع أحدنا شيئاً من الأرض لا أحد فينا - غالباً - يعرف العضلات التي تتحرك لتحمل هذا الشيء. فالذي فعل حقيقة هو الله. واليد سواء أفعل الإنسان بها خيراً؛ أم شرّاً، فالفاعل الحقيقي لكل فعل هو الله. وقام الإنسان فقط بتوجيه الطاقة الصالحة للسلام على واحد، أو لصفع واحد آخر، فاليد صالحة للمهتمين. وعندما يوجه الإنسان يده للصفع فهو يأخذ عقاباً، وعندما يوجهها للسلام يأخذ ثواباً. صحيح أن الإنسان ليس له دخل في العمل ذاته ولكن له دخل في توجيه الطاقة الصانعة للعمل؛ فالثواب أو العقوبة ليست للفعل ولكن لتوجيه الطاقة. والسكين - كمثال آخر - يذبح بها الإنسان الدجاجة، أو يطعن بها إنساناً، وهي لا تعصي توجيه الإنسان إن ذبح الدجاجة؛ ولا تعصاه إن طعن إنساناً. والحق قد خلق قانوناً للسكين أن تذبح، والإنسان يقوم بتوجيه الآله التي خلقها الله صالحة لأن تذبح إلى الذبح، سواء أكان الذبح فيما حرم الله، أم فيما أحل، إذن فالله هو الفاعل لكل شيء. وما دام الفعل في نطاق أوامر المكلِّف صاحب السنن فهو الذي يقوم بكل فعل. وعندما تدقق النظر تجد أن كل فعل من عند الله، وليس للإنسان سوى توجيه الطاقة؛ فالشاب الذي يذاكر دروسه، لم يخلق عقله ولا خلق عينيه اللتين يقرأ بهما، ولكن عقله صالح أن يفكر في الأمر الرديء، وعيناه صالحتان لأن ينظر بهما في مجلة هزلية أو ينظر بهما في كتاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2444 إذن فهو ساعة يفعل هذا أو يفعل ذلك هل يفعل ذلك من وراء رَبِّه؟ . لا، إنه لم يفعل شيئاً على الإطلاق سوى توجيه الطاقة التي خلقها الله صالحة لأن تفعل هذا وتفعل ذاك. إذن فثوابك وعقابك يكونان على توجيه الطاقة الفاعلة إلى الأمر الصالح أو الأمر السيء. فعندما يقول ربنا: «كل من عند الله» نقول: هذا حق وصدق؛ فالذي أهمل في زراعة أرضه ولم يسمدها أو لم يروها وأصابه جدب فهذا نتيجة عدم توجيه الطاقة المخلوقة لله في مجالها الصحيح. لكن عندما يمتنع المطر فلا عمل في ذلك للإنسان. فالنواميس الكونية صنعها الله. ومن يأخذ بأسبابها تعطه وإن أصابت الإنسان سيئة في إطار هذه فهي من عند الإنسان؛ لأنه لم يأخذ بالأسباب. وما ينطبق على الفرد ينطبق أيضاً على الجماعة؛ فالذي يلعب الميسر ويأتي له الخراب والدمار، هذا من نفسه؛ لأنه تلقى الأوامر من الحق بألا يمارس تلك الألعاب. وأي أمة اشتكت من ضيق الأرض الزراعية وضيق الرزق فهذا بسبب الأمة نفسها؛ لأن القائمين بالأمر كان عليهم العمل لتنمية الموارد بالنسبة لنمو السكان. والذي يتعبنا ويرهقنا أننا نتحمل غفلة أجيال، فتجمعت المشكلات فوق رءوس جيلٍ واحد. ولو أن كل جيل سبق قام بمسئوليته لكانت مهمة الأجيال الحالية أقل تعباً. فما دامت لدنيا أرض صالحة لأن تنبت كان علينا أن نعدها ونستغل المياه الجوفية في زراعتها. فالمسألة إذن كسل من أجيال سابقة. وما دام هناك مخزون في المياه الجوفية كان يجب أن نعمل العقل لنستنبط أسرار الله في الكون. فليس من الضروري أن ينزل المطر، لأن الحق يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} [الزمر: 21] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2445 وجعل الله للمياه مسارب في الأرض حتى تستطيع البلاد ذات الحرارة الشديدة الوصول إلى المياه الجوفية ولا تتعرض المياه المنتشرة في مسطحات كبيرة للتبخر. لقد أخفى الله جزءاً من المياه في الأرض لصالح الإنسان. وفي البلاد الحارة نجد الملح واضحاً على سطح التربة دليل على أن الحق وضع قانون تقطير المياه العذبة لتكون صالحة للشرب والزراعة. وكلنا يعرف قانون التبخر، فعندما نأتي بكوب من المياه وننشره على مسطح حجرة مساحتها خمسة وعشرون متراً مربعاً فالمياه تتبخر بسرعة. لكن لو تركنا كمية المياه نفسها في كوب الزجاج فلن تنقص إلا قدراً ضئيلاً للغاية. إذا فكلما زاد المسطح كان البخر أسرع. وأراد الحق أن تكون ثلاثة أرباع اليابسة من المياه؛ لأن الماء أصل كل شيء حي. وجعل بعضها من الماء المالح حتى لا تأسن ولا تتغير، وتوجد هذه المياه في مساحة متسعة حتى تتبخر وتنزل مطراً، فما يجري في الوديان يجري، والمتبقي من المياه يصنع له الحق مسارب في الأرض لأنه ماء عذب، حتى يستخدم الإنسان ذكاءه الموهوب له من الله فيستخرج المياه من الأرض، فالحق خلق لنا كل ما يمكن أن يحقق لنا استخراج قوت الحياة. وسبحانه القائل: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 9 - 10] . فإياكم أن تقولوا: إن السكان سيزيدون عن القوت الذي في الأرض، ولكن اعترفوا بخمول القدرات الإبداعية للاستنباط. فبعد أن يقول الله: {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} فلا قول يصدَّق من بعد قول الله. وهب أن موظفاً - ولله المثل الأعلى - جاء في أول الشهر بتموين الشهر كله ووضعه في مخزن البيت، وجاء ظهر اليوم ولم يجد زوجته قد أَعدَّت الغداء، فماذا يحدث؟ إنه يغضب. ولقد وضع ربنا أقواتنا مخزونة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2446 في الأرض، ونحن لا نعمل بالقدر الكافي على استنباط الخير منها. وسبحانه يوضح لنا: إن الإنسان إن لم يستفد بالنواميس التي خلقها الله له، ولم ينفذ التكاليف أمراً ونهياً فلسوف يتعب الإنسان نفسه؛ فتكون معيشته ضنكاً. فسبحانه يقول: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] . هذه القرية كانت تتمتع بالأمن والاطمئنان لكنها كفرت بأنعم الله. والكفر في المعنى العام هو: ألا تشكر النعمة لله. وعندما نمعن النظر بدقة لنرى قانون ربط السبب بالمسببات، وربط السنن الكونية بالكون والمكون والمكون له نجد أشياء عجيبة، فهذه القرية كانت آمنة مطمئنة والرزق يأتيها رغداً من كل مكان. إذن فالقرية هي مكان السكن، وليس مكان السكن فقط هو الذي فيه الرزق بل يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكأن كل مكين في بقعة؛ له بقع خالية في مكين آخر تخدمه. وتلك القرية كفرت بأنعم الله. والكفر في معناه الواضح هو الستر، والقرية التي كفرت بأنعم الله هي التي سترت نعمة الله، فنعمة الله موجودة ولكن البشر الذين في تلك القرية هم الذين ستروا هذ النعمة بالكسل وعدم الاستنباط للنعمة وترك استخراجها من الأرض. أو أن سكان هذه القرية استخرجوا نعمة الله واستنبطوها وستروها عن الخلق، وفساد الكون إنما يأتي من هذين الأمرين: أي أن هناك أمماً متخلفة، كسل سكانها عن توجيه طاقاتهم لاستنباط النعم من الأرض. أو أن هناك أمماً أخرى تملك الثراء والخير وترميه في البحر حتى لا يذهب إلى الأمم المتخلفة. والخراب الذي نلمسه في علاقات العالم ببعضه البعض يقول لنا: إن العالم هو القرية التي ضرب الله بها المثل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2447 {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] . ولنر دقة الأداء القرآني، في قوله: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع} ، ونعلم أن الذي يُذاق هو الطعم. والطعم يكون باللسان وحده: أما اللباس فيعم كل الجسم، والحق هنا يعطي الإذاقة ولا يكون الذائق هو الفم فقط بل كل الجسم، فالفم إنما يتناول لصالح بقية الجسم، وعندما لا تصل مادة الحياة إلى بقية الجسم فكل الجسم يذوق الجوع أيضاً. والكون المخلوق لله مصنوع على نظام دقيق من أجل أن تسير السنن الكونية في مجالاتها التي حددها الله، وعندما تنتظم هذه السنن في حركتها فهي تعطي النتائج للإنسان ولو بعد حين، حتى إن بعض المفسرين والمتكلمين بعمق يقولون: إن الأمراض الوراثية التي تنتقل من أجيال سابقة إلى أجيال لاحقة كان السبب فيها تقصير آباء واجتراءهم على أشياء مخالفة لمنهج السماء، فإذا شرع الله سنة كونية للفرد ثم خالفها تصيبه نتيجتها السيئة من بعد ذلك، وكذلك الأمة والجماعة. لكن المسائل التي يقف فيها العقل فقط هي المصائب التي تصيب الناس بغير عملهم. وكان على الفلسفة أن تبحث هذا المجال، أما الدين فهو يقول لنا أسباب تلك المسائل؛ فالشيء الذي له مقدمات من أسباب تكاسل الإنسان عنها، ثم أصابته كارثة فهذا من فعل الإنسان في نفسه. أما الأشياء التي تأتي قدرية فهذا أمر مختلف. فإذا كان ديننا قد وضع للإنسان أسباباً كونية وحكمة الإنسان الإيمانية قالت له: افعل ذلك حتى يحدث كذا، ولا تفعل ذلك حتى لا يحدث كذا فعلى الإنسان أن يعرف أن الله لم يعطه كل ما يستطيع به استيعاب كل حكمة المكوِّن في الكون، ليلفت سبحانه الإنسان دائما على أن طلاقة القدرة مازالت موجودة، فيحدث شيء من الأشياء يتساءل فيه الإنسان: ما سبب ذلك؟ ولماذا؟ ومثال ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2448 الزلزال أو البركان أو السيل الجارف والريح العاصف، كل هذه الأحداث لا دخل للإنسان فيها، وهي أحداث تقول للإنسان: لو أن المسائل في الكون فيها رتابة أسباب لما ارتبطنا بقوة غيبية خفية نضرع إليها دائماً لنَسْلَم. وجاءت بعض مدارس الفلسفة في ألمانيا - مثلا - وقالت: إن وجود الشر في الكون دليل على أنه لا يوجد إله، فلو كان هناك إله حكيم لما أفلتت منه هذه المسائل، ولما خرج واحد بعين واحدة ولا خرج أعرج ولا مشوه. وقالت مدرسة أخرى في العصر نفسه: لا. إن رتابة النظام في الكون دليل على أنه لا يوجد إله، فلو كان هناك إله لخرق القانون والناموس ولأخرج بعض الأحداث عن هذا الناموس. وهكذا نرى أنهم يريدون الكفر من أجل الكفر بدليل أن مدرسة أخذت النظام في الكون كدليل للكفر، ومدرسة أخرى أخذت الشواذ في الكون كدليل على الكفر. وكُلّ من أقطاب المدرستين إنما يبحث عن سبب للكفر. ونقول لهم: كلاكما غبي؛ الذي يريد منكم النظام سببا لوجود إله حكيم، والذي يريد الشذوذ سبباً لوجود إله قادر، هذان الأمران موجودان في الكون، وكلاهما دليل على وجود الإله الحكيم القادر لو كنتم منصفين. انظر إلى النظام في الكون الأعلى؛ فلو فسدت فيه مسألة صغيرة لانهدم الكون كله. انظروا إلى الشمس والمطر والكواكب والنجوم، إنها خاضعة لنظام محكم. فيا من تريد النظام دليلاً على حكمة مكون، فالنظام موجود، ويا من تريد الشذوذ دليلاً على أن هناك إلهاً يسيطر على ميكانيكية الكون فهذه أمور موجودة. والشذوذ إنما يتأتى من الأفراد، فإن شذ فرد فلن يفسد القضية العامة، فالذي يولد بعين واحدة مبصرة سنجد مئات الملايين امتلكوا البصر كاملاً. لكن عندما يأتي الشذوذ في نظام الكون وحركة الأفلاك فالذي يحدث هو دمار للعالم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2449 فمن أراد أن يرى النظام السائد يدل على الحكمة نقول له: انظر إلى الفلك الأعلى. ومن يريد الشذوذ دليلا على أن هناك قوة تتحكم في ميكانيكية العالم نقول له: هذا موجود، ولكن الشذوذ موجود في الأفراد. فإن شذ فرد فلا يعطب بقية الأفراد. ونعرف - أيضا - أن رتابة النعمة قد تلهي الإنسان عن المنعم. فالإنسان منا يظل لمدة طويلة وأسنانه سليمة فلا يتذكر مسألة أسنانه، لكن إن آلمه ضرس واحد فهو يتذكر أن له ضرساً، وكذلك إن آلمته إحدى عينيه، أو إذا آلمته كُلْيَته فهو يجري إلى الطبيب. وهذه أمور لافتة حتى تُخرج الإنسان من رتابة النعمة عليه ليتذكر المنعم بالنعمة. وعندما نرى إنساناً أكرمه الله بفقدان البصر، فالواحد منا يقول: الحمد لله ويمسك الإنسان منا عينيه مخافة أن تذهبا، وكذلك عندما نرى أبرص أو أعرج، وهذه هي وسائل إيضاح في الكون حتى لا تغفل الناس عن المنعم بالنعمة. فإذا ما نظرنا إلى الأشياء التي تصيب الإنسان فرداً، أو تصيب الأمة كمجموع فنحن نجدها بما قدمت يدها؛ لأنها صنعت شيئاً يخالف التوجيه. فإن كان هناك شيء خارج عن قدرة الإنسان فنحن نقول: هذه هي حكمة المكوِّن حتى يلفتنا إلى أنه المنعم. ولهذا نرى الشواذ في الخلقة قلة ولا كثرة، ويعوض الله من أصيب بشذوذ في شيء بدوام مَلَكَةٍ في شيء آخر. ولذلك يقول الشاعر: عميت جنيناً والذكاء من العمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موئلا وغاب ضياء العين للعقل رافداً ... لعلم إذا ما ضيع الناس حصلا وضربت المثل مرة ببيتهوفن الموسيقار العالمي الذي أطرب العالم بسمفونياته. . إنّه كان أصم. ولذلك نحن نسمع في لغة العامة: كل ذي عاهة جبار. فإذا كان الله قد جعله وسيلة إيضاح ليلفت الناس إلى نعم الله سبحانه عليها فهو يعوضه بموهبة أخرى ويلتفت الناس فيها إلى صاحب العاهة فيرون فضل الله عليه أيضاً. إذن فالمصائب التي تحدث وليس للإنسان دخل فيها هي الملحظ الذي يجب أن نبحثه. وهذه هي مكونات الحكمة كي يلتفت الإنسان دائما إلى أن الكون غير متروك بلا قيادة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2450 إن الله خلق الكون وخلق القانون والنواميس ليدلنا على أنه موجود. ولا تزال يده في الكون. فإذا حدثت حادثة فلا بد أن نلتمس لها حكمة. والحكمة خرق وخروج عن النواميس يلفت إلى أن فوق ميكانيكية العالم وقوانينها قوة أخرى تقول لها: «تعطلي» . ولذلك فمعجزات بعض الرسل من هذا اللون، فطبيعة النار أنها تحرق، ولكنها لم تحرق سيدنا إبراهيم عليه السلام. أكان مراد الحق سبحانه وتعالى أن ينجِّىَ إبراهيم من النار؟ لو كان مراده هو نجاة إبراهيم من النار فحسب لما مَكَّن خصومه من أن يمسكوه. وبعد أن أمسك خصوم سيدنا إبراهيم به، وأشعلوا النار وأججوها. كان باستطاعة الحق سبحانه أن يأتي بغمامة لا قدرة لخصوم إبراهيم عليها وتمطر مطراً تطفئ النار. لا. فقد أراد الله النار ناراً متأججة وأن يقدر خصوم إبراهيم عليه ويمسكوا به ولا تنطفئ النار، وأن يلقوه في النار، وبعد ذلك يوضح الحق: أنا أزاول سلطاني في الناموس؛ لأني خالق الناموس وأعطله متى شئت، «يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم» . أما لو حدثت المسألة الأولى وانطفأت النار، لقالوا: آه لو لم تنطفئ النار، وآه لو لم ينزل الماء على النار. إن الحق أراد أن يدحض كل دعاوي الخصم. فعندما تحدث أحداث لا دخل للإنسان فيها نقول: دعها لحكمة الخالق لأنه يريد أن يلفت الخلق إلى أنه صاحب اليد العليا في الكون. فميكانيكية الكون تحير العقول؛ لأنها مضبوطة بدقة، ولكنها لم تفلت من يد ربنا. ولذلك نرى في بعض الأحيان رياحاً عنيفة تثير الغبار فلا يرى الإنسان شيئاً على الإطلاق. ومعنى ذلك أن الذرات تراكمت وتراكبت حتى صارت جداراً، ويحدث ذلك مهما حاولت الأجهزة العلمية التحكم في ذلك أو منعه. ومن العجيب أن الحق يترك لنا لذعة تقول: لقد كرمتك بالعقل ولكني لم أدع لك كل الفهم، فقد يوجد صاحب غريزة لا عقل له ويكون أقدر على فهم الأشياء منك أيها الإنسان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2451 وعندما يحدث زلزال في منطقة ما، فأول ما يخرج من المكان هي الحمير. وهذا لفت للإنسان حتى لا يقع فريسة للغرور: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] . فإذا ما رأيت حدثا في الكون ولا دخل للإنسان فيه ولا للأمم دخل فيه؛ فلتعلم أن لله فيه حكمة حتى يلفتنا إلى المكون الأعلى؛ وحتى لا يظن أحد أن لميكانيكية الكون رتابة، إنما هي نظام يجريه الله على وفق قدرته وإرادته وحكمته. ولذلك يقولون: إن العقل الإلكتروني لا يخطئ، وهم لا يعرفون أن من الخيبة ألا يخطئ، لأنه كما تملؤه وتمده بالمعلومات سيخرج لك هذه المعلومات. ليس له خيار في شيء. أما العقل البشري فهو قادر على الاستنباط والاستكشاف وعدم ذكر بعض المعلومات التي قد تضر. هذه هي العظمة. ويقول بعضهم - كمثال آخر - إن الورد الصناعي لا يذبل، نقول: إن عيبه أنه لا يذبل لأن الذبول حيوية، وعدم الذبول دليل على أنه لا حياة فيه، وأنّه جمود فقط. وساعة يجري الحق سبحانه وتعالى شيئاً في كونه ولا دخل لأحد فيه فهو يريد أن يلفت الكون إلى بقاء القيومية العليا والقدرة الإلهية في الكون؛ حتى لا تغتر بميكانيكية الكون. ولذلك يعرض القرآن بصيصاً من هذه الأشياء، إذا أخذتها بحكم العقل فهو لا يقبلها، لكن حين يفسرها من أجراها نجدها في منتهى العقل. مثال ذلك: سيدنا موسى عندما ذهب إلى العبد الصالح، ما الذي حدث؟ . قال العبد الصالح: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 67] . ويلتمس العبد الصالح لموسى العذر فيقول له: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2452 {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68] . فيقول سيدنا موسى وهو من أولي العزم من الرسل: {قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} [الكهف: 69] . فيخرق العبد الصالح السفينه. وخرق السفينة في السطحية الفهمية شرّ، وعلى الرغم من أن سيدنا موسى وعد العبد الصالح بعدم عصيان الأمر وأن يكون صابراً، على الرغم من ذلك لم يطق حادثة خرق السفينة، فقال للعبد الصالح: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71] . لقد شك سيدنا موسى في ظاهر الأمر، ولكن عندما يدرك الحكمة يجدها عين الخير. فلو لم يخرق العبد الصالح السفينة لأخذها الملك الظالم الذي يأخذ كل سفينة صالحة وسليمة غصباَ: {أَوَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] . فلو لم يخرقها العبد الصالح لما استرد أصحاب السفينة سفينتهم، وبالخرق للسفينة ستظل لأصحابها؛ لأن بها عطبا يستطيعون إصلاحه بعد ذلك. إذن، كل شيء يجري على غير ما تشتهيه سطحية الفهم البشري فلنعلم أنها ما دامت ليست من أحد، وهي من المكون الأعلى فوراءها حكمة. وهل يوجد أكثر بشاعة من القتل؟ لقد قتل العبد الصالح غلاماً. ما الحكمة في ذلك؟ . إن الواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عين وسندا، وقد يكون هذا الابن سببا في فساد دين أبيه ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم، ومن الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2453 ويقول قائل: وما ذنب الولد؟ نقول: أنت لا تفهم الأمور، لقد ذهبت إلى الحق بدون تجربة في أن يطيع أو يعصي الله، ذهب إلى رحمة الله مباشرة، وهذا أفضل له. وكان في ذلك القتل للولد رحمة لوالديه؛ فالشيء إن حدث للنفس إن كان من مخالفة الإنسان للناموس فيكون الإنسان هو الذي فعل الضر بنفسه. . وكذلك الأمة حين تخالف ناموساً شرعياً أو كونياً. لكن لو كانت الأمور فوق طاقة البشر فلا بد أن لله فيها حكمة. وقصة العبد الصالح ومومسى مليئة بالحكم. فقد ذهب الاثنان إلى قرية واستطعما أهلها أي طلبا من أهلها طعاماً: {حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77] . ولم يطلب أي منهما نقوداً، وذلك حتى لا تثار الظنون السيئة، ولكن طلبا الطعام ليأكلاه. وهو أول الحاجات الضرورية للإنسان. فقالوا لهما: لا لن نعطيكما لأن أهل تلك القرية كانوا لئاماً. ولذلك اتجه العبد الصالح إلى جدار يريد أن ينقض فأقامه، فقال سيدنا موسى للعبد الصالح: لماذا لا تأخذ منهم أجراً؟ وأخيراً يوضح العبد الصالح لسيدنا موسى: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82] . فأهل القرية اللئام الذين طُلِبَ منهم الطعام لم يكونوا قادرين على تحمل أمانة حفظ الكنز للغلامين. فأمر الله العبد الصالح بحجب الكنز عن أهل تلك القرية. إذن، فالمسائل إن جرت على الإنسان بسبب منه فهو الذي فعل الضر بنفسه، أما إذا كان الأمر لا دخل للإنسان فيه فعليه أن يثق بحكمة مَن يجريه وبذلك يستقبل الإنسان كل شيء يصيبه بالراحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2454 إن صاحب الإيمان يلقى الأحداث بقلب قوي. فإن كانت من نفسه فهو يعدل سلوكه، وإن كانت من ربه فهو يثق بحكمة ربه {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} وهذا إيضاح لك حتى تفهم أن أي فعل هو من عند الله. فليس للإنسان في الطاقة أي فاعلية ولكن للإنسان توجيه المخلوق من طاقات وجوارح إلى الطاعة أو إلى المعصية. وما دام كل من عند الله فهو سبحانه يريد لنا أن نتلو العجب من هؤلاء ونقرأه فيقول سبحانه: {فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} كأن منطق العقل والفكر يقودان إلى ضرورة الفهم. وعندما لا يفهمون ذلك فنحن نستعجب من عدم فهمهم. ولا نستعجب من عدم فهمهم إلا إذا كان الأمر المطروح أمامهم أمراً يستوعبه العقل. والحق يقول: {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} وساعة تقول فلان لا يفقه، فهذا معناه أن عقله ممنوع من الفهم. أما عندما نقول: لا يكاد يفقه. فهو يعني: لا يقرب حتى من الفهم. والقول الثاني هو الأكثر بلاغة. ومن بعد ذلك يقول الحق: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2455 فإن جرت عليك سنة كونية خيراً فهو من الله، أما إن أصابتك سيئة فيما لك فيه دخل فهي من نفسك. كأن المسألة قسمان: شيء لك فيه دخل، وشيء لا دخل لك فيه. ولا بد أن تعتبره حسنة لأنه يقيم قضية عقدية في الكون. فالمؤمن بين لوم نفسه على مصيبة بما له فيه دخل، وثقة بحكمة من يجري ما لا دخل له فيه وهو الله - سبحانه - {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2455 سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} . ومن هو الرسول؟ . الرسول مبلغ عمن أرسله إلى من أرسل إليه. وما دام رسولاً مبلغاً عن الله فأي شيء يحدث منه فهو من الله. وعندما يقول الحق: {وكفى بالله شَهِيداً} أي لا يضرك يا محمد أن يقولوا: إن ما أصابهم من سيئة فمن عندك؛ لأنه يكفيك أن يكون الله في صفك؛ لأنهم لا يملكون على ما يقولون جزاء، وربك هو الذي يملك الجزاء وهو يشهد لك بأنك صادق في التبليغ عنه وأنّك لم تحدث منك سيئة كما قالوا: ومن بعد ذلك يقول الحق: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2456 والطاعة للرسول هي طاعة لله، وذلك أمر منطقي؛ لأنه رسول، فمن أطاع الرسول فطاعته طاعة لله؛ لأن الرسول إنما يبلغ عمن أرسله. ولذلك ففي المسائل الذاتية التي كان يفعلها سيدنا رسول الله كبشر وبعد ذلك يطرحها قضية من عنده كبشر، وعندما يثبت عدم صحتها يعطينا رسول الله مثالاً عن أمانته. فعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرَّ بقوم يُلَقّحون، فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا، فمّر بهم، فقال: مَالِنَخْلِكم؟ قالوا: قلت: كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2456 أي في المسائل الخاضعة للتجربة في المعمل والتي لا دخل للسماء فيها. أما الأمور الخاضعة لنواميس الكون فلا يتركها للعباد. ومن العجيب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يتصرف في شيء لم يكن لله فيه حكم مسبق ويعدله له الله بينه وبين نفسه فمحمد هو الذي يبلغنا بهذا التعديل لنشهد - واقعا - أنه صادق في البلاغ عن الله ولو كان على نفسه. وجاءت هذه الآية الكريمة بعد قول الحق سبحانه: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وكفى بالله شَهِيداً} [النساء: 79] . والرسول - كما نعلم - هو من بلغ عن الله شرعه الذي يريد أن يحكم به حركة حياة الخليفة في الأرض وهو الإنسان. وإذا ما نظرنا إلى المادة المأخوذة من الراء والسين واللام وجدنا الحق سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى. {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى} [الحج: 52] . إذن فالرسول قد يكون رسولاً بالمعنى المفهوم لنا، وقد يكون نبياً، كلاهما مرسل من الله. ولكن الفارق أن الرسول يجيء بشرع يؤمر به؛ ويؤمر هو - أيضا - بتبليغه للناس ليعملوا به، ولكن النبي إنما يرسله الله ليؤكد سلوكاً نموذجياً للدين الذين سبقه؛ فهو مرسل كأسوة سلوكية. ولكن الرسول على إطلاقه الاصطلاحي يأتي بمنهج جديد قد يختلف في الفروع عن المنهج الذي سبقه. وكلاهما رسول؛ هذا يجيء بالمنهج والسلوك ويطبقه، والنبي يأتي بالسلوك فقط يطبقه ليكون نموذجاً لمنهج سبقه به رسول. وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل، وجعل خاتم الرسل سيدنا محمدا فمعنى ذلك أن رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ستكون رسالة لا استدراك للسماء عليها، فكيف يعقل أن تكون رسالته موضوعاً لاستدراك البشر عليها؟ فما دام الله قد ختم به الرسالة، وأنزل عليه قوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2457 وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} إذن فلم يعد للسماء استدراك على هذه الرسالة، فكيف يأتي بعد ذلك إنسان معاصر أو غير معاصر ليقول: لا، إننا نريد أن نستدرك كذا أو نقول: الحكم كذا أو هذا الحكم لا يلائم العصر إذا كان الله لم يجعل للسماء استداركاً على الرسالة لأن الله أكملها وأتمها فكيف يسوغ للبشر أن يكونوا مستدركين على الرسالة؟ إن الرسول حين يضاف، يضاف مرة إلى الله، ويضاف مرة إلى المرسل إليهم؛ لأنه واسطة التعلق بين المُرْسِل والمْرسَل إليه، فإن أردت الإضافة بمعنى «مِن» الابتدائية؛ تقول: رسول الله، أي رسول مِن الله. وإن أردت الغاية من الرسالة تقول: رسول إلى الناس أو رسول للناس. إذن فالإضافة تأتي مرة بمعنى «من» وتأتي مرة بمعنى «اللام» ، وتأتي مرة بمعنى «إلى» . وأمر الرسالة ضروري بالنسبة للبشر؛ لأن الإنسان إذا ما استقرى وتتبع الوجود كله بفطرته وبعقله السليم من غير أن يجيء له رسول، فإنه يهتدي بفطرته إلى أن ذلك الكون لا يمكن أن يكون إلا عن مُكَوِّن له قدرة تناسب هذه الصفة المحكمة البديعة. ولا بد أن يكون قيوماً لأنه يمدنا دائماً بالأشياء، لكن أنعرف بالعقل ما تريد هذه القدرة؟ نحن ننتهي فقط إلى أن وراء الكون قوة، هذه القوة لها من القدرة والحكمة والعلم والإرادة وصفات الكمال ما يجعلها تخلق هذا الكون العجيب على تلك الصورة البديعة ذات الهندسة الدقيقة، وهذا الكون له غاية. أيمكن - إذن - للعقل أن يضع اسماً لهذه القوة؟ فكونها قوة يستلزم أن يكون لها قدرة وحكمة، لكنا لا نعرف اسمها، فكان ولا بد أن يجيء رسول، هذا الرسول يعطي للناس جواب ما شغلهم وهو: ما القوة التي خلقت هذا الكون وجعلته بهذه الصنعة العجيبة. ويقف العقل هنا وقفة، فعندما يأتي الرسول ويقول: أنا أدلكم على هذه القوة اسماً ومطلوباً، كان يجب على الخلق أن يرهفوا آذانهم له؛ لأنه سيحل لهم ذلك اللغز الذي رأوه بأنفسهم وأوقعهم في الحيرة - المؤمن منهم والكافر يؤمن بهذا - لأنه يجد نفسه في كون تخدمه فيه أجناس أقوى منه، ولا تتخلف عن خدمته أبداً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2458 وأجناس لا تدخل تحت طاقته ولا تحت قدرته وتصنع له أشياء لا يفهم عقله كيف تعمل، فكان الواجب أن يؤمن. لقد ضربنا مثلاً وقلنا: لو أن إنساناً وقعت به طائرة أو انقطع به طريق في صحراء، وليس معه زاد ولا ماء، وبعد ذلك جلس فغلبه النوم فنام، ثم استيقظ فوجد مائدة منصوبة فيها أطايب الطعام وفيها الشراب السائغ. بالله قولوا لي: ألا يشتغل عقله بالفكر فيمن جاء بالأطعمة قبل أن يتناول منها شيئاً؟ لذلك كان من الواجب قبل أن ننتفع بهذه الأشياء أن نلفت ذهننا: من الذي صنع هذه الصنعة؟! ومع ذلك تركنا الله فترة حتى نفكر، حتى إذا جاء رسول يقول: القوة التي تبحث عنها بعقلك هذه اسمها كذا ومطلوبها منك كذا، وأنت كائن ومخلوق لها أولاً وإليها تعود أخيراً. وخلاصة المسألة أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلق أعد لهم مائدة الكون، وفيها الأجناس التي تخدمه - كما قلنا -: سلسلة الأجناس وخدمتها تجعلك تتعجب وتتساءل: كيف يخدمني الأقوى مني؟ الشمس التي لا تدخل تحت قدرتي، والقمر الذي لا أستطيع أن أتناوله، والريح التي لا أملك السيطرة عليها، والأرض التي لا أستطيع أن أتفاهم معها، كيف تؤدي لي هذه الخدمات؟ . لا بد أن يكون هناك من هو أقوى مني ومنها هو الذي سخرها لخدمتي. وهل رأيت شيئاً من هذه الأشياء امتنع أن يؤدي لك الخدمة أو سخرها لخدمتي. وهل رأيت شيئاً من هذه الأشياء امتنع أن يؤدي لك الخدمة أو نقص منها شيئاً؟ . لم يحدث؛ لأنها مسخرة، فإذا جاء رسول من الله ليحل لنا لغز هذه الحياة ويدلنا على موجدها، كان يجب أن نفتح له آذاننا ونسمعه، فإذا ما قال لي: الذي خلق لك الكون هو الله، والذي خلقك هو الله وهو صانعك، وأرسلني بمنهج لك كي تؤدي مهمتك كما ينبغي فافعل كذا ولا تفعل كذا، وأنت صائر إليه ليحاسبك على ما فعلت، وهذا المنهج هو خلاصة الأديان كلها. ولذلك يكون مجيء الرسول ضرورياً وبعد ذلك يؤيده سبحانه بمعجزة تثبت صدقه، وما دام قد أرسله بالمنهج الذي هو: افعل ولا تفعل، فهذا يعني أن تطيع هذا الرسول، ويقول ربنا في آية أخرى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2459 {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} [النساء: 64] . أي ليست الطاعة ذاتية له، إنما الطاعة صادرة من الله، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتميز عن سائر الرسل؛ لأن معجزته التي تؤيد صدقة في بلاغة عن الله هي عين كتاب منهجه في الأصول، وكل الرسل كانت على غير ذلك. كان الرسول يأتي بمعجزة ويأتي بكتاب منهج، العصا واليد البيضاء كانت لموسى هذه معجزته؛ ولكن منهجه في «التوراة» ، إذن فالمعجزة منفصلة عن المنهج. سيدنا عيسى معجزته - مثلاً -: أنَّه يبرئ الأكمة والأبرص، لكن كتاب منهجه «الإنجيل» ، إلا سيدنا رسول الله فإن معجزته وهي القرآن هي عين منهجه؛ لأن الله أراد للدين الخاتم ألا تنفصل فيه المعجزة من المنهج. إن معجزات الرسل السابقين على رسول الله من رآها يؤمن بها، والذي لم يرها يسمع خبراً عنها، وإن كان واثقاً ممن أخبره يصدقه، وإن لم يكن واثقا - لأنها ليست أمامه - فلا يصدقه، ولولا أن الله أخبرنا بهذه المعجزات في القرآن لكان من الممكن أن نقف فيها. أما معجزته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فباقية بقاء منهجه، ويستطيع كل مسلم أن يقول في آخر عمر الدنيا: محمد رسول الله وتلك معجزته، أما غيره من الرسل فلا يأتي أحد ويقول: فلان رسول الله وتلك معجزته، لأنها حدثت وانتهت، أما القرآن فهو باق بقاء الرسالة والكون. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يأتي بالبلاغ عن الله فالحق يبيّن لنا: أنا أرسلت الرسول ليطاع. والمنطق أن يقول القرآن: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} ؛ لأن الرسول جاء مبلغاً عن الله؛ فالمباشر لنا هو رسول الله، وعرفنا من قبل أنه إذا ما توارد أمر الطاعة من الله مع أمر مع رسوله نطيع الاثنين، وإذا كان الله قد جاء بأمر إجمالي كالزكاة والحج، وجاء الرسول ففصل، فنطيع الله في الأمر الإجمالي ونطيع الرسول في الأمر التفصيلي، وإذا كان الله لم يجيء بحكم لا مجمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2460 ولا مفصل، فقد جاء التشريع من الرسول بالتفويض الذي فوض الله فيه رسوله بقوله: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . فالرسول الوحيد الذي أعطاه الله تفويضاً في التشريع هو محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكل الرسل بلغوا عن الله ولم يبلغ واحد منهم عن نفسه شيئاً إلا سيدنا رسول الله، فقد فوّضه الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} - إذن فللرسول مهمة داخلة في إطار القرآن أيضاً، ومثال ذلك في حياتنا نجد من يقول لموظف: إن الموظف الذي يغيب خمسة عشر يوماً في قانون الدولة يفصلونه، فيأتي موظف ومعه دستور البلاد ليرد ويقول: هذا هو الدستور وقد قرأته فلم أجد فيه هذا القانون، وهذا الكلام الذي تقوله عن فصل الموظف غير دستوري. نقول له: إن الدستور قال في هذه المسألة: وتؤلف هيئة تنظم أعمال العاملين في هذا المجال، إذن فبالتفويض توجد هيئة تضع نظاماً ليطبق على العاملين فتكون هذه من الدستور، فكل بنود قانون العاملين تدخل في التفويض الذي نص عليه في الدستور للهيئات أو للجان التي تضع التشريعات الفرعية، فكذلك إذا قيل لك: هات دليلاً من القرآن على أن صلاة المغرب ثلاث ركعات وأن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع ركعات، وأن العشاء أربع ركعات، هات دليلاً من القرآن على هذه، تقول: دليلي من القرآن: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} ، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كي يضمن سلامة المنهج من هذه التحريفات التي يفترونها يقول: «لا أُلْفِينَّ أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه أمرٌ مما أمرْت به، أو نَهيْتُ عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» . وفي رواية أخرى: عن المقْدَام بن معد يكرب قال: «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2461 ألا هل عسى رجلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عَني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً اسْتَحْلَلْناهُ، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما حرم الله» . أروى هذا الحديث عن الرسول كي تعرفوا غباء القائلين بهذا، ولنقل لهم: قولكم هذا دليل على صدق الرسول، بالله فلو لم يأت واحد بمثل قولكم بأنه لا يوجد إلا القرآن؛ بالله ماذا كنا نقول للمحدثين الذين رووا حديث رسول الله، ولو لم يقولوا هذا لقلنا: النبي قال: يتكئ رجل على أريكته ويتحدث، ولم يتكلم أحد بما يخالف هذا الكلام. إذن فوجود هؤلاء دليل صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وما دام الله قد أرسله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منه إلى خلقه فيكون مع هذه الرسالة الطاعة والطاعة هي: الاستجابة للطلب. وأنواع الطلب كما يقول الذين يشتغلون في البلاغة والنحو كثيرة، فمرة تتمنى شيئاً مستحيلاً مثل قول القائل: ليت الكواكب تدنوا ليّ فأنظمها ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضي لكم كَلِمي والكواكب لن تنزل بطبيعة الحال، أو كقول الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوماً ... فأخبره بما فعل المشيب هذا لون من الطلب يدل على أن الطلب محبوب، لكنه لا يقع وقد يقع، وكذلك الاستفهام طلب شيء لأنك تستفهم عن شيء كقولك لمن تزوره: مَن عندك؟ . وأما أن تطلب شيئا ليفعل فهذا هو الأمر، أو تطلب شيئاً ليجتنب فهذا هو النهي، فتكون الطاعة هي: أن تجيب طالباً إلى ما طلب. والطالب إما أن يطالب بأمر لتفعله وإما بنهي لتجتنبه. وإذا أطلقت الطاعة إطلاقاً عاماً فهي لا تنصرف إلا لطاعة العبد لربه، وبعد ذلك تقول: الولد أطاع أباه، الطالب أطاع أستاذه، العامل أطاع معلمه، فهذه طاعة مضافة إلى مطاع، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2462 لكن إن أطلقت كلمة الطاعة فهي تنصرف إلى طاعة العبد لله، وهذه أسلم أنواع الطاعات، لماذا؟ لأن أمر كل آمر، أو نهي كل ناهٍ؛ قد يشكك فيه أنّه أمرك بكذا ليعود عليه بالفائدة، أو نهاك عن كذا ليعود عليه بالفائدة، لكن إذا كان الذي طلب منك هو في غني عن عملك وعن انتهائك، فهذه مسألة لا يكون فيها شبهة، فالذي يشكك الإنسان في الطاعة هو المخافة أن يكون الطالب قد طلب أمراً يعود عليه بالمنفعة، أو نهي عن أمر يعود على الناهي بالمنفعة أو يدفع عنه مضرّة. لكن إذا كان الطالب له كل صفات الكمال المطلق قبل أن توجد أنت، فوجودك وعملك وعدم عملك لا يعود عليه بشيء، فتكون هذه هي أسلم أنواع الطاعة. عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله. .» . إن المنافقين هم الذين يتعبهم وجود نور لأنهم ألفوا الحياة في ظلام، ويرهقهم وجود عدل؛ لأنهم استمرأوا الحياة في المظالم، لذلك فهم يحاولون أن يتصيدوا شيئاً ليقفوا في أمر هذه الدعوة، فقالوا: أما سمعتم لصاحبكم. إنه قارب الشرك. . يقول: لا تعبدوا إلا الله ومع ذلك يريد أن يجعل من نفسه رباً له حب وله طاعة. وينزل الحق على رسوله قوله: «من يطع الرسول فقد أطاع الله» . إذن فالطاعة هنا ليست ذاتية للرسول؛ لأنها إما بلاغ عن الله في النص الجزئي، وإما بلاغ عن الله في التفويض الكلي، وما دامت بلاغا من الله في التفويض الكلي فيكون الله قد أمنه أن يشرع: «من يطع الرسول فقد أطاع الله» . ما هو مقابل الطاعة؟ . إنه التوليّ والعصيان، ورأينا الناس تنقسم تجاه الرسول إلى قسمين: قسم يطيعه في «افعل ولا تفعل» ، وما لم يرد فيه: «افعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2463 ولا تفعل» ؛ فهو داخل في حكم المباحات؛ إن شئت فعلته وإن شئت لم تفعله؛ فالذين يستجيبون للرسول أي يطيعونه في «افعل ولا تفعل» هم من أقبلوا على المنهج. والذين لا يطيعونه فقد «تولوا» أي أعرضوا وصدّوا. انظروا إلى الحق سبحانه وتعالى كيف يحمي نفسية الرسول فيقول سبحانه: {وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} فالذي يتولى ولا يطيع الرسول، فالحق لم يرسلك يا محمد لترغمهم على الإيمان. وهناك فرق بين «أرسلناك لهم» أو «أرسلناك إليهم» و «أرسلناك عليهم» . ف «أرسلناك لهم» تعني أنك تبلغ فقط، إنما «عليهم» فهي تعني لتحملهم على كذا، أي يجب أن تنتبه يا محمد إنا أرسلناك للناس - لا على الناس - لتبلغهم، فمن شاء فليطع ومن شاء فليعص، فلا تجهد نفسك وتظن أننا أرسلناك عليهم لترغمهم على أن يؤمنوا، فتكلف نفسك أمراً ما كلفك الله به: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [البقرة: 272] . والحق يقول أيضاً: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22] . وفي آية أخرى يقول: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] . «جبار» يعني تجبرهم على أن يطيعوا. فالإجبار يتنافى مع التكليف ويتنافى مع دخول الإيمان طواعية ويتنافى مع الاختيار. {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} والحفيظ هو: الحافظ بمبالغة، تقول مثلاً: هذا حافظ مال فلان، وهذا حفيظ مال الناس جميعاً يعني عنده مبالغة في الحفظ، إذن فالمبالغة جاءت في تكرير الحدث فهو يحفظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2464 لذلك الإنسان ولغيره. والحق يؤكد ذلك لمصلحته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه سبحانه بين لنا شغل رسول الله بأمته، وأنه يحب أن يكونوا جميعا مؤمنين ملتزمين مطيعين، ولذلك يقول الحق: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] . إنهم لا يؤمنون، فيوضح له سبحانه: أرح نفسك، فعليك البلاغ فقط وهكذا يخفف الله مهمة الرسول. ونجد أغلب عتابات الله لرسول الله، لا لأنه خالف، ولكن لأنه حَمْلَ نفسه فوق ما تفرضه عليه الرسالة، مثل من يثيرون قصة ابن أم مكتوم، فيقولون: النبي أخطأ ولذلك قرعه الله ووبخه. نقول لهم: كان الرسول يرغب أن يؤمن به صناديد قريش العتاة الكافرون، وجاءه ابن أم مكتوم مؤمناً ويريد أن يستفهم، وكان من الأسهل أن يتعرض لابن أم مكتوم ولا يتعرض للصناديد الذين يخالفونه! لكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ترك السهل وذهب للصعب، فكأنه سبحانه يتساءل: لماذا أتعبت نفسك. «وما عليك ألا يزكي» أي ما الذي يجعلك تتعب، إذن فهو يلومه لصالحه لا لأنه خالف. فكأن الحق سبحانه وتعالى حينما يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} ، إنما قاله ليخفف عن الرسول. إذن. الحفيظ هو الذي يحافظ على من يبلغه أمر الله وأن يكون سائراً على منهج الله. إن أراد أن ينحرف يعدله، فيوضح سبحانه: أنا لم أرسلك حفيظاً عليهم، أنا أرسلتك لتبلغهم، وهم أحرار يدخلون في التكليف أو لا يدخلون. إذن فالحفيظ هو المهيمن والمسيطر، كما قال في الآيات الأخرى: والمسيطر أو الجبار هو الذي يحملهم على الإيمان. . والكلام في الطاعة المقصودة لله. وأن تنفذ جوارحك ما يأمر به سبحانه فيما تسمعه أذنك وما ينطق به لسانك، وليست الطاعة أن تقول: يا رسول الله نحن طائعون، وبعد ذلك تحاول أن تخدش هذه الطاعة بأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2465 تجعلها طاعة لسان وليست طاعة جوارح. فطاعة اللسان دون الجوارح غير محسوبة من الإيمان. ولهذا يقول الحق بعد ذلك: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2466 هنا يوضح الحق لرسوله: ستتعرض لطائفة من أمة الدعوة وهم الذين أمرك الله أن تدعوهم إلى الدخول في الإسلام، - أما أمة الإجابة فهم الذين استجابوا لله وللرسول وآمنوا فعلا - إن هؤلاء يقولون لك حين تأمرهم بشيء أو تطلب منهم شيئاً أمراً أو نهياً: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} يعني: أمرنا وشأننا طاعة، أي أمرك مطاع، {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ} ، ويقال: برز أي خرج للبَرَاز، والبَرَاز هي: الأرض الفضاء الواسعة، ولذلك يقول المقاتل لمن يتحداه: ابرز لي، أي اخرج من الكن أو الحصن، وكان العرب سابقاً لا يقضون حاجتهم في بيوتهم، فإذا أرادوا قضاء حاجتهم ذهبوا إلى الغائط البعيد، وجاء من هذه الكلمة لفظ يؤدي قضاء الحاجة في الخلاء. {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ} أي خرجوا، فهم يديرون أمر الطاعة التي أمروا بها في رءوسهم فيجدونها شاقة، فيبيتون أن يخالفوا، ونعرف أن كلمة «بَيْت» تعني المأوى الذي يؤوي الإنسان. وأحسن أوقات الإيواء هو الليل، فسموا البيت الذي نسكنه «مبيتاً» لأننا نبيت عادة في البيت المقام في مكان والمكون من حجرات؛ والمستور، ويقولون: هذا الأمر بُيِّت بليل، أي دبروه في الليل، وهل المراد ألا يبيتوا في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2466 النهار؟ لا، لكن الشائع أن يبيتوا في ليل. يفعلون ذلك وهم بعيدون عن الأعين، فيدبرون جيداً؛ وإن كان المقصود هو التبييت في ظلام فهذا المعنى يصلح أيضاً، وإن كان سراً فالمعنى يصح أيضا. إذن فالأصل في التبييت إنما يكون في البيت. والأصل أن تكون البيتوتة ليلا، ومدار المادة كلها الاستخفاء، فإذا بُيت في ظلام نقول: إنه بُيت بليل، وإذا بُيِّتَ سراً نقول: بُيِّتَ بليل أيضاً. {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ} يعني قالت طائفة: أمرنا وشأننا طاعة لما تقول: أو أطعناك طاعة ولكنهم يبيتون غير ما تقول فهم إذن على معصية. {والله يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} وسبحانه يكتب نتيجة علمه، وجاء بكلمة «يكتب» حتى يعلموا أن أفعالهم مسجلة عليهم بحيث يستطيعون عند عرض كتابهم عليهم أن يقرأوا ما كتب فيه، فلو لم يكن مكتوباً فقد يقولون: لا لم يحدث، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحذر من هذه الطائفة، لأنها ستثبط أمر الدعوة، لذلك يوضح الحق: إنك لن تُنصَرَ بمن أرسلت إليهم وإنما تنصر بمن أرسلك، فإياك أن ينال ذلك من عزيمتك أو يثبطها نحو الدعوة. فإذا حدث من طائفة منهم هذا ف «أعرض عنهم» أي لا تخاطبهم في أمر من هذه الأمور ودعهم ودع الانتقام لي؛ لأنني سأنصرك على الرغم من مخالفتهم لك، واتجه إلى أمر الله الذي أرسلك. ونعلم أن المصلحة في كل الرسالات إنما تكون عند من أرسل، ولكن المرسل إليه قد تتعبه الدعوة الجديدة؛ لأنها ستخرجه عن هوى نفسه، ومستلزمات طيشه، فالذي أرسلك يا محمد هو الضامن لك في أن تنجح دعوتك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2467 {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً} لماذا؟ لأن الذين يؤمنون بك محدودو القدرة، ومحدودو الحيلة، ومحدودو العدة، ولكن الذي أرسلك يستطيع أن يجعل من عدد خصومك ومن عُدَّة خصومك جنوداً لك، وينصرك من حيث لا تحتسب. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى بدأ قضية الإسلام وكان المؤمنون بها قلة، فلو جعلهم كثرة لقالوا: كثرة لو اجتمعت على ظلم لنجحت، ولكن عندما تكون قلة وتنجح، فهذا فأل طيب ويشير على أنك لست منصوراً بهؤلاء وإنما أنت منصور بمدد الله. ويقول الحق بعد ذلك: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ ... .} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2468 وإذا سمعت كلمة «أفلا» فأعلم أن الأسلوب يقرّع من لا يستعمل المادة التي بعده. {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} أي كان الواجب عليهم أن يتدبروا القرآن، فهناك شيء اسمه «التدبر» ، وشيء اسمه «التفكر» ، ثالث اسمه «التذكر» ، ورابع اسمه «العلم» ، وخامس اسمه «التعقل» ، ووردت كل هذه الأساليب في القرآن، «أفلا يعلمون» ، «أفلا يعقلون» ، «أفلا يتذكرون» ، «أفلا تتكفرون» . هي إذن تدبر، تفكر، تذكر، وتعقل، وعلم. وحين يأتي مخاطبك ليطلب منك أن تستحضر كلمة «تدبر» ؛ فمعنى هذا أنه واثق من أنك لو أعملت عقلك إعمالاً قوياً لوصلت إلى الحقيقة المطلوبة، لكن الذي يريد أن يغشك لا ينبه فيك وسائل التفتيش، مثل التاجر الذي تدخل عنده لتشتري قماشاً، فيعرض قماشه، ويريد أن يثبت لك أنه قماش طبيعي وقوي وليس صناعياً، فيبله لك ويحاول أن يمزقه فلا يتمزق، إنه ينبه فيك الحواس الناقدة، فإذا نبه فيك الحواس الناقدة فمعنى ذلك: أنه واثق من أن إعمال الحواس الناقدة في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2468 صالح ما ادعاه، ولو كان قماشه ليس في صالح ما ادعاه لحاول خداعك، لكنه يقول لك: انظر جيداً وجرب. والحق يقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} والتدبر هو كل أمر يُعرض على العقل له فيه عمل فتفكر فيه لتنظر في دليل صدقه، هذه أول مرحلة، فإذا ما علمت دليل صدقة فأنظر النتيجة التي تعود عليك لو لم تعملها؛ و «تتدبر» تعني أن تنظر إلى أدبار الأشياء وأعقابها، فالرسول يبلغك: الإله واحد، إبحث في الأدلة بفكرك، فإذا ما انتهيت إليها آمنت بأن هناك إلهاً واحداً. وإياك أن تقول إنها مسألة رفاهية أو سفسطة؛ لأنك عندما تنظر العاقبة ماذا ستكون لو لم تؤمن بالإله الواحد. سيكون جزاؤك النار. إذن فتدبرت تعني: نظرت في أدبار الأشياء وحاولت أن ترى العواقب التي تحدث منها، وهذه مرحلة بعد التفكر. فالتفكر مطلوب أن تتذكر ما عرفته من قبل إن طرأ عليك نسيان. فالتفكر يأتي أولاً وبعد ذلك يأتي التدبر. وأنت تقول - مثلاً - لابنك: لكي يكون مستقبلك عاليا وتكون مهندسا أو طبيبا عليك أن تذاكر وتجتهد، فيفكر الولد في أن يكون ذا مكانة مثل المتفوقين في المهن المختلفة في المجتمع، ويبذل الجهد. إذن فأول مرحلة هي: التفكر، والثانية هي: التدبر، فإذا غفلت نقول لك: تذكر ما فكرت فيه وانتهيت إليه وتدبر العاقبة، هذه كلها عمليات عقلية: فالتفكير يبدأ بالعقل، والعقل ينظر أيضاً في العاقبة ثم تعمل الحافظة لتذكرك بما فات وبما كان في بؤرة الشعور ثم انتقل إلى حاشية الشعور، فإذا كنت قد تعقلت الأمر لذاتك يقال: عقلته. فإن فهمت ما عقله غيرك فقد علمت ما عقله فلان. إذن فليس ضروريا أن تكون قد انتهيت إلى العلم بعقلك، بل أنت أخذت حصيلة تعقل غيرك، ولذلك عندما ينفي ربنا عن واحد العلم فإنه قد نفي عنه التعقل من باب أولى؛ ذلك أن العلم يعني قدرته على تعقل قدرات غيره، دون الوصول إلى قوانينها وقواعدها وأصولها، إنه فحسب يعلم كيف يستفيد وينتفع بها، وفي حياتنا اليومية نجد أن الأمي ينتفع بالتليفزيون وينتفع بالكهرباء، أي انتفع بعلم غيره. لكنه لا يتعقل قدرات ذلك العَالِم. إذن فدائرة العلم أوسع؛ لأنك تعرف بعقلك أنت. أما في دائرة العلم فإنك تعلم وتفهم ما عقله سواك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2469 ولذلك فعندما يأتي ربنا ليعرض هذه القضية يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] . وفي المعنى نفسه يأتي في آية أخرى عندما يقول لهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] . في الآية الأولى قال سبحانه: «لا يعقلون» لأنهم قالوا: «بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا» بدون طرد لغيره، وفي الثانية قالوا: «حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا» بإصرار على رفض غيره والخضوع لسواه، فقال: «لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون» ، وسبحانه هنا نفي عن آبائهم العلم الذي هو أوسع من نفي التعقل؛ لأن نفي التعقل يعني نفي القدرة على الاستنباط. لكنه لا ينفي أن ينتفع الإنسان بما استنبطه غيره. {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} . . والحق سبحانه وتعالى حينما يحث المستمعين للاستماع إلى كلامه وخاصة المخالفين لمنهجه أن يتدبروا القرآن، معناه أنه يحب منهم أن يُعملوا عقولهم فيما يسمعون؛ لأن الحق يعلم أنهم لو أعملوا عقولهم فيما يسمعون لانتهوا إلى قضية الحق بدون جدال، ولكن الذي يجعلهم في مواقف يعلنون الطاعة {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ} ، إن هذا دليل على أنهم لم يتدبروا القرآن، وقوله الحق: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ} تأتي بعد تلك الآية، كأنها جاءت ودليلها يسبقها، فهم لو تدبروا القرآن لعلموا أن الرسول صادق في البلاغ عن الله وأن هذا كلام حق. وبالله حين يبيتون في نفوسهم أو يبيتون بليل غير الذي قالوه لرسول الله، فمن الذي قال لرسول الله: إنهم بيتوا هذا؟! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2470 إذن فلو تدبروا مثل هذه لعلموا أن الذي أخبر رسول الله بسرائرهم وتبييتهم ومكرهم إنما هو الله، إذن فرسول الله صادق في التبليغ عن الله، وما دام رسول الله صادقا في التبليغ عن الله، فتعود للآية الأولى {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} ، وكل الآيات يخدم بعضها بعضاً، فالقرآن حين نزل باللسان العربي شاء الله ألا يجعل كل مستمع له من العرب يؤمن به أولا؛ لأنهم لو آمنوا به جميعا أولاً لقالوا: إيمانهم بالقرآن جعلهم يتغاضون عن تحدي القرآن لهم. لكن يظل قوم من المواجهين بالقرآن على كفرهم، والكافر في حاجة إلى أن يُعَارِض ويُعارَض. فإذا ما وجد القرآن قد تحداه أن يأتي بمثله، وتحداه مرة أن يأتي بعشر سور من مثله، وتحداه بأن يأتي بأقصر سورة من مثله، هذا هو التحدي للكافر. . ألا يهيج فيه هذا التحدي غريزة العناد؟ ولم يقل منهم أحد كلمة، فما معنى ذلك؟ معناه: أنهم مقتنعون بأنه لا يمكن أن يصلوا لذلك واستمروا على كفرهم وكانوا يجترئون ويقولون ما يقولون. ومع ذلك فالقرآن يمر عليهم ولا يجدون فيه استدراكاً. كان من الممكن أن يقولوا: إن محمدا يقول القرآن معجز وبليغ وقد أخطأ في كذا وكذا. ولو كانوا مؤمنين لأخفوا ذلك، لكنهم كافرون والكافر يهمه أن يشيع أي خطأ عن القرآن، وبعد ذلك يأتي قوم ليست لهم ملكة العربية ولا فصاحة العربية، ليقولوا إن القرآن فيه مخالفات {فكيف يتأتى لهم ذلك وليس عندهم ملكة العربية، ولغتهم لغة مصنوعة، وليس لهم ملكة فصاحة، فكيف يقولون: إن القرآن فيه مخالفات؟ لقد كان العرب الكافرون أولى بذلك، فقد كانت عندهم ملكة وفصاحة وكانوا معاصرين لنزول القرآن، وهم كافرون بما جاء به محمد ولم يقولوا: إن في القرآن اختلافاً} ! هذا دليل على أن المستشرقين الذين ادعوا ذلك يعانون من نقص في اللغة. ونقول لهم: لقد تعرض القرآن لأشياء ليُثبت فصاحته وبلاغته عند القوم الذين نزل لهم أولا. فمنهم من سيحملون منهج الدعوة، ثم حمل القرآن معجزات أخرى لغير الأمم العربية، فمعجزة القرآن ليست فصاحة فقط، وإلا لقال واحد: هو أعجز العرب، فما شأن العجم والرومان؟ ونقول له: أكل الإعجاز كان في أسلوبه؟ لا، الإعجاز في أشياء تتفق فيها جميع الألسنة في الدنيا؛ لأنه يأتي ليثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشهادة خصومه لم يبارح الجزيرة إلا في رحلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2471 التجارة للشام، ولم يثبت أنه جلس إلى معلم، وكلهم يعرف هذا، حتى الغلطة التي أخطأوا فيها، جاء ربنا بها ضدهم فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103] . يقصدون ب «بشر» هذا غلاماً كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه، أو غلاما آخر روميّاً أو سلمان الفارسي، فأوضح الحق: تعقلوا جيدا، فمحمد لم يجلس إلى معلم، ولم يذهب في رحلات. وبعد ذلك جاء القرآن تحدياً لا بالمنطق ولا باللغة ولا بالفصاحة ولا بالبيان فحسب، بل بالأمر الشامل لكل العقول وهو كتاب الكون. ووقائعه وأحداثه التي يشترك فيه كل الناس. والكون - كما نعرف - له حجب، فالأمر الماضي حجابه الزمن الماضي والذي كان يعيش أيامه يعرفه، والذي لم يكن في أيامه لا يعرفه، إذن فأحداث الماضي حجبها الزمن الماضي، وأحداث المستقبل حجزها المستقبل؛ لأنها لم تقع بعد. والحاضر أمامنا، فيجعل له حاجزاً هو المكان، فيأتي القرآن في أساليبه يخرق كل هذه الحجب، ثم يتحدى على سبيل المثال ويقول: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} [القصص: 44] . وسبحانه يقول: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 45] . وسبحانه يقول: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2472 وكل «ما كنت في القرآن تأتي بأخبار عن أشياء حدثت في الماضي. بالله لو كانوا يعلمون أنه علم أو جلس إلى معلم، أكانوا يسكتون؟ طبعا لا، لأن هناك كفاراً أرادوا أي ثغرة لينفذوا منها، وبعد ذلك يأتي القرآن لحجاب الزمن المستقبل ويخرقه، يحدث ذلك والمسلمون لا يقدرون أن يحموا أنفسهم فيقول الحق: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] . حتى أن عمر بن الخطاب يقول: أي جمع هذا؟ وينزل القرآن بآيات تتلى وتسجل وتحفظ. . وتأتي غزوة» بدر «ويهزم الجمع فعلاً. وتنزل آية أخرى في الوليد ابن المغيرة الجبار المفتري: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] . ويتساءل بعضهم: هل نحن قادرون أن نصل إليه؟ وبعد ذلك تأتي غزوة» بدر «فينظرون أنفه فيجدون السيف قد خرطه وترك سمة وعلامة عليه، فمن الذي خرق حجاب الزمن المستقبل؟ إنه الله. وليس محمداً، فإذا تدبرتم المسائل حق التدبر لعلمتم أن محمداً ما هو إلا مبلغ للقرآن، وأن الذي قال القرآن هو الإله الذي ليس عنده ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل، بل كل الزمن له، ويأتي القرآن فيقول: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] . هم قالوا في أنفسهم ولم يسمع لهم أحد، ثم ينزل القرآن فيخبر بما قالوه في أنفسهم. . فماذا يقولون إذن؟ وهم لو تدبروا القرآن لعلموا أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي أخبر رسول الله بما قالوا في أنفسهم. . فهذه الآية {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} جاءت بعد {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ} ، إذن فقد فُضحوا، فلو كانوا يتدبرون لعلموا أن الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق هو الذي أخبره بما بيتوا، والذين لا يفهمون اللغة يطيرون فرحاً باختلاف توهموا أنه موجود بالقرآن، يقولون: إن الحدث الواحد المنسوب إلى فاعل واحد لا ينفي مرة ويثبت مرة أخرى، فإن نفيته لا ثتبته، وإن أثبته لا تنفه، لكن القرآن فيه هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2473 وهييء لهم ذلك في قول الحق: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] . و «ما رميت» هو نَفَي «الرمي» ، و «إذ رميت» أَثْبت «الرمي» وجاء القرآن بالفعل وهو «رميت» ، والفاعل هو «رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فكيف يثبت الفعل مرة وينفيه مرة في آية واحدة؟ ونقول لهم: لأنكم ليس عندكم ملكة العربية قلتم هذا الكلام، أما من عنده ملكة العربية وهي أصيلة وسليقة وطبيعة وسجية فيه، فقد سمع الآية ولم يقل مثل هذا الكلام، مما يدل على أنه فهم مؤداها. ثم لماذا نبتعد ونقول من أيام الجاهلية، لنأخذ من حياتنا اليومية مثلاً، أنت إذا ما جئت مثلاً لولدك وقلت له: ذاكر لأن الامتحان قد قرب، وأنا جالس معك لأرى هل ستذاكر أو لا. فيأخذ الولد كتابه ويجلس إلى مكتبه وبعد ذلك يفتح الكتاب ويقلب الأوراق ويهز رأسه. وبعد مدة تقول له: تعال انظر ماذا ذاكرت. فتمسك الكتاب وتسأله سؤالين فيما ذاكر. . فلا يجيب، فتقول له: ذاكرت وما ذاكرت. أي أنك فعلت شكلية المذاكرة، ولا حصيلة لك في موضوع المذاكرة. قولك: «ذاكرت» هو إثبات للفعل، وقولك: «وما ذاكرت» هو نفي للفعل. فإذا جاء فعل من فاعل واحد مثبت مرة ومنفي مرة من كلام البليغ. فاعلم أن جهة الإثبات غير جهة النفي. وقوله الحق: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} فكأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما جاء إلى المعركة أخذ حفنة من الحصى، وجاء ورمي بها جيش العدو. إذن فالعملية الشكلية قام بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن أَلِرَسول الله قدرة أن يُرسل الحصى إلى كل جيش العدو؟ إن هذه ليست في طاقته، فقول الحق: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} . أنت أخذت شكلية الرمي، أما موضوعية الرمي فهي لله سبحانه وتعالى. ويأتي مثلاً في آية أخرى يقول: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2474 وهذا نفي. ثم يقول بعدها مباشرة: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا} [الروم: 7] . وتتساءلون أيقول: «لا يعلمون» . . ثم يقول: «يعلمون» بعدها مباشرة؟ نعم فهم لا يعلمون العلم المفيد، وقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا} أنهم لا يعلمون بواطن الأمور ولا عواقبها. فإذا جاء فعل فثبت مرة ونفي مرة أخرى فلا بد أن الجهة منفكة. مثال ذلك هو قول الحق: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39] . ثم يقول القرآن في موقع آخر: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] . ومعناها أنهم سيُسألون. ونقول: اجعلوا عندكم ملكة العربية، ألا يسأل الأستاذ تلميذه. إذن فالسؤال قد يقع من العالم ليُعْلم ما عند المسئول ويُقِرُّ به، وليس ليَعْلَم العالم ما عند المسئول، وعندما يقول ربنا: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} . . فإياكم أن يذهب ظنكم إلى أن الله يسأل لأنه لا يعلم، وإنما يسأل ليقرركم لتكون حجة الإقرار أقوى من حجة الاختبار. إذن فإن رأيت شيئاً نفي، وأثبت في مرة أخرى فاعلم أن الجهة منفكة. وحينما نتكلم عن إعجاز القرآن نجده يقول: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] . وجاء في الآية الثانية وقال ربنا: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2475 قد يقول من لا يملك ملكة اللغة: فأيهما بليغة؟ إن كانت الأولى فالثانية ليست بليغة، وإن كانت الثانية فالأولى ليست بليغة. نقول له: أنت أخذت عجز كل آية فقط. وعليك أن تأخذ عجز كل آية مع صدرها. صحيح أن عجز الآية مختلف؛ لأنه يقول في الأولى: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وفي الثانية يقول: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} . ولكن هل صدر الآية متحد؟ لا، فصدر كل آية مختلف؛ لأنه قال: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . فكأن الإملاق موجود. . حاصل؛ لذلك شغل المخاطب برزقه قبل أن يشغل برزق ولده. . ويخاف أن يأتي له الولد فلا يجد ما يطعمه. لأنه هو نفسه فقير. فيطمئنه الله على رزقه أولا ثم بعد ذلك يطمئنه على رزق من سيأتي: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . . لكن في الآية الثانية لم يقل ذلك. . بل قال {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} كأنه يخاف أن يفقد ماله ويصير فقيراً عندما يأتي الولد، وما دام قد قال: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فهذا يعني أن الإملاق غير موجود، ولكنه يخاف الإملاق إن جاء الولد، يخاف أن يأتيه الولد فيأتيه الفقر معه، فأوضح الحق له: لا تخف فسيأتي الولد برزقه. . {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} إذن إن نظرت إلى الآية عجزها مع صدرها. . تجد العلاقة مكتملة، ويحاول بعضهم أن يجد منفذاً للطعن في بلاغة القرآن فيتساءل لماذا يقول الحق في آية في القرآن: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] . وفي سورة ثانية يقول: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] . ونقول لهم: أنتم لم تفهموا الآيات على حقيقتها. ففي الآية الأولى يقول: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} أي في المصائب التي لا غريم لك فيها. وما دام ليس لك غريم فيها. . فماذا تفعل؟ لكن إذا كان لك غريم وخصم فقد تتحرك نفسك بأن تنتقم منه. ولذلك فانتبه لقوله الحق: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} يناسب الموقف الذي لا يوجد فيه غريم، وفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2476 الآية الثانية: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} فالآية تناسب الموقف الذي فيه غريم لأنك ستصبر على المصيبة وعلى من عملها من غريم؛ لأنك كلما رأيته تهيج نفسك وهذا يحتاج لتأكيد الصبر بقوة، وتلك هي كلمات المستشرقين الذين يريدون الطعن في القرآن ويقولون لنا: أنتم تنظرون للقرآن بقداسة لكنكم لو نظرتم إليه بتفحص لوجدتم أن فيه اختلافات كثيرة، نقول لهم: قولوا لنا المخالفات، ونحن رددنا على هذا في ثنايا خواطرنا عن القرآن، ومنهم من يقول لك مثلاً: القرآن عندما تعرض لقضية خلق السماوات والأرض جاءت كل الآيات لتؤكد أن الله سبحانه خلقها في ستة أيام. . لكنهم يقولون عندما نذهب إلى آيات التفصيل في قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} [فصلت: 9 - 12] . نجدها ثمانية أيام فقالوا: هذا خلاف. نقول لهم: أنتم لم تفهموا. فسبحانه حين قال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض} ، فهل تكلم عما تستقيم به الحياة على الأرض؟ إنه عندما تكلم عن الأرض يقول: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} ، فهذه تكون تتمة الأرض لأنه يتكلم عن الأرض. . {وَجَعَلَ فِيهَا} أي الأرض. . {رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} . . وكل ذلك في الأرض. . إذن فالمرحلة الثانية مرحلة تتمة خلق الأرض فسبحانه خلق الأرض كجرم أولاً، وبعد ذلك جعل فيها الرواسي وجعل فيها الأقوات وبارك فيها. في كم يوما؟ في أربعة أيام فكأن اليومين الأولين دخلا في الأربعة، لأن هذه تتمة خلق الأرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2477 ولله المثل الأعلى، مثلما تقول: سرت من هنا إلى الإسماعيلية في ساعة، وإلى بورسعيد في ساعتين، فقولك: إلى بورسعيد في ساعتين، يعني أن الساعة الأولى تم حسابها، إذن فهؤلاء المستشرقون لم يفهموا معطيات القرآن؛ لذلك يقول سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} فإن وجدت شيئا ظاهريا يثير تساؤلا في القرآن فأعمل عقلك، وأعمل فكرك كي تعرف أن التناقض في فهمك أنت وليس التناقض في القرآن؛ لأنه مِنْ عند مَن إذا قص واقعا قصه على حقيقته، وعند مَن لا يغيب شيء عنه، لا حجاب الزمن الماضي، ولا حجاب الزمن المستقبل، ولا حجاب المكان، ولا حجاب المكين {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} ، فالقرآن كتاب كبير به أربع عشرة ومائة سورة، بالله هاتوا أي أديب من الأدباء كي يكتب هذا، ثم انظروا في فصاحته، إنّكم ستجدونه قويا في ناحية وضعيفا في ناحية أخرى، وبعد ذلك قد تجدونه أخل بالمعنى، وقال كلمتين هنا ثم جاء بما يناقضهما بعد ذلك! مثلما فعل أبو العلاء المعري عندما قال: تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك وكان أيام قوله هذا: ينكر البعث. وعندما رجع إلى صوابه بعد ذلك قال: زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجساد قلت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صحّ قولي فالخَسار عليكما إذن فالتناقض يأتي مع صاحب الأغيار الذي كان له رأي أولاً ثم عدلته التجربة أو الواقع إلى رأي آخر. لكن ربنا سبحانه وتعالى لا يتغير ومعلومه لا يتغير فهو الحق، إذن فالتناقض يأتي إما من واحد يكذب؛ لأن الواقع لم يحكمه، وإما من واحد هو في ذاته متغير، فرأى رأياً ثم عدل عنه، فيكون متغيراً. لكن الحق سبحانه وتعالى لا يتغير. . ويقول على الواقع الحق: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} . والواقع أيضاً أننا نجد كل قضية قرآنية تعرض كنص من نصوص القرآن أنزله الله على رسوله. . هذه القضية القرآنية في كون له تغيرات، والتغيرات بعضها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2478 يكون من مؤمن بالقرآن، وبعضها يكون من غير مؤمن بالقرآن، فهل رأيت قضية قرآنية ثم جاءت قضية الكون حتى من غير المؤمنين فكذبتها؟ . لا، هم في الغرب مثلاً بعد الحرب العالمية الأولى اخترعوا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ. . وكانت تلك أول مرحلة في تفتيت الذرة، ونجد القرآن يضرب المثل بالذرة، وأنها أصغر شيء في قوله سبحانه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] . وضع العلماء أيديهم على قلوبهم لأن الذرة قد تفتت. فوجد ما هو أصغر من الذرة!! ووجدنا من قرأ القرآن. . وقال: إن القرآن نزل في عصر كان أصغر شيء فيه «الذرة» عند العربي القديم، والله يعلم أزلا أن العلم سيطمح ويرتقي ويفتت الذرة، فقال: {عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3] . لقد تدبر صاحب هذا القول القرآن وفهم عن الله الذي تتساوى عنده الأزمنة، فالمستقبل مثل الماضي، ليس عنده علم مستقبل وعلم حاضر وعلم ماضٍ، وأوضح لنا: أن هناك ما هو أصغر من الذرة. فلو فتتوا المفتت منها لوجدنا في القرآن له رصيداً. تعالوا للقضايا الاجتماعية مثلاً. تجدوا أي قضية قرآنية يجتمع لها خصوم القرآن ليجدوا مطعناً، فنجد من لم يفهموا من المسلمين يجرون وراءهم ويقولون: هذه الأمور لم تعد ملائمة للعصر، ثم نجد أعداء الإسلام يواجَهُون بظروف لا يجدون حلاً لمشكلاتهم إلا ما جاء في القرآن. {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2479 ومثال آخر: بعض الناس يقولون: هناك اختلاف في القراءات. . مثل قوله تعالى: {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] . ويقول: هناك من يقرؤها «مالك يَوْمِ الدين» . . لكن هناك ما يُسمى «تربيب الفائدة» لأن كلمة «مالك» وكلمة «مَلِك» معناهما واحد، والقرآن كيف يكون من عند غير الله؟ {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ} - أي القرآن - «من عند غير الله» أغير الله كان يأتي بقرآن؟ {لا. إنما القرآن لا يأتي إلا من الله سبحانه وتعالى، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} . إن قوله سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} تكريم للإنسان، فكأن الإنسان قد خلقه الله ليستقبل الأشياء بفكر لو استعمله استعمالاً حقيقياً لانتهى إلى مطلوبات الحق، وهذه شهادة للإنسان، فكأن الإنسان مزود بآلة فكرية. . هذه الآلة الفكرية لو استعملها لوصل إلى حقائق الأشياء، ولاحق لا يريد منا إلا أن نعمل هذه الآلة: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} فالقرآن كلام الله، وكلام الله صفته، وصفة الكامل كاملة، والاختلاف يناقض الكمال. فمعنى الاختلاف أنك تجد آية تختلف مع آية أخرى، فكأن الذي قال هذه نسي أنه قالها} ! وبعد ذلك جاء بأمر يناقضها، ولو كان عنده كمال لعرف ما قال أولاً كي لا يخالفه ثانياً. إذن فلا تضارب ولا اختلاف في القرآن؛ لأنه من عند الله. وبعد ذلك يقول الحق: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2480 الحق سبحانه وتعالى يربي الأمة الإيمانية على أسلوب يضمن ويؤمّن لهم سرّية حركتهم خاصة أنهم قوم مقبلون على صراع عنيف ولهم خصوم أشداء، فيربيهم على أن يعالجوا أمورهم بالحكمة لمواجهة الجواسيس. فيقول: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ} . أي إذا جاءهم خبر أمر من الأمور يتعلق بالقوم المؤمنين أو بخصومهم، وعلى سبيل المثال: يسمعون أن النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سيخرج في سرية إلى المنطقة الفلانية، وقبيلة فلان تنتظره كي تنضم إليه، وعندما يسمع الضعاف المنافقون هذا الخبر يذيعونه. فيحتاط الخصوم بمحاصرة القبيلة التي وعدت الرسول أن تقاتل معه كي لا تخرج، أو يقولون مثلاً: إن النبي سيخرج ليفعل كذا فيذيعوا أيضاً هذا الخبر! فأوضح لهم الحق: لا تفعلوا ذلك في أي خبر يتعلق بكم كجماعة ارتبطت بمنهج وتريد هذا المنهج أن يسيطر؛ لأن هذا المنهج له خصوم. إياكم أن تسمعوا أمراً من الأمور فتذيعوه قبل أن تعرضوه على القائد وعلى من رأى القائد أنهم أهل المشورة فيه، فقوله: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن} يقصد به أن المسألة تكون في صالحهم {أَوِ الخوف} أي من عدوهم {أَذَاعُواْ بِهِ} . كلمة «أذاعة» غير كلمة «أذاع به» ، ف «أذاعه» يعني «قاله» ، أما «أذاع به» فهي دليل على أنه يقول الخبر لكل من يقابله، وكأن الخبر بذاته هو الذي يذيع نفسه، فهناك أمر تحكيه وتنتهي المسألة، أما «أذاع به» فكأن الإذاعة مصاحبة للخبر وملازمة له تنشره وتخرجه من طيّ محدود إلى طي غير محدود. . أو من آذان تحترم خصوصية الخبر إلى آذان تتعقب الخبر، ثم يقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول} فالرسول أو من يحددهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هم الذين لهم حق الفصل فيما يقال وما لا يقال: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} والاستنباط مأخوذ من «النَبْط» وهو ظهور الشيء بعد خفائه، واستنبط أي استخرد الماء مجتهدا في ذلك والنَبَط هو أول مياه تخرج عند حفر البئر فنقلت الكلمة من المحسات في الماء إلى المعنويات في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2481 الأخبار. وصرنا نستخدم الكلمة في المعاني، وكذلك في العلوم. مثلما تعطي الطالب مثلاً تمريناً هندسياً، وتعطيه معطياته، ثم يأخذ الطالب المعطيات ويقول بما أن كذا = كذا. . ينشأ منه كذا، فهو يستنبط من موجودٍ معدوماً. وهنا يوضح الحق لهم: إذا سمعتم أمراً يتعلق بالأمن أو أمراً يتعلق بالخوف، فإياكم أن تذيعوه قبل أن تعرضوه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو تعرضوه على أولياء الأمر الذين رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يعطيهم بعض السلطة فيه؛ لأنهم هم الذين يستنبطون. . هذا يقال أو لا يقال. ويقول الحق: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} كأنهم أذاعوا بعض أحداث حدثت، لكنهم نجوا منها بفضل من الله سبحانه وتعالى وبعض إلهاماته فكان مما أذاعوا به ما حدث عندما عقد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العزم على أن يذهب إلى مكة فاتحاً. . وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها. . أي أنه لا يقول الوجهة الحقيقية كي يأخذ الخصوم على غرة، وعندما يأخذ الخصوم على غرة يكونون بغير إعداد، فيكون ذلك داعياً على فقدانهم قدرة المقاومة. وانظروا إلى الرحمة فيما حدث في غزوة الفتح، فقد أمر رسول الله المسلمين بالتجهيز لغزو مكة حتى إذا ما أبصر أهل مكة أن رسول الله جاء لهم بجنود لا قبل لهم بها؛ يستكينون ويستسلمون فلا يحاربون وذلك رحمة بهم. وكان «حاطب بن أبي بلتعة» قد سمع بهذه الحكاية فكتب كتاباً لقريش بمكة، وأخذته امرأة وركبت بعيرها وسارت. وجاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعلى ومن معه وقال لهم: إن هناك امرأة في روضة خاخ معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بقدومنا إلى مكة، فذهبوا إلى الظعينة فأنكرت، فهددها سيدنا عليٌّ وأخرج من عقاصها - أي من ضفائر شعرها - الكِتَاب، فإذا هو كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، فاستحضر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حاطباً وقال له: أهذا كتابك؟ . قال: نعم يا رسول الله، فقال: وما دعاك إلى هذا؟ قال: والله يا رسول الله لقد علمت أن الله ناصرك، وأن كتابي لن يقدم ولن يؤخر. وأنا رجل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2482 ملصق في قريش ولم أكن من أنفسهم ليس لي بها عصبية ولي بين أظهرهم ولد وأهل فأحببت أن أتقدم إلى قريش بيد تكون لي عندهم يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال له النبي: قد صدقت. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يبني القضايا الإيمانية وخاصة ما يتعلق بأمر المؤمنين مع أعدائهم على الصدق، ولا يستقيم الأمر أن يفشي ويذيع كل واحد الكلام الذي يسمعه، بل يجب أن يردوا هذا الكلام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإلى أولى الأمر لأنهم هم الذين يستنبطون ما يناسب ظرفهم من الأشياء، ربما أذنوا لكم في قولها، أو أذنوا بغيرها إذا كان أمر الحرب والخداع فيها يستدعي ذلك. وهذا يدل على أن الحق سبحانه وتعالى وإن كان قد ضمن النصر والغلبة لهم وأوضح: أنا الوكيل وأنا الذي أنصر ولا تهابوهم، إلا أنه سبحانه يريد أن يأخذ المؤمنون بالأسباب. . وبكفايتهم به على أنه هو الناصر. {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} وهذا يدل على أن هذه المسألة قد حدثت منهم ولكن فضل الله هو الذي سندهم وحفظهم فلم يجعل لهذه المسألة مغبة أو عاقبة فيما يسؤوهم. {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} ونعرف أنه كلما جاء فعل من الأفعال وجاء بعده استثناء. فنحن ننظر: هل هذا الاستثناء من الفاعل أو من الفعل؟ . . وهنا نجد قوله الحق: {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} فهل كان اتباع الشيطان قليلاً أي اتبع الشيطان قلة وكثيرون لم يتبعوا الشيطان. فهل نظرت إلى القلة في الحدث أو في المحدِث للحدث؟ . فإن نظرت إلى القلة في الحدث فيكون: لاتبعتم الشيطان إلا اتباعاً قليلاً تهتدون فيه بأمر الفطرة، وإن أردت القلة في المحدث: {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} أي إلاَّ نفرا قليلا منكم سلمت فطرتهم فلا يتبعون الشيطان. فقد ثبت أن قوماً قبل أن يرسل ويبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جلسوا ليفكروا فيما عليه أمر الجاهلية من عبادة الأوثان والأصنام، فلم يرقهم ذلك، ولم يعجبهم، فمنهم من صَدّ عن ذلك نهائياً، ومنهم من ذهب ليلتمس هذا العلم من مصادره في البلاد الأخرى، فهذا «زيد بن عمرو بن نفيل» ، وهذا «ورقة بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2483 نوفل» الذي لم يصدق كل ما عرض عليه، و «أمية بن أبي الصلت» ، و «قُسّ بن ساعدة» ، كل هؤلاء بفطرتهم اهتدوا إلى أن هذه الأشياء التي كانت عليها الجاهلية لا تصح ولا يستقيم أن يكون عليها العرب فهؤلاء كانوا قلة وكانوا يسمون بالحنفاء والكثير منهم كان يعبد الأصنام ثم أكرمهم الله ببعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن فقول الحق: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} أي لأن الحق سبحانه وتعالى بفضله ورحمته لن يدع مجالاً للشيطان في بعض الأشياء. . بل يفضح أمر الشيطان مع المنافقين. فإذا ما فضح أمر الشيطان مع المنافقين أخذكم إلى جانب الحق بعيداً عن الشيطان، فتكون هذه العملية من فضل الله ورحمته. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه مخاطباً سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2484 وحين ترى جملة فيها الفاء فاعلم أنها مسببة عن شيء قبلها، وإذا سمعت مثلاً قول الحق سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] . ومعنى ذلك أن القبر جاء بعد الموت، فإذا وجدت «الفاء» فاعرف أن ما قبلها سبب فيما بعدها، ويسمونها «فاء السببية» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2484 فما الذي كان قبل هذه الآية لتترتب عليه السببية في قول الله سبحانه لسيدنا رسول الله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} نقول: ما دام الأمر جاء «فقاتل» فعلينا أن نبحث عن آيات القتال المتقدمة، ألم يقل قبل هذه الآية: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 74] . والآية الثانية: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين مِنَ الرجال والنسآء} [النساء: 75] . إذن أمر القتال موجود من الله لمن؟ لرسول الله، والرسول يبلغ هذا الأمر للمؤمنين به، والرسول يسمعه من الله مرة واحدة؛ لذلك فإنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أول من يصدق أمر الله في قوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} . ثم ينقلها إلى المؤمنين، فمن آمن فهو مصدق لرسول الله في هذا الأمر. فالرسول هو أول منفعل بالقرآن فإذا قال الحق: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا} [النساء: 74] . أو عندما يقول له الحق: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} [النساء: 75] . وما دام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو أول منفعل بأوامر الله، فإذا جاءه الأمر فعليه أن يلزم نفسه أولاً به، وإن لم يستمع إليه أحد وإن لم يؤمن به أحد أو لم يتبعه أحد، وهذا دليل على أنه واثق من الذي قال له: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} وما دام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو أول منفعل فعليه أولاً نفسه؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2485 بإقباله على القتال وحده، إنما يدل مَن سمع القرآن على أن الرسول الذي نزل عليه هذا القرآن، أول مصدق، ومحمد لن يغش نفسه. فقبل أن يأمر المؤمنين أن يقاتلوا، يقاتل هو وحده. ولذلك نجد أن سيدنا أبا بكر الصديق - رضوان الله عليه - حينما انتقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الرفيق الأعلى وحدثت الردة من بعض العرب، وأصرّ خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أن يقاتل المرتدين وقال: لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لجالدتهم عليه بالسيف. وحاول بعض الصحابة أن يثني أبا بكر الصديق عن عزمه فقال: والله لو عصت يميني أن تقاتلهم لقاتلتهم بشمالي. إذن فقول الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} ينبهنا إلى أن هناك فرقاً بين البلاغ وبين تنفيذ المبلَّغ. وما دام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد سمع من الله، فهو ملزم بتطبيق الفعل أولاً، وبعد ذلك يبلغ الرسول المؤمنين، فمن استمع إليه فعل فعله. وقول الحق: {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} هو تكليف بالفعل لا بالبلاغ فقط، فالرسول يبلغ، لكن أن يفعل المؤمنون ما بلغهم به عن الله أو لا يفعلوا فهذا ليس من شأنه ولا هو مكلف به. ولكن على الرسول أن يلزم ويكلف نفسه ليقاتل في سبيل الله. {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} . أمعني ذلك أن يترك الرسول الذين آمنوا به لنفوسهم؟ . لا فالحق قد أوضح: عليك أيضاً أن تحرضهم على القتال فلا تتركهم لنفوسهم: {وَحَرِّضِ المؤمنين عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} ومعنى «حرض» مأخوذ من «الحُرْض» وهو ما به إزالة العوائق وما ينطف الأيدي والملابس مما يرين عليها ويعلوها من الوسخ والدنس، فعليك يا رسول الله أن تنظر في أمر صحابتك وأتباعك وتعرف لماذا لا يريدون أن يقاتلوا، وعليك أن تنفض عنه الموانع وتزيل العوائق التي تمنعهم أن يقاتلوا. {وَحَرِّضِ المؤمنين عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} ، وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول لرسوله: إنك لا تنصر بالكثرة المؤمنة بك، ولكن المؤمنين هم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2486 ستر ليد الله في النصر، فالنصر منه سبحانه: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 126] . وورود كلمة «بأس» في الآية التي نحن بصددها، يراد بها القوة والشدة في الحرب، ويراد بها المكيدة، ويراد بها هزيمة الأعداء. فكلمة «بأس» فيها معانٍ متعددة. والحق يبلغ رسوله: إنك يا محمد لا تكلف إلا نفسك وإياك أن يخطر على بشريتك: كيف أقاتل هؤلاء وحدى فإن القوم المؤمنين معك وإذا ما دخلوا القتال فهم لا ينصرونك ولكنهم يسترون يد الله في النصر: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] . ولماذا لا ينصر الله المؤمنين والرسول مباشرة دون قتال لغيرهم من الكفار والمشركين؟ . لأن النصر لو جاء بسبب غيبي من الحق ربما قالوا ظاهرة طبيعية قد نشأت. . ولكن الحق يريد أن يظهر أن القلة المؤمنة هي التي غلبت، فالمؤمن يقبل على الأسباب ولا ينسى المسبب، فحينما نظر المسلمون إلى الأسباب فقط في «حنين» ، وقال بعضهم: لن نهزم عن قلة فنحن كثير، هنا ذاق المسلمون طعم الهزيمة أولاً، وبعد أن أعطاهم الحقُّ الدرس التأديبي أولاً. . نصرهم ثانياً. والحق يقول: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} [التوبة: 25] . وهذا لفت للمؤمنين أن يكونوا مع الأسباب ويتذكروا المسبب دائماً؛ لأن الأسباب إنما تأتي فقط لإثبات أن الله مع المؤمنين فلو أن المؤمنين انتصروا بأي سبب غيبي آخر لقال الأعداء: إن هذا الذي حدث هو ناتج ظاهرة طبيعية. والفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة المادية في الخصوم ما حدث لسيدنا إبراهيم عليه السلام. فلم يرد الحق مجرد إنقاذ سيدنا إبراهيم من النار؛ لأن الأمر لو كان كذلك لما مَكَّن أعداء إبراهيم عليه السلام من القبض عليه. . ولو فعل الحق ذلك لقال أعداء سيدنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2487 إبراهيم: آه لو كنا قد أمسكنا به، ولكان ذلك فرصة لكفرهم. ولكن الحق يجعلهم يمسكون بإبراهيم عليه السلام: وَتَرَكَ النارَ تتأجج، ويقطع سبحانه الأسباب: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] . هذه هي النكاية، فلو جاء إنقاذ إبراهيم بطريق غير ذلك من الأمور الغَيبية غير المادة المحسة، لوجد خصوم إبراهيم المخارج لتبرير هزيمتهم. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يوضح لرسوله: يا محمد أنا الذي أرسلتك، ولم أكِلَك إلى نصرة من يؤمن بك، وإنني قادر على نصرك وحدك بدون شيء، ولكن أردت لأمتك التي آمنت بك أن ينالها يُمْنُ الإيمان بك فيستشهد بعضها، فتثاب الأمة، وتنتصر فتعلو وترتفع هامتها على العرب، فلو كان الأمر مقصوراً على نصر رسول الله لنصره الله دون حرب أو جهاد. وقول الحق سبحانه: {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} أي أنه سبحانه قادر على أن يوقف ويمنع حرب وكيد الكافرين فيُبطله ويهزمهم. وهذا ما حدث، فبعد موقعة «أحد» التي ماعت نهايتها ولا يستطيع أحد أن يحدد مَن المنتصر فيها ومن المهزوم؛ لأن رسول الله قد انتصر أولاً، ثم خالف الرماة أمر رسول الله، فحدث خلل في صفوف المقاتلين المسلمين، ولكن لم يبق المحاربون من قريش في مكان المعركة، وأيضا لم يتجاوزوها إلى داخل المدينة، ولذلك لم تنته معركة أُحُد بنصر أَحَد. وبعد ذلك هددوا بأن الميعاد في بدر الصغرى في العام القادم. ومر العام، وجاء الميعاد، وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يخرج، فلما طالب بالخروج وجد كسلاً من القوم، ولم يطعه إلا سبعون رجلاً، وخرجوا إلى المكان المحدد. وأثبتوا أنهم لم يخافوا الموقف، وقذف الله الرعب في قلب أبي سفيان وقومه فلم يخرجوا. إذن فربنا قادر أن يكلف بأس الذين كفروا، فقد أقام رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2488 في المكان، وجلس مع المقاتلين وكان معهم تجارة وباعوها وغنم المسلمون الكثير من هذه التجارة. {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} وكلمة «عسى» في اللغة تأخذ أوضاعاً متعددة، ف «عسى» معناها في اللغة الرجاء، كقول واحد: عسى أن يجيء فلان. أي: أرجو أن يجيء فلان. أو قول واحد مخاطباً صاحباً له: عسى أن يأتيك فلان بخير. وهذا رجاء أن يأتي فلان إلى فلان بعض الخير، وقد يأتي فلان بالخير وقد لا يأتي، لكن الرجاء قد حدث. وقد يقول واحد لصاحبه: عسى أن آتيك أنا بخير. هنا يكون الرجاء أكثر قوة؛ لأن الرجاء في الأولى في يد واحد آخر غير المتحدث، أما الخير هنا فهو في يد المتحدث. لكن أيضمن المتحدث أن توجد له القوة والوجود حتى يأتي بالخير لمن يتحدث إليه؟ إنه صحيح ينوي ذلك ولكنه لا يضمن أن توجد عنده القدرة. وإذا قال قائل: عسى الله أن يأتيك بالفرج. هذه هي الأوغل في الرجاء. لكن هل من يقول ذلك واثق من أن الله يجيب هذا الرجاء؟ . قد يجيب الله وقد لا يجيب وفقاً لإرادة الله لا المعايير من يرجو أو المرجو له. أما عندما يقول الحق عن نفسه: {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} فهذا هو القول البالغ لنهايات كل الرجاءات. ف «عسى» بمراحلها المختلفة تبلغ قمتها عندما يقول الحق ذلك. وهكذا نرى مراحل «عسى» . أن يقول قائل: عسى أن يفعل لك فلان خيراً. هذه مرحلة أولى في الرجاء، وأن يقول قائل: عسى أن آتيك أنا بخير. هذه مرحلة أقوى في الرجاء، فقد يحب الإنسان أن يأتي بالخير لكن قد تأتي له ظروف تعوقه عن ذلك. وإن يقول قائل: عسى الله أن يفعل كذا، هذه مرحلة أكثر قوة؛ لأن الخير فيها منسوب إلى القوة العليا، لكن هذا الرجاء قد يجيبه الله وقد لا يجيبه. والأقوى على الإطلاق هو أن يقول الله عن نفسه: {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2489 الذين كَفَرُواْ} و «عسى» بالنسبة لله رجاء محقق لأنه إطماع من الله عَزَّ وَجَلَّ، والإطماع منه واجب تحققه لأنه - سبحانه - هو الذي يحثنا ويدفعنا إلى الطمع في فضله لأنه كريم، وهو القائل سبحانه: {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} لأن أصحاب البأس من الخلق هم أهل أغيار، فالقوي منهم قد يضعف أو يصاب ببعض من الرعب فتخلخل عظامه. أما واهب الفعل وواهب القوى لخلقه فهو القادر على أن يفعل فهو الأشد بأساً وهو سبحانه أشد تنكيلاً. وساعة يسمع الإنسان أي شيء من مادة «نكل» فعليه أن يعرف أنها مأخوذة من «النِكْل» وهو القيد. وعندما يوقع الحاكم - مثلا - العذاب على مرتكب لجريمة، والشخص الذي يرى هذا العذاب يخاف من ارتكاب مثل هذه الجريمة، فكأن الحاكم قد قيدهم بالعذاب الذي أنزله بأول مجرم أن يفعلوا مثل فعله. ولذلك يقال على ألسنة الحكام: سأجعل من فلان نَكالاً. أي أن القائل سيعذب فلاناً، بحيث يكون عبرة لمن يراه فلا يرتكب جريمة مثلها أبداً خوفا من أن تنزل به العقوبة التي نزلت ولحقت بَمن فعل الجريمة. إذن فالتنكيل والنكال والنِكل كلها راجعة إلى القيد الذي يمنع إنساناً أن يتحرك نحو الجريمة، أو قيد يمنع الإنسان أن يرجع إلى الجريمة التي فعلها أولاً، أو أن هذا القيد وهو العذاب الذي عوقب به مرتكب الجريمة يكون ماثلا أمام الناس يحذرهم من الوقوع فيها كي لا تنالهم عقوبتها ونكالها. إن الحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق ووزع عليهم فضل المواهب فلا يوجد واحد قد جمع كل المواهب؛ لأن فكر الإنسان وطاقته وزمنه وظروفه شاء الله أن تختلف وشاء سبحانه ألا يجعل الإنسان موهوباً في كل مجال، وحين يوزع الله على كل عبد جزءاً من المواهب ويعطي العبد الآخر جزءا آخر حتى يتكامل العباد معاً. فلو أن صاحب موهبة تجمعت لديه مواهب الآخرين لاستغنى كل إنسان عن مواهب الآخرين، والله يريد منا مجتمعاً متسانداً متكافلاً متكاملاً، فما أفقده أنا أجده عند غيري. فتجد بارعاً في الهندسة وعندما يصاب هذا المهندس البارع بألم فهو يطلب طبيبا، والطبيب الذي يريد بناء عيادة يطلبها من المهندس. وكلاهما يطلب مشورة المحامي في كتابة العقود، وكل هؤلاء في حاجة إلى من يقيم البناء، والذين يقيمون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2490 البناء من مهن متعددة أخرى يحتاج بعضهم إلى بعض. إذن لا يوجد فرد واحد قادر على أن يقوم بكل هذه العمليات بمفرده، ولو أن هناك واحداً يستطيع كل ذلك لما احتاج إلى أحد، ولو حدث ذلك لكان التفكك في المجتمع. ولذلك جاء قول الحق: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32] . والناس حين تنظر لتفضيل الله لبعض الناس على بعض درجات ينظرون إلى ذلك في مجال المال فقط. . ونقول لمن يظن ذلك: - أنت مخطئ، فإن فضلك الله في القوة والجسم فهذه رفعة، وإن فضلك في العلم فذلك رفعة أيضاً، وإن فضلك في الحلم فهذه رفعة، إن تفضيل الحق لك في أي مجال هو رفعة لك، فأنت كعبد تكون مفضلاً؛ ومفضلاً عليك. إذن فحين يقول الحق: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} . قد يسأل إنسان: أي بعض مرفوع وأي بعض مرفوع عليه؟ . ونقول: كل واحد مرفوع بموهبته، وغيره مرفوع عليه بموهبته. ومن القصور أن ننظر إلى التفضيل في مجال المال فقط، فلا يصح أن ننظر إلى هذه الزاوية وحدها ولكن لننظر من كل الزوايا. وعندما ننظر في الزوايا جميعها نجد الفرد مرفوعاً في شيء، ومرفوعاً عليه في أشياء، وكل منا مسخر لغيره. إذن فعندما خلق الله العباد جعل كُلاًّ منهم مسخراً للآخر، وما دام الأمر كذلك، فيجب ألا يُترك الفرد في البيئة الإيمانية فذاً، بل على كل ذي موهبة يفقدها غيره أن يمده بهذه الموهبة. فبعد أن كان فذاً - أي فرداً - يصير شَفْعَاً. والشَّفْعُ - كما نعلم - هو ضم شيء إلى مثله، فما ضم إلى غيره ليصيرا زوجا فهو شَفْع بخلاف الوتر فإنه الواحد. فإذا كان الواحد منا موهوباً فليضم موهبته للثاني، حتى يصبح الاثنان شَفْعاً، وبذلك ينطبق عليه قول الحق: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2491 {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2492 وما هي الشفاعة الحسنة؟ الذين من الريف يعرفون مسألة «الشُّفْعَة» في العرف. فيقال: فلان أخذ هذه الأرض بالشفعة. أي أنه بعد أن كان يملك قطعة واحدة من الأرض، اشترى قطعة الأرض المجاورة لتنضم لأرضه، فبدلاً من أن تكون له أرض واحدة صارت له أرضان. وعندما يأتي واحد لشراء أرض ما، فالجار صاحب الأرض المجاورة يقول: أنا أدخل بالشفعة، أي أنه الأولى بملكية الأرض. إذن فمعنى يشفع، هو من يقوم بتعدية أثر الموهبة منه إلى غيره من إخوانه المؤمنين ولهذا فإنه يكون له نصيب منها. فالشفاعة الحسنة هي التوسط بالقول في وصول إنسان إلى منفعة دنيوية أو أخروية أو إلى الخلاص من مضرّة وتكون بلا مقابل. إذن فكل واحد عنده موهبة عليه أن يضم نفسه لغير الموهوب، فبعد أن كان فرداً في ذاته صار شفعاً. ولذلك يقال: فلان سيشفع لي عند فلان، أي أنه سيضم صوته لصوت المستعين به. والحق سبحانه وتعالى فيما يرويه سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله قال لسيدنا داود: إن الرجل ليعمل العمل الواحد أحكِّمه به في الجنة. أي أن رجلاً واحداً يؤدي عملا ما، فيعطيه الله فضلاً بأن يقوم بتوزيع الأماكن على الأفراد في الجنة، وكأنه وكيل في الجنة، أي أنه لا يأخذ منزلا له فقط، ولكنه يتصرف في إعطاء المنازل أيضاً، فتساءل داود: يا رب ومن ذلك؟ قال سبحانه: مؤمن يسعى في حاجة أخيه يحب أن يقضيها قضيت أو لم تقض. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2492 اعتكافه عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين» . ذلك لأن العبد الذي سعى في قضاء حاجة أخيه يكون قد أدى حق نعمة الله فيما تفضل به عليه، ويكون من أثر ذلك أنه لا يسخط أو يحقد غير الواجد للموهبة على ذي الموهبة. وبذلك فسبحانه يزيل الحقد من نفس غير الموهوب على ذي الموهبة؛ فغير الموهوب يقول: إن موهبة فلان تنفعني أنا كذلك، فيحبّ بقاءها عنده ونماءها لديه. ويقول الحق: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} ثم يأتي الحق بالمقابل، فهو سبحانه لا يشرع للأخيار فقط، ولكنه يضع الترغيب للأخيار ويضع الترهيب للأشرار، فيقول: {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} . ولنر المخالفة والفارق بين كلمة «النصيب» وكلمة «الكفل» . كلمة «النصيب» تأتي بمعنى الخير كثيرا. فعندما يقول واحد: أنت لك في مالي نصيب. هذا القول يصلح لأي نسبة من المال. أما كلمة «كفل» فهي جزء على قدر السيئة فقط. وهذا هو فضل من الله، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وهذا نصيب كبير. ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها. وهذه الآية قد جاءت بعد تحريض الرسول للمؤمنين على القتال، أي أنك يا رسول الله مُطالب بأن تضم لك أناساً يقاتلون معك؛ فتلك شفاعة حسنة سوف ينالون منها نصيباً كبيرا وثوابا جزيلا. أما قول الحق: {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} أي يكون له جزء منها، أي يصيبه شؤم السيئة، أما الجزاء الكبير على الحسنة فيدفع إلى إشاعة مواهب الناس لكل الناس. وما دامت مواهب الناس مشاعة لكل الناس فالمجتمع يكون متسانداً لا متعانداً، ويصير الكل متعاوناً صافي القلب، فساعة يرى واحد النعمة عند أخيه يقول: «سيأتي يوم يسعى لي فيه خير هذه النعمة» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2493 ولذلك قلنا: إن الذي يحب أن تسرع إليه نعم غيره فليحب النعم عند أصحابها. فإنك أيها المؤمن إن أحببت نعمة عند صاحبها جاءك خيرها وأنت جالس. وإذا ما حُرمت من آثار نعمة وهبها الله لغيرك عليك فراجع قلبك في مسألة حبك للنعمة عنده، فقد تجد نفسك مصاباً بشيء من الغيرة منها أو كارهاً للنعمة عنده، فتصير النعمة وكأنها في غيرة على صاحبها، وتقول للكاره لها: «إنك لن تقربني ولن تنال خيري» . ويختم الحق الآية: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} جاء هذا القول بعد الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة، وفي ذلك تنبيه لكل العباد: إياكم أن يظن أحدكم أن هناك شيئاً مهما صغر يفلت من حساب الله، فلا في الحسنة سيفلت شيء، ولا في السيئة سيضيع شيء. وأخذت كلمة «مُقيتاً» من العلماء أبحاثاً مستفيضة. فعالم قال في معناها: إن الحق شهيد، وقال آخر: «إن الحق حسيب» ، وقال ثالث: إن «مقيتاً» معناها «مانح القوت» ورابع قال: «إنه حفيظ» وخامس قال: «إنه رقيب» . ونقول لهم جميعاً: لا داعي للخلاف في هذه المسألة، فهناك فرق بين تفسير اللفظ بلازم من لوازمه وقد تتعدد اللوازم، فكل معنى من هذه المعاني قد يكون صحيحاً، ولكن المعنى الجامع هو الذي يكون من مادة الكلمة ذاتها. و «مُقيت» من «قاته» أي أعطاه القوت، ولماذا يعطيهم القوت؟ ليحافظ على حياتهم، فهو مقيت بمعنى أنه يعطيهم ما يحفظ حياتهم، ومعناها أيضاً: المحافظ عليهم فهو الحفيظ. وبما أنه سبحانه يعطي القوت ليظل الإنسان حياً، فهو مشاهد له فلا يغيب المخلوق عن خالقه لحظة، وبما أنه يعطي القوت للإنسان على قدر حاجته فهو حسيب. وبما أنه يرقب سلوك الإنسان فهو يجازيه. إذن كل هذه المعاني متداخلة ومتلازمة؛ لذلك لا نقول اختلف العلماء في هذا المعنى، ولكن لنقل إن كل عالم لاحظ ملحظاً في الكلمة، فالذي لاحظ القوت الأصلي على صواب، فلا يعطي القوت الأصلي إلا المراقب لعباده دائماً، فهو شهيد، ولا يعطي أحداً قوتاً إلا إذا كان قائماً على شأنه فهو حسيب. وسبحانه لا يُقيت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2494 الإنسان فقط ولكن يقيت كل خلقه، فهو يقيت الحيوان ويلهمه أن يأكل صنفاً معيناً من الطعام ولا يأكل الصنف الآخر. إننا إذا رأينا العلماء ينظرون إلى «مقيت» من زوايا مختلفة فهم جميعا على صواب، سواء من جعلها من القوت أو من الحفظ أو من القدرة أو من المشاهدة أو من الحساب، وكل واحد إنما نظر إلى لازم كلمة «مقيت» وسبحانه يقيت كل شيء، فهو يقيت الإنسان والحيوان والجماد والنبات. ونجد علماء النبات يشرحون ذلك؛ فنحن نزرع النبات، وتمتص جذور النبات العناصر الغذائية من الأرض، وقبل أن يصبح للنبات جذورٌ، فهو يأخذ غذاءه من فلقتي الحبة التي تضم الغذاء إلى أن ينبت لها جذر، وبعد أن يكبر جذر النبات فالفلقتان تصيران إلى ورقتين، وسبحانه على كل شيء مقيت، ويقول العلماء من بعد ذلك: إن الغذاء قد امتصه النبات بخاصية الأنابيب الشعرية. أي أن النبات يمتص الغذاء من التربة بواسطة الجذور الرفيعة التي تمتص الماء المذاب فيه عناصر الغذاء. وفتحة الأنبوبة في الأنابيب الشعرية لا تسع إلا مقدار الشعرة، وعندما توضع في الإناء فالسائل يصعد فيها ويرتفع الماء عن مستوى الحوض، وعندما تتوازى ضغوط الهواء على مستويات الماء فالماء لا يصعد. ومثال ذلك: عندما نأتي بماء ملون ونضعه في إناء، ونضع في الإناء الأنابيب الشعرية، فالسائل الملون يصعد إلى الأنابيب الشعرية، ولا تأخذ أنبوبة مادة من السائل، وتترك مادة بل كل الأنابيب تأخذ المادة نفسها. لكن شعيرات النبات تأخذ من الأرض الشيء الصالح لها وتترك الشيء غير الصالح. وهو ما يقول عنه علماء النبات «ذلك هو الانتخاب الطبيعي» . ومعنى الانتخاب هو الاختيار، والاختيار يقتضي عقلاً يفكر ويرجح، والنبات لا عقل له، ولذلك كان يجب أن يقولوا إنه «الانتخاب الإلهي» ، فالطبيعة لا عقل لها ولكن يديرها حكيم له مطلق العلم والحكمة والقيومية. وسبحانه يقول عن ذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2495 {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] . فالفلفل يأخذ المادة المناسبة للحريفية، والقصب يأخذ المادة التي تصنع حلاوته، والرمان يأخذ المادة الحمضية. هذا هو الانتخاب الإلهي. {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} وساعة تسمع «كان الله» فإياك أن تتصور أن ل «كان» هنا ملحظاً في الزمن، فعندما نقول بالنسبة للبشر «كان زيد غنياً» فزيد من الأغيار وقد يذهب ثراؤه. لكن عندما نقول «كان الله» فإننا نقول: «كان الله ومازال» ، لأن الذي كان ويتغير هو من تدركه الأغيار. وسبحانه هو الذي يُغَيِّر ولا يَتَغَيَّر، وموجود منذ الأزل وإلى الأبد. وحين أوضح لنا سبحانه الشفاعة وأمرنا أن يعدي الواحد منا مواهبه إلى غيره فذلك حتى تتساند قدرات المجتمع لأنه يربب الفائد للعبد المؤمن ويرببها للجميع. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2496 الحق هنا يريد أن يربب معنى الحياة. فما معنى: «حُييتم» ؟ الكلام السطحي الأولى فيها: إذا حياك واحد وقال لك: «السلام عليكم» أن ترد السلام. وكان العرب قديماً يقولون: حياك الله. وبعد أن جاء الإسلام جعل التحية في اللقاء هي السلام: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} [الأحزاب: 44] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2496 أو كما قال الحق في موقع آخر: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله} [النور: 61] . ولنفهم معنى كلمة «حياك» . مادة الكلمة هي «الحاء» ، و «الياءان» ، ومنها كلمة «حياة» ، التي منها حياتنا. والحياة إذا نظرنا إليها قد تأخذ معنىً سطحياً عند الناس وهو ما نشأ عنه الحس الحركي وهي أول ظاهرة فينا، وبعد ذلك في الحيوان، وإن ارتقيت في الفهم تجد أن كلمة «الحياة» تنتظم كل أجناس الوجود حتى الجماد، لكن الإنسان لا يتعرف إلى الحياة إلا في المظهر الحسي والحركي، ولكن لكل كائن حياة تناسبه. وعندما كانوا يعلموننا في المدارس علم المغناطيسية كنا نرى تجربة المغناطيس ونأتي بقضيب مغناطيسي، ثم نأتي ببرادة الحديد، ونسير به في اتجاه واحد وذلك حتى نرتب الجزئيات ترتيباً يتناسب مع اتجاه المغناطيسية في القضيب الحديدي. هذا القضيب الذي نراه مادة جامدة في نظرنا، ولكن توجد فيها ذرات دون إدراك الإنسان تتكيف بحركة خاصة بها، ويُعاد ترتيب السالب منها والموجب ولا توجد قدرة عند المشاهد لها كي يدرك حركتها. وحتى يقربها المدرسون إلى ذهن التلاميذ، جاءوا بأنبوبة زجاجية ووضعوا فيها برادة الحديد وجاءوا بالقضيب الممغنط ومرّروه بجانب البرادة، فرأى التلاميذ البرادة وهي تتقافز إلى أن تستقر، وهنا يتعلم التلاميذ أن برادة الحديد غير الممغنطة عندما يمر عليها القضيب الممغنط في اتجاه واحد فذراتها تترتب على أساس واضح، حتى تصير ممغنطة. وهذا دليل الحس؛ فقد انقلبت السوالب في جهة والموجبات في جهة. . فالقضيب المغناطيسي له حركة ولكننا لا ندرك حسه ولا حركته لأننا لا نملك المِقاييس اللازمة لذلك. ومثال آخر: لنفترض أننا نتحرك وجاءت طائرة من أعلانا والتقطت صورة لنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2497 وعندما يأخذون الصورة من قريب، فهم يرون الحركة، لكن كلما ابتعدت الطائرة فنحن لا نرى الحركة حتى تصير نقطة بعيدة وكأنها ثابتة. وهي ليست ثابتة، وإنما هي متحركة بصورة دقيقة جداً لدرجة أنها لا تُدرك. فكل شيء - إذن - فيه حياة خاصة تناسبه، وكل شيء له الحس والحركة الخاصة به. وعندما نأتي للقرآن، نرى كيف عالج هذه القضية فيقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] . استثنى القول وجه الله. أي ذاته، فكل شيء ما عداه هالك. ومعنى «هالك» أي ليس فيه حياة، وما دام كل شيء يهلك فهذا دليل أن في كل شيء حياة، حتى يأتي الإذن من الحق أن تذهب الحياة من كل شيء إلا وجهه سبحانه، وقد يتساءل إنسان ومن الذي قال: إن كلمة «هالك» تعني ليس فيه حياة؟ نقول: إن القرآن حين يتعرض لقضية لا يقسم العلوم إلى أبواب ولكنه يضع في كل آية جزئية تشرح لنا ما خفي علينا في جزئية أخرى كي نفهم القرآن متكامل، فيقول الحق: {ِلِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] . فيكون الهلاك ضد الحياة. ونحن إذا ما نظرنا إلى الصناعات التي نصنعها، وليكن البلاستيك مثلاً، إننا نصنع منه أواني للغسيل أو لخلافه، وأول ما نشتريه للاستعمال نجده زاهي اللون، وبعد استعماله لفترة يزول عنه البريق ويصبح شاحب اللون، فما الذي حدث له؟ . لقد تغير. ما الذي أحدث التغيير؟ . يقال: الاستعمال وأشعة الشمس وغير ذلك. إذن ففيه حس لأنه تَأَثّر وحركةلأنه تغيّر، وكذلك الأحجار الكريمة والمرمر والرخام وغيرها يقدرون عمرها بمئات السنين وأحياناً بآلاف السنين، وكلما طال عمرها تغير لونها من الحياة والتفاعلات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2498 وعندما نمسك ورقة ونضعها تحت المجهر فإننا نرى عدداً هائلاً من الغرف الصغيرة، ولا حصر لهذه الغرف، ويقول المؤمن: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] . فكل شيء في الوجود له حياة تناسبه، إذ استقريتها وتتبعتها بدقة واستطعت أن توجد الآلات التي تستنبط والتي تساعد على الإدراك فإنك ترى الحركة وتشاهدها بالحس. إلا أن الحياة بالنسبة لأرقى الأجناس - وهو الإنسان - المنتفع بكل كائن حي في الكون، هذه حياة تنتهي في ميعاد مجهول بالنسبة للإنسان معلوم بالنسبة لله. وأراد الله أن يكلفه تكليفاً إن استمع إليه ونفذه فهو سبحانه يعطيه حياة لا تنتهي. وعندما نقيس الحياة التي لا تنتهي فالحياة التي تنتهي، فأي منهما جديرة بأن تسمي حياة؟ إنها الحياة الأخرى التي لا تنتهي، ولذلك يقول الحق: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] . هذه هي الحياة الحقة، وإلا فما قيمة هذه الحياة الدنيا التي تهددك فيها الآفات والآلام والاضطرابات والأسقام والأمراض، وبعد ذلك تنتهي، فيوضح الحق: خذ حياة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فهذه هي الحياة حقاً، ولذلك فالحق عندما تعرض لهذه المسألة أوضح: إياكم أن تعتقدوا أن هذه الحياة الدنيا هي التي أريدها لكم، أنا أريد لكم حياة أخلد من هذه، ولذلك قال: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . هو يخاطبهم إذن فهم أحياء بالقانون المتعارف عليه، وأنهم إن لم يستجيبوا إلى ما دعاهم إليه الحق والرسول لن يأخذوا لوناً أرقى من الحياة، وهي حياة لا تهددها الآفات ولا الأثفال ولا الأمراض ولا الفناء، إنها الحياة الحقة، ولذلك يسميها الحق « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2499 الروح» لأنّها تحرك الجسم وتعطيه حياة وإن كانت تنتهي فيقول: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [ص: 72] . هذه أولى مراحل الحياة الممنوحة للمؤمن والكافر. ويسمى سبحانه الحياة الأكبر منها والتي لا تنتهي يسميها الحق (روحاً) أيضاً: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] . وهذه هي التي سوف تعطي الحياة الأرقى. الأولى اسمها «روح» تعطي حياة فانية. والثانية هي «روح» أيضاً، إنها ما أوحي الله به، لأن الناس إذا عملوا به يحيون حياة دائمة خالية من الشقاء والكدر. إذن فقوله: {إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} هي دعوة إلى الحياة الخالدة، والحياة الأبدية السعيدة في الآخرة مرهونة بأن يلتزم الإنسان منهج الله في حياته، وإن كانت منتهية. والحياة الدنيا يرى الإنسان فيها الأغيار والأسقام والمهيجات، فإذا جاء له من يطمئنه ومن ينفي عنه القلق والخوف فكأنه يحسن حياته. وكلمة «حياك الله» أو «السلام عليكم» تعني: «كن آمناً مطمئناً» وإلا فما قيمة الحياة بدون أمن واطمئنان؟ . إذن فكلمة «حياك الله» أو «السلام عليكم» أي الأمان والاطمئنان لك. فأنت لا تعرف هل يجيء القادم إليك بخير أو بشر، لكن ساعة يقول: السلام عليكم، فقد يجعل بهذه التحية الأمان في قلب المتلقى به ويشعر بقيمة حياته. إذن فقوله الحق: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} يعني: إذا رببتم حياتكم بالتحية التي هي السلام والتي تضمن الأمن والاطمئنان عليكم رد التحية. فكلمة «تحية» إعطاء لقيمة الحياة، وكذلك كلمة «حيوا» أي أعط من أمامك شيئاً من الحياة المستقرة الآمنة المطمئنة. فالحياة بدون أمن وبدون اطمئنان، كلا حياة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2500 والشاعر العربي يقول: ليس من مات فاستراح بميْت ... إنما الميْت ميّت الأحياء فقول الحق: {وَإِذَا حُيِّيتُم} أي أنه إذا رببتم حياتكم وبوركتم بالأمن وبالسلام {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} أي عليكم أن تردوها إما بالتحية مثلها وإما بأفضل منها. والعلماء عندما جاءوا ليتكلموا عن هذا، قصروا المسألة على تحيات اللقاء. فمن قال لك: السلام عليكم، فقل له: وعليكم السلام ورحمة الله. أي أنك تزيد عليه. عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال له: وعليك: فقال له الرجل: يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي، فقال: إنك لم تدع لنا شيئاً قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} فرددناها عليك. وعندما تكلم العلماء في مسألة السلام، صنفوا لها فقالوا: الماشي يسلم على القاعد. والراكب يسلم على الماشي، والصغير يسلم على الكبير. والمبصر يسلم على الكفيف. والقليل يسلم على الكثير. وكل خطاب موجه للمؤمنين ينتظم ويشمل ذكورهم وإناثهم إلا أن يكون الحكم مما يخص النساء. وهنا يقول الحق: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} أللنساء تحية؟ نعم، لهن تحية، المرأة تحيي المرأة، والمرأة تحيي زوجها، والمرأة تحيي محارمها، والمرأة العجوز التي لا إربة فيها تبدأ التحية وتردها، أما المرأة الشابة فهي لا تبدأ أحداً بالسلام ولا ترد السلام. لا تبدأ بالسلام إلا إذا كان معها مثلها؛ لأنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2501 يقولون: المرأة على المرأة عين أكثر من ألف رجل، أي أن المرأة تحرس المرأة أكثر من ألف رجل، فعندما تكون معها مثيلتها تحفظها، ولذلك يقال: إن المرأة إن بدأت بالسلام أو ردت السلام فذلك حرام، وإذا بدأها واحد بالسلام أو رد عليها السلام فذلك مكروه. لماذا؟ لأن بَدْءَها له إثارة، ولكنه إذا بدأ هو بالسلام فليس ضرورياً أن تستجيب. فإن كان معها أحد أو جماعة تُؤمن عليها فلا حرج من أن ترد السلام. وقالوا: وإذا كان الذي يلقى السلام ويبدأه به غير مؤمن؟ النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أوضح أنهم يلوون في الكلام، فإذا قالوا لكم: «السلام» فقولوا: وعليكم. وذلك يعني إن قالوها كلمة طيبة لها معنى طيب فأهلاً بها وعليهم مثلها، وإن كانت كلمة خبيثة كقولهم: «السام عليكم» فقولوا: «وعليكم» ؛ لأن السام معناها الموت، فلكيلا يستهزئوا بكم، قولوا: وعليكم. وبعض العلماء قال المقصود ب {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} أي بالنسبة للمؤمن، و «ردوها» بالنسبة للكافر. لكن أتلك هي التحية فقط؟ . إذا كان الذي حياك بقول وأمّنك بقول، فكيف لا تحذر من يؤمن بالقول نفاقاً، يظهر لك الأمن ثم يقول: السلام عليكم، ومعه الضر؟ . كما أن الحق علمنا أن نرد التحية بمثلها لأن نقل القضايا من قولية إلى فعلية هي المحك والأساس، فإذا حياك إنسان بخير عنده فعلى المسلم أن يقدم التحية بخير منها، وإن لم يستطع فليرد على الأقل بمثلها، وعندما يرد الإنسان بمثلها يصبح التكارم بين الناس إن لم يزد فهو لم ينقص، ويكون الخير متنامياً، فإذا قدم إنسان خيرا لإنسان آخر، وردّ عليه بعمل أفضل منه، ففي ذلك نماء للخير، وإن لم يستطع فليرد بمثل العمل وبذلك لا ينقص من خيره، فيكون خير كل إنسان محجوزاً على نفسه؛ لأنه ما دام سيعطي التحية ويأخذ على قدر ما يعطي، فكأنه لم ينقص من خيره شيئاً. والحق سبحانه وتعالى حين يسخِّى النفوس في أن تعطي أكثر مما حييت به، فهذا يبين أن المؤمن في البيئة الإيمانية إنما يتكاثر خيره، لأنّه كلما فعل خصلة خير فهي تعود عليه بالخير. ولذلك فهناك أناس كثيرون إذا أرادت خيراً من أحد، أعطته خيراً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2502 يناسب قدرها، ليعطي هو خيراً يناسب قدره، وهذه تحدث كثيراً خصوصاً مع الملوك، ومثال ذلك: كان المواطن السعودي يقول للملك عبد العزيز آل سعود: أريد أن تشرب القهوة عندي، ويذهب الملك عبد العزيز آل سعود ليشرب القهوة، ويؤدي لصاحب الدعوة خدمة تعادل القهوة مليون مرة، فكل من يحيي الملك يرد عليه التحية بأكثر منها. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} وجاءت كلمة «أو ردوها» من أجل أن يطمئن من قدم تحية أنه سيجد رد تحيته أو أكثر منها. والحق سبحانه وتعالى عندما يرى خلقه المؤمنين به يتكارمون، فهو يضعها في الحساب؛ لذلك يقول سبحانه: {إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} فالحساب لا ينتهي عند أن يرد المؤمن التحية أو يؤدي خيراً منها، ولكن هناك جزاءً أعلى وأفضل عند مليك مقتدر. وفي تناولنا لمسألة التحية عَلِمْنَا أن كلمة التحية وهي «السلام عليكم» معناها أمان واطمئنان، والأمان والاطمئنان كلاهما يعطي الحياة بهجة، فالحياة بدون أمن أو اطمئنان ليس لها قيمة. فكأن إشاعة السلام بقولنا: «السلام عليكم» أو «السلام عليكم ورحمة الله» أو «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» تجعل المجتمع مجتمعا صفائيا، وما دام المجتمع كله مجتمعا صفائيا، فخير أي واحد يكون عند الآخر. ويتعدى ذلك إلى أن يطلب المؤمن خير الله لأخيه المؤمن. إن الإنسان حين يصعد التحبة بعد قوله: السلام عليكم «بإضافة» ورحمة الله وبركاته «فهو يربط النفس البشرية برباط إيماني بالحق سبحانه وتعالى. وبذلك تتذكر وتعي أن الخلق عيال الله، وسبحانه يحب أن يكون خلقه منسجمين بالعلاقات الطيبة فيما بينهم، وعندما يكون الخلق على علاقة طيبة بعضهم مع بعض فسبحانه يعطيهم من خيره أكثر وأكثر. {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} ومن الطبيعي أن نفهم أن رد التحية يعني أن نقول: تحية مثل التي قالها لنا، فالرد ليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2503 مقصوداً به أن نرد التحية نفسها، ولكننا نقول مثلها. فالضمير مبهم ويوضحه مرجعه. مثال ذلك أن تقول:» لقيت رجلاً فأكرمته «هنا الضمير مبهم ويوضحه مرجعه، مثال آخر» تصدقت بدرهم ونصفه «فهل معنى ذلك أنني تصدقت بدرهم ثم استرددته وقسمته قسمين وتصدقت بنصفه؟ لا، إن معنى ذلك هو أنني تصدقت بدرهم، ونصف مثل الدرهم، فإذا قال الحق: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} أي ردوا التحية بأفضل منها أو بمثل التي تتلقاها، فإذا ما قيل لك:» السلام عليكم «فقل» وعليكم السلام «. والحق سبحانه وتعالى يبلغ المؤمنين: لا تظنوا أيها المؤمنين أني بخلقي لكم وإعطائي لكم حرية الاختيار في الإيمان أو في الفعل أو في الترك إياكم أن تظنوا أني لا أحاسبكم بل سأجازيكم بالثواب على الطاعة وبالعقاب على المعصية، فحين آمركم بفعل، فمعناه أنني خلقتكم صالحين أن تفعلوا، وحين أنهاكم عن فعل فمعناه أنني خلقتكم صالحين ألا تفعلوا. إذن فعندما يأتي أمر؛ فمعنى هذا أن الذي خلقني علم أزلاً بصلاحيتي لتنفيذ هذا الفعل أو عدم تنفيذه. . أي صلاحيتي أن أطيع وأن أعصى، إذن فهناك فعل يقول الحق للعبد فيه: «افعله» ، وفعل يقول له فيه: «لا تفعله» ، والمخالفات والمعاصي إنما تنشأ من نقل «افعل» في مجال «لا تفعل» ، ومن نقل «لا تفعل» في مجال «افعل» ، هذا هو معنى المعصية. والحازم لا يأخذ الاختيار الممنوح له ليحقق شهواته بوساطة هذا الاختيار، بل لا بد أن يضع بجانب الاختيار أنه مردود إلى من أعطاه الاختيار. وحين تعلم أيها العبد أنك مردود وراجع ومصيرك إلى من أعطاك الاختيار وأنه سوف يجازيك، فإنك لن تنقل أمراً من مجال «لا تفعل» إلى مجال «افعل» أو من مجال افعل إلى مجال لا تفعل. فلو أخذت الاختيار لتريح نفسك لحظة وهي فانية، فكيف تتعب نفسك في الباقية؟ فإن أردت أن تكون حازماً وعاقلاً فلا تفعل ذلك؛ فالمؤمن يمتلك الكياسة والفطنة فلا يُقْدِمُ على مثل هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2504 وبعد ذلك يقول سبحانه: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2505 وهذا يعني: أنّه لا يوجد إله آخر سيأتي ليتدخل وينهى المسائل من خلف ظهر الخالق الأعلى سبحانه: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ} فليس هناك إله سواي، لا تشريع يرسم صلاح البشر إلا تشريعي وسترجعون إليّ، وليس هناك واحد يقول: «افعل» «ولا تفعل» ، والآخر يقول بالعكس، إنه إلا واحد، والأمر منه ب «افعل» هو الأمر الوحيد الصالح للإنسان. والنهي منه ب «لا تفعل» هو النهي الوحيد الذي يجب على العاقل أن يتجنبه، ولذلك تجده يقول: {قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 - 6] . إنه سبحانه يوضح: ليس هناك مضارة بين دينين، دين للكافرين، ودين للمؤمنين، لا، بل هو دين ومنهج واحد صالح للإنسان هو منهج التوحيد جاءت به الرسل جميعا وختم بالإسلام الذي لا دين بعده، ولذلك جاء بعدها مباشرة: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] . ويأتي بعد ذلك بسورة المسد: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2505 ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1 - 5] . أما كان أبو لهب يقدر أن يقول بعدها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ كان يقدر، ولو قالها لشكك في هذه الآية، ولقالوا: إنه لن يصلي ناراً ذات لهب. إن هذا الأمر كان له فيه اختيار، ولم يوفقه الله إلى أن يقولها ولو نفاقاً، لماذا؟ لأن الحق قال بعد هذه الآية مباشرة: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . أي فليس إله آخر يرد أمره سبحانه وتعالى: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} . وكلمة «يجمع» تعني أنه يخرجنا مع بعضنا من قبورنا جميعا، ويحشرنا جميعاً أمامه، وقد تعني «ليجمعنكم» أي ليحشرنكم من قبوركم لتلقي جزاء يوم القيامة. لماذا جاء هذا القول؟ جاء لكي يتفحصه العاقل، فلا يأخذ انفلات نفسه من منهج الله إلا بملاحظة الجزاء على الانفلات من المنهج، فلو أخذ نفسه منفلتاً عن منهج الله بدون أن يقدر الجزاء لكان أحمق وأخرق. ولذلك قلنا: إن الذين يسرفون على أنفسهم في المعصية لا يستحضرون أمام عيونهم الجزاء على المعصية. ولذلك يقولون كل الجرائم إنما تتم في غفلة صاحبها عن الجزاء؛ فالمجرم يرتكب جريمته وهو مقدر السلامة لنفسه، والسارق يذهب إلى السرقة وهو مقدر السلامة، لكن لو وضع في ذهنه أنه من الممكن أن يتم القبض عليه لما فعلها أبدا. والحق سبحانه وتعالى يوضح: إياك يا من تريد - بالاختيار الذي أعطيته لك - الانحراف عن منهجي أَلاَّ تقدر الجزاء على هذه المخالفة. بل عليك أن تأخذها قضية واضحة، واسأل كم ستعطيك المعصية من نفع وكم سيعُطيك الله من خير على الطاعة، وضع الاثنين في كفتي ميزان؛ فالذي يعطيك الخير الأبقى افعله، وابتعد عما لا يعطيك الخير بل إنه يوقعك في الشقاء والشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2506 {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} ويوم القيامة هو اليوم الذي قال فيه الحق: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} [المطففين: 6] . ولماذا يوم القيامة؟ لأن آخر مظهر من مظاهر دنيا الناس أنهم حين يموتون ينامون، وهذا ما نراه، وبعد ذلك ندخله إلى القبر ولا نعرف كيف يأتي قائماً من نومه إلا بقول الحق: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} . أي يجب أن يكون الإيمان بيوم القيامة لا شك فيه؛ لأنك لو قدرت أن العالم الذي خلقه الله مختاراً، إن شاء فعل الخير وإن شاء فعل الشر، وهو - سبحانه - زود العباد بالمنهج، وجعل لهم الاختيار، وأنه - سبحانه - هو القادر على الجمع يوم القيامة لو قدرت هذا لا متبما طلبه الله منك. ونضرب هذا المثل لا للتشبيه، ولكن للتقريب - ولله المثل الأعلى - الوالد يعطي ابنه جنيهاً ويقول له: اشتر ما تريد، ولكن لاحظ أنك إن اشتريت شيئاً مفيداً فسأكافئك، وإن اشتريت شيئاً فاسداً كأوراق اللعب أو غيرها فسأعاقبك. ساعة أعطى الوالد ابنه القوة الشرائية وقال له: انزل اشتر ما تريد، والابن ساعة اشترى أوراق اللعب. هل هذا الشراء قد تم قهراً عن أبيه؟ لا؛ لأن الأب هو من أعطاه الاختيار، لكن الابن فعل فعلاً غير محبوب لأبيه. فما بالنا بالعبد عندما يعطيه الحق الاختيار؟ ولو أراد الله الناس جميعاً على هدايةٍ لجعلهم كالملائكة، ولما جرؤ ولا قَدَرَ أحد أن يفعل معصية. فالعاصي عندما يرتكب المعصية إنما يفعلها لأن الله خلق له الاختيار. ولذلك فعندما يقول واحد: كل فعل من الله، هو صادق. ولماذا يتعذب مرتكب المعصية مع أنّه يوجه آلة الاختيار إلى ما تصلح له؟ ونقول إنّه وجهها مخالفاً لأمر الله، فالسكين للذبح، إن ذُبحت بها دجاجة لما استحق الذابح على ذلك عقاباً، لكن لو ذبحنا بها إنساناً لوقعنا في محظور يشبهه الحق بقتل الناس جميعاً. فالذي جاء بالسكين إلى المنزل هل نقول له: «أنت أتيت بأداة الجريمة» ؟ لا؛ لأنه جاء بأداة صالحة لأن تكون أداة لذبح ما يحل ذبحه أو أداة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2507 لجريمة. إذن فحتى المختار لم يفعل اختياره إلا من باطن أن الله خلقه مختاراً. لكن هل ألزمه الحق سبحانه وتعالى يفعل المعصية؟ لا، فسبحانه أوضح لك: هذا لا أحبه، وهذا أحبه. واختيارك له مجال، ولك أن تختار الشيء الذي يأتي بالنفع ولا يأتي بالضرر أو أن تختار عكس ذلك. {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} هذا خبر من الله. والكلام الخبري عندنا يحتمل الصدق والكذب لذاته، لكن لأن الخبر من الله فهو صادق. أما الكلام في ذاته فيحتمل الصدق ويحتمل الكذب، ولذلك يذيل الحق الآية بما يلي: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} وهل الصدق فيه تفاضل؟ . ليس في الصدق تفاضل، فمعنى الصدق مطابقة الكلام للواقع، فالإنسان قبل أن يتكلم وهو عاقل، يدير المسألة التي يريد الكلام فيها ليُعمل العقل فيها، وبعد هذا ينطق بالكلام. إذن ففي الكلام نسبة ذهنية، ونسبة كلامية، ونسبة واقعية، فعندما يقول واحد: «زيد مجتهد» هو قبل أن يقول ذلك جاء في ذهنه أنه مجتهد، وهذه هي «النسبة الذهنية» ، وعندما ينطقها صاحبها تكون «نسبة كلامية» ، ولكن هل صحيح أن هناك واحداً اسمه «زيد» وأنه مجتهد؟ . إن طابقت النسبة الواقعية كُلاًّ من النسبة الذهنية والنسبة الكلامية يكون الكلام صدقاً. وإن لم يكن هناك أحد اسمه زيد ولا هو «مجتهد» لا تتطابق النسبة الخارجية الواقعية مع النسبتين «الذهنية والكلامية» فيكون الكلام كذباً. فالصدق يقتضي أن تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع، أي مع النسبة الخارجية الحاصلة. ولماذا يكذب الكذاب إذن؟ . ليحقق لنفسه نفعاً يفوّته ولا يحققه الصدق في نظره أو يدفع عنه ضُرّاً. مثال ذلك: يكسر الابن شيئاً في المنزل كمنضدة. فالأب يقول لابنه: هل كسرت هذه المنضدة؟ . وينكر الابن: لا ألم أكسرها. هو يريد أن يحقق لنفسه نفعاً أو يدفع عنها ضرراً وهو الإفلات من العقاب، لأنه يعلم أن الصدق قد يسبب له عقاباً. ولا يحمله على الكذب إلا تفويت مضرة قد تصيبه من الصدق فيلجأ إلى الكذب. ويقول كلاماً يخالف الواقع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2508 إذن هو يريد أن يحقق لنفسه نفعاً أو يدفع عن نفسه ضرراً. والذي ينفع الإنسان لا بد أن يكون أقوى منه، وكذلك الذي يضرّه. لكن بالنسبة لله لا يوجد من يسبب له سبحانه نفعاً ولا ضراً. إذن فإذا قال الله فقوله الصدق؛ لأن الأسباب التي تدفع إلى الكذب هو - سبحانه - منزه عنها. وإذا كان الحق يعطينا الكلام الذي يوضح لنا واقع الحياة ويعطينا الكلام الذي لا يدخل في واقع حياتنا ويصف لنا الغيب الذي لا يدخل في نطاق ما نراه، إذن فهو يكلمنا كثيراً. فقوله الحق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} مؤكد بالنسبة لنا. وأفعل التفضيل هنا لا تأتي للتمييز بين كلام صادق وكلام أصدق، ولكن لنعرف أن كلام الله لنا كثير. فالتكثير هنا إنما يجيء من ناحية كثرة الكلام، لا من ناحية أن هناك كلاماً صادقاً وكلاماً أصدق. والتفاوت قد يوجد في الصدق أيضاً، كيف؟ . لنفرض أن إنساناً رأي حادثة يقتل فيها إنسان إنساناً آخر، فيشهد الشاهد بأنه رأى الدم ينزف من القتيل إثر التحام القاتل به، ولكن هناك شاهد آخر يروي كل التفاصيل التي بدأت من قبل المشاجرة بين القاتل والقتيل إلى أن صار هناك قاتل وقتيل. وهكذا نجد أن الشاهد الثاني أشمل في الصدق من الشاهد الأول صحيح أن الشاهد الأول قال شهادة صادقة، لكن شهادة الشاهد الثاني أشمل في القضية نفسها. إذن فقوله الحق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} أي أن الحق هو الأصدق بمعنى أنّ إخباره لنا جاء بالشمول الكامل، وهو صدق لا تفاوت فيه، فالصدق هو مطابقة النسبة الكلامية للواقع، وما دام هو كذلك فليس هناك صادق وأصدق، ولكن أفعل التفضيل تأتي في «أصدق» باعتبار أن كمية الصدق الصادرة لا حدود لها وأنّه سبحانه يعلم الأشياء على وفق ما هي عليه أي بشمول كامل. وخلقه إن حدث منهم صدق في شيء فقد يحدث منهم الكذب في شيء آخر. فقد تقول قضية تعلم أنها صدق، ولكنها في الواقع لا تكون صدقاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2509 ومثلاً؛ فقد يقول القائل: زار فلان فلاناً بالأمس. هو اعتقد ذلك لأنه رأى حجرة الاستقبال في بيت فلان مضاءة فسأل عن الزائر فقيل له: «فلان» فهو يروى خبر هذه الزيارة على وفق ما يعتقد، ولا يقال: إن القائل قد كذب. إننا يجب أن نفرق بين «الخبر» وبين «المخبر» ، كيف؟ إذا قلنا: «زيد مجتهد» ، أيوجد واحد اسمه زيد ومجتهد بالفعل؟ هذا اسمه الواقع. وهل أنت تعتقد هذا؟ . إذن فالإنسان هنا يحتاج إلى أمرين: معرفة وجود الشيء، واعتقاد الشيء، وبذلك يكون الخبر صادقاً والمخبر صادقا أيضاً. وافرض أنك أخبرت أن زيداً مجتهد بناءً على أن أحداً قد أخبرك بذلك ولكنه لم يكن كذلك، أنت هنا صادق وفق اعتقادك. لكن الخبر غير صادق في الواقع. إذن ففيه فرق بين صدق الخبر وصدق المخبر. فإذا التقى الاعتقاد بالواقع صدق الخبر وصدق المخبر. وإذا كان الخبر موافقاً للواقع ومخالفاً للاعتقاد فالخبر صادق كموقف المنافقين الذين قال الحق فيهم: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} [المنافقون: 1] هذه القضية واقعة صادقة وأعلنوا هم ذلك، ولكن الحق أضاف: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] . فالقضية صادقة ولكنهم كاذبون؛ لأنهم قالوها بلا اقتناع فكانوا كاذبين. والدقة هنا توضح الفرق بين صدق الخبر وكذب الاعتقاد. إذن فصدق المخبر أن يطابق الكلام الاعتقاد. والتكذيب واضح في قولهم: «نشهد» ؛ وليس في مقول القول وهو {لَرَسُولُهُ والله} . فالشهادة تقتضي أن يواطئ ويوافق اللسان القلب ولذلك عندما يقرأ بعض الناس القرآن دون فهم اللغة العربية. . فيفهم بالسطحية هذه الآية فهما خاطئاً: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2510 {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] . فكيف يشهد الله أنهم كاذبون، على الرغم من أنه سبحانه يعلم مثلما شهد المنافقون؟ . ونرد: إن الخبر هنا لم يكن كذباً، ولم يقل الحق ما يكذب الخبر، لكنه أوضح صدق الخبر وكذب المنافقين في شهادتهم لأنهم يظهرون غير ما يبطنون ويعتقدون، فالتكذيب منصب على شهادتهم لا على خبر أن محمداً رسول الله. {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} . إنّ المؤمن يعتقد أن يوم القيامة لا شك فيه، فيوم القيامة يجب منطقياً ألا يوجد شك فيه؛ لأنه لو كان هناك ريب لكان الذين انحرفوا في الحياة الدنيا وولغوا في أعراض الناس وأخذوا أموالهم وعاثوا في الأرض فساداً هم الذين كسبوا وفازوا، ويكون الطيبون والأخيار قد عاشوا في سذاجة. فالمنطق يقتضي أنه ما دام قد وُجد أناس قد ظلموا واعتدوا، وأناس أعتدى عليهم، فلا بد أن يكون هناك حساب. ولا يكون هناك حساب إلا إذا انتهت حكاية الموت، بالإحياء والحشر والخروج إلى لقاء الله. ودليل هذا من الجاحدين أنفسهم، كيف؟ . نحن نعرف أن المجتمعات غير المتدينة يضع قادتها القوانين التي تكفل حماية حركة المجتمع. هم يضعون مثل هذه القوانين، ومن يخالفها يتم حسابه وعقابه. فإذا كان العقاب يمنع المجاهرة بالجريمة، فماذا يكون الموقف؟ إن الماهر إذن هو من يفلح في المدارة عن عيون قادة هذا المجتمع، ويستر نفسه عنهم حتى لا يناله العقاب. إن هذه المجتمعات الملحدة تضع التقنينات لحماية نفسها، فماذا تفعل هذه المجتمعات في الذين ستروا أنفسهم؟ . هم بقانون هذه المجتمعات كان يجب أن يعاقبوا، وكان يجب أن تقولوا أنتم أن هناك مكاناً آخر وداراً أخرى يتم فيها عقاب من أفلت منا. فأنت أيها الملحد قد قننت لمن خالف تقنينك عقوبة. وهذا إن وقعت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2511 عليه عينك، وقبضت عليه يدك، فما قولك فيمن لم تقع عليه عينك ولم تقبض عليه يدك؟ . إذن فنحن أهل الإيمان عندما نقول للملحد: إننا نكمل لك تفكيرك الناقص ونقول لكل الخلق: إنكم إن عَمَّيْتُم على قضاء الأرض فلن تعَمّوا على قضاء السماء الذي لا تخفي عليه خافية. إذن فغير المؤمن بمنهج نأخذ منه الدليل على ضرورة المنهج. وعلى غير المؤمن بالمنهج أن يشكر أهل الإيمان؛ لأننا نحن أهل الإيمان قد أكملنا له نقصاً في تقنين البشر، وهذا لحماية المجتمع من الكيد بالجريمة والستر بالمخالفة. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} أي لا أحد أصدق من الله في الحديث. و «أصدق» جاءت كأفعل تفضيل لا لأن هناك صدقاً يعلوه صدق أصدق، بل الصدق واحد؛ لأنه مطابقة النسبة الكلامية للواقع، ولكن «أصدق» هنا لكثرة الحديث الذي حدثنا الله به عما نشهد من عالم الملك ومما لا نشهد من عالم الملكوت، فإن تحدث الناس فإنما يتحدثون في عالم الملك الذي يدركونه بحواسهم، ولكن الله إذا حدثنا فسبحانه يحدثنا عن عالم الملكوت أيضاً، فالله أصدق حديثاً؛ لأنه أكثر من حدّث. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2512 كل جملة سبقتها «فاء» فمن اللازم أن يكون هناك سبب ومسبب، علة ومعلول، مقدمة ونتيجة، وكل الأشياء التي تكلم الحق عنها سبحانه وتعالى فيما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2512 يتعلق بمشروعية القتال للمؤمنين ليحملوا المنهج إلى الناس، ويكون الناس - بعد سماعهم المنهج - أحراراً فيما يختارون. إذن فالقتال لم يشرع لفرض منهج، إنما شُرع ليفرض حرية اختيار المنهج، بدليل قول الحق: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256] . وعلى ذلك فالإسلام لا يفرض الدين، ولكنه جاء ليفرض حرية الاختيار في الدين، فالقُوَى التي تعوق اختيار الفرد لدينه، يقف الإسلام أمامها لترفع تسلطها عن الذين تبسط سلطانها عليهم ثم يترك الناس أحراراً يعتنقون ما يشاءون، بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام بالسيف، ظل فيها بعض القوم على دياناتهم. فلو أن القتال شُرع لفرض دين لما وجدنا في بلد مفتوح بالسيف واحداً على غير دين الإسلام. وبعد أن تكلم الحق عن القتال في مواقع متعددة من سورة النساء، وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المؤمنين عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء: 84] . شرع الحق سبحانه وتعالى قضية استفهامية هنا، فيها معنى الإنكار وفيها معنى التوبيخ وذلك شائع في كل الأساليب التي تتفق معها في القرآن الكريم. فإذا سمعت كلمة «فمالك لا تفعل كذا» ، فكأن قياس العقل يقتضي أن تفعل، والعجيب ألا تفعل. ولا يمكن أن يأتي هذا الأسلوب إلا إذا كان يستنكر أنك فعلت شيئا كان ينبغي ألا تفعله أو أنك تركت شيئا كان عليك أن تأتي به. فالأب يقول للابن مثلاً: «مالك لا تذاكر وقد قرب الامتحان؟» كأن منطق العقل يفرض على الابن إن كان قد أهمل فيما مضى من العام، فما كان يصح للابن أن يهمل قبل الامتحان، وهذا أمر بدهي بالقياس العقلي، فكأن التشريع والقرآن يخاطبان المؤمنين ألا يقبلوا على أي فعل إلا بعد ترجيح الاختيار فيه بالحجة القائمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2513 عليه، فلا يصح أن يقدم المؤمن على أي عمل بدون تفكير، ولا يصح أن يترك المؤمن أي عمل دون أن يعرف لماذا لم يعمله، فكأن أسلوب «فما لكم» ، و «فما لك» مثل قول أولاد سيدنا يعقوب: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} [يوسف: 11] . ما معنى قولهم هذا؟ معناه: أي حجة لك يا أبانا في أن تحرمنا من أن نكون مؤتمنين على يوسف نستصحبه في خروجنا. فكأن القياس عندهم أنهم إخوة، وأنهم عصبة، ولا يصح أن يخاف أبوهم على يوسف لا منهم ولا من شيء آخر يهدد يوسف؛ لأنهم جماعة كثيرة قوية. وكذلك قول الحق: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] . أي أن القياس يقتضي أن يؤمنوا. وقوله الحق: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51] . كان القياس ألا يعرضوا عن التذكرة، إذن فأسلوب «فماله» ، و «فمالك» و «فمالهم» ، و «فمالكم» كله يدل على أن عمل المؤمن يجب أن يُستقبل أولاً بترجيح ما يصنع أو بترجيح ما لا يصنع. أما أن يفعل الأفعال جزافاً بدون تفكير في حيثيات فعلها، أو في حيثيات عدم فعلها فهذا ليس عمل العاقلين. إذن فعمل العاقل أنه قبل أن يُقبل على الفعل ينظر البديلات التي يختار منها الفعل؛ فالتلميذ إن كان أمامه اللعب وأمامه الاستذكار، ويعرف أنه بعد اللعب إلى رسوب، وبعد الرسوب إلى مستقبل غير كريم، فإذا اختار الاجتهاد فهو يعرف أن بعد الاجتهاد نجاح، وبعد النجاح مستقبل كريم. فواجب التلميذ - إذن - أن يبذل قدراً من الجهد ليتفوق. وكل عمل من الأعمال يجب أن يقارنه الإنسان بالنتيجة التي يأتي بها وبترجيح الفعل الذي له فائدة على الأفعال التي لا تحقق الهدف المرجو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2514 والآية هنا تقول: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} كأن القياس يقتضي ألا نكون في نظرتنا إلى المنافقين فئتين، بل يجب أن نكون فئة واحدة. وكلمة «فئة» تعني جماعة، والجماعة تعني أفراداً قد انضم بعضهم إلى بعض على رغم اختلاف الأهواء بين هؤلاء الأفراد وعلى رغم اختلاف الآراء، إلا أنهم في الإيمان يجمعهم هوى واحد، هو هوى الدين، ولذلك قال الرسول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» . فالمسبب للاختلاف هو أن كل واحد له هوى مختلف ولا يجمعهم هوى الدين والاعتصام بحبل الله المتين. وما حكاية المنافقين وكيف انقسم المؤمنون في شأنهم ليكونوا فئتين؟ والفئة - كما عرفنا - هي الجماعة، ولكن ليس مطلق جماعة، فلا نقول عن جماعة يسيرون في الطريق لا يجمعهم هدف ولا غاية: إنهم فئة؛ فالفئة أو الطائفة هم جماعة من البشر تجتمع لهدف؛ لأن معنى «فئة» أنه يرجع ويفيء بعضهم إلى بعض في الأمر الواحد الذي يجمعهم، وكذلك معنى «الطائفة» فهم يطوفون حول شيء واحد. والحق يقول: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} . هذا لفت وتنبيه من الحق بأن ننزه عقولنا أن نكون في الأمر الواحد منقسمين إلى رأيين، وخصوصاً إذا ما كنا مجتمعين على إيمان بإله واحد ومنهج واحد. والمنافقون - كما نعرف - هم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. إننا نعرف أن كل المعنويات يؤخذ لها أسماء من الحسيات؛ لأن الإدراك الحسي هو أول وسيلة لإدراك القلب، وبعد ذلك تأتي المعاني. وعندما نأتي لكلمة «منافقين» نجد أنها مأخوذة من أمر حسي كان يشهده العرب في بيئتهم، حيث يعيش حيوان اسمه «اليربوع» مثله مثل الفأر والضب. واليربوع مشهور بالمكر والخداع، ولكي يأمن الحيوانات التي تهاجمه فإنه يبني لنفسه جحرين، أو جحورا متعددة، ويفر من الحيوان المهاجم إلى جحر ما، ويحاول الحيوان المهاجم أن ينتظره عند فوهة هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2515 الجحر، فيتركه اليربوع إلى فتحة أخرى، كأن اليربوع قد خطط وأعد لنفسه منافذ حتى يخادع، فهو يصنع فوهة يدخل فيها في الجحر، وفوهة ثانية وثالثة، وذلك حتى يخرج من أي فتحة منها، وكذلك المنافق. ونعرف أن المسائل الإيمانية أو العقدية على ثلاثة أشكال: فهناك المؤمن وهو الذي يقول بلسانه ويعتقد بقلبه وهو يحيا بملكات منسجمة تماماً. وهناك الكافر وهو الذي لا يعتقد ولا يدين بالإسلام ولا يقول لسانه غير ما يعتقد، وملكاته منسجمة أيضاً، وإن كان ينتظره جزاء كفره في الآخرة؛ فملكاته منسجمة - لكن - إلى غاية ضارة، وهي غاية الكفر. أما «المنافق» فهو الذي يعتقد الكفر وينعقد عليه قلبه لكن لسانه يقول عكس ذلك، وملكاته غير منسجمة؛ فلسانه قد قال عكس ما في قلبه؛ لذلك يحيا موزعاً وقلقاً، يريد أن يأخذ خير الإيمان وخير الكفر، هذا هو المنافق. وهناك جماعة - في تاريخ الإسلام - حينما رأوا انتصار المسلمين في غزوة بدر، قالوا لأنفسهم: «الريح في جانب المسلمين، ولا نأمن أنهم بعد انتصار بدر وقتل صناديد قريش وحصولهم على كل هذه الغنائم أن يأتوا إلينا» ، هذه الجماعة حاولت النفاق وادعت الإسلام وهم بمكة، حتى إذا دخل المسلمون مكة يكونون قد حصنوا أنفسهم. أو هم جماعة ذهبوا إلى المدينة مهاجرين، ولم يصبروا على مرارة الهجرة والحياة بعيداً عن الوطن والأهل والمال، فكروا في هذه الأمور، وأرادوا العودة عن الدين والرجوع إلى مكة، وقالوا للمؤمنين في المدينة: «نحن لنا أموال في مكة وسنذهب لاستردادها ونعود» . وبلغ المسلمون الخبر وانقسم المسلمون إلى قسمين: قسم يقول: نقاتلهم، وقسم يقول: لا نقاتلهم. الذين يقولون: «نقاتلهم» دفعهم إلى ذلك حمية الإيمان. والذين يقولون: «لا نقاتلهم» قالوا: هذه الجماعة أظهرت الإيمان، ولم نشق عن قلوبهم، وربما قالوا ذلك عطفاً عليهم لصلات أو أواصر. فجاء القرآن ليحسم مسألة انقسام المسلمين إلى قسمين، ويحسم أمر الاختلاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2516 وعندما يأتي القرآن ليحسم فهذا معناه أن رب القرآن صنع جمهور الإيمان على عينه، وساعة يرى أي خلل فيهم فسبحانه يحسم المسألة، فقال: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} . والخطاب موجه للجماعة المسلمة، فقوله: «فمالكم» يعني أنهم متوحدون على هدف واحد، وقوله: «فئتين» تفيد أنهم مختلفون. إذن ف «فئتين» تناقض الخطاب الذي بدأه الحق ب «فمالكم» ، كأن المطلوب من المتلقي للقرآن أن يقدر المعنى كالآتي: فما لكم افترقتم في المنافقين إلى فئتين؟ إذن فهذا أسلوب توبيخي وتهديدي ولا يصح أن يحدث مثل هذا الأمر، فهل ينصب هذا الكلام على كل المخاطبين؟ ننظر، هل القرآن مع من قال: «نقتل المنافقين» أو مع من قال بغير ذلك؟ فإن كان مع الفئة الأولى فهو لا يؤنب هذه الفئة بل يكرمها، إن القرآن مع هذه الفئة التي تدعو إلى قتال المنافقين وليس مع الفئة الثانية؛ لذلك فهو يؤنبها، ويوبخها. والأسلوب حين يكون توبيخاً لمن يرى رأياً، فهو تكريم لمن يرى الرأي المقابل، ويكون صاحب الرأي المكرم غير داخل في التوبيخ، لأنّ الحق أعطاه الحيثية التي ترفع رأسه. والحق يقول: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين} أي إن الحق يقول: أي حجة لكم في أن تفترقوا في أمر المنافقين إلى فئتين، والقياس يقتضي أن تدرسوا المسألة دراسة عقلية، دراسة إيمانية لتنتهوا إلى أنه يجب أن تكونوا على رأي واحد، ومعنى الإنكار هو: لا حجة لكم أيها المؤمنون في أن تنقسموا إلى فئتين. ويقول الحق: {والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} وساعة تسمع كلمة «أركسهم» ماذا نستفيد منها حتى ولو لم نعرف معنى الكلمة؟ نستفيد أن الحق قد وضعهم في منزلة غير لائقة. ونشعر أن الأسلوب دل على نكسهم وجعل مقدمهم مؤخرهم أي أنهم انقلبوا حتى ولو لم نفهم المادة المأخوذة منها الكلمة، وهذا من إيحاءات الأسلوب القرآني، إيحاءات اللفظ، وانسجامات حروفه. {والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} و {أَرْكَسَهُمْ} مأخوذة من «ركسهم» ومعناها « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2517 ردهم» . كأنهم كانوا على شيء ثم تركوه ثم ردهم الله إلى الشيء الأول، وهم كانوا كفاراً أولاً، ثم آمنوا، ثم أركسهم، لكن هل الله أركسهم تعنتاً عليهم أو قهراً؟ لا؛ فهذا حدث {بِمَا كسبوا} ، وذلك حتى لا يدخل أحد بنا في متاهة السؤال ولماذا يعاقبهم الله ويوبخهم ما دام هو سبحانه الذي فعل فيهم هذا؛ لذلك قال لنا الحق: إنه {أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} . و {أَرْكَسَهُمْ} مادته مأخوذة من شيء اسمه «الركس» - بفتح الراء - وهو رد الشيء مقلوبا ومنه «الرِّكس» بكسر الراء وهو الرجيع الذي يرجع من معدة الإنسان قبل أن يتمثل الطعام. مثلما نقول: «إن فلاناً غمت نفسه عليه» أو «فلان يرجع ما في بطنه» . وعندما ننظر إلى هذه العملية نجد أن الطعام الذي يشتهيه الإنسان ويحبه ويقبل عليه ويأكله بلذة، وتنظر عيونه إليه باشتهاء، ويده تقطع الطعام بلذة ويمضغ الطعام بلذة، هذا الطعام بمجرد مضغة مع بعضه ينزل في المعدة وتضاف إليه العصارات المهضمه، فإذا رجع فإنه في هذه الحالة يكون غير مقبول الرائحة، بل إن الإنسان لو هضم الطعام وأخذ منه المفيد وأخرج البافي بعد ذلك، فرائحة الفضلات الطبيعية ليست أسوأ من رائحة الطعام لو رجع بدون تمثيل. فلو رأيت إنساناً يقضي حاجة وآخر يتقيأ الطعام، فالنفس تتقزز من الذي يتقيأ أكثر مما تتقزز من الذي يقضي حاجته؛ لأن «الترجيع» يخرج طعاماً خرج من شهوة المضغ والاستمتاع. ولم يصل إلى مسألة التمثيل. ولذلك نسمع المثل «كل ما فات اللسان صار نتان» . و «الرِّكس» هو الرجيع الذي يرجعه الإنسان بعد الطعام قبل أن يتمثله. فالطعام بعد أن يتمثل ويخرج من المكان المخصص له يصبح روثاً، وغائطاً وبرازاً. والحق سبحانه وتعالى قد جاء بالكلمة التي تصفهم: {والله أَرْكَسَهُمْ} أي أنهم ارتدوا من قبل أن ينتفعوا بأي شيء من الإيمان. هذا هو التعبير القرآني الذي جاء بالعبارة التي تؤدي هذا المعنى، وتؤدي إلى نفرتنا منهم، فيكون الإركاس هو الرد، وهل هو مطلق الرد، أو رد له كيفية؟ هو رد بإهانة أيضاً، كيف؟ لأن الشيء إن كان قوامه أن يقف رأسياً، يكون الركس أن تجعل رأسه في مكان قدمه وقدمه في مكان رأسه. وعلى ذلك فالرد ليس رداً عادياً بل إنّه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2518 رد جعل المردود هُزُواً. وإن كانت استقامة الأمر على الامتداد الطولي، يكون الركس بأن تأتي بما في الخلف إلى الأمام، وبما في الأمام إلى الخلف، فتقلب له كيانه، وتعكس حاله. والقرآن يصف الكافرين والمنافقين: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65] . لماذا، لأن الرأس مبنيٌ على القامة والهامة والارتفاع. هذا الرأس يُجْعلُ مكان القدم، والقدم يكون محل الرأس. إذن فقوله: {والله أَرْكَسَهُمْ} أي لم يردهم مطلق الرد، بل ردّهم ردا مهيناً، ردّاً يقلب أوضاعهم. {والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} إذن فلا يقولن أحد: ما دام الله قد أركسهم فما ذنبهم؟ إن الله قد أركسهم {بِمَا كسبوا} ، فهم كانوا فاعلين لا منفعلين. وإليكم هذا المثل - ولله المثل الأعلى - حين تضع المدرسة أو الجامعة درجات للنجاح في كل مادة. تجد مادة يجب أن يحصل الطالب فيها على نسبة ستين في المائة. وأخرى على سبعين في المائة، ويدخل التلاميذ الامتحان، وعندما يرسب أحدهم لا يقال: إن المدرسة قد جعلته يرسب، صحيح هي أرسبته ولكن وفق القوانين التي وضعتها المدرسة أو الجامعة من قبل أن يدخل التلميذ الامتحان، ولأنه لم يبذل الجهد الكافي للنجاح، فقد أرسب نفسه. إذن، فالله لم يأت بالرّكس ورماه عليهم. بل هم الذين كسبوا كسباً جعل قضية السنة الكونية هي التي تؤدي بهم إلى الركس، مثلهم مثل التلميذ الذي لم يستذكر فلم يُجب في الامتحان، فلا يقال عن هذا التلميذ: إن المدرسة أرسبته. ولكنه هو الذي أرسب نفسه. ولذلك عندما يقال: الله هو الذي أضلهم، فما ذنبهم؟ هذه هي القضية التي يقول بها المسرفون على أنفسهم. ولهؤلاء نقول هذه الآية: {والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} وكذلك أضل الله الضالين بفعلهم، كيف؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2519 نحن عرفنا أن الهداية تأتي بمعنيين، هداية الدلالة وهداية المعونة، ويأتي المسرفون على أنفسهم الذين يودون أن تكون قضية الدين كاذبة - والعياذ بالله - لأن قضية الدين عندما تكون صدقاً فإن الذين أسرفوا على أنفسهم يتيقنون أنهم ذاهبون إلى داهية وأمر منكر شاق عليهم؛ لذلك نجد الواحد منهم يتمحك في محاولة عدم التصديق، والدخول إلى متاهات يصنعها الفهم السطحي للدين. ولذلك نجد المناقشات التي يناقشونها تدل على أنها مناقشات المسرف على نفسه، فيقول الواحد منهم: ما دام الله هو الذي كتب عليّ كل شيء فلماذا يعذبني وهو الذي كتب عليّ المعاصي؟ نقول له: ولماذا آمنت في هذا الموقف بالذات أن الله هو الذي كتب؟ وما دمت قد آمنت بأن الله هو الذي كتب فلماذا لا تؤمن به وترتضي أحكام منهجه؟ . ولكن الواحد منهم يحاول أن يقف وقفة ليست عقلية، فالوقفة العقلية الصحيحة تقتضي أن تأتي بالقضية المقابلة وهي أن الله إذا كان قد كتب على العبد الطاعة فلماذا يثيبه؟ . لماذا تناسي قضية الطاعة والثواب عليها؟؛ لأنه يعرف أنها القضية التي تجلب الخير، ووقف في القضية المقابلة التي تأتي بالشرّ، ولا يقول هذا القول إلا مسرف على نفسه. ولا نرى ملتزماً بمنهج الإيمان يقول مثل هذه القضية، فالمؤمن يحب أن تسير الأمور على ضوء منهج الله، ولذلك أنا إلى الآن - وليسامِحْني الله وليغفر لي - أتعجب من أن العلماء الذين سبقونا جعلوا من هذه المسألة محل خلاف. وقالوا: معتزلة وأهل سنة (!!) . المسألة كلها يجب أن تفهم على أساس أن الإسلام دين فطرة؛ ولم يأت للفلاسفة فقط، إنّه جاء للعقل الفطري، ورَاعى الشاة في الإسلام كالفيلسوف، ومن يكنس الشارع أو يمسح الأحذية مساوٍ لمن درس الفلسفة أو الحقوق؛ لأن الإيمان لم يأت لطائفة خاصة، ولكن المنهج قد جاء للجميع، ولا بد أن تكون أدلته واضحة للجميع، فعندما يقال لنا: إن الله يعلم كل شيء فيك، لا يدخل معك في متاهة، هو - سبحانه - يقول لك: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2520 فالذي صنع الكرسي - ولله المثل الأعلى - ألا يعرف أن الكرسي مصنوع من الخشب، ونوع الخشب «زان» أو «أرو» أو «مجنة» ، وأن المسمار الذي يربط الجزء بالجزء إما مسمار صلب وإما من معدن آخر، وكذلك يعلم صانع الكرسي أي صنف من الغراء استعمل في لصق أجزاء الكرسي، وكذلك مواد الدهان التي تم دهن الكرسي بها. إذن فقول الحق: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} لا يحتاج إلى جدال ولذلك نجد النَّجار الذي يرغب أن تكون صنعته مكشوفة واضحة يقول للمشتري: سوف أصنع الكرسي من خشب الزان وعليك أن تمر يومياً لترى مراحل فعله. ويبدأ صناعة الكرسي مرحلة مرحلة تحت إشراف الزَّبون. وكذلك يعرف البدوي كيف يتكون الرحل. وهو ما يوضع على ظهر البعير للركوب، العربي يعرف كيف يتكون الفسطاط وهو بيت يتخذ من الشَّعْرِ. وقد جاء سبحانه بما يدحض أي جدل، وبدون الدخول في أية مهاترات أو مناقشات لها مقدمات ونتائج ومقدم وتال. جاء الحق بهذا القول الفصل: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14] . هو يعلم وهذا أمر سهل عليه، ولذلك أتعجب كيف أدخل هؤلاء العلماء هذه المسألة في متاهة فلسفية، فالإسلام دين الفطرة. ولذلك نجد العلماء الذين ناقشوا هذه المسألة - جزاهم الله خيراً - جاءوا في آخر مطافهم، وقالوا: نهاية إقدام العقول عِقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قِيلَ وقالوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2521 وأنا أريد أن أعرف ماذا قدمت الفلسفة النظرية للدنيا من خير؟ . لقد انفصلت عنها الفسلفة المادية ودخلت المعمل وأخرجوا لنا الابتكارات التي انتفع بها الخلق، فماذا فعلت الفلسفة النظرية؟ . لا شيء. ونقول: جاء الإسلام بالعقيدة الفطرية، ومعنى العقيدة الفطرية أن الناس فيها سواء، فالأدلة العقلية تقتضي الوضوح لمن تَعَلَّم ولمن لم يتعلم. والفلاسفة هم الذين قالوا: بأدلة الغاية وأدلة العناية وأدلة القصد. لكن البدوي الذي سار في الصحراء وجد بعر البعير ووجد الرمل وعليه أثر قدم، فقال: إذا كانت البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟ . هو لم يدخل في فلسفة أو متاهة مثلما دخل الفلاسفة مع بعضهم في متاهات عقلية وحلها البدوي في جملة واحدة. وكذلك نجد واحداً من الناس يسأل واحداً من أهل الإشراق: ألا تشتاق إلى الله؟ . فيقول له: إنّما يُشتاق إلى غائب، ومتى غاب الله حتى يشتاق إليه؟! لذلك نقول لمن اختلفوا في أمر رد الله لهؤلاء: نريد أن نكرم عقولكم وننظر لماذا اختلفتم في هذه الحكاية {أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} . نقول مع حسن الظن بهم، إن كل واحد منهم تعصب لصفة من صفات الحق، فواحد منهم يقول: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فنقول له: أنت قد تعصبت لصفة القدرة وطلاقتها في الحق. وجاء ثانٍ وقال: ولكن الله عادل. ولا يمكن أن يخلق في الكافر كفره ثم يعذبه عليه. إنّه متعصب لصفة العدل. وكل منهما ذاهب إلى صفة واحدة من صفات الحق. وتناسي الاثنان أن هذه الصفات إنما هي لذاته - تعالى - فسبحانه قادر وعادل معاً. فلا هذه تفلت منه ولا تلك. ونقول لمن يقول: إنه الله خالق كل شيء وخالق كل فعل. ما الفعل؟ . الفعل هو توجيه جارحة لإحداث حدث، فالذي يمسح وجهه بيديه يوجه يديه لوجهه حتى يمسحه، وهذ الفعل لا يفعله صاحب الفعل، ودليلنا على ذلك الإنسان الآلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2522 نضغط على أكثر من زر ليتحقق هذا الفعل، هذا الإنسان الآلي حتى يتحرك حركة واحدة لا بد من ضغط وتحريك عدد آخر من القوى، لكن الإنسان حتى يمسح وجهه بيديه اكتفى بأنه بمجرد أن أراد مسح الوجه باليد مسح الوجه. فهل أمسك من يمسح وجهه بشيء وضغط عليه ليمسح وجهه؟ إنه بمجرد أن أراد فعَل. وسائق جرافة التراب يحرك عدداً من الأذرع الحديدية حتى يحرك الجرافة إلى أسفل، ثم حركة أخرى ليفتح كباشة التراب، وحركة تقبض أسنان الكباشة وحركة أخرى ترفع التراب، كل ذلك من أجل أن يرفع التراب من مكان ما إلى مكان آخر، والواحد منا بمجرد أن يريد أن يمسح وجهه فهو يمسح وجه ولا يعرف أي عضلات تحركت، فمن الذي فعل كل ذلك؟ . إنه الله. فيا من تتعصب لصفة القدرة. فالله هو الذي فعل والعبد هو الذي وجه الطاقة التي تنفعل بالله. فإذا كانت إلى غير مراد الله يصير العبد عاصياً، وإن وجهها إلى مراد الله فيكون طائعاً، ويكون له الكسب فقط، فالذي يقتل واحداً، هو لم يقتله؛ لأنه لم يقل له: «كن قتيلاً» فيكون قتيلاً، ولكن القاتل يأتي بسكين أو سيف أو مسدس ويرتكب فعل القتل. فأداة القتل هي التي قامت بالفعل، والقاتل إنما أخذ الآلة الصالحة لفعل ما ولغيره، فوجهها لذلك الفعل. فيا من تريد العدل، إن الله يعذب على المعصية؛ لأن الإنسان استعمل أداة مخلوقة للفعل ولعدمه، فجعلها تؤدي فعلاً غير مرادٍ لله أي لا يرضى عنه الله ولا يحبه، ومع ذلك فالله هو الفاعل لكل شيء. ونعود إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} وما دام هو سبحانه الذي أركسهم بما كسبوا، وأنتم مؤمنون بالله فلا بد أن يكون الرأي فيهم واحداً؛ لذلك يتساءل الحق: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله} ؟ وسبحانه لا يريد أن يقدم لهم العذر، إنما يريد أن يظهر لهم هدايته سبحانه وهي هداية لا تتأتى لهم؛ لأنه قد أضلهم فأنَّى لهم الهداية. فلماذا يقف جانب من المؤمنين في صفهم؟ . لأن الله حين يهدي فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء بوضع القوانين الموضحة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2523 للهداية أو الضلال. ونحن إن سمعنا «أن الله هدى» نفهمها على معنيين؛ المعنى الأول أنه «دل» ، والمعنى الثاني أنه «أعان ومكّن» . ف «هدى» تكون بمعنى «دل» ، وهدى تكون بمعنى «أعان» . وسبق أن قلنا: إذا كان هناك إنسان يمشي في الطريق ويريد الاتجاه إلى الإسكندرية وهو لا يعرف الطريق الموصل. فيسأل شرطي المرور فيشير الشرطي: هذا هو الطريق الموصل إلى الإسكندرية. إنَّ الشرطي هدى هذا الإنسان ودله على الطريق، لكنه لم يحمل الإنسان على أن يسير في الطريق، فإذا ما صدّق المسافر قول الشرطي وقال له: إنني أشكرك وأكثر الله من خيرك والحمد لله أنني وجدتك، فلولا وجودك لتعبت، هنا يقول الشرطي: أنت رجل طيب والطريق إلى الإسكندرية به «مطب» وعقبه، سأركب معك حتى أدلك على مكان هذه العقبة. وبذلك يتجاوز الشرطي مرحلة «الدلالة» إلى مرحلة «المعونة» وسبحانه أوضح: سأهدي الناس جميعاً وأرشدهم وأدلهم، فالذي يقبل على الإيمان بي سأعاونه على ذلك. ولذلك يقول: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] . و «هديناهم» هنا بمعن «دللناهم» فقط، أما أن يسلكوا سبل الهداية أو لا فالأمر متروك لهم. والهداية - إذن - ترد بمعنى الدلالة، وترد بمعنى الإعانة. والحق يعين من؟ . يعين من آمن به ولكن من يكفر به لا يعينه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37] . وكذلك: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 24] . إذن فلله هدايتان: هداية عم الناس بها جميعاً وهي هداية الدلالة، وأخرى خص بها من جاءه مؤمناً به، وهي هداية «المعونة» . ولذلك قال الحق للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2524 {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] . وهذا القول فيه نفي الهداية عن الرسول، وهو سبحانه القائل أيضاً: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . وليس من المعقول أن ينفي الحق الهداية عن الرسول ثم يثبتها له. ونفهم من ذلك: إنك يا رسول الله تدل على الحق، ولكنك لا تعين عليه. فالله هدى الناس جميعاً فدلهم على طريق الخير. فمن آمن به وأقبل عليه يسر له الأمر. وبذلك نكون قد عرفنا تماماً معنى قوله الحق: {والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} . فالذي يضله الله هو من اكتسب ما يوجب أن يضله فلا تجد له سبيلاً. وكان من الممكن أن يقول الله: أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلا تستطيعون أن تهدوه، ولكن الأبلغ هو ما يوضحه سبحانه لنا: أنتم لا تستطيعون هداية هذا المكتسب للضلال؛ ذلك أنه لا يوجد سبيل حتى تهدوه إليه. فالسبيل هو الممتنع وليس الهداية فقط. والسبيل هو الطريق الذي يعطيك حقاً في الهداية، فإذا ما امتنع السبيل فماذا تفعل؟ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً في أن ينقض هذا القرار، أي لا حجة له على الإطلاق. ولذلك أخذنا المعنيين هنا، فالذين ينافقون يظهرون الإيمان مرة وينقلبون إلى الكفر مرة، هم ينكرون الإيمان بقلوبهم والذي يقولون بألسنتهم هو الإسلام، أمّا الإيمان فلمَّا يدخل في قلوبهم. وما هو الأعز على النفس البشرية؟ مكنونات القلب أم مقولة اللسان؟ الأعز هو مكنونات القلب. وما داموا هم لا يؤمنون بقلوبهم ويقولون فقط بألسنتهم، فالعقيدة داخلهم معقودة على الكفر، وما دامت العقيدة معقودة على الكفر فهم لا يريدون أن يأتوا إلى صف الإيمان، ولكنهم يريدون جر المؤمنين إلى معسكر الكفر؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2525 {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2526 و {وَدُّواْ} ضميرها يعود على المنافقين الذين اختلف فيهم المسلمون إلى فئتين، وحكم الله في صالح الفئة التي أرادت أن تقف منهم موقف القوة والبطش والجبروت، فقال سبحانه وتعالى تعليلاً لنفاقهم: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} ثم إن تفاقهم معناه قلق يصيبهم من مستوى حالهم مع مستقبل الإسلام أو حاضره؛ لأنهم كافرون بقلوبهم، ولكنهم يخافون أن يظهر الإسلام فيعاملهم معاملة الكافرين به، فيحاولون أن يظهروا أنهم مسلمون ليحتاطوا لنصرة الإسلام وذيوعه، فهم في كرب وتعب، وهذا التعب يجعلهم يديرون كثيراً من الأفكار في رءوسهم: يقولون نعلن أمام المسلمين أننا مسلمون، ونعلن أمام الكافرين أننا كافرون. وما الذي ألجأهم إلى هذا الحال، وقد كانوا قديماً على وتيرة واحدة، ألسنتهم مع قلوبهم قبل أن يجيء الإسلام؟ إذن فالذي يعيدهم إلى حالة الاستقرار النفسي وينزعهم من القلق والاضطراب والخوف على حاضرهم ومستقبلهم هو أن تنتهي قضية الإسلام، فلا يكون هناك مسلمون وكافرون ومنافقون. بل يصير الكل كافراً. {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} والودادة عمل القلب، وعمل القلب تخضع له جميع الجوارح إن قدرت، فما داموا يودون أن يكون المسلمون كافرين، إذن سيقفون في سبيل انتصار المسلمين، وسيضعون العقبات التي تحقق مطلوبات قلوبهم. لذلك فاحذروهم، سأفضح لكم أمرهم لتكونوا على بينة من كل تصرفاتهم وخائنات أعينهم وخائنات ألسنتهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2526 {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} ونعرف أن كلمة «الكفر» تعني «الستر» ، فالفعل «كفر» معناه «ستر» . ومن عظمة الإيمان بالإسلام وعظمة الحق في ذاته هو أنه لا يمكن أبداً أن يطمسه خصومه، فاللفظ الذي جاء ليحدد المضاد لله هو عينه دليل على الإيمان بالله. فعندما نقول: «كفر بالله» أي «ستر وجوده» ، كأنه قبل أن يستر الوجود فالوجود موجود، ولذلك نجد أن لفظ «الكفر» نفسه دليل على الإيمان، فلفظ «الكفر» في ذاته تعني إيماناً موجودا يجاهد صاحبه نفسه أن يغطيه ويستره. {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} . وهذا القول جاء بعد أن قال الحق: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] . ويدل على أنهم يوصفون مرة بالمنافقين ويوصفون مرة بالكافرين. وسماهم الله في آية ب «المنافقين» ويصفهم الحق في هذه الآية بأنهم كفروا {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} والكفر الذي يجيء وصفه هنا يدل على مكنون القلب، فالنفاق لم يعطهم إلا ظاهريات الإسلام، لكن الباطنيات لم يأخذوها، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار في الآخرة؛ وإن كانوا في الدنيا يعاملون معاملة المسلمين احتراماً لكلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» . لكن الله يعاملهم في الآخرة معاملة الكافرين، ويزيد عليها أنهم في الدرك الأسفل من النار. إذن فأصحاب الباطل إن كانت لهم قوة يجعلون لسانهم مع قلوبهم في الجهر بالباطل، وإن كان عندهم ضعف يجعلون قلوبهم للباطل ولسانهم للحق. وهذه العملية ليست مريحة في كلا الموقعين. فالمريح لهم ألاَّ توجد للحق طائفة. لذلك يقول سبحانه وصفاً لحقيقة مشاعرهم: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً} . فهم يتمنون إزالة طائفة الحق حتى لا يكون هناك أحد أفضل من أحد، مثلما نقول: مفيش حد أحسن من حد. مثال ذلك: نجد مجموعة من الموظفين في مصلحة حكومية، ويكون في بينهم واحد مختلس أو لا يؤدي عمله على الشكل الراقي المطلوب، لذلك فهو لا يحب أن يؤدي الآخرون أعمالهم بمنتهى الإتقان، ويريدهم فاسدين، ويحاول أن يغريهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2527 بالفساد حتى يكونوا مثله؛ كي لا يظهره أمام نفسه بمظهر النقيصة. وحتى لا يكون مكسور العين أمامهم. ومن العجيب أننا نجد الذي يسرق يحترم الأمين، وكثيرا ما نسمع عن لص من فور ما يعلم أن هناك كميناً ينتظره ليقبض عليه فهو يبحث عن رجل أمين يضع عنده المسروقات كأمانة. وقول الحق عن أمنية المنافقين الكافرين بقلوبهم هو أن يكون المؤمنون مثلهم {فَتَكُونُونَ سَوَآءً} . وهذه شهادة في أن صاحب الباطل يحب من صاحب الحق أن يكون معه؛ لأنه حين يجده في الحق، فصاحب الباطل يحتقر نفسه، وقد حدثت العجائب مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد كفروا به وعذبوا صحابته، ولكنه هو الأمين باعترافهم جميعاً. فها هوذا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يهاجر من مكة وخلف «عليا» كرم الله وجهه ليرد الودائع والأمانات التي عنده. هم كذبوه في الرسالة، ولكنه الأمين باعترافهم جميعاً؛ لذلك أودعوا عنده الأمانات. إذن فصاحب الفضيلة محترم حتى عند صاحب الرذيلة. وحتى نتعرف تماماً على هذا المعنى، فلنفترض أن إنساناً وقع في مشكلة، سبّ أحداً من الناس ورفع المعتدي عليه دعوى فضائية على هذا المعتدي الذي سبّه، ولهذا المعتدي صديق عزيز، استشهد به المعتدي عليه، فيقول المعتدي: أتشهد عليّ؟ ويذهب الصديق إلى المحكمة ليقول: «لا يقول صديقي مثل هذا السباب» . وهنا شهد الصديق لصديقه شهادة زور. ولنفترض أن هذا المعتدي قد تاب وأناب وصار من الأتقياء، وجعله الناس حكما بينهم، وجاء له الصديق الذي شهد الزور من أجله ليشهد أمامه، فهل يقبل شهادته؟ طبعا لا. إذن صاحب الفضيلة محترم حتى عند صاحب الرذيلة، فإذا ما حاول أحد من أصحاب الرذيلة أن يشد صاحب الفضيلة إلى خطأ، فهو يسعى إلى إضلاله، وينطبق على ذلك قول الحق: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً} وما دام هذا هو هدفهم وفكرتهم ألا يتركوا المؤمنين على إيمانهم، لأجل أن يأخذوهم إلى صف الكفر. وهم بذلك كمنافقين كفار قلوب غير مخلصين لصف الإيمان. وهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2528 لا يقفون من الإيمان موقف الحياد، ولكنهم يقفون منه موقف العناد والعداوة. {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً} وفي هذا تحذير واضح للمؤمنين هو: إياكم أن تأمنوهم على شيء يتعلق بمصالحكم وإيمانكم. ويصدر الحق الحكم في هذه القضية بمنتهى الوضوح: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ} أي إياكم أن تتخذوا من المنافقين نصراء لكم أو أهل مشورة؛ لأن الله سبحانه فضح لكم دخائل نفوسهم، وهذه المسألة ليست ضربة لازب، فإن آب الواحد منهم وأناب ورجع إلى حظيرة الإيمان فلن يرده الله، فسبحانه وتعالى لا يضطهد أحداً لمجرد أنه ارتكب الذنب؛ لأنه الحق غفور ورحيم، فما دام قد عاد الإنسان إلى الصواب وبَعُد عن الخطأ، فعلى المؤمنين أن يقبلوا من يعود إليهم بإخلاص، فالكراهية لا تنعقد ضد أحد لأنه أخطأ؛ لأن الكراهية تكون للعمل الخطأ، وليست موجهة ضد الإنسان المخلوق لله، فإن أقلعوا عن الخطأ؛ فهم مقبولون من المؤمنين. وها هوذا قاتل زيد بن الخطاب يمر أمام عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال له بعض الناس ها هوذا قاتل أخيك زيد. فيقول عمر بن الخطاب: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟! وهكذا نرى أن الكراهية لم تتعد إلى ذات القاتل، ولكن الكره يكون للفعل، فإن أقلعت الذات عن الفعل فالذات لها مكانتها. وهكذا يصدر الحكم الرباني: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} . والهجرة في سبيل الله كانت تكلف الإنسان أن يخرج من ماله ومن وطنه ومن أهله، ويذهب إلى حياة التقشف والتعب والمشقة، وفي هذا ما يكفر عنه، ويتعرف المؤمنون هنا أنه قد تاب إلى الله فتاب الله عليه وآن له الأوان أن يدخل في حوزة الإيمان. فإن فعل ذلك فقد عاد إلى الإيمان. ولذلك يجب على الناس أن يفصْلوا الذوات عن الأفعال. لماذا؟ لأن الذوات في ذاتها لا تستحق أن تكره، وإنما يكره فعل الذات إن كان قبيحا سيئا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2529 وحين نقرأ القرآن نجده يعرض مثل هذه المسألة، فسيدنا نوح عليه السلام عندما تلقى وحي الله بأن يصنع السفينة، وجلس يصنعها ويمر عليه الناس فيسخرون منه فيقول لهم سيدنا نوح: سنسخر منكم غداً كما تسخرون منا. ويأتي له ابن ليس على منهجه، فيدعوه نوح إلى المنهج فيقول الابن: «لا» . ويركب نوح السفينة ويقول لله: لقد وعدتني أن تنجيني أنا وأهلي. وهنا يوضح الحق: صحيح أنا أنجيك أنت وأهلك، ولكن ما الذي جعلك تعتبر ابنك من أهلك، إن الذوات عند الأنبياء لا نسب لها، إنما نسب الأنبياء الأعمال: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] . إن العمل هو الذي يتم تقييمه. ولذلك يقول الحق: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} والهجرة من «هجر» ، و «هجر» يعني أن الإنسان قد عدل من مكان إلى مكان، أو عن ود إلى ود، أو عن خصلة إلى خصلة، والذي يَهجر عادة يتجنى على من «هُجر» ، لنلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في كتابه عندما يأتي بالحدث. يأتي ب «هاجر» ، ولم يأت بالحادث «هجر» ، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يهجر مكة. ولكنه هاجر منها، ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «والله إنك لأحب أرض الله إليّ وإنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» . فالهجرة جاءت؛ لأن أهل مكة هجروه أولاً، فاضطر أن يهاجر. و «هاجر» على وزن «فاعل» . والمتنبي يقول: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون همو ولذلك جاء الحق بالهجرة على صيغة المفاعلة. لقد كرهوا دعوته. واستجاب الرسول للكراهية فهاجر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2530 ويوضح سبحانه أن الذي يخلص هؤلاء المنافقين من حكمنا عليهم، ألا يتخذ المؤمنون منهم أولياء هو: أن يهاجروا في سبيل الله؛ لأن ذلك هو حيثية صدق الإيمان. فالمهاجر يحيا عيشة صعبة. وقد عاش المهاجرون على فيض الله من خير الأنصار، ولم يؤسسوا حياتهم بشكل لائق. إذن فمن ينضم إلى ذلك الموكب هو مؤمن اشترى الإيمان وقدر على أن يكفِّر عما بدر منه. فليست الهجرة مجرد هجرة، ولكنها هجرة في سبيل الله. ولذلك نرى القاعدة الإيمانية في الحديث النبوي: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمريء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله. . فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» . وهكذا يعامل المؤمنون المنافق إن عاد من كفره ونفاقه إلى الإيمان. لكن ماذا لو تولّى المنافقون؟ . {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} والأخذ إذا جاء في مقام النزاع فمعناه الأسر. وقتلهم في ساحة أمر واجب، ولا يصح أن يتخذهم المؤمنون أولياء أو نصراء؛ لأن الواحد من المنافقين يكون دسيسة على المؤمنين، ويحاول أن يعرف أمور وأحوال المسلمين، ويطلع خصوم الإسلام على ما يمكن أن ينفذ منه العدو إلى المسلمين. ويستميت ليعرف ما يبيت المسلمون للكافرين. واتخاذ الولي أو النصير ممن نعلم أنه لا يحب الإيمان وليس على مبدأ الإسلام وعقيدته أمر يشكك في صدق بصيرة الإنسان الذي يتولى ويود غير المسلمين المخلصين. فحين يرى الواحد منا إنساناً آخر لا يحبه ويكيد المكائد، وعندما يراك تثق فيه وتحسن إليه، يقول هذا الكاره: هذا إنسان فاقد البصيرة فلو عرف ما في قلبي لما فعل ذلك. فإذا اتخذ المؤمنون من المنافقين أولياء أو نصراء والمنافقون على ما هم عليه من نفاق لقال المنافقون: إن المسلمين فاقدوا البصيرة وهم لا يعلمون ما في قلوبنا، لذلك ينير الحق بصيرة المؤمنين حتى لا نأخذ رأياً من المنافقين ينال منا. وقد يقول المنافقون: إن هؤلاء المسلمين ليس لهم ربٌّ يبصرهم، فلماذا يدعون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2531 أن لهم إلهاً؟ لو كان لهم إله لبصرهم بما في نفوسنا. ونجد هذا الفضح لهم عندما يقول الحق: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] . وعدم تعذيب الحق له وقت كفرهم له فائدة ورحمة سديركونها فيما بعد. فمِن هؤلاء مَن سيكون سيفاً للإسلام بعد أن كان سيفاً على الإسلام؛ فقد ادخرهم الله ليكون بعض منهم سيفاً للإسلام، فها هو ذا ابن الوليد يهتدي، وها هو ذا عمرو بن العاص، وها هو ذا عكرمة بن أبي جهل، هؤلاء سيكونون سيوفاً للإسلام، ولا يظنن منهم أحد أنه سترَ مكنونَ نفِسه عن الله: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] . هذا القول قد أدى أمرين: الأمر الأول: وضح أن هناك رباً مطلعاً على خائنة الأعين وخفايا الصدور. والأمر الثاني: أوضح أن الله لم يعذبهم لأن منهم من سيمس الإيمان قلوبهم وسيكونون سيوفاً للإسلام وسيخرج من ذريتهم قادة يحملون الدعوة لله. ولذلك نجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد جاء جبريل وقال له: «إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمرهُ بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ثم قال يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربّك إليك ليأمرني بأمرك مما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» . وقد حدث ذلك. إن أسلوب معاملة المنافقين يحدده الله في هذه الآية بما يلي: هم قومٌ الكفر يسكن القلب منهم ومظهرهم يَدَّعي الإسلام ويتمنون أن يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2532 المؤمنون على شاكلتهم، فلذلك لا يتخذ المسلم وليا من المنافقين ولا نصيراً. ولكن إن هاجر المنافق فرحابة الإيمان تتسع له، أما إن تولّى المنافق وأعرض عن ذلك. فأسلوب المعاملة يكون كما يحدده الله: {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} لكن بعد أن يُطلق هذا الأمر توجد عقبة في تنفيذه، إنها عقبة الأحلاف والعهود والمواثيق التي كان يعطيها رسول الله لبعض القبائل، وكانت هذه العهود تتلخص في أن الرسول يعاهد بعض القبائل بعدم الإغارة على المسلمين وعدم إغارة المسلمين عليهم. ولذلك يحترم الحق هذه المواثيق والأحلاف. إن الحق يوضح لنا: لا تأخذوا هذا الأمر أيها المسلمون على إطلاقه؛ لأن الإسلام دين الوفاء بالعهود، وقد أعطيتم بعض القبائل عهوداً بأن من لجأ إليهم يؤمنونه ويدخل في حمايتهم، وكذلك الذي يصل ويلجأ إلى المسلمين فعليهم حفظه ومنع التسلط عليه. لذلك قال الحق في هذا الاستثناء: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2533 والآية تبدأ باستدراك حتى لا تفتح مجالاً لإغضاب من كان للإسلام تعاهد معهم وتعاقد، فالذين يصلون ويلجأون إلى قوم بينهم وبين المسلمين تحالف أو ميثاق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2533 لا ينطبق عليهم ما جاء في الآية السابقة وهو الأخذ والقتل. مثال ذلك ما حدث من عهد بين المسلمين وهلال بن عويمر الأسلمي على ألاّ يعينوه ولا يعينوا عليه وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله الجوار مثل الذي لهلال. والاستثناء يشمل أيضاً من جاءوا إلى المسلمين، فمن ذهب من المنافقين إلى من عاهده المسلمون فهو يحصل على الأمان، وكذلك يُؤَمِّنُ الرسول من جاءه من المنافقين وقال من الأسباب ما يجعله يطلب حماية الرسول والإسلام: فعلى الرغم من نفاقة يؤمنه الإسلام. {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} كأن يقول الواحد منهم: أنا لا أقدر أن أقاتلكم، ولا أقدر أن أقاتل قومي فاغفر لي هذا واقبلني معكم. هؤلاء يقبلهم الرسول لأنهم أقروا بما هم فيه من ضيق، فهم لا يستطيعون التصرف لا أمام المسلمين فيعلنون الإيمان، ولا أمام الكافرين فيعملون في معسكر الكفر. ولا يستطيعون أن يتخذوا موقفاً حاسماً حازماً بين المسلمين والكافرين، فهم يقرِّون بضعفهم، ويعترفون به. {وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} . فما الذي يجعلهم يلوذون إلى قوم يتحالفون مع المسلمين بميثاق حتى يحتموا فيهم؟ أو يقرون أن صدورهم ضيقة وأنهم غير قادرين على التصرف، ويعلنون: لا نستطيع أن نقاتلكم ولا أن نقاتل قومنا. ويوضح الحق: أنا فعلت هذا وألقيت الرعب في نفوسهم، ولو شئت لسلطتهم وجرأتهم عليكم، وقاتلوكم، إذن فسبحانه ينصرنا بالرعب ويمنع قتالهم لنا. {فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} . إن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم وألقو السلم واعترفوا بأنهم لا يملكون طاقة اختيار بين قتال المسلمين أو قتال قومهم، فليس لكم أيها المسلمون حجة أن تعتدوا عليهم؛ فالاعتداء عليهم في مثل هذه الحالة ينهَى الله عنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2534 وعين الحق لا تقتصر على ما نعرف، ولكنها تتعدى إلى أدق التفاصيل؛ فهي عين لا ترى ما عرفناه فقط ولكنها تكشف لنا الحجب التي لا نعرفها، فيقول سبحانه: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2535 تبدأ هذه الآية بفعل يتحدث عن المستقبل: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} . معنى ذلك أن المسلمين لحظة نزول هذه الآية لم يكونوا قد وجدوا مثل هؤلاء القوم الذين يتحدث عنهم الحق، ولو لم يحدث للمعاصرين لنزول القرآن أن وجدوا مثل هؤلاء ماذا كانوا يقولون عن هذا الخبر؟ . لو لم يجدوا مثل هؤلاء القوم لتشككوا في القرآن. وسبحانه يوضح أني عين معكم، وعين لكم، أخبرتكم بما حدث واختلفتم فيه، وأخبركم بما لم يصل إلى أذهانكم وعلمكم فلا تختلفوا فيه، وهذا دليل على أنكم في رعايتي وفي عنايتي. {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ} وهؤلاء القوم هم قوم من بني أسد وعطفان، وكانوا على مشارف المدينة، وكانوا يقابلون المسلمين فيقولون: «نحن معكم» ، والحقيقة أنهم عاجزون عن مواجهة أي معسكر. ولذلك يصفهم القرآن: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة أُرْكِسُواْ فِيِهَا} . وهؤلاء كلما جاءهم الاختبار {أُرْكِسُواْ فِيِهَا} . أي فشلوا في الاختبار، فعناصرهم الإيمانية لم تقو بعد، ومازالوا في حيرة من أمرهم. وعندما جاءتهم الفتنة لتصهرهم وتكشف ما في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2535 أعماقهم ازدادت حيرتهم، فالفتنة هي اختبار، وليست الفتنة شيئاً مذموماً، وعندما يقال: إن فلانا في فتنة فعلى المؤمن أن يدعو بالنجاح فيها، فالفتنة ليست مصيبة تقع، ولكن المصيبة تقع إذا رسب الإنسان في الفتنة. ونعلم أن الفتنة مأخوذة من الأمر الحسي، فتنة الذهب وكذلك الحديد: فتنة الذهب هي صهر الذهب في البوتقة حتى ينصهر؛ فتطفو كالزبد كلُّ العناصر الشائبة المختلطة بالذهب، وكذلك الحديد، يتم صهره حتى تنفصل الذرات المتماسكة بعضها عن بعض. ويطفو الخبث. ونعرف أن الحديد أنواع: فالحديد الزهر شوائبه ظاهرة فيه وسهل الكسر. بينما نجد الحديد الصلب بلا خبث فهو صلب. وفتنة الذهب والحديد تكشف عن المعادن الغريبة المختلطة به. ونقلت كلمة «الفتنة» من المحسات إلى المعاني، وصارت الفتنة هي الاختبار الذي ينجح فيه الإنسان أو يرسب، فهي ليست ضارة في ذاتها، ولكنها ضارة لمن يرسب فيها. وهكذا كان تنبؤ القرآن الذي يخبر المسلمين بأمر قوم على حدودهم، تجعلهم الفتنة لا يقوون على الإيمان، أي فكلما دعاهم قومهم إلى الشرك وقتال المسلمين رُدُّوا على أعقابهم وانقلبوا على رءوسهم أقبح قلب وأشنعه وكانوا شرّاً من كل عدو عليكم، ويشرح القرآن كيفية سلوك المؤمنين تجاه هؤلاء المرتكسين والمنقلبين في الفتنة: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم ويكفوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأولئكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} ونلحظ أن الحق أمر بتأمين من لجأوا بضعفهم على الرغم من نفاقهم إما إلى المسلمين وإما إلى حلفاء المسلمين حين قال في الآية السابقة: {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء: 90] . وهذا إنصاف وتنبيه إلهي من الحق ألا يسمع أحد صوت حفيظته ويفترس قوماً ضعفاء. أما الذين يحاولون التمرد والاستسلام لصوت الكفر وإيقاع الأذى بالمسلمين، ولم يلقوا بالسلم للمسلمين ويكفوا أيديهم عنهم، هؤلاء يأتي فيهم الأمر الإلهي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2536 خذوهم واقتلوهم. وجعل الله للمسلمين على هؤلاء السلطانَ المبين. والسلطان - كما نعرف - هو القوة، والقوة تأخذ لونين: هناك قوة تقهر الإنسان على الفعل كأن يأتي واحد ويأمر إنساناً بالوقوف فيقف، وكأنْ يأمر القويُّ الضعيفَ بالسجود فيسجد. وهذا سلطان القوة الذي يقهر القالب، لكنه لا يقدر على قهر القلب أبداً. والسلطان الثاني هو سلطان الحجة، وقوة المنطق وقوة الأداء والأدلة التي تقنع الإنسان أن يفعل. والفارق بين سلطان القوة وسلطان الحجة أن سلطان القوة قد يقهر الإنسان على السجود، لكن سلطان الحجة يجعل الإنسان يسجد بالاقتناع. والسلطان المبين الذي جعله الله للمؤمنين على المنافقين الذين يقاتلون المؤمنين، هذا السلطان يمكن لكم أيها المسلمون قوة تفعلون بها ما تريدون من هؤلاء ما داموا حاولوا القتال وإلحاق الأذى بالمسلمين، فالحزم والعدل هو أخذهم بالعنف. وحتى نفهم معنى السلطان جيداً فلنتذكر الجدل الذي سيحدث في الآخرة بين الشيطان والذين اتبعوا الشيطان، سنجد الشيطان يقول: لقد أغويتكم، هذا صحيح، وأنتم اتبعتموني، فأنتم المسئولون عن ذلك، فلم يكن لي عليكم من سلطان قوة أو سلطان إقناع: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] . وبعد أن تكلم الحق عن القتال ومشروعيته، وقتال المنافقين، وقتال الآخرين. نجد الكلام يصل إلى موضوع القتل. فأوضح لهم: المسألة أنني أنا الذي عملت البنيان الآدمي، والحياة أنا الذي أهبها، وليس من السهل لباني البنيان أن يحرض على هدمه، إنما أنا أحرض على هدم هؤلاء الذين يقاتلونكم؛ لكي يسلم باقي البنيان لكم، وإياكم أن تجترئوا على بنيانات الناس، فملعون من يهدم بنيان الله؛ لأنه سبحانه هو الذي خلق الحياة وهو الذي يأخذ الحياة، وحياة الناس ليست ملكاً لهم؛ فحياة الإنسان نفسه ليست ملكاً لنفسه، ولذلك فمن يقتل واحداً، عُدْواناً دون حق نقتص منه، وأما إن كان ذلك قد قتل خطأ فنأخذ منه الدية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2537 وتنتهي المسألة. لكن قاتل نفسه تحرم عليه الجنة. إذن فقبل أن يقول لي: لا تقتل غيرك قال لي: إياك وأن تقتل نفسك. إذن فسبحانه ليس بغيور فقط على الناس منك، بل يغار عليك أيضاً من نفسك، ولذلك فحين شرع سبحانه القصاص في القتل شرعة ليحميك لا ليجرئك على أن تقتل، أما عندما يأمر سبحانه: أن من قَتَلَ يُقتل. فهو يقسط ويعدل، والقصد من هذا الحفاظ على حياتين؛ لأنك إن علمت أنك إن قَتَلْتَهُ قُتِلْت لا تقتل. وما دمت لا تقتل فقد حميت حياتين حياة من كنت ستقتله وحياتك من أن يُقتص منك وهذا هو معنى قوله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب} [البقرة: 179] . إذن فالذي يتفلسف ويقول: هذه بشاعة وكذا وكذا نقول له: الذي يشرع القصاص أيريد أن يَقتل؟ لا، بل يريد أن يحمي حياتك؛ لأن القاتل عندما يعلم أنه إن قَتَلَ يُقتل فلا يقتل، وما دام لا يقتل نكون قد حافظنا على حياته وحياة الآخر. إذن فقوله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} قول صدق. وعندما تكلم الحق عن القتال والقتل ينبهنا: إياكم وأن تجترئوا بسبب هذه المسائل على دماء الناس ولا على حياتهم؛ لذلك يتكلم سبحانه عن القتل المحظور في الإيمان والإسلام ويقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2538 جاء هذا القول بعد أن تكلم سبحانه عن القتال لتثبيت أمر الدعوة، ولما كان القتال يتطلب قتل نفس مؤمنة نَفْساً كافرة، ناسب ذلك أن يتكلم الحق سبحانه عن القتل. والقتل - كما نعلم - محاولة إزهاق روح الحي بنقض بنيته. والحي وإن لم ننقض بنيته حين يأتي أجله يموت. إذن فنقض البنية من الإنسان الذي يريد أن يقضي على إنسان عملٌ غايتُه إنهاء الحياة، فلا يظنن ظان أن القاتل الذي أراد أن ينقض بنية شخص يملك أن ينهي حياته، ولكنه يصادف انقضاء الحياة، فالذي ينهي الحياة هو الحق سبحانه وتعالى. ولذلك قلنا: إن الجزاء إنما وقع على القاتل لا لأنه أمات القتيل ولكن لأن القاتل تعجل في أمر استأثر الله وحده به، والقتيل ميت بأجله، فالحق سبحانه وتعالى هو الذي استخلف الإنسان في الكون، والاستخلاف شرحه الحق في قوله: {واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] . فالله هو الذي جعل الإنسان خليفة في الكون ليعمر هذا الكون، وعمارة الكون تنشأ بالتفكير في الارتقاء والصالح في الكون، فالصالح نتركه صالحاً، وإن استطعنا أن نزيد في صلاحه فلنفعل. الأرض - على سبيل المثال - تنبت الزرع، وإن لم يزرعها الإنسان فهو يجد زرعاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2539 خارجاً منها، والحق يريد من الإنسان أن ينمي في الأرض هذه الخاصية فيأتي الإنسان بالبذور ويحرث الأرض ويزرعها. فهذا يزيد الأمر الصالح صلاحاً. وهذا كله فرع وجود الحياة. إذن فالاستخلاف في الأرض لإعمارها يتطلب حياة واستبقاء حياة للخليفة. وما دام استبقاء الحياة أمراً ضرورياً فلا تأتي أيها الخليفة لخليفة آخر مثلك لتنهي حياته فتعطل إحياءه للأرض واستعماره لها. فالقتال إنما شُرع للمؤمنين ضد الكافرين؛ لأن حركة الكافرين في الحياة حركات مفسدة، ودرء المفسدة دائماً مقدم على جلب المصلحة. فالذي يفسد الحياة يقاتله المؤمنون كي ننهي الحياة فيه، ونُخَلِّص الحياة من معوق فيها. إذن فيريد الحق أن تكون الحياة لمن تصلح الأرض بحياته. والكافرون يعيثون في الأرض فساداً، ويعيشون على غير منهج، ويأخذون خير الضعيف ليصيروا هم به أقوياء، فشرع الله القتال إما ليؤمنوا فيخضعوا للمنهج، وإما ليخلص الحياة من شرهم. فإذا ما وجه الإنسان القتل لمؤمن - وهو في ذاته صالح للاستعمار في الحياة - يكون قد جنى على الحياة، وأيضاً لو قتل الإنسان نفسه يكون قد جنى على الحياة كذلك، لماذا؟ لأنه أفقد الحياة واحداً كان من الممكن أن يعمر بحركته الأرض. فإن اجترأ على حياته أو على حياة سواه فلا بد أن نؤدبه. كيف؟ قال سبحانه: {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27] . والتشريع الإسلامي وضع للقاتل عن سبق إصرار وترصد عقاباً هو القتل. وبذلك يحمي التشريع الحياة ولا ينمي القتل، بل يمنع القتل. إذن، فالحدود والقصاصات إنما وضعت لتعطي الحياة سعة في مقوماتها لا تضييقا في هذه المقومات، والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن القتال المشروع أراد أن يوضح لنا: إياكم أن تتعدوا بهذه المسألة، وتستعملوا القتال في غير الأمر المشروع، فإذا ما اجترأ إنسان على إنسان لينهي حياته في غير حرب إيمانية شرعية فماذا يكون الموقف؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2540 يقول التشريع: إنه يقتل، وكان يجب أن يكون في بالك ألا تجترئ على إزهاق حياة أحد إلا أن يكون ذلك خطأ منك، ولكن إن أنت فعلت خطأ نتج عنه الأثر وهو القتل. فماذا يكون الأمر؟ هناك منفعل لك وهو القتيل وأنت القاتل ولكن لم تكن تقصده، هما - إذن - أمران: عدم القصد في ارتكاب القتل الخطأ، والأمر الثاني هو حدوث القتل. يقول التشريع في هذه المسألة: إن القاتل بدون قصد قد أزهق حياة إنسان، وحياة هذا الإنسان لها ارتباطات شتى في بيئته الإيمانية العامة، وله ارتباطاته ببيئته الأهلية الخاصة كعائلته، العائلة له أو العائل لها أو الأسرة أو الأقرب من الأسرة وهو الأصل والفرع، فكم دائرة إذن؟ دائرة إيمانية عامة، ودائرة الأهل في عمومها الواسع، ودائرة الأسرة، ودائرة خصوصية الأسرة في الأصل والفرع. وحين تنهي حياة إنسان في البيئة الإيمانية العامة فسوف تتأثر هذه البيئة بنقصان واحد مؤمن خاضع لمنهج الله ومفيد في حركته؛ لأن الدائرة الإيمانية فيها نفع عام. لكن دائرة الأهلية يكون فيها نفع خاص قليلاً والدائرة الأسرية نجد أن نفعه فيها كان خاصا بشكل ما، وفي الأصل والفرع نجده نفعا مُهِمّاً وخاصاً جداً. إذن فهذا القتل يشمل تفزيعاً لبيئة عامة ولبيئة أسرة ولبيئة أصل وفرع. ولذلك أريد أن تلاحظوا في أحداث الحياة شيئا يمر علينا جميعا، ولعل كثيراً منا لا يلتفت إليه، مع أنه كثير الحدوث، مثلاً: إذا كنا جالسين في مجتمع وجاء واحد وقال: «فلان مات» ، وفي هذا المجتمع أناس يعرفونه معرفة عامة. وآخرون يعرفونه معرفة خاصة ولهم به صلة، وأناس من أهله، وفيه والد الميت أو ابنه، انظروا إلى أثر النعي أو الخبر في وجوه القوم، فكل واحد سينفعل بالقدر الذي يصله ويربطه بمن مات. فواحد يقول: «ي رَحِمَهُ اللَّهُ» وثانٍ يتساءل بفزع: «كيف حدث ذلك» ؟ وثالث يبكي بكاء مراً، ورابع يبكي جارياً ليرى الميت. والخبر واحد فلماذا يتعدد أثر وصدى الانفعالات، ولماذا لم يكن الانفعال واحداً؟ نقول: إن الانفعال إنما نشأ قهراً بعملية لا شعورية على مقدار نفع الفقيد لمن ينفعل لموته؛ فالذي كان يلتقي به لِمَاماً ويسيراً في أحايين متباعدة يقول: «رَحِمَهُ اللَّهُ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2541 والذي كان يجالسه كل عيد يفكر في ذكرياته معه، وحتى نصل إلى أولاده فنجد أن المتخرج الموظف وله أسرة يختلف انفعاله عن الخريج حديثاً أو الذي يدرس، أو البنت الصغيرة التي مازالت تتلقى التعليم، هؤلاء الأولاد يختلف تلقيهم للخبر بانفعالات شتى، فالابن الذي له أسرة وله سكن يتلقى الخبر بانفعال مختلف عن الابن الذي مازال في الدراسة، وانفعال الابنة التي تزوجت ولها أسرة يختلف عن انفعال الابنة التي مازالت لم تجهز بعد. إذن فالانفعال يحدث على مقدار النفعية، ولذلك قد نجدها على صديق أكثر مما نجدها على شقيق. وقالوا: من أحب إليك، أخوك أم صديقك؟ . قال: النافع. إذن تلقى خبر انتهاء الحياة يكون مختلفاً، فالحزن عليه والأسف لفراقه إنما يكون على قدر إشاعة نفعه في المجتمع. وهناك واحد يكون وطنه أسرته يعمل على قدر نفعها، وواحد يكون وطنه عائلته وقريته، وواحد وطنه أمته. وواحد وطنه العالم كله. إذن فعندما يفجع المجتمع في واحد فالهِزة تأتي على قدر وطنه، وعندما يفاجأ الناس بواحد يُقتل عن طريق الخطأ فالفاعل معذور. ولكن عذره لم يمنع أن تعدى فعله وأن الآخر قد قتل؟ . فالأثر قد حصل، وتحدث الهزة للأقرب له في الانتفاع، ولأن القتل خطأ فلن يتم القصاص من القاتل، ولكن عليه أن يدفع دية، وهذه الدية توزع على الناس الذين تأثروا بفقدان حياته؛ لأن هناك قاعدة تقول: «بسط النفع وقبض الضر» . إنك ساعة ترى شيئاً سينفعك فإن النفس تنبسط، وعندما ترى شيئاً سيضرك فإن النفس تنقبض. وعندما يأتي للإنسان خبر موت عزيز عليه فإن نفسه تنقبض، وساعة يأتيه من بعد ذلك خير وهو حصوله على جزء من دية القتيل فالنفس تنبسط، وبذلك يتم علاج الأثر الحادث عن القتل الخطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2542 والدية بحكم الشرع تأتي من العاقلة، وبشرط ألا تؤخذ من الأصول والفروع، فلا تجتمع عليهم مصيبة فقد إنسان على يد أحد من أصولهم أو فروعهم وهم بذلك يفزّعون فلا يجمع عليهم هذا الأمر مع المشاركة في الدية. كأن التشريع أراد أن يعالج الهزة التي صنعها انحراف بعلاج هو وقاية من رد الفعل فيحقق التوازن في المجتمع. فمن يقتل خطأ لا يقتص منه المجتمع ولكن هناك الدية. ومن أجل إشاعة المسئولية فالقاتل لا يدفعها، ولكن تدفعها العاقلة؛ لأن العاقلة إذا ما علمت أن من يجني من أهلها جناية وأنّها ستتحمل معه فإنها تعلِّم أفرادها في صيانة حقوق غيرهم؛ لأن كل واحد منها سيدفع، وبذلك يحدث التوازن في المجتمع. والحق سبحانه وتعالى يعلمنا أن نستبعد أن يقتل مؤمن مؤمناً إلا عن خطأ، فلا يستقيم أن يحدث ذلك عمدا فيقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} ومعنى هذا أن مثل هذا القتل لا يصح أن يحدث عن قصد؛ لأن اللُّحمة - بضم اللام - الإيمانية تمنع هذا. لكن إن حدث هذا فما العلاج؟ . {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} . ولا يذكر سبحانه هنا القصاص، فالقصاص قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [البقرة: 178] . والقصاص حق الولي فله أن يعفو أو أن يأخذ الدية، كأن يقول: عفوت عن القصاص إلى الدّية. ويجب أن نفرق بين الحد وبين القصاص. فالقصاص حق الولي، والحد حق الله. وللولي أن يتنازل في القصاص، أما الحدود فلا يقدر أحد أن يتنازل عنها، لأنها ليست حقاً لأحد ولكنها حق الله. إذن فالقتل الخطأ قال فيه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} وهنا قد نسأل: وماذا يستفيد أهل المجنى عليه بالقتل من تحرير رقبة مؤمنة؟ . هل يعود ذلك على أهل القتيل ببسط في النفعية؟ . قد لا تفيدهم في شيء، لكنها تفيد المجتمع؛ لأن مملوك الرقبة وهو العبد أو الأمة هو مملوك لسيده، والسيد يملك حركة العبد، ولكن عندما يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2543 العبد حرّاً فهو حر الحركة؛ فحركة العبد مع السيد محدودة، وفي حريته حركة مفيدة للمجتمع. إذن فالقبض الذي حدث من قتل نفس مؤمنة يقابلها بسط في حرية واحد كان محكوماً في حركته فنقول له: انطلق في حركتك لتخدم كل مجتمعك. ويريد الحق بذلك أن يفتح مصرفاً لحرية الأرقاء ضمن المصارف الكثيرة التي جعلها الإسلام لذلك. وبعد هذا القول {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} لكي تصنع البسط في نفوس أهله ليعقب القبض نتيجة خبر القتل. ولذلك نجد أسرة قد فجعت في أحد أفرادها بحادثة وعاشوا الحزن أياماً ثم يأخذون الأوراق ويصرفون بها الدية أو التعويض، مما يدل على أن في ذلك شيئاً من السلوى وشيئاً من التعزية وشيئاً من التعويض، ولو كانت المسألة مزهوداً فيها لقالوا: «نحن لا نريد ذلك» ، ولكن ذلك لا يحدث. وبعد ذلك نجد الذي فقد حياة حبيب لا يظل في حالة حزن ليفقد حياة نفسه، ففي الواقع يكون الحزن من الحزبين على نفسه بمقدار ما فات عليه من نفع عندما قُتل له القتيل، والحزين إنما حزن لأن القتيل كان يثري حياته، فلما مات صارت حياة النفع منه بلا إثراء. ولو رأينا إنساناً يحزن لفقد واحد وقلنا له: احتفظ بجثمانه لمدة أسبوع لترتوي من أشواقك إليه، وبعد ذلك نأخذه منك لندفنه أيرضى؟ . لن يرضى أبداً بذلك. أو نقول للحزين: «لن نقدم لك طعاماً لمدة أسبوع لأنك في حالة حزن هنا لن يوافق الحزين، وزوجة الفقيد تذرف عيناها الدمع وتبكي عليه لكنها تأكل وتشرب. إذن فالمسألة يجب أن تكون واضحة لاستقبال أقضية الحق وهي أقضية لا تنقض نواميس الله في الكون. وبعد ذلك يريد الحق أن يشيع التعاطف بين الناس، فإذا قال أهل القتيل لأهل القاتل: نحن لا نريد دية، لأن مصيبتكم في القتيل مثل مصيبتنا فيه، وكلنا إخوة فما الذي يجري في المجتمع؟ . الذي يحدث من النفع هو أضعاف أضعاف ما تؤدية الدية، إذن فهذا تربيب للدية، فساعة يعرف الطفل في العائلة أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2544 كان مطلوباً منهم دية لأن أباه قد قَتَل، وعفا أهل القتيل فلم يأخذوا الدِّية، هذا الطفل سيعرف عندما يَشِبُّ ويعقل الأمور أن كل خير عند أسرته ناتج من هذا العفو وهذه العفّة، فيحدث الود. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يربب إشاعة المودة والصفاء والنفعية. فإذا ما حزن واحد لفقدان إنسان بالقتل الخطأ قد يأخذ الدية فينتفع، وإن لم يأخذها فهو ينتفع أكثر؛ لذلك يقول الحق: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} . وهذا ما يحدث إذا ما قتل مؤمن مؤمناً خطأ في بيئة إيمانية، ولكن ما الذي يحدث عندما يتم قتل مؤمن لواحد من قوم أعداء والمقتول مؤمن ويعيش بين الكفار؟ . ها نحن أولاء نرى عدالة التشريع الإلهي، وحتى نزداد يقيناً بأن الله هو رب الجميع؛ لذلك قال الحق: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي كان المقتول من قوم في حالة عداء مع المسلمين فهو لا يستحق الدية؛ لأنه يحيا في قوم كافرين. هكذا نجد التشريع هنا قد شرع لثلاث حالات: شرع لواحد في البيئة الإيمانية، وشرع لواحد مؤمن في قوم هم أعداء للمؤمنين، وشرع لواحد قد قُتل وهو من قوم متحالفين مع المسلمين. وكل واحدة لها حكم، والحكم في حالة أن يكون القتيل من قوم بينهم وبين المسلمين عداء وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة، وذلك للتعويض الإيماني فينطلق عبد كان محدود الحركة لأنّ هناك مَن مات وانتهت حركته، وفي هذا تعويض للمجتمع عندما تشيع حركة العبد. وماذا نفعل في الدية؟ لا يأخذون الدية؛ لأن الدية موروثة، وهم من الكفار وليس بين الكفار والمسلمين توارث أي فليس هنا دية. وعندما ننظر إلى قول الحق: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ} نجد أن كلمة «عدو» مفردة في ذاتها، ولكنها تشمل كل القوم، وفي اللغة نقول: «هو عدو» و «هما عدو» و «هم عدو» وإن تنوعت عداوتهم فهم أعداء، ولكن عندما يتحد مصدر العداء فهم عدو واحد. والحق يقول: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ولم يورد سبحانه هنا الدية لأن القوم على عداء للإسلام فلا دية لهم؛ لأنه لا توارث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2545 ويقول الحق: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} فإذا أعطى المسلمون قوماً عهداً من العهود فلا بد من الوفاء. هذا الوفاء يقتضي تسليم دية لأهله؛ لأن هذا احترام للعهد، وإلا فما الفارق بيننا وبينهم ... والدية - كما نعلم - تدفعها العاقلة، ويقول الحق في بيان حق الله في أمر القتل الخطأ: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله} أي فمن لم يجد الرقبة أو لم يتسع ماله لشرائها فصيام الشهرين بكل أيامهما، فلا يفصل بينهما إلا فاصل معذر كأن يكون القاتل - دون قصد - على مرض أو على سفر. وبمجرد أن ينتهي المرض أو السفر فعليه استكمال الصوم. ولماذا هذا التتابع الحكمي؟ . لأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يجعل هذه المسألة شاغلة لذهن القاتل، وما دامت تشغل ذهنه فالصيام لا بد أن يكون متتابعاً، فلو لم يكن الصيام متتابعاً لأصابت القاتل غفلة. {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله} . ولماذا قال الحق: {تَوْبَةً مِّنَ الله} ؟ . والتوبة - كما نعرف - قد تكون من العبد فنقول: «تاب العبد» . وقد تسند التوبة إلى الحق فيقال: «تاب الله عليه» ومراحل التوبة ثلاث: حين يشرع الله التوبة نقول: تاب الله على العباد فشرع لهم التوبة فلا أحد يتوب إلا من باطن أن الله شرع التوبة؛ لأنه لو لم يشرع الله التوبة لتراكمت على العباد الذنوب والخطايا. وتشريع التوبة هو تضييق شديد لنوازع الشر، فلو لم يشرع الله التوبة لكان كل من ارتكب ذنباً يعيث في الأرض بالفساد، فحين شرع الله التوبة عصم المجتمع من الأشرار. فلأنه شرّع التوبة، فهو - سبحانه - يتوب، هذه هي المرحلة الأولى. وما دام الله قد شرع التوبة فالمذنب يتوب، هذه هي المرحلة الثانية، وساعة شرع الله التوبة ويتوب المذنب فالله يقبل التوبة، هذه هي المرحلة الثالثة. وهكذا نرى دقة القرآن حين قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2546 {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118] . وبعد أن يتوبوا فإن الله يقبل التوبة عن عباده. إذن فالتوبة الأولى من الله تشريع. والتوبة الثانية من الله قبول، والوسط بينهما هي توبة الإنسان. ويذيل الحق الآية: {تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} فسبحانه يشرع التشريع الذي يجعل النفوس تحيا في مُناخ طبيعي وفي تكوينها الطبيعي، فلو تصورنا أن إنساناً قد قُتل خطأ وتركنا أهل المقتول بلا ترضية فلن يستفيد المجتمع الإيماني من قتله. إذن فالعلم من الله بالنفس البشرية جعل من قتل خطاً يُفيد المجتمع الإيماني بتحرير رقبة، فيزيد المجتمع إنساناً حراً يتحرك حركة إيمانية؛ لذلك اشترط الحق أن تكون الرقبة مؤمنة، حتى نضمن أن تكون الحركة في الخير، فنحن لا نحرر رقبة كافرة؛ لأن الرقبة الكافرة عندما تكون مملوكة لسيد فشرها محصور، لكن لو أطلقناها لكان شرها عاماً. وبعد تحرير الرقبة هناك الدية لننثرها على كل مفزع في منفعته فيمن قُتل، ولا نأخذها من أصول القاتل وفروعه، فلا نجمع عليهم مصيبتين القتل الذي قام به أصلهم أو فرعهم؛ لأن ذلك - لا شك - سيصيبهم بالفزع والخوف عن والاشفاق على مَن جنى منهم. وأن يشتركوا في تحمل الدية. وذلك العمل ناشيء عن حكمه. فإذا كان الذي يضع الأشياء في موضعها هو خالقها، فلن يوجد أفضل من ذلك لتستقيم الأمور. وفي المجال البشرى نجد أن أي آلة من الآلات - على سبيل المثال - مكونة من خمسين قطعة، وكل قطعة ترتبط بالأخرى بمسامير أو غير ذلك، وما دامت كل قطعة في مكانها فالآلة تسير سيراً حسناً، أما إذا توقفت الآلة فإننا نستدعي المهندس ليضع كل قطعة في مكانها، وكل شيء حين يكون في موضعه فالآلة تمشي باستقامة، وكل حركة في الوجود مبنية على الحكمة لا ينشأ فيها فساد؛ فالفساد إنما ينشأ من حركات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2547 تحدث بدون أن تكون على حكمة. والحكمة مقولة بالتشكيك، فهناك حكيم وهناك. أحكم. وقديماً - على سبيل المثال - كنا نرى الأسلاك الكهربائية دون عوازل فكان يحدث منها «ماس» كهربائي. وعندما اكتشفنا العوازل استخدمناها وعدلنا من تصنيعنا للأشياء. وكنا نجد الأسلاك في السيارة - مثلاً - ذات لون وحجم واحد، فكان يحدث الارتباك عند الإصلاح، لكن عندما تمت صناعة كل سلك بلون معين، فسهل هذا عملية الإصلاح. فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه، فما بالنا حين يكون من يضع الشيء في موضعه هو خالقنا؟ لن نجد أفضل ولا أحسن من ذلك. فإذا ما رأينا خللاً في المجتمع فلنعلم أن هناك شيئاً قد ناقض حكمة الله. وعندما نبحث عن العطب سوف نجده، تماماً مثلما تبحث عن العطب في أي آلة وتأتي لها بالمهندس الذي يصلحها. ويجب أن نرده إلى من خلق المجتمع، ونبحث عن علاج الخلل بحكم من أحكام الله. ولذلك أرشدنا الحق إلى أننا إن اختلفنا في شيء فلنرده إلى الله وإلى الرسول حتى لا نظل في تعب. وبعد ذلك يتكلم الحق عن القتل العمد، وقد يقول قائل: أما كان يجب أن يحدثنا الله عن القتل العمد أولاً؟ ونقول: الحق لو تكلم عن القتل العمد أولاً لكان ذلك موحياً أنه يحدث أولاً، ولكن الحق يوضح: لا يصح أن تأتي هذه على خيال المؤمن. ويسأل سائل: لماذا لم يقل الحق: «وما كان لمسلم» . ونقول: يجب أن ننتبه إلى أن الحق نادى المؤمن لأن الإيمان عمل قلبي، ولهذا كان النداء للمؤمنين ولم يكن النداء للمسلمين؛ لأن الإسلام أمر ظاهري، فقد يقتل إنسان يتظاهر بالإسلام إنساناً مؤمناً. لهذا نادى الحق بالنداء الذي يشمل المظهر والجوهر وهو الإيمان. وحين يشرع الحق فلا بد أن يأتي بالجزاء والعقاب للذي يقتل عمداً. وهو يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2548 {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2549 والقتل هنا لمؤمن بعمد، فالأمر إذن مختلف عن القتل الخطأ الذي لا يدري به القاتل إلا بعد أن يقع. وجزاء القاتل عمداً لمؤمن هو جهنم، وليس له كفارة أبداً. هكذا يبشع الحق لنا جريمة القتل العمد. لأن التعمد يعني أن القاتل قد عاش في فكرة أن يقتل، ولذلك يقال في القانون: «قتل عمد مع سبق الإصرار» . أي أن القاتل قد عاش القتل في تخيله ثم فعله، وكان المفروض في الفترة التي يرتب فيها القتل أن يراجعه وازعه الديني، وهذا يعني أن الله قد غاب عن باله مدة التحضير للجريمة، وما دام قد عاش ذلك فهو قد غاب عن الله، فلو جاء الله في باله لتراجع، وما دام الإنسان قد غاب باله عن الله فالله يغيبه عن رحمته. {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} وقالوا في سبب هذه الآية: إن واحداً اسمه مِقْيَسْ بن ضبابة كان له أخ اسمه هشام، فوجد أخاه مقتولاً في بني النجار، وهم قوم من الأنصار بالمدينة. فلما وجد هشاماً قتيلاً ذهب مِقْيَس إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخبره بالخبر، فأرسل معه رجلاً من بني فهر وكتب إليهم أن يدفعوا إلى مِقْيَس قاتل أخيه، فقال بنو النجار والله ما نعلم له قاتلا، ولكننا نؤدي الدية فأعطوه مائة من الأبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مِقْيَس على الفِهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة مرتدّاً وجعل ينشد: قتلت به فِهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع حللت به وترى وأدركت ثورتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع فلما بلغ سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك أهدر دمه. ومعنى «أهدر دمه» أباح دمه، أي أن مَن يقتله لا عقاب عليه، إلى أن جاء يوم الفتح فَوُجد « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2549 مقيس» متعلقاً بأستار الكعبة ليحتمي بها، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتله، {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . وهنا نجد أكثر من مرحلة في العذاب: جزاء جهنم، خُلود في النار، غَضب من الله، لعنة من الله، إعداد من الله لعذاب عظيم. فكأن جهنم ليست كل العذاب؛ ففيه عذاب وفيه خلود في النار وفيه غضب وفيه لعنة ثم إعداد لعذاب عظيم. وهذا ما نستعيذ بالله منه. فبعضنا يتصور أن العذاب هو جهنم فحسب، وقد يغفل بعض عن أن هناك ألواناً متعددة من العذاب. وفي الحياة نرى إنساناً يتم حبسه فنظن أن الحبس هو كل شيء، ولكن عندما وصل إلى علمنا ما يحدث في الحبس عرفنا أن فيه ما هو أشر من الحبس. وهنا وقفة وقف العلماء فيها: هل لهذا القاتل توبة؟ واختلف العلماء في ذلك، فعالم يقول: لا توبة لمثل هذا القاتل. وعالم آخر قال: لا، هناك توبة. وجاء سيدنا ابن العباس وجلس في جماعة وجاء واحد وسأله: أللقاتل عمداً توبة؟ قال ابن العباس: لا. وبعد ذلك بمدة جاء واحد وسأل ابن العباس: أللقاتل عمداً توبة؟ فقال ابن العباس: نعم. فقال جلساؤه: كيف تقول ذلك وقد سبق أن قلت لا، واليوم تقول نعم. قال ابن العباس: سائلي أولاً كان يريد أن يقتل عمداً، أما سائلي ثانياً فقد قتل بالفعل، فالأول أرهبته والثاني لم أقَنِّطه من رحمة الله. وكيف فرق ابن العباس بين الحالتين؟ إنها الفطنة الإيمانية والبصيرة التي يبسطها الله على المفتي. فساعة يوجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صحابته يسأله واحد قائلاً: «أي الإسلام خير» ؟ فيقول صلوات الله عليه: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» ويسأله آخر فيجيبه بقوله: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» وهكذا كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يجيب كل سائل بما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2550 يراه أصلح لحاله أو حال المستمع، ويجيب كل جماعة بما هو أنفع لهم. . ويسأله عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أي الأعمال أفضل؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه:» الصلاة على ميقاتها. قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: أن يسلم الناس من لسانك «» . ونعرف أن آية القتل العمد تتطلب المزيد من التفكر حول نصها «فجزاءه جهنم خالداً فيها» . وهل الخلود هو المكث طويلاً أو على طريقة التأبيد. . بمعنى أن زمن الخلود لا ينتهي؟ ولو أن زمن الخلود لا ينتهي لما وصف الحق المكث في النار مرة بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران: 88] . ومرة أخرى بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [النساء: 169] . هذا القول يدل على أن لفظ التأبيد في «أبداً» فيه ملحظ يزيد على معنى الخلود دون تأبيد. وإذا اتحد القولان في أن الخلود على إطلاقه يفيد التأبيد، وأن {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} تفيد التأبيد أيضاً، فمعنى ذلك أن اللفظ «أبداً» لم يأت بشيء زائد. والقرآن كلام الله، وكلام الله منزه عن العبث أو التكرار. إذن لا بد من وقفة تفيدنا أن الخلود هو المكث طويلاً، وأن الخلود أبداً هو المكث طويلاً طولاً لا ينتهي، وعلى ذلك يكون لنا فهم. فكل لفظ من القرآن محكم وله معنى. ثم إن كلمة «خالدين» حين وردت في القرآن فإننا نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في خلود النار: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 105 - 107] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2551 فكأن الحق سبحانه وتعالى استثنى من الخلود: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} تفيد أن الخلود عندهم تنتهي. ما دام هناك استثناء؛ فالاستثناء لا بد له من زمن، والزمن مستثنى من الخلود وعلى ذلك لا يكون الخولد تأبيدياً. وعلينا أن نتناول الآيات بهذه الروح، وفي هذه المسألة نجد وقفة لعالم من أعلام العقائد في العصر العباسي هو عمرو بن عبيد، وكان عمرو من العلماء الذين اشتهروا بالمحافظة على كرامة العلم وعزة العلماء لدرجة أن خليفة ذلك الزمان قال عنه وسط بعض المنتسبين إلى العلم: «كلهم طالب صيد إلا عمرو بن عبيد» وقد كانت منزلته العلمية عالية ونفسه ذات عزة إيمانية تعلو على صغائر الحياة. وكان عمرو بن عبيد دقيق الرأي، ويحكى عنه قيس بن أنس هذه الحكاية: كنت في مجلس عمرو بن عبيد فإذا بعمرو بن عبيد يقول: «يؤتى بي يوم القيامة فيقال لي: لم قلت بأن قاتل العمد لا توبة له. قال: فقرأت الآية: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} وكان يجب أن يلتفت عمرو بن عبيد إلى أن الإلهام الذي جاءه أو الرؤيا التي أراها له الله بأنه سوف يؤتي به يوم القيامة ليسأل لماذا أفتى بألا توبة لقاتل العمد، كان يجب أن يلتفت إلى أن ذلك يتضمن أن لقاتل العمد توبة؛ لأن سؤاله عن ذلك يوم القيامة يشير إلى عتاب في ذلك. نقول ذلك لنعرف أنَّ الحق سبحانه وتعالى جعل فوق كل ذي علم عليما. . ولكنَّ عمرا ذكر ما جاء في قول الحق: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} . وقال قيس بن أنس: وكنت أصغر الجالسين سناً، فقلت له: لو كنت معك لقلت كما قلت: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} وقلت أيضاً: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2552 {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] . قال قيس: فوالله ما رد على عمرو بن عبيد ما قلت: ومعنى ذلك موافقة عمرو بن عبيد. ماذا تفيد هذه؟ . تفيد ألا نأخذ كلمة {خَالِداً فِيهَا} بمعنى التأبيد الذي لا نهاية له؛ لأن الله قد استثنى من الخلود في آية أخرى. والحق سبحانه وتعالى بعد أن شرح حكم القتل العمد والقتل الخطأ، بحث العلماء ووجدوا أن هناك قتلاً اسمه» شبه العمد «أي أنه لا عمد ولا خطأً، كأن يأتي إنسان إنساناً آخر ويضربه بآلة لا تقتل عادة فيموت مقتولاً، وهنا يكون العمد موجوداً، فالضارب يضرب، ويمسك بآلة ويضرب بها، وصادف أن تقتل الآلة التي لا تقتل غالبا، وقال العلماء: القتل معه لا به، فلا قصاص، ولكن فيه دية. وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح: بعد ما حدث وحدثتكم عن القتل بكل صوره وألوانه سواء أكان القتل مباحا كقتل المسلمين الكافرين في الحرب بينهما، أم القتل العمد، أم القتل الخطأ، أم القتل شبه العمد، لذلك ينبهنا: يجب أن تحتاطوا في هذه المسألة احتياطاً لتتبينوا أين تقع سيوفكم من رقاب إخوانكم، فيقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2553 فيأيها المؤمنون حين تضربون في سبيل الله فتبينوا وتثبتوا فلا تعمل سيوفكم أو رماحكم أو سهامكم إلا بعد أن تتثبتوا: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . إذن فهذه آية تجمع بين كل المعاني، ففيها الحكم وحيثيته والمراد منه، وسبحانه يبدأها بقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} ، والخطاب الإيماني حيثية الالتزام بالحكم، فلم يقل: «يا أيها الناس إذا ضربتم فتبينوا» ، ولكنه قال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ} ، فهو يطلب المؤمنين به بحكم لأنهم آمنوا به إلهاً، وما داموا قد آمنوا فعليهم اتباع ما يطلبه الله. فحيثية كل حكم من الأحكام أن المؤمن قد آمن بمن أصدر الحكم، فإياك أيها المؤمن أن تقول: «ما العلة» أو «ما الحكمة» وذلك حتى لا تدخل نفسك في متاهة. ولا نزال نكرر هذه المسألة، لأن هذه المسألة تطفو في أذهان الناس كثيراً، ويسأل بعضهم عن حكمة كل شيء، ولذلك نقول: الشيء إذا عرفت حكمته صرت إلى الحكمة لا إلى الآمر بالحكم. ونرىلآن المسرفين على أنفسهم الذين لا يؤمنون بإله، أو يؤمنون بالله ولكنهم ارتكبوا الكبائر من شهادة زور، إلى ربا، إلى شرب خمر، وعندما يحلل الأطباء للكشف عن كبد شارب الخمر - على سبيل المثال - نجده قد تليف، وأن أي جرعة خمر ستسبب الوفاة. هنا يمتنع عن شرب الخمر. لماذا امتنع؟ . لأنه عرف الحكمة. وقد يكون قائلها له مجوسياً، فهل كان امتناعه عن الحكم تنفيذاً لأمر إلهي؟ . لا، ولكن المؤمن يمتنع عن الخمر لأنها حرمت بحكم من الله والمؤمن ينفذ كل الأحكام حتى في الأشياء غير الضارة، فمن الذي قال: إن الله لا يحرم إلا الشيء الضار؟ إنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2554 قد يحرم أمراً تأديباً للإنسان. ونضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نجد الزوج يقول لزوجه: إياك أن تعطي ابننا بعضاً من الحلوى التي أحضرتها. هو يحرم على ابنه الحلوى لا لأنها ضارة، ولكنه يريد تأديب الابن والتزامه. والحق يقول: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] . فالذي يذهب إلى تنفيذ حكم الله إنما يذهب إليه لأن الله قد قاله، لا لأن حكمة الحكم مفيدة له، فلو ذهب إنسان إلى الحكم من أجل فائدته أو ضرره فإن الإيمان يكون ناقصاً، والله يدير في كثير من الأوقات حكمته في الأحكام حتى يرى الإنسان وجهاً من الوجوه اللا نهائية لحكمة الله التي خفيت عليه، فيقول الإنسان: أنا كنت أقف في حكمة كذا، ثم بينت لي الأحداث والأيام صدق الله فيما قال. وهذا يشجع الإنسان أن يأخذ أحكام الله وهو مسلِّم بها. والحق يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} والإيمان هو الحيثية، يا من آمنت بي إلهاً قادراً حكيماً. . اسمع مني ما أريده منك: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله} والضرب - كما نعرف - هو انفعال الجارحة على شيء آخر بعنف وقوة. وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} [النساء: 101] . معناها أن الحياة كلها حركة وانفعال، ولماذا الضرب في الأرض؟ . لأن الله أودع فيها كل أقوات الخلق، فحين يحبون أن يُخرجوا خيراتها؛ يقومون بحرثها حتى يهيجوها، ويرموا البذور، وبعد ذلك الرّي. ومن بعد ذلك تخرج الثمار، وهذه هي عملية إثارة الأرض. إذن كل حركة تحتاج إلى شدة ومكافحة، والحق يقول: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} [المزمل: 20] . وما دامت المسألة ضرباً في الأرض فهي تحتاج إلى عزم من الإنسان وإلى قوة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2555 ولذلك يقال: الأرض تحب من يهينها بالعزق والحرث. وكلما اشتدت حركة الإنسان في الأرض أخرجت له خيراً. والضرب في سبيل الله هو الجهاد، أو لإعداد مقومات الجهاد. والحق سبحانه يقول لنا: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] . فالإعداد هو أمر يسبق المعارك، وكيف يتم الإعداد؟ أن نقوم بإعداد الأجسام، والأجسام تحتاج إلى مقومات الحياة. وأن نقوم بإعداد العُدُد. والعدد تحتاج إلى بحث في عناصر الأرض، وبحث في الصناعات المختلفة لنختار الأفضل منها. وكل عمليات الإعداد تطلب من الإنسان البحث والصنعة. ولذلك يقال في الأثر الصالح: «إن السهم الواحد في سبيل الله يغفر الله به لأربعة» . لماذا؟ . لأن هناك إنساناً قام بقطع الخشب الذي يتم منه صناعة السهم وصقله، وهناك إنسان وضع للسهم الريش حتى يطيره إلى الإمام، وهناك واضع النَّبْل، وهناك من يرمي السهم بالقوس. والحق يريد منا أن نكون أقوياء حتى يكون الضرب منا قويا، فيقول: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ} ونعرف أن الضرب في سبيل الله لا يكون في ساعة الجهاد فقط، ولكن في كل أحوال الحياة؛ لأن كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. و «تبينوا» تعني ألا تأخذوا الأمور بظواهرها فلا تمضوا أمراً أو تعملوا عملاً إلا إذا تثبتم وتأكدتم حتى لا يصيب المؤمنون قوماً بظلم. ولهذا الأمر قصة، «كان هناك رجل اسمه» محلِّم بن جَثّامة «، وكان بينه وبين آخر اسمه» عامر بن الأضبط الأشجعي «إحن - أي شيء من البغضاء - وبعد ذلك كان» محلم «في سرية، وهي بعض من الجند المحدود العدد وصادف» عامراً الأشجعي «، وكان» عامر «قد أسلم، لذلك ألقى السلام إلى» محلّم «فقال» محلم «: إن عامراً قد أسلم ليهرب مني. وقتل محلم عامراً. وذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2556 وسأله الرسول: ولماذا لم تتبين؟ . ألم يلق إليك السلام، فكيف تقول إنه يقول:» السلام عليكم «لينقذ نفسه من القتل؟ فقال:» محلّم «: استغفر لي يا رسول الله. وإذا ما قال أحد لرسول الله: استغفر لي يا رسول الله. . فرسول الله ببصيرته الإيمانية يعرف على الفور حالَ طالبِ الاستغفار، فإن قال رسول الله:» غفر الله لك «فهو يعلم أنه كان معذوراً، وإن لم يقل رسول الله ذلك، فيعرف طالب الاستغفار أنه مذنب. ولأن بين» محلم «و» عامر «إحنا وعداوات قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمحلم:» لا غفر الله لك «؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علم أن الإحَنَ والبغضاء هي التي جعلته لا يدقق في أمر» عامر «. وقال الرواة: ومات محلّم بعد سبعة أيام من هذه الحادثة، ودفنوه فلفظته الأرض. فجاءوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكروا ذلك له فقال:» إن الأرض تقبل مَن هِو شر من صاحبكم ولكن الله أراد أن يعظكم، ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة «» . وعندما كانت تأتي آية مخالفة لنواميس الدنيا المفهومة للناس فالنبي يريد ألا يفتتن الناس في هذه الآيات، ومثال ذلك عندما مات إبراهيم ابن النبي. . انكسفت الشمس. . وقال الناس: انكسفت الشمس من أجل ابن رسول الله. ولكن لأن المسألة مسألة عقائد فقد وضحها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما جاء في الحديث الشريف: عن المغيرة بن شعبة قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2557 لقد قالوا ذلك تكريماً لرسول الله وابنه إبراهيم، ولكن الرسول يريد أن يصحح للناس مفاهيمهم وعقائدهم. وكذلك عندما لفظت الأرض «محلم» حتى لا يفتتن أحد ولا يقولن أحد. إن كل من لا تلفظه الأرض هو حسن العمل، فهناك كفار كثيرون قد دفنوا ولم يلفظوا. لذلك قال رسول الله: إن الأرض قبلت من هو شر من «محلم» ولكن الله أراد أن يعظ الناس حتى لا يعودوا لمثلها، ولو لم يقل ذلك، فماذا كان يحدث؟ . قد تحدث هِزة قليلة في جزئية ولظن الناس وقالوا: إن كل من لم تلفظه الأرض فهو حسن العمل، ولكان أبو جهل في حال لا بأس به، وكذلك الوليد بن المغيرة. لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يضع مثل هذه الأمور في وضعها الصحيح؛ لذلك قال: إن الأرض تقبل من هو شر من «محلم» ، ولكن الله أراد أن يعظ القوم ألاّ يعودوا. {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} . وعلى ذكر ذلك قال لي أخ كريم: كنت أسمع إحدى الإذاعات وأخطأوا وقالوا (فتثبتوا) بدل من (فتبينوا) في قوله الحق: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} [الحجرات: 6] . وأقول: هذه قراءة من القراءات، والمعاني دائماً ملتقية، ف «تبين» معناها «طلب البيان ليَثبت» . ونعرف أن القرآن قد نزل على سبعة أحرف، وكتابة القرآن كانت بغير نقط وبغير شكل، وهذا حال غير حالنا؛ حيث نجد الحروف قد تم تشكيلها بالفتحة والضمة والكسرة. ونحن نعرف أن هناك حروفاً مشتبهة الصورة. ف «الباء» تتشابه مع كل من «الياء» ، وال «نون» وال «تاء» وال «ثاء» ، ولم تكن هذه النقط موجودة، ولم تكن هذه العلامات موجودة قبل الحجاج الثقفي، وكانوا يقرأون من ملكة العربية ومن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2558 تلقين واتباع للوحي، ولذلك: «فتبينوا» ممن تتكون؟ تتكون من: «ال» فاء «ولم يحدث فيها خلاف، وال» تاء «وبقية الحروف هي ال» باء «وال» ياء «وال» نون «. وكل واحدة من هذه الأحرف تصلح أن تجعلها» تثبتوا «بوضع النقاط أو تجعلها» تبينوا «، إنه خلاف في النقط. ولو حذفنا النقط لقرآناها على أكثر من صورة، والذي نتبعه في ذلك هو ما ورد عن الوحي الذي نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولذلك عندما جاءوا بشخص لم يكن يحفظ القرآن وأحضروا له مصحفاً ليقرأ ما فيه فقال: (صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة) . ولم يحدث خلاف في ال» صاد «ولكن حدث خلاف في ال» باء «فهي صالحة لتكون باءً أو نوناً، وكذلك» الغين «يمكن أن تكون» عيْناً «وقراءة هذه الآية في قراءة» حفص «. {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} [البقرة: 138] . وعندما قرأها الإنسان الذي لا يجيد حفظ القرآن قال: (صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة) . والمعنى واحد. ولكن قراءة القرآن توقيفية، واتباع للوحي الذي نزل به جبريل - عليه السلام - من عند الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يصح لأحد أن يقرأ القرآن حسب ما يراه وإن كانت صورة الكلمة تقبل ذلك وتتسع له ولا تمنعه، ولذا قالوا: أن للقراءة الصحيحة أركانا هي: 1 - أن تكون موافقة لوجه من وجوه اللغة العربية. 2 - أن تكون موافقة لرسم أحد المصاحف العثمانية. 3 - أن يصح إسنادها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بطريق يقيني متواتر لا يحتمل الشك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2559 وهذه الضوابط نظمها صاحب طيبة النشر فقال: وكل ما وافق وجه نحو ... وكان للرسم احتمالا يحوي وصح إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وقوله تعالى: {قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ} [الأعراف: 156] . هذه هي قراءة «حفص» وقرأ الحسن: (قال عذابي أصيب به من أساء) . صحيح أن كلمة «أساء» وهي من الإساءة فيها ملحظ آخر للمعنى، لكن القراءة الأخرى لم تبعد بالمعنى، وعلى ذلك فكلمة «فتبينوا» تُقْرَأُ مرة «فتثبتوا» ومرة تقرأ «فتبينوا» ، سواء في هذه الآية التي نحن بصددها، أو في الآية التي يقول فيها الحق: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} [الحجرات: 6] . و «التبين» القصد منه التثبت، والتبين يقتضي الذكاء والفطنة فيرى ملامح إيمان من ألقى إليه بالسلام: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام} [النساء: 94] . فالمسلم يجب أن يفطن كيلا يأخذ إنساناً بالشبهات، ولذلك نجد النبي يحزم الأمر مع أسامة بن زيد الذي قتل واحداً بعد أن أعلن هذا الواحد إسلامه، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فكيف بلا إله إلا الله. هل شققت عن قلبه» . ويقول إسامة للرسول: لقد قال الشهادة ليحمي نفسه من الموت. وتكون الإجابة: هل شققت قلبه فعرفت، فكيف بلا إله إلا الله؟! فلقول: «لا إله إلا الله» حرمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2560 وقد روى أن الذي نزلت فيه هذه الآية هو محلم بن جثامة، وقال بعضهم: أسامة بن زيد، وقيل غير ذلك. عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} وقال: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} . وأهل العلم بالله يقولون: نجاة ألف كافر خير من قتل مؤمن واحد بغير حق. وجاء في بعض الروايات الأخرى أنه المقداد، وذلك فيما رواه البزار بسنده عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سرية فيها المقداد بن الأسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى إليه المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله، والله لأذكرن ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلما قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا يا رسول الله: إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد فقال: ادعوا لي المقداد. يا مقداد أقتلت رجلا يقول: لا إله إلا الله؟ فكيف لك بلا إله إلأا الله غدا؟ قال: فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله} . {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} و «ألقي إليكم السلام» يعني جاءكم مستسلماً، أو قال تحية المسلمين، وليس من حق أن يلقي الاتهام بعدم الإيمان على من جاء مسلماً، أو يقول بتحية الإسلام. وكلمة «عرض» إذا ما سمعناها، فلنعلم أنها في المعنى اللغوي: كل ما يعرض ويزول وليس له دوام أو استقرار أو ثبات. ونحن البشر أعراض؛ لأنه ليس لنا دوام أبداً، ويقال: إن الإنسان عرض إذا ما قاس الواحد منا نفسه بالنسبة للكون؛ لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2561 الكون لا يتم بناؤه على الإنسان؛ فالكون كله الذي نراه هو عرض وسيأتي يوم ويزول. والعرض بالنسبة للإنسان أن الواحد منا قد يرى نفسه صحيحاً أو سقيماًَ، هنا تكون الصحة عرضاً وكذلك المرض، وكذلك السمنة والنحافة، ولون البشرة إذا ما لوحته الشمس قد يتغير أبيض إلى أسمر، وكذلك الغنى والفقر. وكل شيء يمكن أن يذهب في الإنسان ويجيء هو عرض بالنسبة للإنسان، ويكون الإنسان جوهراً بالنسبة له. فإذا قسنا الإنسان بالنسبة إلى ثابت عنه، فالإنسان عرض، فهذا أمر نسبي، وإلاّ فكل شيء عرض، وكل شيء زائل {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} . {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} . وعرض الحياة الدنيا هنا هو أن يطمع القاتل فيما يملكه الذي يلقي السلام، وقد يكون عرض الحياة الدنيا - هنا - هو كبرياء نفس الإنسان عندما ينتقم من إنسان بينه وبينه إحن أو بغضاء. وعندما نجد كلمة «عرض» وهذا العرض في «الحياة الدنيا» نفهم - إذن - أنه عرض فيما لا قيمة له. ولذلك نجد الشاعر يعبر عن مشاعر الإنسان حينما يحزن لفقدان شيء كان عنده، وينسى الإنسان أنه هو شخصياً معرض للموت، أي للذهاب عن الدنيا فيقول: نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة ... فكيف آسي على شيء لها ذهبا وكذلك عرض الحياة الدنيا. ونفهم كلمة «دنيا» على أساس الاشتقاق، فهي من «الدنو» ومقابله «العلو» ومقابل «الدنيا» هو «العليا» . ومن يُقَوِّم عرض الحياة الدنيا التقويم الصحيح فهو يملك الذكاء والحكمة والفطنة؛ لذلك لا يأخذ هذا العرض ممن سيقتله عندما يلقي إليه بالسلام؛ لأنه يستخدم البصيرة الإيمانية ويأخذ الحياة الدنيا ممن خلقها. والعاقل حتى لو أراد الحياة الدنيا فهو يطلبها من صاحب الحياة كلها، ولا يأخذها من إنسان مثله، فالحياة الدنيا لا تنفعه؛ بدليل أنه معرض للقتل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2562 {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} والحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب النفس البشرية التي خلقها، ويعلم تعلقها بالأشياء التي تنفعها أو تطيل نفعها، مثال ذلك: أنّ الإنسان يكون سعيداً إذا ما ملك غداءه، وتكون سعادته أكثر إذا امتلك الغداء والعشاء، ويكون أكثر سعادة واطمئنانا عندما يملك في مخزن طعامه ما يقيت شهراً أو عاماً، ويكون أكثر إشراقاً عندما يمتلك أرضاً يأخذ منها الرزق، ويمتلكها أولاده من بعده. إذن فالإنسان يحب الحياة لنفسه، ويحب امتداد حياته في غيره، ولذلك يحزن الإنسان عندما لا يكون له أولاد؛ فهو يعرف أنه ميت لا محالة، لذلك فهو يتمنى أن تكون حياته موصولة في ابنه، وإن جاء لابنه ابن وصار للإنسان حفيد فهو يسعد أكثر؛ لأن ذكره يوجد في جيلين. ونقول لمثل هذا الإنسان: لنفرض أنك ستحيا ألف جيل، لكن ماذا عن حالتك في الآخرة، أَلاَ تُنَشِّئ ولدك على الصلاح حتى يدعو لك؟ ولذلك يفاجئ الحق النفس البشرية التي تهفو إلى المغانم، ويكشفها أمام صاحبها، فيأتي بالحكم الذي يُظهر الخواطر التي تجول في النفس ساعة سماع الحكم. وعندما أراد سبحانه أن يُحرم دخول المشركين البيت الحرام، وسبحانه يعلم خفايا النفوس؛ لأن المشركين حين يدخلون البيت الحرام بتجاراتهم وأموالهم إنما يدخلون مكة من أجل موسم اقتصادي يبيعون فيه البضائع التي يعيشون من ريعها وربحها طوال العام. وساعة يحرم سبحانه دخول المشركين إلى البيت الحرام، يعلم أن أهل الحرم ساعة يسمعون هذا الحكم سيتذكرون مكاسبهم من التجارة، فقال: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] . وقبل أن يقول أهل الحرم في أنفسهم: وكيف نعيش ونصرف بضائعنا؟ ، يتابع سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 28] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2563 وبذلك يكشف الحق أمام النفوس خواطرها الدفينة؛ فهو العليم بأن الحكم ساعة ينزل ما الذي سيحدث في أذهان سامعيه؛ فهو خالقهم، ولذلك فلا أحد له من بعد ذلك تعليق! وقوله الحق: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} ينطبق في كل عصر وفي كل زمان. ويقول الحق بعد ذلك: {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} . فسبحانه الرزّاق الوهاب. ولذلك أنا أحب أن يزين الناس أماكنهم ومساكنهم بلوحات فنية مكتوب عليها: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 28] . وكذلك قول الحق: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} [النساء: 94] . لعل ذلك يمس قلوب من بيدهم الأمر، فيلتفتوا إلى الله. وبعد ذلك يقول الحق: {كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . وفي هذا دعوة لأن يمر من نزل فيهم القرآن بتاريخهم القريب ويسترجعوا ماضيهم، فلماذا يتهم المسلم أخاه الذي يلقي السلام بأنه مازال كافراً ولا يفكر أن الذي ألقى إليه السلام هو إنسان يستر إسلامه بين أهله لأنهم كفار؟ وكان المسلم يمر بهذه الحالة عند بداية الإسلام؛ كان المسلم يستر إسلامه عن أهله الذين كانوا كافرين. وكان المسلمون الأوائل قلة مستذلة تداري إيمانها، فهل سلط الله عليهم أحداً يجترئ على التفتيش على النوايا؟ إذن فمثلما حدث لكم قدروه لإخوانكم. {كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} والحق يمن عليهم بأنهم صاروا أهل رفعة بكلمة الإسلام، وصار المسلم منهم يمشي عزيز الجانب ولا يجرؤ واحد أن يوجه إليه أي شيء. ويأتي سبحانه هنا بكلمة «فتبينوا» مرة أخرى بعد أن قالها في صدر الآية. وكان مقصوداً بها ألا يقتل مسلم إنساناً ألقى السلام لمجرد أن المسلم يفكر في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2564 المسألة الاقتصادية، وها هوذا يعيد سبحانه كلمة «تبينوا» ، لقد جاءت أولاً كتمهيد للحيثية، وهي قوله: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} وتأتي هاهنا نتيجة للحيثية {فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . وسبحانه حين يشرع لا يشرع عن خلاء، لكنه خبير بكل ما يصلح النفس الإنسانية، ولا يعتقدن أحد أنه خلقنا ثم هدانا إلى الإيمان ليخذلنا في نظام الحياة، بل خلقنا وأعطانا المنهج لنكون نموذجاً، وليرى الناس جميعاً أن الذي يحيا في رحاب المنهج تدين له الدنيا. {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . كأن الحق يقول: إياك أن تستر بلباقتك شيئاً وتخلع عليه أمراً غير حقيقي؛ لأن الذي تطلب جزاءه هو الرقيب عليك والحسب، ويعلم المسألة من أولها إلى آخرها. فالذي قتل إنساناً ألقى إليه السلام، لم يقتله لأنه لم يُسلم، ولكن لأن بينهما إحناً وبغضاء، وعليه أن يعرف أن الله عليم بما في النفوس. ويريد الحق أن يتثبت المؤمن من نفسه حين يوجهها إلى قتل أحد يشك في إسلامه أو في إيمانه، وحسبه من التيقن أن يبدأه صاحبه بالسلام، ويُذَكّر الحق سبحانه المؤمنين بأنهم كانوا قبل ذلك يستخفون من الناس بالإيمان وكانوا مستترين. فإذا كنتم أيها المؤمنون قد حدث لكم ذلك فاحترموا من غيركم أن يحصل منه ذلك، وثقوا تمام الثقة أن الله عليم خبير، لا يجوز عليه - سبحانه - ولا يخفي عليه أن يدس أحدكم الإحن النفسية ليُبرر قتل إنسان مسلم كانت بينه وبين ذلك المسلم عداوة. وبعد أن تكلم الحق عن قتال المؤمنين للكافرين، وبعد أن تكلم عن تحريم قتل المؤمن للمؤمن حتى لا يفقد المؤمنون خلية الإيمان، بل تكون حياة كل مؤمن خيراً للحركة الإيمانية في الأرض، لذلك علينا أن نحافظ على حياة كل فرد مؤمن لأنه سيساعدنا في اتساع الحركة الإيمانية، فإن حدث أن قتل مؤمن مؤمناً خطأ، فقد بين سبحانه وتعالى الحكم في الآية رقم 92 من سورة النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2565 وبعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين الفارق بين من قعد عن الجهاد في سبيل الله ومن جاهد فقال سبحانه: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2566 ولهذه الآية قصة. . واقتناص الخواطر من هذه القصة يتطلب يقظة تعلمنا كيف يخاطب الحق خلقه. فقد حدثنا سيدنا زيد بن ثابت وهو المأمون على كتابه وحي رسول الله. وهو المأمون على جمع كتاب الله من اللخاف ومن العظام ومن صدور الصحابة، حدثنا فقال: - كنت إلى جنب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فغشيته السكينة - وهذه كانت دائماً تسبق نزول الوحي على رسول الله - فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن تَرُضَّها. أي أن فخذ رسول الله كانت ثقيلة. والوحي ساعة كان يأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربّما كان يصنع في كيماوية رسول الله تأثيرا مادياً بحيث إذا كان على دابة عرف الناس أنه يوحي إليه؛ لأن الدابة كانت تئط تحته فإذا كانت فخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2566 على فخذ زيد بن ثابت، فلا بد أن يشعر سيدنا زيد بثقل فخذ رسول الله وقد جاءه الوحي. قال زيد: خشيت أن ترضّ فخذه فخذي - أي تصيبها بالدّق الشديد أو الكسر. فلما سُري عنه قال اكتب: «لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين والمجاهدون» ، فقال سيدنا ابن أم مكتوم، وكان - كما نعلم - ضريراً مكفوف البصر قال: فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين يا رسول الله؟ إنها اليقظة الإيمانية من ابن أم مكتوم، لأنه فهم موقفه من هذا القول، ومن أنه لا يستطيع الجهاد، وعلم أنه إن كانت الآية ستظل على هذا فلن يكون مستوياً مع من جاهد، ولهذا قال قولته اليقظة: فكيف بمن لا يستطيع ذلك يا رسول الله؟ فأخذت رسول الله السكينة ثانيةً، ثم سرى عنه، فقال لزيد بن ثابت: اكتب: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله} . فكأنها نزلت جواباً مطمئناً لمن لا يستطيع القتال مثل ابن أم مكتوم،. ولقائل أن يقول: وهل كانت الآية تنتظر أن يستدرك ابن أم مكتوم ليقول هذا؟ . ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى أراد أن ينبه كل مؤمن أنه حين يتلقى كلمة من الله أن يتدبر ويتبيّن موقعه من هذه الكلمة؛ فإذا كان ذلك حال سيدنا ابن أم مكتوم فيما سمع رسول الله عن ربه فهو يعلمنا كيف نستحضر دورنا من أية قضية نسمعها. وحينما سمع ابن أم مكتوم الآية رأي موقفه من هذه الآية، وهذا ما يريده الحق من خلقه. وقال زيد بن ثابت: فكتبتها. إنها الدقة في أداء زيد بن ثابت لتدلنا على صدق الرواية، فحين يكتب أولاً {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون} ألا تلتصق كلمة «والمجاهدون» بكلمة «المؤمنين» فإذا زاد الحق سبحانه وتعالى {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} فأين تكتب؟ كأن زيد بن ثابت كان عليه أن يقوم بتصغير الكتابة ليكتب {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} بين كلمة {مِنَ المؤمنين} وكلمة {والمجاهدون} . قال سيدنا زيد بن ثابت: لقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2567 نزلت {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} وحدها وكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع الكتف - فقد كانوا يكتبون على أكتاف العظم - والكتف التي كتب عليها سيدنا زيد بن ثابت كانت مشروخة وكانت هذه علامة بها. ويريد الحق بذلك أن ينبه المؤمنين إلى أنهم حين يتلقون كتاب الله يجب أن يتلقوه بيقظة إيمانية بحيث لا تسمع آذانهم إلا ما يمر على عقولهم أولاً ليفهم كل مؤمن موقفه منها، وتمر الآية على قلوبهم ثانية لتستقر في ذاتهم عقيدة. كذلك كانت قصة زيد بن ثابت وابن أم مكتوم والوحي في هذه الآية: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون} . وهناك حالات يأتي الفعل فلا يصلح له فاعل واحد بل لا بد له من اثنين. . مثال ذلك عندما نقول: تشارك زيد وعمرو. وعندما نصف لاعبي الكرة، نجد من يتلقف الكرة واحداً بعد الآخر، فنقول: تلقف اللاعبون الكرة رجلاً بعد رجل. وعندما يقول الحق: {لاَّ يَسْتَوِي} فهذا يدل على أن هناك شيئين لا يتساويان، فأيهما غير المساوي للآخر؟ . كلاهما لا يتساوى مع الآخر، ولذلك يكون الاثنان في الإعراب «فاعلا» ، فلا يساوي المجاهدون القاعدين ولا يساوي القاعدون المجاهدين؛ لأن كلا منهما فاعل ومفعول. وعندما يقول: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين} فما هو مقابل «القاعدين» في الآية الكريمة؟ إنه «المجاهدون» ، لكن المقابل في الحياة العادية لل «القاعدين» هو «القائمون» ، ومقابل «المجاهدين» هو «غير المجاهدين» . وبذلك كان من الممكن القول. لا يستوي القاعدون والقائمون، أو أن يقال: لا يستوي المجاهدون وغير المجاهدون. فما الحكمة في مجيء القاعدين والمجاهدين؟ إن الحق يريد أن يبين أنه في بداية الإسلام كان كلمؤمن حين يدخل الإسلام يعتبر نفسه جندياً في حالة تأهب، وكانوا دائماً على درجة استعداد قصوى ليلبوا النداء فوراً؛ فالمسلم لم يكن في حالة استرخاء، بل في تأهب وكأنه واقف دائماً ليلبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2568 النداء، وكأن القاعد هو الذي ليس من صفوف المؤمنين ويبين لنا ذلك قول الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هَيْعَةً أو فزعه طار إليها يبتغي القتل والموت مَظَانَّه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأوْدية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير» . فإن لم يكن المؤمن متأهباً فهو قاعد، والقاعد - كما نعرف - هو ضد القائم. والحق يقول: {فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً} [النساء: 103] . من هذا القول نعرف أن المقابل للقيام هو القعود. وعلينا أن نعرف أن لكل لفظ معنىً محدداً، فبعضنا يتصور أن القعود كالجلوس، ولكن الدقة تقتضي أن نعرف أن القعود يكون عن قيام، وأن الجلوس يكون عن الاضطجاع، فيقال: كان مضطجعاً فجلس، وكان قائماً فقعد. وعندما يقول الحق هنا: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر} فالقعود مقابل القيام، فكأن المجاهد حالته القيام دائما، وهو لا ينتظر إلى أن يقوم، لكنه في انتباه واستعداد. ويوسع الحديث الشريف الدائرة في مسئوليات المجاهد فيرسم صورة للمقاتل أنه على أتم استعداد وعلى صهوة الفرس وممسك باللجام حتى لا تدهمه أية مفاجأة. وهل كانت هناك مظنة أن يستوي القاعد والمجاهد؟ . لا، ولكن يريد الله أن يبين قضية إيمانية مستورة، فيظهرها بشكل واضح لكل الأفهام. ونحن نقول للطالب: «إن من يستذكر ينجح ومن لا يستذكر يرسب» وهذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2569 مسألة بديهية، لكننا نقولها حتى نجعلها واضحة في بؤرة شعور التلميذ فيلتفت لمسئولياته. وعندما يقول الحق: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله} هل معنى ذلك أن عقلاً واحداً في زمن رسول الله كان يظن المساواة بين القاعد والمجاهد؟ لا، ولكن الحق يريدها قضية إيمانية في بلاغ إيماني من الله. وبعد ذلك يلفت الأنظار إلى صفة القاعدين الذين لا يستوون مع المجاهدين فيقول: {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} . والضرر هو الذي يفسد الشيء مثل المرض، وهذا ما يوضحه قوله الحق: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91 - 92] . فالضعف ضرر أخرج الإنسان عن مقومات الصحة والعافية، والمرض ضرر، والذين لا يجدون مالاً ينفقون منه، ولا الذين يجيئون لرسول الله فلا يكون بحوزة الرسول دواب تحملهم، فينصرفون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً لأنهم لا يجدون ما ينفقون. وكان المؤمن من هؤلاء يحزن لأن رسول الله لم يجد له فرساً أو دابة تنقله إلى موقع القتال: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] . لقد تولوا وأعينهم تفيض من الدمع. وكلمة «تولوا» هنا لها معنى كبير، فلم يقل الحق: إن أعينهم تفيض من الدمع من غير التولي، هم لا يدمعون أمام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2570 النبي، ولكنهم يدمعون في حالة توليهم، وهذا انفعال نفسي من فرط التأثر؛ لأنهم لا يشتركون في القتال. وكلمة «تفيض» تدل على أن الدمع قد غلب على العين كلها، فهم لا يصطنعون ذلك، لكن الانفعال يغمرهم؛ لأن الذي يتصنع ذلك يقوم بتعصير عينيه ويبذل جهداً للمُراءاة، ولكن انفعال المؤمنين الذين لا يقاتلون يغلبهم فتفيض أعينهم من الدمع. وهناك آية أخرى حدد فيها الحق الحالات التي لا يطالب فيها المؤمن بالقتال: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الفتح: 17] . هؤلاء - إذن - هم أولو الضرر. {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} وما داموا لا يستوون فمن الذي فيهم يكون هو الأفضل؟ . ذلك ما توضحه بقية الآية التي تحمل المقولة الإيمانية الواضحة: {فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} . وسبحانه وعد الاثنين بالحسنى الإيمانية؛ لأن كُلاًّ منهما مؤمن، ولكن للمجاهد درجة على القاعد. وإن تساءل أحد: ولماذا وعد الله القاعد من أولى الضرر بالحسنى؟ وهنا أقول: علينا أن ننتبه وأن نحسن الفهم والتدبر عندما نقرأ القرآن؛ لأن الذي أصابته آفة فناله منها ضرر، فصبر لحكم الله في نفسه، ألا يأخذ ثواباً على هذه؟ . لقد أخذ الثواب ولا بد - إذن - أن يعطي الحق من لم يأخذ ثوابا مثله فرصة ليأخذ ثواباً آخر حتى يكون الجميع في الاستطراق الإيماني سواء. لذلك يقول سبحانه: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} . والحسنى في أولى الضرر أنه أخذ جزاء الصبر على المصيبة التي أصابته، والذي لم يصب بضرر سيأخذ ثواب الجهاد، وبذلك يكون الجميع قد نالوا الحسنى من الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2571 {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً} . وسبحانه يضع أجراً جديداً للقائم مجاهداً على القاعد، ففي صدر الآية جاء ب «درجة» أعلى للقائم مجاهداً، وهنا {أَجْراً عَظِيماً} . ما تفسير هذا الأجر العظيم؟ . التفسير يجيء في قوله: {دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2572 فسبحانه قد أعطى لأولي الضرر درجة، وفضّل المجاهد في سبيل الله على القاعد من غير أولي الضرر درجات عدة. وساعة نسمع كلمة «درجة» فهي المنزلة، والمنزلة لا تكفي فقط للإيضاح الشامل للمعنى، ولكن هي المنزلة الارتقائية. أما إن كان التغير إلى منازل أخرى أقل وأدنى، فنحن نقول: «دركات» ولا نقول: «درجات» . ولكن هل الدرجات هي لكل المجاهدين؟ . لا؛ لأننا لا بد أن نلحظ الفرق بين الخروج من الوطن وترك الأهل للجهاد؛ وعملية الجهاد في ذاتها؛ فعملية الجهاد في ذاتها تحتاج إلى همة إيمانية، ولذلك جاء الحق بنص في سورة التوبة: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2572 الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121] . هنا يوضح الحق أنه لا يصح لأهل المدينة والأعراب الذين حولهم أن يتخلفوا عن الجهاد مع رسول الله، ولا يرضوا لأنفسهم بالسعة والدعة والراحة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الشدة والمشقة، فكما ذهب إلى القتال يجب أن يذهبوا؛ لأن الثواب كبير، فلا يصيبهم تعب إلا ولهم عليه أجر العمل الصالح، ولا يعانون من جوع إلا ولهم أجر العمل الصالح، ولا يسيرون في مكان يغيط الكفار إلا ولهم أجر العمل الصالح. ولا ينالون من عدو نَيلا إلا ويكتبه الله لهم عملاً صالحاً، فسبحانه يجزي بأحسن ما كانوا يعملون. وقام العلماء بحصر تلك العطاءات الربانية بسبع درجات، فواحد ينال الدرجات جميعاً. وآخر أصابه ظمأ فقط فنال درجة الظمأ، فأخذ درجة النصب أي التعب، وثالث أصابته مخمصة، ورابع جمع ثلاث درجات، وخامس جمع كل الدرجات. وعندما نقوم بحساب هذه الدرجات نجدها: الإصابة بالظمأ، النَّصَب - أي التعب - الجوع، ولا يطأون موطئا يغيط الكفار أي لا ينزلون في مكان يتمكن فيه المسلمون منهم ويبسطون سلطانهم عليهم، والمقصود الحصن الحصين عند الكافر، النَّيْل: التنكيل بالعدو، النفقة الصغيرة أو الكبيرة، وقطع أي واد في سبيل الله، وهذه هي الدرجات السبع التي يجزي الله عنها بأحسن مما عمل أصحابها، كما فسرها العلماء، فمن نال الدرجات السبع فقد نال منزلة عظيمة، وكل مجاهد على حسب ما بذل من جهد. فمن المجاهدين من ينال درجة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو ست أو سبع درجات. وعندما نقرأ الآيتين معاً: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2573 دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 95 - 96] . نجد أن الله يُرغّب المؤمنين في أن يكونوا مجاهدين، وأن يبذلوا الجهد لتكون كلمة الله هي العليا. فإذا ما آمن الإنسان فليس له أن يتخلف عن الصف الإيماني؛ لأنه ما دام قد تقع نفسه بالإيمان فلمَ لا ينضم إلى ركب من ينفع سواه بالإيمان؟ . ويريد الله أن يعبئ كل مَنْ مسّ الإيمان قلبه، وحتى ولو كان موجوداً في مكان يسيطر عليه الكفار، فيدعوه لأن يتخلص من التفاف الكفار حوله وليخرج منضماً إلى إخوانه المؤمنين. وليشيع الإيمان لسواه ويعبر عملياً عن حبه للناس مما أحبه لنفسه. ولكن هناك من قالوا: نحن ضعاف غير قادرين على الهجرة أو القتال في سبيل الله. فيأتي القرآن بقطع العذر لأي إنسان يتخلف عن ركب الجهاد في سبيل الله وسبيل نصرة دين الله فيقول الحق: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2574 هؤلاء هم الذين يظلمون أنفسهم بعدم المشاركة في الجهاد وهذا ما يحدث لهم عندما تقبض الملائكة أرواحهم. و «التوفي» معناه «القبض» ؛ فيقال: «توفيت دَيْني» أي قبضته مستوفياً. ويقال: «توفي الله الإنسان» أي قبضه إليه مستوفياً. والقبض له أمر أعلى، وهو الحق. ومن بعد ذلك هناك موكل عام هو «عزرائيل» ملك الموت، وهناك معاونون لعزرائيل وهم الملائكة. فإذا نسبت الوفاة فهي تنسب مرة لله، فالله يتوفى: لأنه الآمر الأعلى، وتنسب الوفاة للملائكة في قوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2574 {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] . وتنسب الوفاة إلى عزرائيل. {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] . وإذا ما أطلق الحق هذه الأساليب الثلاثة في وصف عملية الوفاة فهل هذا اختلاف وتناقض وتضارب في أساليب القرآن؟ لا، بل هو إيضاح لمراحل الولاية التي صنعها الله، فهو الآمر الأعلى يصدر الأمر إلى عزرائيل، وعزرائيل يطلق الأمر لجنوده. وفي حياتنا ما يشرح لنا هذا المثل - ولله المثل الأعلى - فالتلميذ قد يذهب إلى المدرسة بعد امتحان آخر العام ويعود إلى بيته قائلاً: لقد وجدت نفسي راسباً، والسبب في ذلك هم المدرسون الذين قصدوا عدم إنجاحي. ويرد عليه والده: المدرسون لم يفعلوا ذلك، ولكن اللوائح التي وضعتها الوزارة لتصحيح الامتحانات هي التي جعلتك راسباً. فيرد التلميذ: لقد جعلني الناظر راسباً. وهذا قول صحيح؛ لأن الناظر يطبق القوانين التي يحكم بمقتضاها على الطالب أن يكون ناجحا أو راسبا. وقد يقول التلميذ: إن وزير التربية والتعليم هو من جعلني راسباً. وهذا أيضاً صحيح؛ لأن الوزير يرسم مع معاونية الخطوط الأساسية التي يتم حساب درجات كل تلميذ عليها، فإذا قال التلميذ: لقد جعلتني الدولة راسباً، فهو قول صحيح؛ لأنه فهم تسلسل التقنين إلى مراحل العلو المختلفة، وأي حلقة من هذه الحلقات تصلح أن تكون فاعلاً. ومن هنا نفهم أن الحق سبحانه حين يقول: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] . فهذا قول صحيح، مثل قوله سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2575 ومثل قوله سبحانه: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] . كل هذه الأقوال صحيحة؛ لأنها تتعلق بمدارج الآمر. {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ} والظلم هو أن تأتي لغير ذي الحق وتعطيه ما تأخذ من ذي الحق، والظلم يقتضي ظالماً ومظلوماً وأمرا وقع الظلم فيه. فكيف يكون الإنسان ظالماً لنفسه وتتوفاه الملائكة على ذلك؟ . لا بد أنهم فعلوا ما يستحق ذلك. فساعة تأتي للإنسان الشخصية المعنوية الإيمانية بعد أن آمن بالله وآمن بالمنهج، ثم تحدثه نفسه بالمخالفة، هنا يواجه صراعاً بين أمرين: مسئولية الشخصية الإيمانية التي تَقَبَّل بها المنهج من الله، ووازع النفس التي تلح عليه بالانحراف. ويدور ما هو أشبه بالجوار بين المسئولية الإيمانية ووزاع النفس الملح بالانحراف. وعندما تتغلب النفس الإيمانية يعرف الإنسان أن نفسه صارت مطمئنة وسعيدة، ويقول لنفسه: إنك إن طاوعت وازع الانحراف تكن قد حققت شهوة عاجلة ستكْوى بها في آخر الأمر، وأنت برفضك للشهوة تكون قد أنصفت نفسك. ولو طاوعت شهوتك العاجلة تكون قد ظلمت نفسك. ومثل ذلك يحدث في حياتنا العادية: عندما تدلل الأم ابنها بينما يطلب منه والده الاستذكار ويحاول أن يردعه ليقوم بمسئوليته الدراسية، إن هذه الأم تظلم ابنها، وكذلك يعطينا الحق فكرة عن الصراع بين الشخصية الإيمانية والنفس الانحرافية التي تريد الهوى فقط فيقول: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] . هنا يقول هابيل لقابيل: - ولماذا تقتلني؟ . إنني لست أنا الذي تقبل القربان ولكن الذي تقبله هو الله فما ذنبي؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2576 ويأتي بعد ذلك الحوار: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [المائدة: 28] . ولنلتفت إلى هذا القول الحكيم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30] . كأن هناك صراعاً في نفس قابيل بين أمرين «اقتل» و «لا تقتل» ، النفس الإيمانية تقول: «لا تقتل» والنفس الشهوانية تقول: «بل عليك أن تقتل» . وتغلبت النفس الشهوانية عندما طوعت له قتل أخيه، ومهدت له ذلك. وبعد أن قتل أخاه، وضاعت شِرَّة الغضب صار من النادمين، ثم بدأت الحيثيات تظهر وتتضح. ويبعث الله غراباً يبحث ويحفر في الأرض ليواري جثة غراب آخر. هنا قال قابيل: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} [المائدة: 31] . وهكذا نرى أن ظلم النفس هو أن نخالف ما شرع الله للنفس لينفعها نفعاً أبدياً مستوفياً، ولكن النفس قد تندفع وراء حبها للشهوات وتمنيها للنفع العاجل الذي لا خلود له، وعندما يحقق الإنسان هذا النفع العاجل لنفسه فهو يظلم نفسه. {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} إذن فالملائكة تسأل ظالمي أنفسهم: {فِيمَ كُنتُمْ} أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع أي لماذا ظلمتم أنفسكم؟ ولماذا لم تفعلوا مثلما فعل إخوانكم وهاجرتم وانضممتم لموكب الإيمان وموكب الجهاد؟ .، ولماذا ظللتم في أماكنكم محجوزين ومحاصرين ولا تستطيعون الحركة ولا تستيطعون الفِكاك؟ وتكون إجابة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2577 الذين ظلموا أنفسهم: {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} . وبالله عندما يحكي لنا الله هذه الصورة التي تحدث يوم القيامة فهل سيكون عندنا وقت للاستفادة منها؟ . طبعاً لا؛ لأنه لن يكون لنا قدرة الاستدراك لنصحح الخطأ. والحق حين يقص علينا هذا المشهد فذلك من لطفه بنا، وتنبيه لكل منا: احذروا أن يأتي موقف ويحدث فيه ما أوضحته لكم ولن يستطيع أحد أن يستدرك الحياة ليصنع العمل الطيب. وعلى كل منكم أن يبحث أمر نفسه الآن. {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} وكلمة {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} تفيد أن قوماً استضعفوهم، أي أنهم لم يكونوا قادرين على الخروج والهجرة ولا يعرفون السبيل إليها، وخافوا على أموالهم وديارهم، والقوم الذين استضعفوهم قالوا لهم: إن خرجتم لا تأخذوا شيئاً من أموالكم. هذه هي بعض مظاهر الاستضعاف. وهنا تقول الملائكة ما يفيد أن هذا الكلام لا يليق ولا ينفع، تقول الملائكة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} . وكأن هذا تنبيه آخر، وإعلان أن مثل هذا القول ومثل تلك الحجة لا قيمة لها؛ لأن الذي يمسكه مكانه وماله دون الله إنما هو من وضع وربط يقينه بالأسباب. أما الذي يضع منهج الله فوق مكانه وولده وكل شيء فهذا هو الذي وثق بالله لأنه هو المسبب وهو مانح ومعطي الأسباب. {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} وهذا القول على لسان الملائكة قادم من القانون الأعلى، فقد خلق الحق الخلق جميعاً واسكنهم في الأرض، وهذه الأرض ليست لأحد دون أحد، فمن يضق به مكان فليذهب إلى مكان آخر. وإذا كان الإنسان من ظلمه وجبروته وعتوه قد صنع تحديدا للمكان، فلا ينتقل إنسان من مكان إلى مكان إلا بعد سلسلة طويلة من التعقيدات التي تحول دون الانتقال من مكان إلى مكان، فذلك مناقضة لقضية الخلافة في الأرض؛ لأن الخلافة لم توزع كل جماعة على أرض ما. ولكن الإنسان، كل إنسان خليفة في الأرض كل الأرض، مصداقاً لقول الحق: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2578 {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10] . فقد جعل الله الأرض متضعة مسخرة مذللة للإنسان، والأرض هي أي أرض، والأنام هم كل الأنام. وإن لم ينتبه العالم إلى هذه القضية ويجعلها قضية كونية اجتماعية، سيظل العالم في فساد وشقاء. فالذي يجعل الحياة في الأرض فاسدة هو خروج بعض الآراء التي تقول: إن الكثافة السكانية تمنع أن نجد الطعام لسكان بلد ما. يقولون ذلك في حين أن أرضاً أخرى تحتاج إلى أيد عاملة، ولذلك نجد أن البشرية أمام وضع مقلوب، فأرض في بلاد تحتاج إلى أناس، وأناس من بلاد يحتاجون إلى الأرض. ومن الواجب أن تسيح المسألة فتأخذ الأرض التي بلا رجال ما تحتاجه من الرجال من البلاد التي لا أرض فيها. وهذا الضجيج الذي يعلو في الكون سببه أنه يوجد في كون الله أرض بلا رجال ورجال بلا أرض، فإذا ما ضاق مكان بإنسان فله أن يذهب إلى مكان آخر، ولو كان الأمر كذلك لسعدت البشرية، ومن ينقض هذه القضية فعلية أن يعرف أنه ياخذ الخلافة في الأرض بغير شروطها، فالذي يفسد الأمر في الأرض أن الإنسان الخليفة في الأرض نسي أنه خليفة واعتبر نفسه أصيلاً في الكون. وما دام قد اعتبر نفسه أصيلاً في الكون فهذا هو الفساد. {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 97] . إذن، فإن أقام الإنسان على ضيم ولم يعمل فكره وعقله ولم يطرح قضية الكون أمامه ليرى الأرض التي تسعه فيهاجر فيها فعلية أن يعرف أنه مهدد بسوء المصير؛ لأن الله قد جعل له الكون كله ليكون فيه خليفة، أمّا الذين سوف ينجون من هذا العقاب ومن تعنيف الملائكة لهم ساعة الوفاة فهم مَن يقول عنهم الحق في الآية التالية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2579 {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2580 وعلينا أن نعرف أن هناك فرقاً بين «مستضعف دعوى ومستضعف حقيقي» ، فهناك مستضعف قد قبل استضعاف غيره له وجعل من نفسه ضعيفاً. هذا هو «مستضعف دعوى» . أما «المستضعف الحقيقي» فهو مِن هؤلاء الذين يحددهم الحق: {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} . هؤلاء هم المستضعفون فعلاً حسب طبيعة عجزهم من الرجال والنساء والولدان. هل الولد من الولدان يكون مستضعفاً؟ نعم؛ لأن الاستضعاف إما أن يكون طارئاً وإما أن يكون ذاتياً؛ فبعض من الرجال يكون مملوكاً لغيره ولا يقدر على التصرف أو الذهاب، وكذلك النساء؛ فالمرأة لا تستطيع أن تمشي وحدها وتحمي نفسها، بل لا بد أن يوجد معها من يحميها من زوج أن محرم لها، وكذلك الولدان؛ لأنهم بطيعتهم غير مكلفين وهم بذلك يخرجون عن نطاق التعنيف من الملائكة لأنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. وهذه دقة في الأداء القرآني، فالإنسان مكلف بالخروج عن ظلم غيره له ولو بالاحتيال، والاحتيال هو إعمال الفكر إعمالاً يعطي للإنسان فرصة أكثر مما هو متاح له بالفعل. فقد تكون القوة ضعيفة. ولكن بالاحتيال قد يوسع الإنسان من فرص القوة. ومثال ذلك: الإنسان حين يريد أن يحمل صخرة، قد لا يستطيع ذلك بيديه، لكنه يأتي بقضيب من الحديد ويصنع منه عتلة ويضع تحت العتلة عجلة، ليدحرج الصخرة، هذه هي حيلة من الحيل، وكذلك السَّقالات التي نبني عليها، إنها حيلة. والذي قام ببناء الهرم، كيف وضع الحجر الأخير على القمة؟ لقد فعل ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2580 بالحيلة، والذي جلس لينحت مسلة من الجرانيت طولها يزيد على العشرة الأمتار، ثم نقلها وأقامها إنّه فعل ذلك بالحيلة. فالحيلة هو فكر يعطي الإنسان قدرة فوق قدرته على المقدور عليه، كذلك معرفة السبيل إلى الهجرة. وكانت معرفة الطرق إلى الهجرة من مكة إلى المدينة في زمن رسول الله تحتاج إلى خبرة حتى يتجنب الواحد منهم المفازات والمتاهات، وحينما قال الرسول بالهجرة أحضر دليلاً للطريق، وكان دليله كافراً، فلا يتأتى السير في مثل هذه الأرض بلا دليل. ولننظر إلى قول الحق سبحانه: {فأولئك عَسَى ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2581 {فأولئك} إشارة إلى من جاء ذكرهم في الآية السابقة لهذه الآية: {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء: 98] . ومع ذلك فإن الله حين أشار إلى هؤلاء المستضعفين بحق قال: {فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99] . وكان مقتضي الكلام أن يقول الحق: «فأولئك عفا الله عنهم» ، لكن الحق جاء ب «عسى» ليحثهم على رجاء أن يعفو الله عنهم، والرجاء من الممكن أن يحدث أَوْ لا يحدث. ونعرف أن «عسى» للرجاء، وأنها تستخدم حين يأتي بعدها أمر محجوب نحب أن يقع. فقد ترجو شيئاً من غيرك وتقول: عساك أن تفعل كذا. وقد يقول الإنسان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2581 عساي أن أفعل كذا، وهنا يكون القائل هو الذي يملك الفعل وهذا أقوى قليلاً، ولكن الإنسان قد تخونه قوته؛ لذلك فعليه أن يقول: عسى الله أن يفعل كذا، وفي هذا الاعتماد على مطلق القوة. وإذا كان الله هو الذي يقول: {عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} ، فهذا إطماع من كريم قادر. وبعد أن يذكر لنا القصة التي تحدث لكل من مات وتوفته الملائكة ظالماً نفسه بأن ظل في أرض ومكث فيها، وكان من الممكن أن يهاجر إلى أرض إيمانية إسلامية سواها؛ ومع ذلك فالذي يضع في نفسه شيئاً يريد أن يحقق به قضية إيمانية فهو معان عليها لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... } . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2582 الذي يهاجر في سبيل الله سيجد السعة إن كان قد وضع في نفسه العملية الإيمانية. وفي البداية كان المسلمون يهاجرون إلى الحبشة؛ لأنهم لم يكونوا آمنين في مكة على دينهم. ولذلك قيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بسط الله له كونه واستعرض قضية العدالة في الكون، فلم يقبل النبي إلا أن يذهب المهاجرون إلى الحبشة، ولا بد أن الحق قد أعلمه أن الحبشة في ذلك الزمان هي أرض بلا فتنة. وقد يقول قائل: ولماذا لم يختر النبي أن يهاجر المهاجرون الأوائل إلى قبيلة عربية في الجنوب أو في الشمال؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2582 لقد كانت لقريش السيادة على كل الجزيرة العربية بقبائلها، فكل القبائل تحج عند قريش ولم تكن هناك أي بيئة عربية قادرة على أن تقف أمام هوى قريش. ولذلك استعرض سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البلاد جميعاً إلى أن أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، والعلة في الذهاب إلى الحبشة أن هناك ملكاً لا يظلم عنده أحد. وكان العدل في ذاته وساماً لذلك الملك وسماها المؤمنون دار أمن، وإن لم تكن دار إيمان. وأما الهجرة إلى المدينة فقد كانت إلى دار الإيمان. وعلينا أن نعرف نحن الذين نعيش في هذا الزمان أنه لا هجرة بعد الفتح، إلا إن كانت هجرة يقصد بها صاحبها المعونة على طاعة الله. وهو ما يوضحه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» . وهناك هجرة باقية لنا وهي الحج، أو الهجرة إلى طلب العلم، أو الهجرة لأن هناك مجالاً للطاعة أكثر، فلنفترض أن هناك مكاناً يضيق الحكام فيه على الذهاب إلى المسجد، فيترك أهل الإيمان هذا المكان إلى مكان فيه مجال يأخذ فيه الإنسان حرية أداء الفروض الدينية، كل هذه هجرات إلى الله. والنية في هذه الهجرات لا يمكن أن تكون محصورة فقط في طلب سعة العيش. ولذلك لا يصح أن يكون الشغل الشاغل للناس ما يشغلهم في هذا الزمان هو سعة العيش. وها هو ذا الإمام على - كرم الله وجهه - يقول: عجبت للقوم يَسْعَوْنَ فيما ضُمِن - بالبناء للمفعول - لهم ويتركون ما طلب منهم. فكل سعى الناس إنما هو للرزق والعيش وهو أمر مضمون لهم من خالقهم جل وعلا: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 100] . ولن يجد المهاجر إلا السعة من الله، والشاعر يقول: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2583 وقد يقول الإنسان: إنني أطلب سعة الرزق بالهجرة، ونقول: أنت تبحث عن وظيفة لها شكل العمل وباطنها هو الكسل لأنك في مجال حياتك تجد أعمالاً كثيرة. ونجد بعضاً ممن يطلبون سعة الرزق يريد الواحد منهم أن يجلس على مكتب ويقبض مرتباً، بينما يبحث المجتمع عن العامل الفني بصعوبة، كأن الذين يبحثون عن سعة الرزق يريدون هذه السعة مع الكسل، لا مع بذل الجهد. {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً} وساعة تقرأ كلمة «مراغم» تعرف أنها تفتح المجال أمام المستضعفين الذين يستذلهم الجبارون. ومادة «مراغم» هي «الراء والغين والميم» والأصل فيها «الرّغام» أي «التراب» . ويقال: سوف أفعل كذا وأنف فلان راغم، أي أنف فلان يذهب إلى التراب وسأفعل ما أنا مصمم عليه. وما دام هناك إنسان سيفعل شيئاً برغم أنف إنسان آخر، فمعناه أن الثاني كان يريد أن يستذله وأراد أن يرغمه على شيء، لكنه رفض وفعل ما يريد. وعندما يرى الإنسان جباراً يشمخ بأنفه ويتكبر، فهو يحاول أن يعانده ويصنع غير ما يريد ويجعل مكانه هذا الأنف في التراب، ويقال في المثل الشعبي: أريد أن أكسر أنف فلان. وعندما يهاجر من كان مستعضفا ويعاني من الذلة في بلده، سيجد أرضاً يعثر فيها على ما يرغم أنف عدوه. فيقول العدو: برغم أنن ضيقت عليه راح إلى أحسن مما كنت أتوقع. ويرغم الإنسان بهجرته أنف الجبارين. وكلمة «مراغم» هي اسم مفعول، وتعني مكاناً إذا ما وصلت إليه ترغم أنف خصمك الذي كان يستضعفك، فهل هناك أفضل من هذا؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2584 {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً} أي أنه سبحانه يعطي المهاجر أشياء تجعل من كان يستضعفه ويستذلّه يشعر بالخزي إلى درجة أن تكون أنفه في الرَّغام. والمستضعف في أرضٍ ما يجد من يضيق عليه حركته، لكنه عندما يهاجر في سبيل الله سيجد سعة ورزقاً. ويتابع الحق الآية: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} ولا أحد يعرف ميعاد الموت. فإن هاجر إنسان في سبيل الله فقد لا يصل إلى المراغم؛ لأن الموت قد يأتيه، وهنا يقع أجره على الله. فإذا كان سبحانه قد وعد المهاجر في سبيله بالمكان الذي يرغم أنف خصمه وذلك سبب، ومن مات قبل أن يصل إلى ذلك السبب فهو قد ذهب إلى رب السبب، ومن المؤكد أن الذهاب إلى رب السبب أكثر عطاءً. وهكذا نجد أن المهاجر رابح حياً أو ميتاً. {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} وكلمة {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} أي سقط أجره على الله. كأن الحق سبحانه وتعالى يقول للعبد: أنت عندما تهاجر إلى أرض الله الواسعة، إن أدركك الموت قبل أن تصل إلى السعة والمراغم، فأنت تذهب إلى رحابي. والمراغم سبب من أسبابي وأنا المسبب. وحتى نفهم معنى: {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} علينا أن نقرأ قوله الحق: {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} [النمل: 82] والوقوع هنا هو سقوط، ولكنه ليس كالسقوط الذي نعرفه، بل هو الذهاب إلى الله. ولماذا يستخدم الحق هنا «وقع» بمعنى «سقط» ؟ هو سبحانه يلفتنا إلى ملحظ هام: حيث يكون الجزاء أحرص على العبد من حرص العبد عليه، فإذا ما أدرك العبد الموت فالجزاء يسعى إليه وهو عند الله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2587 ويعرف الجزاء مَن يذهب إليه معرفة كاملة. وهكذا يجب أن نفهم قوله الحق: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 100] والله غفور رحيم حتى لمن توانى قليلاً، وذلك حتى يلحق بالركب الإيماني ويتدارك ما فاته؛ لأن الله يغفر ما فات إن حاول العبد تداركه. والهجرة تقتضي ضرباً في الأرض، وتقتضي الجهاد. وبعد أن جعل الله الإسلام أركاناً، جاء فحمل المسلم ما يمكن أن يؤديه من هذه الأركان، فأركان الإسلام هي: الشهادة؛ والصلاة؛ والصوم؛ والزكاة؛ والحج لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، والمسلم ينطق بالشهادة ويؤدي الصلاة، ولكنه قد لا يملك مالاً؛ لذلك يعفيه الحق من الزكاة. وقد يكون صاحب مرض دائم فلا يستطيع الصوم، فيعفيه الله من الصوم. وقد لا تكون عنده القدرة على الحج فيعفيه الحق من الحج. أما شهادة «لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» فقد لا يقولها المسلم في العمر إلا مرة واحدة. ولم يبق إلا ركن الصلاة وهو لا يسقط عن الإنسان أبداً ما دامت فيه الصلاحية لأدائها، ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رأس الأمر كله الإسلام وعموده الصلاة» ولأن الصلاة هي الركن الذي لا يسقط أبداً فقد جمع الله فيها كل الأركان، فعند إقامة الصلاة يشهد المسلم ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وخلال الصلاة يصوم الإنسان عن الطعام والشراب، وإضافة إلى ذلك يصوم ويمتنع عن الكلام أيضا، وهكذا نجد الصلاة أوسع في الإمساك عن ركن الصيام. فالإنسان وهو يقيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2588 الصلاة يحبس نفسه عن أشياء كثيرة قد يفعلها وهو صائم، فالصوم - مثلاً - لا يمنع الإنسان من الحركة إلى أي مكان لكن الصلاة تمنع الإنسان إلا من الوقوف بين يدي الله. إذن فالصلاة تأخذ إمساكاً من نوع أوسع من إمساك المؤمن في الصيام. والزكاة هي إخراج جزء من المال، والمال يأتي به الإنسان من الحركة والعمل. والحركة والعمل تأخذ من الوقت. وحين يصلي المسلم فهو يزكي بالأصل، إنه يزكي ببذل الوقت الذي هو وعاء الحركة، إذن ففي الصلاة زكاة واسعة. والحج إلى البيت الحرام موجود في الصلاة؛ لأن المسلم يتحرى الاتجاه إلى البيت الحرام كقبلة في كل صلاة، وهكذا. ولذلك اختلفت الصلاة عن بقية الأركان. فلم تشرع بواسطة الوحي، وإنما شرعت بالمباشرة بين رب محمد ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولأن هذه هي منزلة الصلاة نجد الحق يحذرنا من أن يشغلنا الضرب في الأرض عنها، بل شرع سبحانه صلاة مخصوصة اسمها «صلاة الحرب وصلاة الخوف» حتى لا يقولن أحد إن الحرب تمنعنا من الصلاة، ففي الحرب يكون من الأولى بالمسلم أن يلتحم بمنهج ربه. كذلك في السفر يشرع الحق قصر الصلوات: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2589 والضرب في الأرض مقصود به أن يمشي المؤمن في الأرض بصلابة وعزم وقوة. والقصر في الصلاة هو اختزال الكمية العددية لركعاتها. وفي اللغة «اختصار» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2589 و «اقتصار» . «الاقتصار» أن تأخذ بعضا وتترك بعضاً، و «الاختصار» هو أخذ الكل بصفة موجزة. مثال ذلك عندما نختصر كتاباً ما فنحن نوجز كل المعاني التي فيه في عدد أقل من الكلمات. وقد يفكر إنسان في أن يكتب خطاباً، ثم يقول لنفسه: سأرسل برقية في الموضوع نفسه. وهنا لا بد أن يختزل الكلمات لتحمل معاني كثيرة في ألفاظ موجزة. والإسهاب - كما نعلم - لا يأخذ من الوقت مثلما يأخذ الإيجاز؛ فعندما يريد الإنسان الإيجاز فهو يقدح ذهنه - في وقت أطول - ليصل إلى المعاني في كلمات أقل. ويحكى عن سعد زغلول - زعيم ثورة 1919 المصرية - أنه كتب رسالة لصديق فأطال، وأنهى رسالته بهذه الكلمات: وإني أعتذر إليك عن التطويل فليس عندي الوقت الكافي للإيجاز. ويحكي التاريخ عن الخليفة المسلم الذي أراد أن يهدد قائد الروم. . فكتب إليه؛ أما بعد: فسآتيك بجيش أوله عندك وآخره عندي. وهكذا أوجز الخليفة حجم الخطر الداهم الذي سيواجه ملك الروم من جيش عرمرم سيملأ الأرض إلخ. وينقل التاريخ عن أحد قادة العرب وموقفه القتالى الذي كان صعباً في «دومة الجندل» أنه كتب إلى خالد بن الوليد كلمتين لا غيرهما «إياك أريد» ولم يقل أكثر من ذلك ليتضح من هذا الإيجاز حجم المعاناة التي يعانيها. وقد أوردنا هذا الكلام ونحن بصدد الحديث عن القصر والإيجاز. والقصر في الصلاة هو أن يؤدي المؤمن كُلاًّ من صلاة الظهر والعصر والعشاء ركعتين بدلاً من أربع ركعات، أما الصبح والمغرب فكلاهما على حاله، الصبح ركعتان، والمغرب ثلاث ركعات. وحكمة مشروعية ذلك أن الصلاة في وقت الحرب تقتضي ألا ينشغل المقاتلون عن العدو، ولا ينشغلوا أيضا عن قول الحق: {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2590 فإذا شرع الله للخوف صلاة، وللحرب صلاة فمعنى ذلك أنه لا سبيل أبداً لأن ينسى العبد المؤمن إقامة الصلاة. وإذا كانت الصلاة واجبة في الحرب فلن تكون هناك مشاغل في الحياة أكثر من مشاغل الحرب والسيف. وصلاة الحرب - أي صلاة الخوف - جاء بها القرآن، أما صلاة السفر فقد جاءت بها السنة أيضا، وفيها يقصر المؤمن صلواته أيضاً: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} [النساء: 101] ولو رأى الكافرون المؤمنين مصفوفين جميعاً في الصلاة فقد يهجمون عليهم هجمة واحدة. ولذلك شرع الحق قصر الصلاة. ويكون الخطاب من بعد ذلك موجهاً للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2591 وحين يقول الحق: {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} نفهم أن ينقسم المؤمنون إلى طائفتين: طائفة تصلي مع رسول الله، وأخرى ترقب العدو وتحمي المؤمنين. ولكن كيف تصلي طائفة خلف رسول الله ولا تصلي أخرى وكلهم مؤمنون يطلبون شرف الصلاة مع رسول الله؟ ويأمر الحق أن يقسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الصلاة ليصلي بكل طائفة مرة، ليشرف كل مقاتل بالصلاة خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقصر الصلاة - كما عرفنا - ينطبق على الصلاة الرباعية وهي الظهر والعصر والعشاء أما صلاة الفجر وصلاة المغرب فلا قصر فيهما، فليس من المتصور أن يصلي أحد ركعة ونصف ركعة، وفي علم الحساب نحن نجبر الكسور إلى الرقم الأكبر. وقد صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاة الخوف بهيئات متعددة، ولا مانع من أن نلم بها إلماماً عاجلاً؛ لأن تعليم هذه الصلاة عادة يكون واجباً على الأئمة والعلماء الذين يصلون بالجيوش في حالة الحرب. ولصلاة الخوف طرق وكيفيات: كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُقَسِّم الجيش إلى قسمين؛ قسم يصلي معه وقسم يرقب العدو، ويصلي بكل فرقة ركعتين. وهناك طريقة أخرى وهي أن يصلي بطائفة وفرقة ركعة واحدة، ثم ينصرفون وتأتي الطائفة التي حمت الطائفة الأولى في أثناء الصلاة لتصلي هذه الطائفة الثانية ركعة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهنا يسلم رسول الله لأنه أنهى الصلاة. وبعد ذلك تصلي الطائفة الأولى الركعة الثانية التي عليها في القصر وتسلم، ثم تصلي الطائفة الثانية التي عليها في القصر وتسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2592 وهناك كيفية ثالثة وهي أن تأتي الطائفة الأولى تصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ركعة، ولا يصلي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معها الركعة الثانية بل يظل واقفاً قائماً إلى أن تخرج من صلاتها بالتسليم لتنادي الطائفة التي تقف في مواجهة العدو لتصلي خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الركعة الثانية بالنسبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينما هي الركعة بركعتها الثانية ويسلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بها وتنال الطائفة الأولى بشرف بدء الصلاة مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتحظى الطائفة الثانية بشرف السلام معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهنا نسأل: هل هذه الصلاة بهذا الأسلوب مقصورة على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإتماماً به لأن الصلاة معه هي الشرف؟ فكيف يصلي المقاتلون الخوف بعده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال العلماء: إذا كنت تعتبر القائمين بأمر القيادة هم خلفاء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الولاية فتقام صلاة الخوف على صورتها التي جاءت في القرآن، ولكن إذا كان لكل جماعة إمام فلتصل كل جماعة صلاة القصر كاملة خلف الإمام. {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ} وهذه الأسلحة المقصود بها الأسلحة الحقيقية مثل السيف أو الرمح أو النبلة أو البندقية فيأخذها المقاتل معه، أما من معه سلاح ثقيل فلن يأخذه بطبيعة الحال إلى الصلاة. {فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} والقول القرآني هنا ليس مجرد ألفاظ تقال ولكنها ألفاظ لها مدلولات من رب العالمين، فمن قدموا إلى الصلاة أولاً: تركوا خلفهم من يحميهم. ولكن الطائفة الثانية التي سوف تترك المواقع من أجل الركعة الثانية خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبالهم مشغول بذواتهم وبحماية من يصلون، فلعلهم حين يذهبون إلى الصلاة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلهيهم المسألة؛ لذلك قال الله: {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وهكذا نجد أن الطائفة الأولى ملزمة بأخذ السلاح، والطائفة الثانية ملزمة بأخذ الحذر والسلاح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2593 وقد يقول قائل: صحيح إن الأسلحة تؤخذ، ولكن كيف يؤخذ الحذر وهو عملية معنوية؟ ونقول: إنه سبحانه يصور المعنويات ويجسمها تجسيم الماديات حتى لا يغفل الإنسان عنها، فكأن الحذر آلة من آلات القتال، وإياك أيها المقاتل أن تغفل عنها. وهذا أمر يشيع في أساليب القرآن الكريم، فالحق سبحانه يقول: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] والدار هي مكان باستطاعة الإنسان أن يتبوأه ويقيم به، فما معنى أن يتبوأ الإنسان الإيمان وهو أمر معنوي؟ . إنه سبحانه في هذا القول يصف الأنصار الذين أكرموا وفادة المهاجرين، والدار - كما نعرف - هي المكان الذي يرجع إليه الإنسان، والإيمان هو مرجع كل أمر من الأمور. إذن فقد جعل الحق سبحانه الإيمان كأنه يُتبوأ، أي جعله شيئاً ينزل الإنسان فيه، والإيمان كذلك حقاً، والدار في هذا القول مقصود بها هنا المدينة المنورة، حيث استقبل الأنصار المهاجرين. {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} [الحشر: 9] وهكذا يجسم الحق المعنويات لنفهم منها الأمر وكأنه أمر حسّي، تماماً كما قال الحق: {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً} . وهذا ما يوضح لنا لماذا أمر الله أن يأخذ المسلمون الحذر والأسلحة؛ لأن المقاتل يجب أن يخاف على سلاحه ومتاعه. فلو فقدها المقاتل لفقد أداة القتال ولصارت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2594 أدوات قتاله لعدوه. فحين يأخذ المقاتل السلاح من عدوه، يتحول السلاح إلى قوة ضد العدو. لذلك كان التحذير من فقد الأسلحة والأمتعة حتى لا تضاف قوة السلاح والمتاع إلى قوة العدو؛ لأن في ذلك إضعافاً للمؤمن وقوة لخصمه. وعدو الإسلام يود أن يغفل المسلمون عن الأسلحة والمتاع، والمؤمن ساعة الصلاة يستغرق بيقظته مع الله، ولكن على الإنسان ألا يفقد يقظته إن كان يصلي أثناء الحرب، فلا يصح أن ينسى الإنسان سلاحه أثناء القتال حتى وهو يصلي، فالقتال موقف لله، فلا تفصل القتال في سبيل الله عن الصلاة لله. {وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} والغفلة هي نسيان طارئ على ما لا يصح أن يُنسى، وفي هذا نحذير واضح؛ لأن الغفلة أثناء القتال هي حلم للكافرين حتى يحققوا هدفهم المتمثل في قول الله: {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً} . فمعسكر الكفر يتمنى أن يهجم على المؤمنين في لحظة واحدة، هذا هو المقصود بقوله: {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً} . ولكن لنر من بعد ذلك قول الحق: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء: 102] ونجد هنا أن كلمة «الحذر» تكررت، وسبحانه بجلال جبروته أعد للكافرين عذاباً مهيناً، وفي ذلك بشارة منه أن الكافرين لن ينالوا من المؤمنين شيئاً، فلماذا جاء الأمر هنا بأخذ الحذر؟ . إن أخذ الحذر لا يعني أن الله تخلى عن المؤمنين، ولكن لتنبيه المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب، ولا يغفلوا عن المسبب لأنه سبحانه هيأ وأعد العذاب المهين للكافرين. {إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} . وهذا ما يجب أن نفهمه حتى لا يتوهم أحد أن الله عندما نبه كثيراً بضرورة الأخذ بالحذر ثم أنه يتخلى عنا، لا. إنّه سبحانه يوضح لنا أن نأخذ بالأسباب ولا نهملها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2595 وهو القائل {إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} . ومن بعد ذلك قال الحق: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2596 كأن المؤمن مطالب بألا يسوِّف ويُؤَخِّر الصلاة عن وقتها، وأن يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وذلك لتكون الصلاة دائماً في بؤرة شعور الإنسان، بل إن المؤمن مطالب بذكر الله حتى وهو يسايف عدوه وينازله، فهو يحمل السيف ولسانه رطب بذكر الله ويقول: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . والإنسان حين يسبح الله حتى وهو في حالة الاشتباك مع العدو لا ينساه الله. والمؤمن قد يؤخر الصلاة في حالة الاشتباك مع العدو والالتحام به، ولكن عليه أن يدفع قلبه ونفسه إلى ذكر الله، ففي وقت الصلاة يكون مع ربه فليذكره قائماً وقاعداً وفي كل حال، وبعد أن يطمئن المسلم لموقفه القتالي فليقض الصلاة. وأنه لا يترك ربه أبداً بل وهو في الحرب يكون ذلك منه أولى؛ لأنه في حالة الاحتياج إليه سبحانه، والقتال يدفع المؤمن إلى الاستعانة بربه، وإذا كان المسلم يعرف أن لله في أوقاته تجليات، فلا يحرمن واحد نفسه من هذه التجليات في أي وقت، وذكر الله يقرِّب العبد من مولاه - فسبحانه - مع عبده إذا ذكره، فإن كان الإنسان مشبعاً بالاطمئنان وقت الخوف والقتال فليذكر الله ليدعم موقفه بالقوة العليا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2596 وقوله الحق: {فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة} أي إذا انتهى الاشتباك القتالي فعلى المؤمن أن ينتقل من ذكر الله أثناء الاشتباك إلى الصلاة التي حان ميقاتها أثناء القتال. فقد كان ذكر الله وقت الاشتباك من أجل ألا يضيع وقت الصلاة بلا كرامة لهذا الوقت، وبلا كرامة للقاء العبد مع الرب. ولماذا كل ذلك؟ ويأتي القول الفصل: {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} . وقد أوضح لنا الحق صلاة الخوف، وشرع سبحانه لنا ذكره إذا ما جاء وقت الصلاة في أثناء الاشتباك القتالي، وإذا ما اتفق توقيته مع وقت الصلاة، وشرحت لنا سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كيفية قصر الصلاة في أثناء السفر، لماذا كل ذلك؟ لأن الصلاة فرض لا غنى عنه على الإطلاق {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} . أي أن الصلاة لها وقت. ولا يصح أن يفهم أحد هذا المعنى - كما يفهمه البعض - بأن صلاة الظهر - على سبيل المثال - وقتها ممتد من الظهر إلى العصر، وصحيح أن الإنسان إذا عاش حتى يصلي الظهر قبيل العصر فإنها تسقط عنه، ولكن ماذا يحدث لو مات العبد وقد فات عليه وقت يسعها؟ إذن فقد أثم العبد، ومن يضمن حياته حتى يؤدي الصلاة مؤجلة عن موعد أدائها؟ . وقد يقول قائل: أحياناً أسمع أذان الصلاة وأكون في عمل لا أستطيع أن أتركه؛ فقد أكون في إجراء جراحة. أو راكباً طائرة. ونقول: أسألك بالله إذا كنت في هذا العمل الذي تتخيل أنك غير قادر على تركه وأردت أن تقضي حاجة، فماذا تصنع؟ إنك تذهب لقضاء حاجتك، فلماذا استقطعت جزءاً من وقتك من أجل أن تقضي حاجتك؟ وقد تجد قوماً كافرين يسهلون لك سؤالك عن دورة المياه لتقضي حاجتك. وساعة يراك هؤلاء وأنت تصلي فأنت ترى على وجوههم سمة الاستبشار؛ لأن فيهم العبودية الفطرية لله، وتجد منهم من يسهل ذلك ويحضر لك مُلاءة لتصلي فوقها، ويقف في ارتعاش سببه العبودية الفطرية لله، فلا تقل أبداً: إن الوقت لا يتسع للصلاة؛ لأن الله لا يكلف أبداً عبده شيئا ليس في سعته، والحق كلف العبد بالصلاة ومعها الوقت الذي يسعها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2597 ولله المثل الأعلى، نحن نرى رئيس العمال في موقع ما يوزع العمل على عماله بما يسع وقت كل منهم، فما بالنا بالرب الخالق، ولذلك يقول الحق: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] والصلاة رزق عبودي يحررك من أي خوف، وفضلها لا حدود له لأن فارضها هو الخالق المربي، فكيف تبخل على نفسك أن تكون موصولا بربك؟ ويقول الحق من بعد ذلك: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2598 وهذه الآية تذكرة لنا بكيفية الرد على من يدعون التحرر ويحاولون إظهار الإسلام بأنه يصلح للعصر الذي نحياه عندما نؤوله ونطوّعه لمرادات العصر، ناسين مرادات الإسلام؛ فهم يقولون: لقد شرع الحق الحرب في الإسلام لرد العدوان. ونقول لهم: صحيح أن الحرب في الإسلام لرد العدوان، والحرب في الإسلام أيضاً هي لتوسيع المجال لحرية الاعتقاد للإنسان. إن الذي يخيف هؤلاء أن يكون القتال في الإسلام فريضة، فيقاوم المسلمون الطغيان في أي مكان. وهذه محاولة من أعداء الإسلام لصرف المسلمين حتى لا يقاوموا قهر الناس والطغيان عليهم؛ لأن أعداء الإسلام يعرفون تماماً قوة الإسلام الكامنة والتي يهبها لمن يؤمن به ديناً، وينخدع بعض المسلمين بدعاوى أعداء الإسلام الذين يقولون: إن الإسلام لم يشرع الحرب إلا لرد العدوان. ولذلك نقول لهؤلاء وأولئك: لا؛ إن الإسلام جاء بالقتال ليحرر حق الإنسان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2598 في الاعتقاد. والمسلم مطلوب منه أن يعلن كلمة الله، وأن يقف في وجه من يقاوم إعلانها، ولكن الإسلام لا يفرض العقيدة بالسيف، إنما يحمى بالسيف حرية المعتقد، فالحق يقول: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم} أي لا تضعفوا في طلب القوم الذين يحاربون الإسلام، والابتغاء هو أن يجعل الإنسان شيئاً بغية له، أي هدفاً وغاية، ويجند لها كل تخطيطات الفكر ومتعلقات الطاقة، كأن الإنسان لا يرد القوم الكافرين فقط ساعة يهاجمون دار الإسلام، ولكن على المسلم أن يبتغيهم أيضاً امتثالاً لقول الله: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم} . فعلى المسلمين أن يُعْلُوا كلمة الله، ويدعوا الناس كافة إلى الإيمان بالله. وهم في هذه الدعوة لا يفرضون كلمة الله، لكنهم يرفعون السيف في وجه الجبروت الذي يمنع الإنسان من حرية الاعتقاد. إن على المسلمين رفع الجبروت عن البشر حتى ولو كان في ذلك مشقة عليهم لأن الحق قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] وقد خلق الله في المؤمن القدرة على أن يبتغي عدو الإسلام ليرفع الجبروت عن غيره من البشر، صحيح أن الحرب مسألة مكروهة من البشر وليست رحلة سهلة، ولكنها أحياناً تكون واجبة، والذين أدركوا الحرب العالمية الثانية عرفوا أن «تشرشل» جاء رئيسا لوزراء بريطانيا بعد «تشمبرلن» الذي عرف عنه أنه رجل سلام، وحاول «تشمبرلن» أن يماطل ويلوح بالسلام مع ألمانيا حتى تستعد انجلترا بالحرب، وعندما استعدت انجلترا أعلن «تشمبرلن» أن سياسته غير نافعة، وجاء «تشرشل» وقاد دفة الحرب، وقال للإنجليز: - انتظروا أياماً سوداء وانتظروا الجوع. لقد قال تشرشل ذلك للإنجليز، حتى إذا ما جاء الواقع بأقل من قوله، فهم يستبشرون ويفرحون. والحق سبحانه يقول: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ} . إن الحرب ترهقهم أيضاً كما ترهقكم، لكنكم أيها المؤمنون تمتازون على الكافرين بما يلي: {وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} . فأنتم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2599 وهم في الألم سواء، ولكن الاختلاف هو أن المؤمنين يرجون ما لا يرجوه الكافرون، إن المؤمنين يعلمون لحظة دخولهم الحرب أن الله معهم وهو الذي ينصرهم ومن يمت منهم يذهب إلى جنة عرضها السموات والأرض، وهذا ما لا يرجوه الكفرة. والحق سبحانه وتعالى يطالب الفئة المؤمنة التي انتهت قضية عقيدتها إلى الإيمان بإله واحد؛ هو - سبحانه - أنشأهم وخلقهم وإليه يعودون، وهذه القضية تحكم حركات حياتهم؛ إنه - سبحانه - يطالبهم أن يؤدوا مطلوبات هذه القضية، وأن يدافعوا عن هذه العقيدة التي تثبت للناس جميعاً أنه لا معبود - أي لا مطاع - في أمر إلا الحق سبحانه وتعالى. وحين تحكم هذه القضية أناساً فهي توحد اتجاهاتهم ولا تتضارب مع حركاتهم، ويصبحون جميعاً متعاونين متساندين متعاضدين؛ لذلك جعل الله الطائفة المؤمنة خير أمة أخرجت للناس؛ لأن رسولها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خير رسول أرسل للناس، وطلب الحق من أهل الإيمان أن يجاهدوا الكافرين والمنافقين لتصفو رقعة الإيمان مما يكدر صفو حركة الحياة. والحق يعامل خلقه كبشر، إنّه خلقهم ويعلم طبائعهم وغرائزهم ولا يخاطبهم على أنهم ملائكة، وإنما يخاطبهم على أنهم بشر، وهم أغيار، ومن الأغيار أن يصفو لهم أمر العقيدة مرة، وأن تعكر عليهم شهواتهم صفو العقيدة مرة أخرى؛ لذلك يؤكد لهم أن طريق العقيدة ليس مفروشاً بالرياحين والورود، وإنما هو مفروش بالأشواك حتى لا يتحمل رسالة الحق في الأرض إلا من صبر على هذه البلايا وهذه المحن. فلو كانت القضية على طرف الثمام أي سهلة التناول لا مشقة في الحصول عليها وتدرك بدون آلام وبدون متاعب فسيدعيها كل إنسان ويصبح غير مأمون على حمل العقيدة. من أجل ذلك لم ينصر الله الإسلام أولاً، إنما جعل الإسلام في أول أمره ضعيفاً مضطهداً، لا يستطيع أهله أن يحموا أنفسهم، حتى لا يصبر على هذا الإيذاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2600 إلا من ذاق حلاوة الإيمان مما يجعله لا يشعر بمرارة الاضطهاد ووطأة التعذيب ومشقته. فقال الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم} أي لا تضعفوا في طلب القوم. وكلمة {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم} أي في طلبهم تدل على أن الأمة الإسلامية ليس مطلوبا منها فقط أن تدفع عن نفسها عدواناً، بل عليها أن تطلب هؤلاء الذين يقفون في وجه الدعوة لتؤدبهم حتى يتركوا الناس أحراراً في أن يختاروا العقيدة. إذن فالطلب منه سبحانه: ألاّ تهنوا ولا تضعفوا في طلب القوم الذين يقفون في وجه الدعوة. ثم قال سبحانه: {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} أي إنه إذا كان يصيبكم ألم الحرب والإعداد لها، فأنتم أيضاً تحاربون قوماً يصيبهم ألم المواقع والحروب والإعداد لها؛ فأنتم وهم متساوون في إدراك الألم والمشقة والتعب، ولكن يجب ألا تغفلوا عن تقييم القوة فلا تهملوها؛ لأنها هي القوة المرجحة. فأنتم تزيدون عليهم أنكم ترجون من الله ما لا يرجون. والأشياء يجب أن تُقَوَّم بغاياتها والثواب عليها. لا يقولن أحد أبداً «هذا يساوي ذلك» . . فلا يهمل أحد قضية الثواب على العمل. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في شرح هذه المعادلة حتى تكون الأذهان على بينة منها إعداداً وخوضاً للحرب واحتمالاً لآلامها: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} [التوبة: 52] عليكم أيها الكافرون أن تعلموا أن الذي ينتظرنا هو إحدى الحسنيين. . إما أن ننتصر ونقهركم، وإما أن نستشهد فنظفر بالحياة الأخرى. وماذا عن تربص المؤمنين بالكافرين: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] كفة مَن - إذن - هي الراجحة في المعادلة؟ إنها كفة المؤمنين؛ لذلك قال الحق: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} فلا تضعفوا أيها المؤمنون في طلب القوم لأنهم يألمون كما تألمون، ولكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2601 لكم مرجِّحا أعلى وهو أنكم ترجون من الله ما لا يرجون. ويذيل الحق قضية حث المؤمنين على طلب الكافرين وكيف يزيد المؤمنون على الكافرين بأنهم يرجون من الله ما لا يرجوه الكافرون فيقول: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} إنه عليم بكل ما يصيب المؤمن من ألم، فلا تعتقد أيها المؤمن أن لك أجراً سيضيع منك؛ فالشوكة التي تشاك بها في القتال محسوبة لك، وهو سبحانه وتعالى حين يتركك تألم أمام الكافر كما يألم. فذلك لحكمة هي أن تسير إلى القتال وأنت واثق من قدرة إيمانك على تحمل تبعات هذا الدين. عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (ما يُصيب المؤمنَ مِنْ شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة) . وبعد أن تكلم الحق عن القتال في سبيل نصرة دينه لم يحرم المؤمنين من توجيه يصفي أيضاً حركة الحياة، لماذا؟ لأنه علم أن قوماً يؤمنون به وينضوون تحت لوائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيوضح: أن انضواءكم أيها المؤمنون تحت لواء الإسلام له تبعات، فأنتم أول من يُطبق عليه حكم الله، وإياكم أن تظنوا أنكم بإيمانكم وإعلان إسلامكم لله واتباعكم لرسول الله قد أخذتم شيئاً يميزكم عن بقية خلق الله، فكما قلنا لكم دافعوا الكفار ودافعوا المنافقين نقول لكم أيضاً: دافعوا أنفسكم؛ لأن واحداً قد ينضم إلى الإسلام وبعد ذلك يظن أن الإسلام سيعطيه فرصة ليكون له تميز على غيره، ولمثل هذا الإنسان: نقول لا. ولذلك يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقول له: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق. .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2602 والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن نفسه؛ يتكلم فيما يتعلق بالفعل بصفة التعظيم والجمع. مثال ذلك قوله: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا} . وهذه «نون الجماعة» حيث يتطلب إنزال القرآن قوى متعددة لا تتوافر إلا لمن له الملك في كل الكون. ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى. . إننا نجد أن رئيس الدولة أو الملك في أي بلد يصدر قراراً فيقول: «نحن فلانا أصدرنا القرار» . والملك أو الرئيس يعرف أنه ليس وحده الذي يصدر القرار، ولكن يصدره معه كل المتعاونين معه وكل العاملين تحت رئاسته، فما بالنا بالحق الأعلى سبحانه وتعالى؟ لذلك فحين يتكلم سبحانه فيما يتعلق بالذات يكون الحديث بواسطة ضمير الأفراد: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري} [طه: 14] ولا يأتي هنا ضمير الجمع أبداً، ولا تأتي «نون التعظيم» . ولكن في هذه الآية نجد الحق يقول: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} . . ونرى «نون التعظيم» واضحة، فالقرآن كلام الله، ونزول القرآن يتطلب صفات متعاضدة. فسبحانه مرة يقول: {أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} [العنكبوت: 47] ومرة يقول: {أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] ومرة ثالثة يقول: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] ما الغاية من الإنزال؟ الغاية من الإنزال أن يوجد على الأرض منهج يحكم حركة الحياة. والقرآن قد أنزل إلى الرسول وإلى من آمن بالرسالة. وحين يقول الحق: {أَنزَلْنَا عَلَيْكَ} فمعنى ذلك نزول التكليف. وساعة نسمع كلمة {أَنزَلْنَا} فعلينا أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2603 نعرف أن كل شيء يجيء من الحق فهو ينزل إلينا منه سبحانه، وكلمة «أنزل» تشعر السامع أو القارئ لها أن الجهة التي أنزلت هي جهة أعلى، وليست مساوية لمن أُنْزِلَ إليه، وليست أدنى منه أيضاً. وكلمة {أَنزَلْنَا} تدل على أن جهة أنزلت، وجهة أُنزل إليها، وشيء أنزلته الجهة إلى المُنَزِّلِ إليه. والكتاب هو المنزل. والذي أنزله هو الله. والمُنَزَّلِ إليه هو رسول الله وأمته. وهل أنزل الحق سبحانه الكتاب فقط أو أنزل قبل ذلك كل ما يتعلق بمقومات الحياة؟ وعندما نقرأ هذا القول الكريم: {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26] إنه لباس جاء من أعلى؛ لذلك استخدم الحق كلمة {أَنزَلْنَا} وهو ليس لباساً فقط ولكنه أيضاً يزينكم مأخوذ من ريش الطائر لأنه لباسه وزينته، فهو لا يواري العورة فحسب ولكنه جميل أيضاً، والأجمل منه أنّه لباس التقوى. لقد جاء الحق بالمقوم للحياة ستراً ورفاهية، وبعد ذلك أنزل الحق لباس التقوى وهو الخير. فاللباس الأول يواري عورة مادية، ولباس التقوى يواري العورات القيمية والمعنوية، وكل ذلك إنزال من أعلى. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] إذن فكلمة «الإنزال» تدل على أن كل ما جاء من قِبَلِ الحق الأعلى إلينا، فهو نازل إلينا بشيء يعالج مادتنا وقوامنا، وبشيء يعالج معنوياتنا وقيمنا. ويقول الحق في الآية التي نحن بصدد تناولها الآن: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} وحين يُطلق الكتاب فالمعنى ينصرف إلى الكتاب الجامع المانع المهيمن على سائر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2604 الكتب وهو القرآن، وإن كان {الكتاب} يطلق على المكتوب الذي نزل على أي رسول من الله سبحانه وتعالى. {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} والحق هو الشيء الثابت الذي لا يأتي واقع آخر لينقضه. وعلى سبيل المثال: أنت في حياتك العادية حين تقول قضية صدق تحكي بها واقعا حدث مهما تكررت روايتك لهذه التفاصيل مدة عشرين سنة فهي لا تتغير؛ لأنها مطابقة للواقع. وأنت حين تقولها تستحضر الواقع الذي حدث أمامك. ولكن إذا حَدّثَ إنسان بقضية كذب لا واقع له. فماذا يكون موقفه؟ سيحكي القضية مرة بأسلوب، وإن مر عليه أسبوع فهو ينسى بعضاً مما قاله في أول مرة فيحكي وقائع أخرى، ذلك أن ما يرويه ليس له واقع؛ لذلك يقول كلاماً مغايراً لما قاله في المرة الأولى، وهنا يعرف السامع أن هذه المسألة كاذبة. إذن فالحق هو الشيء الثابت الذي لا ينقضه واقع أبداً. وأنزل الله الكتاب بالحق أي أنزله بالقضايا الثابتة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها، فهو ثابت لا ينقضه واقع. ويقال في حياتنا للتلميذ الناجح من أساتذته: لقد أعطيناك المرتبة الأولى على زملائك بالحق. أي أن هذا التلميذ قد أخذ حقه لأنه يستحق هذه المكانة. وقوله الحق سبحانه: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} أي إن إنزال الكتاب على سيدنا رسول الله ليبلغه جاء ملتبسا ومرتبطا بالحق ولا ينفك عنه وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أهل لأن ينزل عليه الكلمات. ووجود معنى بجانب معنى في القرآن هو من أسرار إشعاعات الكلمات القرآنية، فهي لا تتناقض ولكنها توضع بحكمة الخالق لتجلو لنا المعاني. {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس} وهذا يوضح لنا أن حكومة الدين الإسلامي وعلى رأسها الحاكم الأول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما جاء لا ليحكم بين المؤمنين به فقط، بل ليحكم بين الناس. ومن شرط الحكم بين الناس القيام بالعدل فيما يختصمون فيه، فلا يقولن واحد: هذا مسلم، وذاك كافر، فإذا كان الحق مع الكافر فلا بد أن تعطيه له، وإذا كان الحق مع المسلم فيجب أن تعطيه له؛ لأنك لا تحكم بين المؤمنين فقط ولكنك تحكم بين الناس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2605 وأنت إن حكمت بين الناس حكماً يتفق مع منطق الواقع والحق. تجعل الذي حُكم له يشهد أن دينك حق، فعندما يكون الحق مع الكافر، وتحكم على المؤمن بالحكم الحق الذي لا حيف فيه حتى وإن كان عقابا، فالكافر يقرع نفسه على أنه لم يكن من أهل هذا الدين الذي يعترف بالحق ويحكم به ولو كان على مسلم. وأيضاً يعرف المسلم ساعة يُحكم عليه لصالح واحد غير مسلم أن المسألة ليست نسبة شكلية إلى الإسلام، ولكنها نسبة موضوعية، فلا يظنن أحد أن الإسلام قد جاء ليحابي مسلما على أي إنسان آخر، ولكن الإسلام قد جاء ليأخذ الجميع بمنطق الحق، ويطبق على الجميع منهج الحق، وليكون المسلم دائما في جانب الحق. وسبحانه وتعالى يعطي هذه القضية لواقعة حدثت معاصرة لرسول الله. والوقائع التي حدثت معاصرة لرسول الله بمثابة إستدرار السماء للأحكام، فالقضية تحدث وينزل فيها الحكم، ولو جاءت الأحكام مبوبة وسقطت ونزلت مرة واحدة، فقد تحدث الحادثة ويكون لدى المؤمنين الحكم ويحاولون البحث عنه في الكتاب. لكن إذا ما جاء الحكم ساعة وقوع الحادثة فهو ينصب عليها، ويكون الأمر أدعى للإذعان له؛ لأنه ثبت وأُيِّد ووثِّق بواقعة تطبيقية. والحكم الذي نزل هو: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} . وعندما يقول سبحانه «أراك» أو «علَّمك» فلتعلم أن تعليم الله هو أكثر تصديقاً من رؤيتك الإنسانية، وكأنك تتمثل الشيء الذي يعلمه لك الله وكأنه مجسد أمامك، وليس مع العين أين. والواقعة التي حدثت هي: كان في «بني ظفر» واحد اسمه «طعمة بن أبيرق» وسرق «طعمة» درعا، وهذا الدرع كان «لقتادة بن النعمان» . وخاف «طعمة» أن يحتفظ بالدرع في بيته فيعرف الناس أنه سرق الدرع. وكان «طعمة» فيما يبدو مشهوراً بأنه لص، فذهب إلى يهودي وأودع عنده الدرع، وكان الدرع في جراب دقيق. وحينما خرج به «طعمة» وحمله صار الدقيق ينتثر من خرق في الجراب وتَكوَنّ من الدقيق أثراً في الأرض إلى بيت اليهودي وكان اسمه «زيد بن السمين» وعندما تتبعوا أثر الدقيق وجدوه إلى بيت طعمة، ولكنه حلف ما أخذها وما له بها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2606 علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها وقالوا: «لقد سرق ابن السمين» . وهنا قال ابن السمين: «أنا لم أسرق الدرع ولكن أودعه عندي» طعمة بن أبيرق «. وذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجاء» بنو ظفر «وهم مسلمون» وطعمة بن أبيرق «منهم وقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لو حكمت على المسلم ضد اليهودي فستكون المسألة ضد المسلمين وسيوجد العار بين المسلمين. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى أرسل رسوله لِيُعَدِّل منهج الغرائز البشرية. والغريزة البشرية بحسب اندفاعها وقصر نظرتها قد تتصور أن الحكم على المسلم وتبرئة اليهودي هو إضعاف للمسلمين. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يقيم الأمر بالقسط فينزل على رسوله: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105] أي إياك أن تقول: إن هذا مسلم ولا يصح أن نلصق به الجريمة التي ارتكبها حتى لا تكون سُبة عليه، وإياك أن تخشى ارتفاع رأس اليهودي؛ لأن هناك لصاً قد ظهر من بين المسلمين. ومن الشرف للإسلام أن يعاقب أي إنسان ارتكب خطأ لأنه مادام قد انتسب للإسلام فعليه أن يصون هذا الانتساب. وعقاب المسلم على خطأ هو شهادة للإسلام على أنه لم يأت ليجامل مسلماً. وعلى كل مسلم أن يعرف أنه دخل الإسلامَ بحق الإسلام. لقد نظر بعض السطحيين إلى قوله الحق: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} قائلين: إن كان هناك لص أو خائن أو مستغل لقوته فاتركه ولا تنظر إليه ولا تلتفت حتى لا يسبب لك تعباً. ولهؤلاء نقول: لا، فسبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} و «اللام» التي في أول «الخائنين» هي للملكية أي أن الحق يأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يقف موقفا لصالح الخائن، بل عليه أن يخاصم لمصلحة الحق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2607 وقد حاول العلماء أن يقربوا المسافة فقالوا: ربما لا يتنبه أحد لمسألة اللام وأنها هنا للنفعية، فيكون المنهي عنه أن يقف مسلم موقفا ينفع خائنا، بل لا بد أن يكون على الخائن وليس معه. فاللام هنا تكون بمعنى «عن» . كأن الحق يقول: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} . أي لا تكن يا محمد مدافعاً عن الخائنين. ولماذا لم يقل الحق «عن» بدلاً من «اللام» ؟ نقول: إن الغاية من الدفاع عن الخصم أن ترجح أمره وتكون له لا عليه، لذلك جاء الحق ب «اللام» هنا من أجل أن نعرف الغاية من «عن» واضحة. فاللام تفيد ألا ينفع المسلم خائناً، فلا تكون المسالة له، ولذلك جاء الحق بها إيضاحاً واختصاراً لنعرف أن رسوله لن يقف في جانب الخائن ولن يأتي له بما ينفعه. ولذلك قال العلماء: إن اللام هنا بمعنى «عن» . والقرآن فيه الكثير من مثل هذا. وبعض الناس يقول: لماذا لا يأتي باللفظ الواضح الذي يجعلنا نعرف المعنى مباشرة؟ ونقول: إن الملحظية هنا مفيدة لنعرف في أي صف يقف القرآن والرسول المبلغ عن ربه مثال ذلك قوله الحق: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [سبأ: 43] القائل هم الذين كفروا، والمقول له هو الحق. وبعض الناس كان يفترض أن المنطق يقتضي أن يقول الكفار: إنك سحر مبين. وكأن الآية هي: وإذ تتلى آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم أنت سحر مبين. ولنلحظ أنهم لم يقولوا للحق، ولكنهم قالوا عن الحق. ولم يقولوا للحق ذلك، بل قال بعضهم لبعض. و «الحق» هنا مُحَدّثٌ عنه وليس مخاطباً. فقالوا عنه: إنه سحر مبين. وهناك آية أخرى يقول الحق فيها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2608 {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] والقائل هنا هم الذين كفروا. والمقول لهم هم الذين آمنوا. والمقصود هو: أن الذين كفروا قالوا للذين آمنوا لو كان الإسلام خيراً ما سبقتمونا إليه. ولكن الحق سبحانه أوردها: «لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ» وذلك ليدلنا على أنهم قالوا ذلك في غير محضر المؤمنين، بل هم يتبادلون هذا القول فيما بينهم. وإلا لو أن القول من الكافرين للمؤمنين لكان السياق يقتضي أن يكون: لو كان خيرا ما سبقتمونا إليه. ومن بعد ذلك يقول الحق: {واستغفر الله. .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2609 والأمر بالاستغفار يجيء على مجرد وجود خاطر التردد بين نصرة المسلم أو نصرة اليهودي، فلم يكن الرسول قد نصر أحداً على أحد بعد، ولكن مجرد هذا الخاطر يتطلب الاستغفار. والذي يصدر الأمر بذلك هو الحق سبحانه لرسوله، ولا اعتراض ولا غضاضة أن يعدل لنا ربنا أمراً ما. أو أن كل خطاب من هذا اللون موجه لمن جعل المسألة موضع مساومة عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كقول «بني ظفر» عندما أرادوا ألاّ يحكم الرسول على اللص الذي من بينهم، وتمحكوا في الإسلام. لذلك يأمر الحق الذين حدثوا رسول الله عن هذا الموضوع بالاستغفار، أو أن يستغفر الرسول لهم الله؛ لأنهم لم يقولوا ذلك إلا رغبة في ألا ينفضح أمر المسلمين. وبعد ذلك يقول الحق: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2609 {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ. .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2610 وسبحانه يريد أن يشبع هذه القضية بحثاً، فقد كان يكفي أن يقول لنا ما سبق. لكنه يريد أن يحسم مثل هذه الأمور؛ فلا مجادلة في الذين يختانون أنفسهم. والجدل كما نعرف هو الفتل. وحين يفتل الإنسان شيئاً، مثل أن يحضر بعضاً من الشعر أو الصوف أو الليف ويجدلها ليصنع حبلاً، فهو يفتل هذا الغزل ليقويه ويجعله غير هش وقابلاً للشد والجذب، ولذلك يقال عن مثل هذه العملية: إننا نجدل الحبل حتى نعطيه القوة. وكذلك شأن الخصمين؛ كل واحد منهما يريد تقوية حجته، فيحاول جاهداً أن يقويها بما يشاء من أساليب ليّ القول ولحنه أو الفصاحة في الأسلوب. لذلك يأتي الأمر إلى الرسول: لا تقو مركز أي إنسان يختان نفسه. والقرآن حين يعدل عن يخونون أنفسهم إلى «يختانون أنفسهم» ، فلا بد أن لهذا معنى كبيراً؛ لأن الخيانة هي أن تأخذ غير الحق. ومن المحتمل أن يخون الإنسان غيره، لكن أَمِنَ المعقول أن يخون الإنسان نفسه؟ إن مثل هذه العملية تحتاج إلى افتعال كبير، فقد يخون الإنسان نفسه غيره من أجل مصلحة نفسه، أو ليعطي نفسه شهوة ومعصية عليها عقوبة، وهذه خيانة للنفس؛ لأن الإنسان في مثل هذه الحالة يغفل عن العقوبة الآجلة بالشهوة العابرة العاجلة. وهكذا نرى أن الذي يخون الناس إنما يخون ضمناً مصلحة نفسه. وإذا ما خان الإنسان نفسه فهذا ليس سهلاً ويتطلب افتعالاً، ولذلك يقول الحق: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} . والآية التي تحدثت من قبل ذلك عن هذا الموقف لم تأت بكلمة «خوانين» ولكن جاءت بالخائنين، وهنا يأتي الحق بكلمة خوَّان. وفيه فرق بين «خائن» ، و «خوَّان» ، فالخائن تصدر منه الخيانة مرة واحدة، أما الخوَّان فتصدر منه الخيانة مراراً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2610 أو يكون المعنى هو: أن الخائن تصدر منه الخيانة في أمر يسير صغير، أما الخوّان فتصدر منه الخيانة في أمر كبير. إذن. فمرة تأتي المبالغة في تكرير الفعل، وأخرى في تضخيم الفعل. ومن لطف الله أنه لم يقل «خائن» ؛ لأن الخائن هو من خان لمرة عابرة وانتهى الأمر، ولم يخرجه الله عن دائرة الستر إلاَّ إذا أخذ الخيانة طبعاً وعادة وحرفة. وقد جاءت لسيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - امرأة أخذ ولدها بسرقة، وأراد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن يقيم على ذلك الولد الحد، فبكت الأم قائلة: يا أمير المؤمنين والله ما فعل هذا إلا هذه المرة. قال عمر: كذبت. والله ما كان الله ليأخذ عبداً بأول مرة. ولذلك يقولون: إذا عرفت في رجل سيئة انكشفت وصارت واضحة. فلتعلم أن لها أخوات؛ فالله لا يمكن أن يفضح أول سيئة؛ لأنه سبحانه يحب أن يستر عباده، لذلك يستر العبد مرة وثانية، ثم يستمر العبد في السيئة فيفضحها الله: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} ، والإثم أفظع المعاصي. والقوم الذين ذهبوا إلى رسول الله صلى الله علسه وسلم ليستشفعوا عنده لابن أبيرق لكي يحكم له الرسول ضد اليهودي، لماذا صنعوا ذلك؟ . لأنهم استفظعوا أن يفضح أمر مسلم ويبرأ يهودي، استحيوا أن يحدث هذا، وعالج القرآن هذه القضية وذلك ليأتي بالحيثية التي دعتهم إلى أن يفعلوا هذا ويقضي على مثل هذا الفعل من أساسه، فقال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله. .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2611 إنهم يطلبون البراءة أمام الناس في أن «طعمة» لم يفعل السرقة، ولكن هل يملك الناس ما يملكه الله عنهم؟ . إنه سبحانه أحق بذلك من الناس. فإذا كنتم تريدون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2611 التعمية في قضاء الأرض فلن تعموا على قضاء السماء. وهذه القضية يجب أن تحكم حركة المؤمن، فإذا ما فكر إنسان منسوب إلى الإسلام أن يفعل شيئاً يغضب الله فعليه أن يفكر: أنا لو فعلت ذلك لفضحت نفسي أو فضحت ولدي أو فضحت أسرتي أو فضحت المسلمين، وعلى الإنسان المسلم ألا يخشى الناس إن فعل أخ له شيئاً يشين المسلمين، بل عليه أن يأخذ على يديه ويردُه عن فعله. ونقول لمن يستتر عن الناس: أنت استخفيت من الناس، ولم تستخف من الله؛ لذلك فأنت غير مأمون على ولاية. {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول} و «يبيت» أي أنه يفعل أمره في الليل؛ لأن الناس كانت تلجأ إلى بيوتهم في الليل، ومعنى «يبيت» أن يصنع مكيدة في البيت ليلا، وكل تدبير بخفاء اسمه «تبييت» حتى ولو كان في وضح النهار، ولا يبيت إنسان في خفاء إلا رغبة منه في أن ينفض عنه عيون الرائين. فنقول له: أنت تنفض العيون التي مثلك، لكن العيون الأزلية وهي عيون الحق فلن تقدر عليها. {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء: 108] حين نسمع كلمة «محيط» فلنعلم أن الإحاطة هي تطويق المحيط للمحاط، بحيث لا يستطيع أن يفلت منه علماً بحاله التي هو عليها ولا قدرة على أن يفلت مِنْه مآلا وعاقبة، فهو سبحانه محيط علماً لأنه هو الذي لا تخفى عليه خافية، ومحيط قدرة فلا يستطيع أن يفلت أحد منه إلى الخارج. وسبحانه محيط علماً بكل جزئيات الكون وتفاصيله وهو القادر فوق كل شيء. فإذا ما سمعنا كلمة «محيط» فمعناها أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2612 الحق سبحانه وتعالى يحيط ما يحيط به علماً بكل جزئياته فلا تستطيع جزئيه أن تهرب من علم الحق. وسبحانه محيط بكل شيء قدرة فلا يستطيع أن يفلت من مآله شيء من الجزاء الحق. وبعد ذلك يقول الحق جل وعلا: {هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا. .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2613 فالذي جادل عن ابن ابيرق كان يريد أن يبرئ ساحته أمام الناس ويدين اليهودي، وفي أنه قد جادل أمام بشر عن بشر، فهل تنتهي المسألة بهذا اليسر؟ لا؛ لأن الدنيا ليست دار جزاء. وهب أنه أفلت من العقوبة البشرية، أيفلت من عقوبة الله في الآخرة؟ لا، إذن فالذي يجادل يريد أن يعمى على قضاء الأرض، ولن يستطيع أن يعمى على قضاء الحق، ولم يجد من يجادل عن مثل هذا الخطأ يوم القيامة. وليس هذا فقط، ولكن الحق يذيل الآية: {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أي فمن إذن يستطيع أن يكون وكيلاً عن هؤلاء يوم القيامة؟ . ونعرف أن الوكيل هو الشخص اللبق الذي يختاره بعض الناس ليكون قادراً على إقناع من أمامه. فمن يستطيع أن يقوم بذلك العمل أمام الله؟ لا أحد. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ. .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2613 وسبحانه وتعالى حينما خلق الخلق جعلهم أهل أغيار؛ لذلك لم يشأ أن يُخرج مذنباً بذنب عن دائرة قدرته ورحمته، بل إنه - سبحانه - شرع التوبة للمذنب حماية للمجتمع من استشراء شره. فلو خرج كل من ارتكب ذنباً من رحمة الله، فسوف يعاني المجتمع من شرور مثل هذا الإنسان، ويصبح كل عمله نقمة مستطيرة الشر على المجتمع. إذن فالتوبة من الله، مشروعية وقبولاً، إنما هي حماية للبشر من شراسة من يصنع أول ذنب. وهكذا جاءت التوبة لتحمي الناس من شراسة أهل المعصية الذين بدأوا بمعصية واحدة. إن الذين وقفوا في محاولة تبرئة «ابن أبيرق» انقسموا إلى قسمين: قسم في باله أن يبرئ «ابن أبيرق» ، وقسم في باله ألا يفضح مسلماً. وكل من القسمين قد أذنب. ولكن هل يخرجهم هذا الذنب من رحمة الله؟ . لا، فسبحانه يقول: {يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} والحق يعفو عن تلك المسألة. إن القسمين جميعا أصبحوا مطالبين بعمل طيب بعد أن أوضح لهم الرسول، وفهموا مراد الحق. وسبحانه يبقيهم في الصف الإيماني، وقد حكم رسول الله على «ابن أبيرق» لصالح اليهودي، وبعد ذلك ارتد «ابن أبيرق» ، وذهب إلى مكة مصاحباً لِعادة الخيانة، فنقب حائطا على رجل ليسرق متاعه فوقع الحائط عليه فمات. والحق سبحانه يضع المعايير، فمن يرتكب ذنباً أو يظلم نفسه بخطيئة ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً. ونلاحظ أن بعض السطحيين لا يفهمون جيداً قول الحق: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} فيتساءلون: أليس الذي ارتكب العمل السيئ قد ظلم نفسه؟ ونقول: إن دقة القرآن توضح لنا المعنى؛ فمعنى عمل سوءًا أضرّ بهذا العمل آخرين، إنّه غير الذي ارتكب شيئاً يضرّ به نفسه فقط؛ فالذي سرق أو قتل أو اعتدى على آخر قذفاً أو ضرباً أو إهانة، مثل هذه الأعمال هي ارتكاب للسوء؛ فالسوء هو عمل يكرهه الناس، ويقال: فلان رجل سوء، أي يلقى الناس بما يكرهون. لكن الذي يشرب الخمر قد يكون في عزلة عن الناس لم يرتكب إساءة إلى أحد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2614 لكنه ظلم نفسه؛ لأن الإنسان المسلم مطلوب منه الولاية على نفسه أيضاً، والمنهج يحمي المسلم حتى من نفسه، ويحمي النفس من صاحبها، بدليل أننا نأخذ من يقتل غيره بالعقوبة، وكذلك يحرم الله من الجنة من قتل نفسه انتحاراً. وهكذا نرى حماية المنهج للإنسان وكيف تحيطه من كل الجهات؛ لأن الإنسان فرد من كون الله، والحق يطلب من كل فرد أن يحمي نفسه. فإن صنع سوءا أي أضر بغيره، فهذا اسمه «سوء» . أما حين يصنع فعلاً يضر نفسه فهذا ظلم النفس: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران: 135] وهل فعل الفاحشة مخالف لظلم النفس؟ . إنه إساءة لغيره أيضا، لكن ظلم النفس هو الفعل الذي يسئ إلى النفس وحدها. أو أن الإنسان يصنع سيئة ويمتع نفسه بها لحظة من اللحظات ولا يستحضر عقوبتها الشديدة في الآخرة. وقد تجد إنساناً يرتكب المعصية ليحقق لغيره متعة، مثال ذلك شاهد الزور الذي يعطي حق إنسان لإنسان آخر ولم يأخذ شيئاً لنفسه، بل باع دينه بدنيا غيره، وينطبق عليه قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بادروا بالأعمال ستكون فتنة كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويُمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض الدنيا» . {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} والله غفور ورحيم أزلاً ودائماً، والعبد التائب يرى مغفرة الله ورحمته. ويقول الحق من بعد ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2615 {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ. .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2616 ويورد الحق كلمة «كسب» عندما يتناول أمراً خَيِّرًا فعله الإنسان، ويصف ارتكاب الفعل السيئ ب «اكتسب» ، لماذا؟ لأن فعل الخير عملية فطرية في الإنسان لا يستحيي منه، لكن الشر دائماً هو عملية يستحيي منها الإنسان؛ لذلك يحب أن يقوم بها في خفية، وتحتاج إلى افتعال من الإنسان. ولنضرب هذا المثل للإيضاح - ولله المثل الأعلى - نحن نجد الرجل ينظر إلى وسامة زوجته بكل ملكاته، لكنه لو نظر إلى واحدة أخرى من غير محارمه فهو يقوم بعملية لخداع ملكات النفس حتى يتلصص ليرى هذه المرأة. ويحاول التحايل والافتعال ليتلصص على ما ليس له. ولذلك يقال عن الحلال: إنه «كسب» ويقال عن الحرام: إنه «اكتساب» . . فإذا ما جاء القرآن للسيئة وقال «كسب سيئة» فهذا أمر يستحق الالتفات، فالإنسان قد يعمل السيئة ويندم عليها بمجرد الانتهاء منها إن كان من أهل الخير، ونجده يويخ نفسه ويلومها ويعزم على ألا يعود إليها. لكن لو ارتكب واحد سيئة وسعد بذلك وكأنها حققت له كسباً ويفخر بها متناسياً الخطر الجسيم الذي سوف يواجهه يوم القيامة والمصير الأسود، وهو حين يفخر بالمعصية ففي ذلك إعلان عن فساد الفطرة، وسيادة الفجور في أعماقه، وهو يختلف عن ذلك الذي تقع عليه المعصية ولحظة ما يتذكرها يقشعر بدنه ويستغفر الله. {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} فإياك أيها الإنسان أن تظن أنك حين تظلم أحداً بعمل سوء قد كسبت الدنيا؛ فوالله لو علم الظالم ماذا أعد الله للمظلوم لضن على عدوه أن يظلمه. وأضرب هذا المثل للإيضاح - ولله المثل الأعلى دائماً - هب أن رجلاً له ولدان. وجاء ولد منهما وضرب أخاه أو خطف منه شيئا يملكه، ورأى الأب هذا الحادث، فأين يكون قلب الأب ومع من يكون؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2616 إن الأب يقف مع المظلوم، ويحاول أن يرضيه، فإن كان الأخ الظالم قد أخذ منه شيئاً يساوي عشرة قروش، فالأب يعوض الابن المظلوم بشيء يساوي مائة قرش. ويعيش الظالم في حسرة، ولو علم أن والده سيكرم أخاه المظلوم لما ظلمه أبداً. إذن فالظلم قمة من قمم الغباء. ومن ضمن المفارقات التي تروى مفارقة تقول: إن كنت ولا بد مغتاباً فاغتب أبويك. ولا بد أن يقول السامع لذلك: وكيف أغتاب أبي وأمي؟ فيقول صاحب المفارقة: إن والديك أولى بحسناتك، فبدلاً من أن تعطي حسناتك لعدوك، ابحث عمن تحبهم وأعطهم حسناتك. وحيثية ذلك هي: لا تكن أيها المغتاب أحمق لأنك لا تغتاب إلا عن عداوة، وكيف تعطي لعدوك حسناتك وهي نتيجة أعمالك؟ ونعرف ما فعله سيدنا الحسن البصري، عندما بلغه أن واحداً قد اغتابه. فأرسل إلى المغتاب طبقاً من البلح الرطب مع رسول، وقال للرسول: اذهب بهذا الطبق إلى فلان وقل له: بلغ سيدي أنك اغتبته بالأمس فأهديت له حسناتك، وحسناتك بلاشك أثمن من هذا الرطب. وفي هذا إيضاح كاف لذم الغيبة. {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} ونعلم أنه إذا جاءت أي صفة من صفات الحق داخلة في صورة كينونة أي مسبوقة ب «كان» فإياكم أن تأخذوا «كان» على أنها وصف لما حدث في زمن ماضٍ، ولكن لنقل «كان ومازال» . لماذا؟ لأن الله كان أزلاً، فهو غفور رحيم قبل أن يوجد مغفور له أو مرحوم؛ فالله ليس من اهل الأغيار، والصفات ثابتة له؛ لأن الزمن في الأحداث يتغير بالنسبة للأغيار فقط، وعلى سبيل المثال نجد الواحد من البشر صحيحاً في زمن ومريضاً في زمن آخر. ولذلك لا يخرج الزمن المستقبل عن الزمن الماضي إلا أصحاب الأغيار. وكذلك لا يخرج الزمن المستقبل عن الزمن الحاضر إلا في أصحاب الأغيار. ومادام الله هو الذي يغير ولا يتغير فلن يغيره زمن ما، بل كان في الأزل غفوراً رحيما، ولايزال أيضاً غفوراً رحيماً. وكذلك كان علم الله أزلياً وحكمته لا حدود لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2617 وبعد ذلك يقول الحق: {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً. .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2618 قالوا: إن الخطيئة هي الشيء غير المتعمَّد، مثال ذلك حين نعلِّم التلميذ قاعدة من قواعد النحو، ثم نطلب منه أن يطالع نصاً من النصوص، ونلتفت لنجد التلميذ قد نصب الفاعل ورفع المفعول، ونصحح له الخطأ، إنّه لم يتعمده، بل نسي القاعدة ولم يستحضرها. ونظل نصحح له الخطأ إلى أن يتذكر القاعدة النحوية، وبالتدريب يصبح الإعراب ملكة عند التلميذ فلا يخطئ. والخطيئة - إذن - هي الخطأ غير المتعمد. اما الإثم فهو الأمر المتعمَّد. فكيف إذا رمى واحد غيره بإثم ارتكبه أو خطيئة ارتكبها هو. . ما حكم الله في ذلك؟ {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [النساء: 112] لقد ارتكب الخطيئة أو الإثم، ويا ليته اكتفى بهذا، لا، بل يريد أن يصعد الجريمة بارتكاب جريمة ثانية وذلك بأن يرمي بالخطيئة أو الإثم بريئاً، إنَّ إثمه مركب، ولذلك قال الحق: {فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} واستخدام الحق هنا لكلمة «احتمل» وليس «حمل» تؤكد لنا أن هناك علاجاً ومكابدة وشدة ليحمل الإنسان هذا الشيء الثقيل؛ فالجريمة جريمتان وليست واحدة، لقد فعل الخطيئة ورمى بها بريئاً، وفاعل الخطيئة يندم على فعلها مرة، ويندم أيضاً على إلصاقها ببريء. إذن فهي حمل على أكتافه. ونعلم أن الإنسان ساعة يقع أسير سُعار العداوة؛ يهون عليه أن يصنع المعصية، ولكن بعد أن يهدأ سعار العداوة فالندم يأتيه. قال الحق: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2618 {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] هابيل - إذن - يسأل قابيل: وما ذنبي أنا في ذلك، إن الله هو الذي يتقبل القربان وليس أنا فلماذا تقلتني؟ ويستمر القول الحكيم: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [المائدة: 28] وماذا يقول الحق من بعد ذلك: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} [المائدة: 30] كأن مسألة القتل كانت عملية شاقة وليست سهلة، وأخذت مغالبة. وعلى سبيل المثال: لن يقول أحد: «لقد طوعت الحبل» ولكن هناك من يقول: «أنا طوعت الحديد» . وسعار الغضب جعل قابيل ينسى كل شيء وقت الجريمة، وبعد أن وقعت، وهدأ سعار الغضب الذي ستر موازين القيم، هنا ظهرت موازين القيم ناصعة في النفس. ولذلك نجد من يرتكب جريمة ما، ويتجه بعد ذلك لتسليم نفسه إلى الشرطة، وهو يفعل ذلك لأن سعار الجريمة انتهى وظهر ضوء موازين القيم ساطعاً. وعلى ذلك نفهم قول الحق: {فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} . وهذا يدل على أن من يصنع جريمة ثم يرمي البريء بالإثم إنما يرتكب عملأً يتطلب مشقة وتتنازعه نفسه مرة بالندم؛ لأنه فعل الجريمة، وتنازعه نفسه مرة ثانية لأنه رمى بريئاً بالجريمة؛ لذلك قال الحق: {فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وساعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2619 نسمع كلمة «بهتان» فهي مأخوذة من مادة «بهت» . والبهتان هو الأمر الذي يتعجب من صدوره من فاعله. مثال ذلك قوله الحق في شرح قضية سيدنا إبراهيم مع النمرود، حيث يقول سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258] فماذا كان موقف الرجل؟ {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} [البقرة: 258] أي أنه سمع شيئاً عجيباً يخرسه عن أن يتكلم؛ فقد جاء له سيدنا إبراهيم بأمر عجيب لا يخطر على باله، ولا يستطيع أن يجد منه مفراً، فكأن الأمور المخالفة لمنطق الحق ولمطلوب القيم أمور غريبة عن الناس إنَّها هي البهتان، والدليل على ذلك أنها أمور يستتر فاعلها عن الناس. وإذا ما نظرنا إلى القضية التي نزلت الآية بسببها. وجدنا أن سارقاً سرق وأراد أن يبرئ نفسه وأن يُدخل في الجريمة بريئاً. ويلصقها به، وأن يرتكب المجرم الجريمة فهذا يحمِّلُه إثماً. أما أن ينقل الجريمة إلى سواه فهذا يدل على وجود طاقة أخرى حتى يحتمل ما فعله، وهذا صعب على النفس، ولا يتعجب أحد لسماع شيء إلا إذا كان هذا الشيء مخالفاً لما هو مألوف ومعروف. وإنّ في الحوار بين سيدنا إبراهيم والنمرود لدليلاً واضحاً وناصعاً؛ فعندما قال النمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] قصد بذلك قدرته على أن يقتل إنساناً، ويترك إنساناً آخر لمسعاه. وهنا عاجله سيدنا إبراهيم بالقضية التي تبهته ولا يدخل فيها هذا التماحك اللفظي. فقال: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} [البقرة: 258] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2620 أي أن النمرود سمع قولاً عجيباً وليس عنده من الذكاء ما يحتاط به إلى دفعه، وكذلك الرجل الذي صنع الجريمة ثم رمى بها غيره احتاج إلى طاقة تتحمل هذا، مما يدل على أن الفطرة السليمة كارهة لفعل القبيح. فإذا ما فعل الإنسان ذنباً فقد حمل بهتاناً، وإذا ما عَدَّى ذلك إلى أن يحمله إلى بريء، فذلك يعني أن الأمر يحتاج إلى طاقة أخرى. إذن فقوله الحق: {فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} أي أنه احتمل أمراً عجيباً يبهت السامع ويتعجب كيف حدث ذلك. ويحتمل من يفعل ذلك الإثمَ أيضاً. والإثم - كما عرفنا - هو السيئة المتعمَّدة. ويوضح الحق سبحانه وتعالى هذه القضية: إن الله سبحانه وتعالى يحوطك يا محمد بعنايته وبرعايته وبفضله، وإن حاول بعض من قليلي الإيمان أن يخرجوك عن هذه المسألة، وأن يزينوا لك أن تبرئ مذنباً لتجرم آخر بريئاً وإن كان المذنب مسلماً وإن كان البريئ غير مسلم، والله لم يرسل محمداً ليحكم بين المؤمنين فقط، ولكن صدر هذه الآية يوضح لنا أن الله أرسل محمداً ليحكم بين المؤمنين فقط، ولكن صدر هذه الآية يوضح لنا أن الله أرسل رسوله ليحكم بالحق: «لتحكم بين الناس» أي ليحكم بين الناس على إطلاقهم. فإياك حين تحكم أن تقول: هذا مسلم وذلك كافر. أو تقول: هذا مسلم وذلك من أهل الكتاب، بل كل الناس أمام قضايا الحق سواء. ولذلك أخذ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلك الجرعة الإيمانية التي جاءت بها حادثة من الحوادث ليقول بعد ذلك في قصة المخزومية حينما سرقت وأراد أن يقيم عليها الحد، وكلّمه حبيبه أسامة بن زيد في أن يرفع عنها الحد، فقال رسول الله: «عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: مَنْ يكلم فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقالوا: ومن يجرؤ عليه إلا أسامة حب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب فقال:» أيها الناس: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإن سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها «. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2621 هذا القول مستخلص من القضية السابقة. ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ. .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2622 وهنا نتساءل: هل هَمَّ أحد بإضلال رسول الله؟ علينا أن نفهم أن «الهمّ» نوعان: هم إنفاذ، وهم تزيين. وقد رفض رسول الله هم الإنفاذ، ودفعه الله عنه لأنه سبحانه وتعالى يحوط رسوله بفضله ورحمته ويأتي بالأحداث ليعلمه حكماً جديداً. وفضل الله على رسوله ورحمته جعل الهم منهم هم تزيين فقط وحفظ الله رسوله منه أيضا. وعندما تعلم الرسول هذا الحكم الجديد، صار يقضي به من بعد ذلك في كل قضايا الناس. فإذا ما جاء حدث من الأحداث وجاء له حكم من السماء لم يكن يعلمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالفضل لله لأنه يزيد رسوله تعليما. {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] وكان قصد الذين دافعوا عن «ابن أبيرق» أن يزينوا لرسول الله، وهذا هو هم التزيين لا هم الإنفاذ. وكان الهدف من التزيين أن يضروا الرسول ويضلوه والعياذ بالله، ليأخذوه إلى غير طريق الحق وغير طريق الهدى، وهذا أمر يضر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلو أن رسول الله برأ المذنب الذي يعلم أنه مذنب لاسْتقرّ في ذهن المذنب أن قضايا الدين ليست جادة، أما البريء الذي كان مطلوباً أن يدينه رسول الله ماذا يكون موقفه؟ لا بد أن يقول لنفسه: إن دين محمد لا صدق فيه لأنه يعاقب بريئاً. إذن فَهَمَّ التزيين يضر بالرسول عند المبرأ وعند من يراد إلصاق الجريمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2622 به. لكن الله صان رسوله بالفضل وبالرحمة عن هذا أيضا. {لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} [النساء: 113] لقد أنزل الحق كتاباً ليفصل في القضية ونزول الحكم بعد وقوع تلك الحادثة إنما جاء ليبين ضمن ما يبين سر نزول القرآن منجماً؛ لأن القرآن يعالج أحداثاً واقعية، فيترك الأمر إلى أن يقع الحدث ثم يصب على الحدث حكم الله الذي ينزل من السماء وقت حدوث الحدث، وإلا كيف يعالج القرآن الأحداث لو نزل مرة واحدة بينما الأحداث لم تقع؟ لذلك أراد الله أن تنزل الأحداث أولاً ثم يأتي الحكم. وقد سبق أن قال الكفار: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] لا؛ فقد أراد الله القرآن منجماً ومتفرقاً ومُقَسَّطاً لماذا؟ {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32] فكلما حدثت هزة للفؤاد من اللّدَد والخصومة الشديدة ومن العناد الذي كان عليه الكفار وردّهم للحق - وهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم - ينزل نجم من القرآن، وفي شغب البشر مع الرسول تنزل رحمة السماء تُثَبِّت الفؤاد؛ فإن تعب الفؤاد من شغب الناس؛ فآيات اتصال الرسول بالسماء وبالوحي تنفي عنه هذه المتاعب. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر الدعوة كانت تحدث له كل يوم هزات؛ لذلك كان في كل لحظة يحتاج إلى تثبيت. وعندما ينزل النجم القرآني بعد العراك مع الخصوم فإن حلاوة النجم القرآني تُهَوِّنُ عليه الأمر، وإذا ما جاء للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر آخر يعكر صفوه، فهو ينتظر حلاوة الوحي لتنزل عليه، وهذا معنى قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2623 أي أنزلناه منجماً لنثبت به فؤادك. ولو نزل القرآن جملة واحدة لقلل من مرات اتصال السماء بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو يريد مداومة اتصال السماء به. بدليل أن الوحي عندما فتر جلس الرسول يتطلع إلى السماء ويتشوق. لماذا؟ ففي بداية النزول أرهقه الوحي، لذلك قال الرسول: «فضمني إليه حتى بلغ مني الجهد» . ورأته خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «وإن جبينه ليتفصد عرقاً» فاتصال جبريل بملكيته ونورانيته برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بشريته لا بد أن يحدث تغييراً كيميائيا في نفس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. «عن عائشة أم المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن الحارث بن هشام رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. قال عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا «. إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يواجه المتاعب وأراد الله بفترة الوحي أن يحس محمد حلاوة الوحي الذي نزل إليه، وأن يشتاق إليه، فالشوق يعين الرسول على تحمل متاعب الوحي عندما يجيء، ولذلك نجد أن عملية تفصد العرق لم تستمر كثيرا؛ لأن الحق قال: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4] أي أن الحق أوضح لرسوله: إنك ستجد شوقا وحلاوة ولذة في أن تستقبل هذه الأشياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2624 {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32] وهكذا كان القرآن ينزل منجماً، على فترات، ويسمع الصحابة عدداً من آيات القرآن. ويحفظونها ويكتبها كُتَّابُ الوحي وبعد ذلك تأتي معجزة أخرى من معجزات القرآن مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتنزل سورة كاملة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبعد أن يُسرى عنه يقول للكتبة: اكتبوا هذه. ويرتب رسول الله الآيات بمواقعها من السورة. ثم يقرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ السورة في الصلاة ويسمع المصلون الترتيل الذي تكون فيه كل آية في موقعها، وهذا دليل على أن المسألة مدروسة دراسة دقيقة، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يحكي إنما يحكي صدقاً. وإلا فَقُولُوا لي: كيف ينزل الوحي على رسول الله بسورة بأكملها ويميلها للكتبة، ثم يقرؤها في الصلاة كما نزلت وكما كتبها أصحابه، كيف يحدث ذلك إن لم يكن ما نزل عليه صدقاً كاملاً من عند الله؟ ونحن قد نجد إنساناً يتكلم لمدة ربع ساعة، لكن لو قلنا له: أعد ما تكلمت به فلن يعيد أبداً الكلمات نفسها، لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعيد الآيات كما نزلت. مما يدل على أنه يقرأ كتاب الله المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنه تنزيل من حكيم حميد. ولذلك يقول الحق: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33] أي لا يأتونك بحادثة تحدث إلا جئناك بالحق فيها. إذن لم يكن للقرآن أن ينزل منجماً إلا ليثبت فؤاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تتابع الهزات التي يتعرض لها، وأراد الله أن ينشر اتصال السماء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الثلاثة والعشرين عاماً التي استغرقتها الرسالة. والترتيل هو التنجيم والتفريق الذي ينزل به القرآن فيقرأه الرسول في الصلاة مثلما نزل عليه قبل ذلك دون تحريف أو تبديل، والحق يقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2625 {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] وكل حادثة تحدث ينزل لها ما يناسبها من القرآن. كما حدثت حادثة سرقة ابن أبيرق فنزل فيها الحكم والحق يقول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} . فإذا ما علمك الله - يا رسول الله - ما لم تكن تعلم بنزول الكتاب، فهل أنت يا سيدي يا رسول الله مشرع فقط بما نزل من الكتاب؟ لا؛ فالكتاب معجزة وفيه أصول المنهج الإيماني، ولكن الله مع ذلك فوض رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشرِّع؛ وتلك ميزة لم تكن لرسول قبله، بدليل قوله الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] فالرسل من قبل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتناولون ما أخذوه عن الله، وميز سبحانه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتفويض التشريع. وأوضح الحق أنه عَلَّمَ رسوله الكتاب والحكمة. والحكمة مقصود بها السنة، فسبحانه القائل: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة} [الأحزاب: 34] وسبحانه صاحب الفضل على كل الخلق وصاحب الفضل على رسوله: {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} ولنا أن نلحظ أن {فَضْلُ الله} تكرر في هذه الآية مرتين. ففضل الله الأول في هذه الآية أنه عصمه من أن تضله طائفة وتنأى به عن الحق، ثم كان فضل الله عليه ثانيا أنه أنزل عليه الكتاب بكل أحكامه وأعطاه الحكمة وهي التفويض من الله لرسوله أن يشرّع. إذن فالحق سبحانه وتعالى جعل من سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ امتداداً لوحيه. ولذلك إذا قيل من قوم يحاولون التشكيك في حديث رسول الله: إن الصلاة لم تأت في القرآن. نقول سائلين الواحد منهم: هل تؤدي الصلاة أم لا.؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2626 فيقول: إنني أصلي. . فنقول له: كم فرضاً تصلي؟ . فيقول: خمسة فروض. فنقول: هات هذه الفروض الخمسة من القرآن. ولسوف يصيبه البهت، وسيلتبس عليه أمر تحديد الصبح بركعتين والظهر بأربع ركعات، والعصر بمثلها، والمغرب بثلاث، والعشاء بأربع ركعات. وسيعترف أخيراً أنه يصلي على ضوء قول الرسول: «صلوا كما رأيتموني أصلي» وهذه من سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} وقد نجد واحداً من اهل السطحية واللجاجة يقول: القرآن يكرر الكلمات في أكثر من موقع، ولماذا يذكر فضل الله في صدر هذه الآية، ويذكره مرة أخرى في ذيل نفس الآية؟ . نقول: أنت لم تلحظ فضل الله في الجزئية الأولى لأنه أنقذ رسوله من همّ التزيين بالحكم على واحد من أهل الكتاب ظلماً، وفي الجزئية الثانية هو فضل في الإتمام بأنه علم رسوله الكتاب والحكمة وكان هذا الفضل عظيماً حقاً. وساعة يذهب هؤلاء الناس ليحدثوا الرسول في أمر طعمة ابن أبيرق، ألم يجلسوا معا ليتدارسوا كيف يفلت طعمة بن أبيرق من الجريمة؟ . لقد قاموا بالتداول فيما بينهم لأمر طعمة واتفقوا على أن يذهبوا للرسول؛ فكانت الصلة قريبة من النجوى. ولذلك حرص أدب الإسلام على أن يحترم كرامة أي جليس ثالث مع اثنين فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما؛ لأن ذلك يحزنه. وقد يكون الأمر جائزاً لو كان الجلوس أربعة، فواحد يتحدث مع آخر، وهناك يستطيع اثنان أن يتناجيا. إذن فالنجوى معناها المسارّة، والمسارّة لا تكون إلا عن أمر لا يحبون أن يشيع، وقد فعل القوم ذلك قبل أن يذهبوا إلى الرسول ليتكلموا عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2627 حادثة طعمة بن أبيرق، ولذلك يفضح الحق أمر هذه النجوى، فينزل القول الحق: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ. .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2628 وسبحانه يوضح أمر هذه النجوى التي تحمل التبييت للإضلال، ولكن ماذا إن كانت النجوى لتعين على حق؟ إنه سبحانه يستثنيها هنا؛ لذلك لم يصدر حكماً جازماً ضد كل نجوى، واستثنى منها نجوى مَن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، بل ويجزى عليها حسن الثواب. لذلك قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} . ويستخدم الحق هنا كلمة «سوف» ، وكان من الممكن أن يأتي القول {فسنؤتيه أجراً عظيماً «لكن لدقة الأداء القرآني البالغة جاءت بأبعد المسافات وهي» سوف «. ونعرف أن جواب شرط الفعل إذا ما جاء على مسافة قريبة فنحن نستخدم» السين «، وإذا ما جاء جواب الشرط على مسافة بعيدة فنحن نستخدم» سوف «. وجاء الحق هنا ب» سوف «لأن مناط الجزاء هو الآخرة، فإياك أيها العبد المؤمن أن تقول: لماذا لم يعطني الله الجزاء على الطيب في الدنيا؟؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يقل:» فسنؤتيه «ولكنه قال: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} مما يدل على أن الفضل والإكرام من الله؛ وإن كان عاجلاً ليس هو الجزاء على هذا العمل؛ لأن جزاء الحق لعبادة المؤمنين سيكون كبيراً، ولا يدل على هذا الجزاء في الآخرة إلاّ» فسوف «. ونعرف أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يمني أمته الإيمانية بشيء فهو يمنيها بالآخرة، ولننظر إلى بيعة العقبة عندما جاء الأنصار من المدينة لمبايعة رسول الله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2628 فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحوله عصابة من أصحابه:» بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه «. لقد أخذت لنفسك يا رسول الله ونحن نريد أن نأخذ لأنفسنا، ماذا لنا إن نحن وفّينا بهذا؟ ولنر عظمة الجواب وإلهامية الرد، قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لكم الجنة « كان في استطاعة رسول الله أن يقول لهم: إنكم ستنتصرون وإنكم ستأخذون مشارق الأرض ومغاربها وسيأتي لكم خير البلاد الإسلامية كلها. لكنه بحكمته لم يقل ذلك أبداً فقد يستشهد واحد منهم في قتال من أجل نصرة دين الله، فماذا سيأخذ في الدنيا؟ . إنه لن يأخذ حظه من التكريم في الدنيا، ولكنه سينال الجزاء في الآخرة. لذلك جاء بالجزاء الذي سيشمل الكل، وهو الجنة ليدلهم على أن الدنيا أتفه من أن يكون جزاء الله محصوراً فيها، ويحض كل المؤمنين على أن يطلبوا جزاء الآخرة؛ ونعلم جميعاً هذه الحكاية، ونجد رجلاً يقول لصاحبه: أتحبني؟ فأجاب الصاحب: نعم أحبك. فسأل السائل: على أي قدر تحبني؟ قال الصاحب: قدر الدنيا. أجاب الرجل: ما أتفهني عندك!! . يقول الحق: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} ومن صاحب «نؤتيه» والفاعل لهذا العطاء؟ إنه الحق سبحانه وتعالى الذي وصف الأجر بأنه أجر عظيم. وكأن الحق يبلغنا: - يا معشر الأمة الإيمانية التحموا بمنهج رسول الله وامتزجوا به لتكونوا معه شيئاً واحداً. وإياكم أن يكون لكم رأي منفصل عن المنهج؛ فهو مبلغ عن الله، فمن آمن به فليلتحم به. ولذلك نجد سيدنا أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ساعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2629 حدثوه في حكاية الإسراء والمعراج نجده يسأل محدثه: أقال رسول الله ما قلتموه. .؟ فيقولون: بلى، لقد قال. فيرد عليهم الصديق: إن كان قال فقد صدق؛ فالصديق أبو بكر لا يحتاج إلى دليل على صدق ما قال رسول الله. ويأتي الحق بالمقابل فيقول: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2630 وكلمة «يشاقق» تدل على أن شقاً قد حدث في أمر كان ملتحماً، مثلما نشق قطعة الخشب فنجعلها جزئين بعد أن كانت كتلة واحدة. وأنتم أيها المؤمنون قد التحمتم بمنهج رسول الله إيماناً، واعترفتم به رسولا ومبلغ صدقٍ عن الله، فإياكم أن تشرخوا هذا الالتحام. فإن جاء حكم وحاول أحد المؤمنين أن يخرج عنه، فهذا شقاق للرسول والعياذ بالله. أو المعنى ومن سلك غير الطريقة التي جاء بها الرسول بأن صار في شق وشرع الله في شق آخر. {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى} نعم فقد تبين الهدى للمسلم حينما آمن بالله خالقاً ورباً. وآمن بالرسول مبلغاً وهو بذلك قد أسلم زمامه إلى الله. ولذلك قلنا: إن عمل العقل هو أن ينظر في أدلة الوجود الأعلى لله، فإذا ما آمن الإنسان بالوجود الأعلى لله، بقيت مرتبة، وهي أن يؤمن الإنسان بالرسول المبلغ عن الله؛ لأن قصارى ما يطلبه العقل من الدليل الإيماني على وجود الله أن وراء الإنسان ووراء الكون قوة قادرة حكيمة عالمة فيها كل صفات الكمال. إن العقل لا يستطيع معرفة اسم هذه القوة. ولا يستطيع العقل أن يتعرف على مطلوباتها؛ لذلك لابد من البلاغ عن هذه القوة، وإذا تبين للإنسان الهدى في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2630 الوجود الأعلى وفي البلاغ عن الله فلا بد للإنسان أن يلتحم بالمنهج الذي جاء به المبلغ عن الله. ويفعل الإنسان مطلوب القوة العليا؛ لأن الله قد أمر به؛ ولأن رسول الله قد بلغ الأمر أو فعله أو أقرّه. أما إذا دخل الإنسان في مماحكات فإننا نقول له: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] والهدى - كما نعرف - هو الطريق الموصل إلى الغاية. فكل فعل من أفعال الخلق لا بد له من هدف. ومن فعل فعلاً بلا هدف يعتبره المجتمع فاقداً للتمييز. أما إذا كان الإنسان صاحب هدف فهو يعترف على جدّية هدفه وأهميته. ويبحث له عن أقصر طريق، هذا الطريق هو ما نسميه الهدى. ومن يعرف الطريق الموصل إلى الهدى ثم يتبع غير سبيل المؤمنين فهو يشاقق الرسول، ولا يلتحم بمنهج الإيمان ولا يلتزم به، ومن يشاقق إنما يرجع عن إيمانه. وهكذا نعرف أن هناك سبيلا وطريقا للرسول، ومؤمنين اتبعوا الرسول بالتحام بالمنهج، ومن يشاقق الرسول يخالف المنهج الذي جاء به الرسول، ويخالف المؤمنين أيضاً. والحق هو القائل: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} [الأنعام: 153] فليس للحق إلا سبيل واحد. ومن يخرج عن هذا السبيل فما الذي يحدث له؟ . ها هي ذي إجابة الحق: {نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} . وقد يأتي لفظ من المحتمل أن يكون أداة شرط ويحتمل أن يكون اسماً موصولاً مثل قولنا: مَن يذاكرُ ينجحُ. بالضم فيهما، و «من» هنا هي اسم موصول؛ فالذي يذاكر هو مَن ينجح. وقد نقول: مَن يذاكرْ ينجحْ. بالسكون وهنا «مَن» شرطية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2631 وفي الاسم الموصول نجد الجملة تسير على ما هي، أما إذا كانت شرطية، فهناك الجزم الذي يقتضي سكون الفعل؛ ويقتضي - أيضا - جواباً للشرط. و «من» تصلح أن تكون اسماً موصولاً، وتصلح أن تكون أداة شرط، ونتعرف - عادة - على وضعها مما يأتي بعدها. مثال ذلك قوله الحق: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ} ونجد «يتبع» هنا عليها سكون الجزم، وهذا يدل على أن «مَنْ» شرطية. وتختلف القراءة لو اعتبرنا «مَن» اسم موصول؛ لأن هذا يستدعي ترك الفعل «يشاقق» في وضعه كفعل مضارع مرفوع بالضمة، وكذلك يكون «يتبعْ» فعلاً مضارعاً مرفوعاً بالضمة؛ عند ذلك نقول: «نوليه ما تولى ونصليه» . ولكن إن اعتبرنا «مَن» أداة شرط - وهي في هذه الآية شرطية - فلا بد من جزم الفعل فنقرأها «ومن يشاققْ الرسول من بعد ما تبين له الهدى» . وكذلك نجزم الفعل المعطوف وهو قوله: (ويتبعْ) ويجزم جواب الشرط وما عطف عليه وهو قوله: (نولّهِ) (ونصْلِه) والجواب وما عطف عليه مجزومان بحذف حرف العلة وهي الياء من آخره {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} . ومعنى «تَوَلَّى» أي قرب، ويقال: فلان وَلِي فلان؛ أي صار قريباً له. ومن يتبع غير سبيل المؤمنين، فالحق لا يريده بل ويقربه من غير المؤمنين ويكله إلى اصحاب الكفر. وها هو ذا الحق سبحانه يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشِركه» . فالذي يحتاج إلى الشرك هو من زاوية من ضعف، ويريد شريكاً ليقويه فيها. وعلى سبيل المثال - ولله المثل الأعلى - لا نجد أحداً يشارك واحداً على تجارة إلا إذا كان يملك المال الكافي لإدارة التجارة أو لا يستطيع أن يقوم على شأنها. وسبحانه حين يعلمنا: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» . أي أن له مطلق القوة الفاعلة التي لا تحتاج إلى معونة، ولا تحتاج إلى شريك؛ لأن الشركة أول ما تشهد فإنها تشهد ضعفا من شريك واحتياجاً لغريب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2632 ولذلك فمن يشاقق الرسول في أمر إيماني فالحق يوليه مع الذي كفر ويقربه من مراده. وسبحانه يعلم أن الإنسان لن ينتفع بالشيء المشاقق لرسول الله، بل يكون جزاء المشاقق لرسول الله والمتبع لغير سبيل المؤمنين أن يقربه الله ويدينه من أهل الكفر والمعاصي، ويلحقه بهم ويحشره في زمرتهم. ولا يعني هذا أن الله يمنع عن العبد الرزق، لا، فالرزق للمؤمن وللكافر، وقد أمر الله الأسباب أن تخدم العبد إن فعلها. ومن رحمة الله وفضله أنه لا يقبض النعمة عن مثل هذا العبد، فالشمس تعطيه الضوء والحرارة، والهواء يهب عليه، والأرض تعطيه من عناصرها الخير: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] ويقول سبحانه: {كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء: 20] وهكذا نجد العطاء الرباني غير مقصور على المؤمنين فقط ولكنه للمؤمن وللكافر، ولو لم يكن لله إلا هذه المسألة لكانت كافية في أن نلتحم بمنهجه ونحبه. {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} ولا بد أن يكون المصير المؤدي إلى جهنم غاية في السوء. وبعد ذلك تأتي سيرة الخيانة العظمى للإيمان، إنها قول الحق سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ. .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2633 والحق هنا يتكلم عن إنسان لم تحدث له توبة عن الشرك فيؤمن؛ لأن الإيمان يَجُبُّ ما قبله أي يقطع ما كان قبله من الكفر والذنوب التي لا تتعلق بحقوق الآخرين كظلم العباد بعضهم بعضا. ومن عظمة الإيمان أن الإنسان حين يؤمن بالله وتخلص النية بهذا الإيمان، وبعد ذلك جاءه قدر الله بالموت، فقد يعطيه سبحانه نعيما يفوق من عاش مؤمنا لفترة طويلة قد يكون مرتكباً فيها لبعض السيئات فينال عقابها. مثال ذلك «مخيريق» فحينما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أحد قال مخيريق لليهود: ألا تنصرون محمداً والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم فقالوا: اليوم يوم سبت فقال: لا سبت. وأخذ سيفه ومضى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقاتل حتى أثبتته الجراحة (أي لا يستطيع أن يقوم معها) فلما حضره الموت قال: أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء. فلم يصل في حياته ركعة واحدة ومع ذلك نال مرتبة الشهيد، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مخيريق سائق يهود وسلمان سائق فارس وبلال سائق الحبشة» . وسبحانه يبلغنا هنا: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} ولله المثل الأعلى نرى في حياتنا مجتمعاً قد تقوم فيه ثورة أو انقلاب، ونجد قادة الثورة أو الانقلاب يرون واحداً يفعل ما شاء له فلا يقتربون منه إلى أن يتعرض للثورة بالنقد أو يحاول أن يصنع انقلابا، هنا تتم محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، فما بالنا بالذي يخرج عن نطاق الإيمان كلية ويشرك بالله؟ سبحانه لا يغفر ذلك أبداً، ولكنه يغفر ما دون ذلك، ومن رحمة الله بالخلق أن احتفظ هو بإرادة الغفران حتى لا يصير الناس إلى ارتكاب كل المعاصي. ولكن لا بد من توبة العبد عن الذنب. ونعلم أن العبد لا يتم طرده من رحمة الله لمجرد ارتكاب الذنب. ونعلم أن هناك فرقاً بين من يأتي الذنب ويفعله ويقترفه وهو يعلم أنه مذنب وأن حكم الله صحيح وصادق، لكن نفسه ضعفت، والذي يرد الحكم على الله. وقد نجد عبداً يريد أن يرتكب الذنب فيلتمس له وجه حل، كقول بعضهم: إن الربا ليس حراماً. هذا هو رد الحكم على الله. أما العبد الذي يقول: إنني أعرف أن الربا حرام ولكن ظروفي قاسية وضروراتي ملحة. فهو عبد عاصٍ فقط لا يرد الحكم على الله، ومن يرد الحكم على الله هو - والعياذ بالله - كافر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2634 {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} ولننتبه إلى أن بعض المستشرقين الذين يريدون أن يعيثوا في الأرض فساداً. ولكنهم بدون أن يدروا ينشرون فضيلة الإسلام، وهم كما يقول الشاعر: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود وحين يتكلمون في مثل هذه الأمور يدفعون أهل الإيمان لتلمس وجه الإعجاز القرآني وبلاغته. إنهم يقولون: بَلَّغ محمد قومه {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} لكن يبدو أن السهو قد غلبه فقال في آية أخرى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 53] هم يحاولون نسبة القرآن إلى محمد لا إلى الله. ويحاولون إيجاد تضارب بين الآيتين الكريمتين. ونقول رداً عليهم: إن الواحد منكم أمي ويجهل ملكة اللغة، فلو كانت اللغة عندكم ملكة وسليقة وطبيعة لفهم الواحد منكم قوله الحق: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 53] وكان الواجب أن يفهم الواحد منكم أن الشرك مسألة أكبر من الذنب؛ فالذنب هو أن يعرف الإنسان قضية إيمانية ثم يخالفها، ولكن المشرك لا يدخل في هذا الأمر كله؛ لأنه كافر في القمة. ولذلك فلا تناقض ولا تعارض ولا تخالف بين الآيتين الكريمتين. والمستشرقون إنما هم قوم لا يفقهون حقيقة المعاني القرآنية. {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2635 ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} . والمشرك مهما أخذ من متع لحياته فحياته محدودة، فإن بقيت له المتع فلسوف يتركها، وإن لم تبق له المتع فهي تخرج منه. إذن، هو إما تارك للمتع بالموت، أو المتع تاركة له بحكم الأغيار، فهو بين أمرين: إمّا أن يفوتها وإمّا أن تفوته. وهو راجع إلى الله، فإذا ما ذهب إلى الله في الآخرة والحساب، فالآخرة لا زمن لها ولذلك ما أطول شقاءه بجريمته، وهذا ضلال بعيد جداً. أما الذي يضل قليلاً فهو يعود مرة أخرى إلى رشده. ومن المشركين بالله هؤلاء الذين لا يجادلون في ألوهية الحق ولكنهم يجعلون لله شركاء. وهناك بعض المشركين ينكرون الألوهية كلها وهذا هو الكفر. فهناك إذن مشرك يؤمن بالله ولكن يجعل له شركاء. ولذلك نجد أن المشركين على عهد رسول الله يقولون عن الأصنام: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [سورة الزمر: 3] ولو قالوا: لا نذبح لهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، مثلا، لكان من الجائز أن يدخلوا في عبادة الله، ولكنهم يثبتون العبادة للأصنام؛ لذلك لا مفر من دخولهم في الشرك. ويقول سيدنا إبراهيم عن الأصنام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77] إنه يضع الاستثناء ليحدد بوضوح قاطع ويقول لقومه: إن ما تعبدونه من الأصنام، كلهم عدو لي، إلا رب العالمين. كأن قوم إبراهيم كانوا يؤمنون بالله ولكن وضعوا معه بعض الشركاء. ولذلك قال إبراهيم عليه السلام عن الله: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 78 - 79] إذن الشرك ليس فقط إنكار الوجود لله بل قد يكون إشراكاً لغير الله مع الله. ولنر من يعبدونه ويدعونه في مصائبهم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2636 {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2637 و «إن» هنا بمعنى ما، ف «إن» مرة تكون شرطية، ومرة تكون نافية. مثل قوله في موقع آخر: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] أي إن الحق يقول: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} . وكذلك «إنْ» في قوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} ، وكان العرب ينسبون إلى المرأة كل ما هو هيّن وضعيف ولذلك قال الحق: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] فالإناث في عرف العرب لا تستطيع النصر أو الدفاع، ولذلك يقول الشاعر: وما أدرى ولست أخال أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء والقوم هنا مقصود بهم الرجال لأنهم يقومون لمواجهة المشكلات فلماذا تدعون مع الله إناثاً؟ . هل تفعلون ذلك لأنها ضعيفة، أو لأنكم تقولون: إن الملائكة بنات الله؟ . وكانوا يعبدون الملائكة. وعندما تريدون القسمة لماذا تجعلون لله بنات؟ . على الرغم من أنه سبحانه خلق البنين والبنات. ولذلك قال الحق: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 22] أي قسمة جائرة لم يراع فيها العدل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2637 وعندما ننظر إلى الأصنام كلها نجد أن أسماءها أسماء مؤنثة: {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى} [النجم: 19 - 20] وكذلك كان هناك صنم اسمه «إساف» و «نائلة» ، فهل هذه الأصنام إناث؟ وكيف تدعون النساء والنساء لا ينصرن ولا ينفعن؟ . وهل ما تعبدون من دون الله أصنام بأسماء إناث، أو هي نساء، أو هي ملائكة؟ والحق يقول: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} والأسلوب هنا أسلوب قطع. أي ما يدعون إلا إناثاً، تماماً مثلما نقول «ما أكرم إلا زيداً» وهذا نفي الإكرام لغير زيد، وإثبات للإكرام لزيد. فساعة يقول الحق: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} فغير الإناث لا يدعونهم، ولذلك يعطف عليها الحق: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} . واستخدم الحق في صدر الآية أسلوب القصر، وأسلوب القصر معناه أن يقصر الفعل على المقصور عليه لا يتعداه إلى غيره؛ فهم يعبدون الإناث، هذا اقصر أول، ثم قصر ثانٍ هو قوله الحق: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} . وكان خدم الأصنام يدعون أن في جوف كل صنم شيئاً يتكلم إليهم؛ لذلك كان لا بد أن يكون في جوف كل صنم شيطان يكلمهم. . وكان ذلك لوناً من الخداع، فالشياطين ليست جنّاً فقط ولكن من الإنس أيضاً. فهناك سدنة وخدم يقومون على خدمة الآلهة ويريدون أن يجعلوا للآلهة سلطاناً ونفوذاً حتى يأتي الخير للآلهة كالقرابين والنذور ويسعد السدنة بذلك؛ لذلك كانوا يستأجرون واحداً له صوت أجش يتكلم من وراء الصنم ويقول: اذبحوا لي كذا. أو هاتوا لي كذا. تماماً كما يحدث من الدجالين حتى يثبتوا لأنفسهم سلطاناً. وهكذا كان الذي يتكلم في جوف هذه الأصنام إما شيطان من الجن، وإمّا شيطان من الإنس. والشيطان من «الشطن» وهو «البعد» . ووصف الشيطان بأنه مريد يتطلب منا أن نعرف أن هناك كلمة «مارد» وكلمة « الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2638 مريد» . وكل الأمور التي تغيب عن الحس مأخوذة من الأمور الحسية. وعندما نمسك مادة «الميم والراء والدال» نجد كلمات مثل «أمرد» و «امرأة مرداء» و «شجرة مرداء» ، و «صرح ممرد» . إن المادة كلها تدور حول الملمس الأملس. فأمرد تعني أملس؛ أي أن منابت الشعر فيه ناعمة. وصرح ممرد كصرح بلقيس أي صرح مصقول صقلاً ناعما لدرجة أنها اشتبهت في أنه ماء، ولذلك كشفت عن ساقيها خوفاً أن يبتل ثوبها. والشجرة المرداء هي التي لا يمكن الصعود عليها من فرط نعومة ساقها تماماً كالنخلة فإنه لا تبقى عليها الفروع، ولذلك يدقون في ساق هذه النخلة بعض المسامير الكبيرة حتى يصعدوا عليها. والشيطان المريد هو المتمرد الذي لا تستطيع الإمساك به. إذن. ف «مارد» و «مريد» و «ممرد» و «مرداء» و «أمرد» ، كلها من نعومة الملمس. {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} . وعندما يحاول العصاة الإمساك بالشيطان في الآخرة يقول لهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] وهو بذلك يتملص من الذين اتبعوه؛ لأنه لم يكن يملك قوة إقناع أو قوة قهر، فقط نادى بعضاً من الخلق فزاغت أبصارهم واتبعوه من فرط غبائهم. والشيطان موصوف بأن الله طرده من رحمته. فالحق يقول: {لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2639 لماذا هذا اللعن؟ لقد أذنب الشيطان وعصى الله. وآدم أذنب أيضا وعصى الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2639 فلماذا لعن الله الشيطان، ولماذا عفا الله عن آدم؟ نجد الإجابة في القرآن: {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} [البقرة: 37] ونعرف بهذا القول: أنّ هناك فرقاً بين أن يرد المخلوق على الله حكماً، وفعل المعصية للغفلة. فحين أمر الحق إبليس بالسجود لآدم قال إبليس: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] وهذا رد للحكم على الله، ويختلف هذا القول عن قول آدم وحواء، قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] وهكذا نجد أن آدم قد اعترف بحكم الله واعترف بأنه لم يقدر على نفسه. ولذلك فليحذر كل واحد أن يأتي إلى ما حرّم الله ويقول: لا، ليس هذا الأمر حراما لكن إن كان لا يقدر على نفسه فليعترف ويقول: إن ما حرم الله حرام. لكني غير قادر على نفسي. وبذلك يستبعد الكفر عن نفسه، ويكون عاصياً فقط ولعل التوبة أو الاستغفار يذهبان عنه سيئات فعله. أما من يحلل ما حرّم الله فهو يصر على الكفر، وطمس الله على بصيرته نتيجة لذلك. وسبحانه وتعالى يصف الشيطان بقوله - سبحانه -: «لعنة الله» أي طرده من رحمته. وليتيقظ ابن آدم لحبائل الشيطان وليحذره؛ لأنه مطرود من رحمة الله. ولو أن سيدنا آدم أعمل فكره لفند قول الشيطان وكيده، ذلك أن كيد الشيطان ضعيف. ولكن آدم عليه السلام لم يتصور أن هناك من يقسم بالله كذباً. فقد أقسم الشيطان: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2640 وكانت غفلة آدم - عليه السلام - لأمر أراده الله وهو أن يكون آدم خليفة في هذه الدنيا؛ لذلك كان من السهل أن يوسوس الشيطان لآدم ولزوجه: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20] وأغوى الشيطان آدم وحواء بأن الله قد نهاهما عن الأكل من تلك الشجرة حتى لا يكونا ملكين، وحتى لا يستمرا في الخلود. ولو أن آدم أعمل فكره في المسألة لقال للشيطان: كل أنت من الشجرة لتكون ملكاً وتكون من الخالدين، فأنت أيها الشيطان الذي قلت بخوف شديد لله: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36] والحق يريد لنا أن نتعلم من غفلة آدم؛ لذلك لا بد للمؤمن أن يكون يقظاً. فسبحانه يقول عن الشيطان: {لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} . والقرآن الكريم حين يعالج قضية ما فهذه القضية تحتاج إلى تدبر. ونلحظ أن إبليس قد تكلم بذلك ولم يكن موجوداً من البشر إلا آدم وحواء، فكيف علم ما يكون في المستقبل من أنه سيكون له أتباع من البشر؟ وكيف قال: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} ؟ . لقد عرف أنه مادام قد قدر على أبيهم آدم وأمهم حواء فلسوف يقدر على أولادهما ويأخذ بعضاً من هؤلاء الأولاد إلى جانبه، قال ذلك ظناً من واقع أنه قدر على آدم وعلى حواء. والذين اتبعوا إبليس من البشر صدقوا إبليس في ظنه. وكان هذا الظن ساعة قال: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} . وأخذ إبليس هذا الظن لأنه قدر على آدم وحواء مع أن آدم وحواء قد أخذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2641 التكليف من الله مباشرة، فما بالك بالأولاد الذين لم يأخذوا التكليف مباشرة بل عن طريق الرسل. إذن كان ظن إبليس مبنياً على الدليل فالظن - كما نعلم - هو نسبة راجحة وغير متيقنة، ويقابلها الوهم وهو نسبة مرجوحة: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20] ولذلك قال إبليس أيضاً: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62] وقال كذلك: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] مادام إبليس قد قال: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} . فهذا اعتراف بأنه لن يستطيع أن يأخذ كل أولاد آدم. والفرض - كما نعلم - هو القطع. ويقال عن الشيء المفروض: إنه المقطوع الذي لا كلام فيه أبداً. وما وسيلة إبليس - إذن - لأخذ نصيب مفروض من بني آدم؟ ويوضح الحق لنا وسائل إبليس، على لسان إبليس: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2642 في هذه الآية تفصيل لطرق أخذ إبليس لنصيب مفروض من بني آدم. فإبليس هو القائل كما يحكى القرآن: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] وعرفنا من قبل أنه لن يقعد إلا على الطريق الطيب؛ لأن طريق من اختار السلوك السيئ لا يحتاج إلى شيطان؛ لأنه هو نفسه شيطان؛ لذلك لا يذهب إبليس إلى الخمارة، ولكنه يقف على باب المسجد ليرى الناس وهي تفعل الخير فيوسوس لهم، وفي هذا إجابة لمن يقولون: إن الوساوس تأتيني لحظة الصلاة. والصلاة - كما نعلم - هي أشرف موقف للعبد؛ لأنه يقف بين يدي الرب؛ لذلك يحاول الشيطان أن يلهي الإنسان عنها حتى يحبس عنه الثواب. وهذه الوساوس ظاهرة صحية في الإيمان، ولكنها تحتاج إلى اليقظة، فساعة ينزع الشيطان الإنسان نزغة فليتذكر قول الحق: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200] وعندما نستعيذ بالله فورأً يعرف الشيطان أنك منتبه له، حتى ولو كنت تقرأ القرآن في أثناء الصلاة ووسوس لك الشيطان، اقطع القراءة واستعذ بالله، ثم واصل القراءة والصلاة، وحين يعرف الشيطان أنك منتبه له مرة واثنتين وثلاثاً فهو يبتعد عنك فلا يأتي لك من بعد ذلك إلاَّ إذا أحسّ منك غفلة. ويبين لنا الحق طريقة الشيطان في أخذ النصيب المفروض من عباد الله فقال عن إبليس: «ولأضلنهم» . والإضلال معناه ان يسلك الشيطان بالإنسان سبيلاً غير مؤدٍ للغاية الحميدة؛ لأنه حين يسلك الشخص أقصر الطرق الموصلة إلى الغاية المنصوبة، فمعنى ذلك أنه اهتدى، وأما إذا ذهب بعيداً عن الغاية، فهذا هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2643 الضلال. والحق سبحانه وتعالى بوضعه منهج الهداية أعطانا أقصر طريق مستقيم إلى الغاية فإذا ما انحرفنا هنا أو هناك، فالانحراف في البداية يتسع حتى ننتهي إلى غير غاية. وضربنا قديماً هذا المثل وقلنا: إن هناك نقطة في منتصف كل دائرة تسمى مركز الدائرة، فإذا ما انحرف المتجه إليها بنسبة واحد على الألف من الملليمتر فتتسع مسافة ابتعاده عنها كلما سار على نسبة الانحراف نفسها، برغم أنه يفترض في أن كل خطوة يخطوها تهيئ له القرب إلى الغاية. لقد ضربنا مثلاً توضيحياً ب «الكشك» الذي يوجد قبل محطات السكك الحديدية، حيث ينظم عامل «الكشك» اتجاهات القطارات على القضبان المختلفة ويتيح لكل قطار أن يتوقف عند رصيف معين حتى لا تتصادم القطارات، ومن أجل إنجاح تلك المهمة نجد عامل التحويلات في هذا «الكشك» يحرك قضيباً يكون سمكه في بعض الأحيان عدداً من الملليمترات، ليلتصق هذا القضيب بقضيب آخر وبذلك يسمح لعجلات القطار أن تنتقل من قضيب إلى آخر. الضلال - إذن - أن يسلك الإنسان سبيلاً غير موصل للغاية، وكلما خطا الإسنان خطوة في هذا السبيل ابتعد عنها، وهذا الابتعاد عن الغاية هو الضلال البعيد، والإضلال من الشيطان يكون بتزيينه الشر والقبح للإنسان ليبعده عن مسالك الخير والفضيلة. ومن بعد ذلك يأتي على لسان الشيطان ما قاله الحق في هذه الآية: «ولأمنينهم» وألأماني هي أن ينصب الإنسان في خياله شيئاً يستمتع به من غير أن يخطو له خطوة عمل تقربه من ذلك، ومثال ذلك الإنسان الذي نراه جالساً ويمني نفسه قائلاً: سيكون عندي كذا. . وكذا وكذا ولا يتقدم خطوة واحدة لتحقيق ذلك. ولذلك يقول الشاعر تسلية لنفسه: مُنًى. . إن تكن حقاً. . تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغداً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2644 أي أنه استمتع بهذه الأماني في أحلام اليقظة سواء أكانت هذه الأحلام امتلاك قصر أم سيارة أم غير ذلك. وكل أمنية لا تحفز الإنسان إلى عمل يقربه منها هي أمنية كاذبة، ولذلك يقال: «إن الأماني بضاعة الحمقى» والشيطان يمني الإنسان بأنه لا يوجد بعث ولا جزاء. ومن بعد ذلك يقول الشيطان: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام} والبتك هو: القطع. والأنعام: هي الإبل والبقر والغنم، أي قطع آذان الأنعام. والقرآن قال في الأنعام: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين} [الأنعام: 143 - 144] لو كان الزوج يطلق على «الاثنين» لكان العدد أربعة فقط، ويعلمنا التعبير القرآني ويوضح لنا ان نفرق جيداً لنفهم أن معنى كلمة «زوج» ليس أبداً «اثنين» ، ولكن معناها: واحد معه غيره من نوعه أو جنسه. فيقال عن فردة الحذاء «زوج» لأن معها فردة أخرى، ومثال آخر أيضا: كلمة «توأم» التي نظن أنها تعني «اثنين» ، لكن المعنى الحقيقي أن التوأم هو واحد له توأم آخر، فإذا ماأردنا التعبير عن الاثنين قلنا: «توأمان» . وحين أورد من خطط الشيطان {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام} فلهذا قصة. ونحن نعرف أن المنتفعين بالضلالات يصنعون لهم سلطة زمنية حتى يربطوا الناس بأشخاصهم هم. وكان المشرفون على الأصنام يقومون على خدمتها، ولم يلحظ أحد أنه من الغباء تَقَبُّلُ فكرة أن يخدم البشر الآلهة، فالإله هو القيوم على خلقة يرعاهم ويقوم بأسبابهم، وكان هؤلاء الناس هم المنتفعين بخيبة الغفلة عند البشر، وكانوا يعيشون سدنة ليأخذوا الخير، وبطبيعة الحال فالشيطان من البشر أو الجن يجدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2645 وسيلة، فيجلس في جوف الصنم ويتكلم فيأخذ السدنة والخدم هذه المسألة لترويج الدعايات للصنم، فيأتي الأغبياء له بالأنعام من الإبل والبقر والغنم فيذبحونها ويأكلونها. ولذلك كان السدنة دائماً وفي أغلب الحالات أهل سمنة لأنهم أهل بطنة، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن الله يبغض الحَبْرَ السمين» . فمثل هذا الحْبَرْ يستسهل أكل خير الناس والانتفاع به، فهو ينتفع بضلالات الناس، ومن ينتفع بالضلالة يرى أن حظه في أن تستمر الضلالة، مثله في ذلك مثل المنتفع من تجارة المخدرات إنّه يتمنى أن يتعاطى الناس جميعهم المخدرات. . وعندما تقوم حملات لمقاومة المخدرات يغضب ويحزن. ومثل ذلك أيضاً تاجر السوق السوداء الذي يصيبه الغمّ عندما تأتي البضائع على قدر حاجات الناس وتكفيهم. فكل فساد مستتر وراءه أناس ينتفعون به. وعندما يرى المنتفع بالفساد هبّة إصلاح يغضب ويحاول أن يجد وسيلة لاستمرار الفساد، ولهذا كان السدنة ينفخون في الأصنام لتصدر أصواتاً ليطلبوا من وراء ذلك مطالب من الأغبياء المصدقين لهم، مثلهم مثل الدجالين الذين نسمع عنهم حيث يقول الواحد منهم لأهل المريض: إن على المريض عفريتاً، والعفريت يطلب ناقة أو ذبيحة أو دما. هكذا كان يفعل السدنة، ويحاولون بشتى الطرق من الحيل والخدع حتى يأخذوا من الغافلين السذج الإبل والبقر والغنم. وعندما يقطع صاحب الإبل أو البقر أو الغنم أذن أي واحدة منها، فهذا يعني أنها منذورة للأصنام، والأصنام بطبيعتها لا تأكل ولكن السدنة يأكلون. وفي آية أخرى يقول فيها الحق: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} [يونس: 59] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2646 ويورد الحق أيضاً في هذا الأمر: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الأنعام: 143 - 144] فهل المحرم هو «الذكران» أو الأنثيان أو الذي اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ . لا شيء من هذه كلها محرّم؛ فقد خلقها الله كلها رزقاً حلالاً. والنعمة نفسها تعرف وظيفتها، ونلحظ في الريف المصري عندما تُختنق جاموسة أو بقرة أو خروف بالحبل. أو يصاب بأذى أو مرض فإنه ينام ويمد عنقه فيقال: «لقد طلب الحلال» ، كأن البهيمة تقول لصاحبها: الحقني بالذبح لتستفيد من لحمي ونتعجب لأن الحمار مثلاً لا يفعل ذلك؛ لأن لحمه غير محلل. لكن البهيمة تعرف فائدتها بالنسبة للإنسان فتمد رقبتها طالبة الذبح، كما نعرف أنها في أثناء حياتها تخدم الإنسان إما في أن تحمل الأثقال، وإمّا أن يأخذ منها الألبان أو الوبر أو الصوف أو الشعر، ولحظة ما يدهمها ويغشاها ويصيبها خطر فهي تمد رقبتها كأنها تطلب الذبح ليستفيد الإنسان من لحمها، فهي مسخرة للإنسان وتعرف ذلك إلهاما وتسخيراً. ومادام الله قد جعل لنا كل هذا. . فلم نقبل تحريم غير المحرّم وتحليل غير الحلال؟ لكن السدنة كانوا يفعلون الأعاجيب للسيطرة على الناس، فإذا ما ولدت الناقة أربعة أبطن وجاءت بالمولود الخامس ذكرا يقول السدنة: يكفي أنها جاءت بأربعة بطون وأتت بالخامس فحلاً ذكراً ويشقون أذن الناقة ويتركونها؛ وعندما يراها أحد ويجد أذنها مشقوقة فالعرف يقضي بألا تستخدم في أي شيء، لا في الرضاعة، ولا في الحمل ولا يحلب لبنها ولا تمنع من المياه أو الكلأ وتسمى « الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2647 البحيرة» ويأخذها السدنة في أي وقت؛ لأنهم لا يرديون تخزين اللحوم، يريدونها حية ليذبحوها في الوقت الذي يتراءى لهم، ولذلك قال الحق: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} [المائدة: 103] والبحيرة - إذن - هي الناقة التي تبحر آذاتها - أي تشق - فذلك يعني أنها جاءت بأربعة أبطن تباعاً ثم جاءت بالذكر في البطن الخامسة ويهبها صاحبها للأصنام. والبحيرة سائبة مع وجود سائبة أخرى، وهي وإن لم تأت بأربعة أبطن ولا بالذكر في البطن الخامسة ولكن صاحبها يقدمها نذراً أو هدية لأحد الأصنام. وتسمى «سائبة» لأن أحداً لا يقوم على شأنها، ولكنها ترعى في أي أرض وتشرب من أي ماء ولا أحد يأخذ من لبنها أو يركبها، ويأخذها السدنة وقت احتياجهم للحم الطازج الغضّ. وإذا ولدت الشاة أنثى جعلوها لهم، وإن ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى لم يذبحوا الذكر لآلهتهم وقالوا عن الشاة: وصلت أخاها فهذه هي الزصيلة؛ لأن الناس كانت تحتفظ بالإناث من البهائم فهي وعاء النسل؛ لذلك فهبة الفحل للسدنة كان أمراً مقدوراً عليه. ويقول الشاعر: وإنما أمهات القوم أوعية ... مستحدثات وللأحساب آباء ونرى في المزارع أن إناث المواشي تحتاج إلى فحل واحد؛ وقد يكون في البلدة كلها فحل واحد أو اثنان لإناث الماشية من النوع نفسه، ويفرح الأطفال في الريف حين تلد الماشية ذكراً؛ لأنه سيتغذى قليلاً ثم يتم ذبحه ويأكلون منه. ويغضب الأطفال حين تلد الماشية أنثى لأنه سيتم تربيتها، ولن يأكلوا منها. أي أنهم قديماً عندما كانت الماشية تلد في بطن واحد أنثى وذكراً لا يذبحون الذكر ويقولون: الأنثى وصلت أخاها ويضمن الذكر حياته ويستخدم كفحل ليلقح بقية الإناث، ويقال عنها: الوصيلة. هكذا نجد البحيرة هي الناقة التي أنجبت خمسة أبطن آخرها ذكر، والسائبة وهي النذر من أول الأمر، والوصيلة وهي التي ولدت أنثى ومعها ذكر، فيقال وصلت الأنثى أخاها، أي قدمت له الحماية. والحام هو الذكر الذي نتجت من صلبه عشرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2648 أبطن فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى وقالوا: حمى ظهره. وهناك من يتحذلق في عصرنا قائلاً: أنا نباتي، لا آكل اللحم، على الرغم من أن الواحد منهم قد يذبح إنساناً ويدعي الحزن عند ذبح دجاجة، ونقول لهؤلاء: انتبهوا؛ إن الله قد سخر لنا هذه الأنعام وهي نفسها تحب أن ينتفع بها. ومن وسائل الشيطان ما يقوله الحق: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام} وعرفنا أنهم كانوا يفعلون ذلك من اجل إرضاء سدنة الأصنام، هؤلاء السدنة الذين أحبوا أن تظل هذه الأصنام وهذه الأنعام المرصودة من أجلها. ولذلك أقول دائماً: آه من أن يرتبط رجل دين بمسائل دنيا؛ فهذا مصدر للخوف من أن يزيف الدين لمصلحة الأهواء. ومن وسائل الشيطان ما يقوله الحق على لسان الشيطان: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} . وكشف لنا الحق كيف صار للشيطان أمر على هؤلاء الناس، مع ان الأمر يجب أن يكون لله وحده، ونتساءل: كيف يغيرون من خلق الله؟ وكل شيء هو من خلق الله. والخلق - كما نعلم - إيجاد من عَدم، وسبحانه خلق كل شيء وجعل لكل كائن وظيفة ما، فهو خلق عن حكمه لغاية، وهذه الغاية موجودة في علم الخالق أزلاً - ولله المثل الأعلى - نجد المستحدَث الصناعي في الأسواق كغسالة الملابس مثلا ونعرف أن الذي صممها إنما صممها من أجل راحة الناس، وقد فكر في هذا الهدف قبل أن يصنع ويصمم الآلة التي تؤدي هذا العمل لتريح الناس من تعب غسل الملابس بأيديهم، وكذلك من صمم «الميكروفون» أراد في البداية هدفاً هو أن يصل الصوت لمن هو بعيد، ثم بدأ البحوث والتطبيقات من أجل أن يصل إلى الغاية والقصد. والحق سبحانه وتعالى خلق كل خلق من خلقه لغاية، فإن استعملنا مخلوقه لغايته فلن نقع في محظور تغيير خلق الله، ولكن لو استعملنا المخلوق لغير الغاية فهذا هو التغيير لخلق الله، وساعة نريد فهم لفظ من الألفاظ فلنبحث في القرآن عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2649 نظائره، وقد نجد في القرآن نفسه ما يفسر القرآن نفسه، فالحق يقول هنا: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} ، وفي موقع آخر يقول: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54] والخلق المعروف نراه في الكائنات، وهناك ما لا نراه أيضاً، والأمر مقصود به قوله الحق: {كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] وآية أخرى تقربنا أكثر من هذا الموضوع: {فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم: 30] وهذا يعني أن الخلق كله على أصل الفطرة. فإذا ما حاول أحد أن يغير الفطرة فهذا تغيير لخلق الله. ما الفطرة إذن؟ . إنها الصفاء الأوليّ في النفس والطبيعة. ومثال ذلك حين يوجد الإنسان في بيئة لا تكذب فلن يعرف في حياته الكذب. وعندما يوجد الإنسان في بيئة لا تسرق فلن يعرف ما السرقة؛ فالإنسان إنما يتعرف على الموبقات من النقص المجتمعي، بدليل أن البلدان التي طبقت الشريعة الإسلامية وتم قطع عدد قليل من الأيدي عقوبة وحداً في السرقة انتهت فيها السرقة. ونشأ جيل لم ير سارقاً. ومن يترك شيئا في مكان ما يظل في مكانه إلى أن يعود صاحبه ليجده، هذه هي الفطرة السليمة، ودليلنا على أن الفطرة سليمة بطبيعتها هو أننا نجد أن الذي يحاول صنع أمر ما يخالف الفطرة إنما يتلصص ويستتر؛ لأنه يعرف أن هذا الأمر غير سليم. لقد ضربت المثل على ذلك بالرجل حين ينظر إلى زوجته، إنّه ينظر بكل ملكاته، أما إن نظر - والعياذ بالله - إلى محارم غيره فهو يتلصص ليختلس النظر بعيداً عن الآخرين. فالإنسان حين يرتكب إثماً يتكلف شيئاً متنافراً ومغايراً لطبيعته. والتكلف هو الإتيان بشيء خارج عن الفطرة الإنسانية. وتغيير كل ما يتعلق بالفطرة هو تغيير لخلق الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2650 وصور الفساد لا تأتي إلا من هذه الناحية. كيف؟ . إننا نرى الحق قد خلق الزوجين الذكر والأنثى. ونجد من الرجال من يستأنث - أي أنه يحاول أن يكون أنثى - وقد يتصرف كما تسلك المرأة وتتصرف ويتزين بزينتها ويتخنث، هذا إنسان يريد أن يغير خلق الله. وكذلك قد نجد امرأة تريد أن تسترجل، فهي تريد أن تغير خلق الله. ولذلك فإننا نرى أستاذاً عالماً هو الدكتور حسن جاد - أمده الله بالعافية - وهو شاعر وزميل لي ونشأنا معاً، رأى هذه الظاهرة، ظاهرة محاولة البعض تغيير خلق الله فقال قصيدة مشهورة جاء فيها: من حيرتي من الذين اللاتي ... حرت بين الفتى وبين الفتاة الشاعر يعلن حيرته؛ لأنه لا يتعرف على الفارق بين الفتى والفتاة، ففي بعض الأحيان صارا من «الذين واللاتي معاً» لأن الفتى يتشبّه بالفتاة، والفتاة تتشبّه بالفتى. على الرغم من احتفاظ كل منهما بخصائص نوعه، وبما يميزه عن النوع الآخر. وبعض النساء يقمن بإجراءات لتغيير الخلقة، كنزع شعر الحواجب من منابته وإعادة رسم مكانه بوضع خط بالقلم الملون، ويفضح ذلك نبتُ الشعر من جديد، فتتحول إلى شكل قبيح وتنسى أن الجمال إبداع تقاسيم، فقد يكون سرّ جمال واحدة أن يكون شعر الحاجبين كثيفا، وقد يكون سرّ الجمال للمرأة اتساع الفم، أو طول الأنف. لقد سمعنا أن أنف كليوباترا لو كان قصيرا بعض الشيء لتغير وجه التاريخ. والحق سبحانه وتعالى كما وزع الأمزجة على العباد وزع أيضاً أسلوب الخلق بما يغطي هذه الأمزجة. ألا ترى في الحياة اليومية شاباً يتقدم لخطبة فتاة لا تعجبه، أو لا يعجبها، ويأتي آخر فيعجب بالفتاه وتعجب الفتاة به. هو سبحانه الذي أنشأ السيال العاطفي ليتواءم الخلق بهذا السيال. وقد تحاول فتاة أن تغير من خلق الله فتسبب بذلك فساداً للسيال العاطفي. وقد تريد المرأة أن تجعل حمرة خديها في لون الورد فتضع عليهما بعضاً من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2651 المساحيق، ألا تعلم هذه المرأة أن زوجها وأقاربها يعرفون أنها قد صنعت ذلك بمواد خارجية، وماذا يكون موقفها عندما يراها زوجها في الصباح وقد أفسدت الألوان بشرتها، وماذا يكون موقفها عندما تتقدم بها السن وتكون مساحيق قد خنقت مسام جلدها ومنعت الجلد من التنفس، ويتحول شكلها باستمرار سوء فعلها إلى كائن أقرب إلى وجه القرد والعياذ بالله؟ لقد غيرت بسوء الفعل خلق الله. وكذلك الأظافر التي يتم خنقها بطبقات من «البلاستيك» الملون. هل تظن واحدة أن هناك رجلاً قد يتصور أن هذا هو لون أظافرها الطبيعي؟ . إن الأظافر ذات لون أراده الله بحكمه، لها نظام، فلماذا تحرم المرأة أظافرها من الحياة الطبيعية ومن نعمة تنفس الهواء، فالأظافر تتنفس أيضا. وقد يفتي واحد بأنه يصح للمرأة أن تتوضأ بعد أن تضع هذا الطلاء، وأقول: اتق الله؛ فهذه ليست أصباغاً؛ لأن الأصباغ تتخلل الجلد أو الظفر ولا يذهب لون الصبغة إلا بذهاب الجلد أو الظفر - مثل الحنة - وفي هذه الحالة يصل الماء في الطهارة إلى الجلد، أما طبقة البلاستيك التي على الظفر فلا تُزال إلا بمادة كيماوية ويمكن إزالتها وهي لون من الطلاء وليست صبغة ولا يصل الماء معها في الغسل أو الوضوء إلى البشرة. ومن تفعل ذلك إنما تخدع نفسها ومن يُعجب بها. ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعدل من مزاج الكون فيعطي للإنسان سكناً ومتعة ولكن بتوازن عاطفي وعقلي، فلو أراد الله لخدّ المرأة التوهج لتثير غرائز الرجل لخلق الله الخدين على هذا الأسلوب، لكنه أراد للخدود أن تكون بألوانها الطبيعية حتى تهيج الغرائز على قدر القوة التي في الرجل، وعندما تكبر المرأة نجد جمالها قد ذبل قليلاً على قدر نسبة ذبول قدرة الرجل، فسبحانه يعطي على قدر الطاقة حتى لا تتحول المسألة إلى إهاجة للغرائز فقط. إن هناك فرقا بين تصريف الغرائز وإهاجة الغرائز وإلهابها، وما يحدث من وسائل التجميل هو تغيير لخلق الله. وكذلك المرأة التي تحدث وشماً، أو الرجل الذي يفعل ذلك إنما يغيران من خلق الله، ولو كان الحق يرى أن مثل هذه الأعمال تزيد من الجمال لفعلها {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2652 ويقول الحق من بعد ذلك: {وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} والولي للشيطان هو الذي يليه ويقرب منه. ومن فعل ذلك فقد ترك الأفضل وذهب إلى الأضعف الذي يورده مهاوي وموارد الهلاك، ويخسر الخسران الواضح والمحيط من كل الجهات، ولا انفلات من مثل هذا الخسران. ويقول الحق من بعد ذلك: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2653 وهذا يعني أن الشيطان يقدم الوعود الكاذبة لمواليه ويخبرهم بشيء يسرهم، فالوعد هو أن يخبر أحد آخر بشيء يسرّه أن يوجد. والمثال على ذلك نراه في الحياة العادية فالإنسان منا يحب ماله الذي قد جاء بالتعب، والصدقة في ظاهر الأمر تنقص المال، فيقول الحق: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} [البقرة: 268] لماذا؟ . لأن الشيطان يوسوس في صدر صاحب المال قائلاً: إنك عندما تتصدق ببعض المال فمالك ينقص. وويل لمن يرضخ لوساوس الشيطان؛ لأنه يورده موارد التهلكة، والشيطان أيضاً يقدم الأماني الكاذبة في الوساوس: «ويمنيهم» . ومثال ذلك ما جاء على لسان المتفاخر على أخيه بلون من الاستهزاء والعياذ بالله: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2653 المتفاخر يقول: مادام الله قد أعطاني في الدنيا، وما دامت مهمة الله هي العطاء الدائم فلا بد أن يعطيني ربي في الآخرة أضعاف ما في الدنيا؛ ذلك أن سعيد الدنيا هو سعيد في الآخرة، فماذا كان جزاؤه؟ . لقد رأى انهيار زراعته وعرف سوء مصير الغرور؛ لأنه استجاب لوعود الشيطان، ووعود الشيطان ليست إلا غروراً {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} . فما هو الغرور؟ . هناك «غُرور» - بضم الغين -، و «غَرور» - بفتح الغين -. والغُرور - بضم الغين - هو الشيء يُصوَّر لك على أنّه حقيقة وهو في الواقع وَهْم. والغَرور - بفتح الغين - هو من يفعل هذه العملية، ولذلك فالغَرور - بفتح الغين - هو الشيطان؛ لأنه يزين للإنسان الأمر الوهمي، ويؤثر مثلما يؤثر السراب؛ فالإنسان حين يرى انكسار الأشعة يخيل إليه أنه يرى ماء، ويقول الحق عن ذلك: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور: 39] وكذلك الغُرور، حيث يزين الشيطان شيئاً للإنسان ويوهمه أنه سيستمع به. فإذا ما ذهب الإنسان إليه فلن يجد له حقيقة، بل العكس، ولذلك يفصل لنا الحق أعمال الكفار فيقول عنها: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] ويفاجأ الكافر بوجود الله الذي كان كافراً به، ويصير أمام نكبتين: نكبة أنه كان ذاهباً إلى ماء فلا يجده فيخيب أمله، والنكبة الثانية أن يجد الله الذي يحاسبه على الإنكار والكفر. ويقول الحق: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2654 وقد يأتي واحد ويدعي لنفسه الإنسانية ويظن أنه يتكلم بالمنطق فيقول: - هل هؤلاء الناس الذين قدموا للبشرية كل هذه المخترعات التي أفادت الناس كالمواصلات وغيرها، أيصيرون إلى عذاب؟ . ونقول: هؤلاء سيأخذون جزاء الكفر؛ لأن الواحد منهم قد عمل أعماله وليس في باله الله. بل قام بتلك الأعمال وفي باله عبقرية الابتكار والإنسانية وهو يأخذ من الإنسانية التكريم، وعليه أن يطلب أجره ممن عمل له وليس ممن لم يعمل به، وينطبق عليه قول الرسول: عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنّك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتى به فَعّرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعَلّمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعّرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلاّ أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقى في النار» ولم يغمطهم الله جزاء أعمالهم في الدنيا. فقد أخذوا من الدنيا كل التكريم. ووزع سبحانه فضل هذه المواهب على الناس الذين في بالهم الله؛ لذلك ترى المسلم غير المتعلم يركب الطائرة ليحج بيت الله ويُسجل أحاديث الإيمان على شرائط ليسمعها من لم يحضر ويشاهد هذه الشعيرة، إذن فهؤلاء الكافرون مسخرون للمؤمنين لأنهم أتاحوا لهم الانتفاع بعلمهم واكتشافاتهم، والمؤمنون أيضاً مطالبون بأن يأخذوا بأسباب الله لينالوا كرم الله في عطاء العلم، بل إن ذلك واجب عليهم يأثمون إذا لم يقوموا به حتى لا يكونوا عالة على سواهم، فلا يستذلون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2655 {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} وماذا يكون نصيب هؤلاء في الآخرة؟ يقول سبحانه: {أولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2656 وكلمة «مأوى» معناها المكان الذي يضطر الإنسان إلى أن يأوى إليه، فهل هذا الاضطرار يكون اندفاعاً أو جذباً؟ سبحانه يقول عن النار إنها ستنطق قائلة: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] كأن النار ستجذب أصحابها. وهم لن يجدوا عنها محيصاً، أي لا مهرب ولا مفر ولا معدى، وكان باستطاعة الواحد منهم أن يفر من مخلوق مثله في دنيا الأغيار، ولكن حين يكون الأمر لله وحده فلا مفر. {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] والمقابل لذلك يورده الحق: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2656 وحين يأتي سبحانه بأمر يتعلق بالكفار وعقابهم فالنفوس مهيأة ومستعدة لتسمع عن المقابل، فإذا كان جزاء الكفار ينفر الإنسان من أن يكون منهم، فالنفس السامعة تنجذب إلى المقابل وهو الحديث عن جزاء المؤمنين أصحاب العمل الصالح. وسبحانه قال من قبل: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114] وهنا يقول: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} . والمتيقن من الله والواثق به يعلم أنه لا توجد مسافة تبعده عن عطاء الله، مثال ذلك «حينما سأل النبيُّ أحد الصحابة وكان اسمه الحارث بن مالك الأنصاري: (كيف أصبحت يا حارث؟) . قال: أصبحت مؤمنا حقاً. لقد أجاب الصحابي بكلمة كبيرة المعاني وهي الإيمان حقاً؛ لذلك قال الرسول: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك» ؟ أجاب الصحابي: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربيّ بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها (يتصايحون فيها) . فقال: «يا حارث: عرفت فالزم ثلاثا» . والحق ساعة يقول: «س» وساعة يقول: «سوف» فلكل حرف من الحروف الداخلة على الفعل ملحظ ومغزى وكل عطاء من الله جميل. {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} . والجنة - كما قلنا من قبل - على إطلاقها تنصرف إلى جنة الآخرة فهي الجنة بحق، أما جنة الدنيا فمن الممكن أن يتصوّحَ نباتها وشجرها وييبس ويتناثر، أو يصيبها الجدب، أمّا جنة الآخرة فهي ذات الأكل الدائم، وإن لم تطلق كلمة «الجنة» من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2657 أي قيد أو وصف بل قيدت، فالقصد منها معنى آخرح كقول الحق: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] وقوله سبحانه: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ} [البقرة: 265] والجنة بربوة هي البستان على مكان عال، وهي ذات مواصفات أعلى مما وصل إليه العلم الحديث؛ لأن الأرض إذا كانت عالية لا تستطيع المياه الجوفية أن تفسد جذور النبات المزروع في هذه الأرض، فيظل النبات أخضر اللون، ويقول الحق عن مثل هذه الجنة: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265] ويزيد على ذلك أنها بربوة، وأنها تروى بالمطر من أعلى، ومن الطل، فتأخذ الرّي من المطر للجذور، والطل لغسل الأوراق. كل ذلك يطلق على الجنة. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ويطمئننا سبحانه على احتفاظها بنضرتها وخضرتها، وأول شيء يمنع الخضرة هو أن يقل الماء فتذبل الخضرة. ونجد القرآن مرة يقول: {جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأنهار} وهذا يعني أن منبع المياه بعيد. ومرة أخرى يقول: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ويعني أن منبع المياه لن يحجزه أحد؛ لأن الأنهار تجري وتنبع من تحتها. ويعد الحق المؤمنين أصحاب العمل الصالح بالخلود في الجنة، والخلود هو المكث طويلاً، فإذا قال الحق: {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي أن المكث في الجنة ينتقل من المكث طويلاً إلى المكث الدائم. وهذا وعد مَن؟ {وَعْدَ الله حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} . وحين يعدك من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2658 لا يخرجه شيء عن إنفاذ وعده، فهذا هو وعد الحق - سبحانه -. أما وعد المساوي لك في البشرية فقد لا يتحقق، لعله ساعة إنفاذ الوعد يغير رأيه، أو لا يجد الوُجد واليسار والسَّعة والغنى فلا يستطيع أن يوفي بما وعد به، أو قد يتغير قلبه من ناحيتك، لكن الله سبحانه وتعالى لا تتناوله الأغيار، ولا يعجزه شيء، وليس معه إله آخر يقول له لا. إن وعده سبحانه لا رجوع فيه ولا محيص عن تحقيقه. قول الله هنا {وَعْدَ الله حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} هو كلام منه ليوضح لكل واحد منا: أنا لا أريد أن أستفهم منك، لكنه جاء على صورة الاستفهام لتكون الإجابة من الخلق إقرارا منهم بصدق ما يقوله الله، أيوجد أصدق من الله؟ وتكون الإجابة: لا يمكن، حاشا لله؛ لأن الكذب إنما يأتي من الكذاب ليحقق لنفسه أمراً لم يكن الصدق ليحققه، أو لخوف ممن يكذب عنده، والله منزه عن ذلك، فإذا قال قولاً فهو صدق. ومن بعد ذلك يقول الحق: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2659 والأمنية - كما عرفنا - هي أن يطمح الإنسان إلى شيء ممتع مسعد بدون رصيد من عمل، إنَّ الحق سبحانه وتعالى حينما استخلف الإنسان في الأرض طلب منه أن يستقبل كل شيء صالح في الوجود استقبال المحافظ عليه، فلا يفسد الصالح بالفعل، وإن أراد الإنسان طموحاً إلى ما يسعد، فعليه أن يزيد الصالح صلاحاً. والمثل الذي نضربه لذلك، عندما يوجد بئر يشرب منها الناس، فهذه البئر لها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2659 حواف وجوانب وأطراف، وتفسد البئر إذا جاء أحد لهذه الحوافي وأزاح ما فيها من الأتربة ليطمر البئر. ومن يرد استمرار صلاح البئر فهو يتركها كما هي وبذلك يترك الصالح على صلاحه. وإن شاء إنسان أن يطمح إلى عمل مسعد ممتع له ولغيره فهو يعمل ليزيد الصالح صلاحاً. . كأن يأتي إلى جوانب البئر ويبني حولها جداراً من الطوب كي لا يتسلل التراب إلى الماء أو على الأقل يصنع غطاءً للبئر، فإن طمح الإنسان اكثر فهو يفكر في راحة الناس ويحاول أن يوفر عليهم الذهاب إلى البئر ليملأوا جِرارهم وقِرَبهم فيفكر في رفع المياه بمضخة ماصة كابسة إلى صهريج عال، ثم يخرج من هذا الصهريج الأنابيب لتصل إلى البيوت، فيأخذ كل واحد المياه وهو مرتاح، إنه بذلك يزيد الصالح صلاحاً. أما إن أراد الإنسان أن يطمح إلى ممتع دون عمل. . فهذه هي الأماني الكاذبة. ولو ظل إنسان يحلم بالأمنيات ولا ينفذها بخطة من عمل. . فهذه هي الأماني التي لا ثمرة لها سوى الخيبة والتخلف. إذن فالأمنية هي أن يطمح إنسان إلى أمر ممتع مسعد بدون رصيد من عمل. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى أعطانا من كل شيء سببا، ولنلحظ أن الحق قد قال: {فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 85] أي أن الإنسان مطالب بأن يصنع أشياء تًرَقِّي أساليب الحياة في الأرض، فالله ضمن للإنسان الخليفة مقومات الحياة الضرورية، وعندما يريد الإنسان الترف والتنعم فلا بد أن يكدح. ومثال ذلك: لقد أعطى الحق الإنسان المطر فينزل الماء من السماء، وينزل ماء المطر في مجارٍ محددة، حفرها المطر لنفسه، وقد يكون في كل مجرى تراب من صخور أو طمي؛ لذلك يقوم الإنسان بترويق المياه، ويرفعها في صهاريج لتأتيه إلى المنزل، وبدلاً من أن يشربها بيده من النهر مباشرة، يصنع كوباً جميلاً. وصنع الإنسانُ الكوبَ في البداية من الفخار، ثم من مواد مختلفة كالنحاس ثم البللور. وهكذا نجد أن كل ترف يحتاج إلى عمل يوصل إليه، فليست المسألة بالأماني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2660 وكذلك الانتساب إلى الدين، ليست المسألة أن يمتثل الإنسان وينتسب إلى الدين شكلاً، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء ليحكم بين الناس جميعاً، ولا يمكن لواحد أن ينتسب شكلاً إلى الإسلام ليأخذ المميزات ويتميز بها عن بقية خلق الله من الديانات الأخرى، لا؛ فالإنسان محكوم بما يدين به. والمسلم أول محكوم بما دان به. كذلك قال الحق: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} والخطاب هنا لمن؟ . إن كان الخطاب للمؤمنين فالحق يوضح لهم: يا أيها المؤمنون ليست المسألة مسألة أماني، ولكنها مسألة عمل؛ لأن انتسابكم للإسلام لا يعفيكم من العمل؛ فكم من أناس يعبرون الدنيا وتنقضي حياتهم فيها ولا يصنعون حسنة، فإذا قيل لهم: ولماذا تعيشون الحياة بلا عمل؟ يقولون: أحسنّا الظن بالله. ونسمع الحسن البصري يقول لهؤلاء: ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إن قوماً ألهتهم أمانيّ المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا: نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل به. وسبحانه يقول لهؤلاء: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} . أما إن كان الخطاب موجهاً لغير المؤمنين؛ فالحق لم يمنع عطاء الدنيا لمن أخذ بالأسباب حتى ولو لم يؤمن. أما جزاء الآخرة فهو وعد منه سبحانه للمؤمنين الذين عملوا صالحاً، وهو الوعد الحق بالجنة، هذا الوعد الحق ليس بالأماني بل إن الوصول إلى هذا الوعد يكون بالعمل. إذن فقد يصح أن يكون الخطاب ب {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} شاملاً أيضا الكفار والمنافقين وأهل الكتاب. وكان للكفار بعض من الأماني كقول المنكر للبعث: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36] هذه هي أماني الكفار. ولن يتحقق هذا الوعد بالجنة لأهل الكتاب، فقد قال الحق عن أمانيهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2661 وقالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] كل هذه أماني خادعة؛ لأن منهج الله واحد على الناس أجمعين، من انتسب للإسلام الذي جاء خاتماً فليعمل؛ لأن القضية الواضحة التي يحكم بها خلقه هي قوله سبحانه: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} . وأبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سدّدوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها» . وقال بعض العلماء: المراد بالسوء في هذه الآية هو الشرك بالله؛ لأن الله وعد أن يغفر بعض الذنوب. واستند في ذلك إلى قوله الحق: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36] كأن الجزاء المؤلم يكون للكفار، أما الذين آمنوا فالإيمان يرفعهم إلى شرف المنزلة ليقبل الله توبتهم ويغفر لهم، فسبحانه الحق جعل الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، وجعل صلاة الجمعة إلى صلاة الجمعة كفارة لما بينهما، وجعل الحج كفارة لما سبقه، وكل ذلك امتيازات إيمانية. أما جزاء الكفار فهو: «مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} . ولا يقال فلان لا يجد إلا إذا بحث هذا الشخص عن شيء فلم يجده، فالإنسان بذاته لا يستغنى، ولكن من يعمل سوءا فليبحث لنفسه عن ولي أو نصير ولن يجد. والولي هو الذي يلي الإنسان، أي يقرب منه، ومثلها النصير والمعاون، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2662 ولا يلي الإنسان ولا يقرب منه إلا من أحبه. ومادام قد أحب قويٌّ ضعيفاً، فهو قادر على الدفاع عنه ومعاونته. ولماذا أورد الحق هنا «الولي» ، و «النصير» ؟ . والولي - كما عرفنا - هو القريب الذي يلي الإنسان، أما كلمة «نصير» فتوحي أن هناك معارك وخصومة بين المؤمن وغيره، وهناك قوة كبرى قد يظهر للإنسان أنها لا تسأل عنه لأنه في سلام ورخاء، إن هذه القوة عندما تعلم أن هناك خصوماً للمؤمن تأتي لنصرته، بينما لا يجد الكافر ولياً ولا نصيراً، ولن يجد من يقرب منه ولن يجد من ينصره إن عضته الأحداث، وعض الأحداث هو الذي يجعل الناس تتعاطف مع المصاب حتى إن البعيد عن الإنسان يفزع إليه لينصره، لكن أحداً لا ينصر على الله. ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2663 وجاءت كلمتا «ذكر» و «أنثى» هنا حتى لا يفهم أحد أن مجيء الفعل بصيغة التذكير في قوله (يعمل) أن المرأة معفية منه؛ لأن المرأة في كثير من الأحكام نجد حكمها مطموراً في مسألة الرجل، وفي ذلك إيحاء بأن امرها مبني على الستر. لكن الأشياء التي تحتاج إلى النص فيها فسبحانه ينص عليها. {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} . وجاء سبحانه هنا بلفظة (مِن) التي تدل على التبعيض. . أي على جزءٍ من كلّ فيقول: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} ولم يقل: «ومن يعمل الصالحات» لأنه يعلم خلقه. فلا يوجد إنسان يعمل كل الصالحات، هناك من يحاول عمل بعضٍ من الصالحات حسب قدرته. والمطلوب من المؤمن أن يعمل من الصالحات على قدر إمكاناته ومواهبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2663 وتبدأ الأعمال الصالحة من أن يترك الإنسان الأمور الصالحة على صلاحها، فإبقاء الصالح على صلاحه معناه أن المؤمن لن يعمل الفساد، هذه هي أول مرتبة، ومن بعد ذلك يترقى الإنسان في الأعمال الصالحة التي تتفق مع خلافته في الأرض، وكل عمل تصلح به خلافة الإنسان في الأرض هو عمل صالح؛ فالذي يرصف طريقاً حتى يستريح الناس من التعب عمل صالح، وتهيئة المواصلات للبشر حتى يصلوا إلى غايتهم عمل صالح، ومن يعمل على ألاّ ينشغل بال البشر بأشياء من ضروريات الحياة فهذا عمل صالح. كل ما يعين على حركة الحياة هو عمل صالح. وقد يصنع الإنسان الأعمال الصالحة وليس في باله إله كعلماء الدول المتقدمة غير المؤمنة بإله واحد. كذلك العلماء الملاحدة قد يصنعون أعمالاً صالحة للإنسان، كرصف طرق وصناعة بعض الآلات التي ينتفع بها الناس، وقاموا بها للطموح الكشفي، والواحد من تلك الفئة يريد أن يثبت أنه اخترع واكتشف وخدم الإنسانية ونطبق عليه أنه عمل صالحاً، لكنه غير مؤمن؛ لذلك سيأخذ هؤلاء العلماء جزاءهم من الإنسانية التي عملوا لها، وليس لهم جزاء عند الله. أما من يعمل الصالحات وهو مؤمن فله جزاء واضح هو: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 124] قد يقول البعض: إن عدم الظلم يشمل من عمل صالحاً أو سوءا ونجد من يقول: من يعمل السوء هو الذي يجب أن يتلقى العقاب، وتلقيه العقاب أمر ليس فيه ظلم، والحق هو القائل: {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27] ومن يصنع الحسنة يأخذ عشرة أمثالها. وقد يكون الجزاء سبعمائة ضعف ويأتيه ذلك فضلا من الله، والفضل من الله غير مقيد وهو فضل بلا حدود، فكيف يأتي في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2664 هذا المقام قوله تعالى: {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} وهم قد أعطوا أضعافاً مضاعفة من الجزاء الحسن، ونقول: إن الفضل من الخلق غير ملزم لهم، مثل من يستأجر عاملاً ويعطيه مائة جنيه كأجر شهري، وفي آخر الشهر يعطيه فوق الأجر خمسين جنيهاً أو مائة، وفي شهر آخر لا يعطيه سوى أجره، وهذه الزيادة إعطاؤها ومنحها فضل من صاحب العمل. أما الفضل بالنسبة لله فأمره مختلف. إنه غير محدود ولا رجوع فيه. وهذا هو معنى {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} ، فسبحانه لا يكتفي بجزاء صاحب الحسنة بحسنة، بل يعطي جزاء الحسنة عشر أمثالها وإلى سبعمائة ضعف، ولا يتراجع عن الفضل؛ فالتراجع في الفضل - بالنسبة لله - هو ظلم للعبد. ولا يقارن الفضل من الله بالفضل من البشر. فالبشر يمكن أن يتراجعوا في الفضل أما الله فلا رجوع عنده عن الفضل. وهو القائل: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] وأصحاب العمل الصالح مع الإيمان يدخلون الجنة مصداقاً لقوله تعالى: {فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} والنقير هو: النقرة في ظهره النواة، وهي أمر ضئيل للغاية. وهناك شيء آخر يسمى «الفتيل» وهو المادة التي تشبه الخيط في بطن نواة التمر، وشيء ثالث يشبه الورقة ويغلف النواة واسمه «القطمير» . وضرب الله الأمثال بهذه الأشياء القليلة لنعرف مدى فضله سبحانه وتعالى في عطائه للمؤمنين. ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2665 وساعة نسمع استفهاماً مثل قوله الحق: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} فحسن الاستنباط يقتضي أن نفهم أن الذي أسلم وجهه لله هو الأحسن ديناً، وفي حديثنا اليومي نقول: ومن أكرم من زيد؟ . معنى ذلك أن القائل لا يريد أن يصرح بأن زيداً هو أكرم الناس لكنه يترك ذلك للاستنباط الحسن. ولا يقال مثل هذا على صورة الاستفهام إلا إذا كان المخبر عنه محدداً ومعيناً، والقائل مطمئن إلى أنّ من يسمع سؤاله لن يجد جواباً إلا الأمر المحدد المعين لمسئول عنه. وكأن الناس ساعة تدير رأسها بحثاً عن جوابٍ للسؤال لن تجد إلا ماحدده السائل. {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} والإجابة على مثل هذا التساؤل: لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله. وهكذا نرى أن الله يلقى خبراً مؤكداً في صيغة تساؤل مع أنه لو تكلم بالخبر لكان هو الصدق كله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} [لنساء: 122] وسبحانه يلقي إلينا بالسؤال ليترك لنا حرية الجواب في الكلام، كأنه سبحانه يقول: - أنا أطرح السؤال عليك أيها الإنسان وأترك لك الإجابة في إطار ذمتك وحكمك فقل لي من أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله؟ وتبحث أنت عن الجواب فلا تجد أحسن ممن أسلم وجهه لله فتقول: - لا أحد أحسن ممن أسلم وجهه لله. وبذلك تكون الإجابة من المخاطب إقراراً، فالإقرار - كما نعلم - سيد الأدلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2666 {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} ونعلم أن الكلمة إذا أطلقت في عدة مواضع فهي لا تأخذ معنى واحداً. بل يتطلب كل موضع معنى يفرضه سياق الكلام، فإذا قال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] فذلك لأن الوجه هو العضو المواجه الذي توجد به تميزات تبيّن وتوضح ملامح الأشخاص. لأننا لن نتعرف على واحد من كتفه أو من رجله، بل تعرف الأشخاص من سمات الوجوه. وعندما نسمع قول الحق: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] فإننا نتساءل: مالمراد بالوجه هنا؟ إن أردنا الوجه الذي يشبه وجوهنا فهذا وقوع في المحظور، لأن كل شيء متعلق بالله سبحانه وتعلى نأخذه على ضوء «ليس كمثله شيء» نقول ذلك حتى لا يقولن قائل: مادام وجه الله هو الذي لن يهلك يوم القيامة فهل تهلك يده أو غير ذلك؟ . لا؛ إن الحق حين قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فالمقصود بذلك ذاته فهو سبحانه وتعالى منزه عن التشبيه وسبحانه القائل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] إذن فوجه الله - هنا - هو الجهة التي يرتضيها، والإنسان يتجه بوجهه إلى الكعبة في أثناء الصلاة. وإياك أن تظن أنك حينما تولي وجهك صوب الكعبة أنها وجه الله؛ لأن الله موجود في كل الوجود، فأي متجه للإنسان سيجد فيه الله، بدليل أننا نصلي حول الكعبة، وتكون شرق واحد وغرب آخر، وشمال ثالث، وجنوب رابع، فكل الجهات موجودة في أثناء الطواف حول الكعبة وفي أثناء الصلاة، والكعبة موجودة هكذا لنطوف حولها، ولتكون متَّجَهنا إلى الله في جميع الاتجاهات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2667 {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] أي الجهة التي ارتضاها سبحانه وتعالى. ونحن هنا في هذه الآية نرى قول الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} . وأسلم وجهه أي أسلم اتجاهه؛ لأن الإنسان حين يكون ذاهباً إلى قصد أو هدف أو غرض، فيكون وجهه هو المتجه؛ لأن الإنسان لا يسير بظهره. والوجه هنا - إذن - هو الاتجاه. ولماذا جاء الحق بالوجه فقط، برغم أن المؤمن يسلم مع الوجه كل الجوارح؟؛ لأن الوجه أشرف الأعضاء، ولذلك جعل سبحانه السجود أضرف موقع للعبد؛ لأن القامة العالية والوجه الذي يحرص الإنسان على نظافته يسجد لله. إذن أسلم وجهه لله، أي أسلم وجهته واتجاهه للهن ومعنى «أسلم» من الإسلام، ف «أسلم» تعني: سلّم زمام أموره لواحد. حين يسلم الإنسان زمامه إلى مساو له فهذه شهادة لهذا المساوي أنه يعرف في هذا الأمر أفضل منه. ولا يسلم لمساو إلا إن شهد له قبل أن يلقي إليه بزمامه أنّه صاحب حكمة وعلم ودراية عنه. فإن لم يلمس الإنسان ذلك فلن يسلم له. وما أجدر الإنسان أن يسلم نفسه لمن خلقه، أليس هذا هو أفضل الأمور؟ . إن الإنسان قد يسلم زمامه لإنسان آخر لأنه يظن فيه الحكمة، ولكن أيضمن أن يبقى هذا الإنسان حكيماً؟ إنّه كإنسان هو ابن أغيار، وقد يتغير قلبه أو أن المسألة المسلم له لها تكون مستعصية عليه، لكن عندما أسلم زمامي لمن خلقني فهذا منتهى الحكمة. ولذلك قلنا: إن الإسلام هو أن تسلم زمامك لمن آمنت به إلهاً قوياً وقادراً وحكيماً وعليماً وله القيومية في كل زمان ومكان. وحين يسلم الإنسان وجهه لله فلن يصنع عملاً إلا كانت وجهته إلى الله. {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2668 ولماذا جاءت كلمة «محسن» هنا؟ وقد تكلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الإحسان، ونعرف أننا آمنا بالله غيباً، لكن عندما ندخل بالإيمان إلى مقام الإحسان، فإننا نعبد الله كأننا نراه فإن لم نكن نراه فهو يرانا. «والحوار الذي دار بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأحد صحابته وكان اسمه الحارث فقال له:» كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «انظر ما تقول؛ فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟» قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها (يتصايحون فيها) فقال: «يا حارث عرفت فالتزم ثلاثا» . ويعرف الإنسان من أهل الصلاح أنّه في لقاء دائم مع الله، لذلك يضع برنامجاً لنفسه موجزة أنه يعلم أنه لا يخلو من نظر الله إليه (وهو معكم أينما كنتم) إنه يستحضر أنه لا يغيب عن الله طرفة عين فيستحيي أن يعصيه. ويوضح الحديث ما رواه سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عندما سأل حبريل - عليه السلام - رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال له: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . وعندما تتيقن أن الله ينظر إليك فكيف تعصيه؟ أنت لا تجرؤ أن تفعل ذلك مع عبدٍ مساوٍ لك. . فكيف تفعله مع الله؟!! وتتجلى العظمة في قوله الحق: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} لماذا إذن «ملة إبراهيم» ؟ لأن القرآن يقول عن إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل: 120] ومعنى كونه «أُمَّةً» : أنّه الجامع لكل خصال الخير التي لا تكاد تجتمع في فرد إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2669 إن وزعنا الخصال في امة بأكملها؛ فهذا شجاع وذلك حليم والثالث عالم والرابع قوي، وهذه الصفات الخيِّرة كلها لا تجتمع في فرد واحد إلا إذا جمعناها من أمة. وأراد الحق سبحانه لإبراهيم عليه السلام أن يكون جامعاً لخير كثير فوصفه بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] ويقول هنا عن ملة إبراهيم: {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} . والملة هي الديانة و «حنيفاً» أي «مائلا عن الباطل إلى الحق» . والمعنى اللغوي لكلمة «حنيف» أنّه هو «المائل» . وكان إبراهيم حنيفاً عن الباطل. ومتى تُرسل الرسل إلى الأقوام نعرف أن الرسل تأتي إذا طمّ الفساد وعمّ، وحين تكون المجتمعات قادرة على إصلاح الفساد الذي فيها. . فالحق سبحانه يمهل الناس وينظرهم، لكن إذا ما بلغ الفساد أَوْجَهُ، فالحق يرسل رسولاً. وحين يأتي الرسول إلى قوم ينتشر فيهم الفساد، فالرسول يميل عن الفساد، بهذا يكون الميل عن الاعوجاج اعتدالا. {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} . ويأتي الحق من بعد ذلك بالغاية الواضحة {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} فما هي حيثيات الخُلَّة؟ لأنه يتبع أفضل دين، ويسلم لله وجهه، وكان محسناً، واتبع الملة، وكان حنيفاً، هذه هي حيثيات الخُلَّة. وكلها كانت صفات سيدنا إبراهيم عليه السلام. لقد حدثونا أن جبريل عليه السلام قد جاء لسيدنا إبراهيم عندما ألقاه أهله في النار، فقال جبريل يا إبراهيمم: ألك حاجة؟ . فقال إبراهيم «:» أما إليك فلا «، فقال جبريل فاسأل اربك فقال:» حسبي من سؤالي علمه بحالي «فقال الله:» يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم «أي أنه لا يطلب من جبريل بذاته شيئاً. وتلك قمة الإسلام لله. كما أننا نعرف مدى أنس الناس بأبنائها؛ ونعلم إن إسماعيل قد جاءه ولداً في آخر حياته، وأوضح له الحق أنه مبتليه، وكان الابتلاء غاية في الصعوبة؛ فالابن لا يموت؛ ولا يقتله أحد ولكن يقوم الأب بذبحه، فكم درجة من الابتلاء مر بها إبراهيم عليه السلام؟! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2670 وسار إبراهيم لتنفيذ أمر ربه، ولذلك نقرأ على لسان إبراهيم عليه السلام: {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] ويجعل الحق ذلك برؤيا في المنام لا بالوحي المباشر. ولننظر إلى ما قاله إسماعيل عليه السلام. لم يقل:» افعل ما بدا لك يا أبي «ولكنه قال: {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] أي أن إسماعيل وإبراهيم أسلما معاً لأمر الله. فماذا فعل الله؟ : {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} [الصافات: 104 - 112] ولا يكتفي الحق بإعطاء إبراهيم إسماعيل ابناً، وله فداء، ولكن رزق الله إبراهيم بابن آخر هو إسحاق. {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} . وجلس العلماء ليبحثوا معنى كلمة» خليلاً «، ويبحثوا ما فيها من صفات، وكل الأساليب التي وردت فيها. والكلمة مأخوذة من» الخاء ولام ولام «. و» الخَل «- بفتح الخاء - هو الطريق في الرمل، وهو ما نسميه في عرفنا» مدقاً «، وعادة يكون ضيقاً. وحينما يسير فيه اثنان فهما يتكاتفان إن كان بينهما ودّ عالٍ، وإن لم يكن بينهما ودّ فواحد يمشي خلف الآخر. ولذلك سموا الاثنين الذين يسيران متكاتفين» خليل «فكلاهما متخلل في الآخر أي متداخل فيه. والخليل أيضاً هو من يسد خلل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2671 صاحبه. والخليل هو الذي يتحد ويتوافق مع صديقه في الخلال والصفات والأخلاق. أو هو من يتخلل إليه الإنسان في مساتره، ويتخلل هو أيضاً في مساتر الإنسان. والإنسان قد يستقبل واحداً من أصحابه في أي مكان سواء في الصالون أو في غرفة المكتب أو في غرفة النوم. لكن هناك من لا يستقبله إلا في الصالون أو في غرفة المكتب. {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} أي اصطفاه الحق اصطفاءً خاصاً، والحب قد يُشارَك فيه، فهو سبحانه يحب واحداً وآخر وثالثاً ورابعاً وكل المؤمنين، فهو القائل: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين} [البقرة: 222] وسبحانه القائل: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] وهو يعلمنا: {والله يُحِبُّ الصابرين} [آل عمران: 146] ويقول لنا: {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 148] ويقول أيضاً: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الممتحنة: 8] لكنه اصطفى إبراهيم خليلاً، أي لا مشاركة لأحد في مكانته، أما الحب فيعم، ولكن الخلَّة لا مشاركة فيها. ولذلك نرى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخرج إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2672 قومه قائلاً: «أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا وإن صاحبكم خليل الله تعالى) يعني نفسه» . وإسماعيل صبري الشاعر المصري الذي كان أسبق من أحمد شوقي وكان شيخا للقضاة. التقط هذا المعنى من القرآن ومن الألفاظ التي دارت عليه في القرآن، ويقول: ولما التقينا قرب الشوق جهده ... خليلين زادا لوعة وعتابا كأن خليلاً في خلال خليله ... تسرب أثناء العناق وغابا وشاعر آخر يقول: فضمنا ضمة نبقى بها واحداً ... ولكن إسماعيل صبري قال ما يفوق هذا المعنى: لقد تخللنا كأن بعضنا قد غاب في البعض الآخر. ويقول الحق بعد ذلك: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2673 وسبحانه أوضح في آية سابقة أنه لا ولي ولا نصير للكافرين أو للمنافقين. ويؤكد لنا المعنى هنا: إياكم أن تظنوا أن هناك مَهْرَباً أو محيصاً أو معزلاً أو مفراً؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2673 فلله ما في السموات وما في الأرض، فلا السموات تُؤِوي هارباً منه، ولا مَن في السموات يعاون هارباً منه، وسبحانه المحيط علماً بكل شيء والقادر على كل شيء. ويقول الحق بعد ذلك: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2674 «ويستفتونك» أي يطلبون الفتيا، ونعرف أن الدين قد مرّ بمراحل منها قول الحق: (يسألونك) . وهي تعبير عن سؤال المؤمنين في مواضع كثيرة. ومرحلة ثانية هي: «ويستفتونك» . وما الفارق بين الاثنين؟ لقد سألوا عن الخمر والأهلَّة والمحيض والإنفاق. والسؤال هو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أنه قال: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2674 أي أنه طلب منهم ألاّ ينبشوا وألاّ يُفتشوا في أشياء قد يجلبون بها على أنفسهم تكاليف جديدة، ومع ذلك سألوه عن رغبة في معرفة أي حكم يحدد حركة الإنسان في الحياة. ولو كانوا لا يريدون تحديد حركة حياتهم فلماذا يسألونه؟ . كان السؤال دليلاً على أن السائل قد عشق منهج الله فأحب أن يجعل منهج الله مسيطرا على كل أفعاله، فالشيء الذي أجمله وأوجزه الله يحب أن يسأل عنه. وأيضاً فالإسلام جاء ليجد عاداتٍ للجاهلية وللعرب ولهم أحكام يسيرون عليها صنعوها لأنفسهم فلم يغير الإسلام فيها شيئاً، فما أحبوا أن يستمروا في ذلك لمجرد أنه من عمل آبائهم، ولكن أحبوا أن يكون كل سلوك لهم من صميم أمر الإسلام؛ لذلك سألوه في أشياء كثيرة. أما الاستفتاء فهو عن أمر قد يوجد فيه حكم ملتبس، ولذلك يقول الواحد في أمر ما: فلنستفت عالماً في هذا الأمر؛ لأن معنى الاستفتاء عدم قدرة واحد من الناس أو جماعة منهم في استنباط حكم أو معرفة هذا الحكم، ولذلك يردون هذا الأمر إلى أهله. والحق يقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء: 83] الاستفتاء - إذن - يكون لحكم موجود، ولكن المستفتي لا يملك القدرة على استنباطه. ولذلك نجد المجتمعات الإسلامية تخصص داراً للإفتاء؛ لأن المؤمن قد لا يعلم كل الجزئيات في الدين. وقد يعيش حياته ولا تمر به هذه الجزئيات، مثل أبواب الوقف أو المضاربة أو الميراث، فإن حدثت له مسألة فهو يستفتي فيها أهل الذكر. فالسؤال يكون محل العمل الرتيب، أما الفتوى فهي أمر ليس المطلوب أن تكون المعرفة به عامة. ولذلك يتجه المستفتي إلى أهل الذكر طالباً الفتيا. والحق يقول: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء} كأنهم قالوا للرسول: نريد حكم الله فيما يتعلق بالنساء حلاً وحرمة وتصرفاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2675 فكيف يكون الجواب؟ : {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} ولم يؤجل الله الفتوى لاستفتائهم بل سبق أن قاله، وعلى الرغم من ذلك فإنه - سبحانه - يفتيهم من جديد. فلعل الحكم الذي نزل أولاً ليس على بالهم أو ليسوا على ذكر منه. فقال الحق: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء} [النساء: 127] أي أن الحق يفتيكم في أمرهن، وسبق أن نزل في الكتاب، آية من سورة النساء. قال الحق فيها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وتوالت آيات من بعد ذلك في أمر النساء. فقوله الحق: {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} . إنما يعلمنا أن الإنسان لا يصح أن يتعجل الاستفتاء في شيء إلا إذا استعرض قبل ذلك ما عنده من علم لعله يجد فيه الجواب الذي يغنيه عن أن يستفتي. ومع أن الاستفتاء في أمر النساء جملة: صغيرات وكبيرات، يتيمات وغير يتيمات فلماذا جاء الجواب في يتامى النساء؛ لأن النساء الكبيرات لهن القدرة على أن يبحثن أمورهن، ولسن ضعيفات، أمّا اليتيمة فهي ضعيفة الضعيفات، وعرفنا معنى اليتيم، واليتيم حيث لا يبلغ الإنسان المبلغ الذي يصبح فيه مستقلاً، فلا يقال لمن بلغ حَدَّ البلوغ سواء أكان رجلاً أم امرأة أنه يتيم؛ لذلك جاء الجواب خاصاً بيتامى النساء؛ لأن يتامى النساء هُنَّ دائماً تحت أولياء، هؤلاء الأولياء الذين نسميهم في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2676 عصرنا ب «الأوصياء» حالتان: فإن كانت البنت جميلة وذات مالٍ فالوصي يحب أن ينكحها ليستمتع بجمالها ويستولي على مالها. وإن كانت دميمة فالوصي لا يرغب في زواجها لذلك يعضلها، أي يمنعها من أن تتزوج؛ لأنها إن تزوجت فسيكون الزوج هو الأولى بالمال. فاحتاجت هذه المسألة إلى تشريع واضح. وها نحن أولاء نجد سيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وكانت له الفراسات التي تُسمى الفراسات الفاروقية جاءه واحد يسأله عن أمر يتيمة تحت وصايته، فقال سيدنا عمر: - إن كانت جميلة فدعها تأخذ خيراً منك، وإن كانت دميمة فخذها زوجة وليكن مالها شفيعاً لدمامتها. ويقول الحق: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء: 127] والذي كتب لهن إما أن يكون مهوراً. وإمّا أن يكون تركة، وجاء القول الحكيم ليرفع عن المرأة عسف الولي. وجاء الأمر بهذا الأسلوب العالي الذي لا يمكن أن يقوله غير رب كريم، ونجد مادة «رغب» تعني «أحب» . فإذا ما كان الحال «أحب أن يكون» يقال: «رغب فيه» ، وإذا «أحب ألاّ يكون» فيقال: «رغب عنه» . ولذلك قال الحق: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 130] ومادامت «عن» جاءت كما في الآية فما بعدها هو المتروك. لكن لو كان القول «رغب في» فهو لأمر محبوب. وكلمة «ترغبون» في هذه الآية نجدها محذوفة الحرف الذي يقوم بالتعدية حباً أو كرهاً؛ لأنها تقصد المعنيين. فإن كانت الرغبة في المرأة. . تصير «ترغبون في» وإن كانت المرأة دميمة وزهد فيها القول يكون: «ترغبون عن» ولا يقدر أحد غير الله على أن يأتي بأسلوب يجمع بين الموقفين المتناقضين. وجاء الحق ليقنن للأمرين معاً. ويأتي الحق من بعد ذلك بالقول: {والمستضعفين مِنَ الولدان} بجانب اليتيمات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2677 وهو الصنف المستضعف الاخر، أي اليتيم الذي لم يبلغ مبلغ الرجال وحينما يتكلم سبحانه عن الولاية والوصاية على مثل هؤلاء فهو يتكلم بأسلوبين اثنين، وإن لم يكن للإنسان ملكة استقبال الأسلوب البليغ فقد يقول: هذا كلام متناقض، لكن لو تمتع الإنسان بملكة استقبال الأسلوب البليغ فقد يقول: إن عظمة هذا الأسلوب لا يمكن أن يأتي به إلا رب كريم. فالحق قال: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] قال الله ذلك على الرغم من أن الأموال هي في الأصل ملك للسفهاء؛ فالمال ليس ماله إلى أن يعود إليه رشده، وقد جعل الإسلام الأخوة الإيمانية للتكاتف والتكافل، وساعة يرى المسلمون واحداً من السفهاء فهم يحجرون على سلوكه حماية لماله من سفهه، والمال يصان ويحفظ ومطلوب من الوصيّ والولي أن يحميه، هذا ما قاله الحق في السفهاء. والحق يتكلم في اليتامى. فيقول سبحانه: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] لأن السفيه أو المبذر ليس لأي منهما سلطة التصرف في المال بل سلطة التصرف تكون للوصي، وينتسب المال في هذه الحالة للوصي لأنه القائم عليه والحافظ له، لكن ما إن يبلغ القاصر الرشد فعلى الوصي أن يرد له المال. ونحن أمام آية تضع القواعد لليتامى من النساء والمستضعفين من الولدان: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ والمستضعفين مِنَ الولدان وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} [النساء: 127] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2678 ما معنى القيامة لليتامى بالقسط؟ والقسط - بالكسر - تعني العدل. وتختلف عن «القَسط» - بفتح القاف - وهو يعني الجور، قَسَط - يقْسِط أي عدل، وقسط يَقْسُط، أي جار، فالعدل مصدره «القِسط» بالكسر للقاف، والجور مصدره «القَسط» بالفتح للقاف. وبعض من الذين يريدون الاستدراك على كلام الله سفها بغير علم - قالوا: - يأتي القرآن بالقسط بمعنى العدل في آيات متعددة، ثم يأتي في موقع آخر ليقول: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] و «القاسطون» هي اسم فاعل من قسط، ونقول: ومن قال لكم: إن «قسط» تستخدم فقط في معنى «عدل» ، إنها تستعمل في «عدل» وفي «جار» . وسبحانه يقول عن العادلين: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] القاسط يذهب إلى النار، وهي مأخوذة من «قَسَط يقسٌُط» . والمقسط يذهب إلى الجنة، ومقسط مأخوذة من أقسط. وعندما نرى «أقسط» نراها تبدأ بهمزة الإزالة، أي كان هناك جور فأزلناه. أما القِسط - بالكسر - فهو العدل من البداية هو «يقسِط» . بكسر السين في المضارع، أما يقسُط - بضم السين في المضارع - تعني «يجور ويظلم» . ومن محاسن اللغة نجد اللفظ الواحد يُستعمل لأكثر من معنى؛ ليتعلم الإنسان لباقة الاستقبال، وليفهم الكلمات في ضوء السياق. وقديماً كانت اللغة ملكة لا صناعة كما هي الآن في عصرنا. كانت اللغة ملكة إلى درجة أنهم إذا شكلوا الكتاب إلى المرسل إليه يغضب، ويرد الكتاب إلى مرسله ويقول لمن أرسله: أتشك في قدرتي على قراءة كتابك دون تشكيل؟ . فتشكيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2679 الكتاب سوء ظن بالمكتوب إليه، وفي عصرنا نجد من يلقي خطاباً يطلب تشكيل الخطاب حتى ينطق النطق السليم. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} وجاء الحكم في قوله الحق: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وسبحانه يتكلم في المهور والأموال ويرتفع بالأمر إلى مرتبة اعتبار حسن التصرف في أمور اليتامى من المسئولية الإيمانية؛ فقد تكون اليتيمة لا مال لها وليست جميلة حتى يُطمع فيها أو في مالها، وفي هذه الحالة يجب على الولي أن يرعاها ويرعى حق الله فيها. وقوله الحق: {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} هو أمر بأن يقوم المؤمن على أمر اليتامى بالعدل؛ لأن اليتيمة قد تكون مع الولي ومع أهله، وقد يكون لليتيمة شيء من الوسامة، فيسرع إليها الولي بعطف وحنان زائد عن أولاده، وينبه الحق أن رعاية اليتيمة يجب أن تتسم بالعدل، ولا تزيد. ويقول سبحانه: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} ليدلنا على أن أمر الفعل والقيام به ليس مناط الجزاء، ولكن أمر النية في الفعل هو مناط الجزاء، فإياك أيها المؤمن أن تقول: فعلت، ولكن قل: فعلت بنيّة كذا. إن الذي يمسح على رأس اليتيم يكون صاحب حظ عظيم في الثواب، ومن يكفل اليتيم فهو مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الجنة. والذي يقدر ذلك هو الله - سبحانه - العليم بالخفايا حسب نية الشخص الذي يقوم بهذا العمل؛ فقد يتقرب واحد من يتيم ويتكلف العطف والحنان بينما يقصد التقرب إلى أم اليتيم؛ لذلك فمناط الجزاء ومناط الثواب هو في النيّة الدافعة والباعثة على العمل. ولا يكفي أن يقول الإنسان: إن نيّتي طيبة، ولا يعمل؛ فالحديث الشريف يقول: «إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2680 أي لا بد من ارتباط واقتران النيّة بالعمل؛ لأن الله يريد منا أن نعمل الخير وبذلك يعدي الإنسان الخير من نفسه إلى غيره وهذا هو المطلوب، فوجود النيّة للخير وحدها لا يكفي، وإن افتقد الإنسان النيّة وأدّى العمل فغيره يأخذ خيره ولا يأخذ هو شيئاً سوى التعب. فإن أراد الإنسان أن يكون له ثواب فلا بد من وجود نيّة طيبة، وعمل صالح. ولم يقل الحق: «وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم» ؛ لأنه سبحانه عليم لا بعد أن نصنع العمل بل بكمال قدرته يعلم قبل أن نصنع الخير، وكل شيء كان معلوماً لله قبل أن يخلق الوجود، ولا ينتظر سبحانه إلى أن يقوم الإنسان بالعمل حتى يحصل ويحدث منه العلم. بل إنه - جل شأنه - يعلم كل شيء علما أزليّا؛ لذلك قال: {فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} ؛ لأن كل أمر برز في الوجود إنما كان على وفق ما علمه الله أزلاً قبل أن يوجد الوجود. وفي المجال البشري نرى المهندس يتلقى التعليمات من صاحب الأرض الخلاء ويقول له: صمم لي قصراً صغيراً على مساحة كذا ومكوناً من كذا حجرة. وعدد محدود من دورات المياه، وبعد ذلك يصمم المهندس الرسم الهندسي على الورق حسب أوامر صاحب الأرض. وقد يكون صاحب الأرض دقيقا فطنا غايةً في الدقة فيقول للمهندس: إنني أريد أن تصنع لي نموذجا صغيراً قبل البناء بحيث أرى تطبيقاً واقعياً بمقياس هندسي مصغر، وأن تبنى الحجرات بقطاعات واضحة حتى أرى ألوانها وكيفيتها. هكذا العالَم قبل أن يوجد، كان معلوما علما تفصيليا بكل دقائقه وأبعاده عند خالقه، والنماذج المصغرة التي يصنعها البشر قد يقصر البشر فيها عن صناعة شيء لعدم توافر المواد، كالنجار الذي يقصر في صنع حجرة نوم من خشب الورد لندرته، فيستعيض بخشب من نوع آخر، وذلك خلل في علم وقدرة المنفذ. أما خلق الله فهو يبلغ تمام الدقة؛ لأنه - سبحانه - هو الصانع الأول. هذا ما يجب أن نفهمه عندما نقرأ: {فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} . وبعد ذلك يتكلم الحق عما يتعلق بالنساء فيقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2681 {وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2682 وساعة نرى «إن» وبعدها اسم مرفوع كما في قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] فلنعرف أن «إنْ» هذه داخلة على فعل، أي أن ترتيبها الأساسي هو: وإن استجارك أحد من المشركين فأجره. وهنا في هذه الآية: يكون التقدير: وإن خافت إمرأة من بعلها نشوزاً، وما الخوف؟ . هو توقع أمر محزن أو مسيء؛ لم يحدث بعد ولكن الإنسان ينتظره، وحين يخاف الإنسان فهو يتوقع حدوث الأمر السيء. وهكذا نجد أنّ الخوف هو توقع ما يمكن أن يكون متعباً. وقوله الحق: {وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} أي أن النشوز لم يحدث ولكن المرأة تخاف أن يحدث. ورتب الحق الحكم على مجرد الخوف من النشوز لا حدوث النشوز بالفعل، وهذه لفتة لكل منا ألا يترك المسائل حتى تقع، بل عليه أن يتلافى أسبابها قبل أن تقع؛ لأنها إن وقعت ربما استعصى عليه تداركها وإن رأت المرأة بعضاً من ملامح نشوز الزوج فعليها أن تعالج الأمر. ونلحظ أن الحق يتكلم هنا عن نشوز الرجل، وسبق أن تكلم سبحانه عن نشوز المرأة: {واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2682 ما النشوز؟ عندما نسمع عن الموسيقى نجد من يقول: «هذه نغمة نشاز» أي أنها نغمة خرجت عن تسلسل النغم وإيقاعه. والأصل فيها مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع وظهر من الأرض، والمفروض في الأرض أن تكون مبسوطة، فإن وجدنا فيها نتوءا فهذا اسمه نشوز. والأصل في علاقة الرجل بزوجته، أن الرجل قد أخذ المرأة سكناً له ومودة ورحمة وأفضى إليها وأفضت إليه، واشترط الفقهاء في الزواج التكافؤ أي أن يكون الزوجان متقاربين؛ ولذلك قال الحق: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] حتى الكفاءة تكون في الطيبة أوالخبث، فلا يأتي واحد بامرأة خبيثة ويزوجها لرجل طيب كي لا تتعبه، ولا يأتي واحد برجل خبيث ويزوجه بامرأة طيبة كي لا يتعبها؛ لأن الطيب عندما يتزوج طيبة تريحه وتقدره. وكذلك الخبيث عندما يتزوج خبيثة فإنهما يتوافقان في الطباع والسلوك، وفي هذا توازن، والخبيث إن لم يخجل من الفضيحة، فالخبيثة لا تخجل منها أيضاً، أما الطيب والطيبة فكلاهما يخشى على مشاعر الآخر ويحافظ على كرامته، فإن خافت امرأة من بعلها نشوزاً أي ارتفاعاً عن المستوى المفترض في المعاملة، في السكن والمودة والرحمة التي ينبغي أن تكون موجودة بين الزوجين، وهي قد أفضت إليه وأفضى إليها، فإن خافت أن يستعلي عليها بنفسه أو بالنفقة أو ينالها بالاحتقار، أو ضاعت منه مودته أو رحمته، هذا كله نشوز. وبل حدوث ذلك على الزوجة الذكية أن تنتبه لنفسها وترى ملامح ذلك النشوز في الزوج قبل أن يقع، فإن كانت الأسباب من جهتها فعليها أن تعالج هذه الأسباب، وترجع إلى نفسها وتصلح من الأمر. وإن كانت منه تحاول كسب مودته مرة أخرى. {وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} والإعراض يعني أنه لم ينشزبعد ولكنه لا يؤانس الزوجة ولا يحدثها ولا يلاطفها على الرغم من أنه يعطيها كل حقوقها. وعلى المرأة أن تعالج هذه المسألة أيضاً. والقضية التي بين اثنين - كما قلنا - وقال الله عنهما: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2683 {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] وقال في ذلك أيضا: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] أي أن يغطي الرجل المرأة وتغطي المرأة الرجل فهي ستر له وهو ستر لها وحماية. ونعرف أن المرأة إن دخل عليها أبوها أو أخوها فهي تداري أي جزء ظاهر من جسمها، أما عندما يدخل عليها زوجها فلا تستر ولا تخفي شيئاً. ويعرف كل زوج متزوج وكل امرأة متزوجة أن بينهما إفضاءً متبادلاً، فقد أباح الله للرجل من زوجته ما لا يبيحه لأحد، وكذلك المرأة، فلا يقول الرجل أي نعت أو وصف جارح للمرأة، وعلى المرأة أن تحافظ كذلك على زوجها. ولها أن تتذكر أنها اطلعت على عورته بحق الله، واطلع على عورتها بحق الله. والحق سبحانه وتعالى يريد أن ينهي هذا الخلاف قبل أن يقع؛ لذلك أوجب على المرأة أن تبحث عن سبب النشوز وسبب الإعراض فقد تكون قد كبرت في العمر أو نزلت بها علة ومرض وما زال في الرجل بقية من فتوة. وقد يصح أن امرأة أخرى قد استمالته أو يرغب في الزواج بأخرى لأي سبب من الأسباب، هنا على المرأة أن تعالج المسألة علاج العقلاء وتتنازل عن قَسْمها، فقد تكون غير مليحة وأراد هو الزَّواج فلتسمح له بذلك، أو تتنازل له عن شيء من المهر، المهم أن يدور الصلح بين الرجل وزوجته، وهي مهمة الرجل كما أنها مهمة المرأة. {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} والصلح هنا مهمة الاثنين معاً؛ لأن كل مشكلة لا تتعدى الرجل والمرأة يكون حلها يسيراً، والذي يجعل المشكلات صعبة هم هؤلاء الذين يتدخلون في العلاقة بين الرجل والمرأة، وليس بينهما ما بين الرجل والمرأة، والرجل قد يختلف مع المرأة ويخرج من المنزل ويهدأ ويعود، فتقول له الزوجة كلمة تنهي الخلاف لكن إن تدخل أحد الأقارب فالمشكلة قد تتعقد مِن تدخل من لا يملك سبباً أو دافعاً لحل المشكلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2684 لذلك يجب أن ننتبه إلى قول الحق هنا: {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} . وأولى درجات الصلح بين الرجل والمرأة هو أن يقوم كل منهما بمسئوليته وليتذكر الاثنان قول الحق: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] وكذلك قول الحق سبحانه: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19] ولايظنن رجل أن هناك امرأة هي مجمع كل الجمال والخيرات؛ لأن كل خصال الخير التي تتطلبها الحياة، قد لا تتوافر في المرأة الجميلة. بل قد توجد في المرأة التي ليست على حظ من الحسن؛ لأن ذات الحسن قد تستند إلى رصيد حسنها. أما التي ليس لها حظ من الحسن فهي تحاول أن تكون أمينة ومطيعة ومدبرة وحسنة التصرف مع أهل زوجها؛ لأنها تريد أن تستبقي لنفسها رصيد استبقاء. ولذلك نجد اللاتي ليس لهن حظ من الحسن هن الغالبية الكبيرة في حمل أعباء تكوين الأسرة، فلا يصح أن يأخذ الرجل الزاوية الوحيدة للجمال الحسيّ، بل عليه أن يأخذ الجمال بكل جوانبه وزواياه؛ لأن الجمال الحسيّ قد يأخذ بعقل الرجال، لكن عمره قصير. وهناك زوايا من الجمال لا نهاية إلا بنهاية العمر. وقد حدَّثونا عن واحد من الصالحين كانت له امرأة شديدة المراس والتسلط عليه، وهو رجل طيب فقال لها: آه لو رأيتني وأنا في دروس العلم والناس يستشرفون إلى سماعي. لقد ظن أنها عندما تراه في مجلس العلم سترتدع، وتكون حنونة عليه. وذهبت لحضور درس العلم، ورآها، وظن أن ذلك سيزرع هيبة له في قلبها، وعاد إليها آخر النهار وقال لها: لقد رأيتني اليوم. فقالت: رأيتك ويا حسرة ما رأيت، رأيت كل الناس تجلس باتزان إلا أنت فقد كنت تصرخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2685 وحدثونا عن هذا الرجل أن الله كان يكرمه بالمدد جزاء صبره على امرأته، وكان المريدون يرون إشراقات الله في تصرفاته، وماتت امرأته. وذهب المريدون ولم يجدوا عنده الإشراقات التي كانت عنده من قبل. فسألوه: لماذا؟ فقال: ماتت التي كان يكرمني الله من أجلها. فكما أن المطلوب من المرأة أن تصبر على الرجل، فالرجل مطلوب منه أن يصبر علىلمرأة. والذي يصبر عليها يؤتيه الله خيرها؛ ولذلك قالوا: «إن عمران بن حطان كان من الخوارج وكان له امرأة جميلة وكان هو دميم الملامح، فنظرت إليه زوجته مرة وقالت: الحمد لله فقال لها: على أي شيء تحمدين الله؟ قالت: على أني وأنك في الجنة. قال: لم؟ . قالت: لأنك رزقت بي فشكرت، ورزقت بك فصبرت، والشاكر والصابر كلاهما في الجنة. ولا يظنن واحد أنه سيجد امرأة هي مجمع الجمال والحسن في كل شيء، فإن كانت متدنية المستوى في جانب فهي متميزة في جانب آخر، فلا تضيع الامتياز الذي فيها من أجل قصورها في جانب ما. وزوايا الحياة كثيرة. وقلنا سابقاً: إنه لا يوجد أحد ابناً لله، بل كلنا بالنسبة لله عبيد. ومادمنا جميعاً بالنسبة لله عبيداً وليس فينا ابن له. وسبحانه أعطانا أسباب الفضل على سواء، فهناك فرد قد أخذ الامتياز في جانب، والآخر قد نال الامتياز في جانب آخر - هذا النقص في زاوية ما، والامتياز في زاوية أخرى، أراد به الله أن يجعل مجموع صفات ومزايا أي إنسان يساوي مجموع إنسان آخر حتى يتوازن العالم. فإن وجد الإنسان شيئاَ لا يعجبه في المرأة، ووجدت المرأة شيئاً لا يعجبها في الرجل، فعلى الرجل أن يضم الزوايا كلها ليرى الصورة المكتملة للمرأة، وأن تضم المرأة كل الزوايا حتى ترى الصورة المكتملة للرجل. والرجل الذي ينظر إلى كل الزوايا يحيا مرتاح البال؛ لأنه يرى من الزوايا الحسنة أضعاف الزوايا التي ليست كذلك، والذي يرضى هو من ينظر إلى المحاسن. والذي يغضب هو من ينظر إلى المقابح. والعادل في الغضب والرضا هو مَن ينظر إلى مجموع هذا ومجموع هذا، إنّ الحق سبحانه وتعالى يريد أن تُبنى الأسرة على السلامة فيوضح لنا: - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2686 لا تنتظر أيها الرجل ولا تنتظري أيتها المرأة إلى أن يقع الخلاف، فما أن تبدو البوادر فعليكما بحل المشكلات، فليس هناك أحد قادر على حل المشكلات مثلكما؛ لأنه لا يوجد أحد بينه وبين غيره من الروابط والوشائج مثل ما بين الرجل وزوجته؛ لذلك قال سبحانه: {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} . إننا في بعض الأحيان نجد الصلح يأخذ شكلية الصلح، أما موضوع الصلح وهو إنهاء الجفوة والمواجيد النفسية فقد لا يوجد، والذي يعرقل الصلح هو أننا نقوم بالشكلية ولا نعالج الأسباب الحقيقية المدفونة في النفوس، والتي تتسرب إلى موضوعات اخرى؛ لذلك يجب أن يكون الصلح، ويتم بحقيقته كقول الله تعالى: {أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصلح خَيْرٌ} وعندما تتراضى النفوس يعم الخير على الزوجين وعلى المجتمع. وبعد ذلك يتابع الحق: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . يوضح لنا سبحانه: أنا خالقكم وأعلم طبائعكم وسجاياكم وأعلم أنني عندما أطلب من المرأة أن تتنازل عن شيء من نفقتها كمهرها أو هدية الخطبة الأولى «الشبكة» ، أو أن تتنازل له عن ليلتها لينام عند الزوجة الأخرى. وأعلم أن هذا قد يصعب على النفس، وكذلك يصعب على الرجل أن يتنازل عن مقاييسه، إياكم أن يستولي الشح على تصرفاتكم بالنسبة لبعضكم البعض. وجاء الحق في آية وقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] وهنا يقول: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وهناك فرق بين الحقوق التي قد يتمسك بها أحد الزوجين، والإحسان الذي يَتطوع به. ونعرف ما فعله قاضٍ فاضل عندما قال لخصمين: أأحكم بينكما بالعدل أو بما هو خير من العدل؟ فسأل واحد: وهل هناك خير من العدل؟ فقال القاضي: نعم إنه الفضل. فالعدل إعطاء الحق فقط، والفضل ان يتنازل الإنسان عن حقه بالتراضي لأخيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2687 ويذيل الحق الآية: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وسبحانه وتعالى يريد أن يحل مشكلة نفسية قد تتعرض لها الأسر التي لا توجد فيها خميرة عقدية إيمانية، لا عند الرجل ولا عند المرأة، ولو كانت هذه الأسر تملك الخميرة الإيمانية المسبقة وأخذت أحكام الله بحقها لما وجدت هذه المشكلة، إنها مشكلة التعدد. ظاهر الأمر أن الرجل حين يعدد زوجاته يكون محظوظاً؛ لأنه غير مقيد بواحدة بل له إلى أربع، والمغبون هي المرأة؛ لأنها مقيدة بزوج واحد، فليست كل امرأة مهضومة، لأن الزوجة الجديدة تشعر بالسعادة. وقد نجد امرأة قال لها زوجها: سأتزوج بثانية، ورضيت هي بذلك، بعد أن وازنت بين أمورها فاختارت خير الأمور. روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها، وكان لها منه ولد فقالت لا تطلقني ودعني أقوم على ولدي وتقسم لي فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحب إليّ فأقرها. إذن فالغمة في زواج الرجل من زوجة أخرى لا تعم كل النساء، فإن أحدث الزواج الغم والحزن عند الزوجة الأولى فهو يحدث سروراً عند الزوجة الثانية. والمرأة معذورة في ذلك لأن الرجل أخذ حكم الله في أن يعدد ولم يأخذ مع هذا الحكم أن يعدل. والرجل يظلم المرأة حين يأخذ الحكم الذي في صالحه وهو إباحة التعدد ولا يأخذ من مبيح التعدد وهو المشرع الأعلى - وهو الله - الأمر بأن يعدل بين زوجاته. لقد جنحت المجتمعات لأنهم رأوا الرجل حين يتزوج بأخرى لا يلتفت إلا للزوجة الجديدة، ويهمل القديمة وأولاده منها؛ لذلك فالنساء معذورات في أن يغضبن من هذه المسألة. ولو أن الرجل أخذ حكم الله بالعدل كما أخذ إباحة الله في التعدد لحدث التوازن. وحين تعرف المرأة الأولى أن حقها لن يضيع لا في نفسها ولا في بيتها ولا في رعاية أولادها. فهي تقول: «من الأفضل أن يكون متزوجاً أمام عيني بدلاً من أن يدس نفسه في أعراض الناس» . إذن فالذي يثير المسألة كإشكال أن الرجل يأخذ بعض الكتاب فيعمل به ويترك بعضه فلا يطبقه ولا يعمل به. والذين يأخذون إباحة الله في التعدد لا بد أن يأخذوه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2688 بأصوله التي وضعها الله في إطار العدالة. وحين يكون للرجل امرأتان مثل سيدنا معاذ بن جبل، فكل امرأة لها حق في البيتوتة، ليلة لزوجة وليلة لأخرى مثلا، وكان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا يتوضأ عند واحدة في ليلة الأخرى مع أن الوضوء قربة لله. والأعجب من ذلك عندما ماتت الزوجتان في الطاعون، أمر بدفن الاثنتين في قبر واحد. والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق وأمر بالعدالة في المستطاع، وعلى الرجل أن يعدل زَمَناً، ويعدل نفقة، ويعدل ابتسامة، ويعدل مؤانسة ومواساة، والرجل في كل ذلك يستطيع، لكنه لا يستطيع أن يعدل في ميل القلب، وهو أمر مكتوم؛ لذلك قال الحق: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2689 أي أن العدل الحبّي مستحيل. وقال النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: (اللهم هذا قَسْمِي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) - يعني القلب -. إذن ففيه فرق بين ميل القلب وهو مواجيد نفسية والنزوع النفسي. والعملية الوجدانية لا يقدر عليها أحد، ولا يوجد تقنين يقول للرجل: «أحب فلانة» . . إلا إذا أراد الحب العقلي، أما الحب العاطفي فلا. والذي يأمر به الشرع هو أن يحب الإنسان بالعقل، أما حب العاطفة فلا تقنين له أبداً. وقد يحب الإنسان الدواء المر بعقله لا بعاطفته ويسرّ الإنسان من صديق جاء بهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2689 الدواء من الخارج؛ لأن الدواء سيشفيه بإذن الله. إذن {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} ، ما هو كل الميل؟ ويوضحه - سبحانه - بقوله: {فَتَذَرُوهَا كالمعلقة} وهي المرأة التي لا هي أيّم أي لا زوج لها فتطلب الزواج، ولا هي متزوجة فتستمتع بوجود زوج، ويحجزها الرجل دون أن يمارس مسئوليته عنها، فيوضح الحق: أنا لا أطلب منك أن تميل بقلبك هنا، أو هناك؛ لأن هذه المسألة ليست ملكاً لك، ولكني أريد العدالة في الموضوعات الأخرى؛ كأن تسوّي في البيتوتة والنفقة، ومطلوبات أولادك، وأن تعدل بين أزواجك في المؤانسة. أما المعنى الآخر وهو ميل القلب فأنا لا أكلف به. وسبحانه حين يشرّع لخلقه أعلم بمن خلق، وقد جعل لكل مخلوق منا عواطف ينشأ عنها ميل، وجعل له غرائز، وخيارات في الانفعالات ولو أراد سبحانه أن يحجر على الميل لما خلقه، ولكنه - جل وعلا - يطلق الميول لتتم بالميول مصالح الكون مجتمعة، فحين يمنح القلب أن يحب، يعلم سبحانه أن عمارة الكون تنشأ بالحب. فلو لم يحب العالم أن يكتشف أسرار الله في خلقه لما حمَّل نفسه متاعب البحث والاطلاع والتجربة، وكل ما يترتب على ذلك من مشقات. ولو لم يحب الإنسان إتقان عمله لما رأيت عملاً مجوَّداً. ولو لم يحب الإنسان أولاده لما تحمل المشقة في تبعات تربيتهم. إذن فالحب له مهمة. والله لا يريد منا أن نمنع الحب. لكنه يريد منا أن نعلي مطالب الحب، فنجعل للحب مجالاته المشروعة لا أن ينطلق الحب في الكون ليعربد في أعراض الناس. إنك حين تجعل الحب موجهاً إلى خير لا يأتيك منه أو للناس شرّ. وعندما ننظر - مثلا - إلى دافع وغريزة حب الاستطلاع نجد أن الله قد خلقها في الإنسان ليصعد ابتكاراته المسعدة في الحياة. ولو لم توجد غرائز حب الاستطلاع لما تعب المكتشف في أن يبتكر شيئاً أو يخترعه ويكتشفه حتى يريحنا نحن البشر، ولما فكر الإنسان في أن يستعمل البخار ليحمل عن الناس مشقات السفر ومشقات حمل الثقيل. إن هذا الاكتشاف أراحنا باختراع الباخرة أو القطار. ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يعلي غريزة حب الاستطلاع فينبغي أن نجعلها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2690 في مجالها المشروع فلا نجعلها تجسساً على عورات الناس مثلاً، وكذلك جعل الله غريزة المال في الإنسان؛ لأن حب المال يدفع الإنسان إلى أن يعمل، ويستفيد الناس من عمله أراد أو لم يرد. كذلك غريزة الجنس جعلها الله في الإنسان ولها سعار ليحفظ بها النوع الإنساني. إنّه سبحانه لا يريد منها أن تنطلق انطلاقاً يلغ في أعراض الناس. إذن فالغرائز خلقها الله لمهمة. والشرائع جاءت لتحفظ الغرائز في مجال مهمتها وتمنع عنها انطلاقاتها المسعورة في غير المجالات التي حددها لها المنهج. إذن فالميل أمر فطري في النفس البشرية وقد أوضح الحق سبحانه: أنا خلقت الميل ليخدم في عمارة الكون، ولكن أريد منكم أن تصعدوا الهوى وتعلوه في هذا الميل، وحين تعددون الزوجات. لا أطلب منكم البعد عن كل الميل؛ لأن ذلك أمر لا يحكمه منطق عقلي، ولكن أحب أن تحددوا الميل وتجعلوه في مجاله القلبي فقط، ولا يصح أن يتعدى الميل عند أحدكم إلى ميله القالبي. أحب أيها العبد المؤمن من شئت وأبغض من شئت، لكن لا تجعل هذا الحب يقود قالبك لتعطي من تحب خير غيره ظلماً، وأبغض أيها العبد من شئت، فلا يستطيع مقنن أن يقنن للقلب أن يبغض أو يحب، لكن بغضك لا تعديه عن قلبك إلى جوارحك لتظلم من تبغض. ولنا الأسوة في سيدنا عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - حينما مرّ عليه قاتل أخيه، ولفت نظره جليس له: هذا قاتل أخيك. هنا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟ كأن إسلام هذا القاتل قد أنهى المسألة عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وعندما جاء هذا القاتل لمجلس عمر، قال له سيدنا عمر: إذا أقبلت عليّ إلوِ وجهك عني، لأن قلبي لا يرتاح لك. فسأل الرجل: أو عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ . قال عمر: لا. قال الرجل: إنما يبكي على الحب النساء. هذا عمر وهو الخليفة، والرجل من الرعية. لكن عمر الخليفة يخاف من الظلم، ويملك هذا الشخص وهو تحت إمرة وحكم الخليفة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قدرة الرفض لمشاعر الحب أو الكراهية ما دامت لا تمنع حقوقه كمواطن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2691 إن الحق سبحانه وتعالى حينما يخلق ميول القلوب يضع أيضاً القاعدة: إياك أيها المؤمن أن تعدي ميل القلب إلى القالب، وليكن ميل القلب كما تحب. كذلك إن أنت أيها المؤمن تزوجت وبعد ذلك تزوجت امرأة أخرى فالمنهج لا يطلب منك أن تعدل العدل المطلق الذي ينصب على شيء لا تملكه وهو ميل قلبك. ولكن المنهج يضع لك القواعد التي يسير عليها سلوك قالبك. وعليك أن تعدل في قسمة الزمن والنفقة والكسوة وبشاشة الوجه وحسن الحديث. ولا تخضع ذلك لميل القلب، وبعد ذلك أنت وقلبك أحرار. ونرى بعضا من الذين يحبون أن يظهروا بين الناس كفاهمين للقرآن أو دعاة تجديد، يركبون الموجة ضد التعدد. ونقول: قبل أن يركب الواحد منكم الموجة ضد التعدد، ويقف منه موقف الرافض له مدعيا أنه يفهم النص القرآني، إنّنا نقول له: عليك أن تبحث عن أسباب السخط على التعدد، هي ليست من التعدد في ذاته، ولكنها تأتي من أن المسلم يأخذ إباحة الله للتعدد. ولا يأخذ حكم الله في العدالة. فلو أن المسلم أخذ بالعدالة مع التعدد لما وجدنا مثل هذه الأزمة. ولذلك يقول الواحد من هؤلاء: إن الحق سبحانه وتعالى أمر بلزوم واحدة والاقتصار عليها عند خوف ترك العدل في التعدد فقال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] ثم جاء في آية أخرى وقال: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} . ونقول: إن الواحد منكم إن أراد أن يفهم القرآن، فعليه أن يعلم أن الحق سبحانه لم يقف في هذه الآية عند قوله: (ولو حرصتم) إنما فرع على عدم الاستطاعة في العدل فقال: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} إنه - سبحانه - فرع على عدم الاستطاعة في العدل فأمر بعدم الميل كل الميل. وتلك حكمة المشرع الأول الذي يعلم مَن خلق وكيف خلق. ولو أن الحق لم يفرِّع على «ولن تستطيعوا» لجاز لهؤلاء الذين يركبون الموجة المطالبة بعدم التعدد أن يقولوا ما يقولون؛ لذلك نقول لهم: انتبهوا إلى أن الحق سبحانه أوضح: عدم استطاعتكم للعدل هو أمر أنا أعلمه، ولذلك أطلب منكم ألا تميلوا كل الميل وذلك باستطاعتكم. ومعنى هذا أنه سبحانه قد أبقى الحكم ولم يسلبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2692 {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة} . وفي هذا القول أمر بألا يترك الرجل زوجته الأولى كالمعلقة وهي المرأة التي لم يتحدد مصيرها ومسارها في الحياة، فلا هي بغير زوج فتتزوج، ولا هي متزوجة فتأخذ قسمها وحظها من زوجها، بل عليه أن يعطيها حظها في البيتوتة والنفقة والملبس وحسن الاستقبال والبشاشة والمؤانسة والمواساة. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} . وقوله: «تصلحوا» دليل على أنه كان هناك إفساد موجود والمطلوب أن نقوم بالبحث عن الأسباب التي جعلت الرجل يفسد في علاقته الزوجية ليقضي عليها. وبعد ذلك على المسلم أن يستأنف تقوى جديدة في المعاملة على ضوء ما شرع الله. وحين يصلح المسلم ما أفسد من جعل الزوجة الأولى كالمعلقة ويعطيها حقها في البيتوتة والنفقة ورعاية أولادها والإقبال عليها وعلى الأولاد بصورة طيبة فالله سبحانه يغفر ويرحم، ولا يصلح المسلم ما أفسد إلا وهو ينوي ألا يستأنف عملاً إلا إذا كان على منهج التقى، ويجد الحق غفوراً لما سبق ورحيماً به. وإن لم يستطع الرجل هذا، ولا قبلت المرأة أن تتنازل عن شيء من قسمها ترضية له تكن التفرقة - هنا - أمراً واجباً. فليس من المعقول أن نحكم الحياة الزوجية والحياة الأسرية بسلاسل من حديد، ولا يمكن أن نربط الزوجين بعدم الافتراق إن كانت القلوب متنافرة وكذلك لا نأمن على المرأة أن تعيش هكذا. إن الذي يقول: لا يصح أن نفرق بين الزوجين، نقول له: كيف تريد أن تحكم الحياة الزوجية بالسلاسل؟ والزواج صلة مبناها السكن والمودة والرحمة، فإن انعدمت هذه العناصر فكيف يستمر الزواج وكيف ترغم زوجاً على أن يعايش زوجة لا يحبها ولا يقبلها وترغم زوجة أن تعيش مع زوج لا تحبه؟ إن التفريق بينهما في مثل هذه الحالة قد يكون وسيلة أرادها الله سبحانه وتعالى ليرزق الزوج خيراً منها ويرزق الزوجة خيراً منه. وكثيراً ما شهدنا هذا في واقع الحياة، وعاش الزوج مع الزوجة الجديدة سعيداً، وعاشت الزوجة مع الزوج الجديد سعيدة، أما الذين تشدقوا بمسألة عدم التفريق مع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2693 استحالة الحياة الزوجية وهاجموا الإسلام في هذا المجال. فهم يرددون ما كان عند أهل الغرب: من أن الزواج لا انفصال فيه. إننا نرى العالم كله الآن بكل النصارى واليهود وغيرهم من الملل والنِّحَل يلجأون إلى الطلاق؛ لأن الأحداث اضطرتهم إلى أن يشرعوا الطلاق، فكأنهم ذهبوا إلى الإسلام لا على أنه إسلام، ولكن على أنه الحل الوحيد لمشكلاتهم. فإذا ثبت أن الذين يهاجمون جزئية من جزئيات الذين يضطرون إلهيا تحت ضغط الأحداث فيجب أن ننبههم إلى عدم التسرع والعجلة والحكم على قضايا الدين الإسلامي بأنها غير صالحة؛ لأن الحق أرغم من لم يكن مسلماً على أن ينفذ قضية إسلامية. فهو القائل: {وَإِن يَتَفَرَّقَا ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2694 وسبحانه عنده الفضل الواسع، وهو القادر أن يرزق الزوج زوجة صالحة تشبع كل مطالبه، ويرزق الزوجة زوجاً آخر يشبع كل احتياجاتها ويقبل دمامتها لو كانت دميمة، ويجعله الله صاحب عيون ترى نواحي الخير والجمال فيها. وقد نجد رجلاً قد عضته الأحداث بجمال امرأة كان متزوجاً بها وخبلته وجعلت أفكاره مشوشة مضطربة وبعد ذلك يرزقه الله بمن تشتاق إليه، بامرأة أمينة عليه، ويطمئن عندما يغترب عنها في عمله. ولا تملأ الهواجس صدره؛ لأن قلبه قد امتلأ ثقة بها وإن كانت قليلة الحظ من الجمال. {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً} فإياك أن تظن بأن الله ليس عنده ما يريح كل إنسان. فسبحانه عنده كل ما يريح كل الناس. وصيدلية منهج الله مليئة بالأدوية، وبعض الخلق لا يفقهون في استخدام هذه الأدوية لعلاج أمراضهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2694 ومن الحكمة أنه سبحانه لا يرغم اثنين على أن يعيشا معاً وهما كارهان؛ لأنهما افتقدا المودة والرحمة فيما بينهما. ومن بعد ذلك يعقب الحق بآية: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2695 وسبحانه هو الذي يُرضي الزوج إن افترق عن زوجته، ويرضي الزوجة إذا افترقت عن زوجها؛ لأنه - جل وعلا - خلق الدنيا التي لن تضيق بمطلوب الرجل أو المرأة بعد الانفصال بالطلاق، فله ملك السموات والأرض وهو القادر على أن يرزق الرجل امرأة هي خير ممن فارق، ويرزق المرأة رجلا هو خير ممن فارقت، فلا شيء خرج عن ملك الله وهو الواسع العطاء. إننا كثيراً ما نجد رجلاً كان يتزوج امرأة ولا تلد ويشاع عنها أنها عقيم، ويذهب الإثنان إلى معامل التحليل، ويقال أحياناً: المرأة هي السبب في عدم النسل، أو: الرجل هو السبب في عدم النسل، ويفترق الاثنان ويتزوج كل منهما بآخر، فتلد المرأة من الزوج الجديد، ويولد للرجل من الزوجة الجديدة؛ لأن المسألة كلها مرادات الله، وليست أمور الحياة مجرد اكتمال أسباب تُفرض على الله بل هو المسبب دائماً فهو القائل: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2695 إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50] كم صورة إذن عندنا لمثل هذا الموقف؟ . يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً، ويجعل من يشاء عقيماً، هي بأربعة مقادير تجري على الرجل والمرأة. وعندما يهب الله المؤمنَ الإناثَ يكون سعيداً. وكذلك عندما يهبه الذكور، وعندما يهب الله لأسرة أبناء من الذكور فقط. فالزوجة تحن أن يكون لها ابنة. وإن وهب الحق لأسرة ذرّية مِن الإناث فقط، فالمرأة والرجل يتمنيان الابن، وإن أعطاهما الله الذكور والإناث نجدهما قد وصلا إلى الحالة التي تقر بها العيون عادة. والحالة التي تقر به العيون عادة مؤخرة. إن الحالة التي تزهد النفس فيها فالحق يقربها إلى أوليات الهبة، فقال أولاً: {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} ، وبعد ذلك: {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً} ثم ذكر عطاء الذكور، ثم يأتي بالحالة التي يكون العطاء فيها في القمة: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} . وأخيراً يأتي بالقَدَر الرابع الذي يجريه على بعض خلقه وهو: {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} . ولماذا يُسر الإنسان بقدرِ الله حينما يهبه الله الإناث أو الذكور، ويزداد السرور بقدر الله حينما يهبه - سبحانه - الذكور والإناث. ولماذا لا تُسر إذن أيها الإنسان بقدر الله حينما يجعلك عقيماً؟ أتعتقد أنك تأخذ القدر الذي تهواه، وترد القدر الذي ليس على هواك؟ إن المواقف الأربعة هي قَدَر من الله. ولو نظر الإنسان إلى كل أمر من الأمور الأربعة لرضي بها. أنّه سبحانه يخلق ما يشاء عقيماً، إن قالها الإنسان باستقبال مطمئن لقدر الله فالله قد يقر عينه كما أقر عيون الآخرين بالإناث أو بالذكور، أو بالذكور والإناث معاً. وأقسم لكم لو أن إنساناً - أو زوجين - أخذا قدر الله في العقم كما أخذاه في غيره من المواقف السابقة برضا إلا رزقهم بأناس يخدمونهم، وقد ربَّاهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2696 غيرهم، والذي يجعل الأزواج المفتقدين للإنجاب يعيشون في ضيق، هو أنهم في حياتهم ساخطون على قدر الله - والعياذ بالله - فيجعل الله حياتهم سخطاً. فهو القائل في حديثه القدسي: عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يقول الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرّب إليّ ذراعا، تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة» إذن فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} فإياك أن تقول كون الله سيضيق عن رزق الرجل المفارق لزوجته أو المرأة المفارقة لزوجها من عطاء الله لهما فما دام سبحانه قد قرر الفراق كحل لعدم توافق في حياتهما معاً. . فهو سبحانه سيعطي عن سعة للزوج وعن سعة للزوجة. وعليك أيها المسلم أن تطيع منهج الحق كما أطاع كل ما في السموات وكل ما في الأرض، ثم اسأل نفسك هذا السؤال: مَن يقضي مصالحك كلها؟ . إنه الحق سبحانه الذي سخر أشياء ليست في طوق قدرتك، أأرغمت الشمس أن تشرق لك بالضوء والحرارة؟ . أأرغمت الماء أن يتبخر وينزل مطراً نقيًّا؟ أأرغمت الريح أن تهب؟ أضربت الأرض لتقول لها: غذّي ما أضعه فيك من بذر بالعناصر اللازمة له والمحتاج إليها لينتج النبات؟ . كل هذا ليس في طوق إرادتك بل هو مسخر لك بأمر الله. وإن أردت الاستقامة في أمرك، لكنت كالمسخر فيما جعل الله لك فيه اختيار ولقلت لله: أنا أحب منهجك يا رب وما يطلبه مني سأنفذه قدر استطاعتي. فتكون بقلبك وقالبك مع أوامر المنهج ونواهيه، فينسجم ويتوافق الكون معك كما انسجم الكون المسخر المقهور المسير. {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ، وهذا تذكير بأن كل شيء مملوك لله وفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2697 طاعته، فلا تشذ أيها الخليفة لله عن الكون، فكل ما فيه يخدمك. ولتسأل نفسك: أتعيش في ضوء منهج الله أم لا؟ لأن الكون قد انسجم وهو مسخر لله، ولم يحدث أي خلل في القوانين الكلية، وسبحانه القائل: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 7 - 9] وهذا إيضاح من الحق تبارك وتعالى: إن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الاختيارية فانظروا إلى الكون، فالأشياء المسخرة لا يحدث منها خلل على الإطلاق، ولكن الخلل إنما يأتي من اختيارات الإنسان لِغير منهج الله. {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله} يوضح سبحانه: لقد وصينا الذين أنزلنا إليهم المنهج من قبلكم، ووصيناكم أنتم أهل الأمة الخاتمة أن التزموا المنهج بالأوامر والنواهي؛ لتجعلوا اختياراتكم خاضعة لمرادات الله منكم حتى تكونوا منسجمين كالكون الذي تعيشون فيه، ويصبح كل شيء يسير منتظماً في حياتكم، ولم يقل الحق هذه القضية للمسلمين فقط لكنها قضية كونية عامة جاء بها كل رسول: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} . ولم يقل: شرعنا للذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ولم يقل: فرضنا، إنما قال: «ولقد وصينا» . وكلمة «وصية» تشعر المتلقي لها بحب الموصي للموصَى. {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله} وتقوى الله تعني أن نفعل أوامر الله وأن نتجنب نواهيه؛ لنحكم حركة اختياراتنا بمنهج ربنا، فإن حكمنا حركة اختياراتنا بمنهج الله صرنا مع الكون كأننا مسخرون لقضايا المصلحة والخير. ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله غَنِيّاً حَمِيداً} ومقابل الكفر هو الإيمان، ومن يخرج عن الإيمان فالله غني عنه، فلا تعتقدوا أيها المخاطبون بمنهج الله أنني أستميلكم إلى الإيمان لأني في حاجة إلى إيمانكم، لا، لكني أريد منكم فقط أن تكونوا مجتمعاً سليماً، مجتمعاً سعيداً، وإن تكفروا فسيظل الملك كله لله، وستظل حتى - ولو كنت متمرداً - في قبضة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2698 مرادات ربك. فلن تتحكم في مولد أو في ممات أو في مقدورات. فالكون ثابت وسليم. وجاء القرآن باللفت إلى انتظام الكون يقول الحق: {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الخروج} [ق: 6 - 11] وفي لحظة من اللحظات يأمر الحق كوناً من كونه فيختل نظامه فترى الأرض المستقرة وقد تزلزلت، والتي قال عنها سبحانه: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] وسبحانه هو الذي يملكها فيجعلها تضطرب ويُحدث في موقع منها زلزالاً، فتندثر المباني التي عليه حتى تفهم أن الدنيا ليست محكومة حكماً ألياً، بل محكومة بالأسباب، وزمامها مازال في قيومية المسبب، ونلتفت مرة إلى بعض من الزوابع من التراب وهي تغلق المجال الجوي كله بحيث لا يستطيع واحد أن ينظر من خلاله، وهذا لفت من الله لنا يوضح: لقد صنعت هذه القوانين بقدرتي، ولن تخرج هذه القوانين عن طلاقة قدرتي. ونرى بلاداً تحيا على أمطار دائمة تغذي الأرض، فنجد الخضرة تكسو الجبال ولا نجد شبراً واحداً دون خصوبة أو خضرة أو شجر، وقد يظن ظان أن هذه المسألة أمر آلي، ويأتي الحق ليجري على هذه المنطقة قدر الجفاف فيمنع المطر وتصير الأرض الخصبة إلى جدب، وتنفق وتهلك الماشية ويموت البشر عطشاً، وذلك ليلفتنا الحق إلى أن المسألة غير آلية ولكنها مرادات مُريد. وفي موقع آخر من الكرة الأرضية نجد أرضاً منبسطة هادئة يعلوها جبل جميل، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2699 وفجأة تتحول قمة الجبل إلى فوهة بركان تلقي الحمم وتقذف بالنّار وتجري الناس لتنقذ نفسها، ولذلك علينا أن نعرف أن عقل العاقل إنما يتجلى في أن يختار مراداته بما يتفق مع مرادات الله، وعلى سبيل المثال. . لم يؤت العقل البشري القدرة الذاتية على التنبؤ بالزلازل، لكن الحمار يملك هذه القدرة. {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله غَنِيّاً حَمِيداً} وصدر الآية بالمقولة نفسها: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} وذلك لتثبيت وتأكيد ضرورة الطاعة لمنهج الله حتى ينسجم الإنسان مع الكون. وتجيء المقولة مرة ثانية في الآية نفسها ليثبت الحق أنه غنيّ، ولا تقل إن المقولة تكررت أكثر من مرة في الآية الواحدة، ولكن قل: إن الحق جاء بها في صدر الآية لتثبت المعنى، وجاءت في ذيل الآية لتثبت معنى آخر، فسبحانه هو الغني عن العباد: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ومجيء {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} لإثبات حيثية أن يطيع العبد خالقه. ومجيء {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} في ذيل الآية لإثبات حيثية غنى الله عن كل العباد. والمقولة نفسها تأتي في الآية التالية حيث يقول سبحانه: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2700 ومجيء المقولة لثالث مرة لطمأنة الإنسان أن الله يضمن ويحفظ مقومات الحياة. فلن تتمردالشمس يوماً ولا تشرق. أو يتمرد الهواء ولا يهب. أو تضن الأرض عليك عناصرها؛ لأن كل هذه الأمور مسخّرة بأمر الله الذي خلقك وقد خلقها وقدّر فيها قوتك. ولذلك يوضح ربنا: أنا الوكيل الذي أكلفكم وأكفيكم وأغنيكم عن كل وكيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2700 والوكيل هو الذي يقوم لك بمهامك وتجلس أنت مرتاح البال. والإنسان منا عندما يوكل عنه وكيلاً ليقوم ببعض الأعمال يحسّ بالسعادة على الرغم من أن هذا الوكيل الذي من البشر قد يُخطئ أو يضطرب أو يخون أو يفقد حكمته أو يرتشي، لكن الحق بكامل قدرته يطمئن العبد أنه الوكيل القادر، فلتطمئن إلى أن مقومات وجودك ثابتة؛ فسبحانه مالك الشمس فلن تخرج عن تسخيرها، ومالك المياه ومالك الريح ومالك عناصر الأرض كلها. ومادام الله هو المليك فهو الحفيظ على كل هذه الأشياء. وهو نعم الوكيل؛ لأنه وكيل قادر وليس له مصلحة. وتعالوا نقرأ هذا الحديث: فقد ورد أن أعرابيا جاء فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلما صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أتقولون هذا أضل أم بعيره ألم تسمعوا ما قال؟» قالوا: بلى، قال: «لقد حَظرت رحمة واسعة. إن الله - عَزَّ وَجَلَّ - خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جِنّها وإِنْسها وبهائمها وأَخَّر عنده تسعاً وتسعين رحمة أتقولون هو أضل أم بعيره» . هو إذن كفى بالله وكيلاً وهو نعم الوكيل، وهو يطمئن عباده ويببن أنه - سبحانه - هو القيوم، وتعني المبالغة في القيام، إذن كل شيء في الكون يحتاج إلى قائم؛ لذلك فهو قيوم. ويوضح الحق لكل إنسان: أَنِ اجتهد في العمل وبعد أن تتعب نم ملء جفونك؛ لأني أنا الحق لا تأخذني سنة ولا نوم. فهل هناك وكيل أفضل من هذا؟ . {وكفى بالله وَكِيلاً} . ثم يأتي الحق بحيثية أخرى تؤكد لنا أنه غني عن العالمين، فلا يكفي أن يقول: إنه غني وإنه خلق كل ما في السموات وما في الأرض، وإن كفرت أيها الإنسان فالذنب عليك، وإن آمنت فالإيمان أمان لك، وأوضح: إياكم أيها البشر أن تعتقدوا أنكم خُلِقْتُم وشردتم وأصبحتم لا سلطان لله عليكم. لا. فالله سبحانه يقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2701 {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2702 وبعض الفاقدين للبصيرة من الفلاسفة قالوا: صحيح أن الله قد خلقنا ولكنا خرجنا من دائرة نفوذه. لا، بل سبحانه إن شاء لذهب بكم جميعاً وأتى بآخرين، وما ذلك على الله بعزيز، وهو القائل: {وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً} . حين نقرأ «كان» بجانب كلمة «الله» فهي لا تحمل معنى الزمن؛ فالله قدير حتى قبل أن يوجد مقدور عليه، فلم يكن قديراً فقط عندما خلق الإنسان، بل بصفة القدرة خلق الإنسان؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس أغيار؛ لذلك يظل قديراً وموجودا في كل لحظة، وهو كان ولا يزال. ومن بعد ذلك يقول الحق: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2702 ومادام الرسل قد أبلغوا الإنسان أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة فلمَ الغفلة؟ ولمَ لا تأخذ الزيادة؟ ، ولماذا نذهب إلى صفقة الدنيا فقط مادام الحق يملك ثواب الدنيا من صحة ومال وكل شيء، وإن اجتهد الإنسان في الأسباب يأخذ نتيجة أسبابه. فالحق يقول: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2702 ولم يقل الحق: إن «الآخرة» في مقابلة للدنيا؛ وأن من يأخذ الدنيا لن يأخذ الاخرة أو العكس، بل يريد - سبحانه للإنسان أن يأخذ الدنيا والآخرة معاً، فيا من تريد ثواب الدنيا لا تحرم نفسك بالحمق من ثواب الآخرة. وكلمة «ثواب» فيها ملحظ؛ فهناك أشياء تفعل لك وإن لم تطلب منها أن تفعل، وتنتفع بعملها وإن لم تطلب من الأشياء أن تفعل. وهناك أشياء أخرى تنفعل بحركتك، فإن تحركت وسعيت وعملت فيها تعطك. مثال ذلك الأرض، فإن بذرت فيها تخرج الزرع، واختلافات الناس في الدنيا تقدماً وتأخراً وحضارة وبداوة وقوة وضعفاً إنما تأتي من القسم الذي ينفعل للإنسان، لا من القسم الذي يُفْعَل للإنسان. ويسخر له، وتقدم بعض البشر في الحضارة إنما جاء لأنهم بحثوا في المادة والعناصر، وأنجزوا إنجازات علمية هائلة في المعامل، فإن أردت أن تكون متقدماً فعليك أن تتعامل مع العناصر التي تنفعل لك، والأمم كلها إنما تأخذ حضارتها من قسم ما ينفعل لها، وهم والمتأخرون شركاء فقط فيما يُفعل لهم ويسخَّر لصالحهم. وإن أردنا الارتقاء أكثر في التحضر. . فعلينا أن نذهب إلى ما يُفْعل ويسخّر لنا ونتعامل نعه حتى ينفعل لنا. . كيف؟ . الشمس تمدنا بالضوء والحرارة، ونستطيع أن نتعامل مع الشمس تعاملاً آخر يجعلها تنفعل لنا، مثلما جئنا بعدسة اسمها «العدسة اللاّمة» التي تستقبل أشعة الشمس وتتجمع الأشعة في بؤرة العدسة؛ فتحدث حرارة تشعل النار، أي أننا جعلنا ما يُفْعَل لنا يتحول إلى منفعل لنا أيضاً. ويسمون ذلك الطموح الانبعاثي. والمطر يفعل للإنسان عندما ينزل من السماء في وديان، ويستطيع الإنسان أن يحوله إلى منفعل عندما يضع توربينات ضخمة في مسارات نزوله فينتج الكهرباء. إذن فحضارات الأمم إنما تنشأ من مراحل. المرحلة الأولى: تستخدم ما ينفعل لها، والمرحلة الثانية: ترتقي فتستخدم ما ينفعل معها. والمرحلة الثالثة: تستخدم ما يفعل لها كمنفعل لها؛ مثال ذلك استخدام الطاقة الشمسية بوساطة أجهزة تجمع هذه الطاقة ارتقاءً مع استخدام ما يفعل للإنسان لينفعل مع الإنسان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2703 وأسمى شيء في الحضارة الآن هو أشعة الليزر التي تصنع شبه المعجزات في دنيا الطب. وكلمة «ليزر» مأخوذة كحروف من كلمات تؤدي معنى تضخيم الطاقة بواسطة الانبعاث الاستحثائي، فكلمة «ليزر» - إذن - مثلها كلمة «ليمتد» فاللام من كلمة. والياء من كلمة، والتاء من كلمة، والدال من كلمة، وذلك لتدل على مسمّى. وترجمة مسمّى «ليزر» هو تضخيم الطاقة عن طريق الانبعاث الاستحثائي. ففيه انبعاث تلقائي هو مصدر الطاقة الذي يُفعل للإنسان وإن لم يطلبه، أما الانبعاث الاستحثائي فينتج عندما يحث الإنسان الطاقة لتفعل له شيئاً آخر. والانبعاث التلقائي متمثل في الشمس فتعطي ضوءا وحرارة. وعندما جلس العلماء في المعامل وصمموا العدسة التي تنتج هذه الأشعة أهاجوها وأثاروها وأخذوا ليصنعوا منها طاقة كبيرة. وهكذا أنتجوا أشعة الليزر التي هي تضخيم للطاقة عن طريق الانبعاث الاستحثائي، ولأن العنوان طويل فقد أخذوا من كل كلمة حرفاً وكوّنوا كلمة «ليزر» . إذن فالارتقاءات الحضارية تأتي عن طريق تعامل الإنسان مع القسم الذي ينفعل للإنسان، واستحثاث واستخدام ما يُفعل له بطريقته التلقائية لينفعل معه كأشعة الشمس مثلا. وجئنا بذكر كل ذلك من أجل أن نستوضح آفاق قول الحق: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا} . وكلمة «ثواب» إذن توحي بأن هناك عملاً، فالثواب جزاء على عمل. فإن أردت ثواب الدنيا، فلا بد أن تعمل من أجل ذلك. فلا أحد يأخذ ثواب الدنيا بدون عمل. ومن عظمة الحق ولطفه وفضله ورحمته أن جعل ثواب الدنيا جائزة لمن يعمل، سواء آمن أم كفر، ولكنه خص المؤمنين بثواب باق في الآخرة. ولذلك يقال: «الدنيا متاع» . ويزيد الحق على ذلك: {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} . ومن الحمق أن يوجد طريق يعطي الإنسان جزاءين ثم يقصر همته على جزاء واحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2704 وهنا ملحظ آخر؛ فحينما تكلم الحق عن ثواب الدنيا، دل على أنه لا بد من العمل لنأخذ الدنيا، ولم يذكر الحق ثواباً للآخرة، بل جعل سبحانه الثواب للاثنين. . الدنيا والآخرة، إذن فالذي يعمل للدنيا من المؤمنين إنما يأخذ الآخرة أيضاً؛ لأن الآخرة هي دار جزاء، والدنيا هي مطية وطريق وسبيل. فكأن كل عمل يفعله المسلم ويجعل الله في باله. . فالله يعطيه ثواباً في الدنيا، ويعطيه ثواباً في الآخرة. ويذيل الحق الآية: {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} - إذن - فثواب الدنيا والآخرة لا يتأتى إلا بالعمل، والعمل هو كل حدث يحدث من جوارح الإنسان، القول - مثلاً - حدث من اللسان، وهو عمل أيضاً، والمقابل للقول هو الفعل. فالأعمال تنقسم إلى قسمين: إلى الأقوال وإلى الأفعال. ولتوضيح هذا الأمر نقرأ قول الحق: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 17 - 19] وعندما سمع الأغنياء هذا القول عرفوا سلوكهم، ولما سمع الفقراء هذا القول، كأنهم قالوا: نحن لا نملك ما نطعم به المسكين، فكان في قوله تعالى: {وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} ما يوضح لهم الطريق إلى العطاء: أي حضوا غيركم على العطاء. أي أن الذي لا يملك يمكنه أن يكلم الغني ليعطي المسكين، والحضُّ هو كلام. والكلام من العمل. والحق سبحانه وتعالى يستنفر المؤمنين لينصروا دين الله فيقول: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91] هو سبحانه أعفى الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون في القتال وأسقطه عنهم ولم يحاسبهم عليه، ولكن في الآية نفسها ما يُحدد المطلوب من هؤلاء، وهو أن ينصحوا لله ورسوله. إذن فغير القادر يمكنه أن يتكلم بفعل الخير ويذكِّر به الآخرين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2705 وينصح به، هذا هو معنى قول الحق: {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} فسبحانه يسمع قول مّن لا يستطيع ولا يملك القدرة على سلوك ما، وسبحانه بصير يرى صاحب كل سلوك. إذن فثواب الدنيا يحتاج إلى عمل، والعمل هو انفعال كل جارحة بمطلوبها، فاللسان جارحة تتكلم، واليد تعمل، وكل جوارح الإنسان تعمل، لكن ما عمل القلوب؟ عمل القلوب لا يُسمع ولا يُرى، ولذلك قال الحق عن إخلاص القلب في حديث قدسي: «الإخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي» وهكذا نعرف أن نية القلوب خاصة بالله مباشرة ولا تدخل في اختصاص رقيب وعتيد وهما الملكان المختصان برقابة وكتابة سلوك وعمل الإنسان، ولذلك نجد الحق يصف ذاته في مواقع كثيرة من القرآن بأنه لطيف خبير، لطيف بعلم ما يدخل ويتغلغل في الأشياء، وخبير بكل شيء وقدير على كل شيء. ونجد الحديث الشريف يقول لنا: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» . فالعمل يكون بالجوارح، ومن الجوارح اللسان، وحتى نضبط هذه المسألة لنفرق ما بين الفعل والعمل. نقرأ ونفهم هذه الآية: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ونجد المقابل للقول هو الفعل. والكل عمل. ويأتي نوع آخر من الأعمال، لا هو قول ولا هو فعل، وهو «النية القلبية» . وعندما يقول الحق: إنه كان سميعاً بصيراً، فالمعنى سميع للقول، وبصير بالفعل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2706 ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2707 وساعة ينادي الحق عباده المؤمنين قائلاً: يا أيها الذين آمنوا، فكأنه يقدم حيثية الحكم الذي يأتي بعده، ونحن نرى القضاء البشري قبل أن ينطق بمنطوق الحكم، يورد حيثيته، فيقول: «بما أن المادة القانونية رقم كذا تنص على كذا، حكمنا بكذا» . إذن: فالحيثيات تتقدم الحكم. وحيثيات الحكم الذي يحكم به الله هي الإيمان به، مثل قول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] حيثية الكتابة هنا وفي أي حكم آخر هي إيمان العبد بالله رباً، فليسمع العبد من ربه. وسبحانه لا يكلف كل الناس بالتكاليف الإيمانية، ولكنه يكلف المؤمنين فقط. وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} فالمؤمن يدخل على الإيمان بقمة القِسط، فالقسط هو العدل، والعدل أن يعطي العادل كل ذي حق حقه. وحق الإله الواحد أن يؤمن به الإنسان ويعترف أنه إله واحد. إن قمة القِسط - إذن - هي الإيمان. ومادام المؤمن قد بدأ إيمانه بقمة القِسط وهو الإيمان، فليجعل القِسط سائداً في كل تصرفاته. وإياك أن تجعل القسط أمراً أو حدثاً يقع مرة وينتهي، وإلا لما قال الحق مع إخوانك المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2707 ولم يقل الحق لك مع إخوانك المؤمنين: كونوا قائمين بالقسط، بل قال {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} أي أن المطلوب هو الاستمرارية للسلوك العادل. فنحن نقول: «فلان قائم» و «فلان قَوَّام» . ونعرف أن كلمة «قَوَّام» هي صيغة مبالغة. وعلى ذلك يكون الأمر الألهي لكل مؤمن: لا تقم بالقسط مرة واحدة فقط، بل اجعله خصلة لازمة فيك، ولتفعل القسط في كل أمور حياتك. والقِسط كما علمنا من قبل في ظاهر أمره هو العدل، وأيضاً الأقساط هي العدل. وقد احدثت كلمة «القسط» ضجة عند العلماء، وقلنا تعليقا على ذلك: إن المسألة بسيرة. . فقسط يقسُط قسوطاً أي جار وظلم، فإذا أذهب الإنسان الجور والظلم يقال: «أقسط فلان» أي أذهب الجور. إذن: «القِسط - بكسر القاف - هو العدل الابتدائي، لكن الإقساط هو عدل أزال جوراً كان قد وقع. وهب أن أناساً جاءوا لقاضٍ فحكم بينهم بالعدل، فهذا هو القِسط، وقد يستأنف أحد الطرفين حكم المحكمة الابتدائية ووجدت محكمة الاستئناف خطأ في التطبيق فأصدرت حكماً بإزالة الجور، وهذا الحكم الذي من الدرجة الثانية اسمه إقساط. وهكذا ينتهي جدل العلماء حول هذه المسألة، فالقِسط عدل من أول درجة، والإقساط يعني أنه كان هناك جور فرُفِع، لأنه مسبوق بهمزة اسمها» همزة الإزالة «، فيقال: أعجم الكتاب. أي أن الكتاب كان فيه عجمة، أي كان بالكتاب شيء مستتر وخفيّ أي يعطي معاني الألفاظ فيزيل خفاءها. وكذلك معنى «أقسط» أي أزال الجور. والحق يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} فأنت أيها المؤمن قد فعلت بالعقل أول مرتبة في القسط؛ ورددت الإيمان إلى الرب فهو المستحق له فقط، بل لابد أن تكون الشهادة لله. لماذا؟ . هب أن رجلاً كافراً بالله - والعياذ بالله - ويقيم العدل بين الناس لكنه لا يدخل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2708 بذلك العدل في حيثية الإيمان، فالذي يدخل في حيثية الإيمان يكون قائماً بالقسط وفي باله الله وبذلك تكون الشهادة وإقامة حقوق الله لا لمنفعةٍ ولا لغايةٍ ولا لهوى ولا لغرضٍ، وإنما ليستقيم كون الله كما أراد الله، وإلا لو حكم أحد بهوى لفسدت الأرض، والحق يقول: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] لذك لا بد أن يكون المؤمن قوّاماً بالقسط وفي باله الله، ولذلك فالقيام بالقسط وحده لا يكفي، ونحن نسمع: فلان عادل ولو أنه من ديانة أخرى غير الإسلام أو كان ملحداً. ونقول: هذا العادل من أي دين أو عقيدة غير الإسلام يأخذ ثناء البشر لكنه لا يأخذ ثناء الله ولا ثوابه، ولذلك فالقوّام بالقسط يجب أن يفعل بقصد امتثال أمر الله لينال الثواب من الله. {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ} والشاهد في العادة هو من يشهد لمصلحة واحد ضد آخر، وعندما يقر الشاهد بذنب فهو قد شهد على نفسه، والشاهد لمصلحة واحد إنما يفعل ذلك ليرجح الحكم، والشاهد على نفسه يقر بما فعل، والإقرار سيد الأدلة. وشهادة الشاهد تقدم للقاضي الدليل الذي يرتب عليه الحكم. وهكذا يشهد المؤمن على نفسه. وهناك معنى آخر: أنه يشهد على نفسه ولو كانت الشهادة تجر وبالا عليه، وهذه المعاني من معطيات الإشعاعات القرآنية؛ فالمؤمن يشهد على نفسه للإقرار، وقد لا تكون الشهادة على النفس بل قد تكون الشهادة واجبة عليه يؤديها لمصلحة غيره ولا يخاف فيها الشاهد من السلطان حتى وإن جار السلطان على المؤمن وأصابه بوبال في نفسه أو ماله، ومن الناس من أصابه وبال في نفسه أو أهله من السلطان لمجرد كلمة حق قيلت. فالسلطان قد لا يأخذ الإنسان بذنبه، بل قد يأخذ أهل الإنسان بهذا الذنب. والحق يوضح للعبد: لا تهتم بذلك ولا تقولن سيعذبون العيال أو سيأخذون كل شيء، إنني أنا الموجود المتكفل بعبادي. ويطلب الحق من المؤمنين: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2709 الوالدين والأقربين} . وحين يشهد الإنسان على نفسه فلن يكون أبوه أو أمه أو أحد أقاربه أعز منه. ثم يدخل بنا الحق إلى أن استحثاثات مخالفة العدالة تدخل فيها الأهواء، وحين يرجح إنسان الباطل غير الواقع على حق واقع، فالمرجح هو هوى النفس، ومنشأ الهوى أن يكون المشهود عليه غنياً فيخاف الإنسان أن يشهد عليه، فيمنعه من خير ما. ولذلك حدد الحق قوامة المؤمنين بالقسط والشهادة لله ولو على النفس أو الأب أو الأم أو الأقارب، ولا يصح أن يضع أحد من المؤمنين ثراء أو فقر المشهود له أو عليه في البال، بل يجب أن يكون البال مع الله فقط؛ لذلك قال: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ} . وقد يقول قائل: إن الهوى قد ينحاز إلى الغنيّ طمعاً في ثرائه؛ فلماذا يذكر الله الفقير أيضاً؟ ونقول: قد ينحاز الهوى إلى الفقير رحمةً بالفقير فيحدِّث الشاهد نفسه «أنه فقير ويستحق الرحمة» ؛ لذلك يحذرنا الحق من الانحياز إلى الغني أو إلى الفقير. ولا دخل للشهادة بثراء الثري أو بفقر الفقير؛ لأن العبد المؤمن ليس أولى او أحق برعاية مصالح الناس من خالقهم - جل شأنه - ولذلك جاء بالحيثية الملجمة {فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ} أي أنك أيها العبد لم تخلق أحداً منهما ولكن الله خالق الاثنين وهو أولى بهما فليس لك أن تقيم شهادتك على الثراء أو على الفقر لأنك لست القَيّم على الوجود. والذي يفسد ويشوش على العدل هو الهوى، والمثل العربي يقول: «آفة الرأي الهوى» . وإياكم أيها المؤمنون واتباع الهوى حتى لا تفسد قدرتكم على العدل وتجنحوا بعيداً عنه. والتاريخ العربي يحتفظ لنا في ذاكرته حكاية رجل فاضل ذهب إلى الخليفة وقال له: أعفني من القضاء! فقال الخليفة: فمن يكون للقضاء إذن وأنت العادل الذي شهد له كل الناس بذلك؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2710 فقال القاضي: والله يا أمير المؤمنين لقد عرف الناس عني أني أحب الرُّطب - أي البلح - وبينما أنا في بيتي وإذا بالخادم قد دخل ومعه طبق من رطب وكنا في بواكير الرطب، ومن الطبيعي أن تكون النفس في لهفة عليه مادامت تحبه، ويتابع القاضي حكايته للخليفة: فقلت للخدام من جاء به؟ فأجاب الخادم: إنه واحد صفته كذا وكذا فتذكرت أن مَن أرسل الرطب هو واحد من المتقاضين أمامي، فرددت عليه الرطب، ولما كان يوم الفصل في قضية صاحب الرطب، دخل الرجل عليّ فعرفته فوالله يا أمير المؤمنين ما استويا في نظري هو وخصمه على الرغم من أني رددت الطبق. وهكذا استقال القاضي العربي المسلم من منصب القضاء. ويتابع الحق سبحانه: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . أن تلووا في الشهادة والليّ هو التحريف. . أي تحرفوا الشهادة وتغيروها، فإن الله بما تعملون خبير، أو أن يُعْرِض الشخص عن أداء الشهادة لأنه يخاف من المشهود عليه؛ لذلك يقال: إنه خائف من المشهود عليه؛ لأن الشهادة ترجح حكم المشهود له؛ لهذا فهو يعرض عن الشهادة، وإن جاء للشهادة فهو يلف الكلمات ويلوي لسانه بها؛ لذلك يقول الحق: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . إذن فالذي يفسد العدل هو الهوى، والهوى عمل القلب؛ لذلك نحتاج إلى خبرة الخبير اللطيف. فعلينا أن نعلم أن النيات عمل القلوب، وبذلك صار العمل ينقسم الآن أمامنا إلى ثلاثة أقسام: قول لسان، وفعل بجوارح غير اللسان، ونيات قلوب وهوى. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2711 وقد يقول إنسان ما: كيف يقول الحق في صدر هذه الآية منادياً المؤمنين بالإيمان فقال: أمَنُوا، وبعد ذلك يطالبهم بأن يؤمنوا؟ ونقول: نرى في بعض الأحيان رجلاً يجري كلمة الإيمان على لسانه ويعلم الله أن قلبه غير مصدق لما يقول، فتكون كلمة الإيمان هي حق صحيح، ولكن بالنسبة لمطابقتها لقلبه ليست حقاً. وتعرضنا من قبل لقول الحق: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] لقد شهد المنافقون أن رسول الله مرسل من عند الله، هذه قضية صدق، لكن الله العليم بما في القلوب يكشف أمرهم إلى الرسول فيقول: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] لقد وافقت شهادتهم بألسنتهم ما علمه الله. لكن القول منهم يخالف ما في قلوبهم، فشهد الحق إنهم لكاذبون. ويعلم سبحانه كذبهم في شهادتهم؛ لأن المنافق منهم لم يشهد صحيح الشهادة؛ لأن الشهادة الحقة هي أن يواطئ اللسانُ القلبَ. وبعض من الأغبياء الذين يحاولون الاستدراك على القرآن قد عميت بصيرتهم عن الإحساس باللغة والفهم لأسرارها؛ لذلك يتخبطون في الفهم. فهم لا يعرفون صفاء التلقي عن الله. وقالوا: إن بالقرآن تضارباً، ولم يعرفوا أن كذب المنافقين لم يكن في مقولة: إن محمداً رسول الله، ولكن في شهادتهم بذلك، وكذبهم الله في قولهم: «نشهد» فقط، فقد أعلنوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم. وإن أردنا أن نفهم أن الخطاب للمؤمنين عامة، بأن يؤمنوا، فهذا طلب للارتقاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2712 بمزيد من الإيمان، ولنا في قول الحق المثل الواضح في حديثه للنبي؛ قال الحق: {ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب: 1] الحق هنا يقول للمتقي الأول محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتق الله» ، أي يأمره بالقيام دائماً على التقوى. إذن فمعنى قول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} أن الحق يخاطبكم بلفظ الإيمان. ويريد أن يتصل إيمانكم بعد كلامه الحق مع إيمانكم قبل كلامه، فلا ينقطع ولا ينفصم خيط الإيمان أبداً. بل لا بد من المداومة على الإيمان، وألا يترك مؤمن هذا الشرف. فإن رأى واحد منكم منادًى بوصف طُلبِ منه الوصفُ بعده فليعلم أن المراد هو المداومة. ونعلم أن الحق هنا يخاطب مؤمنين ومنافقين وأهل كتاب؛ لذلك فلا بد أن تشملهم الآية: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} لأن الإنسان إن آمن بالله فقط، فهذا يقتضي أن يبحث المؤمن بالله عن مطلوب الله، ومطلوب الله إنما جاء به رسول؛ لذلك فالإيمان بالله يقتضي أن يؤمن الإنسان برسول، لأن قصارى ما يعطيك العقل أيها الإنسان أن تؤمن بأن وراء الكون إلهاً خلقه ويدبره. ولكن ما اسم هذا الإله؟ لا يعرف الإنسان ذلك إلا عن طريق الرسول. إن هذه أمور لا تعرف بالعقل ولكن لا بد من الإخبار بها، وكذلك مطلوبات الله، وكذلك جزاء المؤمنين على حسن إيمانهم، ولذلك لا بد من مجيء رسول للبلاغ. إذن فلا بد مع الإيمان بالله أن تؤمن بالرسول. ومادمت أيها المؤمن قد آمنت برسوله فلا بد أن تؤمن بالكتب التي جاءت على لسان الرسول. وهذه الكتب تقول لك: إن هناك خلقاً لله لا تراهم وهم الملائكة، والمَلَكُ يأتي بالوحي وينزل به على الرسول، على الرغم من أنك لم تر الملك فأنت تؤمن بوجوده. إذن فالقمة الإيمانية هي أن تؤمن بالله، ولازمها أن تؤمن برسول الله، وأن تؤمن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2713 بكتاب مع الرسول، وأن تؤمن بما يقوله الله عن خلق لا تستطيع أن تدركهم كالملائكة. وهذا الأمر بالإيمان هو مطلوب من أهل الكتاب لأنهم آمنوا برسلهم، ويطلب منهم أن يؤمنوا برسول الله وبما أُنزل عليه. ويترك الحق سبحانه وتعالى لخلقه أن يكتشفوا وجوداً لكائنات لم تكن معلومة لأنهم حُدِّثوا بأن في الكون كائنات أبلغنا الله بوجودها ولا ندركها وهم الملائكة. - إذن - فالدليل عندهم يحثهم ويدفعهم إلى الكشف والبحث. والمثال على ذلك الميكروب الذي لم تعرفه البشرية إلا في القرن السابع عشر الميلادي، وكان الميكروب موجوداً من البداية، لكننا لم نكن ندركه، وبعد أن توصلت البشرية إلى صناعة المجاهر أدركناه وعرفنا خصائصه وفصائله وأنواعه، ومازالت الاكتشافات تسعى إلى معرفة الجديد فيه، هو جديد بالنسبة لنا، لكنه قديم في وجوده. ومعنى ذلك أن الله يوضح لنا: إذا حُدثَت أيها الإنسان من صادق على أن في الكون خلقاً لا تدركه أنت الآن فعليك بالتصديق؛ فقبل اكتشاف الميكروب لو حدث الناسَ أحدٌ بوجود الميكروب في أثناء ظلام العصور الوسطى لما صدقوا ذلك، على الرغم من أن الميكروب مادة من مادة الإنسان نفسها لكنه صغير الحجم بحيث لا توجد آلة إدراك تدركه. وعندما اخترعنا واكتشفنا الأشياء التي تضاعف صورة الشيء مئات المرات استطعنا رؤيته، فعدم رؤية الشيء لا يعني أنه غير موجود. فإذا ما حدثنا الله عن خلق الملائكة والجن والشيطان الذي يجري في الإنسان مجرى الدم، فهنا يجب أن يُصدق ويؤمن الكافر والملحد بذلك، لأنه يُصدق أن الميكروب يدخل الجسم دون أن يشعر الإنسان، وبعد ذلك يتفاعل مع الدم ثم تظهر أعراض المرض من بعد ذلك، وقد علم ذلك بعد أن تهيأت أسباب الرؤية والعلم. فإذا كان الله قد خلق أجناساً من غير جنس مادة الإنسان فلنصدق الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2714 والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ} [النساء: 136] والمعروف أن الكتاب هو القرآن وهو عَلَمٌ عليه، أما الكتاب الذي أنزل من قبل فلنعرف أن المراد به هو جنس الكتاب. . أي كل الكتب التي نزلت على الرسل السابقين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولذلك يقال على «ال» السابقة لكلمة الكتاب الثانية: «هي» «ال» الجنسية. والجنس كما نعلم - تحته أفراد كثيرة بدليل أن الحق سبحانه وتعالى يأتي بالمفرد ويدخل عليه الألف واللام ويستثنى منه جماعة، مثال ذلك: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 1 - 3] نجد «الإنسان» هنا مفرد، ودخلت عليه «ال» ، واستثنى من الإنسان جماعة هم الذين آمنوا، وهذا دليل على أن «الإنسان» أكثر من جماعة. ولذلك يقولون: إن الاستثناء معيار العموم. . أي أن اللفظ الذي استثنينا وأخذنا وأخرجنا منه لفظ عام. ويطالبنا الحق بالإيمان بالكتاب أي القرآن؛ فإذا أطلقت كلمة «الكتاب» انصرفت إلى القرآن؛ لأن «ال» هنا (للغلبة) ، مثال ذلك: يقال: «هو الرجل» ، وهذا يعني أنه رجل متفرد بمزايا الرجولة وشهامتها وقوتها، فإذا أطلقنا الكتاب فهي تعني القرآن؛ لأن كلمة الكتاب غلب إطلاقها على القرآن فلا تنصرف إلاّ إليه، أو أنه هو الكتاب الكامل الذي لا نسخ ولا تبديل له، ف «ال» هنا للكمال أما الكتاب الذي أُنزل من قبل فهو يشمل التوراة والإنجيل وسائر الكتب، والصحف المنزلة على الأنبياء السابقين. {وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} أي إن آمن بالله وكفر ببقية ما ذكر في الآية فهو كافر أيضا. وكان بعض اليهود كعبد الله بن سلام، وسلام بن أخته، وسلمة بن أخيه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2715 وأسد وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، ويامين بن يامين قد ذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: «نحن نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله «فقالوا: لا نفعل» . فنزلت فآمنوا كلهم . والخطاب والنداء يشمل أيضا المنافقين. أي يأيها الذين آمنوا في الظاهر نفاقا، أخلصوا لله واجعلوا قلوبكم مطابقة لألسنتكم، فالنداء - إذن - يشمل المؤمنين ليستديموا ويستمروا علىإيمانهم، ويضن الكافرين من أهل الكتاب ليؤمنوا بكل رسول وبكل كتاب، هو أيضا للمنافقين ليخلصوا في إيمانهم حتى تطابق وتوافق قلوبهم ألسنتهم. إذن فمن يكفر بأي شيء ذكره الله في هذه الآية فقد كفر بالله. {وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} و «ضل» أي سار على غير هدى، فعندما يتوه الإنسان عن هدفه المقصود يقال: ضل الطريق، والذي «ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً» هو من يذهب إلى متاهة بعيدة، والمقصود بها متاهة الكفر. وهناك ضَلال عن الهدى يمكن استدراكه، أما الضلال البعيد والغرق في متاهة الكفر فمن الصعب استدراكه، والضُلاَّلُ متحدون في نقطة البداية، لكنهم فريقان يختلفان، فأحدهما يسير في طريق الإيمان وهو منتبه دائماً إلى غايته وهي رضاء الله بتطبيق مطلوباته، ويحذر أن يخالف عن أمره، والآخر انحرف من البداية فوصل إلى متاهة الكفر. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2716 {إِنَّ الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2717 وهؤلاء هم المنافقون الذين أعلنوا الإيمان وأبطنوا الكفر وقال الله عنهم {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72] إذن، هم حولوا الإيمان من عقيدة إلى مجرد كلمة تقال، وكانوا في غاية الحرص على تأدية مطلوبات الإسلام بالأعمال الظاهرية حتى يدفعوا عن إسلامهم الريبة. أما قلوبهم فهي مع الكفر؛ لذلك أرادوا أن يُلَبِّسوا في المنطق ويُدَلسُوا فيه. {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] ويفضحهم الحق أمام أنفسهم. وبالله عندما يعرفون أنهم مجرد مسلمين باللسان ولكن قلوبهم لم تؤمن ويخبرهم الرسول بذلك ويقول لهم بلاغاً عن الله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} . وكانوا أسبق الناس إلى صفوف الصلاة، وعندما فضحهم الرسول وأوضح لهم: أنتم لو تؤمنوا ولكنكم أسلمتم فقط. هنا عرفوا أن محمداً قد عرف خبايا قلوبهم بلاغاً عن الله. ولو قالوا: إن محمداً هو الذي عرف هذه الخبايا لما اقتصر اعترافهم به كرسول، بَلْ رُبَّما تمادوا في الغيّ وأرادوا أن يجعلوه إلهاً. ولكن رسول الله يحسم الأمر: ويبيّن لهم أن الله هو الذي أبلغني، بدليل أنه أُمِر أن يقول لهم: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2717 ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقر بأن هذا الأمر ليس فيه شيء من عنده بل هو مأمور بالبلاغ عن الله ربِّه. وفي عصرنا قال برناردشو: إن الذين يكذبون أن محمداً رسول من عند الله يريدون أن يجعلوه إلهاً، فمن أين أتى بهذه الأشياء التي لم تكن معلومة في عصره؟ . . إن الناس جميعا مطالبون بالتصديق بمحمد رسولاً من عند الله؛ لأنه قال عن أشياء لا يمكن أن يقولها واحد من البشر. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذاته يوضح بحسم هذا الكلام ويبيّن أن هذا ليس من عندي، لكنه من عند الله. {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ. وهذا كشف محرج ومنطقي لما في قلوبهم؛ لهذا قال السامعون للآية: الحمد لله أن هناك أملاً في أن يدخل الإيمان قلوبنا. وقد دخل الإيمان في قلوبهم بالفعل لأن كلمة (لمَّا) تفيد نفي الإيمان عنهم في الزمن الماضي ولكنها تفيد أيضا توقع وحصول الإيمان منهم وقد حصل. {إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} أي ماتوا على الكفر، أو آمنوا بموسى، ثم كفروا بعيسى، وجاء أناس آخرون آمنوا بعيسى، وازدادوا كفراً بعدم الإيمان بمحمد، فليس من بعد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استدراك. ويخبرنا سبحانه بمصيرهم: {لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} لأنهم دخلوا في الإيمان مرة ثم خرجوا من الإيمان. ومعنى سلوكهم أنهم قصدوا الفتنة لأن الآخرين سيشاهدونهم وقد آمنوا، وسيشاهدونهم وهم يكفرون، وسيعللون ذلك بأنهم عندما تعمقوا في المسائل العقدية كفروا وهم يفعلون ذلك ليهوِّنوا من شأن الإسلام، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2718 هم إذن يقصدون الفتنة بإظهار الإيمان ثم أعلانهم الكفر وفي ذلك تشكيك للمسلمين، ويكون مصير مَن تردّدَ بَيْنَ الإيمان والكفر، وكان عاقبة أمرهم أنهم ازدادوا كفرا يكون مصيرهم ما جاء في قوله: {لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} فهم قد دخلوا في الخيانة العظمى الإيمانية التي يحكمها قوله الحق: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] ويقول الحق عنهم هنا: {لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} . والهداية - كما نعلم - ترد بمعانٍ متعددة. . فقد يكون المقصود منها الدلالة، فإن شئت تدخل الإيمان وإن شئت لا، ولا شأن لأحد بك. والمعنى الثاني هو المعونة، أي يقدم لك الله ما يهديك بالفعل. وعندما تعرض القرآن لهذه المسألة قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17] فسبحانه هنا قد دلهم على الهداية، ولم يقدم لهم الهداية الفعلية لأنهم استحبوا العمى على الهدى، فكأن الله قد دل على المنهج الذي يوصل الخير والبر لكل الناس، فمن أقبل بإيمان فالحق يمده بهداية المعونة ويعاونه على ازدياد الهدى، مصداقاً لقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] ولا نريد لهذا المثل أن يغيب عن الأذهان؛ لذلك أؤكده دائما: شرطي المرور الواقف في بداية الطريق الصحراوي. يسأله سائل: ذاهب إلى الاسكندرية عن الطريق؛ فيدله على الطريق الموصل للإسكندرية، هنا قام الشرطي بالدلالة، ثم شكر الرجلُ الشرطيَّ وحمد الله على حسن شرح الشرطي؛ ويحس ويشعر رجل المرور بالسعادة، ويحذر الرجل المسافر من عقبات الطريق، ويركب معه ليشير له على تلك العقبات حتى يتفاداها. أي أنه من بعد الدلالة قد حدثت المعونة. كذلك الحق يدل الناس على الإيمان وعلى المنهج، فالذي يؤمن به يساعده ويخفف عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2719 الطاعة، قال الحق سبحانه في شأن الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] إذن نحن نجد الهداية على مرحلتين: هداية الدلالة، وهداية المعونة. ويريد الحق لقضية الإيمان أن تكون قضية ثابتة متأصلة بحيث لا تطفو إلى العقل لتناقش من جديد. فمبدأ الإيمان لا يتغير في مواكب الرسالات من سيدنا آدم إلى أن ختمها بسيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 136] إذن سبحانه يريد من المؤمن أن يؤمن بالقمة العليا، وهي الإيمان بالله واجب الوجود الأعلى، وأن يؤمن بالبلاغ عنه كتاباً، وأن يؤمن بالبلاغ عنه رسالة على لسان أي رسول. والذين يؤمنون مرة برسول ثم يكفرون برسول آخر، أو الذين يؤمنون برسول ثم يكفرون بنسبة الصاحبة أو الولد لله ثم يزدادون كفراً بالخاتم وهو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس لهم مجال مع الهداية إلى الله؛ لأن الإسلام جاء بالنهاية الخاتمة وليس للسماء من بعد ذلك استدراك، وليس لأحد من بعد ذلك استدراك، ولذلك قال في أول الآية: {آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} . وقال في آخر الآية: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} أي أنهم لم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وليس هناك مجال أن ينتظروا رسولاً آخر لينسخوا كفرهم بمحمد ويؤمنوا بالرسول الجديد. ويوضح سبحانه: لم يكن الله ليهديهم لأنهم هم الذين صرفوا أنفسهم عنه، فالله لا يمنع الهداية عمن قدم يده ومدّها إليه، بل يعاونه في هدايته، أما من ينفض يده من يد الله فلا يبايعه على الإيمان فالله غني عنه، ومادام الله غنياً عنه فسيظل في ضلاله؛ لأن الهداية لا تكون إلا من الله. ولم يكن الله ليهديهم سبيلاً إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2720 هداية أخرى ولا هادي إلا هو. ولم يكن الله ليهديهم سبيلاً إلى الجنة؛ لأنهم لم يقدموا الأسباب التي تؤهلهم للدخول إلى الجنة. ولذلك يشرحها الله في آية أخرى: {لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [النساء: 168 - 169] وهكذا نجد طريق جهنم معبداً مُذَلَّلاً بالنسبة لهم. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {بَشِّرِ المنافقين ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2721 سمة التردد والتذبذب بين الإيمان والكفر لا تأتي من أصيل في الإيمان، بل تأتي من متلون في الإيمان، تبدو له أسباب فيؤمن، وبعد هذا تبدو له أغيار فيكفر. وذلك شأن المنافقين المذبذبين بين هؤلاء وهؤلاء. فيقول الحق: {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . ونحن نعلم أن المنافق هو الذي جمع بين أمرين: إعلان إسلام، وإبطان كفر. والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهي إحدى جحوره التي يستتر ويختفي فيها، واليربوع حيوان صحراوي يخادع من يريد به شراً فيفتح لنفسه بابين؛ يدخل أمام الرجل من باب ثم يخرج من باب آخر. فإن انتظره الرجل على باب فاليربوع يخرج من الآخر. {بَشِّرِ المنافقين} والبشارة هي الإخبار بشيء يسر سيأتي زمنه بعد. وهل المنافقون يبشرون؟ لا. إن البشارة تكون بخير؛ لذلك نتوقع أن ينذر المنافقون ولا يبشرون، ولكن لله في أساليبه البلاغية تعبيرات لتصعيد العذاب. فلو قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2721 أنذرهم بعذاب أليم، لكان الكلام محتملاً، فهم - كمنافقين - مستعدون لسماع الشر. ولكن الحق يقول: {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وذلك هو التهكم والاستهزاء والسخرية، وهي من معينات البليغ على أداء مهمته البلاغية. ونسمع المفارقات أحياناً لتعطينا صورة أصدق من الحقيقة. فإذا جئت إلى بخيل مثلاً، وقلت له: مرحباً بك يا حاتم. ماذا يكون موقف من يحضر هذا اللقاء؟ أنت تنقله من واقع البخيل إلى تصور حاتم الطائي أصل الكرم. وبذلك نقلت البخيل نقلتين: نقلة من وضعه كبخيل؛ ثم السخرية منه؛ لأن قولك لبخيل ما: يا حاتم هو تقريع وتهكم وسخرية واستهزاء، لأنك نقلته من وصف خسيس وحقير إلى وصف مقابل هو سَام ورفيعٍ وعظيم تحقيرا له واستهزاء به، ومن المقارنة يبدو الفارق الكبير. وإذا ما جئت مثلاً لرجل طويل جداً، وقلت: مرحبا بك يا قزم. هذه هي المفارقة، كما تقول لقصير: مرحبا يا مارد. أو إذا جئت لطويل لتصافحه، فيجلس على الأرض ليُسلم عليك. . هذه أيضاً مفارقة. وإن جئت لرجل قصير لتصافحه فتجلس على الأرض لتسلم عليه فهذه هي السخرية والتهكم. وهذه المفارقات إنما تأتي للأداء البلاغي للمعنى الذي يريده المتكلم، فقول الحق: {بَشِّرِ المنافقين} معناه: أنكم أيها المنافقون قد صنعتم لأنفسكم بالنفاق ما كنتم تحبون، وكأنكم نافقتم لأنكم تحبون العذاب. ومادمتم قد نافقتم لأنكم تحبون العذاب، فأنا أبشركم بأنكم ستتعذبون. والذي ينافق ألا يريد من ذلك غاية؟ لذلك يصور له الحق أن غايته هي العذاب، فقال الحق: {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . إنك حين تريد تصعيد أمر ما، فأنت تنقل مخاطبك من شيء إلى الشيء المقابل وهو النقيض، مثال ذلك: إنسان عطشان لأنه محجوز أو مسجون وأراد أن يشرب شربة ماء، من الممكن أن يقول له الحارس: لا. ويجعله ييأس من أن يَأتي له بكوب ماء، أما إذا أراد الحارس تصعيد العذاب له فهو يذهب ويأتي بكوب ماء ويقربه منه، فإذا مد السجين يده ليأخذ كوب الماء فيسكب الحارس كوب الماء على الأرض هذا هو تصيعد العذاب. وحين يقال: «بَشِّر» فالمستمع يفهم أن هناك شيئاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2722 يسر، فإذا قال الحق: {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فمعنى ذلك أن الغم يأتي مركباً. فقد بسط الحق أنفسهم بالبشارة أولاً، ثم أنهاها بالنذارة. وعلى سبيل المثال - ولله المثل الأعلى - يقول الأب لابنه: استذكر يا بني حتى لا ترسب، لكن الابن يستمر في اللعب ثم يقول الأب: يا بني لقد اقترب الامتحان ولا بد أن تذاكر. ولا يأبه الابن لكلام الأب، ثم يأتي الامتحان ويذهب الأب يوم اعلان النتيجة، فيكون الابن راسباً؛ فيقول الأب لابنه: أهنئك لقد رسبت في الامتحان! فقوله أهنئك تبسط نفس الابن؛ لأنه يتوقع سماع خبر سار، ويسمع بعدها لقد رسبت تعطيه الشعور بالقبض. والحق سبحانه وتعالى يبلغ رسوله: {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} «بشر» لها علاقة بالمدلول الاشتقاقي؛ لأن الانفعالات يظهر أثرها على بشرة وجهه؛ فإن كان الانفعال حزنا فالوجه يظهر عليه الحزن بالانقباض، وإن كان الانفعال سروراً فالوجه يظهر عليه السرور بالانبساط. وتعكس البشرة انفعالات النفس البشرية من سرور وبشاشة وإشراق أو عبوس وتجهم، فالبشارة تصلح للإخبار بخبر يسر، أو بخبر يحزن ويسيء، ولكنها غلبت على الخبر السار، وخصت النذارة بالخبر الذي يحزن وتنقبض النفس له. {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . والبشارة - كما قلنا - توحي بأن هناك خبراً ساراً، فيأتي الخبر غير سار. وكما يقول الحق في آية أخرى يصور بها عذاب الكافرين يوم القيامة وكيف أنّه يصعد العذاب معهم: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29] ساعة نسمع {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ} نفهم أن برداً يأتي لهم أو رحمة تهب عليهم، ولكن الإغاثة التي تأتي لهم هي: {كالمهل} [الكهف: 29] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2723 ويتساءل السامع أو القارئ: هل هذه إغاثة أو تعذيب؟ وهذا تصوير لتصعيد العذاب؛ فالماء الذي يعطى لهم كالمهل يصعِّد الألم في نفوسهم. والعذاب - كما نعلم - يأخذ قوته من المعذِّب، فإن كان المعذِّب ذا قوة محدودة، كان العذاب محدوداً. وإن كان المعذِّب غير محدود القوة فالعذاب غير محدود، فإذا ما نسب العذاب إلى قوة القوى وهو الله فكيف يكون؟ والعذاب يوصف مرة بأنه أليم، ومرة بأنه مهين، ومرة بأنه عظيم، هذه الأوصاف كلها تتجمع ولكل وصف منها جهة؛ فالألم هو إحساس النفس بما يتبعها، والعذاب العظيم هو العذاب الذي يبلغ القمة، وقد يبلغ العذاب القمة ولكن المعذِّب يتجلد، وعذاب الحق يفوق قدرة متلقي العذاب فلا يقدر أن يكتم الألم؛ لأن درجة تحمل أي إنسان مهما تجلد لا تستطيع أن تدفع الألم، ومع العذاب العظيم، نجده أليماً أيضا، فيكون العذاب الأليم العظيم مؤلما للمادة، لكن النفس قد تكون متجلدة متأبية، ثم تنهار، حينئذ يكون العذاب مهينا. ولأن المنافقين والكفار غارقون في المادية آثر الله وصف العذاب بأنه أليم لأن الإيلام يكون للمادة، ثم يذكر الحق سبحانه وتعالى بعض الأوصاف للمنافقين فيقول: {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2724 وأول مظهر من مظاهر النفاق أن يتخذ المنافقُ الكافرَ ولياً له؛ يقرب منه ويوده، ويستمد منه النصرة والمعونة، والمؤانسة؛ والمجالسة، ويترك المؤمنين. وعرفنا أن كل فعل من الأفعال البشرية لا بد أن يحدث لغاية تُطْلَب منه، ولا يتجرد الفعل عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2724 الغاية إلا في المجنون الذي يفعل الأفعال بدون أي غاية، لكن العاقل يفعل الفعل لغاية، ولهذف يرجوه. والمنافقون يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين لأي غاية ولأي هدف؟ ويكشف الحق هذه المسألة فيوضح: أنهم يبتغون العزة من الكافرين، ولذلك اتخذوهم أولياء من دون المؤمنين. ويلفتهم - جل شأنه - إلى جهلهم؛ لأنهم أخذوا طريقاً يوصلهم إلى ما هو ضد الغاية. فماداموا يبتغون العزة فليعرفوا أولاً: ما العزّة؟ . العزة مأخوذة من معنى مادي وهو الصلابة والشدة. فالأرض العَزَاز أي الصلبة التي لا ينال منها المعول، ثم نقلت إلى كل شديد، فكل شيء شديد فيه عِزّة. والمراد بها هنا: الغلبة والنصر، وكل هذه المعاني تتضمنها العزة. فإذا قيل: الله عزيز. . أي أنه سبحانه وتعالى غالب على أمره شديد لا يمكن أن يقدر على مِحاله أو مكره أو قوته أو عقابه أحد. وإذا قيل: فلان عزيز أي لا يُغلب، وإذا قيل: هذا الشيء عزيز أي نادر، ومادام الشيء نادرأً فهو نفيس، والمعادن النفيسة كلها أخذت حظها من ندرتها وقلتها. وما دمتم أيها المنافقون تطلبون العزة، ألا تطلبونها ممن عنده؟ . أتطلبونها من نظائركم؟ . وعندما تطلبون العزة فذلك لأنكم لا تملكون عزة ذاتية، فلو كانت عندكم عزة ذاتية لما طلبتم العزة من عند الكافرين. وهذا دليل على فقدانهم العزة لأنهم طلبوها من مساوٍ لهم من الأغيار، فالمنافقون بشر، والكفار بشر، وبما أن كل البشر أغيار، فمن الممكن أن يكونوا أعزاء اليوم وأذلاء غداً؛ لأن أسباب العزة هي غنىً أو قوة أو جاه، وكل هذه من الأغيار. فأنتم أيها المنافقون قد طلبتم العزة ممن لم يزد عليكم، وهو من الأغيار مثلكم، ولم تطلبوها من صاحب العزة الذاتية الأزلية الأبدية وهو الحق سبحانه وتعالى، ولو أردتم العزة الحقيقية التي تغنيكم عن الطلب من الأغيار مثلكم فلتذهبوا إلى مصدر العزة الذي لا تناله الأغيار وهو الحق سبحانه وتعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2725 لذلك أوضح لهم الحق: إن أردتم أن تتعلموا طلب العزة فعليكم أن تغيروا من أسلوبكم في طلبها، فأنتم تتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتبتغون عندهم العزة وهم من أهل الأغيار، والأغيار تتبدل من يوم إلى يوم، فإن كان الكفار أغنياء اليوم، فغداً لن يكونوا كذلك، ولقد رأيتم كبشر ان الغَنَّي يفتقر، ورأيتم قوياً قد ضعف، وطلب العزة من الأغيار يعني أنكم غير أعزاء، ومع ذلك فأنتم تطلبون العزة من غير موصعها. فإن أردتم عزة حقيقية فاطلبوها ممن لا تتغير عزته وهو الحق سبحانه وتعالى: {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} . وفي هذا القول تصويب لطلب العزة. وليطلب كل إنسان العزة إيمانا بالله؛ فسبحانه الذي يهب العزة ولا تتغير عزته: {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} . وكلمة «جميعاً» هذه دلت على أن العزة لها أفراد شتى: عزة غني، عزة سلطان، عزة جاه، فإن أراد واحد أن يعرفها ويعلمها فهي - جميعا - في الحق سبحانه وتعالى. والمؤمنون في عبوديتهم لله عبيد لإله واحد؛ وقد أغنانا الله بالعبودبة له عن أن نذل لأناس كثيرين. وسبحانه قد أنقذ المؤمن بالإيمان من أن يذل نفسه لأي مصدر من مصادر القوة، أنقذ الضعيف من أن يذل نفسه لقوي، وأنقذ الفقير من أن يذل نفسه لغني، وأنقذ المريض من أن يذل نفسه لصحيح. إذن ساعة يَقول الحق: {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} فمعناها: إن أردت أيها الإنسان عزاً ينتظم ويفوق كل عز فاذهب إلى الله؛ لأنه سبحانه أعزنا فنحن خلقه، وعلى سبيل المثال نجد أن الحق لم يجعل الفقير يقترض، بل قال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245] وهنا يرفع الله عبده الفقير إلى أعلى درجات العزة. العبد الفقير لا يقترض، ولكن القرض مطلوب لله، ولذلك قال أحدهم لأحد الضعفاء: إنك تسأل الناس، ألا تعف ولا تسأل؟ . فقال: أنا سألت الناس بأمر الله، فالسائل يسأل بالله، أي أن يتخذ الله شفيعاً ويسأل به. وعندما يطلب الإنسان العزة من مثيل له، فهو يعتز بقوة هذا الكائن وهي قوة ممنوحة له من الله وقد يستردها - سبحانه - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2726 منه. فما بالنا بالقوة اللانهائية لله، وكل قوة في الدنيا موهوبة من الله، المال موهوب منه، والجاه موهوب منه، وكل عزة هي لله. ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2727 يأمر الحق المؤمنين أنهم إذا سمعوا بعضاً من الكافرين يهزأ بآيات الله أو يكفر بها فلا يقعدوا معهم إلا أن يتحولوا إلى حديث آخر، وذلك حتى لا يكونوا مثل الكافرين لأنه سبحانه سيجمع المنافقين والكافرين في جهنم، وبذلك يحمي الله وحدهُ أهل الإيمان، ويصونهم من أي تهجم عليهم، فالذين يغارون على الإيمان هم الذين آمنوا، فمادمت قد آمنت وارتضيت لنفسك الإسلام فإياك أن تهادن من يتهجم على الدين؛ لأنك إن هادنته كان أعز في نفسك من الإيمان، ومادمت أيها المؤمن قد ارتضيت الإيمان طريقاً لك وعقيدة فلتحم هذا الإيمان من أن يَتَهَجَّم عليه أحد، فإن اجترأ أحد على الإيمان بشيء من النقد أو السخرية أو الرمي بالباطل. . فالغيرة الإيمانية للمسلم تحتم عليه أن يرفض هذا المجلس. وكان المؤمنون في البداية قلة مستضعفة لا تستطيع الوقوف في وجه الكافرين أو المنافقين، فساعةً يترك المؤمنون الكافرين أو المنافقين لحظة اللغو في آيات الله، فالكافرون والمنافقون يعلمون بذلك السلوك أن عِرض الإيمان أعز على المسلمين من مجالسة هؤلاء. أما إذا جالسهم مسلم وهم يخوضون في الإيمان. . فهذا يعني أنهم أعز من الإيمان، والكافرون قد يجعلونها حديثاً مستمراً لسبر غور الإيمان في قلوب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2727 المسلمين. أما حين يرى الكافر مؤمناً يهب وينفر من أي حديث فيه سخرية من الإسلام، هنا يعرف الكافر أن إيمان المسلم عزيز عليه. وهذه الآية ليست آية ابتدائية إنما هي إشارة إلى حكم سبق، ونعرف أنها نزلت في المدينة؛ فالحق يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا} ومعنى هذا أن هناك آية قد نزلت من قبل في مكة؛ ويقول فيها الحق: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68] ويشير الحق هنا إلى أنه قد أنزل حكماً في البداية، وهو الحكم الذي نزل مع الكافرين في مكة؛ حيث استضعف الكافرون المؤمنين، ولم يكن المنهج الإيماني قد جاء بمنع المؤمنين أن يجالسوا الكافرين، فقد كان بعض المؤمنين عبيداً للكافرين، وبعض المسلمين الأوائل كان لهم مصالح مشتركة قائمة مع الكافرين وجاء الحكم: إن ولغ هؤلاء الكافرون في الدين بالباطل فاتركوا لهم المكان. وسبحانه هنا في سورة النساء يذكر المؤمنين بأن حكم ترك الكافرين لحظة اللغو في الإيمان هو حكم ممتد منقول للمؤمنين من البيئة الأولى حيث كنتم أيها المؤمنون مع المشركين عبدة الأصنام، والحكم مستمر أيضاً في المدينة حيث يوجد بعض أهل الكتاب. والتكليف من الله، هو تكليف بما يطيقه الجنس البشري؛ فالإنسان عرضة لأن ينسى، وعليه بمجرد ان يتذكر فليقم تاركاً هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله. وقد نزل في القرآن أن إذا سمع المؤمنون من يكفر بآيات لله ويستهزئ بها فليغادروا المكان، ونلحظ أن الذي نزل في الآية الأولى ليس سماعاً بل رؤية: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] ويأتي السماع في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا} والمهم هو مجرد العلم سواء كان رؤية أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2728 سماعاً بأنهم يخوضون في دين الله؛ فقد يخوض أهل الشرك أو غيرهم من أعداء الإسلام بما يُرى، وقد يخوضون بما يسمع، وقد يخوض بعض المشركين بالغمز أو اللمز من فور رؤيتهم لمسلم. وقوله الحق: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} يوحي أنهم إذا ما خاضوا في حديث غير الخوض في آيات الله فليقعد المؤمنون معهم. وكان ذلك في صدر الإسلام، والمؤمنون لهم مصالح مشتركة مع المشركين وأهل الكتاب، ولا يستطيع المجتمع الإسلامي آنئذ أن يتميز بوحدته، فلو قال لهم الحق على لسان رسوله: لا تقعدوا مع الكافرين أو المشركين فوراً. لكان في ذلك قطع لمصالح المؤمنين. وكلمة «يخوضون» تعطي معنى واضحاً مجسماً؛ لأن الأصل في الخوض أن تدخل في مائع. . أي سائل، مثل الخوض في المياه أو الطين، والقصد في الدخول في سائل أو مائع هو إيجاد منفذ إلى غاية. وساعة تخوض في مائع فالمائع لا ينفصل حتى يصير جزءاً هنا وجزءاً هناك ويفسح لك طريقاً، بل مجرد أن يمشي الإنسان ويترك المائع يختلط المائع مرة أخرى، ولذلك يستحيل أن تصنع في المائع طريقاً لك. أما إذا دخل الإنسان في طريق رمليّ فهو يزيح الرمال أولأً ويفسح لنفسه طريقاً. ولا تعود الرمال إلى سَدّ الطريق إلا بفعل فاعل، وأخذوا من هذا المعنى وصفَ الأمر الباطل بأنه خوض؛ ذلك أن الباطل لا هدف له وهو مختلط ومرتبك، والجدال في الباطل لا ينتهي إلى نتيجة. إذن «الخوض» هو الدخول في باطل، أو الدخول إلى ما لا ينتهي الكلام فيه إلى غاية. ويقرر العلماء: لا تخوضوا في مسألة الصفات العلية؛ لأنه لا يصح الخوض فيها، والكلام فيها لن ينتهي إلى غاية. ولذلك يقول الحق في موقع آخر بالقرآن الكريم: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2729 تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] لقد أبلغتهم يا محمد أن الذي أنزل الكتاب عليك هو الحق سبحانه وتعالى الذي أنزل من قبلُ التوراةَ فأخفيتم بعضها وأظهرتم البعض الآخر، ثم بعد البلاغ اتركهم يخوضون في باطلهم. وفي موقع آخر يتكلم الحق من الخوض: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} [التوبة: 64 - 65] إذن الخوض هو الدخول في مائع، ومادمت قد دخلت في مائع فلن تجد فيه طريقاً محدداً بل يختلط المدخول عليه فلا تتميز الأشياء، وأخذ منه الخوض بالباطل أو الخوض باللعب الذي ليس فيه غاية. {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} . وتأتي الكلمة التي ترهب المؤمن وترعبه: {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} أي إنكم إذا قعدتم معهم وهو يخوضون في آيات الله تكفرون مثلهم؛ لأنكم تسمعون الخوض في الدين بالباطل، ومن يرض بالكفر يكفر. لقد أغطتنا الآية مرحلية أولية، فإذا ما كانت البيئة الإيمانية مجتمعاً ذاتياً متكافلاً فليس لأحد من المؤمنين أن يجالس الكافرين، ولا نواليهم إلا إذا والونا؛ لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2730 الجلوس معهم في أثناء الخوض في الدين يجرئهم على مناهج الله، وعلى المؤمن أن ينهر أي ساخر من الدين. وعلى المؤمنين أن يعرضوا عمّن ينحرف عن منهج الله أو يتعرض له. ولكن المجتمعات المعاصرة تكرم من يخوض بالباطل؛ وفي ذلك إغراء للناس على أن يخوضوا في الدين بالباطل. وقوله الحق: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} هو إيذان بالمقاطعة؛ فلو أن إنساناً بهذا الشكل يسكن في منزل، ويذهب إلى البقال ليشتري منه شيئاً ليأكله فيرفض البيع له، وكذلك الجزار، وكذلك أي إنسان في يده مصلحة لمثل هذا الخارج عن المنهج، وبذلك تكون المقاطعة حتى يتأدب، ويعلم كل إنسان أن المجتمع غيور على دينه الذي آمن به، وأن الله أعز عليهم من كل تكريم يرونه في مجتمعهم، ولو أن كل واحد من هؤلاء المنحرفين والموغلين في الباطل لو رأوا المجتمع وقد قاطعهم ووضع لهم حدوداً لذهبوا إلى الصواب ولبحثوا عن شيء آخر ومجال آخر يأكلون العيش منه ويطعمون أولادهم اللقمة الحلال من هذا العمل المشروع. ويقول الحق: {إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} ولا تستبطئوا هذه الحياة؛ لأن المسلم لا يأخذ الأمور بعمر الدنيا كقرن أو اثنين أو حتى عشرة قرون، بل عليه أن يعرف أن الدنيا بالنسبة له هي عمره فيها، والعمر يمكن أن ينتهي فجأة، ويعمل المسلم لا من أجل الدنيا فقط، ولكن من أجل أن يلقى الله مسلماً في الآخرة، والمؤمن يخشى أن يحشره الله مع المنافقين والكافرين في جهنم، وهذا مصير من يقبل السخرية أو الاستهزاء بدينه. وبعد ذلك يقول الحق: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2731 {الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2732 وقوله الحق: {الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} وصف للمنافقين، ويتربص فلان بفلان. اي أن واحداً يتحفز ليتحسس أخبار آخر، ويرتب حاجته منه على قدر ما يرى من أخبار، وعرفنا هذا المعنى من قوله الحق: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} [التوبة: 52] ويتربص المنافقون بالمؤمنين لأنهم إن وجدوا خيراً قد أتى لهم فهم يريدون الاستفادة منه، وإن جاء شر فالمنافقون يتجهون للاستفادة من الخصوم، فظاهراً هم يعلنون الإيمان وهم في باطنهم كفار. وهم يتربصون بالمؤمنين انتظاراً لما يحدث وليرتبوا أمورهم على ما يجيء. {الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} فإن فتح الله بنصره على المؤمنين في معركة وأخذوا مغانم قال المنافقون: {أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} ، فلابد لنا من سهم في هذه الغنيمة. وإذا انتصر الكفار يذهبون إلى الكافرين مصداقاً لقول الحق: {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين} . هم يحاولون إذن الاستفادة من الكفار بقولهم: لقد تربصنا بالمؤمنين وانتظرنا ما يحدث لهم، ولا بد لنا من نصيب ويقول الحق على ألسنتهم: {قالوا أَلَمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2732 نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين} واستحوذ على الشيء أي حازه وجعله في حيزه وملكه وسلطانه. والحق هو القائل: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله} [المجادلة: 19] أي جعلهم الشيطان في حيزه، وقول المنافقين للكافرين: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} يكشف موقفهم عندما تقوم معركة بين معسكري الكفر والإيمان فيحاول المنافقون معرفة تفاصيل ما ينويه المؤمنون، ولحظة أن يدخل المنافقون أرض المعركة فهم يمثلون دور من يأسر الكافرين حماية لهم من سيوف المؤمنين. ثم يقولون للكافرين: نحن استحوذنا عليكم أي منعناكم أن يقتلكم المؤمنون، ويطلبون منهم الثمن. ولنر الأداء البياني للقرآن حين يقول عن انتصار المؤمنين: {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ} أما تعبير القرآن عن انتصار الكافرين فيأتي بكلمة «نصيب» أي مجرد شيء من الغلبة المؤقتة. ثم يأتي القول الفصل من الحق: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً} . وحين يرد الله أمر الكافرين والمؤمنين لا يرده دائماً إلى أمد قد لا يطول أجل السامع وعمره ليراه في الدنيا، فيأتي له بالمسألة المقطوع بها؛ لذلك لا يقول للمؤمن: إنك سوف تنتصر. فالمؤمن قد يموت قبل أن يرى الانتصار. ولذلك يأتي بالأمر المقطوع وهو يوم القيامة حين تكون الجنة مصيراً مؤكداً لكل مؤمن؛ لأن الحياة أتفه من أن تكون ثمناً للإيمان. ويعلمنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا نطلب الثمن في الدنيا؛ لأن الغايات تأتي لها الأغيار في هذه الدنيا، فنعيم الحياة إما أن يفوت الإنسان وإما أن يفوته الإنسان. وثمن الإيمان باقٍ ببقاء من آمنت به. إن القاعدة الإيمانية تقول: من يعمل صالحاً يدخل الجنة، والحق يقول عن هؤلاء الصالحين: {فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2733 أي أن الجنة باقية بإبقاء الله لها، وهو قادر على إفنائها، أما رحمة الله فلا فناء لها لأنها صفة من صفاته وهو الدائم أبداً. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} أي لن يوجد نقض لهذا الحكم؛ لأنه لا إله إلا هو وتكون المسألة منتهية. وقد حكم الحق سبحانه وتعالى على قوم من أقارب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد حكم الله على عم الرسول، فقال فيه: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1 - 5] قول الحق سبحانه: {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} يدل على أن أبا لهب سيموت على الكفر ولن يهديه الله للإيمان، مع أن كثيراً من الذين وقفوا من رسول الله مواقف العداء آمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويشهد معسكر الكفر فقدان عددٍ من صناديده، ذهبوا إلى معسكر الإيمان، فها هوذا عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم كل هؤلاء آمنوا. فما الذي كان يدري محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن أبا لهب لن يكون من هؤلاء؟ ولماذا لم يقل أبو لهب: قال ابن أخي: إنني سأصلى ناراً ذات لهب، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقلت كلمة الإيمان. لكنه لم يقل ذلك وعلم الله الذي حكم عليه أنه لن يقول كلمة الإيمان. ألم يكن باستطاعة أبي لهب وزوجه أن يقولا في جمع: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويتم انتهاء المسألة؟ ولكن الله الذي لا معقب لحكمه قد قضى بكفرهم، وبعد أن ينزل الحق هذا القول الفصل في أبي لهب وزوجه يأتي قول الحق في ترتيبه المصحفي ليقول ما يوضح: إياكم أن تفهموا أن هذه القضية تنقض، فسيصلى أبو لهب ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب، وقال الحق بعدها مباشرة: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] فلا أحد سيغير حكم الله. . إذن فقوله الحق: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} أي لا معقب لحكم الله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2734 فلا إله غيره يعقب عليه. {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً} وهذه نتيجة لحكم الله، فلا يمكن أن يحكم الله للكافرين على المؤمنين. ولن يكون للكافرين حجة أو قوة أو طريق على المؤمنين. وهل هذه القضية تتحقق في الدنيا أو في الآخرة؟ ونعلم أن الحق يحكم في الآخرة التي تعطلت فيها الأسباب، ولكنه جعل الأسباب في الدنيا، فمن أخذ بالأسباب فنتائج الأسباب تعطيه؛ لأن مناط الربوبية يعطي المؤمن والكافر، فإن أخذ الكافرون بالأسباب ولم يأخذ المؤمنون بها، فالله يجعل لهم على المؤمنين سبيلاً، وقد ينهزم المؤمنون أمام الكافرين. والحكمة العربية تعلمنا: إياك أن تعتبر أنّ الخطأ ليس من جند الصواب. لأن الإنسان عندما يخطئ يُصَحَّحُ له الخطأ، فعندما يعلم المدرس تلميذه أن الفاعل مرفوع، وأخطأ التلميذ مرة ونصب الفاعل؛ فهذا يعني أنه أخذ القاعدة أولأً ثم سها عنها، والمدرس يصحح له الخطأ، فتلتصق القاعدة في رأس التلميذ بأن الفاعل مرفوع. وهكذا يكون الخطأ من جنود الصواب. والباطل أيضاً من جنود الحق. فعندما يستشرى الباطل في الناس يبرز بينهم هاتف الحق. وهكذا نرى الباطل نفسه من جند الحق، فالباطل هو الذي يظهر اللذعة من استشراء الفساد، ويجعل البشر تصرخ، وكذلك الألم الذي يصيب الإنسان هو من جنود الشفاء؛ لأن الألم يقول للإنسان: يا هذا هناك شيء غير طبيعي في هذا المكان. ولولا الألم لما ذهب الإنسان إلى الطبيب. علينا - إذن - أن نعرف ذلك كقاعدة: الخطأ من حنود الصواب، والباطل من جنود الحق، والألم من جنود الشفاء، وكل خطأ يقود إلى صواب، ولكن بلذعة، وذلك حتى لا ينساه الإنسان. وتاريخ اللغة العربية يحكي عن العلامة سيبويه، وهو من نذكره عندما يلحن أحد بخطأ في اللغة؛ فنقول: «أغضب المخطئ سيبويه» ؛ لأن سيبويه هو الذي وضع النحو والقواعد حتى إننا إذا أطلقنا كلمة الكتاب في عرف اللغة فالمعنى ينصرف إلى كتاب سيبويه؛ فهو مؤلف الكتاب. وسيبوبه لم يكن أصلاً عالم نحو، بل كان عالم قراءات للقرآن، حدث له أن كان جالساً وعيبت عليه لحنة في مجلس، أي أنه أخطأ في النحو وعاب عليه من حوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2735 ذلك، فغضب من نفسه وحزن، وقال: والله لأجيدن العربية حتى لا ألحن فيها. وأصبح مؤلفاً في النحو. ومثال آخر: الإمام الشاطبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لم يكن عالم قراءات بل كان عالماً في النحو، وبعد ذلك جاءت له مشكلة في القراءات فلم يتعرف عليها، فأقسم أن يجلس للقراءات ويدرسها جيداً. وصار من بعد ذلك شيخاً للقراء. فلحنة - أي غلطة - هي التي صنعت من سيبويه عالماً في النحو، ومشكلة وعدم اهتداء في القراءات جعل من الإمام الشاطبي شيخاً للقراء؛ على الرغم من أن سيبويه كان عالم قراءات، والشاطبي كان رجل نحو. ولذلك أكررها حتى نفهمها جيداً: الخطأ من جنود الصواب، والباطل من جنود الحق، والألم من جنود الشفاء والعافية. وقد نجد الكافرين قد انتصروا في ظاهر الأمر على المؤمنين في بعض المواقع مثل أُحد، وكان ذلك للتربية؛ ففي «أحد» خالف بعض المقاتلين من المؤمنين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكانت الهزيمة مقدمة للتصويب، وكذلك كانت موقعة حنين حينما أعجبتهم الكثرة: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] والشاعر العربي الذي تعرض لهذه المسألة قال: إن الهزيمة لا تكون هزيمة ... إلا إذا لم تقتلع أسبابها لكن إذا جهدت لتطرد شائباً ... فالحمق كل الحمق فيمن عابها فعندما يقتلع الإنسان أسباب الهزيمة تصبح نصراً، وقد حدث ذلك في أحد، هم خالفوا في البداية فغلبهم الأعداء، ثم كانت درساً مستفاداً أفسح الطريق للنصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2736 فإن رأيت أيها المسلم للكافرين سبيلاً على المؤمنين فلتعلم أن الإيمان قد تخلخل في نفوس المسلمين فلا نتيجة دون أسباب، وإن أخذ المؤمنون بالأسباب أعطاهم النتائج. فهو القائل: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فإن لم يعدّ المؤمنون ما استطاعوا، أو غرّتهم الكثرة فالنتيجة هي الهزيمة عن استحقاق، وعلى كل مؤمن أن يضع في يقينه هذا القول الرباني: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] إن إعلان الإيمان بالله ليس هو نهاية أي شيء بل هو البداية، والمؤمن بالله يأخذ جزاءه على قدر عمله. ويغار الله على عبده المؤمن عندما يخطئ، لذلك يؤدبه ويربيه - ولله المثل الأعلى - نجد أن الإنسان منا قد لا يصبر على مراجعة الدروس مع أولاده فيأتي بمدرس ليفعل ذلك؛ لأن حب الأب لأولاده يدفع الأب للانفعال إذا ما أخطأ الولد، وقد يضربه. أما المدرس الخارجي فلا ينفعل؛ بل يأخذ الأمور بحجمها العادي. إذن فكلما أحب الإنسان فهو يتدخل بمقياس الود ويقسو أحياناً على من يرحم. والشاعر العربي يقول: فقسى ليزدجروا ومن يكُ حازماً ... فليقس أحيانا على من يرحمُ ومثال آخر - ولله المثل الأعلى - الإنسان إذا ما دخل منزله ووجد في صحن المنزل أطفالاً يلعبون الميسر منهم ابنه وابن الجار، وطفل آخر لا يعرفه، فيتجه فوراً إلى ابنه ليصفعه، ويأمره بالعودة فوراً إلى الشقة، أما الأولاد الآخرون فلن يأخذ ابن الجار إلا كلمة تأنيب، أما الطفل الذي لا يعرفه فلن يتكلم معه. وهكذا نجد العقاب على قدر المحبة والود، والتأديب على قدر المنزلة في النفس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2737 ومن لا نهتم بأمره لا نعطي لسلوكه السيئ بالاً. وساعة نرى لأن للكافرين سبيلاً على المؤمنين فلنعلم أن قضية من قضايا الإيمان قد اختلت في نفوسهم، ولا يريد الله أن يظلوا هكذا بل يصفيهم الحق من هذه الأخطاء بأن تعضهم الأحداث. فينتبهوا إلى أنهم لا يأخذون بأسباب الله. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2738 نعرف واقع المنافقين أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر؛ ويوضح الحق: إياكم أن تظنوا أن في قدرة مخلوق أن يفعل شيئاً بدون علم الله، وقد يمكر إنسان بك، وهو يعلم أنك تعلم بمكره، فهل هذا مكر؟ لا؛ لأن المكر هو الأمر الذي يتم خفية بتدبير لا تعلمه، والأصول في المكر ألا يعلم الممكور به شيئاً. والمنافقون حين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر يخادعون من يعلم خافية الصدور. وكان يجب أن يأخذوا درساً من معاملة الله بوساطة المؤمنين لهم، فقد صان المؤمنون دم المنافقين ومالهم. وأجرى المسلمون على المنافقين أحكام الإسلام، لكن ما الذي يبيته الله لهؤلاء المنافقين؟ لقد بيت لهم الدرك الأسفل من النار. فمن الأقدر - إذن - على الخداع؟ إن الذكي حقاً هو من لا يخدع من يعلم أنه قادر على كشف الخداع. وكلمة «خدع» تعني مكر به مكراً فيبدي له قولاً وفعلاً ويخفى سواهما حتى يثق فيه. وبعد ذلك ينفذ المكر. وهناك كلمة «خدع» وكلمة «خادع» . والحق في هذه الآية لم يقل إن الله يخدعهم، بل قال: {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} . و «خادع» تعني حدوث عمليتين، مثل قولنا: قاتل فلان فلانا. فالقتال يحدث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2738 بين طرفين وكذلك نقول: شارك فلان فلانا؛ لأن مادة «فاعل» تحتاج إلى طرفين. لكن عندما نقول «قتل» ، فالفعل يحدث من جانب واحد. والخداع يبدأ من واحد، وعندما يرى الشخص الذي يُراد خداعه أن خصمه أقوى منه فإنه يبيت له خداعاً آخر، وتسمى العملية كلها «مخادعة» ، ويقال: خادعه فخدعه إذا غلبه وكان أخدع منه. ومن إذن الذي غلب؟ إن الذي بيَّت الخداع رداً على خداع خصمه هو الغالب. ولأن الخداع يحدث أولاً، وبعد ذلك يتلقى «المخدوع» الأمر بتبييت أكبر؛ فهو «خادع» ، والذي يغلب نقول عنه: «أخدعه» أي أزال خداعه. والله سبحانه وتعالى عاملهم بمثل ما أرادوا أن يعاملوا به المؤمنين، فالمنافقون أظهروا الإيمان أولاً وأضمروا الكفر، وأعطاهم الله في ظاهر الأمر أحكام المسلمين، وفي الباطن قرر أن يعذبهم عذاب الكافرين بل وأشد من ذلك؛ لأنهم سيكونون في الدرك الأسفل من النار. {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وإياك أيها المسلم أن تشتق من هذه العملية اسما لله وتقول «المخادع» ؛ لأن أسماء الله توقيفية أي لا نسمي الله إلا بالأسماء التي سمَّى بها نفسه. وسبحانه يفعل الفعل، لكن لا تأخذ من هذا الفعل اسماً، والحق يعطينا هنا «مشاكلة» ليوضح لنا أن المنافقين يمكرون ويبيتون شراً للمؤمنين، وأنت أيها المسلم تعرف أن الإنسان إنما يبيت الشر على قدر طاقته التي مهما كبرت فهي محدودة بجانب طلاقة قدرة الله. ولذلك يفضح الله هذا الشر المبيت من هؤلاء المنافقين، وهم حين يمكرون فالله بطلاقة قدرته يمكر بهم أي يبطل مكرهم ويجازيهم على سوء فعلتهم، ولا نقول: «الله ماكر» . ولله أن يقول في الفعل المشاكل ما يشاء. {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى} . إن الغايات من الأحداث هي التي تضفي على الجوارح الإقبال على الأحداث، فإذا كنت تحب الحدث الذي تقبل عليه فأنت تقبل عليه بكل اشتياق ولهفة. ويقيسون لهفة اللقاء لأنها تحدد درجة المحبة. والشاعر العربي يصف لقاء حبيب بحبيبته: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2739 لقاء الاثنين يبين حَدَّهْ ... تلهف كَيْفٍ واستطالة مًدَّهْ فلحظة اللقاء تبين ما بين الحبيبين من مودة، فإن كانت المسألة بينهما عشر خطوات فهما يسرعان باللهفة فيقطعان العشر خطوات في ثلاث خطوات، وهذا معناه تقصير زمن الابتعاد، وكذلك تظهر الكيفية التي يتم بها السلام درجة المودة، فقد يسلم أحدهما على الآخر ببرود أو بنصف ود، أو بود كبير، أو بود مصحوب بلهفة وأخذ متبادل بالأحضان؛ وكذلك المدة التي يحتضن كلاهما الآخر، هل هي دقيقة أو دقيقتان أو ثلاث؟ إذن فالذي يبين قيمة الود: التلهف، الكيفية، المدة. وهذه العناصر الثلاثة أخذها الشعراء للتعبير عن المودة والحب بين البشر، وقديماً كان الذين يُتَيَّمون بالنساء يسترون في السلام مودتهم. وفي الحصارة الغربية التي سقطت فيها قيم الأديان نجد أن الرجل يتلقى المرأة بالقبلات. وفي بعض البلاد نجد الرجل يصافح المرأة، فهل يصافحها بتلهف، وهل تبادله هذه اللهفة؟ فإن وجدت الكف مفردة ومبسوطة للمصافحة فقط فهذا سلام عادي. أما إذا ثنى أحدهما إصبعه البنصر على كف الآخر فعليم أن ترى أي طرف هو الذي قام بثني أصبعه ليحتضن اليد كلها في يده، فإن كان ذلك من الرجل فاللهفة منه، وإن كان من المرأة فاللهفة منها، وإن كان من الاثنين فاللهفة منهما معا، ثم ما المدة التي يستغرقها بقاء اليد في اليد؟ وقد يحلو لكليهما معاً - رجل وامرأة - وكأن الكلام قد أخذهما فنسي كل منهما يده في يد الآخر. سلام نوعين يبين حَدَّهْ ... تلهف كيف واستطالة مُدَّهْ هكذا يقابل الإنسان الأحداث، فإن كان الحدث ساراً فالإنسان يقبل عليه بلهفة. وإن كان غير ذلك فالإنسان يقوم إليه متثاقلاً. وكان المنافقون يقومون إلى الصلاة بتثاقل وتكاسل: {وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى} كأنهم يؤدون الصلاة كستار يخفون به نفاقهم، ويستترون بها عن أعين المسلمين. ولم يكن قيامهم للصلاة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2740 شوقاً إلى لقاء الله مثلما كان يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لبلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - طالبا منه أن يؤذن للصلاة: «يا بلال أرحنا بالصلاة» . لأن المؤمن يرتاح عندما يؤدي الصلاة، أما المنافق فهي عملية شاقة بالنسبة إليه لأنه يؤديها ليستتر بها عن أعين المسلمين ولذلك يقوم إليها بتكاسل. {وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} . هم يقيمون الصلاة ظاهرياً أمام الناس ليخدعوا المسلمين وليشاهدهم غيرهم وهم يصلون. وفي الصلاة التي يراءون بها الناس لا يقولون كل المطلوب منهم لتمامها، يقولون فقط المطلوب قوله جهراً. كأن يقرأوا الفاتحة وبعض القرآن ولكنهم في أثناء الركوع لا يسبحون باسم الله العظيم وكذلك في السجود لايسبحون باسم الله الأعلى. ففي داخل كل منافق تياران متعارضان. . تيار يظهر به مع المؤمنين وآخر مع الكافرين. والتيار الذي مع المؤمنين يجبر المنافق على أن يقوم إلى الصلاة ويذكر الله قليلاً، والتيار الذي مع الكافرين يجعله كسولاً عن ذلك، ولا يذكر الله كثيرا. وإذا ما حسبنا كم شيئا يجهر به المصلي وكم شيئاً يجريه سراً فسنجد أن ما يجريه المصلي سراً في أثناء الصلاة أكثر من الجهر. ففي الركوع يقول: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، ويقول: سبحان ربي الأعلى، في كل سجود ثلاث مرات، أما المنافق فلا يذكر الله إلا جهراً، وهو ذكر قليل. ونجد المنافق لا يفعل فعلاً إلا إذا كان مَرْئيا ومسموعا من غيره، هذا هو معنى المراءاة. أما الأعمال والأقوال التي لا تُرَى من الناس ولا تُسمع فلا يؤديها. ولا يهز المجتمعات ولا يزلزلها ويهدُّها إلا هذه المراءاة؛ لأن الحق سبحانه يحب أن يؤدي المسلم كل عمل جاعلاً الله في باله، وهو الذي لا تخفى عليه خافية. ويلفتنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2741 إلى هذه القضية سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث يقول عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . وإذا كان الإنسان يخجل من أن يغش واحداً مثله من البشر غشاً ظاهرياً فما بالنا بالذي يحاول غش الله وهو يعلم أن الله يراه؟ ولماذا يجعل ذلك العبد ربه أهون الناظرين إليه؟ وعندما يغش واحداً آخر واكتشف الآخر غشه فهو يعاقبه فما بالنا بغش الله؟! ولذلك تجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينقل لنا حال المرائي للناس فيقول: «إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله - عَزَّ وَجَلَّ - يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء؟» . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة» يا فاجر «» يا غادر «» يا مرائي «ضل عملك وحبط أجرك فخذ أجرك ممن كنت تعمل له» . إذن فالمنافق إنما يخدع نفسه، هو يتظاهر بالصلاة ليراه الناس. ويزكي ليراه الناس، ويحج ليراه الناس، هو يعمل ما أمر الله به، لكنه لا يعلمه الله، ولذلك قال القرآن: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] وقال عن لون ثان من نفاقهم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2742 {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264] والصفوان هو الحجر الأملس تماما وهو الذي ليس فيه خشونة، لأن الحجر إن كان به جزء من خشونة وعليه تراب ثم سقط عليه المطر، فالتراب يتخلل الخشونة. أما الحجر الأملس فمن فور نزول المطر ينزلق من عليه التراب. ومن يرائي المؤمنين عليه أن يأخذ أجره ممن عمل له. ويستكمل الحق وصف الحالة النفسية للمنافقين فيقول: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2743 والشيء المذبذب مثل المعلق في خيط فيأخذه الريح إلى ناحية ليقذفه في ناحية أخرى لأنه غير ثابت، مأخوذ من «المذبة» ومنه جاءت تسمية «الذباب: الذي يذبه الإنسان فيعود مرة أخرى، فمن سلوك الذباب أنه إذا ذُبّ عن مكان لا بد أن يعود إليه. {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} فهل هم الذين ذبذبوا أنفسهم أم تلك هي طبيعتهم؟ ولنتأمل عظمة الحق الذي سوى النفس البشرية؛ ففي الذات الواحدة آمر ومأمور، والحق يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2743 أي أن الإنسان يقي نفسه بأن يجعل الآمر يوجه الأمر للمأمور، ويجعل المأمور يطيع الآمر، ودليل ذلك قول الحق عن قابيل: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30] أي أن جزءًا من الذات هو الذي طوَّع بقية ذات قابيل لتقتل هابيل. فقد خلق الله النفس البشرية كملكات متعددة، ملكة تحب الأريحية وأخرى تحب الشح، والملكة التي تحب الأريحية إنما تطلب ثناء الناس، والتي تحب الشح إنما تفعل ذلك ليطمئن صاحبها أنه يملك ما يغنيه. وكلتا الملكتين تتصارع في النفس الواحدة؛ لذلك يقول الحق: {قوا أَنفُسَكُمْ} فالنفس تقي النفس؛ لأن الملكات فيها متعددة. وبعض الملكات تحب تحقيق المتعة والشهوة، لكن هناك ملكة إيمانية تقول: تذكر أن هذه الشهوات عاجلة ولكنها عظيمة المتاعب فيما بعد. إذن فهناك صراع داخل ملكات الإنسان، ويوضح لنا الحق هذا الصراع في قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} . لأن قابيل أراد أن يقتل هابيل بغريزة الاستعلاء، ونازعته نفسه بالخوف من الإثم. لقد دارت المراودة في نفس قابيل إلى أن سيطرت غريزة الاستعلاء فأمرت بالقتل وطوعت بقية النفس. وهذا يكشف لنا أن النفس البشرية فيها ملكات متعددة، كل ملكة لها مطلوب. والدين هو الذي يقيم التعايش السلمي بين الملكات. مثال آخر: الغريزة الجنسية تقيم السعار في النفس، فيقوم الوعي الإيماني بردع ذلك بأن تقول النفس الإيمانية: إياك أن تلغ في أعراض الناس حتى لا تلغ الناس في أعراضك، ولماذا لا تذهب وتتزوج كما شرع الله، ولا ترم أبنائك في فراش غيرك؛ لأن الغريزة مخلوقة لله فلا تجعل سلطان الغريزة يأمر وينهى. وهكذا نرى أن النفس تضم وتشمل الملكات والغرائز، ولا يصح أن يعدي الإنسان غريزة إلى أمر آخر؛ لأنه إن عدى الشهوات فسدت الدنيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2744 وعلى سبيل المثال نحن نستخدم الكهرباء التي تعطي لنا النور في حدود ما يرسم لنا مهندس الكهرباء، الذي وضع القطب الموجب في مجاله وكذلك القطب السالب، بحيث نأخذ الضوء الذي نريده أو تعطينا شرارة لنستخدمها كقوة لإدارة آلة، لكن لو التقى القطب الموجب بالقطب السالب على غير ما صنع المهندس لحدثت قفلة كهربائية تسبب حريقاً أو فساداً. وكذلك النفس البشرية، إن التقى الذكر مع الأنثى كما شرع الله فإن البشرية تسعد، وإن حدث غير ذلك فالذي يحدث في المجتمع يصير حريقاً نفسياً واجتماعياً لا حدود لآثاره الضارة، وهكذا نرى أن النفس ليس فيها دافع واحد بل فيها دوافع متعددة. ونجد غريزة الجوع تحرك النفس إلى الطعام، ويستجيب الدين لذلك لكنه يوصي أن يأكل الإنسان بشرط ألا يتحول تناول الطعام إلى شره، كما جاء في الحديث: «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه» . فالطعام لبقاء النوع. والإنسان محب للاستطلاع، فيأمر الإسلام الإنسان بأن يستطلع أسباب الله في الكون ليزيد من صلاح الكون، وينهى الإسلام عن استخدام حب الاستطلاع في التجسس على الناس، وهكذا تتوازن الملكات بمنهج الإسلام، وعلى المسلم أن يعايش ملكاته في ضوء منهج الله معايشة سليمة حتى تكون النفس الإنسانية متساندة لا متعاندة، لتعيش كل الملكات في سلام، ويؤدي كل جهاز مهمته كما أراد الله. لكن المنافق يحيا مذبذباً وقد صنع بنفسه، فقد أرخى لبعض ملكاته العِنان على حساب ملكات أخرى {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} إن الكافر يمتاز عن المنافق - ظاهرا - بأنه منسجم مع نفسه، هو غير مؤمن بالإسلام ويعلن ذلك ولكنه في حقيقة الأمر يتصارع مع فطرته التي تدعوه إلى الإيمان. قد يقول قائل: وكيف يتساوى الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر مع الذي أعلن الكفر؟ ونقول: الكافر لم يخدع الطائفة المؤمنة ولم يقل كالمنافق إنه مع الفئة المؤمنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2745 وهو ليس معها؛ بل يعلن الكافر كفره منسجماً مع نفسه، لكن المنافق مذبذب خسيس في وضعه الإنساني والرجولي. {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} . والله لا يضل عبداً بشكل مباشر؛ فسبحانه يُعلم خلقه أولاً بالرسل والمنهج، لكنه يضل من يصر على عدم الإيمان، لذلك يتركه على ضلالة وعماه. صحيح أن في قدرة الله أن يأخذه إلى الإيمان قهراً، لكنه سبحانه يترك الإنسان لاختياره. فإن أقبل الإنسان على الله فسبحانه يعينه على الهداية، أما إن لم يقبل فليذهب إلى تيه الضلال. ويزين له الدنيا ويعطيه منها لكنه لن يجد سبيلاً؛ فسبيل الله واحد. وليس هناك سبيلان. ونذكر هذه الحكاية؛ لنعرف قيمة سبيل الله. كان الأصمعي - وهو مؤلف عربي له قيمة كبيرة - يملك أذناً أدبية تميل إلى الأساليب الجميلة من الشعر والنثر، ووجد الأصمعي إنساناً يقف أمام باب الملتزم بالكعبة المشرفة، وكان الرجل يدعو الله دعاء حاراً «يا رب: أنا عاصيك، ولولا أنني عاصيك لما جئت أطلب منك المغفرة، فلا إله إلا أنت، كان يجب أن أخجل من معصيتك ولكن ماذا أفعل» . وأعجب الأصمعي بالدعاء، فقال: يا هذا إن الله يغفر لك لحسن مسألتك. ومن بعد ذلك يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2746 لقد أخذ الحق على المنافقين أنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون الله؛ وكذلك أخذ المؤمنون على المنافقين أنهم اتخذوا من معسكر الكفر ولياً لهم من دون الله ومن دون المؤمنين، ولهذا فأولى بالمؤمنين ألا يصنعوا ذلك، ويوضح سبحانه: لقد أخذنا على المنافقين أنهم اتخذوا الكافرين أولياء من دون الله، فإياكم أن تفعلوا مثلهم. {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} . وهذا أمر منطقي يستقيم مع منهج الإيمان؛ لأنكم إن فعلتم ذلك. فإنما تقدمون الحجة ليعذبكم الله، وتعلمون أن المنافق يعلن الإيمان بلسانه ويخفي الكفر في قلبه، فكيف يكون وضع المؤمن مع الكافر مثل وضع المنافق مع الكافر؟ ذلك أمر لا يستقيم. ومن يفعل ذلك إنما يقدم حجة لله ليعذبه. الحق سبحانه في إرساله للرسل وفي تأييد الرسل بالمعجزات وفي إرساله المناهج المستوفية لتنظيم حركة الإنسان في الحياة، كل ذلك ليقطع الحجة على الناس حتى لا يقولن واحد: أنت لم تقل لنا يارب كيف نسير على منهج ما؛ لذلك لم يترك - سبحانه - الإنسان ليفكر بعقله ليصل بفكره إلى وجود الله، ويكتشف أن هناك خالقا للكون. لم يتركنا سبحانه لهذه الظنون، ولكنه أرسل لنا الرسل بمنهج واضح، من أجل ألا يكون للناس على الله حجة من بعد الرسل، فلا يقولن واحد: أنت لم تنبهني يارب، والجهل بالقانون في الشرع البشري لا يعفي الإنسان من العقوبة إن ارتكب جرما، لكن الله لا يفعل ذلك؛ فهو أكرم على عباده من أنفسهم، لذلك يرسل الرسول ليحمل المنهج الذي يبين الحلال من الحرام: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] فلا يقولن واحد: لقد أخذنا الله على غرّة. وأنتم أيها المؤمنون إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتقربتم إليهم ونصرتموهم فأنتم أكثر شرا من المنافقين؛ لأن المنافق له أسبابه، وفي أعماقه خيط من الكفر وخيط من الإيمان، والحجة واضحة عليكم أيها المؤمنون؛ فقد أبلغكم الحق المنهج وأعلنتم الإيمان به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2747 فإن صنعتم غير ذلك تعطون الحق الحجة في أن يعذبكم. {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} والسلطان المبين هو السلطان الواضح المحيط الذي لا يستطيع أن يدفعه أحد، فإذا ما كانت هناك حجة، قد يستطيع الإنسان أن ينقضها، كالمحامي أمام المحاكم. لكن حجة الله هي سلطان مبين. أي لا تنقض أبداً. ومن بعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ المنافقين فِي ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2748 ولنر دقة التربية الإيمانية. فلم يأت الحق بفصل في كتابه عن المنافقين يورد فيه كل ما يتعلق بالمنافقين، لا، بل يأتي بلمحة عن المنافقين ثم يأتي بلقطة أخرى عن المؤمنين، حتى ينفِّر السامع من وضع المنافق ويحببَه في صفات المؤمن، وهنا يقول: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} . والدرك دائماً في نزول. والأثر الصالح يميز لنا ذلك بالقول: «النار دركات كما أن الجنة درجات» . فالنزول إلى أسفل هو الدرك، والصعود إلى أعلى هو صعود الدرج. وفي عصرنا نضع مستوى سطح البحر كمقياس؛ لأن اليابسة متعرجة، أما البحر فهو مستطرق. ونستخدم في الأمر الدقيق - أيضا - ميزان المياه، وعندما تسقط الأمطار على الطرق تكشف لنا عمل المقاول الذي رصف الطرق، هل أتقن هذا العمل أو لا؟ ونحن نلقي دلوا من المياه في الحمام بعد تبليطه حتى ينكشف جودة أو رداءة عمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2748 العامل، إذن هناك شيء يفضح شيئا آخر. والقول المصري الشائع: «إن الذي يقوم بعمل المحارة هو الذي يكشف عامل البناء» . فلو أن الحائط غير مستو؛ فعامل المحارة مضطر أن يسد الفجوات والميول حتى يستوي سطح الحائط. . والذي يكشف جودة عامل المحارة هو عامل طلاء الحائط؛ لأنه إما أن يستخدم المعجون بكثرة ليملأ المناطق غير المستوية في الحائط، وإما أن يجد الأمر سهلا. والذي يكشف جودة أو رداءة عمل عامل الطلاء هي أشياء طبيعية مثل الغبار. والعامل الذي يريد أن يغش هو الذي يسرع بتسليم البناء؛ لأن الغبار الذي يوجد في الجو يمشي في خط مستقيم، وعندما يوجد جدار تم طلاؤه بمادة غير جيدة فالغبار يلتصق به وكأن الله قد أراد بذلك أن يفضح من لا يتقن عمله، وكل شيء مرده إلى الله حتى يصل الخلق جميعا إلى الحق سبحانه مفضوحين، إلا المؤمنين الذين يعملون صالحاً، فهؤلاء يسترهم بعملهم الصالح. {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} . وسبحانه وتعالى سبق أن عرض لنا صورة المنافقين المهزوزة التي لا ثبات لها على رأي، ولا وجود لها على لون يحترمه المجتمع الذي يعيشون فيه فقال عنهم: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} [النساء: 143] والذبذبة لون من أرجحة الشخصية التي لا يوجد لها مقوم ذاتي. وسبحانه وتعالى حين عرضهم هذا العرض المشوه، يوضح: أن جزائي لهم حق يناسب ما فعلوه. وقد هيأ الحق الأذهان ليجعلها مستعدة لقبول الحكم الذي أنزله عليهم حتى لا تأخذ الناس شفقة عليهم أو رحمة بهم، وسبحانه حين يحكم حكما فهو يضمن بقيوميته ووحدانيته ألا يوجد منازع له في الحكم. وكان من الممكن أن يقول سأجعله في الدرك الأسفل من النار. ولن توجد قوة أخرى تنتشل المنافق؛ لذلك أتبع الحق الحكم بقوله: {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} أي أنه حكم مشمول بالنفاذ، ولن يعدله أحد من خلق الله، فسبحانه له الملك وحده، وقد جعل سبحانه الملك في الدنيا لأسباب الناس أيضاً، أما في الآخرة فلا مِلك لأحد ولا مُلك لأحد. {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2749 وبعد ذلك يتيح الحق لأقوام من المنافقين أن يعدلوا رأيهم في المسألة وأن يعلنوا إيمانهم وأن يتوبوا عما فعلوه - أتاح لهم أن يراجعوا أنفسهم ويحاسبوها فلم يغلق الباب دونهم بل قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2750 إذن فمن الممكن أن توجد فتحة خير قد تدفع الإنسان إلى التوبة، وحتى لا يظن أحد أن الحكم هنا نهائي، وذلك حتى لا يفقد الإنسان نفسه ويتورط في مزيد من الشرور؛ لذلك قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} أي تاب عن نفاقه الأول، وإذا ما كان قد ترتب على نفاقه السابق إفساد فلا بد أن يصلح ما أفسده ويعتصم بالله ويُخْلِص لله نيّةً وعملاً. {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ واعتصموا بالله وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} . إذن فشروط النجاة من الدرك الأسفل من النار هي التوبة، وإصلاح ما أفسد، والاعتصام بالله، وإخلاص دينه لله. والتوبة هنا إقلاع عن النفاق، وألا يترك المنافق الفساد الذي صنعه نفاقه بل عليه أن يحاول جاهداً أن يصلح ما أفسده بهذا النفاق. والاعتصام بالله كيف يكون؟ لقد عرفنا من قبل أنهم كانوا يفعلون ذلك لابتغاء العزة عند الكافرين. . أي أن نفس المنافق تطمئن إلى هؤلاء الكافرين فيفزع إليهم ويعتز بشدتهم وبصلابتهم؛ لذلك يوضح الله: تنزعوا هذه الفكرة من رءوسكم وليكن اعتصامكم بالله وحده لأنه لا يُجِير أحد على الله، واجعلوا العزة والمرجع إليه وحده. والملاحظ أن الذي يتوب ويصلح ويعتصم بالله يكون قد استوفى أركان اليقين الإيماني بالله، لكن الحق يقول: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} فلماذا أكد على الإخلاص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2750 هنا؟ لأن تدبير النفاق كان ينبع من قلوبهم أولا. ونعلم أن القلب قد يذنب، فذنب الجارحة أن تعتدي، مثال ذلك العين تذنب حين تعتدي على محارم الآخرين، واللسان يذنب إن تعرض بالسب أو الشتم للناس. إذن. فكل جارحة لها مجال معصية، وهنا مجال معصية القلب هو النفاق وهو الأمر المستور. إذن فقوله الحق: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} جاء ليؤكد ضرورة الإخلاص في التوبة عن النفاق، والإخلاص محله القلب. فكأن توبة القلوب غير توبة الجوارح، فتوبة الجوارح تكون بأن تكف الجوارح عن مجال معاصيها. أما توبة القلب فهو أن يكف عن مجال نفاقه بأن يخلص. وبذلك أثبت الحق مزية المؤمنين الذين لم ينغمسوا في النفاق. وجعل التائبين من المنافقين مع المؤمنين، فكأن الأصل في التنعيم وفي نيل الجزاء العظيم هو الوجود مع المؤمنين. {فأولئك مَعَ المؤمنين وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً} . ومن هنا نعلم أن الأجر العظيم يكون للمؤمنين. ومن يوجد مع المؤمنين ينال الأجر نفسه. وقد جعل الحق الجزاء من جنس العمل. وكان المنافقون ينافقون ليأخذوا من المؤمنين ظواهر الإسلام كصون المال والدماء وليعتبرهم الجميع ظاهريا وشكليا من المسلمين، وهم حين نافقوا المسلمين أعطاهم المسلمون ما عندهم. وعندما تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا الدين لله جعلهم الله مع المؤمنين، ويعطي سبحانه لأهل الإيمان أجراً عظيماً. ثم يقول الحق سبحانه: {مَّا يَفْعَلُ الله ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2751 وسبحانه قد أوضح من قبل أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، واستثنى منهم من تاب وأصلح واعتصم بالله وأخلص، ويتحدث هنا عن فكرة العذاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2751 نفسها، ليجليها فيقول: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ} وهذا استفهام، والاستفهام أصلاً سؤال من سائل يتطلب جواباً من مجيب. وسبحانه وتعالى يريد أن يعرض قضية موثوقا بها فهو لا يأتي بها خبراً، فهو القادر على أن يقول: أنا لا أفعل بعذابي لكم ولا أحقق لذاتي من ورائه شيئا، فلا استجلب به لي نفعا ولا أدفع به عني ضراً. لكنه هنا لا يأتي بهذه القضية كخبر من عنده، بل يجعل المنافقين يقولونها. مثال ذلك - ولله المثل الأعلى - يقول واحد لآخر: أنت أهنتني. ومن الجائز أن يرد الآخر: أنا لم أهنك. وأقسم لك أنني ما أهنتك. وقد يضيف: ابغني شاهداً. وهنا نجد مراحل المسألة تبدأ بالإبلاغ عن عدم الإهانة، ثم القسم بأن الإهانة لم تحدث، ومن بعد ذلك طلب شاهداً على أن الإهانة المزعومة قد حدثت. وقد يقول الإنسان رداً على من يتهمه بالإهانة: أنا أترك لك هذه المسألة، فماذا قلت لك حتى تعتبره إهانة؟ ومن يقول ذلك واثق أن من شعر بالإهانة لو أدار رأسه وفكره فلن يجد كلمة واحدة تحمل في طياتها شبهة الإهانة. ولو كان الإنسان واثقا من أنه أهان الآخر، فهو يخاف أن يقيم الآخر دليلا على صحة اتهامه له، ولكن حين يقول له: وماذا قلت لك حتى تعتبر ذلك إهانة؟ . فعليه أن يبحث ولن يجد. وبذلك يكون الحكم قد صدر منه هو. وإذا كان الله يقول: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ} فهذا خطاب لجماعة كانت ستتعذب. وكانت فيهم محادة لله. ورضي الله شهادتهم، فكأن هذه لفتة على أن العاصي يستحق العذاب بنص الآية: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ} ، ومستعد لهذا العذاب لأنه محاد لله. ولكن الله يقبل منه ومن أمثاله أن يشهدوا. وهذا دليل على أن الإيمان الفطري في النفس البشرية، فإذا ما حزبها واشتد عليها الأمر لم تجد إلا منطق الإيمان. ويوضح الحق للمنافقين: ماذا أفعل أنا بعذابكم؟ فلن يجدوا سببا خاصا بالله ليعذبهم، فكأن الفطرة الطبيعية قد استيقظت فيهم؛ لأنهم سيديرون المسألة في نفوسهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2752 وعلى مستوانا نحن البشر نرى أن الذي يدفع الإنسان ليعذب إنسانا آخر إنما يحدث ذلك ليشفي غيظ قلبه، أو ليثأر منه؛ لأنه قد آلمه فيريد أن يرد هذا الإيلام. أو ليمنع ضرره عنه. والله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون في أي موقع من هذه المواقع. فإذا أدار المنافقون هذه المسألة فطريا بدون إيمان فلن يكون جوابهم إلا الآتي: لن يفعل الله بعذابنا شيئا، إن شكرنا وآمنا. ونستخلص من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يريد عرض قضية يثبت فيها الحكم من الخصم نفسه، يلقيها على هيئة سؤال. وكان من الممكن أن يجري هذه المسألة خبرا، إلا أن الخبر هو شهادة من الله لنفسه، أما السؤال فستكون إجابته اقرارا من المقابل. وهذا يعمي أنهم كانوا عاصين ومخالفين. وكأنه سبحانه قد ائتمنهم على هذا الجواب؛ لأن الجواب أمر فطري لا مندوحة عنه. وحين يدير الكافر رأسه ليظن بالله ما لا يليق، فلن يجد مثل هذا الظن أبدا. {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً} . وإن لم يشكروا ولم يؤمنوا فما الذي يناله الحق من عذابهم؟ ونعلم أن عظمة الحق أنه لا يوجد شي من طاعة يعود إلى الله بنفع، ولا يوجد شيء من معصية يعود إلى الله بالضرر. ولكنه يعتبر النفع والضرر عائدين على خلق الله لا على الله - سبحانه -. وسبحانه يريدنا طائعين حتى نحقق السلامة في المجتمع، سلامة البشر بعضهم من بعض. إذن فالمسألة التي يريدها الحق، لا يريدها لنفسه، فهو قبل أن يخلق الخلق موجود وبكل صفات الكمال له، وبصفات الكمال أوجد الخلق. وإيجاد الخلق لن يزيد معه شيئا، ولذلك قال في الحديث القدسي: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا إلا كما يُنقص المخيط إذا أدخل البحر. .» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2753 إذن فالطاعة بالنسبة لله والمعصية بالنسبة لله، إنما لشيء يعود على خلق الله. ولننظر إلى الرحمة من الحق سبحانه وتعالى الذي خلق خلقاً ثم حمى الخلق من الخلق، واعتبر سبحانه أن من يحسن معاملة المخلوق مثله فهو طائع لله، ويحبه الله لأنه أحسن إلى صنعة الله. {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} فإن تشكروا وتؤمنوا فلن يفعل الله بعذابكم شيئا. . أي فقد أبعدتم أنفسكم عن استحقاق العذاب. وسبحانه يريد أن يعدل مزاج المجتمع وتفاعلات أفراده مع بعضهم بعضاً، وذلك حتى يكون المجتمع ذا بقاء ونماء وتعايش. ونعلم أن لكل إنسان سمة وموهبة، وهذه الموهبة يريدها المجتمع. فمن الجائز أن يكون لإنسان ما أرض ويريد أن يقيم عليها بناء، وصاحب الأرض ليس مفترضا فيه أن يدرس الهندسة أولاً حتى يصمم البناء ورسومه، وليس مفترضا فيه أن يتقن حرفة البناء ليبني البيت، وكذلك ليس مفروضا فيه أن يتعلم حرفة الطلاء والكهرباء وغيرهما. وكذلك ليس من المفروض فيمن يريد ارتداء جلباب أن يتعلم جز الصوف من الغنم أو غزل القطن وكيف ينسجه وكيف يقوم بتفصيله وحياكته من بعد ذلك، لا، لا بد أن يكون لكل إنسان عمل ما ينفع الناس. إذن فلكل إنسان عمل ينفع الناس به حتى يتحقق الاستطراق النفعي، ولأن كلاًّ منا يحتاج إلى الآخر فلا بد من إطار التعايش السلمي في الحياة. لا أن يكون العراك هو أساس كل شيء؛ لأن العراك يضعف القوة ويذهب بها سدى، وسبحانه يريد كل قوى المجتمع متساندة لا متعاندة، ولذلك قال: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} . أما إن لم تشكروا وتؤمنوا، فعذابكم تأديب لكم، لا يعود على الله بشيء. ولماذا وضع الحق الشكر مع الإيمان؟ لنعرف أولاً ما الشكر؟ الشكر: هو إسداء ثناء إلى المنعم ممن نالته نعمتهُ، فتوجيه الشكر يعني أن تقول لمن أسدى لك معروفا: «كثر خيرك» ، وما الإيمان؟ إنه اليقين بأن الله واحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2754 لكن ما الذي يسبق الآخر. الشكر أو الإيمان؟ إن الإيمان بالذات جاء بعد الانتفاع بالنعمة، فعندما جاء الإنسان إلى الكون وجد الكون منظما، ولم يقل له أحد أي شيء عن أي دين أو خالق. ألا تهفو نفس هذا الإنسان إلى الاستشراف إلى معرفة من صنع له هذا الكون؟ وعندما يأتي رسول، فالرسول يقول للإنسان: أنت تبحث عن القوة التي صنعت لك كل هذا الكون الذي يحيط بك، إن اسمها الله، ومطلوبها أن تسير على هذا المنهج. هنا يكون الإيمان قد وقع موقعه من النعمة. فالشكر يكون أولاً، وبعد ذلك يوجد الإيمان، فالشكر عرفان إجمالي، والإيمان عرفان تفصيلي. والشكر متعلق بالنعمة. والإيمان متعلق بالذات التي وهبت النعمة. {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً} والحق سبحانه يوضح لنا: أنا الإله واهب النعمة أشكركم. كيف يكون ذلك؟ لنضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت اشتريت لابنك بعضا من اللعب، ولم تفعل ذلك إلا بعد ان استوفيت ضرورات الحياة، فلا أحد يأتي باللعب لابنه وهو لم يأت له بطعام أو ملابس. إذن فأنت تأتي لابنك باللعب بعد الطعام والملبس ليملأ وقت فراغه، وهذا يعني أن الضرورات قد اكتملت. وحين تقول لابنك: إن هذه اللعبة للعب فقط، ستأخذها ساعة تحب أن تلعب، وتضعها في مكانها وقت أن تذاكر، فكل شيء هنا في هذا المنزل له مهمة يجب أن يؤديها. وهذا يعني إنك كوالد تريد أن تؤدب ابنك حتى يلعب بلعبته وقت اللعب ولا يلعب بأي شيء غيرها في المنزل؛ لأنه لو لعب بكل شيء في المنزل فلا بد من أن يكسر شيئا، فلا مجال للعب في التليفزيون أو في الساعة أو الثلاجة أو الغسالة حتى لا تتعطل تلك الأجهزة. وأنت كوالد تريد أن تفرق بين شيء يلعب به وشيء يُجد به. وأشياء الجد لا توجد إلا عند طلبها فقط؛ فالغسَّالة لا تستخدم إلا ساعة غسل الملابس، والساعة لا نستخدمها إلا لحظة أن نرغب في معرفة الوقت. والثلاجة لا تفتحها إلا ساعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2755 تريد أن تستخرج شيئا تأكله أو تشربه، والوالد يأتي للابن بقليل اللعب ليضع له حدا بين الأشياء التي يمكنه أن يلعب بعا وبين الأشياء التي لا يصح أن يلعب بها، فأشياء المنزل يجب ألا يقرب منها الابن إلا وقت استعمالها. لكن بالنسبة للعبة فالابن يلعب بها عندما يحين وقت اللعب، لكن عليه أن يحافظ عليها. وعندما يرقب الوالد ابنه، ويجده منفذا للتعليمات، ويحافظ على حاجات المنزل، ويلعب بلعبه محافظا عليها. وإن لم يُعَلّم الأب ابنه ذلك فقد يفسد الابن لعبه. وحين يقوم الابن بتنفيذ تعليمات أبيه فالأب يرضى عنه ويسعد به. وعندما تخرج لعبة جديدة في السوق فالأب الراضي عن ابنه يشتري له هذه اللعبة الجديدة؛ لأن الولد صار مأمونا؛ لأنه يعرف قواعد اللعب مع المحافظة على أداة اللعب. ويعرف أيضا كيف يحافظ على حاجات المنزل. ويزداد رضاء الأب عن تصرفات الابن. وينشأ عن هذا الرضاء أن يشتري الأب لعبا جديدة. فإذا كان ذلك هو ما يحدث في العلاقة ما بين الأب والابن، وهما مخلوقان لله، فما بالنا بالخالق الأعلى سبحانه وتعالى الذي أوجد كل المخلوقات؟ إن الإنسان حين يضع كل المسائل في ضوء منهج الله، فالله شاكر وعليم؛ لأن الله يرضى عن العبد الذي يسير على منهجه، وعندما يرضى الرب عن العبد فهو يعطي له زيادة. فالله شاكر بمعنى أن البشر إن أحسنوا استقبال النعمة بوضع كل نعمة في مجالها فلا تتعدى نعمة جادة، على نعمة هازلة ولا نعمة هازلة على نعمة جادة، فالله يرضى عن العباد. ومعنى رضاء الله أن يعطي البشر أشياء ليست من الضرورات فقط ولكن ما فوق ذلك. فسبحانه يعطي الضرورات للكل حتى الكافر. ويعطي سبحانه ما فوق الضرورات وهي أشياء تسعد البشر. إذن فمعنى أن الله شاكر. . أي أن سبحانه وتعالى راض. ويثيب نتيجة لذلك ويعطي الإنسان من جنس الأشياء ويسمو عطاؤه، مصداقا لقوله الحق: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2756 فالشكر هنا موجه من العبد للرب، والزيادة من الرب إلى العبد. وإياك أيها الإنسان أن تصنع الأشياء شكليا، مثل الطفل الذي يصون لعبته لحظة أن يرى الأب. ومن فور أن يختفي الأب أمام عيني الطفل فهو يفسد اللعبة، والله ليس كالأب أبداً، فالأب قدراته محدودة، ولكن الله هو الخالق الأعلى الذي لا تخفى عليه خافية أبداً وسبحانه شاكر، وهو أيضاً عليم. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2757 إنه سبحانه وتعالى يريد أن يحمي آذان المجتمع الإيماني من «قالات السوء» . . أي من الألفاظ الرديئة؛ لأننا نعلم أن الناس إنما تتكلم بما تسمع، فاللفظ الذي لا تسمعه الأذن لا تجد لسانا يتكلم به، ونجد الطفل الذي نشأ في بيت مهذب لا ينطق ألفاظا قبيحة، وبعد ذلك تجيء على لسانه ألفاظ قبيحة وحينئذ نتساءل: من أين جاءت هذه الألفاظ على لسان هذا الابن؟ ونعرف أنها جاءت من الشارع؛ لأن البيئة الدائمة للطفل ليس بها ألفاظ رديئة، وعندما يتقصى الإنسان عن مصدر هذه الألفاظ، يعرف أن الطفل المهذب قضى بعضاً من الوقت في بيئة أخرى تسربت إليه منها بعض الألفاظ الرديئة. إذن فاللغة هي بنت المحاكاة. وما تسمعه الأذن يحكيه اللسان. ونعلم أن اللغة ليست جنسا وليست دما، بمعنى أن الطفل الإنجليزي لو نشأ في بيئة عربية، فهو يتحدث العربية. ولو أخذنا طفلا عربيا ووضعناه في بيئة إنجليزية فسيتكلم الإنجليزية. واللغة الواحدة فيها ألفاظ لا يتكلم بها لسان إلا إن سمعها، وإن لم يسمعها الإنسان فلن ينطق بها. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي المجتمع الإيماني من قالات السوء التي تطرق آذان الناس لأنها ستعطيهم لغة رديئة؛ لأن الناس إن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2757 تكلمت بقالات السوء، فسيكون شكل المجتمع غريبا، وتتردد فيه قالات سوء في آذان السوء، فكأن الحق سبحانه يوضح: إياكم أن تنطق ألسنتكم بأشياء لا يحبها الله، فليست المسألة أن يريد الإنسان نفسه فقط بنطق كلمة، ولكن نطق هذه الكلمة سيرهق أجيالاً؛ لأن من يسمع الكلمة الرديئة سيرددها، وسيسمعها غيره فيرددها، وتتوالى القدوة السيئة. ويتحمل الوزر الإنسان الذي نطق بكلمة السوء أولاً. وقالات السوء هذه قد تكون بالحق وقد تكون بالباطل، فإن كانت في الحق مثلا فلن نستطيع أن نقول: إن كل الناس أهل سوء. وقد يبتدئ إنسان آخر بسباب، ويجوز أن يدعي إنسان على آخر سبابا. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي الآذان الإيمانية من ألسنة السوء، لذلك يقول: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول} ومقابلها بالطبع هو: أن الله يحب الجهر بالحسن من القول. وساعة يحبك الحق المجتمع هذه الحبكة الإيمانية، أيعالج ملكة على حساب ملكة أخرى؟ . لا. ونعلم أن النفس فيها حب الانتقام وحب الدفاع عن النفس وحب الثأر وما يروح به عن نفسه ويخفف ما يجده من الغيظ. والمثل العربي يقول: «من اسْتُغْضِب ولم يغضب فهو حمار» ؛ لأن الذي يُستغضب ولا يغضب يكون ناقص التكوين، فهل معنى ذلك أن الله يمتع الناس من قول كلمة سوء ينفث بها الإنسان عن صدره ويريح بها نفسه؟ لا، لكنه - سبحانه - يضع شرطاً لكلمة السوء هو: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} ؛ لأن الظلم هو أخذ حق من إنسان لغيره. وكل إنسان حريص على نفسه وعلى حقوقه. فإن وقع ظلم على إنسان فملكات نفسه تغضب وتفور، فإما أن ينفث بما يقول عن نفسه، وإما أن يكبت ويكتم ذلك. فإن قال الله: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول} واكتفى بذلك، لكان كبتاً للنفس البشرية. وعملية الكبت هذه وإن كانت طاعة لأمر الله لأنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، ولكن قد ينفلت الكبت عند الانفعال، وينفجر؛ لذلك يضع الحق الشرط وهو وقوع ظلم. فيوضح سبحانه: أنا لأ أحب الجهر بالسوء من القول، وأسمح به في حدوده المنفثة عن غيظ القلوب؛ لأني لا أحب أن أصلح ملكة على حساب ملكة أخرى. ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2758 «إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئا فإن كان قائما فليجلس، وإن كان جالسا فلينم فإن لم يزُل ذلك فليتوضأ بالماء البارد أو يغتسل فإن النار لا يطفئها إلا الماء» . أي أن يتحرك الإنسان من فور إحساسه بالغضب؛ فيغير من وضعه أو يقوم إلى الصلاة بعد أن يتوضأ أو يغتسل؛ لأنه بذلك ينفث تنفيثاً حركياً ليخفف من ضغط المواجيد على النفس الفاعلة؛ تماماً كما يفك إنسان صماماً عن آلة بها بخار ليخرج بعض البخار. إذن فمن وقع عليه ظلم له أن يجهر بالسوء. والجهر له فائدتان: الأولى: أن ينفث الإنسان عن نفسه فلا يكبت، وثانياً: أنه أشاع وأعلن أن: هذا إنسان ظالم، وبذلك يحتاط الناس في تعاملهم معه. وحتى لا يخدع إنسان نفسه ويظن بمنجاة عن سيئاته، فلو ستر كل إنسان الظلم الذي وقع عليه لاستشرى الظلم في عمل السيئات. ولكن إياك أن تتوسع أيها العبد في فهم معنى كلمة «ظلم» هذه؛ لأن الذي ينالك ممن ظلمك إما فعل وإما قول. وعليك أيها المسلم أن تقيس الأمر بمقياس دقيق على قدر ما وقع عليك من ظلم. {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] إذن فالحق سبحانه وتعالى لا يعطينا في الاستثناء إلا على قدر الضرورة. ويوضح: إياكم أن تزيدوا على هذه الضرورة، فإن كان ظلمكم بقول فأنا السميع. وإنْ كان ظلمكم بفعل فأنا العليم، فلا يتزيد واحد عن حدود اللياقة. وبذلك يضع الحق الضوابط الإيمانية والنفسية فأزاح الكبت وفي الوقت نفسه لم يقفل باب الطموح الإيماني. لقد سمح للعبد أن يجهر إن وقع عليه ظلم. لكن إن امتلك الإنسانُ الطموحَ الإيماني فيمكنه ألا يجهر وأن يعفو. إذن فهناك فارق بين أمر يضعه الحق في يد الإنسان، وأمر يلزمه به قسراً وإكراها عليه؛ فمن ناحية الجهر، جعل سبحانه المسألة في يد الإنسان، ويحب سبحانه أن يعفو الإنسان؛ لأن المبادئ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2759 القرآنية يتساند بعضها مع بعض. وسبحانه يقول: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] فإن أباح الله لك أن تجهر بالسوء من القول إذا ظلمك أحدٌ، فقد جعل لك ألاّ تجهر بل تعفو عنه، وغالب الظن أن صاحب السوء يستخزى ويعرف أن هناك أناساً أكرم منه في الخلق، ولا يتعب إنسانٌ إلا أن يرى إنساناً خيراً منه في شيء. وعندما يرى الظَالمُ أن المظلوم قد عفا فقد تنفجر في نفسه الرغبة أن يكون أفضل منه. إذن فالمبدأ الإيماني: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} جعله الله مجالاً محبوباً ولم يجعله قسراً؛ لأنك إن أعطيت الإنسان حقه، ثم جعلت لأريحيته أن يتنازل عن الحق فهذا إرضاء للكل. وهكذا ينمي الحق الأريحية الإيمانية في النفس البشرية؛ لأنه لو جعلها قسراً لأصلح ملكة على حساب ملكة أخرى. ولذلك إذا رأيت إنساناً قد اعتدى على إنسان آخر، فدفع الإنسان المعتدى عليه بالتي هي أحسن وعفا وأصلح فقد ينصلح حال المعتدي، وسبحانه القائل: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} . فإذا تمادى من بعد ذلك فعلى الإنسان أن يعرف أن الله لا يكذب أبداً، ولا بد أن الخلل في سلوكك يا من تظن أنك دفعت بالتي هي أحسن. قد يكون الذي دفع بالتي هي أحسن قد قال بلهجة من التعالي: سأعفو عنك، ومثل هذا السلوك المتكبر لا يجعل أحداً وليًّا حميمًا. لكن إن دفع حقيقة بالتي هي أحسن تواضعاً وسماحة، فلا بد أن يصير الأمر إلى ما قاله الله: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} . والتفاعلات النفسية المتقابلة يضعها الله في إطارات واضحة وسبحانه القائل: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2760 وذلك حتى لا يستشرى المعتدي أيضاً، فهناك إنسان إذا تركناه مرة ومرة. يستشرى، لكن إذا ما أوقفناه عند حده فهو يسكت، وبذلك نرحم المجتمع من استشراء الفساد. ويُصعب الحق المسألة في رد الاعتداء. ويثور سؤال: من القادر على تحقيق المثلية بعدالة؟ . ونجد على سبيل المثال إنسانا ضرب إنساناً آخر صفعة على الوجه، فبأية قوة دفعٍ قد ضرب؟ وفي أي مكان ضرب؟ ولذلك نجد أن رد العدوان على درجة المثلية المتساوية أمر صعب. ومادام المأمور به أن أعتدى بمثل ما اعتدى به علي؛ ولن أستطيع تحقيق المثلية، ولربما زاد الأمر على المثلية؛ وبعد أن كنت المعتدَى عليه صرت المعتدِي، بذلك يكون العفو أقرب وأسلم. والعمليات الشعورية التي تنتاب الإنسان في التفاعلات المتقابلة يكون لها مواجيد في النفس تدفع إلى النزوع. والعملية النزوعية هي رد الفعل لما تدركه، فإن آذاك إنسان وأتعبك واعتدى عليك فأنت تبذل جهدًا لتكظم الغيظ، أي أن تحبس الغيظ على شدة. فالغيظ يكون موجوداً، ولكن المطلوب أن يمنع الإنسان الحركة النزوعية فقط. وعلى المغتاظ أن يمنع نفسه من النزوع، وإن بقي الغيظ في القلب. {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134] هذه مرحلة أولى تتبعها مرحلة ثانية هي: {والعافين عَنِ الناس} [آل عمران: 134] فإذا كان المطلوب في المرحلة الأولى منع العمل النزوعي، فالأرقى من ذلك أن تعفو، والعفو هو أن تخرج المسألة التي تغيظك من قلبك. وإن كنت تطلب مرحلة أرقى في كظم الغيظ والعفو فأحسن إليه؛ لأن من يرتكب الأعمال المخالفة هو المريض إيمانياً. وعندما ترى مريضاً في بدنه فأنت تعاونه وتساعده وإن كان عدواً لك. وتتناسى عدواته؛ فما بالنا بالمصاب في قيمه؟ إنه يحتاج منا إلى كظم الغيظ، أو العفو كدرجة أرقى، أو الاحسان إليه كمرحلة أكثر علواً في الارتقاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2761 إذن فالحق سبحانه وتعالى يبيح أن تعتدي بالمثل، ثم يفسح المجال لنكظم الغيظ فلا نعتدي ولكن يظل السبب في القلب، ثم يرتقي بنا مرحلة أخرى إلى العفو وأن نخرج المسألة من قلوبنا، ثم يترقى ارتقاء آخر، فيقول سبحانه: {والله يُحِبُّ المحسنين} ، ومن فينا غير راغب في حب الله؟ وهكذا نرى أن الدين الإسلامي يأمر بأن يحسن المؤمن إلى من أساء إليه. وقد يتساءل إنسان: كيف تطلب مني أن أحسن إلى من أساء إلي؟ والرد: أنت وهو لستما بمعزل عن القيوم؛ فهو قيوم ولا تأخذه سنة ولا نوم، وكل شيء مرئي له وكلاكما صنعة الله، وعندما يرى الله واحداً من صنعته يعتدي عليك أو يسيء إليك فسبحانه يكون معك ويجيرك، ويقف إلى جانبك لأنك المعتدَى عليه. إذن فالإساءة من الآخر تجعل الحق سبحانه في جانبك، وتكون تلك الإساءة في جوهرها هدية لك. وعندما نفلسف كل المسائل نجد أن الذي عفا قد أخذ مما لو كان قد انتقم وثأر لنفسه؛ لأنه إن انتقم سيفعل ذلك بقدرته المحدودة، وحين يعفو فهو يجعل المسألة لله وقدرته سبحانه غير محدودة، إن أراد أن يرد عليه، وبعطاء غير محدود إن أراد أن يرضى المعتدي عليه. هذا هو الحق سبحانه وتعالى عندما يلجأ إليه المظلوم العافي المحسن. وهو السميع العليم بكل شيء. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2762 لقد عرفنا أن الحق لا يسمح لك بالجهر بالسوء من القول إلا إذا كنت مظلوماً. وهذا يعني أن المسألة تحتمل الجهر وتحتمل الإخفاء، فقال: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً} أي إن تظهر الخير، أو تخفي ذلك، أو تعفو عن السوء. وكل هذه الأمور من ظاهر وخفي من الأغيار البشرية، لكن شيئاً لا يخفى على الله. ولا يمكن أن يكون للعفو مزية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2762 إيمانية إلا إذا كان مصحوبا بقدرة، فإن كان عاجزاً لما قال: عفوت. وسبحانه يعفو مع القدرة. فإن أردت أن تعفو فلتتخلق بأخلاق منهج الله، فيكون لك العفو مع القدرة. ولنا أن نعلم أن الحق لا يريد منا أن نستخزي أو نستذل ولكن يريد منا أن نكون قادرين، ومادمنا قادرين فالعفو يكون عن قدرة وهذه هي المزية الإيمانية؛ لأن عفو العاجز لا يعتبر عفواً. والناس تنظر إلى العاجز الذي يقول: إنه عفا - وهو على غير قدرة - تراه أنه استخزى. أما من أراد أن يتخلق بأخلاق منهج الله فليأخذ من عطاءات الله في الكون، ليكون قادراً وعزيزاً بحيث إن ناله سوء، فهو يعفو عن قدرة {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} . وقلنا من قبل: إنك إذا لمحت كلمة «كان» على نسبة لله سبحانه وتعالى كنسبة الغفران له أو الرحمة، فعلينا أن نقول: كان ولا يزال؛ لأن الفعل مع الله ينحل عن الزمان الماضي وعن الحاضر وعن المستقبل؛ فهو سبحانه مادام قد كان، وهو لا تناله الأغيار، فهو يظل إلى الأبد. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2763 وسبحانه يريد أن يجعل من قضية الإيمان قضية كلية واحدة لا أبعاض فيها، فليس إعلان الإيمان بالله وحده كافياً لأن يكون الإنسان مؤمناً؛ لأن مقتضى أن تؤمن بالله يحتاج إلى رسول يعرفك أن الخالق هو الذي سخر لك قوى الكون واسمه الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2763 وأنت لا تهتدي إلى معرفة اسم القوة الخالقة لك إلا بوساطة رسول منزل من عند الله. ونعرف أن عمل العقل في الاستنباط العقدي عاجز عن معرفة اسم خالق الكون؛ لأن الإنسان قد طرأ على كون منظم، وكان من الواجب عليه أن يلتفت لفتة ليعلم القوة التي سبقت هذا الوجود وخلقته وأن الإنسان قد طرأ على وجود متكامل. وقد يسمع الإنسان من أبيه - مثلاً - أن هذا البيت بناه الأب أو الجد، وذلك الشيء فعله فلان ابن فلان. لكن لم يسمع أحداً يقول له: «ومن بنى السماء؟» ولم يسمع أحداً يقول: «ومن خلق الشمس؟» ، مع أن الناس تدعي ما ليس لها، فكيف يُترك أعظم ما في كون الله بدون أن نعرف من أوجده؟ . إننا نجد الناس تؤرخ للشيء التافه أو المهم نسبياً في حياتهم، نجد دراسات عن تاريخ أحجار، ودراسات عن تاريخ صناعة الأشياء؛ تاريخ المصباح الكهربي الذي اخترعه اديسون وقام بتوليد الكهرباء من مصادر ضئيلة ويسيره، باختصار، نجد أن كل شيء في هذا الوجود له تاريخ، وهذا التاريخ يرجع بالشيء إلى أصل وجوده. وأنت إن نسبت أي صنعة مهما كانت مهمة أو تافهة نكتشف أن واحداً تلقاها عن واحد، ولم يبتكرها هو دفعة واحدة. إن كل مبتكر أخذ ما انتهى إليه سابقه وبدأ عملاً جديداً إلى أن وصلت المخترعات بميلادها، ومن يصدق أن مصباحاً يُضيء وينطفئ ويحترق يضنعه إنسان ونعرف له تاريخاً، وبعد ذلك ننظر إلى الشمس التي لم تخفت ولم تضعف ولم تنطفئ ولم تحترق، والمصباح ينير حيزاً قليلا يسيراً، والشمس تنير كوناً ووجوداً، ألا تحتاج الشمس إلى من يفكر في تاريخها؟ لقد سبق لنا أن قلنا: إن الإنسان حينما ينظر إلى الكون نظرة بعيدة عن فكرة الدين وبعيداً عن بلاغ الرسل عن الخالق وكيفية الخلق ومنهج الهداية، فهو يقول لنفسه: تختلف مقادير الناس باختلاف مراكزها وقوتها فيما يفعلون، هناك من يجلس على كرسي من شجر الجميز. وآخر على كرسي مصنوع من شجر الورد، وثالث يجلس على حصيرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2764 إن الإنسان يعيش بصناعات غيره من البشر حسب قدره ومكانته؛ فالريفي أو البدوي يشعل النار بصك حديدة بحجر الصوان ويحتفظ بالنار لمدة يستخدمها لأكثر من مرة، وعندما يرتقي في استخدام النار يستخدم «مسرجة» ، ولمَّا ازداد تحضرا استخدم «مصباح جاز» بزجاج ولها أرقام تدل على قدرتها على الإضاءة. فهناك مصباح رقم خمسة، ورقمها دليل على قوتها الخافتة، وتتضاعف قوة «المصباح» من بعد ذلك حسب المساحة المطلوب إنارتها. ولمّا ارتقى الإنسان أكثر استخدم «الكلوب» . ولمّا ارتقى أكثر استخدم الكهرباء أو النيون أو الطاقة الشمسية، فإذا ما أشرقت الشمس فكل إنسان يطفئ الضوء الذي يستخدمه، فنورها يغني عن أي نور. وفي الليل يحاول الإنسان أن تكون حالة الكهرباء في منزله جيدة خشية أن ينقطع سلك ما فيظلم المكان. فما بالنا بالشمس التي لا يحدث لها مثل ذلك. إننا نجد الإنسان على مر التاريخ يحاول أن يرقى إلى فهم طلاقة قدرة الحق، وإن لم يأت رسول، أما أسماء القدرة الخالقة فلا يعرفها أحد بالعقل بل بوساطة الرسل. فاسم «الله» اسم توقيفي. فكيف يتأتى - إذن - مثل قول هؤلاء: سنؤمن بالله ونكفر برسله؟ كيف عرفوا - إذن - أن القوة التي سيؤمنون بها اسمها الله؟ لا بد أنهم قد عرفوا ذلك من خلال رسول؛ لأن الإيمان بالله إنما يأتي بعد بلاغ عن الله لرسول ليقول اسمه لمن يؤمن به. وهل الإيمان بالله كقوة خفية قوية مبهمة وعظيمة يكفي؟ أو أن الإنسان لا بد له أن يفكر فيما تطلبه منه هذه القوة؟ وإذا كانت هذه القوة تطلب من الإنسان أن يسير على منهج معين، فمن الذي يبلغ هذا المنهج؟ لا بد إذن من الرسول يبلغنا اسم القوة الخالقة ومطلوبها من الإنسان للسير على المنهج، ويشرح لنا كيفية طاعة هذه القوة. فلا أحد - إذن - يستطيع أن يفصل الإيمان بالله عن الرسول، وإلا كان إيماناً بقوة مبهمة. ولا يجترئ صاحب هذا اللون من الإيمان أن يقول: إن اسم هذه القوة «الله» ؛ لأن هذا الاسم يحتاج إلى بلاغ من رسول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2765 إذن فعندما يسمع أحدنا إنساناً يقول: أنا أؤمن بالله ولكن لا أؤمن بالرسل: علينا أن نقول له: هذا أول الزلل العقلي؛ لأن الإيمان بالله يقتضي الإيمان ببلاغ جاء به رسول؛ لأن الإيمان بالله لا ينفصل عن الإيمان بالرسول. والحق سبحانه وتعالى خلق آدم بعد أن خلق الكون وبقية المخلوقات، ولا نجد من يدعي أن آدم هو أول من عمر هذا الوجود. وما آدم في منطق العقل واحد ... ولكنه عند القياس أوادم ومن الممكن أن نقول: إن هناك خلقاً كثيراً قد سبقوا آدم في الوجود، ولكن آدم هو أول الجنس البشري. وعندما خلقه الله علمه الأسماء كلها حتى يستطيع أن يسير في الوجود، فلو لم يكن قد تعلم الأسماء لما استطاع أن يتحدث مع ولد من أولاده، ولما استطاع - على سبيل المثال - أن يقول لابن من أبنائه: انظر أاشرقت الشمس أم لا؟ إذن كان لا بد لآدم من معرفة الأسماء كلها من خلال معلم؛ لأن اللغة بنت المحاكاة؛ لأن أحداً لا يستطيع أن يتكلم كلمة إلا بعد أن يكون قد سمعها. والواحد منا سمع من أبيه، والآباء سمعوا من الأجداد، وتتوالى المسألة إلى أن تصل إلى آدم، فممن سمع آدم حتى يتكلم أول كلمة؟ لا بد أنه الله، وهذه مسألة يجب أن يعترف بها كل إنسان عاقل. إذن قول الحق في قرآنه: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31] هو كلام منطقي بالإحصاء الاستقرائي، وهو قول يتميز بمنتهى الصدق. والإنسان منا عندما يعلم ابنه الكلام يعلمه الأسماء. أما الأفعال فلا أحد يعرف كيف تعلمها. الإنسان يقول لابنه: هذا كوب، وهذه منضدة، وذلك طبق، وهذا طعام، لكن لا أحد يقول لابنه: «شرب» معناها كذا، و «أكل» معناها كذا. إذن فالخميرة الأولى للكلام هي الأسماء، وبعد ذلك تأتي المزاولات والممارسات ليتعلم الإنسان الأفعال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2766 لقد ترك الحق لنا في كونه أدلة عظيمة تناسب عظمته كخالق لهذا الكون. والرسول هو الذي يأتي بالبلاغ عنه سبحانه، فيقول لنا اسم القوة: «الله» ، وصفاتها هي «كذا» ، ومن يطعها يدخل الجنة، ومن يعصها يدخل النار، ولو لم يوجد رسول نظل تائهين ولا نعرف اسم القوة الخالقة ولا نعرف مطلوبها، وهذا ما يرد به على الجماعة التي تعبد الشمس أو تعبد القمر أو النجوم ونقول لهم: هل أنتم تعبدون الشمس؟ لعلكم فعلتم ذلك لأنها أكبر قوة في نظركم. لكن هناك سؤال هو: «ما العبادة» ؟ الإجابة هي: العبادة طاعة عابد لمعبود، فماذا طلبت منكم الشمس أن تفعلوه وماذا نهتكم ومنعتكم الشمس ألا تفعلوه؟ ويعترف عبدة الشمس: لم تطلب الشمس منا شيئا. وعلى ذلك فعبادتهم للشمس لا أساس لها؛ لأنها لم تحدد منهجا لعبادتها، ولا تستطيع أن تعد شيئا لمن عبدها، فإله بلا منهج لا قيمة له. وهكذا نرى أن عبادة أي قوة غير الله هي عبادة تحمل تكذيبها، والإيمان بالله لا ينفصل أبداً عن الإيمان بالقوة المبلغة عن الله إنها الرسل. ويشرح الرسول لنا كيف يتصل بهذه القوة الإلهية، وتشرح القوة الألهية لنا كيفية اتصاله بالرسول البشري بوساطة خلق آخر خلقته هذه القوة المطلقة؛ لأن الرسول من البشر، والبشر لا يستطيع أن يتلقى عن القوة الفاعلة الكبرى. ونحن نفعل مثل هذه الأشياء في صناعتنا. ونعلم أن الإنسان عندما يريد أن ينام لا يرغب في وجود ضوء في أثناء نومه، فيتخذ الليل سكنا ويتمتع بالظلمة، لكن إن استيقظ في الليل فهو يخاف أن يسير في منزله بدون ضوء حتى لا يصطدم بشيء، لذلك يوقد مصباحاً صغيراً في قوة الشمعة الصغيرة ليعطي نفسه الضوء، ونسميها «الوناسة» . ولا نستطيع توصيل هذا المصباح الصغير بالكهرباء مباشرة، وإنما نقوم بتركيب محول صغير يأخذ من القوة الكهربية العالية ويعطى للمصباح الصغير، فما بالنا بقوة القوى؟ إن الله جعل خلقاً آخر هم الملائكة ليكونوا واسطة بينه وبين رسله. وهؤلاء الرسل أعدهم سبحانه إعداداً خاصاً لتلقي هذه المهمة. إذن فالذين يريدون أن يؤمنوا بالله ثم يكفروا برسله نقول لهم: لا، هذا إيمان ناقص. ووضع الحق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2767 سبحانه وتعالى الإيمان بالرسل كلهم في صيغة جمع حتى لا تفهم كل أمة أن رسولها فقط هو الرسول المنزل من عند الله، بل لا بد أن تؤمن كل أمة بالرسل كلهم؛ لأن كل رسول إنما جاء على ميعاده من متطلبات المجتمع الذي يعاصره، وكلهم جاءوا بعقائد واحدة، فلم يأت رسول بعقيدة مخالفة لعقيدة الرسول الآخر؛ وإن اختلفوا في الوسائل والمسائل التي تترتب عليها الارتقاءات الحياتية. وقد خلق الحق أولاً سيدنا آدم وخلق منه زوجته حواء، اثنين فقط ثم قال سبحانه: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} [النساء: 1] كان الاثنان يعيشان معاً وأنجبا عدداً من الأبناء، وتناسل الأبناء فصار مطلوباً لكل أسرة من الأبناء بيتاً، وكل بيت فيه أسرة يحتاج إلى رقعة من الأرض ليستخرج منها أفراد الأسرة خيرات تكفي الطعام. وكل فرد يحتاج على الأقل إلى نصف فدان ليستخرج منه حاجته للطعام. وكلما كثر النسل اتسعت رقعة الوجود بالمواصلات البدائية، فهذا إنسان ضاقت به منطقته فرحل إلى منطقة أخرى فيها مطر أكثر ليستفيد منه أو خير أكثر يستخرجه. وتنتشر الجماعات وتنعزل. وصارت لكل جماعة عادات وتقاليد وأمراض ومعايب غير موجودة في الجماعة الأخرى. ولذلك ينزل الحق سبحانه وتعالى رسولاً إلى كل جماعة ليعالج الداءات في كل بيئة على حدة. وسخر الحق سبحانه وتعالى بعض العقول لاكتشافات الكون، وبعد ذلك يصبح الكون قطعة واحدة، فالحدث يحدث في أمريكا لنراه في اللحظة نفسها في مصر. وزادت الارتقاءات. ولذلك كادت العادات السيئة تكون واحدة في المجتمع الإنساني كله، فتظهر السيئة في أمريكا أو ألمانيا لنجدها في مجتمعنا. إذن فالارتقاءات الطموحية جعلت العالم وحدة واحدة: آفاته واحدة، وعاداته واحدة. وعندما يأتي الرسول الواحد يشملهم كلهم. ولذلك كان لا بد أن يأتي الرسول الخاتم الجامع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن العالم لم يعد منعزلاً، ليخاطب الجمع كله، وهو خير الرسل، وأمته خير الأمم إن اتبعت تعاليمه. ومن ضرورة إيمان رسول الله والذين معه أن يؤمنوا بمن سبق من الرسل. والذين يحاولون أن يفرقوا بين الرسل هم قوم لا يفقهون،. فاليهود آمنوا بموسى عليه السلام وأرهقوه وكفروا بعيسى. وعندما جاء عيسى عليه السلام آمن به بعض، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2768 وعندما جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آمن به بعض وكفر به بعض. ولذلك سمى الحق كفرهم بالنبي الخاتم: (ثم ازدادوا كفراً) . أي أنه كفر في القمة، فلن يأتي نبي من بعد ذلك. واكتمل به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موكب الرسالات. إذن فالمراد من الآية أن الإيمان فيه إيمان قمة، تؤمن بقوة لكنك لا تعرف اسم هذه القوة ولا مطلوبات هذه القوة ولا ما ادته القوة من ثواب للمطيع ولا من عقاب للعاصي. ولذلك كان ولا بد أن يوجد رسول؛ لأن العقل يقود إلى ضرورة الإيمان بالله والرسل. وجاء الرسل في موكب واحد لتصفية العقيدة الإيمانية للإله واحد، فلا يقولن واحد: لقد آمنت بهذا الرسول وكفرت ببقية الرسل. والآية التي نحن بصددها الآن تتعرض لذلك فتقول: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [النساء: 150] ونحن نعلم أن «كفر» معناها «ستر» . والستر - كما نعلم - يقتضي شيئا تستره، والشيء الذي يتم ستره موجود قبل الستر لا بعد الستر. والذي يكفر بوجود الله هو من يستر وجود الله؛ فكأن وجود الله قد سبق الكفر به. إذن فكلمة الكفر بالله دليل على وجود الله. ونقول للكافر: ماذا سترت بكفرك؟ وستكون إجابته هي: «الله» . أي أنه آمن بالله أولاً. {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} هم الحمقى؛ لأن هذا أمر غير ممكن، وكل رسول إنما جاء ليصل المرسل إليهم بمن أرسله. ولذلك نجد قوله الحق: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 74] إنه حدث واحد من الله ورسوله. لذلك نجد أن الحمقى هم من يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} لهؤلاء نقول: إن الإيمان قضية كلية، فموكب الرسالة من الحق سبحانه وتعالى يتضمن عقائد واحدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2769 ثابتة لا تتغير. والحق يقول: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ} [النساء: 163] وهذا يؤكد أن قضايا العقائد إنما جاءت من نبع واحد لعقيدة واحدة. فماذا - إذن - يريدون بمسألة الإيمان ببعض الرسل والكفر بالبعض الآخر؟ يريدون السلطة الزمنية. وكان القائمون على أمر الدين قديماً هم الذين يتصرفون في كل أمر، في القضاء وفي الهندسة وفي كل شيء، لذلك وثق فيهم الناس على أساس أنهم المبلغون عن الله الذين ورثوا النبوات وعرفوا العلم عن الله. ونجد العلوم الارتقائية في الحضارات القديمة كحضارة قدماء المصريين كالتحنيط وغيرها تلك التي مازالت إلى الآن لغزاً، إنما قام بأمرها الكهنة، وهم - كما نعلم - المنسوبون إلى الدين. كأن الأصل في كل معلومات الأرض هي من هبة السماء. لماذا إذن أخرج البشر وسنُّوا قوانين من وضعهم؟ لقد فعل البشر ذلك لأن السلطة الزمنية استولى عليها رجال الدين. ما معنى كلمة «سلطة زمنية» . كان الناس يلجأون إلى رجل الدين في كل أمورهم، ويفاجأ رجل الدين بأنه المقصود من كل البشر، ويغمره الناس بأفضالهم ويعطونه مثل القرابين التي كانت تعطى للآلهة، فيعيش في وضع مرفَّه هو وأهله ويزداد سمنة من كثرة الطعام والمتعة. وعندما يأتي إليه أحد في مسألة فهو يحاول أن يقول الرأي الذي يؤكد به سلطته الزمنية، فإذا ما جاء رسول ليلغي هذه الامتيازات، يسرع بتكذيبه؛ ليظل - كرجل كهنوت - على قمة السلطة. ولذلك قال فيهم الحق: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} [التوبة: 9] أي استبدلوا بآيات الله ثمنا قليلا من متاع الدنيا. فأخذوا الشيء الحقير من متاع الدنيا وتركوا آيات الله دون أن يعملوا بها. وعندما نبحث في تاريخ القانون. نجد قانوناً إنجليزياً وآخر فرنسياً أو رومانياً، ونجد أن المصادر الأولى لهذه القوانين هي ما كان يحكم به الكهنة. والذي جعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2770 الناس تنعزل عن الكهنة هو استغلالهم للسلطة الزمنية. والتفت البشر الذين عاصروا هؤلاء الكهنة أن الواحد منهم يقضي في قضية بحكم، ثم يقضي في مثيلاتها بحكم مخالف، ويغير من حكمه لقاء ما يأخذ من أجر، فتشكك فيهم الناس، وعرفوا أنهم يلوون الأحكام حسب أهوائهم؛ لذلك ترك الناس حكم الكهنة، ووضعوا هم القوانين المناسبة لهم. إذن فالسلطة الزمنية هي التي جعلت من أتباع بعض الرسل يتعصبون لرسلهم. فإذا ما جاء رسول آخر، فإن أصحاب السلطة الزمنية يقاومون الإيمان برسالته حتى لا يأخذ منهم السلطة الزمنية. ولذلك يعادونه؛ لأن الأصل في كل رسول أن يبلغ أتباعه والذين آمنوا به، أنه إذا جاء رسول من عند الله فعليكم أن تسارعوا أنتم إلى الإيمان به. {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] وهكذا أخذ الله الميثاق من النبيين بضرورة البلاغ عن موكب الرسالة حتى النبي الخاتم. {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [النساء: 150] أي أنهم يحاولون أن يفرقوا بين الله ورسله بأحكامهم التي كانوا يتبعون فيها أهواءهم للإبقاء على السلطة الزمنية، من أجل أن يقيموا أمراً هو بين بين، وليس في الإيمان «بين بين» ؛ فإما الإيمان وإما الكفر. والنظرة إلى كل هذه الآية نجدها في معظمها معطوفات، ولم يتم فيها الكلام وهي في كليتها مبتدأ، لا بد لها من خبر، ويأتي الخبر في الآية التالية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2771 {أولئك هُمُ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2772 و «الكافرون حقاً» مقصود بها أن حقيقة الكفر موجودة فيهم؛ لأننا قد نجد من يقول: وهل هناك كافر حق، وكافر غير ذلك؟ نعم. فالذي لا يؤمن بكل رسالات السماء قد يملك بعضاً من العذر، لأنه لم يجد الرسول الذي يبلغه. أما الذي جاءه رسول وله صلة إيمانية به؛ وهذه الصلة الإيمانية لحمته بالسماء بوساطة الوحي، فإن كفر هذا الإنسان فكفره فظيع مؤكد. {أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً} . ونلحظ أن الحق ساعة يتكلم عن الكافرين لا يعزلهم عن الحكم والجزاء الذي ينتظرهم، بل يوجد الحكم معهم في النص الواحد. ولا يحيل الحق الحكم إلى آية أخرى: {أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} وقد جاء هنا بالجزاء على الكفر ملتصقاً بالكفر، فسبحانه قد جهز بالفعل العذاب المهين وأعَدّه للكافرين ولم يؤجل أمرهم أو يسوفه. ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الجنَّة عرضت عليّ ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت» لقد أعد الحق الجنة والنار فعلاً وعرضها على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولو شاء الرسول أن يأتي المؤمنين بقطاف من ثمار الجنة لفعل. فإياكم أن تعتقدوا أن الله سيظل إلى أن تقوم الساعة، ثم يرى كم واحداً قد كفر فيعد لهم عذاباً على حسب عددهم، وكم واحداً قد آمن فيعد لهم جنة ونعيماً على قدر عددهم، بل أعد الحق الجنة على أن كل الناس مؤمنون ولهم مكان في الجنة، وأعد النار على أن كل الناس كافرون ولهم أماكن في النار. فيأتي المؤمن للآخرة ويأخذ المكان المعد له، ويأخذ أيضاً بعضاً من الأماكن في الجنة التي سبق إعدادها لمن كفر. مصداقاً لقوله الحق: {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2772 فسبحانه لم ينتظر ولم يؤجل المسألة إلى حد عمل الإحصائية ليسأل من الذي آمن ومن الذي كفر، ليعد لكل جماعة حسب تعدادها ناراً أو جنة، بل عامل خلقه على أساس أن كل الذي يأتي إليه من البشر قد يكون مؤمناً، لذلك أعد لكل منهم مكاناً في الجنة، أو أن يكون كافراً، فأعد لكل منهم مكاناً في النار. ونجد السؤال في الآخرة للنار: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] فالنار تطلب المزيد للأماكن التي كانت معدة لمن لم يدخلها أنه آمن بالله. ويرث الذين آمنوا الأماكن التي كانت معدة لمن لم يدخل الجنة لأنه كفر بالله وبرسله وفرق بين الله ورسله وقال نؤمن ببعض ونكفر ببعض. ويأتي من بعد ذلك المقابل للذين كفروا بالله ورسله وهم المؤمنون، هذا هو المقابل المنطقي. والمجيء بالمقابلات أدعى لرسوخها في الذهن. مثال ذلك عندما ينظر مدير المدرسة إلى شابين، كل منهما في الثانوية العامة، فيقول: فلان قد نجح لأنه اجتهد، والثاني قد خاب وفشل. هذه المفارقة تحدث لدى السامع لها المقارنة بين سلوك الاثنين. وهاهو ذا الحق يأتي بالمقابل للكافرين بالله ورسله: {والذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2773 ويؤكد الحق هنا على أمر واضح: هو: {وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} وكلمة «أحد» في اللغة تطلق مرة ويراد بها المفرد، ومرة يراد بها المفردة، ومرة يراد بها المثنى مذكراً أو المثنى مؤنثاً أو جمع الإناث وجمع التذكير. وهكذا تكون «أحد» في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2773 هذه الآية تشمل كل الرسل، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء} [الأحزاب: 32] فكلمة أحد يستوي فيها المذكر والمؤنث والمثنى والمفرد والجمع. وكما قال الحق عن الذين يكفرون بالله ورسله أو يفرقون بين الرسل: {أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} . يقول الحق في هذه الآية عن الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم: {أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} فكل مقابل قد جاء معه حُكْمُه. ومن بعد ذلك يقول الحق: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2774 هذا خطأ منهم في السؤال، وكان المفروض أن يكون: يسألك أهل الكتاب أن تسأل الله أن ينزل عليهم كتاباً. وقد حاول المشركون في مكة أن يجدوا في القرآن ثغرة فلم يجدوا وهم أمة فصاحة وبلاغة ولسان، واعترفوا بأن القرآن عظيم ولكن الآفة بالنسبة إليهم أنه نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2774 هم اعترفوا بعظمة القرآن، واعترافهم بعظمة القرآن مع غيظهم من نزوله على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جعلهم مضطربين فكرياً، لقد اعترفوا بعظمة القرآن بعد أن نظروا إليه. . فمرة قالوا: إنه سحر، ومرة قالوا: إنه من تلقين بعض البشر، وقالوا: إنه شعر، وقالوا: إنه من أساطير الأولين. وكل ذلك رهبة أمام عظمة القرآن. ثم أخيرا قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} . ولكن ألم يكن هو القرآن نفسه الذي نزل؟ إذن. فالآفة - عندهم - أنه نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وذلك من الحسد: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54] لأن قولهم لا يتسم أبداً بالموضوعية، بل كل كلامهم بُعْدٌ عن الحق وتخبط. لقد قالوا مرة عن القرآن: إنه سحر، وعندما سألهم الناس: لماذا لم يسحركم القرآن إذن؟ فليس للمسحور إرادة مع الساحر. ولم يجدوا إجابة. وقالوا مرة عن القرآن: إنه شعر، فتعجب منهم القوم لأنهم أمة الشعر، وقد سبق لهم أن علقوا المعلقات على جدار الكعبة، لكنه كلام التخبط. إذن فالمسألة كلها تنحصر في رفضهم الإيمان، فإذا أمسكتهم الحجة من تلابيبهم في شيء، انتقلوا إلى شيء آخر. ويوضح سبحانه: إن كانوا يطلبون كتاباً فالكتاب قد نزل، تماماً كما نزل كتاب من قبل على موسى. وماداموا قد صدقوا نزول الكتاب على موسى، فلماذا لا يصدقون نزول الكتاب على محمد؟ ولا بد أن هناك معنى خاصاً وراء قوله الحق: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء} . ونعلم أن الكتاب نزل على موسى مكتوباً جملة واحدة، وهم كأهل كتاب يطلبون نزول القرآن بالطريقة نفسها، وعندما ندقق في الآية نجدهم يسألون أن ينزل عليهم الكتاب من السماء؛ وكأنهم يريدون أن يعزلوا رسول الله وأن يكون الكلام مباشرة من الله لهم؛ لذلك يقول الحق في موقع آخر: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2775 {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] الحق - إذن - قسم الأمور في الحياة الدنيا، فكيف يتدخلون في مسألة الوحي وهو من رحمة الله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء} . وهم قد نسبوا التنزيل إلى رسول الله، ورسول الله ما قال إني نزَّلْت، بل قال: «أنزل علي» . ويقال في رواية من الروايات أن كعب بن الأشرف والجماعة الذين كانوا حوله أرادوا أن ينزل الوحي على كل واحد منهم بكتاب، فيقول الوحي لكعب: «يا كعب آمن بمحمد» . ويًنَزَّلُ إلى كل واحد كتاباً بهذا الشكل الخصوصي. أو أن ينزل الله لهم كتاباً مخصوصاً مع القرآن. وكيف يطلبون ذلك وعندهم التوراة، ويوضح الله تسلية لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا تستكثر منهم يا محمد أن يسألوك كتاباً ينزل عليهم لأنهم سألوا موسى أكبر من ذلك، وطلبهم تنزيل الكتاب، هو طلب لفعل من الله، وقد سبق لهم الغلو أكثر من ذلك عندما قالوا لموسى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} . وهم بمثل هذا القول تعدوا من فعل الله إلى ذات الحق سبحانه وتعالى، لذلك لا تستكثر عليهم مسألة طلبهم لنزول كتاب إليهم، فقد سألوا موسى وهو رسولهم رؤية الله جهرة: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ} . ولحظة أن ترى كلمة «الصاعقة» تفهم أنها شيء يأتي من أعلى، يبدأ بصوت مزعج. وقلنا من قبل أثناء خواطرنا حول آية في سورة البقرة: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} [البقرة: 19] أي أنهم يضعون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، وهذا دليل على أن صوت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2776 الصاعقة مزعج قد يخرق طبلة الأذن، ودليل على أن ازعاج الصاعقة فوق طاقة الانسداد بأصبع واحدة؛ لأن الإنسان ساعة يسد أذنيه يسدها بطرف الأصبع لا بكل الأصابع. وبلغ من شدة ازعاج الصوت أنهم كلما وضعوا أناملهم في آذانهم لم يمتنع الصوت المزعج. إذن فالصاعفة صوت مزعج يأتي من أعلى، وبعد ذلك ينزل قضاء الله إما بأمر مهلك وإمّا بنار تحرق وإما بريح تدمر {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ} والظلم هو أن تجعل حقاً لغير صاحبه؛ ولا تجعل حقاً لغير صاحبه إلا أن تكون قد أخذت حقاً من صاحبه. وسؤالهم هذا لون من الظلم؛ لأن الإدراك للأشياء هو إحاطة المُدْرِك بالمُدْرَك. وحين تدرك شيئاً بعينك فمعنى ذلك أن عينك أحاطت بالشيء المدَرَك وحيَّزته بالتفصيل، وكذلك اللمس لمعرفة النعومة أو الخشونة، وكذلك الذوق ليحس الإنسان الطعم. إذن فمعنى الإدراك بوسيلة من الوسائل أن تحيط بالشيء المُدْرَك إحاطة شاملة جامعة. فإذا كانوا قد طلبوا أن يروا الله جهرة، فمعنى ذلك أنهم طلبوا أن تكون آلة الإدراك وهي العين محيطة بالله. وحين يحيط المُدْرِك بالمُدْرَك، يقال قدر عليه. وهل ينقلب القادر الأعلى مقدوراً عليه؟ حاشا لله. وذلك مطلق الظلم ونهايته، فمن الجائز أن يرى الإنسان إنساناً، ولكن لا يستقيم أبدا ولا يصح أن ينقل الإنسان هذه المسألة إلى الله، لماذا؟ لأنه سبحانه القائل: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعام: 103] ومادام الله إلها قادراً فلن ينقلب إلى مقدور. ونحن إن أعطينا لواحد مسألة ليحلها، فهذا معناه أن فكرة قد قدر عليها. وأما إذا أعطيناه مسألة ولم يقدر على حلها ففكره لم يقدر عليها. إذن فكل شيء يقع تحت دائرة الإدراك، يقول لنا: إن الآلة المدرِكة قد قدرت عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2777 والحق سبحانه وتعالى قادر أعلى لا ينقلب مقدوراً لما خلق. {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} . وكان يكفي بعد أن أخذتهم الصاعقة أن يتأدبوا ولا يجترئوا على الله، ولكنهم اتخذوا العجل من بعد أن جاوز الحق بهم البحر وعَبره بهم تيسيرا عليهم وتأييداً لهم وأراهم معجزة حقيقية، بعد أن قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] فقد كان البحر أمامهم وفرعون من خلفهم ولا مفر من هلاكهم؛ لأن المنطق الطبيعي أن يدركهم فرعون، وآتى الله سيدنا موسى إلهامات الوحي، فقال: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] لقد لجأ موسى إلى القانون الأعلى، قانون الله، فأمره الله أن يضرب بعصاه البحر، ويتفرق البحر وتصير كل فرقة كالطود والجبل العظيم، وبعد أن ساروا في البحر، وأغرق فرعون أمامهم، وأنجاهم سبحانه، لكنهم من بعد ذلك كله يتخذون العجل إلهاً!! هكذا قابلوا جميل الله بالنكران والكفران. {ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً} والسلطان المبين الذي آتاه الله لموسى عليه السلام هو التسلط والاستيلاء الظاهر عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم، وجاءوا بالسيوف لأن الله قد أعطى سيدنا موسى قوة فلا يخرج أحد عن أمره، والقوة سلطان قاهر. ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2778 إذن اجتراؤهم في البداية كان في طلب رؤية الله جهرة، ثم العملية الثانية وهي اتخاذهم العجل إلها. ويعالج الله هؤلاء بالأوامر الحسية، لذللك نتق الجبل فوقهم: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171] مثل هؤلاء لا يرضخون إلا بالآيات المادية، لذلك رفع الله فوقهم الجبل، فإما ان يأخذوا ما آتاهم الله بقوة وينفذوا المطلوب منهم، وإما أن ينطبق عليهم الجبل، وهكذا نرى أن كل اقتناعاتهم نتيجة للأمر المادي، فجاءت كل الأمور إليهم من جهة المادة. {وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً} . أي أن يدخلوا ساجدين، وهذا إخضاع مادي أيضاً. وكان هذا الباب الذي أمرهم موسى أن يدخلوه ساجدين هو باب قرية أريحا في الشام. {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت} وسبحانه قال عنهم: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] وكلمة «السبت» لها اشتقاق لغوي من «سبت» و «يسبت» أي سكن وهدأ. ويقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً} [الفرقان: 47] أي جعل النوم سكنا لكم وقطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم. {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت} أي نهاهم الله أن يصطادوا في يوم السبت. ويأتي يوم السبت فتأتيهم الحيتان مغرية تخرج أشرعتها من زعانفها وهي تعوم فوق الماء، أو تظهر على وجه الماء من كل ناحية، وهذا من الابتلاءات. {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} أي أن الأيام التي يكون مسموحاً لهم فيها بالصيد لا تأتي لهم الأسماك، ولذلك يحتالون ويصنعون الحظائر الثابتة من السلك ليدخلها السمك يوم السبت ولا يستطيع الخروج منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2779 لقد احتالوا على أمر الله. هكذا يبين الحق سبحانه وتعالى مراوغة بني إسرائيل. وفعل الله بهم كل ذلك ولكنهم احتالوا وتمردوا ورّدوه، وحين يهادن الحق القوم الذين يدعوهم إلى الإيمان فسبحانه يُقَدر أنه خلقهم ويُقدر الغريزة البشرية التي قد يكون من الصعب أن تلين لأول داع، فهو يدعوها مرة فلا تستقبل، فيعفو. ثم يدعوها مرة فلا تستقبل فيعفو، ثم يدعوها مرة فلا تستقبل فيعفو. وأخذ الله عليهم العهد الوثيق المؤكد بأن يطيعوه ولكنهم عصوا ونقضوا العهد، وبعد ذلك يقول لنا الخبر لنتعلم أن الله لا يمل حتى تملوا أيها البشر. فسبحانه يقول من بعد ذلك: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2780 لقد نقضوا كل المواثيق والأشياء التي تقدمت. ومعنى الميثاق هو العهد المؤكد الموثق. ونقض الميثاق هو حله، وهذا ما يستوجب ما يهددهم الله به، وكفروا بآيات الله التي أنزلها لتؤيد موسى عليه السلام، وقتلوا أنبياء الله بغير حق. وادعوا - تعليلاً لذلك - أن قلوبهم غلف لا تسمع للدعوى الإيمانية، أي أن قلوبهم مغلفة مغطاة أي جُعل عليها غلافٌ، بحيث لا يخرج منها ما فيها ولا يدخل فيها ما هو خارج عنها. وأرادوا بذلك الاستدراك على الله، فقالوا: قلوبنا لا يخرج منها ضلال ولا يدخل فيها إيمان. وسبق أن تقدم مثل هذا في قول الحق: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 6 - 7] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2780 ونقول: أهي القلوب خُلقت غلفاً. . أي أن القلوب خلقت مختوماً عليها بحيث لا يدخلها هدى ولا يخرج منها ضلال، أم أنتم الذين فعلتم الختم وأنتم الذين صنعتم الغلاف؟ وسبحانه أوضح في آيتي سورة البقرة أنه جل وعلا الذي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة. فالختم على القلب حتى لا يتعرفوا إلى الدليل؛ لأن القلب محل الأدلة واليقين والعقائد. والختم على الأسماع والأبصار هو الختم على آلات إدراك الدلائل البينات على وجود الحق الأعلى؛ فمقر العقائد مختوم عليه وهو القلب، ومضروب على الآذان وعلى البصر غشاوة، فهل هذا كائن بطبيعة تكوين هؤلاء؟ لا؛ لأنه إذا كان هذا بطبيعة التكوين فلماذا خصَّهم الله بذلك التكوين؟ ولماذا لم يكن الذين اهتدوا مختوماً لا على قلوبهم ولا على أسماعهم ولا على أبصارهم؟ غير أن الواحد منهم يبرر لنفسه وللآخرين انحرافه وإسرافه على نفسه بالقول: «خلقني الله هكذا» وهذا قول مزيف وكاذب؛ لأن صاحبه إنما يكفر أولاً، فلما كفر وانصرف عن الحق تركه الله على حاله؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، فمن اتخذ مع الله شريكاً فهو للشريك وليس لله. إذن فالختم جاء كنتيجة للكفر. وقدمت آيات سورة البقرة الحيثية: أن الكفر يحدث أولاً، ثم يأتي الختم على القلب والسمع والبصر نتيجة لذلك. وهنا في آية سورة النساء: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} . فالكفر جاء أولاً، وفي ذلك رد على أي إنسان يقول: «إن الله لا يهديني» . ولا يلتفت إلى أن الله لا يهدي من كفر به، وكذلك الفاسق أو الظالم، والمثال الأكبر على ذلك إبليس الذي كفر أولاً. وبعد ذلك تركه الله لنفسه واستغنى عنه. ولنا هنا وقفة لفظية مع قوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم} لأن الفهم السطحي لأصول الأسلوب قد يتساءل: لماذا جاءت «ما» هنا؟ وبعضهم قال: إن «ما» هنا زائدة. ونقول: إياك أن تقول إن في كلام الله حرفاً زائداً؛ لأن معنى ذلك أن المعنى يتم بغير وجوده ويكون فضولاً وزائدا على الحاجة ولا فائدة فيه، ولكن عليك أن تقول: «أنا لا أفهم لماذا جاء هذا الحرف» ، خصوصاً ونحن في هذا العصر نعيش الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2781 كأمة بلاغتها مصنوعة، ولا نملك اللسان العربي المطبوع. ولولا أننا تعلمنا العربية لما استطعنا أن نتكلمها. أما العربي الفصيح الذي نزل عليه القرآن فقد كان يتكلم اللغة العربية دون أن يجلس إلى معلم، ولم يتلق العلم بأن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب بل تكلم اللغة بطبيعته وملكته. أما نحن فنعيش في زمن مختلف. وطغت علينا العجمة وامتلأت آذاننا باللحن، وصرنا نُعلّم أنفسنا قواعد اللغة العربية حتى نتكلم بأسلوب صحيح. وقد جاءت القواعد في النحو من الاستنباط من السليقة العربية الأولى التي كانت بغير تعليم. واستقرأ العلماء الأساليب العربية فوجدوا أن الفاعل مرفوع والمثنى يُرفع بالألف، وجمع المذكر السالم يُرفع ب «الواو» ؛ وهكذا أخذنا القواعد من الذين لا قواعد لهم بل كانوا يتكلمون بالسليقة وبالطبيعة والملكة. لقد سمع العربي قديماً ساعة نزل القرآن قوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم} ولم ينتبه واحد منهم إلى أن شيئاً قد خرج عن الأسلوب الصحيح، ونعلم أن بعضاً من العرب كانوا كافرين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا يصدقون القرآن، ولو كانت هناك واحدة تخرج عن المألوف في اللغة لصرخوا بها وأعلنوها. ولكن القرآن جاء بالكلام المعجز على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليبلغهم به، موضحاً: جئت بالقرآن معجزة تعجزون عن محاكاته؛ مع أنكم عرب وفصحاء. والمتحدَّى يحاول دائماً أن يتصيد خطأ ما، ولم يقل واحد من العرب إن في القرآن لحناً، وهذا دليل على أن الأسلوب القرآني يتفق مع الملكة العربية. وقوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم} هي في الأصل: بنقضهم الميثاق فعلنا بهم ما صاروا إليه، و «ما» جاءت هنا لماذا؟ قال بعض العلماء: إنها «ما» زائدة، وهي زائدة للتأكيد. ونكرر: إياك أن تقول إن في كلام الله حرفاً زائداً، لقد جاءت «ما» هنا لمعنى واضح. والحق في موقع آخر من القرآن يقول: {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} [المائدة: 19] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2782 وقالوا: إن أصل العبارة «ما جاءنا بشير» ، وإن «مِن» جاءت زائدة حتى يتسق اللفظ. ونقول: لو أن العبارة جاءت كما قالوا لما استقام المعنى، ولإيضاح ذلك أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - عندما يقول واحد: «ما عندي مال» فهذا نفى أن يكون عند القائل مال، ولعل لديه قدراً من المال القليل الذي لا يستأهل أن يسميه مالاً. ولكن إذا قال واحد: «ما عندي من مال» فالمعنى أنه لا يملك المال على إطلاقه أي أنه مفلس تماماً، ولا يملك أي شيء من بداية ما يقال إنه مال. إذن «ما جاءنا بشير» ليست مثل قوله: «ما جاءنا من بشير» . فالمعنى أنه لم يأتهم أي رسول بشير أو نذير من بداية ما يقال إنه رسول. إذن فقوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي بسبب نقض الميثاق فعلنا بهم كذا. لماذا إذن أثار العلماء هذه الضجة؟ السبب في ذلك هو وجود ما بعد «الباء» وقبل المصدر، أي أنهم نقضوا العهد بكل صورة من صوره، فنقض العهد والميثاق له صور متعددة ف (ما) هنا استفهامية جاءت للتعجيب أي على أيَّة صورة من صور نقض ونكث العهد لعناهم؟ لعناهم لكثرة ما نقضوا من العهود والمواثيق. والحق قد قال: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 155] ولم يقل: فبما نقضتم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف، طبع الله على قلوبهم. فوجود «بل» يدلنا على أن هناك أمراً أضربنا عنه. فنحن نقول: جاءني زيد بل عمرو. أي أن القائل قد أخطأ، فقال: «جاءني زيد» واستدرك لنفسه فقال: «بل عمرو» . وبذلك نفى مجيء زيد وأكد مجيء عمرو. والحق قال: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} . كان المقتضي في الأسلوب العادي أن يقول: «بكفرهم وبقتلهم الأنبياء طبع الله على قلوبهم» . ولكن سبحانه لم يقل ذلك لحكمة بالغة. وحتى نعرف تلك الحكمة فلنبحث عن المقابل ل «طبع الله على قلوبهم» ، المقابل هو «فتح الله على قلوبهم بالهدى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2783 وجاء قول الحق معبراً تمام التعبير عن موقفهم: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا} . وهكذا نرى عظمة القرآن الذي يأتي بالمعنى الدقيق ويجب أن نفكر فيه ونتدبر كل كلمة منه. الحق - إذن - يقدم الأسباب لما صنعه بهم بالحيثيات، من نقضهم للميثاق، وكفرهم بآيات الله، وبقتلهم للأنبياء بغير حق؛ لذلك لم يفتح الله عليهم بالهدى، بل طبع الله على قلوبهم بالكفر. فوجود «بل» دليل على أن هناك أمراً قد نفي وأمراً قد تأكد. والأمر الذي نفاه الله عنهم أنه لم يفتح عليهم بالهدى والإيمان، والأمر الذي تأكد أنه سبحانه قد طبع على قلوبهم بالكفر. وفي آية أخرى قال عنهم: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] فقلوبهم ليست غلفاً، ولكن هي لعنة الله لهم وإبعاده لهم وطردهم واستغناؤه عنهم؛ لذلك تركهم لأنفسهم فغلبت عليهم الشهوات. ولماذا ذيل الحق الآية بقوله: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} ؟ لأن المقصود به عدم إغلاق باب الإيمان على إطلاقه أمام هؤلاء الناس، وهو - كما عرفنا من قبل - «صيانة الاحتمال» . فقد يعلن واحد من هؤلاء إيمانه الذي خبأه في نفسه، فكيف يجد الفرصة لذلك إن كان الله قد قال عنهم جميعاً {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} ؟ إن الذي يَرْغَبُ في إعلان الإيمان منهم لا يجد الباب مفتوحاً، ولكن عندما يجد الحق قد قال: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} فهو يعلم أن باب الإيمان مفتوح للجميع. وبعد ذلك يقول الحق: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2784 ويقول قائل: ألم يقل الحق من قبل إن «كفرهم» هو سبب من أسباب طبع الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2784 على قلوبهم؟ إياك أن تقول إن هناك كلمة في القرآن مكررة لأن الذي يتكلم هو الله سبحانه وتعالى الذي لا ينسى شيئاً، ولا يكرر من غير داع، والكفر أيضاً على درجات، مرة يكون الكفر بالله، ومرة يكون الكفر بآيات الله، وثالثة يكون الكفر بالرسل، ورابعة يكون الكفر ببعض النبيين، وخامسة يكون الكفر ببعض الكتب السماوية. إذن فألوان الكفر شتى. والكفر في الآية السابقة كان كفراً بآيات الله، أما كفرهم في هذه الآية فالحق يشرحه: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} . لقد كفروا بعيسى عليه السلام، وقالوا البهتان العظيم على مريم، هذا كفر بآيات الله وبرسول من عند الله. وقوله الحق: «وبكفرهم» هو عطف على «نقضهم» وعلى «كفرهم بآيات الله» وعلى «قتلهم الأنبياء» وعلى «قولهم قلوبنا غلف» . ونلاحظ هنا أن الحق لم يذكر الباء التي جاءت في أول الآية السابقة حين قال: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} . وهذا يدل على أننا أمام مناط الرحمة من ربنا سبحانه وتعالى. فقد كان يكفي ارتكابهم لأي واحدة من هذه الأعمال المذكورة لكي يطبع الله على قلوبهم، ولكنهم ارتكبوا كل الأعمال المذكورة مجتمعة، ولم يرتكبوا فعلاً واحداً منها. وهذا دليل على أن الله لا يتصيد ويحتال ليوقعهم في الكفر ولكن يحنن العباد إلى الإيمان. لقد ارتكبوا أربعة أفعال جسيمة: نقضوا الميثاق، وكفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء بغير حق، وادعوا أن الله طبع على قلوبهم. وحين جعل هذا الأفعال الأربعة جريمة واحدة فهذا فضل ورحمة منه. وبعد ذلك يذكر لهم جريمة أخرى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} وهنا نجد أنه سبحانه قد ساوى بين قولهم البهتان على مريم وبين كل الأفعال السابقة؛ لأنهم اعترضوا على رسالة ونبوة عيسى عليه السلام وهو نبي من أولي العزم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2785 من الرسل بأشياء قد تكون ضمن الأسباب التي فتنت بعض الناس فيه، لقد خلقه الله خلقاً خاصاً. فسبحانه خلق الناس جميعاً من آدم عليه السلام الذي صوره الله من طين ثم نفخ فيه الروح، وجاء الخلق من التزاوج. أما عيسى عليه السلام فقد خلقه الله بطريقة خاصة، فكيف كفروا به وكيف يتهمون أمه مريم عليها السلام وهي البتول؟ . ومن الجائز أن تُتهم المرأة وترمى وتوصف بكل شيء: كاذبة، سارقة، أو دميمة، لكن الاتهام في العرض: لا. والحق هنا يحدد موضوعين للكفر: قولهم البهتان على مريم وهو كفر بالله، وكفرهم بعيسى الذي جاء بميلاد على غير طريقة الميلاد العادية على الرغم من أن هذا تكريم له ولذع لليهود الذين غرقوا في المادية حتى إنهم قالوا: (أرنا الله جهرة) . بل إن الحق رزقهم برزق غيبي لا يعرفون أسبابه: في التيه رزقهم بالمن والسلوى، والمن في لون القشدة وطعم العسل الأبيض وهو شيء يقع على أوراق الشجر في بعض البيئات، والسلوى طائر يشبه السُّماني، وكانوا يأخذون المن من الأشجار ويجعلونه رزقاً يأتيهم ولا يزرعونه ولا يتعبون فيه. لكنهم قالوا: لا، نحن نريد أن نزرع نباتاً ينمو من الأرض ولا ننتظر الغيب، لأن الغيب قد يضن علينا. {فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا} [البقرة: 61] هم - إذن - لا يثقون بما في يد الله، ويريدون الأمر المادي، ولذلك يلفتهم الحق سبحانه وتعالى لفتة قسرية، ويأتي بأمر يناقض قانون المادة من أساسه؛ وهو ميلاد عيسى عليه السلام بأسلوب غير تقليدي، والإنسان يأتي إلى الدنيا من أب وأم، ويأتي الحق بعيسى مخلوقاً من أم دون أب، فانتقضت المادية، وهم كماديين غفلوا عن الخلق الأول: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2786 إذن فلماذا الفتنة في عيسى عليه السلام؟ . لقد نقض أمامهم الأساس التقليدي المادي لمجيء الإنسان إلى الدنيا من ذكر وأنثى، وجاء عيسى عليه السلام من أم دون أب. ليثبت سبحانه طلاقة القدرة وأنه جعل الأسباب للبشر، فإن أراد البشر مُسَبَّباً فعليهم أن يأخذوا الأسباب، أما سبحانه وتعالى فهو مسبِّبُ الأسباب وخالقها وهو القادر - وحده - على إيجاد الشيء بتنحية كل الأسباب. ونعلم أن قضية الخلق دارت على اربعة أنحاء، إما أن ينشأ الشيء من وجود الشيئين، هذه هي الصورة الأولى. وإما أن ينشأ الشيء من عدم وجود الشيئين وهذه هي الصورة الثانية. وإما أن ينشأ الشيء من وجود الشيء الأول وعدم وجود الشيء الثاني، وهذه هي الصورة الثالثة، وإما أن ينشأ الشيء من وجود الشيء الثاني مع عدم وجود الشيء الأول، وهذه هي الصورة الرابعة. تلك هي الصور الأربع لوجود شيء ما. ولم يشأ الله أن يجعل الخلق - وهو الإنسان المكرم الذي سخر له الحق كل ما في الكون - على نحو واحد؛ حتى لا يقولن أحد: إن السببية مشروطة للوجود. بل المسبَّب هو المشروط في الوجود بدليل أنه سبحانه خلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، وخلقنا جميعاً نحن من أب وأم، وخلق عيسى عليه السلام من أم دون أب، وخلق حواء من أب دون أم. هذه هي القسمة العقلية الواضحة، فليست المسألة عنصرية موجودة، ولكن قيمة واقتدار واجد. وقدرة الحق تتجلى أيضاً أمامنا حينما تكون الأسباب موجودة كالأب والأم. لكن يشاء سبحانه أن يكون الاثنان عقيمين فهو القائل: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} [الشورى: 49 - 50] إذن فليست المسألة مدار أسباب تُوجَد، بل مسَبِّبِ يريد أن يُوجِد، وأراد الحق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2787 أن يكون مجيء عيسى عليه السلام بهذه الصورة ليلفت بني إسرائيل لعلهم يخرجون من ضلالات المادية، فأوجده من أم دون أب، فكان هذا آية على طلاقة قدرته، ولكن اليهود استقبلوا هذه المسألة استقبالاً على غير مراد الله، فكذبوا عيسى، وقد حدث التكذيب من قبل أن يتكلم عيسى بالانجيل. ووقفوا أمام رسالته بعنف، والذي يدلنا على أنهم قوم كذابون، هو رغبتهم في استمرار السيطرة الدينية لهم، وكان عندهم شريعة تقتضي الرجم للزانية، فلماذا إذن لم يتهموا مريم بالزنا عندما ولدت عيسى؟ ولماذا لم يعاقبوها حسب سريعة التوراة؟ ولماذا انتظروا إلى أن يجيء عيسى عليه السلام بالإنجيل ليقولوا: يا فاعل يا ابن الفاعلة. كان انتظارهم دليلاً على أن ميلاد عيسى عليه السلام كان آية بينة صدعتهم وصدتهم عن ذلك، فقد نطق عيسى عليه السلام بعد ميلاده ولم تتكلم مريم قطّ؛ لأن ما حدث أمر فوق منطقها، وجهزها الله لهذا الموقف؟ ، وأمرها بالصمت عندما يسألونها، وأن تشير إلى المولود الذي في المهد: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 29 - 31] وانبهروا انبهاراً فتت فيهم القوى، فقوى الخصومة ساعة ترى هذا لا تجد إلا الانهيار، فألحق أبلج، والباطل لجلج. إذن كان الأمر بيدهم وفي توراتهم أن من يزن يرجم، فلماذا لم يرجموا أم عيسى إذن؟ . لا بد أنهم صدموا بقوة جعلت موازين حقدهم تختل، المعجزة الباهرة هي كلام عيسى ابن مريم في المهد: {إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} وجعلت المفاجأة أقوى الأقوياء فيهم ينهار، وتخور قواه. وعندما نقول هذا الكلام فليس الهدف منه تصحيح عقائد أحد، ولكننا فقط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2788 نريد أن يتضح منطق الإيمان في عقول المسلمين، أما أبناء الديانات الأخرى فهم أحرار فيما يعتقدون، والمهم بالنسبة لنا أن يكون ديننا وقرآننا متضحاً أمام أعيننا، ولا يجرؤ أحد أن يميل به. {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} ونحن كمسلمين نستنكف أن نقول ما قالوه من بهتان على مريم البتول، والبهتان هو الكذب الشرس. فهناك لون من الكذب قد يكون مقبولاً، ولون من الكذب غير مقبول: فأن يقول قائل عن رجل ورع: إنه شرب الخمر، والقائل يعلم أنه كاذب، فهذا كذب ثقيل شرس، يتحير ويتعجب من يسمعه؛ وهذا هو البهتان. ولم يستح ويمتنع اليهود حينما رموا مريم - الطاهرة بأمر الله - بالبهتان مع أنهم علموا أن لمريم سابقة خير واستقامة. لقد كان ماضي مريم ناصعاً؛ لأنه جرح مريم في عرضها، ولو رجعوا إلى تاريخهم قبل ميلاد عيسى من مريم لوجدوا أن كل واحدة من بنات بني إسرائيل كانت تستشرف أن يكون النبي المولود بعد موسى من بطنها. وكانوا يعرفون أن النبي القادم من بعد موسى ستلده عذراء، وأبلغ بنو إسرائيل بناتهم بكيفية مجيء النبي القادم عيسى ابن مريم، تماماً مثل قضية البشارة برسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89] ومن رحمة الله بمريم نفسها أن الله جعل لها التمهيدات التي تثبت لها أمام نفسها أنها بريئة، وأن العملية كلها قد تمت ب «كن» من الله، ولم يجعل الله المسألة سرّاً عن مريم فتحمل بأمر قوله: «كن» دون أن تدري، لا. بل أراد سبحانه أن تكون عملية مادية. وجاء الملك لمريم ونفخ فيها بالحمل. وعرفت هي السبب مادياً بالملك والنفخ حتى لا تتهم أو تشك بأن شيئاً قد حدث لها وهي نائمة أو غير ذلك. لقد أراد الله المسألة على تلك الصورة ليجعلها أمراً يقطع الشك لديها، وهي التي بُشرت به - إيناساً لها - عندما كانت صغيرة قبل البلوغ وجاءها زكريا وهو الكفيل لها والذي يأتيها بالطعام ودخل عليها المحراب فوجد عندها الرزق وسألها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2789 {أنى لَكِ هذا} أجابت: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] لقد نطقت مريم البتول من قبل: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ومن الحساب أن يكون للمرأة زوج لترزق بالولد، ولكن الله يرزق من يشاء بغير حساب. ومن العجيب أنها في هذا القول نبهت زكريا إلى قضية كانت في بؤرة شعوره؛ ولذلك يقول الحق: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [آل عمران: 38 - 40] إذن فقد شجعت مريم زكريا على أن يدعو ربه، وتلك سلسلة تمهيدية ليطمئن إحساس مريم أن ولادتها لعيسى عليه السلام إنما جاءت ب «كن» وجاء لها الحق بفاكهة الصيف في الشتاء، وعندما قالت لسيدنا زكريا: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} تنبه ودخل من هذا الباب، فدعا ربه على الرغم من علمه أن امرأته عاقر، وأنه بلغ من الكبر عتياً، ومفهوم لنا معنى قول الرجل عن نفسه إنه بلغ من الكبر عتيا؛ أي أنه لم يعد يملك القدرة على الإنجاب. وهذه القضية تعطينا سبقاً قرآنيا لكثير من قضايا العلم: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] هذا القول هو أشبه بمذكرة تفسيرية لبلوغه من الكبر عتيا. ويثبت العلم الحديث أن العظام هي آخر وعاء لتغذية الإنسان، فإن امتنع الإنسان عن الطعام فالدهون التي في جسده تغذية. وإن امتنع الماء عن الإنسان وهو المكوِّن لتسعين في المائة من وزنه يمتص الإنسان الماء من خلايا الجسم والعضلات واللحم. ولذلك يقال في المثل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2790 العربي: سنة اذابت الشحم، وسنة أفنت اللحم، وسنة محت العظم. فكأن البداية تكون التغذية من الشحم ومن بعد ذلك من اللحم ومن بعد الشحم واللحم يأخذ الجسم غذاءه من العظم. وهذه هي التي جاءت على لسان سيدنا زكريا: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} . فآخر مخزن للتغذية لم يعد به ما يمكن أن يستمد منه زكريا طاقة الإنجاب. وما الذي يغذيه العظم من الجسم؟ إنه يغذي المخ، وهو السيد الأعلى الذي يدير كل جارحة في الجسم، وتعمل كل جارحة في خدمته، ويعيش المخ بطبيعة الحال كل عمره في خدمة الجوارح، يرتب لها قدرات العمل والتفكير والإحساس والسلوك، وما دام المخ موجوداً، فكل شيء يتم تعويضه. ولذلك يحاولون - الآن - تعريف الموت طبياً، فيقولون: لا يحدث الموت مادامت خلايا المخ حية؛ فإذا ماتت خلايا المخ فهذا هو الموت. ومن عجيب الأمر أن سيد الإنسان له مكان في أعلى الجسم إنه هو المخ، داخل الجمجمة، أما النبات فسيده في الجذور. وإن لم تجد الجذور مياها تذيب بها العناصر في الأرض فالنبات يأخذ غذاءه من الورق، وبعد أن يذبل الورق يأخذ النبات غذاءه من الفروع الصغيرة. وعندما تذبل تلك القروع وتجف ولا ينقذ النبات إلا مجيء بعض الماء للجذور. وكذلك المخ بالنسبة للإنسان. فكأن مريم شجعت سيدنا زكريا عندما قالت أمامه: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فدعا سيدنا زكريا الله أن يرزقه بالولد، فجاءه الولد. وهذه القضية نطقت بها مريم وتمت تجربتها في سيدنا زكريا. وبعد ذلك جاءها البشير بميلاد المسيح عيسى ابن مريم: {إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَمِنَ الصالحين} [آل عمران: 45 - 46] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2791 كيف يصوغ القرآن هذه الصياغة، وكيف تقول هي: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47] لقد كانت سيدتنا مريم البتول تحسن الاستقبال عن الله، فساعة سمعت أن اسمه المسيح عيسى ابن مريم، عرفت أن نسبه لها يعني أنه بلا أب. وعرفت أن الحق سبحانه ما نسبه إليها إلا لأنه لا أب له. ويقول الحق بعد ذلك: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2792 ونلاحظ أن الآية تبدأ بواو العطف على ما قبلها، وهو قوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} [النساء: 155 - 156] ويعطف سبحانه على جرائمهم هذه الجريمة الجديدة: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله} وأكثر ما يدهش في هذا القول هو كلمة {رَسُولَ الله} ، فهل هي هنا من قولهم؟ إن كانوا قد قالوها فهذا دليل اللجاجة المطلقة، ولو قالوا: إنهم قتلوه فقط لكان الجرم أقل وطأة، ولكن إن كانوا قد عرفوا أنه رسول الله وقتلوه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2792 فهذا جرم صعب للغاية. أو أن كلمة {رَسُولَ الله} هنا في هذه الآية ليست من مقولهم الحقيقي وإنما من مقولهم التهكمي. وأضرب المثل لأوضح هذا الأمر. . كأن يأتي شخص ذو قوة هائلة ومشهور بقوته ويأتي له شخص آخر ويضربه ويهزمه ويقول لجماعته: لقد ضربت الفتى القوي فيكم. إذن قد يكون قولهم: {رَسُولَ الله} هو من قبيل التهكم، أو أن كلمة {رَسُولَ الله} هنا هي من قول الحق سبحانه وتعالى مضافاً إلى قولهم ليبشع عملهم. «وقولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله} فكأن الحق لم يشأ أن يذكر عيسى ابن مريم إلا مرتبطا أو موصوفاً بقوله: {رَسُولَ الله} لنعلم بشاعة ما فعلوه، فعيسى ابن مريم رسول الله على رغم أنوفهم، وخاصة أن الكلام في مجال انكارهم وجحودهم لنعم الله، وكفرهم بآيات الله، وكأن الحق يسخر منهم؛ لأنه ما كان الله ليرسل رسولاً ليبين منهجه للناس ثم يسلط الناس على قتله قبل أن يؤدي مهمته. وجاء بكلمة {رَسُولَ الله} هنا كمقدمة ليلتفت الذهن إلى أن ما قالوه هو الكذب. وبعد ذلك يقول لنا سبحانه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} . وكلمة» وما صلبوه «هنا هي لتوضيح أن مجرد ظنهم أنهم قتلوا المسيح جعلهم يشيعون ذلك ويعلنونه للناس، وهم قد فعلوا ذلك قبل أن يتوجهوا إلى فكرة الصلب، فقد قتلوا شخصاً شبهه الله لهم ولم يكن هو المسيح وصلبوه من بعد ذلك، وبمجرد قتل هذا الشخص طاروا بخبر القتل قبل أن تبدأ فكرة الصلب. ويقطع الله عليهم هذا الأمر، فيقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} . وقد لفتنا سبحانه من قبل إلى أن عملية ميلاد المسيح تم استقبالها من بني إسرائيل بضجة، فعلى رغم علمهم خبر مجيء المسيح بالميلاد من غير أب، وعلى رغم أنهم علموا بناتهم الاستشراف أن يكون لأية واحدة منهن شرف حمل المسيح، وعلى رغم ذلك قالوا البهتان في مريم التي اصطفاها الله. وكذلك كان لمسألة الوفاة ضجة. واقتران الضجتين: ضجة الميلاد وضجة الوفاة معاً في رسالة السيد المسيح يدلنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2793 على أن العقل يجب أن تكون له وحدة تفسيرية، فساعة يتكلم العقل عن قضية الميلاد بالنسبة لعيسى ابن مريم لا بد أن يستشعر الإنسان أن الأمر قد جاء على غير سنة موجودة، وساعة يبلغنا الحق أن بني إسرائيل بيتوا النية لقتل عيسى ابن مريم، وأن الله رفعه إليه تكون المسألة قد جاءت أيضا بقضية مخالفة، ولا بد أن نصدق ما بلغنا الله به، وأن يتذكر العقل أن الميلاد كان مخالفاً، فلماذا لا تكون النهاية مخالفة أيضاً؟ وكما صدقنا أن عيسى ابن مريم جاء من غير أب، لا بد أن نصدق أن الحق قد رفعه في النهاية وأخذه، فلم يكن الميلاد في حدود بلاغ الحق لنا. والميلاد والنهاية بالنسبة لعيسى ابن مريم كل منهما عجيبة. وإن فهمنا العجيبة الأولى في الميلاد فنحن نعتبرها تمهيداً إلى أن عيسى ابن مريم دخل الوجود ودخل الحياة بأمر عجيب، فلماذا لا يخرج منها بأمر عجيب؟ وإن حدثنا الحق أن عيسى ابن مريم خرج من الحياة بأمر عجيب فنحن لا نستعجب ذلك؛ لأن من بدأ بعجيب لا عجب أن ينتهي بعجيب. وسبحانه وتعالى حكم وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} وكلمة {شُبِّهَ لَهُمْ} هذه هي دليل على هوج المحاولة للقتل، فقد ألقى شبهه على شخص آخر. وذلك دليل على أن المسألة كانت غير طبيعية، ليس فيها حزم التبيّن من المتربصين القتلة. ونعلم أن الحواريين وأتباع سيدنا عيسى كانوا يلفون رءوسهم ويدارون سماتهم، ولذلك قال الحق لنا: {ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} أي أنهم قد شبه لهم أنهم قتلوه. واختلفت الروايات في كلمة «شبه لهم» ، فمن قائل: إنهم حينما طلبوا عيسى ابن مريم ليقتلوه دخل خوخة، والخوخة هي باب في باب، وفي البيوت القديمة كان يوجد للبيت باب كبير لإدخال الأشياء الكبيرة، وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الأفراد، وفي سقف يسمح بمرور الأفراد، وفي سقف البيت توجد فتحة وكوَّة اسمها (روزنة) أو (ناروظة) . فلما طلبوا عيسى دخل الخوخة، ودخل خلفه رجل اسمه «تطيانوس» وعندما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2794 رأى سيدنا عيسى هذا الأمر ألهمه الله أن ينظر إلى أعلى فوجد شيئاً يرفعه، فلما استبطأ القومُ «تطيانوس» خرج عليهم فتساءلوا: إن كان هذا تطيانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين تطيانوس؟ إذن فقد اختلط عليهم الشبه بين «تطيانوس» وعيسى، وألقى الله شبه عيسى على «تطيانوس» فقتلوه. أو أن عيسى عليه السلام حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال لهم عيسى: أيكم يُلقي عليه شبهي وله الجنة؟ فماذا إذن يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة؟ وقدم عيسى عليه السلام الجائزة الكبرى لأي مؤمن، وقبل واحد من الحواريين هذه المهمة، ويقال له «سرخس» . فألقى شبه المسيح عيسى عليه، فقتل اليهود «سرخس» . وقالوا: إنه حينما عرف بعض الذين ذهبوا لقتل عيسى أنه رُفع، خافوا أن تنتشر حكاية رفع عيسى بين الناس فيؤمنوا برسالة عيسى، وقد ينتقم الناس من الذين أرادوا قتله. ولذلك جاء القتلة بشخص وقتلوه وألقى على هذا القتيل شبه عيسى وأعلن القتلة أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم. أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا نبي الله عيسى لليهود، ولما رأى المشهد ووجد المتربصين بعيسى يدخلون على الحواريين وفيهم عيسى وسأل المتربصون الحواريين: أيكم عيسى؟ فتيقظت ملكة التوبة في نفس الذي وشى بعيسى وقادة تأنيب الضمير على خيانة الرسول إلى أن يقول: «أنا عيسى» . ولم يتصور المتربصون أن يجيب إنسان على قولهم: «أيكم عيسى» . إلا وهو عيسى بالفعل؛ لأن مشهد المتربصين يوحي أنهم سيقتلون عيسى. وقتلوا الذي اعترف على نفسه دون تثبت. أو أن واحداً باع عيسى لقاء ثلاثين دينارأً وتشابه عليهم كبيراً بتلك الروايات. فالمهم أنهم قالوا قتلنا عيسى. وصلبناه. وقرآننا الذي نزل على رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} . وقال الحق لنا: إنه رفع عيسى إليه، وانتهت المسألة بالنسبة لنا؛ لأننا كمؤمنين لا نأخذ الجزئيات الدينية أولاً فإن صدقناها آمنا، لا. نحن نؤمن أولاً بمُنَزَّل هذه الجزئيات ونصدق من بعد ذلك كل ما جاء منه سبحانه، وهو قال ذلك فآمنا به وانتهت المسألة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2795 إن البحث في هذا الأمر لا يعنينا في شيء، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} . ويدلنا هذا القول على عدم تثبت القتلة من شخصية القتيل، وهو أمر متوقع في مسألة مثل هذه، حيث يمكن أن تختلط الأمور. إننا نرى ذلك في أية حادثة تحدث مع وجود أعدادا كبيرة من البشر وأعينهم مفتوحة، وعلى الرغم من ذلك تختلف فيها الروايات. بل وقد تكون الحادثة مصورة ومسجلة ومع ذلك تختلف الروايات، فما بالنا بوجود حادثة مثل هذه في زمن قديم لا توجد به كل الاحتياطات التي نراها في زماننا؟ إذن فاضطراب الآراء والروايات في تلك الحادثة أمر وارد، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} . فعيسى باق؛ لأن الحق لم يأت لنا بخبر موت عيسى. ويبقى الأمر على أصل ما وردت به الآيات من أن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى ابن مريم. وكمسلمين لا نستبعد أن يكون الحق سبحانه وتعالى قد رفعه إلى السماء؛ لأن المبدأ - مبدأ وجود بشر في السماء - قد ثبت لرسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد حدثنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه عُرج به إلى السماء، وأنه صعد وقابل الأنبياء ورأى الكثير من الرؤى، إذن فمبدأ صعود واحد من البشر من الأرض وهو لا يزال على قيد الحياة البشرية المادية إلى السماء أمر وارد. والخلاف يكون في المدة الزمنية، لكنه خلاف لا ينقض مبدأً، سواء صعد وبقي في السماء دقائق أو ساعات أو شهوراً. فإن حاول أحد أن يشكك في هذه المسألة نقول له: كل أمر قد يقف العقل فيه يتناوله الحق سبحانه وتعالى تناولاً موسعاً. فسبحانه خالق رحيم لا يورد نصاً بحيث يتوقف العقل أمامه، فإن قبل العقل النص كان بها، وإن لم يقبله وجدت له مندوحة، لأنه أمر لا يتعلق بصلب العقيدة. فهب أن إنساناً قال إن عيسى لم يرفع بل مات، فما الذي زاد من العقائد وما الذي نقص؟ ذلك أمر لا يضر ولا ينفع. ومثل ذلك الإسراء، جاء فيه الحق بالقول القرآني: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2796 بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1] ولم يقل الحق أي قول في أمر المعراج، لأن الإسراء آية أرضية، انتقل فيها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى بيت المقدس. ونعلم أن رسول الله لم يذهب إلى بيت المقدس قبل الإسراء، بدليل أن كفار مكة أرادوا إحراج الرسول فقالوا له: صف لنا بيت المقدس. وهم واثقون من عدم ذهابه إليه من قبل. وكان في الطريق قوافل لهم رآها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ووصف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيت المقدس وقال لهم عن أخبار قوافلهم. وجاءت القوافل مثبتة لصدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن كان الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آية أرضية يمكن أن يقام عليها الدليل. ولذلك جاء بها الحق صريحة فقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} . لكن المعراج لم يذكره الحق صراحة، فلم يكن من قريش ولا من أهل الأرض من رأي سدرة المنتهى، ولم يكن لأحد من أهل الأرض القدرة على أن يصف طريق المعراج. إذن فالآيات التي يقف فيها العقل يتناولها القرآن تناولاً موسعاً رحمة بالعقول؛ لأن الإنسان إن اعتقد بها فهذا أمر جائز، وعدم الاعتقاد بها لا يؤثر في أصل العقيدة، ولأ في أصول التكليفات، ومدارها التصديق. ومادام الحق سبحانه وتعالى قد فوض رسوله أن يعطينا أحكاماً. إن عملنا بها جزانا الله الثواب، وإن لم نعمل بها نالنا العقاب {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} ، فكيف لا يفوضه في أن يقول لنا بعضاً من الأخبار؟! ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وذكره البخاري في صحيحه أنه قال: «والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2797 الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وحتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها» . ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم «وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً» . هذه أخبار أخبرنا بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن لا توجد قضية عقدية تقف مستعصية أمام عقول المسلمين خاصة. أن البعض قد يقول: إن الحق سبحانه قد قال: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} [آل عمران: 55] وقد شرحنا من قبل في خواطرنا عن سورة آل عمران كل الشرح لهذه المسألة. قلنا: إن علينا أن ننتبه إلى «واو العطف» بين «متوفيك» و «رافعك» . ومن قال إن «واو العطف» تقتضي الترتيب؟ إن «واو العطف» تقتضي الجمع فقط كقولنا: «جاءني زيد وعمرو» ، هذا يعني أن زيداً جاء مع عمرو. أو ان زيداً جاء أولاً، أو أن عمراً جاء أولاً وتبعه زيد، ف «الواو» لا تقتضي الترتيب، وإنما مقتضاها الجمع فقط لكن إن قلنا «جاءني زيد فعمرو» فزيد هو الذي جاء أولاً وتبعه عمرو؛ لأن «الفاء» تقتضي الترتيب، أما «الواو» فتأتي لمطلق الجمع ولا تتعلق بكيفية الجمع، وسبحانه قال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} هذا الضرب من الجمع لايدل على أن التوفي قد تم قبل الرفع، ودليلنا أن الحق سبحانه أنزل في القرآن آيات تدل على مثل هذا، كقوله الحق: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} [الأحزاب: 7] فسبحانه أخذ الميثاق من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجمع معه سيدنا نوحاً وإبراهيم، فهل هذا الجمع كان قائماً على الترتيب؟ لا؛ لأن نوحاً متقدم جداً في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2798 الموكب الرسالي وسبق سيدنا رسول الله بسنوات طويلة ويفصل بينهما رسل كثيرون. إذن ف «الواو» لا تقتضي الترتيب في الجمع. ولماذا جاء الحق بأمر الوفاة مع أمر الرفع؟ جاء الحق بذلك ليشعر عيسى أن الوفاة أمر مقطوع به، لكن الرفع مجرد عملية مرحلية. أو جاء قوله الحق: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} ؛ لأن الإنسان المخلوق لله مكون ومركب من مادة وفي داخلها الروح، وعندما يريد الحق أن ينهي حياة إنسان ما، فهو يقبضه بدون سبب وبدون نقض في البينة، ويموت حتف أنفه، أما إذا ما ضرب إنسان إنساناً ضربة عنيفة على رأسه فالمضروب أيضاً يموت، لأن الروح لا تحل في جسم به عطب شديد. إذن فالحق أوضح لعيسى: أنا آخذك إليّ وأرفعك متوفياً وليس بجسدك أَيُّ نقض لبنيتك أو هدم لها أو لبعضها، بل آخذك كاملاً. ف «متوفيك» تعني الأخذ كاملاً دون نقض للبنية بالقتل. ونحن - كما عرفنا من قبل - نفرق بين القتل والموت. فالموت هو أن تُقبض الروح حتف الأنف، أما القتل فهو هدم للبنية فتزهق الروح، والدليل على ذلك أن الحق في كتابه الكريم قال: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] إذن فحين قال بنو إسرائيل: إنهم قتلوا عيسى ابن مريم كذبهم الحق وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} . ورفعه الله إليه كاملاً، وسبحانه وتعالى يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} . ويوضح الحق سبحانه وتعالى: لم يتيقنوا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم، ولكنهم شكوا فيمن قُتل، فلم يعرف المتربصون لقتله أقتلوا عيسى أو تطيانوس أو سرخس؟ والحق سبحانه جاء هنا بنسبتين متقابلتين، فبعد أن نفى سبحانه نبأ مقتل عيسى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2799 ابن مريم قال: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} . والنسبة الأولى المذكورة هنا هي الشك، وهو نسبة يتساوى فيها الأمران. والنسبة الثانية هي اتباعهم للظن، وهو نسبة راجحة. لقد بدأ الأمر بالنسبة إليهم شكاً ثم انقلب ظناً. وينهي الحق ذلك بعلم يقيني {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} وسبحانه ينفي بذلك انهم قتلوه يقيناً، واليقين - كما نعلم - هو الأمر الثابت المعقود في الواقع والأعماق بحيث لا يطفو إلى الذهن ليناقش من جديد أو يتغير، وله مراحل هي: مرحلة العلم، واسمها علم اليقين، ومرحلة العين، واسمها عين اليقين، ومرحلة الحقيقة، واسمها حق اليقين. وعندما يخبرنا واحد من الناس أن جزءا من نيويورك اسمه «مانهاتن» . وأن مانهاتن هذه هي جزيرة يصل تعداد سكانها إلى عشرة ملايين نسمة، وفيها ناطحات سحاب، وجاء هذا الخبر ممن لا نعرف عنه الكذب فيسمعه من لم يَر نيويورك، فيصير مضمون الخبر عنده علماً متيقناً؛ لأن الذي أخبر به موثوق به. وإن جاء آخر ووجه للسامع عن نيويورك دعوة لزيارتها ولبى السامع الدعوة وذهب إلى نيويورك، هنا تحول الخبر من «علم يقين» إلى «عين اليقين» . وإن جاء ثالث وصحب السامع إلى قلب نيويورك وطاف به في كل شوارعها ومبانيها، فهذا هو «حق اليقين» وأسمى أنواع اليقين هو «حق اليقين» ، وقبلها «عين اليقين» ، وقبل «عين اليقين» «علم اليقين» . وحينما عرض سبحانه المسألة قال: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 3 - 7] هو سبحانه يعطينا علم اليقين، ويصدقه المؤمنون بهذا العلم قبل أن يروه، وسيرى المؤمنون وهم على الصراط النارَ وذلك عين اليقين. أما مسألة دخول الذين يرون الجحيم إليها فأمر سكت عنه الحق؛ لأن هناك من يدخل الجنة ولا يدخل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2800 النار، وهناك من يدخل النار ولا يدخل الجنة. والكافرون بالله هم الذين سيرون الجحيم حق اليقين. ويأتي «حق اليقين» في موضع آخر من القرآن الكريم: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 92 - 95] فكل مكذب ضال سينزل إلى الحميم ويصلى الجحيم ويعاني من عذابها حق اليقين. إذن فقوله الحق عن مسألة قتل عيسى ابن مريم: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} يصدقه الذين لم يشاهدوا الحادث، تصديق علم يقين لأن الله هو القائل. والذين رأوا الحادث عرفوا أنهم لم يقتلوه ولكنهم شكوا في ذلك. وأما من باشر عملية القتل لإنسان غير عيسى عليه السلام فهو الذي عرف حقيقة اليقين. والذي حدث هو ما يلي: {بَل رَّفَعَهُ الله ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2801 لقد رفعه العزيز الذي لا يغلبه أحد على الإطلاق، فهو القوي الشديد الذي لا ينال منه أحد، فإذا كانوا قد أرادوا قتل رسوله عيسى ابن مريم، فالله غالب على أمره، وهو العزيز بحكمة. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2801 و «إن» هنا هي «إن» النافية، وهي غير «إن» الشرطية. وإليكم هذا المثال عن «إن» النافية من موضع آخر من القرآن حين قال الحق: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2801 {الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] يصحح الحق هنا الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الذين يظاهرون من نسائهم بقول الواحد منهم لزوجته: «أنت علي كظهر أمي» ، فيقول سبحانه: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] فيوضح سبحانه: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم. و «إن» في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا الآن عنها هي «إن» النافية. كأن الحق يقول: ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمن به قبل موته. وهذا شرح لمعنى «إن النافية» . وقد يقول قائل: ما حكاية الضمائر في هذه الآية؟ فالآية بها أكثر من ضمير، مثل قوله الحق: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} وعلى من تعود «به) ؟ وعلى من تعود الهاء في آخر قوله» موته «؟ هل هو موت عيسى أو موت أي واحد من أهل الكتاب، فالمذكور عيسى، ومذكور أيضاً أهل الكتاب، فيصح أن يكون القول كالآتي: لن يموت واحد من أهل الكتاب إلا بعد أن يؤمن بعيسى، ويصح أيضاً: لن يموت عيسى إلا بعد أن يؤمن به كل واحد من أهل الكتاب، ولأن الضمير لا يعرف إلا بمرجعه، والمرجع يبين الضمير. فإن كانت هناك ألفاظ سبقت. . فكل منها يصح أن يكون مرجعاً، أو أن يعود الضمير على بعض مرجعه كقول الحق: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] والمعمَّر هو الإنسان الذي طعن في السن، ولا ينقص من عمر هذا المعمَّر إلا كما أراد الله، والهاء في» عمره «تعود إلى بعض من المعمَّر. ذلك أن كلمة» معمَّر « الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2802 مكونة من عنصرين هما» ذات الرجل «و» عمر الرجل «، فلما عاد الضمير عاد على الذات دون التعمير، فيكون المعنى هو: وما يعمَّر من معمَّر ولا ينقص من عمر ذات لم يثبت لها التعمير. وماذا يكون الحال حين يوجد مرجعان؟ مثل قوله الحق: {رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] هنا نجد مرجعين:» السماء «و» العمد «فعلى أي منهما تعود الهاء الموجودة في كلمة» ترونها «، هل تعود» الهاء «إلى المرجع الأول وهو السموات، أو للمرجع الثاني وهو» العمد «؟ يصح أن تعود» الهاء «إلى السموات. . أي خلق السموات مرتفعة قائمة بقدرته لا تستند على شيء وأنتم تنظرون إليها وتشاهدونها بغير دعائم، ويصح أيضاً أن تعود إلى العمد. أي بغير العمد التي نعرفها ولكن رفعها الحق بقوانين الجاذبية. أو رفع السموات {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي أن العمد مختفية عن رؤية البشر. وهكذا يصح أن يًنسب الضمير ويعود إلى أحد المرجعين. والآية التي نحن بصددها، نجد أنه قد تقدم فيها شيئان هما المسيح وأهل الكتاب، وفيهما ضميران اثنان. فهل يعود الضميران على عيسى، أو يعودان على أهل الكتاب؟ أو يعود ضمير منهما على عيسى والآخر على أهل الكتاب؟ وأي منهما الذي يرجع على عيسى، وأي منهما الذي يرجع على أهل الكتاب؟ أو أن هناك مرجعاً ثالثاً لم يُذكر ويعلم من السياق هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونجد أن الضميرين قد يرجعان إلى المرجع الثالث، أي إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي بشر بمجيئه عيسى ابن مريم، وتواتر الأحاديث عن أن عيسى يوشك أن ينزل فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ولسوف يصلي عيسى ابن مريم خلف واحد من أمة رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولماذا التقى النصارى مع اليهود في مسألة القتل والصلب؟ هم معذورون في ذلك؛ لأن الحق لم يأت ببيان فيها آنئذ. وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} يدل على أنهم معذورون إن قالوا ذلك. ولكن كان الواجب أن يتمردوا على مسألة الصلب هذه، إن كان فيه ألوهية أو جزء من ألوهية، وكان من الواجب أن يخفوا مسألة الصلب. ويأتي الإسلام ليبرئ عيسى عليه السلام من هذه المسألة ويعين أتباع عيسى على تبرءته منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2803 ولكن لم يلتفت أتباع عيسى إلى قول الإسلام في هذه القضية {ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} وكان يجب لأن يلتفت إليها أتباع المسيح. وحين يقص الحق كل ذلك فهو يحكم من بعد ذلك حكماً إلهياً: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} النصارى يقولون بالرفع، ولكن بعد الصلب. ونحن المسلمين نقول بالرفع ولا صلب، رفعه الله إليه وسينزل. وحكمة ذلك أنه لم يوجد رسول من الرسل السابقين فُتن فيه قومه فجعلوه بعضاً من إله أو إلهاً فلم تسكت السماء عن ذلك، فرفعه سبحانه وسينزله ليسفه هذه القضية، وبعد ذلك يجري عليه قدر الله في خلقه وهو الموت. إن الذين يقفون في هذه المسألة يجب ألا يقفوا، لأن مسألة سيدنا عيسى عليه السلام بدأها الله بعجيبة خرقت النواميس لأنه وُلد من أم دون أب. فإن كنتم قد صدقتم العجيبة في الميلاد، فلماذا لا تصدقون العجيبة في مسألة الرفع؟ وإن قال واحد منا: لقد مات عيسى عليه السلام. نقول: ماذا تقولون في نبيكم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟ أصعد إلى السماء معروجاً به إليها؟ ألم يكن رسول الله حياً بقانون الأحياء؟ نعم كان حياً بقانون الأحياء. وظل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مدة وجيزة في السماء ثم نزل إلينا، إذن فالمسألة في أن يذهب خلق من خلق الله بإرادة الحق وقدرته إلى السماء وهو حي ثم ينزل إلى الأرض وهو حيٌّ ليس عجيبة. والخلاف بين رفع عيسى وصعود محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمعراج خلاف في المدة. وهذا لا ينقض المبدأ؛ فالمهم أنه صعد بحياته ونزل بحياته، وظل فترة من الزمن بحياته، إذن فمسألة الصعود إلى السماء والبقاء فيها لمدة أمر وارد في شريعتنا الإسلامية. ولتأكيد هذه المسألة يقول الحق: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِْ} [النساء: 159] السامع السطحي لهذه الآية قد يقول: إنهم أهل كتاب ولا بد أن يكونوا قد آمنوا به، وأقول: لا، لقد آمنوا به إيماناً مراداً لأنفسهم، وليس الإيمان المراد لله، آمنوا به إلهاً أو جزءاً من إله وهو ما يسمى لديهم بالثالوث - الآب والابن وروح القدس - ولكن الله يريد أن يؤمنوا به رسولاً وبشراً وعبداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2804 وإذ قال الحق: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} فمعنى هذا: ما أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام رسولاً وعبداً وبشراً قبل أن يموت. والضمير في قوله: {إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} يرجع إلى عيسى. والضمير الآخر الموجود في {قَبْلَ مَوْتِهِ} قد يرجع إلى عيسى أي قبل موت عيسى ولن يموت عليه السلام الموتة الحقيقية التي تنهي أجله في الحياة إلا بعد أن يؤمنوا به عبداً ورسولاً وبشراً، ولن يتحقق ذلك إلا إذا جاء بشحمه ولحمه ودمه ليقول لهم: أنتم مخطئون في أنكم أنكرتم بشارتي بمحمد الخاتم، وأنتم مخطئون في اتهامكم لأمي، والدليل على خطئكم هو أنني جئت مبشراً برسول للناس كافة هو محمد بن عبد الله، وهأنذا أصلي خلف واحد من أمة ذلك الرسول. فلن يأتي عيسى - عليه السلام - بتشريع جديد بل ليصلي خلف واحد من المؤمنين بمحمد بن عبد الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وحين يصنع عيسى ابن مريم ذلك، ماذا سيقول الذين فُتِنوا فيه؟ . لاشك أنهم سيعلنون الإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو أن كل كتابي من الذين عاشوا في المسافة الزمنية من بعد رفعه وحتى نزوله مرة أخرى سيعلن الإيمان بعيسى كبشر ورسول وعبد قبل أن يموت ولو في غيبوبة النهاية عندما تبلغ الروح الحلقوم وتترد في الحلق عند الموت. فقد يصح أن تكون الآية عامة {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ويعود الضمير فيها إلى كل كتابي قبل أن يموت. إن النفس البشرية لها هوى قد يستر عنها الحقائق ويغلق دونها باب اليقين ويدفعها إلى ذلك غرور الحياة، فإذا ما جاءت سكرة الموت بالحق، انتهى كل شيء يُبعد الإنسان عن منهج الحق واليقين؛ ولا تبقى إلا القضايا بحقها وصدقها ويقينها، وتستيقظ النفس البشرية لحظة تظن أنها ستلقى الله فيها ويسقط غرور الحياة، ويراجع الإنسان منهم نفسه في هذه اللحظة، ويقول: أنا اتبعت هوى نفسي. ولكن أينفع مثل هذا اللون من الإيمان صاحبَه؟ لا؛ لأن مثله في ذلك مثل إيمان فرعون، فقد قال حين أدركه الغرق: {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2805 فيسمع صوتَ الحق في تلك اللحظة: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91] فلم ينتفع فرعون لحظة الغرق بالإيمان. ويقول - سبحانه -: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 18] ويذيل الحق الآية: {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} وهذا يؤكد أن عيسى عليه السلام سيشهد على من عاصروا نزوله في الدنيا، وسوف يشهد يوم القيامة على الذين ادعوا له بالألوهية: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 116] ويعاود الحق سبحانه الكلام عن فظائع اليهود فيقول: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2806 هو سبحانه يوضح أن تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل جاء نتيجة لمواقف يعددها الله، لقد ارتكبوا ما ارتكبوا من ذنوب كبيرة وظلموا أنفسهم وظلموا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2806 غيرهم، وصدوا عن دين الله، بمعنى أنهم لم يدخلوا في الإسلام. وتستمر الحيثيات للتحريم لبعض الطيبات لتزيد على هذين الموقفين: {وَأَخْذِهِمُ الربا ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2807 وأي ظلم يتحدث عنه الحق في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} ؟ . الظلم معناه أن يحكم واحد لغير ذي الحق بحق، وقمة الظلم أن يحكم واحد بأن الله شريكاً، ولذلك قال سبحانه: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وحيثيات حكم الله بتحريم أشياء كانت حلالاً لبني إسرائيل متعددة. وحين يحرم الله شيئاً فمن المؤكد أنه محدود بالنسبة للمحلَّل؛ فالمحرم قليل، وبقية ما لم يذكره الله إنما يدخل في نطاق الحلال. مثال ذلك قوله الحق: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2807 ذَا قربى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 151 - 152] يورد الحق هنا المحرمات وهي أشياء محددة محدودة، أما النعم كلها فحلال. ومن هذا الأمر نفهم اتساع مدى رحمانية الحق بالخلق، فقد وهبنا الكثير والكثير من النعم التي لا تعد ولا تحصى ولم يحرم إلا القليل. وتحريم القليل جاء لتبقى كل نعمة في مجالها. فإذا قال الإنسان: حرم الله هذا الشيء لأنه ضار نقول: ما تقوله جائز، ولكن ليس الضرر هو سبب الحكم لِكل المحرمات، فقد يحرم سبحانه أمراً لتأديب قوم ما. - ولله المثل الأعلى - نرى المسئول عن تربية أسرة قد يحرم على ولد فيها لوناً من الطعام أو جزءاً من مصروف اليد ويكون القصد من ذلك هو العقوبة. ولماذا استحق بنو إسرائيل عقوبة التحريم؟ . لقد جاءوا من خلف منهج الله وأحلوا لأنفسهم ما حرم الله. وماداموا قد زاغوا فأحلوا ما حرم الله فالحق يرد عليهم: لقد اجترأتم على ما حرمت فحللتموه، ومن حقي أن أحرم عليكم ما أحللت لكم من قبل ذلك، حتى لا يفهم الإنسان أنه بتحليله لنفسه ما حرم الله قد أخذ شيئاً من وراء الله فلا أحد يمكنه أن يغلب الله. ولذلك يحرم سبحانه عليه شيئاً من حلاله. والتحريم إما أن يكون تحريم تشريع، وإما تحريم طبع أو فطرة أو ضرورة. نجد الرجل الذي أسرف على نفسه في تناول محرمات كالخمر - مثلاً - يحرم الله عليه أشياء كانت حلالاً له، ويقول له الطبيب: تهرأ كبدك وصار من الممنوع عليك أن تأكل صنوفاً كثيرة من الطعام والشراب. وهكذا نرى ظلم الإنسان لنفسه، وكيف نتج عنه تحريم أشياء كانت حلالاً له. ومن أسرف على نفسه في تناول صنف معين من الطعام كالسكر مثلاً فأكَله فوق ما تدعو به الحاجة، نجد سنة الله الكونية تقول له: لقد أخذت أكثر من حقك. وعطلت في جسدك القدرة على حسن استخدام السكر فصرت مريضاً، إياك أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2808 تتناول السكريات مرة أخرى. ويشتهي المريض السكر والحلوى ويملك القدرة على شرائهما، ولكنها محرمة عليه، وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول له: بظلم منك لنفسك حرمت ما أحللته لك. وآخر يملك الثروات والخدم والمزارع الشاسعة، ويقوم له الآخرون بطحن الغلال، ويأمر بأن يصنعوا له الخبز من أنقى أصناف الدقيق الخالي من أية قدر من «النخالة» ، ويصنعون له الخبز الأبيض، ويأكله بينما الاتباع يصنعون لأنفسهم الخبز من الدقيق الأقل نقاوة، فتقول له سنة الله: ستأكل الخبز المصنوع من النخالة بأمر الطبيب علاجاً لأمعائك لأنك أسرفت على نفسك في أكل الخبز المصنوع من أنقى أنواع الدقيق وليأكل رعاياك وعمالك الخبز المصنوع من أفخر ألوان الدقيق، فبظلم منك حرمنا ما أحل لك. وعندما نَرى إنساناً قد حُرمَ من نعمة من نعم الله التي هي حلال له، نعلم أنه قد حلل لنفسه شيئاً حرمه الله عليه، أو أسرف في استعمال حق أحله الله له، ولا أحد منا يفلت من رقابة الله. إذن فالتحريم قد يكون بالتشريع، إذا كانت العقوبة التحريم من المشرع، وقد يكون تحريماً بالطبع والفطرة إن كان في الأمر إسراف من النفس. ولنقرأ دائماً هذه الآية: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً} وكذلك الذين يأخذون مالاً بالربا، لقد أخذوا الربا ليزيد مالهم، لماذا تريدون المال؟ . أتريدون المال لذات المال؛ أم لهدف آخر؟ . صحيح أن المال رزق، لكنه رزق غير مباشر؛ لأنه يَشْتري به الأشياء التي ينتفع بها الإنسان، وهي الرزق المباشر. وقلنا قديماً: هب أن إنساناً في صحراء ومعه جبل من ذهب لكن الطعام انقطع منه، وجبل الذهب في مثل هذه الحالة لا ينفع، بل يصبح رغيف الخبز وكوب الماء في تلك الحالة أغلى من الذهب. والذي يزيد ماله بالربا، أيريد تلك الزيادة من أجل المتع؟ . سبحانه يمحق ذلك المال ويُذهبه في كوارث. ومن أراد أن يبقي له ما أحل الله إلى أن يأتي أجله فعليه ألا يبيح لنفسه أي شيء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2809 حرمه الله. وبذلك يظل متمتعاً بنعم الله عليه. فالحق هو القائل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} . الإنسان - إذن - هو الذي يظلم نفسه مصداقاً لقوله الحق: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] وهكذا ظلم اليهود أنفسهم فحرم الله عليهم طيبات أُحِّلت لهم. ومن الذي نقل الأمر الطيب إلى أمر غير طيب؟ . إنه الإنسان. ولكن هل نقل ذات الشيء أو حكم الشيء؟ . لقد نقل حكم الشيء، فجعل الشيء الحرام شيئاً حلالاً. {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً} . كيف يكون باستطاعتهم الصد عن سبيل الله؟ . لقد ظلموا أنفسهم وأخذوا الربا وتلك أمور تجعلهم في ناحية الضلال وفي جانب الباطل، وليت الأمر وقف عند هذا. بل أرادوا أيضاً إضلال غيرهم، وهذا هو مضمون الصد عن سبيل الله. وجعلهم هذا الأمر أصحابَ وزر آخر فوق أوزارهم، فلم يكتفوا بضلالهم بل تحملوا أوزار إضلال غيرهم. {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] وقد يسمع متشكك هذا القول. فيتساءل: كيف يناقض القرآن بعضه فيقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] ونقول: إن لكل وزر طريقاً وحساباً، فالإنسان يحمل وزر ضلاله وحده إن لم يضل به أحداً غيره، ولكن إن حاول إضلال غيره فهو يتحمل وزر هذا الإضلال. ويقول الحق في تكملة ظلمهم لأنفسهم: {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2810 أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ، وقد تعرضنا للربا من قبل. وقد أخذوا الرشوة، وهو أكل لمال الناس بالباطل؛ وكذلك السرقة، والغش في السلع، كل ذلك أخذ مال من الناس بغير حق، وما أخذ بغير الحق فهو باطل، وأعد سبحانه لهم مسبقاً عذاباً اليماً. ولكل إنسان مقعدان: مقعد من الجنة إن قُدّر إيمانه، ومقعد من النار إن قُدّر كفره، ولا مجال للظن بإمكان ازدحام الجنة أو ازدحام النار، فقد خلق الله مقاعد الجنة على أساس أن كل الناس مؤمنون، وجعل مقاعد النار على أساس أن كل الناس كافرون. ولذلك يقول الحق: {الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11] وحين يتبوأ المؤمن مقعده في الجنة يورثه الله المقعد الآخر الذي أعده للكافر؛ فقد كان للكافر قبل أن يكفر مقعدٌ في الجنة لو اختار الإيمان. وقد أعد الحق العذاب الأليم لهم أي الشديد إيلامه، وهو مهين أيضا أي أن في قدرته قهر أي إنسان يتجلد للشدة، فلا أحد يقدر على الجَلَد أمام عذاب الله. وهل هذا هو كل ما كان من أهل الكتاب؟ . ألم يوجد في أهل الكتاب من كان يدير مسألة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عقله، ويبحث في القضايا والسمات التي جاءت مبشرِّة به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة والإنجيل؟ . كان من بينهم من فعل ذلك، ويورد الحق سبحانه وتعالى التاريخ الصادق، فيستثنى من أهل الكتاب الراسخين في العلم فيقول: {لكن الراسخون ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2811 إذن لم يعمم الله الحكم على أهل الكتاب، الذي سبق بكفرهم وظلمهم لأنفسهم وأخذهم الربا وغير ذلك، بل وضع الاستثناء، ومثال لذلك «عبد الله بن سلام» الذي أدار مسألة الإيمان برسول الله في رأسه وكان يعلم أن اليهود قوم بُهت. فقال لرسول الله: إني أومن بك رسولاً، والله لقد عرفتك حين رأيتك كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد. ويقول الحق عن مثل هذا الموقف: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} . ولا أحد يتوه عن معرفة ابنه؛ كذلك الراسخون في العلم يعرفون محمداً رسولاً من الله ومبلغاً عنه، والراسخ في العلم هو الثابت على إيمانه لا يتزحزح عنه ولا تأخذه الأهواء والنزوات. بل هو صاحب ارتقاء صفائي في اليقين لا تشوبه شائبة أو شبهة. {لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} ، وقوله الحق: {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ} هو القرآن، وهو أصل يُرد إليه كل كتاب سابق عليه، فحين يؤمنون بما أنزل إلى سيدنا رسول الله، لابد أن يؤمنوا بما جاء من كتب سابقة. والملاحظ للنسق الأسلوبي سيجد أن هناك اختلافاً فيما يأتي من قول الحق: {والمقيمين الصلاة} فقد بدأ الحق الآية: {لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ والمقيمين الصلاة} . ونحن نعلم أن جمع المذكر السالم يُرفع بالواو وينصب ويُجر بالياء، ونجد هنا «المقيمين» جاءت بالياء، على الرغم من أنها معطوفة على مرفوع، ويسمي علماء اللغة هذا الأمر ب «كسر الإعراب» ؛ لأن الإعراب يقتضي حكماً، وهنا نلتفت لكسر الحكم. والأذن العربية التي نزل فيها القرآن طُبِعَتْ على الفصاحة تنتبه لحظة كسر الإعراب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2812 لذلك فساعة يسمع العربي لحناً في اللغة فهو يفزع. وكلنا يعرف قصة العربي الذي سمع خليفة من الخلفاء يخطب، فلحن الخليفة لحنة فصرّ الأعرابي أذنيه، أي جعل أصابعه خلف أذنيه يديرهما وينصبهما ليسمع جيداً ما يقول الخليفة، ثم لحن الخليفة لحنة أخرى، فهب الأعرابي واقفاً، ثم لحن الثالثة فقال الأعرابي: أشهد أنك وُلِّيت هذا الأمر بقضاء وقدر. وكأنه يريد أن يقول: «أنت لا تستحق أن تكون في هذه المكانة» . وعندما تأتي آية في الكتاب الذي يتحدى الفصحاء وفيها كسر في الإعراب، كان على أهل الفصاحة أن يقولوا: كيف يقول محمد إنه يتحدى بالفصاحة ولم يستقم له الإعراب؛ لكن أحداً لم يقلها، مما يدل على أنهم تنبهوا إلى السرّ في كسر الإعراب الذي يلفت به الحق كل نفس إلى استحضار الوعي بهذه القضية التي يجب أن يقف الذهن عندها: {والمقيمين الصلاة} . لماذا؟ لأن الصلاة تضم وتشمل العماد الأساسي في أركان الإسلام؛ لأن كل ركن من الأركان له مدة وله زمن وله مناط تكليف. فالشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يكفي أن يقولها المسلم مرة واحدة في العمر، والصوم شهر في العام وقد لا يصوم الإنسان ويأخذ برخص الإفطار إن كانت له من واقع حياته أسباب للأخذ برخص الإفطار. والزكاة يؤديها المرء كل عام أو كل زراعة إن كان لديه وعاء للزكاة. والحج قد يستطيعه الإنسان وقد لا يستطيعه. وتبقى الصلاة كركن أساسي للدين. ولذلك نجد هذا القول الكريم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} [المدثر: 42 - 43] وأركان الإسلام - كما نعلم - خمسة وهي واضحة، ومن الجائز ألا يستطيع المسلم إقامتها كلها بل يقيم فقط ركنين اثنين، كالشهادة وإقامة الصلاة. وحين يقول الحق: {والمقيمين الصلاة} . يلفت كل مؤمن إلى استمرارية الودادة مع الله؛ فهم قد يودُّون الله شهراً في السنة بالصيام، أو يؤدُّون بإيتاء الزكاة كلما جاء لهم عطاء من أرض أو مال، أو يودون الله فقط إن استطاعوا الذهاب إلى الحج. وبالصلاة يودُّ المؤمن ربَّه كل يوم خمس مرات، هي - إذن - إعلان دائم للولاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2813 لقد قلنا: إن الصلاة جمعت كل أركان الدين، ففيها نقول: «أشهد أن لاإله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله» ، ونعلم أننا نزكي بالمال، والمال فرع العمل، والعمل يحتاج إلى وقت؛ والإنسان حين يصلي يُزكي بالوقت. والإنسان حين يصلي يصوم عن كل المحللات له؛ ففي الصلاة صيام، ويستقبل المسلم البيت الحرام في كل صلاة فكأنّه في حج. إذن فحين يكسر الحق الإعراب عند قوله: {والمقيمين الصلاة} إنما جاء ليلفتنا إلى أهمية هذه العبادة. ولذلك يقولون: هذا كسر إعراب بقصد المدح. - فهي منصوبة على الاختصاص - ويخص به الحق المقيمين الصلاة؛ لأن إقامة الصلاة فيها دوام إعلان الولاء لله. ولا ينقطع هذا الولاء في أي حال من أحوال المسلم ولا في أي زمن من أزمان المسلم مادام فيه عقل. ويقول الحق من بعد ذلك: {والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر} كأن كل الأعمال العبادية من أجل أن يستديم إعلان الولاء من العبد للإيمان بالله. والإيمان - كما نعلم - بين قوسين: القوس الأول: أن يؤمن الإنسان بقمة الإيمان وهو الإيمان بالله. والقوس الثاني: أن يؤمن الإنسان بالنهاية التي نصير إليها وهي اليوم الآخر. ويقول سبحانه جزاءً لهؤلاء: {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} هو أجر عظيم؛ لأن كل واحد منهم قد شذ عن جماعته من بقية أهل الكتاب ووقف الموقف المتأبي والرافض المتمرد على تدليس غيره، ولأنه فعل ذلك ليُبيّن صدق القرآن في أن الإعلام بالرسول قد سبق وجاء في التوراة. ومن بعد ذلك يقول الحق: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2814 ونعلم أن الحق حينما يتكلم، يأتي بضمير التكلم. وضمير التكلم له ثلاثة أوجه، فهو يقول مرة: «إنا» ومرة ثانية: «إنني» وثالثة يخاطب خلقه بقوله: «نحن» . وهنا يقول: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ} . ونشاهد في موقع آخر من القرآن الكريم قوله الحق: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ} [طه: 14] وفي موضع ثالث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] لأن الذكر يحتاج إلى صفات كثيرة ومتنوعة تتكاتف لتنزيل الذكر وحفظه. وحين يخاطب الله خلقه يخاطبهم بما يُجلي مواقع الصفات من الكون الذي نعيش فيه. والكون الذي نعيش فيه يمتلئ بالكائنات التي تخدم الإنسان، وهذه الكائنات قد احتاجت إلى الكثير لتهيئ للإنسان الكون قبل أن يوجد الإنسان، وذلك حتى يأتي إلى الكون ليجد نعم الله له؛ فالإنسان هو الذي طرأ على كون الله. هذا الكون الذي صار إلى إبداع كبير احتاج إلى صفات كثيرة لإعداده، احتاج إلى علم عن الأشياء، وإلى حكمة لوضع كل شيء في مكانه، ولقدرة تبرزه، وإلى غنى بخزائنه حتى يفيض على هذا الموقع بخير يختلف عن خير الموقع الآخر، وساعة يكون العمل مُتطلباً لمجالات صفات متعددة من صفات الحق، يقول سبحانه: «إنَّ» أو «نحن» . وعندما يأتي الحديث عن ذات الحق سبحانه وتعالى يقول: «إني أنا الله» . ولا تأتي في هذه الحالة «إنَّا» ولا تأتي «نحن» . والحق هنا يقول: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أي أنه أوحى بمنهج ليصير الإنسان سيداً في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2815 الكون، يصون نفسه والكون معاً، وصيانة الكائن والكون تقتضي علماً وحكمة وقدرة ورحمة؛ لذلك فالوحي يحتاج إلى صفات كثيرة متآزرة صنعت الكون. ورحمة من الله بخلقه أن جعل لهم مدخلاً فيقول على سبيل المثال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27] هو الذي أنزل من السماء ماء، وليس لأحد من خلقه أي دخل في هذا؛ لأن الماء إنما يتبخر دون أن يدري الإنسان، ولم يعرف ذلك إلا منذ قرون قليلة. وعرفنا كيف يتكون السحاب من البخار، ثم ينزل المطر من بعد ذلك. إذن لا دخل للإنسان بهذا الأمر؛ لذلك يقول الحق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} . ويأتي من بعد ذلك إنصاف الحق للخلق، فيقول: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} . ولم يقل: «فأخرجت» . بل أنصف الحق خلقه وهم المتحركون في نعمه بالعقول التي خلقها لهم، فسبحانه يقدر عمل الخلق من حرث وبذر ورى وذلك حتى يخرج الثمر. إذن الأسلوب القرآني حين يأتي ب «إني» يشير إلى وحدة الذات، وحين يأتي ب «إنَّا» يشير إلى تجمع صفات الكمال؛ لأن كل فعل من أفعال الله يقتضي حشداً من الصفات علماً وإرادة وقدرة وحكمة وقبضاً وبسطاً وإعزازاً وإذلالاً وقهاريةً ورحمانيةً؛ لذلك لا بد من ضمير التعظيم الذي يقول فيه النحويون: إن «نحن» و «ن» للمعظم نفسه. وقد عظم الحق نفسه؛ لأن الأمر هنا حشد صفات يتطلبها إيجاد الكون والقيام على أمر الكون. ولذلك نجد بعض العارفين الذي لمحوا جلال الله في ذاته وجماله في صفاته يقولون: فسبحان رب فوق كل مظنة ... تعالى جلالاً أن يُحاط بذاته إذا قال «إني» ذاك وحدة قدسه ... وإن قال «إنَّا» ذاك حشد صفاته وعندما ننظر إلى هذه المسألة، نجد أن الحق سبحانه وتعالى أنصف خلقه لعلهم يعرفونه، فجعل لهم إيجاد أشياء وخلق أشياء. وحين يتعرض سبحانه لأمر يكون له فيه فعل ويكون لمن أقدره سبحانه من خلقه فيه فعل، فهو يأتي بنون التعظيم لأنه - سبحانه - هو الذي أمدهم بهذه القدرات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2816 وحين أوجد الحق خلقه من عدم، جعل لخلق من خلقه إيجاداً؛ ولكنْ هناك فرق بين إيجاد المادة، وإيجاد ما يتركب من المادة. فقد خلق سبحانه كل شيء من عدم، ولكن جعل لخلقه أن يخلقوا أشياء لكن ليست من عدم. وما ضَنَّ سبحانه وتعالى عليهم بأن يذكرهم بلفظ الخلق فقال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] فكأنه سبحانه وتعالى جعل من خلقه خالقين، لكن الخالقين من خلقه لم يخلقوا من عدم محض، وإنما كوَّنوا مركّباً من موجود في مواده. فأخذوا من مواد خلقها الله فركّبوا وأوجدوا. والإنسان الذي صنع كوب الماء لم ينشئ الكوب من عدم محض وإن كانت «الكلية» في الكوب غير موجودة فجزئيات إيجاد الكوب موجودة، فالرمل موجود في بيئات متعددة، وموجود أيضاً ما يصهر الرمل، والعقل الذي يأخذ تلك العناصر، والفكر الذي يصنع من الرمل عجينة، ومصمم الآلات التي تصنع هذا الكوب موجود. إذن فقد أوجد الإنسان كوباً من جزئيات موجودة. فالفارق - إذن - بين خلق الله وخلق خلق الله؛ أن الله خلق من عدم محض، لذلك وصف ذاته بقوله: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} . فأنتم أيها البشر إنما تخلقون من مخلوقات الله ولم تخلقوا من غير مخلوق لله؛ فهو سبحانه وتعالى أحسن الخالقين. وكما أنصف الحق خلقه بأن نسب لهم خلقاً، فلا بُدَّ من أن يصف نفسه بأنه أحسن الخالقين. وأيضاً إن خلق الخلق - كما قلنا وأنا لا أزال أكررها لتستقر ثابتة في الأذهان - يجمد الشيء على ما أوجدوه عليه، فيخلقون الكوب ليظل كوباً في حجمه وشكله ولونه، ولكنهم لم يخلقوا كوباً ذكراً وكوباً أنثى ليجتمعا معاً وينشئا أكواباً صغيرة تنمو وتكبر، ولكن الله ينفخ بسرّ الحياة في كل شيء فيوجده، لذلك هو أحسن الخالقين. ولو نظرت إلى كل شيء في الوجود لوجدت فيه سر الذات الفاعلة، فلو نظرت إلى ذات نفسك، لوجدت لك وسائل إدراك، لوجدت لك سمعاً، ولوجدت لك عيناً، ولوجدت لك أنفاً ولمساً وذوقاً ولكن لبعض الآلات تحكم في اختيارك، فأنت حين تفتح عينيك ترى وإن لم يرد أن ترى تغمض عينيك. ولكن إذا أردت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2817 الا تسمع، أتستطيع أن تجعل في أذنك آلة تقول «لا أسمع» ؟ وأنت تفتح فمك لتأكل وتتذوق، ولكن أنت لا تفتح أنفك لتشم. أنت تمد يدك لتلمس. وقل لي بالله أي انفعال لك أن أردت أن تضحك؟ ما الآلة التي في بدنك تحركها لتضحك؟ أنت لا تعرف شيئاً إلا سبباً مثيراً يضحك، لكنك لا تعرف ما هي الآلات التي تعمل في جسمك لتضحك. وكذلك حينما تبكي ما هي الآلات التي تعمل في ذاتك لتجعلك باكياً؟ أنت لا تعرف. ولذلك جعل الله الإضحاك والإبكاء مع الإيجاد بالحياة، والعدم بالموت جعل ذلك له سبحانه وتعالى. {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 43 - 44] جعل الحق في ذاتك الإنسانية أشياء تفعل ولكنك لا تعرف بأي شيء تفعل ولا بأي شيء تنفعل. والأذن ليس لها ما يسدها عن السمع؛ لذلك لا يأمرك الحق بألا تسمع أي شيء، ولكن الأثر الصالح يأمر: (لا تتسمّع إلى القيلة) . لم يقل الأثر الصالح «لا تسمع إلا قيلة» لأن الإنسان لا يستطيع أن يصم أذنيه عما يدور حوله، لكنه يستطيع ألا يتسمّع بألاّ يلقي بأذنيه إلى ما يقال. إذن فقد جعل الحق التكليف في مقدور اختيارات المسلم ولذلك قال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] واستخدم هنا كلمة «رأيت» لأن المسلم لا يملك شيئاً يسد به أذنيه حتى لا يسمع حديث الذين يخوضون في آيات الله، لكن أمر الله الذين يسمعون ذلك أن يسيروا بعيداً معرضين عن هؤلاء الخائضين. وسبحانه يوضح لنا ما خفي عنا، وكل شيء في الكون وإن كان ظاهره أنه «يفعل» ، لكنه في الحقيقة هو مقهور لما ينفعل لمرادات الله بأمر الله. ولذلك يقول العارفون بالله: من جميل إحسانه إليك أن فعل ونسب إليك. فسبحانه وتعالى الذي يفعل كل شيء، وليس على الإنسان إلا توجيه الآلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2818 الفاعلة. ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن الإنسان حين يكون قوياً لا يمكنه أن يعطي قوته لضعيف، فلا أحد منا يقول لضعيف: خذ قدراً من قوتي لتساعدك على التحمل، بينما يوضح الله للضعيف عملياً: تعال إلي أعطك من مطلق قدرتي قدراً من القوة لتفعل. إذن القوة في المخلوق لا يعطيها أبداً لمثله، بل يعطي أثرها. مثال ذلك عندما لا يستطيع شخص أن يحمل شيئاً ثقيلاً، فيأتي آخر قَويّ ليحمله عنه، والقوي بفعله إنما يعدي أثر قوته للضعيف، لكنه لا يستطيع أن ينقل قوته إلى ذات الضعيف ليحمل الشيء الثقيل. والله لا يعدي أثر قوته فحسب ولكنه يمنح ويعطي قوة إلى كل ضعيف يلجأ إليه وإلى كل قوي أيضاً. وسبحانه يتفضل بالغنى والسعة لكل غني وفقير وبرحمته إلى كل رحيم، وبقدرته لكل قادر، وبحكمته لكل حكيم. إذن فكل هذه مستمدات من الحق سبحانه وتعالى. هذا هو كلامنا في «إنَّا» . وحين يتكلم الحق قائلاً: «أوحينا» فهو سبحانه يأتي بصيغة الجمع. وما الوحي؟ قال العلماء الوحي: إعلام بخفاء؛ لأن وسائل الإعلام شتى، وسائل الإعلام هي التي تنقل قولاً يقوله المبلِّغ فيعلم السامع، أو هو إشارة يشير بها فيفهم معناها الرائي. وهذه إعلامات ليست بخفاء. بل بوضوح، وعندما يقول: «أوحينا» فهو يعني أنه قد أعلم، ولكن بطريق خفي. وحين تطلق كلمة «وحي» يكون لها معانٍ شتى، فكل إعلام بخفاء وحي. لكن من الذي أوحى في خفاء؟ ومن الذي أُوحي إليه في خفاء؟ وما الذي أُوحي به في خفاء؟ نجد أن الحق سبحانه وتعالى جاء في أجناس الوجود، وقال عن الأرض وهي الجماد: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 1 - 5] أي أن الحق قد ضبط الأرض على مسافة زمن قيام القيامة، فتتحدث عندئذ - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2819 ولله المثل الأعلى - نحن نقدر العمر الافتراضي لما نصنع لينتهي في وقت محدد. إذن فقد أوحى الله للجماد وهي الأرض. ويترك لنا سبحانه في صناعة المخلوقين ما يقرب لنا صنعة الخالق، فعندما يريد الإنسان أن يستيقظ في الثالثة صباحاً، وهو وقت لم يعتد فيه هذا الإنسان على الاستيقاظ، فهو يضبط المنبه ليصدر عنه الجرس في الوقت المحدد، كأن الإنسان بهذا الفعل قد أوحى للمنبه، كذلك الحق صنع الأرض وأوحى لها: في الوقت المحدد ستنفجرين بحكم تكويني لك. ويوحي الحق إلى جنس الحيوان: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] هذا إعلام بخفاء من الله للنحل. فقد جعل الله في تكوينها الغرزي ما يؤدي إلى ذلك. وهناك فرق بين التكوين الغرزي والتكوين الاختياري؛ فالتكوين الغرزي يسير بنظام آلي لا يعدل عنه، أما التكوين الاختياري فيصح أن يعدل عنه. ومثال آخر علىلآلية نجد الحاسب الآلي المسمى العقلي الإلكتروني ويقوم الإنسان بتخزين المعلومات فيه، وهذا الحاسب الآلي لا يستطيع أن يقول لواضع المعلومات فيه: لا تقل هذه الحقيقة، ولا يستطيع أن يمتنع عن إعطاء ما فيه لمن يطلب هذه المعلومات إن كان يعرف كيفية استدعائها. فلا اختيار للحاسب الآلي. ويختلف الوضع في العقل البشري الذي يتميز بالقدرة على انتقاء المعلومات ويعرف كيف يدلي بهذه المعلومات حسب المواقف المختلفة، ويتحكم بوعي فيما يجب أن يُستر وفيما لا يجب ستره، بل إن العقل البشري قد يكذب ويلون المعلومات. وهو قادر على تغيير الحقائق والتحكم فيها، بينما الحاسب الآلي المسمى بعقل إليكتروني لا يقدر على ذلك؛ لأنه يدلي بالمعلومات حسب ما تم «برمجته» به وتخزينه ووضعه فيه، وهكذا يرتقي الإنسان في الفكر. والحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق، أعطى لكل كائن الغرائز التكوينية التي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2820 تناسبه أعطى الإنسان القدرة على الاختيار بين البديلات، أما بقية الكائنات فقد أخذت حكم الغريزة. والكائن الذي يسير بحكم الغريزة لا اختيار له، ولذلك تسير كل أموره مستقيمة بناموس ثابت. ونرى هذا الأمر بوضوح في حكم قهر السموات والأرض والكواكب التي لا اختيار لها؛ فهي تسير حسب القوانين التي وضعها الله لها، وكذلك النبات. فالإنسان قد يزرع شجرة فتنمو بالتسخير الغرسي الذي وضعه الله فيها، وتمتد الشعيرات من الجذور في باطن الأرض؛ لتمتص - بتسخير الله لها - بعض العناصر المحددة في التربة، وينتفع نبات ما بمادة معينة قد لا تصلح لنبات آخر. ويأتي علماء النبات ليعملوا في حقل دراسات نمو النباتات، وقد يكون بعضهم ضعيف الإيمان بالله، أو أن قدرات الخالق لا توجد في بؤرة شعوره دائماً. فيقول: إن النبات يتغذى حسب خاصية الأنابيب الشعرية. وخاصية الأنابيب الشعرية - كما نعرفها - هي صعود السائل إلى الأنابيب التي تكون الواحدة منها لا يزيد قطرها واتساعها على قطر الشعرة. ويصعد فيها السائل إلى ما فوق سطح الإناء. وكل سائل في أي إناء إنما يأخذ استطراقاَ واحداً. وعندما نضع الأنابيب الشعرية في قلب هذا الإناء، فالسائل يصعد داخل هذه الأنابيب فوق مستوى الإناء؛ لأن الضغط الجوي داخل الأنابيب يختلف بالنسبة لحجم المياه عنها في داخل الإناء. وظن العلماء أن النبات يتغذى بهذه الطريقة. ونقول لهؤلاء: كيف هذا والنبات يختار عناصر معينة من السائل؛ بينما الأنابيب الشعرية يصعد فيها الماء بكل العناصر الموجودة في الماء؟ . إنك أيها العالم الذي غاب الله عن بؤرة شعورك قد تدعي أن الطبيعة هي التي تفعل ذلك، ولا تلتفت إلى حقيقة واضحة وهي أن النبات ينتقي بالتسخير الرباني الخاص بعضاً من العناصر الموجودة في التربة، لا بخاصية الأنابيب الشعرية. وصدق القول الحق: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 1 - 3] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2821 فسبحانه الذي قدر فهدى كل شيء إلى احتياجاته. ويقول الحق أيضاً: {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] إذن فسبحانه يوحي لكل نبات بخاصية تكوين غريزي تختلف عن النبات الآخر؛ لذلك نجد الفلاح يضع شجرة الفلفل بجانب عود القصب، بجانب شجرة الرمان، فنجد الفلفل يخرج وله مذاق حريف، والقصب له مذاق حلو، والرمان له مذاق فيه الحلاوة والحموضة، إنه مختلف عن القصب وعن الفلفل، وهذا الاختلاف لم يتم بخاصية الأنابيب الشعرية. ويقول آخر: هذا الاختلاف إنما حدث بظاهرة الانتخاب الطبيعي. ونقول: لماذا لا تقول الانتخاب الإلهي وتستريح؟ . إذن فالوحي هو إعلام بخفاء، وقد يكون مطموراً في تكوين الشيء بحيث إذا جاء وقته ينفعل، تماماً مثلما يدق جرس المنبه في الميعاد المحدد. والوحي إلى الحيوان يتحدد في قوله الحق: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] ومن العجيب أن العالم الأمريكي الذي رصد حياته لدراسة النحل في أطواره وأصنافه وأجناسه وبيئاته، قال: أول إنتاج للنحل كان في الجبال وأقدم عسل وجده الإنسان للنحل كان في الخلايا التي عثر عليها من الجبال. وبعد ذلك وجد الإنسان النحل وعسله في الشجر العالي الذي لا يملكه، ثم استأنس الإنسان النحل وأقام له البساتين والبيوت والخلايا ومما يعرشون. ولم يقرأ هذا العالم القرآن ليعرف المراحل الثلاث التي جاءت به، لكنه درس بصدق البحث التجريبي، وخرج بالنتيجة نفسها التي جاء بها القرآن. وفي كل وقت وزمان نجد عالماً من الكافرين يكتشف أشياء تؤيد وتؤكد قضية الإيمان عند المؤمنين. أما الوحي بالنسبة للإنسان فيأخذ أشكالاً أخرى، يقول الحق: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2822 {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} [القصص: 7] ولم يأت إلى أم موسى رسول يُوحى إليها. لكن الأمر قد استقر في ذهنها، وقد تعب العلماء كثيراً ليقربوا معنى الوحي لأذهاننا، فقالوا عنه: إنه عرفان يجده الإنسان في نفسه ولا يعرف مصدره، ومع هذا العرفان دليل أنه من الله. ولذلك لا يطلب العقل عليه دليلاً. والذي يصّدق على هذا هو أننا سمعنا قول الحق: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} . وبالله عليكم، اجمعوا الدنيا كلها وقولوا لامرأة: إن خفت على ابنك فألقيه في البحر، هل تصدق الأم ذلك؟! لا يمكن، لكن أم موسى أخذت هذا الأمر كقضية مسلم بها، فساعة دخل الإيحاء من الله إلى قلبها، أو الإعلام بخفاء إلى وجدانها آمنت به، ومادام الإعلام من الله فلا شيطان يزاحمه، بل يدخل إلى النفس فتستقبله استقبال اليقين والإيمان بلا مناقشة. وألقت أم موسى بابنها بعد أن أرضعته. وأراد الله أن يطمئنها. فأوضح لها: أَنَا أصدرت الأمر إلى البحر ليلقي الرضيع إلى الساحل. وأصدرت الأوامر ليلتقطه العدو فرعون. وأصدرت الأوامر أن يقوم بيت فرعون بتربيته. وبعد ذلك هناك وحي للحواريين. يقول الله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] وهناك وحي للملائكة كقول الحق: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [الأنفال: 12] الوحي ينتظم ويشمل - إذن - كل أجناس الوجود بطريقة خفية عند عالم خفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2823 عنا، وهم الملائكة، وعالم ملحوظ لنا ولأمثالنا مثل الحواريين، ومثل أم موسى. وساعة يقول: «أوحينا» ينبهنا إلى أن الإعلام بخفاء أمر غير مقصور على الله؛ ذلك أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ويقول أيضاً عن الشياطين: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] إذن الوحي هو إعلام بخفاء، وليس الأمر مقصوراً على الحق سبحانه وتعالى، بل يصح أن يكون الوحي من الله، أو من الشياطين، أو من جنود الشياطين. وقد يكون الوحي إلى الجماد وإلى الحيوان وإلى الملائكة وإلى الإنسان. وعندما نحدد معنى الوحي فإننا نقول: الوحي في اللغة إعلام بخفاء من أيّ - سواء أكان من الله أم من الشياطين - ولأي ما - سواء للأرض أو للحيوان أو للإنسان - وفي أيِّ - سواء في خير أو شر -. وكلمة «وحي» تصلح لأي معنى من هذه المعاني بحيث إذا أطلقت انصرفت إليه. ولكن هي بالمعنى الشرعي لا تطلق إلاّ على الإعلام بخفاء من الله لرسوله، ومثل ذلك حدث لمعنى الصلاة، فالصلاة معناها اللغوي الدعاء، وهناك الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والصلاة المكتوبة هي الأقوال والأفعال، وأخذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2824 الشرع معنى الصلاة واصطلح على أن كلمة الصلاة حين يطلقها الفقيه تنصرف إلى الأقوال والأفعال المخصوصة المبتدأة بالتكبير والمختتمة بالتسليم. وفي هذا المعنى الشامل للصلاة نجد سيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقد دخل عليه حذيفة فسأله: كيف أصبحت؟ . أجاب حذيفة: أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق وأصلي بغير وضوء ولي في الأرض ما ليس في السماء. وغضب سيدنا عمر، ولولا دخول سيدنا علي بن أبي طالب لكان لسيدنا عمر شأن آخر مع حذيفة. وسأل عليٌّ عمر: ما يغضبك يا أمير المؤمنين؟ . قال عمر: سألت حذيفة كيف أصبحت فقال كذا وكذا. فقال علي - كرم الله وجهه -: نعم يا أمير المؤمنين، أصبح يحب الفتنة، أي يحب ماله وولده، فالحق قال: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} ، وهو يكره الموت والموت حق من فينا يحبه يا أمير المؤمنين؟ وهو يصلي بغير وضوء على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وله في الأرض زوجة وله ولد وهو ما ليس لله في السماء. إذن فقد أخذ حذيفة الفتنة على معنى مخصوص، وكذلك الموت، والصلاة. وضربت هذالمثل لأفرق بين المعاني الشرعية والمعاني اللغوية. ونوضح الفارق بين معنى الوحي الاصطلاحي والمعنى اللغوي، المعنى اللغوي للوحي هو: إعلام بخفاء من أيّ لأيّ بأي. والوحي بمعناه الشرعي: إعلام بخفاء من الله لرسوله. وكل الألوان الأخرى من الوحي نأخذها بالمعنى اللغوي. وقوله الحق هنا في الآية التي نحن بصددها: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ} . و «أوحينا» هنا قد جاءت للإعلام بخفاء من الله لرسول من رسله. ونعلم أن صفات الكمال للحق سبحانه وتعالى هي صفات الكمال المطلق. وكل الخلق مقدورون لقدرته سبحانه. ولا يمكن لأحد أن يتصل اتصالاً مباشراً بالأعلى المطلق. ولا يستطيع أحد أن يتحمل ذلك حتى الرسول. ولذلك يأتي الحق بنورانيَّين من الملائكة ليأخذوا منه ليعطوا للرسول. ويسبق ذلك إعداد الرسول لهذه المهمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2825 إذن فالمسألة تمر بمراحل تصفية، الأعلى يعطى للملائكة، والملائكة يعطون للمصطفى من الخلق، والمصطفى مصنوع على عين الله ليتلقى الوحي، ومن بعد ذلك يعطي الرسول لغيره من البشر. وكل ذلك لتقريب مسافات الالتقاء. وعلى رغم تقريب مسافات الالتقاء تحصل الهزة من آخر مرحلة حين يستقبل من أدنى مرحلة، فحين يستقبل الرسول الوحي من ملك تحدث له هِزَّة. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول عن أول لقاء له مع الوحي: (حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني. فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق اقرأ وربّك الأكرم) . وكان جبينه يتصفد عرقاً، ورجف فؤاده ودخل على زوجه خديجة بنت خويلد فقال: «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع. وكان ذلك أمراً طبيعياً؛ فهذا الملك جبريل متصل ببشر هو محمد بن عبد الله ولا بد أن يحدث ذلك للرسول، وذلك حتى يتكيف ليستقبل من المَلَك. لكن أتظل هذه الرجفة المتعبة؟ . لا، إن الوحي يَفتر لفترة وتذهب عنه متاعبه فيشتاق الرسول إليه ويصير قادراً على تحمل متاعبه، مثل تصفد الجبين بالعرق، ومثل الثقل في الحركة حتى إذا جاءه الوحي وهو على دابة فهي تئط وتئن، وإن جاءه الوحي وهو جالس وفخذه على فخذ واحد من الصحابة، فيكاد ثقل الرسول يرض عظام الرجل ويكسرها، كل ذلك من المتاعب تحدث للرسول في أثناء الوحي؛ لأن تغييراً كيماوياً يحدث في بدنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليتأكد أن الكلام الذي يتلقاه ليس كلاماً عادياً، لكنه كلام قد جاء بإعجاز، وأنه من عند الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2826 لقد كان للوحي صلصلة كصلصلة الجرس. وكأن هذا الصوت إعلان أن زمن وساعة الوحي قد جاءت فاستعد لها يا رسول الله. وعندما تعب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البداية، كان من رحمة الله به أن يجعل الوحي يفتر عنه، فيشتاق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للوحي بسبب حلاوة ما أوحي إليه، ويجعله هذا الشوق مستشرفاً للمتاعب. وعندما فتر الوحي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال خصومه: رب محمد ودعه وجَفاه. ولم يتذكروا أن لمحمد رباً إلاّ في هذه المسألة بعد أن اتهموه بالكذب ولم يمتلكوا الذكاء حتى يعبروا عن هذا الأمر بتعبير لا يتناقض مع موقفهم السابق منه. وحين رأى الحق الإجهاد الحاصل لرسوله جعل الوحي يفتر حتى تبقى حلاوة ما يوحَى به ويذهب التعب ويشتاق رسول الله إلى ما يوحى إليه. إن الشوق وتلك المحبة يجعلان رسول الله لا يشعر بوطأة الألم المادي البشري، والإنسان منا حين يذهب إلى حبيب له يسير في الشوك والوحل ولا يبالي. إذن ففتور الوحي كان لتربية الشوق في نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليستقبل الوحي، ولينتبه كل منا حين يقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4] أي أن ما سيأتي لك من بعد ذلك سيسرك. ويقول الحق بعدها: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1 - 4] وحين عرض الحق هذه المسألة بهذه الكيفية أراد أن يبلغنا: لا تظنوا أن رب محمد - كما يقولون - قد جفاه، لا، بل يعده ليستقبل أكثر مما جاء من قبل، فسنن الكون أمامكم، لكن كفرهم أعمى أبصارهم وبصيرتهم، ويقول سبحانه: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 1 - 3] وسبحانه يقسم بما شاء على ما شاء. والضحى هو ضحوة النهار وهي محل الحركة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2827 والكدح والجهد والتعب، والليل محل الراحة والسكون. كأن الحق يوضح: إنكم إن نظرتم في آية الكون لوجدتم أن الله قد جعل الضحى للكدح والليل لنسكن فيه وفتور الوحي هو سكون ليعاود محمد نشاطه في حركة الوحي الجديدة، هو الحق - سبحانه - يقسم: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} أمجيء الليل بعد النهار ضن من الله على الناس بالنهار؟ لا، إنما الليل عطاء من الله ليسكنوا وليستقبلوا النهار الجديد. وأنزل سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حينما سأل اليهود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينزل عليهم كتاباً من السماء: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً} . فيأمره الحق أن يوضح: أنا قد أوحى الله إليَّ كما أوحى إلى الرسل السابقين، فهل أنتم شككتم في وحي الله لموسى؟ أشككتم في وحي الله لمن سبق موسى؟ صحيح أنكم شككتم في مسألة عيسى، لكن لنضع الأمر الذي تكذبون فيه جانباً ولنأخذ ما أنتم مصدقون به، فيقول سبحانه: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} . إذن فأنت يا محمد لست بدعاً في هذه المسألة: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} ويمر العلماء على هذه المسألة مروراً سريعاً، لكننا نقف عندها ونقول: قد يوحي هذا القول أن أول وحي كان لنوح. والحقيقة أن الوحي الأول كان لآدم من قبل، لكنْ هناك فارق بين الوحي لآدم والوحي للأنبياء من بعده. ومثال ذلك نوح، فنوح طرأ على أمته وكانت أمته موجودة ثم جاء هو إلى هذه الأمة مبشراً ونذيراً. أما آدم عليه السلام فقد طرأت عليه أمته؛ لذلك لم يرسله الله بمعجزة، فهو أب للجميع. والأبناء يقلدون الآباء، بل حتى أبناء الملاحدة يقلدون آباءهم. وقد أوحى الله لآدم وقال له: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وإرسال الهدى لآدم هو مجيء الوحي إليه. ولماذا جاء نوح في هذه الآية أولاً؟ لأن نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2828 طرأ على أمته؛ لذلك احتاج إلى وحي وإلى معجزة. وأرسل الله نوحاً إلى الناس كافة؛ لعموم الموضوع، فلم يكن هناك من البشر غيرهم. لكنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرسله الله للناس كافة؛ لأن الإسلام هو الدين الخاتم. وكان قوم محمد موجودين. وكذلك كان غيرهم موجوداً. {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ} . لماذا قال الحق: {والنبيين مِن بَعْدِهِ} أي من بعد نوح؟ ، ولماذا قال: {وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ} وذكر أسماء الأنبياء من بعد إبراهيم؟ يقول العلماء: هنا عطف خاص على عام لزيادة التنبيه على شرف هؤلاء، {وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} ، وكأن الحق يقول: حين يسألك اليهود - يا محمد - أن تنزل عليهم كتابا من السماء قل لهم: إن الله أوحى إليَّ كما أوحى إلى ألأنبياء السابقين؛ فلست بدعا من الرسل. وحتى لو أنزل إليهم محمد كتاباً في قرطاس ولمسوه بأيديهم لقالوا: هذا سحر مبين، كما قال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7] فالمنْكِر يريد الإصرار على الإنكار فقط. وليست المسألة جدلاً في حق وإنما هي لَجَاج في باطل. ويتابع سبحانه وتعالى أسماء الأنبياء الذين أوحى الله إليهم: {وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} ونلحظ أنه جل وعلا ذكر الوحي عاماً؛ لكنه حينما جاء لداود ذكر اسمَ كتابِه «الزبور» ولم يأت في الآية بأسماء الكتب المنزلة على الرسل السابقين مثل نزول التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى؛ لأن ما جاء به داود في الزبور أمر تُجمع عليه كل الشرائع، وهو تحميد الله والثناء عليه قلم توجد في الزبور أية أحكام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2829 وقد يقول قائل: إن عيسى أيضاً لم تنزل عليه أحكام في الإنجيل. ونقول: لأن الإنجيل يلتحم بالتوراة؛ وجاء بالوجدانيات الدينية وكانت التوراة موجودة قبله وفيها الأحكام. ولذلك فمن عجيب أمر أهل الكتاب من يهود ونصارى، أنهم على رغم اختلافهم في قمة الأمور وهي مسألة عيسى وأم عيسى، جاءوا آخر الأمر ليلتقوا ويسموا الكتابين «العهد القديم والعهد الجديد» ويَعْتبروهما كتاباً واحداً يسمونه الكتاب المقدس. وما معنى «الزبور» ؟ المادة كلها مأخوذة من «زَبَرَ البئر» ، فعندما يقوم الناس بحفر بئر ليأخذوا منها الماء، يخافون أن ينهال التراب من جوانبها عليه فتمطر البئر؛ لذلك يصنعون لجدران البئر بطانة الحجارة، وفي الريف المصري نجد انهم يصنعون تلك البطانة من الأسمنت. وكلمة «زَبَرَ البئر» تؤدي معنى كل عملية لإصلاح البئر؛ ثم أخذ الناس هذه الكلمة في معانٍ مختلفة، فسموا العقل «زَبْراً» لأنه يعقل الأمور. وإذا كان السياج من الحجارة يعقل التراب عن البئر ويمنعه، فكذلك العقل يحمي الإنسان من الشطط وليضبط الإنسان حريته في إطار مسئوليته ليفكر، ويعقل الغرائز عن الفكاك بالإنسان إلى الشتات والضلال. ويخطئ الناس في بعض الأحيان في فهم معنى «العقل» ؛ ويظنون أن العقل هو إطلاق الحبل على الغارب للأفكار دون انتظام او مسئولية، ونقول: افهموا أولاً معنى كلمة العقل حتى تعرفوا مهمته. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2830 والرسل الذين ذكرهم الله في الآية السابقة ليسوا كل الرسل الذين يجب الإيمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2830 بهم تفصيلا فحسب، فكما علمونا في الأزهر الشريف يجب أن نؤمن بخمسة وعشرين رسولا وقد نظمهم بعض الشعراء في قوله: في تلك حجتنا منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو إدريس، هود، شعيب، صالح، وكذا ... ذو الكفل، آدم، بالمختار قد ختموا وفي سورة الأنعام نجد قوله الحق: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصالحين وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين} [الأنعام: 83 - 86] وفي هذه الآيات ثمانية عشر رسولاً، وبالإضافة إلى سبعة هم إدريس وهود وشعيب وصالح وذو الكفل وآدم ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، هم إذن خمسة وعشرون رسولاً ذكرهم الله، لكن الآية التي تسبق الآية التي نحن بصددها لم يذكر الله كل أسماء الرسل. وذكر أسماء بعض الرسل في سورة الأنعام وبعضهم في سورة هود وبعضهم في سورة الشعراء. ويقول الحق: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] أي أن الخمسة والعشرين رسولاً ليسوا كل الرسل الذين أرسلهم الحق إلى الخلق، فقد قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2831 {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] أي أنه قد قص علينا أعلام الرسل الذين كانت أممهم لها كثافة أو حيّز واسع أو لرسلهم معهم عمل كثيف، ولكن هناك بعض الرسل أرسلهم سبحانه إلى مائة ألف أو يزيدون مثل يونس عليه السلام: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] وكان العالم قديماً في انعزالية. ولم يكن يملك من وسائل الالقتاء ما يجعل الأمم تندمج. وكان لكل بيئة داءاتها، ولكل بيئة طابع مميز في السلوك، ولذلك أرسل الله رسولاً إلى كل بيئة ليعالج هذه الداءات، ولا يذكر الداءات الأخرى حتى لا تنتقل من مجتمع إلى مجتمع آخر بالأسوة. وحين علم الحق بعلمه الأزلي أن خلقه بما أقدرهم هو سبحانه على الفكر والإنتاج والبحث في أسرار الكون سيبتكرون وسائل الالتقاء؛ ليصير العالم وحدة واحدة، وأن الشيء يحدث في الشرق فيعلمه الغرب في اللحظة نفسها، وأن الداءات ستصبح في العالم كله داءات واحدة؛ لذلك كان ولابد أن يوجد الرسول الذي يعالج الداءات المجتمعة، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الرسول الخاتم والرسول الجامع والرسول المانع. {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] ويتكلم الحق سبحانه عن تاريخ النبوات مع قومهم بكلمة «قصصنا» ولذلك حكمة، فالقصص معناه أنه لا عمل في الأحداث للرسول، بل تأتي الأحداث في السياق كما وقعت. وسبحانه يعلم أزلاً أن خلقه سيبتكرون فناً اسمه «فن القصص» . ومن العجيب أنهم يسمونه فن القصص، وينسج المؤلفون حكايات خيالية أو حكايات ليس لها واقع. وعندما يأتون إلى التاريخ الواقع يزيد المؤلف جزءا من الأحداث أو يضيف من خياله أشياء، ويقولون هذه متطلبات إتقان فن القصص، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2832 ويحرمون أنفسهم من أمانة النقل. ولذلك يأتي الحق ليوضح لنا أن القص الخاص بالرسل وبغيرهم في القرآن قصص واقعي، حقيقي، حدث فعلاً. وكلمة «القصص» مأخوذة من قص الأثر أي أن نسير مع القدم كما تَذهب، فلا نذهب هنا ولا نذهب هناك. وحكايات الأنبياء في القرآن واقعية. ومن رواية الحق لا من رواية الخلق، وثمة فارق بين ما يرويه الحق لخلقه ليسيروا على المنهج. وما يرويه الخلق بعضهم لبعض للتسلية أو غير ذلك. ونجد روايات الخلق تزدحم في بعض الأحيان بخيال البشر، مثل روايات جورجي زيدان عن الإسلام والأنبياء، وعندما سألوه لماذا أضاف من عنده إلى الواقع، أجاب الإجابة التقليدية: فعلت ذلك من أجل الحبكة القصصية. ويجب أن نميز ونفرق بين روايات الخلق وقصص الحق ونضعه في بؤرة الشعور حتى لا يُدخل أحد من خياله على قصص القرآن ما ليس فيه، وحتى لا يأتي واحد ذات يوم ويقول: إن كل القصص واحد. فنحن في القرآن لسنا أمام مؤلف، بل أمام الخالق الأعلى الذي يروي لنا ما يعلمنا. وسبحانه علم أزلاً ما سيدور في كونه، لذلك قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] وسبحانه قد قص على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في القرآن أحسن القصص؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيعالج أجناس العالم التي توزعت على جميع الرسل من إخوانه، ومادام عمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيكون مع كل الأجناس البشرية الذين تفرقوا من قبل على الرسل من إخوانه، فلا بد أن يوضح سبحانه للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولأمته من بعده: أنّه حدث مع الرسول فلان كذا، وكان مبعوثاً إلى قوم كان موقفهم منه كذا، وكانت داءات ذلك المجتمع هي كذا وكذا. ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كما نعلم - موْكولٌ إليه علاج كل أجناس البشر وكذلك أمته من بعده، ولابد أن يعرفوا أخبار كُلِّ المجتمعات والرسل: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2833 إذن فكلمة «قصص» تدل على أنها حكايات لحركة العقيدة التي كانت مع كل الرسل. والتاريخ - كما نعلم - هو ربط الأحداث بأزمانها، فمرة نجعل الحدث هو المؤرَّخ له، ثم نأتي بأشخاص كثيرين يدورون حول الحدث. ومرة نجعل الشخص هو الأصل والأحداث تدور حوله، فإذا قلنا كلمة «سيرة» فنعني أننا جعلنا الشخص هو محور الكلام؛ ثم تدور الأحداث حوله. وإن أرخنا للحدث، نجعل الحدث هو الأصل، والأشخاص تدور حوله. مثال ذلك: عندما نأتي لنتكلم عن حدث الهجرة؛ نجعل هذا الحدث هو المحور، ونروي كيف هاجر رسول الله ومعه أبو بكر/ وكيف هاجر عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، وبذلك تكون الهجرة هي المحور وكيف دار الأشخاص حول هذا الحدث الجليل. ومثال آخر: عندما نروي سيرة من السير، مثل سيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، نجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ محور الحديث والتاريخ، ونروي كيف دارت الأحداث في حياته. إذن فأخبار وقصص الرسل تكون هي المحور ونلتقط الأحداث التي مرت عليهم؛ لأن الرسالات حين تأتي الناسَ بمنهج السماء؛ تنقسم إلى قسمين: قسم نظري يريد الحق أن يعلمه لخلقه بواسطة الرسول، وهو القسم العلمي، فتلك قضايا يجب أن يعلموها. وقسم عملي؛ لأن الحق يريد من خلقه أن يعلموا ويريد منهم - أيضا - بعد أن يعلموا أن يطوعوا حركة حياتهم على ضوء ما عملوا. فليست المسألة رفاهية علم، ولكنها مسئولية تطبيق ما علموا في محور «افعل» و «لا تفعل» . ولو كانت المسألة أن يعلم الخلق فقط، لكان من الممكن أن نقول: ما أيسرها من رحلة. لقد وجدنا كفار قريش عندما طلب الرسول منهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، قاوموا ذلك. ولو كانوا يعلمون أنها مجرد كلمة تقال لقالوها. لكنهم عرفوا مطلوب الكلمة، وعرفوا أنه لن توجد سيادة ولا عبودية ولا أوامر لأحد غير الله، ومعنى ذلك المساواة المطلقة بين العباد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2834 إذن فكل تكليف من السماء إنما نزل، والقصد من العلم به هو العمل به أي توظيف العلم تطبيقاً، فلا قيمة لعلم دون عمل. وعندما يبلغ الرسول القوم: هذا هو الحكم، ومطلوب من كل واحد منهم أن يطوِّع حركة حياته على ضوء هذا الحكم. وتجيء الأحكام دائماً في طاقة البشر. وهناك أناس قد علموا وعملوا وهذه هي قصصهم، هذه قصة فلان وقصة فلان. فالقصص يعطينا الجانب العملي المطلوب للمنهج، ولذلك قصَّ لنا الحق قصص الرسل في القرآن. ويبلغنا الحق بالنسب الإيماني، ويعلمنا النسب المعترف به عند الأنبياء، فيحكي قصة نوح عليه السلام، عندما أوْحى إليه بضرورة أن يصنع السفينة، وسَخِر قومُه منه، وبعد أن صنعها جاء الأمر الإلهي بأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين. ويقول الحق: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 38 - 40] قوله الحق {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} كان يجب ألا تمر على فطنة نوح؛ ذلك لأنها تتضمن أن هناك أناساً من أهله لن يؤمنوا، فيقول لابنه: {ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} [هود: 42] وكان الرد: {قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء} [هود: 43] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2835 فقال نوح: {قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ} [هود: 43] وبعد أن غرق ابن نوح وابتلعت الأرض ماءها، نادى نوح ربه فقال: {رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45] نحن - إذن - أمام لقطة قصصية في قصة نوح. يلفتنا بها الحق إلى مسألة بنوة الرسالات، فالبنوة هنا منهجية. ومن يتبع النبي هو الذي يكون من نسبه. ومن لا يتبع النبي فليس من نسبة، لذلك قال الحق: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} . فأهل النبوة هم الذين اتبعوا منهج النبي. ويشرحها لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما قال عن سلمان الفارسي: «سلمان منا أهل البيت» ولم يقل: إن سلمان عربي، أو إنّه من المسلمين، لكنه قال: إنه من أهل البيت. وقد أوضح الحق ذلك في قصة ابن نوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} . وخاض في معنى {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} بعض الخائضين باللغو وقالوا: إن أم ابن نوح قد فعلت السوء، ولهؤلاء نقول: استغفروا ربكم وانظروا إلى حيثية الحكم: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46] إذن فنسبة الأبناء للآباء من الأنبياء نسبة عمل لا نسبة دم ولا نسبة عن زواج أو إنجاب، أما الذين قالوا السوء في امرأة نوح فعليهم أن يستغفروا الله، فالحق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2836 سبحانه منزه عن التدليس على رسوله. وهب أن أم الولد قد فعلت ذلك - معاذ الله - فما ذنب الولد تصير أمه إلى هذا؟ لا دخل للولد بذلك، لكن قول الله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} يدل على أن ثبوت النبوة الإيمانية يكون بالعمل فقط. ولننظر إلى قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأهله وعشيرته. . فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين، جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو بطون قريش بطنا بطنا: يا بني فلان أنقذوا أنفسكم من النار حتى انتهى إلى فاطمة فقال: يا فاطمة ابنة محمد انقذي نفسك من النار لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها بِبِلالها» ويضرب الله المثل في الزوجات؛ فيقول: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} [التحريم: 10] وليس المقصود بالخيانة هنا الخيانة الجنسية؛ لكن لنستدل على أن الرسول وإن كان رسولاً ليس له من القدرة على أن يقهر زوجه وامرأته على عقيدة؛ فهي تملك حرية الاعتقاد؛ فلا ولاية هنا للرجل على المرأة في العقيدة حتى إن ادعى الألوهية؛ كفرعون مثلاً يقول الحق عن امرأته: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11] هذه اللقطات تدلنا على أن قضية الإيمان لا ينفع فيها النسب أو الزواج. فالابن هو العمل الصالح، والحيثية في ذلك قول الحق عن ابن نوح: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فلم يذكر ذات الابن ولكنه ذكر العمل. ولكل نبي قصة يذكرها الحق ليتضح المنهج في أذهان الناس. ويأتي الله بالمثل في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2837 المصطفَيْنَ الأخيار الذين اصطفاهم الله لهداية الناس مثل قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام. الذي يبتليه - سبحانه - في أول حياته بالإحراق في النار. كان إبراهيم شاباً يمتلئ بالأمل في الحياة، فماذا كان من إبراهيم؟ أراد الحق نجاة إبراهيم من النار. وتركهم يتمكنون منه ويضعونه في قلب النار. ولم تمطر السماء لتطفئ النار، وكل ذلك لتكون حجة الحق واضحة، وحتى يكون كيد الله كاملاً لهؤلاء الكافرين. إن إبراهيم عليه السلام لم يهرب منهم، ولم تمطر السماء، بل ظلت النار ناراً ويعطل سبحانه ناموس النار حين دخول إبراهيم إليها. «روي عن أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع فاستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا. فقال جبريل فاسأل ربك. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. فقال الله: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم» وفي هذا غيظ ودحض لمكر الذين مكروا بإبراهيم. إذن يعطينا الحق في القصص القرآني المثل لنجمع من حياة كل رسول العبر ونستفيد منها، لنكون بحق خير أمة أخرجت للناس؛ لأننا أخذنا تجارب كل رسول وجعلناها منهجاً لنا في حياتنا. وقد ابتلى الحق إبراهيم في أول حياته في نفسه، وابتلاه في أخريات حياته في ابنه، ونجح إبراهيم في الابتلاء الأول حين كانت حياته أهم بالنسبة إليه من كل شيء، وحين يتقدم في السن، فمن المفروض أن تكون كل حياته لمن بعده من الأبناء فيبتليه الله في ابنه. لم يقل له: إن ابنك سيموت وعليك بالصبر. ولم يقل له: إن واحداً سيقتل ابنك وعليك بالصبر؛ بل يأمره بذبح ابنه، تلك قمة الابتلاء. لأنه لم يأت بوحي مباشر كالنفث في القلب أو الكلام من وراء حجاب أو يرسل له الله ملكا يبلغه ما يريد، بل برؤيا منامية: {قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2838 ويقول إبراهيم لابنه المسألة كما رآها في المنام. والرؤيا عند الأنبياء حق. وقد يقول قائل: ولماذا لم يرد إسماعيل على أبيه بأن هذه المسألة هي مجرد رؤيا؟ ولماذا لم يأخذ إبراهيم ولده على غرة دون أن يقول له؟ . ونقول: إن إبراهيم من فرط وشدة حنانه وحبه لابنه آثر أن ينال الابن الثواب العظيم والجزاء الجليل بأن يقتل ويقدم حياته امتثالا لأمر الله، فقال إبراهيم: {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] وها هوذا قول إسماعيل: {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] ولم يقل إسماعيل لأبيه: «افعل الذبح» ولكنه قال: {افعل مَا تُؤمَرُ} أي أن إسماعيل لم يأخذ الكلام على أنه كلام من أبيه، بل أخذه كأمر من الله. ولو أخذه أبوه على غرة قد يتحرك قلب الابن غيظاً على أبيه وحقداً عليه فيعتدي على الأب، وهنا نجد حنان الأب على الابن جعله يخبره بالأمر الآتي من السماء؛ والشأن في حنان الأب على الابن أن ييسر له كل أمور حياته. أما حنان الحنان فهو تيسير كل خير بعد مماته؛ لذلك لم يشأ إبراهيم أن يحرم إسماعيل من الامتثال لأمر الله؛ فينال الاثنان معاً شرف الامتثال لله. وأعطاه كل الحنان في الزمان الأبقى والزمان الأخلد في الدار الآخرة؛ حتى نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يريد منا إلا الامتثال لقضائه وقدره، ويقول الحق: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] هذا شرف الامتثال في التسليم لله. . ففي البداية أسلم إبراهيم أمره لله، وعندما عرض الأمر على ابنه سلم الابن أمره لله، فنال الاثنان منزلة الشرف في التسليم لأمر الله. ونجح الاثنان في الاختبار، فقال الحق: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2839 {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} [الصافات: 104 - 105] لقد أنقذ الحق إبراهيم وابنه من مسألة الذبح، ولهذا نقول دائماً: لا يُرفع قضاء من الله على خلقه إلا أن يستسلم الخلق للقضاء، والذين يطيلون أمد القضاء على نفوسهم هم الذين لا يرضون به. وأتحدى أي إنسان أن يكون الله قد أجرى عليه قضاء مرض فيرضى به ويعتبر أن ذلك صحة اليقين، ولا يرفع الله عنه المرض. فالإنسان بالصحة يكون مع نعمة الله، ولكنه بالمرض يكون مع الله. فقد حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول يوم القيامة: يا بن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده!! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟» من إذن يجرؤ على الزهد في معية الله؟ وعندما يعرف المريض أنه في مرضه الذي يتأوه منه هو في معية الله لاستحى أن يقول: «آه» ، ولكننا لا نطلب من المريض ألا يقول «آه» ، ولكن نطلب منه أن يتوجه إلى الله ويقول: «ولكن عافيتك أوسع لي» . وقول الحق: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} هذا القول يدلنا على أن القضاء لا يُرفع إلا بالرضا به، فإن رأينا واحداً قد استمر معه القضاء فلنعلم أنه لم تحن ولن تأت عليه لحظة لرضي فيها بالقضاء. ولم يرفع الله القضاء فقط عن إبراهيم، ولم يُفْد إسماعيل فقط بذبح عظيم، بل بشر الله إبراهيم بولد آخر اسمه إسحاق: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} [الصافات: 112] وها هي ذي لقطة أخرى نأخذها من القصص القرآني مع سيدنا موسى؛ لنتبين ماذا يصنع المنهج الإيماني فيمن اقتنع به، وحدثت هذه القصة في وقت تهيئة سيدنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2840 موسى للرسالة، حدثت هذه الواقعة وهو ذاهب إلى شعيب، ولم يكن رسولاً بعد، مما يدل على أن فطرية الإيمان كانت موجودة عنده، وأن الله قد صنعه على عينه، لقد ورد ماء مدين ووجد الفتاتين تذودان وتطردان الماشية عن الماء، فماذا دار بينه وبينهما من حوار؟ . وكيف كانت رؤيته لهما أولاً: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] وفي قول المرأتين: {لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} قدر من المبادئ فخروجهما من البيت سببه أن الأب شيخ كبير، ومع أنهما في ضرورة وخرجتا للعمل فلم تنس واحدة منهما أنها أنثى يجب أن تُحترم أنوثتها فقالتا: {لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء} أي أنهما ستسقيان من بعد أن يذهب الزحام من الرجال حول البئر. إذن فقد أخذت بنتا شعيب الضرورة في حجمها ولم تتخذ إحداهما من الضرورة حجة لإهدار الأنوثة والتزاحم للوصول إلى البئر. فماذا حدث من موسى؟ . {فسقى لَهُمَا} . تلك الهمة الإيمانية التي وُجدت في موسى قبل أن يصير رسولاً، وذلك ما يوضحه لنا الحق حتى لا يقول إنسان: كيف أكون مثل رسول من عند الله؟ . كأن الهمة الإيمانية التي وصَفتها تلك اللقطة القصصية توقظ مسئولية كل مؤمن ليسلك مثل هذه السلوك. فعندما يرى امرأةً قد خرجت عن محيط بيتها لأي عمل، فعليه أن يقضي لها حاجتها حتى ترجع إلى بيتها وذلك دون أن يتخذ من ذلك ذريعة ووسيلة إلى أمر ينزل بهمته وينال من مروءته. ولو انتشرت بيننا تلك الهمة الإيمانية لما وجدنا امرأة في الطريق إلا للضرورة. لقد أوضحت لنا تلك اللقطة القصصية حرص المرأة على موضعها وموقعها من الستر، فتقول واحدة من المرأتين لأبيها شعيب بعد أن استقدمه ليجزيه أجر ما سقى لهما: {ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2841 كأن المرأة لا يحل لها أن تتحرك في الكون هذا اللون من الحركة الواسعة، ويسمع شعيب وهو الرجل العاقل لابنته فكيف يستأجر رجلاً وعنده ابنتان، فيفكر شعيب ويعثر على الحل الصحيح بفطنة إيمانية، فيستدعي موسى ويقول له: {قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] وفي مثل هذه الحالة سيكون موسى متزوجاً بواحدة ومُحَرَّماً على الأخرى. وهذه اللقطات القصصية نلتفت إليها لنتعلم منها الفطنة الإيمانية. وها نحن أولاء مع موسى وقد ناداه الحق ليجعله رسولاً، ولنر صفاء النفس الإيمانية وهي تتلقى مهمة الرسالة؛ إن موسى يرغب في أن يكون أداؤه للرسالة كاملاً؛ لذلك يطلب من الحق أن يرسل معه أخاه هارون: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34] هو يرشح معه هارون للرسالة لأنه حريص على النجاح في دعوته لأن لسانه ثقيل لرتَّة ولُثغة وتردد في النطق من أثر الجمرة التي أصاب بها لسانَه وهو صغيير، والرسالة تحتاج إلى بيان وبلاغة فيطلب مساعدة أخيه ولم يستنكف ذلك. فما بالنا بما هو حادث وحاصل في أيامنا، حين يختار الحاكم رئيساً للوزراء فلا يطلب معاونة الأكْفَاء، بل قد يخشى أن يكون له نائب له كفاية عالية فوق كفاءته. واللقطات القصصية في القرآن تعلمنا الكثير، وأراد الحق أن يثبت بها للأمة المحمدية دقة المنهج الإيماني، فمادام قد أرسل لنا منهجاً لنعلمه، فهو يطلب منا أن نطبق هذا المنهج ونوظفه في حياتنا. وليس ذلك بدعا، بل هو موجود في قصص الرسل الذين عَلِموا المنهج فطبقوه في ذواتهم أولاً؛ لأن الآفة أن نعلم العلم ولا نطبقه. وفي زماننا يقال ويشاع: إن التعليم الديني في المدارس لا يأتي بثمار طيبة في سلوك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2842 الطلاب. ونقول لمن يرددون ذلك: أنتم لا تفهمون طبيعة التعليم الديني؛ فتعليم الدين لا يمكن أن يتساوى مع تعليم الجغرافيا أو الهندسة وغيرهما من العلوم؛ لأننا عندما نعلم طالباً الهندسة فهو يستطيع أن يكون عالماً متفوقاً فيها ويأخذ المعطيات والنظريات ويتفوق في المجال الهندسي، ولكن لم تطلب منه أية نظرية هندسية أن يعدل سلوكه في الحياة بأن ترشده في السلوك اليومي: افعل كذا ولا تفعل كذا. فالنظريات الهندسية لا تتدخل في حياة الطلاب، لكن الطالب عندما يتعلم الدين إنما يتعلم أن يفعل الأمر الديني، ولا يفعل الأشياء المنهي عنها. والصعب في التعليم الديني هو التطبيق العملي. عندما لا يرى التلميذ التطبيق العملي من الذين يعلمونه الدين أو من الأسرة، فإنه لا يتعلم الدين، فيقال للطالب: الدين ينهى عن الكذب، لكن الطالب يجد الكذب سلعة رائجة في المجتمع. ويقول الدين له: الصلاة عماد الدين وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا يجد الطالب من يصلي أمامه أو يجد من يصلي ولا يقيم عمارة الدين باتباع ما تأمر به الصلاة من نهي عن المنكر، إذن ففشل التعليم الديني لا يأتي من ناحية غياب المعلم ولكن من عدم وجود التطبيق العملي للسلوك الديني. ونعود للقص القرآني. جاء القصص ليوضح لنا التطبيق للجانب النظري من الدين، وطبَّقهُ الرسل على أنفسهم. وأنتم يا أمة الإسلام لستم أقل من أحد، بل أنتم خير أمة أخرجت للناس، وعليكم أن تأخذوا الخير الذي حدث في موكب الرسالات كلها وتطبقوه في ذواتكم. هذا هو معنى قوله الحق: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} . وقد جاء لنا القرآن بعيون القصص حتى نأخذ منها لقطات العبرة. ويقول قائل: ومن هو الرسول؟ يقول العلماء: هناك رسول وهناك نبي. وأقام بعضهم مشكلة حول هذا الأمر، فقال بعضهم: كل رسول نبي ولا عكس. ونقول لأصحاب هذا الرأي: لو نظرنا إلى المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لأرحنا أنفسنا جميعاً، فالقرآن يقول: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} [الحج: 52] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2843 إذن فالنبي أيضاً مرسل من الله، وعلى ذلك فكلاهما - النبي والرسول - مرسل من عند الله، لكنْ يوجد فرق بين أن يرسل الحق تشريعاً مع رسول، ويكون هذا التشريع مستوعباً لأشياء وأحكام لم تكن موجودة في الرسالة السابقة عليه، وبين أن يأتي إنسان مصطفى من الله ليطبق فقط ما جاء في الرسالات السابقة، فالأنبياء قد أرسلهم الله ليكونوا نموذجاً تطبيقياً للشرع السابق عليهم ولم يَأتوا بشرع جديد، لكن الرسول هو من أرسله الله بشرع جديد ليعمل به وأمره الحق بتطبيقه. هذا هو الزائد في مهمة الرسول. إن الحق أرسل الرسل بالشرع والتبليغ والتطبيق، وأرسل الحق الأنبياء ليكونوا الأسوة السلوكية فيطبقوا ما أرسل به الرسل السابقون عليهم، وهذا أمر لا يأتي إلا في الأمم التي لها سجل في المكابرة مع الرسل. ولذلك نجد أن اللجاجة دفعت بني إسرائيل إلى التفاخر بأنهم أكثر الأمم أنبياء، صحيح أنهم أكثر الأمم أنبياء. لكن علينا أن نعرف أن النبوات والرسالات إنما تأتي لتشفي الناس مما بهم من داءات؛ فعندما نقول عن إنسان إنّه أكثر الناس تردداً على الأطباء، فمعنى ذلك أن أمراضه كثيرة، وكذلك بنو إسرائيل كانت داءاتهم كثيرة. وكثرة الرسل إليهم لا ترفع من منزلتهم. بل تدل على كثرة أمراضهم. إذن فالرسول والنبي كلاهما مرسل. والفارق أن الرسول معه تشريع سماوي ليبلغه ويطبقه، والنبي مرسل للتطبيق، فإن جئنا لمعنى الرسول اصطلاحياً؛ فهو الموحى إليه بشرع يعمل به وأمره الله بتبليغه. ويذيل الحق الآية: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} ؟ . ونقول: الوحي الذي يوحي الله به لأنبيائه هو الوحي الاصطلاحي الشرعي الذي نتكلم عنه دون الوحي اللغوي الذي سبق أن أفضنا فيه. والحق سبحانه وتعالى قد بين الطريقة التي يخاطب بها أنبياءه المصطفين لأداء رسالتهم إلى خلقه، فقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2844 {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51] إذن، فطريقة التقاء الحق بالأنبياء؛ إما أن تكون بالوحي، وإما أن تكون من وراء حجاب، وإما أن تكون بإرسال رسول كجبريل عليه السلام. فإذا ما نظرنا إلى الآية وجدنا أن الوحي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: وحي خاص، وكلام من وراء حجاب، وإرسال رسول، وكل هذه الأقسام الثلاثة تدخل في إطار الوحي {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً} . أي ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا إلهاماً وقذفا في القلب، أو يكلمهُ {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} وهو كلام من الله يسمعه الرسول، لكنه لا يرى المتكلم وهو الله. أما الوحي بواسطة الرسول، فهو نزول جبريل إلى الرسول بما أوحى به الله. فإذا ما نظرنا إلى قوله الحق: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} فكأنه سبحانه قد خصه بهذه العبارة ليدل على أنه أوحى لموسى بطريقتين، أولاً: بالطريق الذي أوحى به إلى غيره من الأنبياء، ثانياً: بالطريق الخاص وهو كلام الله الذي بدأ به موسى بالوادي المقدس. وقوله الحق: «تكليماً» يدفعنا إلى التساؤل: لماذا جاء الحق بالمصدر هنا؟ . لأن مطلق الوحي بأي وسيلة سماه الله كلاماً. إذن فالنفخ في الرُّوع كلام، والكلام من وراء حجاب كلام، وإرسال الرسول بالوحي كلام. والكلام هو ما يدل على مراد المتكلم من المخاطب، بدليل أن الله سمى الوحي في صوره الثلاث كلاماً {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} . والخفاء في الوحي إما أن يكون خفاء في الأسلوب، أي لا يسمعه أحد غير الرسول، وقد لا يسمعه الرسول ويكون بقذف الكلام في رُوع الرسول وقلبه وهو يؤدي مؤدي الكلام أي الدلالة على ما في نفس المتكلم الذي يريد نقله للمخاطب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2845 أما أن يقول الحق: إنه «تكلم» مع موسى، فهذا نقل من الخفاء إلى العلن، أو يرسل الحق رسولاً بالكلام الموحى به. وحين قال سبحانه: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} إنما ينبهنا إلى أن الوحي لموسى ليس من الكلام الذي قسمه الحق في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} ؛ لأن الله قال في كلامه لموسى: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} . ووقف العلماء هنا وقفة عقلية وقالوا: كيف يتكلم الله إذن؟ . ونقول: إن كل وصف لله ويوجد مثله لخلقه إنما نأخذه بالنسبة لله في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فإن قلت: إن لله وجوداً وللإنسان وجوداً، فوجود الإنسان ليس كوجود الله، وإن قلنا: إن لله علماً، وللإنسان علماً، فعلم الإنسان ليس كعلم الله، وإن قلنا: إن لله قدرة، وللإنسان قدرة، فقدرة الإنسان ليست كقدرة الله، وإن قلنا: إن لله استواء على العرش وللإنسان استواء على الكرسي، فاستواء الله ليس كاستواء الإنسان. إذن فلا بد أن تؤخذ كل صفة من صفات الله التي يوجد مثلها في البشر في إطار قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وبذلك ينتهي الخلاف كله في كل ما يتعلق بصفات الحق. فالحق له يدان وله وجه، ولكن لا يمكن للإنسان أن يصور يد الله كيد البشر، بل نأخذها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وكذلك وجه الله. ومادمنا نأخذ صفات الله في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فلا داعي للمعركة الطاحنة بين العلماء في الصفات وفي تأويل الصفات، ولا داعي أن ينقسم العلماء إلى عالم يؤوّل الصفات وعالم لا يؤول؛ لاداعي أن يقول عالم: إن يد الله هي قدرته فيؤول، وعالم آخر لا يؤول ويقول: لا. إن لله يداً ويسكت. ونقول للعالم الذي لا يؤول: قل: إن لله يداً وهي تناسب قوله « {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وإذا كنا نحن قد عرفنا في عالمنا أن الأشياء تختلف مواجيدها في الناس باختلاف الناس، فلا بد من أن نعرف أن الله لا مثيل له. وعلى سبيل المثال: يتلقى الإنسان دعوة لمائدة عمدة قرية ما، فيقدم له ألوان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2846 طعام تناسب مقام القرية ومنصب القيادة فيها، ويتلقى الإنسان دعوة لمائدة محافظ مدينة فيقدم له طعاماً يناسب مقام المدينة ومنصب القيادة فيها. ويتلقى الإنسان دعوة رئيس الدولة فيقدم له طعاماً يناسب مقام الدولة وهيبة منصب القيادة فيها، إذن لا تتساوى مائدة طعام العمدة في قرية مع مائدة طعام المحافظ مع مائدة طعام رئيس الدولة، فإذا كان البشر يوجد الشيء الواحد وهو ملون بألوان مقامات المخلوقين فكيف لنا بمقامات الخالق؟! {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فإذا كان الحق قد أخبرنا أنه كلم موسى تكليماً في قصة الوادي عندما آنس موسى ناراً وذهب إلى النار. فقال الحق: {إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتبع هَوَاهُ فتردى} [طه: 12 - 16] قال له الحق كل ذلك، وبدأه سبحانه بالكلام. وبعد ذلك جاء لموسى الوحي على طريقة مجيء الوحي للأنبياء. والحق سبحانه وتعالى أوحى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على شتى ألوان الوحي. فقد جاء الوحي لرسول الله إلهاماً، وجاء الوحي لرسول الله من وراء حجاب، وجاء الوحي لرسول الله من خلال رسول. ومثال الوحي إلهاماً هو الحديث القدسي، وكذلك التشريع النبوي الذي تركه لنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومثال الوحي من وراء حجاب هو التكليف بالصلاة، فلم تفرض الصلاة بواسطة جبريل، بل فرضت من الله مباشرة. ولا أدخل في نقاش لا جدوى منه حول: أحين فرض الحق على رسوله الصلاة كلمه وسمع منه رسول الله، أم أن رسول الله قد رأى الله وهو يتكلم معه. لا داعي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2847 للخوض في أمر لم يخبرنا الله عن كيفيته، والأدب مع الله يقتضي ذلك. قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . وإن القرآن لم يثبت بأية طريقة من طرق الوحي إلا بإرسال رسول، فكل وحي القرآن جاء بواسطة جبريل، فلم تأت آية بالنفخ في الرُّوع. إنما جاء بالنفخ في الروع الحديث القدسي؛ لأن النفخ في الروع قد يتصور واحد أنه خاطر من الجن أو أمثال ذلك. وجاءت كل الآيات القرآنية بواسطة جبريل؛ بمقدمات بدنية، ويحدث تغير كيماوي في نفس رسول الله فلا يشك أبداً في أنه جبريل. وأراد الحق أن يكون الوحي بالقرآن بطريقة لا شك فيها. وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسمع صوتاً كصلصلة الجرس؛ وبعد ذلك يتفصد جبين الرسول عرقاً، ويثقل جسم رسول الله حتى إن كان على دابة فهي تئط وتئن ويثقل عليها وتكاد أن يمس بطنُها الأرض. وإن كان رسول الله يلاصق فخذه فخذ أحد الصحابة، فيكاد أن يرض فخذ الصحابي، وتلك علامات مادية كونية، لا يمكن أن يحدث فيها لبس. ولقد قالوا من قبل استنادا إلى ظاهر قوله: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} [طه: 134] لو لم يرسل الحق الرسول لكان لهم حجة. ونقول للعلماء: لنفهم هذه المسألة حتى نوضح لكم أنكم تختلفون في أمر كان يجب عليكم ألا تختلفوا فيه. أبالعقل يعلم الإنسان مطلوب الله منه؟ أم أن العقل يهديني إلى وجود قوة أعلى خلقت هذا الكون وتدبره؟ . وما اسم هذه القوة؟ . وما مطلوب هذه القوة؟ . أيعرف العقل ثواب من يتبع المنهج وعقاب من يخرج عن المنهج؟ . كل هذه أمور لا يعرفها العقل، فالعقل حجة في الإيمان بقوة عُليا فوق ذلك الكون وهي التي خلقته وتدبره وتديره، أما الرسول فهو مبلغ بمطلوبات المنهج واسم القوة التي أرسلت والشرائع التي يجب أن يسير على هداها الإنسان، إذن فليس هناك خلاف بين الرأيين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2848 واسأل: من الذي اكتشف الكهرباء؟ . إنه العقل البشري الباحث وراء أسرار الله في الكون، ولا أحد يجهل هذه المسألة. وكذلك أسأل: من أول من تكلم في النسبية؟ إنه أينشتين. وإن سألنا: من أول من تكلم في الجاذبية الأرضية؟ . إسحاق نيوتن، وكل واحد اكتشف شيئاً في الكون صرنا نعرفه. والذي صمم توليد الكهرباء التي تنير وتضيء وندير بها المصانع، وجعل من سوق الكهرباء صناعة رائجة تعمل فيها القدرات المالية ليشتري الإنسان مصابيح تنير حيزاً محدوداً، ومصانع تعمل في خدمة الإنسان. أبالله عليكم تعرفون اسم مصمم مولدات الكهرباء ومصصم ومكتشف المصباح الكهربائي، ولا تدرون اسم من خلق الشمس التي تنير نصف الكرة الأرضية كل نصف يوم. ولم يَدَّع أحد لنفسه صناعة الشمس، ولا يوجد ابتكار في الكون إلا ومعلوم مَن أبدع هذا الابتكار. فالذي صنع المصباح إنما ينير به حيزاً محدوداً مهما كبر ضوء المصباح، وبعد محيط دائري معلوم يتلاشى الضوء ويصير الأمر إلى ظلمة، فما بالنا بالشمس التي تنير نصف الكرة الأرضية كل نصف نهار. إن خلق الشمس يحتاج إلى قدرة تناسب خلقها، وتحتاج إلى حكمة تناسبها، وليس لهذه الشمس محيط من الزجاج ينكسر ونغيره مثلما نفعل مع المصابيح. كان لابد للعقل البشري أن يفهم أن هذه الكائنات التي في الكون لها صانع يناسبها. ولا يمكن أن يكون صانعها من الخلق ويسكت عن حقه في صناعة هذه المعجزات، ونحن نرى بعضاً من الناس في بعض الأحيان تدعي ملكية ما ليس لها، فإذا ما جاء الخالق وأبلغنا بواسطة الرسل بصناعته للكون ولم يوجد له مُعارض، فهل هذه الأشياء والكائنات من خلقه أو لا؟ . إنها من خلقه إلى أن يوجد له معارض؟ هذه هي مهمة العقل أي أنّه يهتدي إلى القوة التي تخلق وتدبر أمر هذا الكون ولا يغني العقل عن الرسل، ولكن العقل يؤمن في القمة الإيمانية بأن هناك قوة مبهمة عالية تناسب عظمة هذا الكون الذي طرأ عليه الإنسان، ولا يعرف اسم القوة ولا يعرف مطلوب القوة في «افعل» ، و «لا تفعل» ، ولا يعرف العقل ماذا ادخرت القوة من ثواب للمحسن وعقاب للمسيء. لذلك لابد من وجود رسول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2849 إن الحجة - إذن - تكون من شقين: الشق الأول الخاص بالعقل هو في الإيمان بالقوة العليا المبهمة، والشق الثاني الخاص بالرسل هو الإيمان بالبلاغ عن الله اسما وصفة ومطلوباً وجزاء، وهكذا نرى فاتفقوا أيها العلماء ولا ضرورة للخلاف. أقول ذلك حتى لا يتمادى الذي يتصيدون لدين الله وأضيف: اتفقوا أيها العلماء على أشياء محددة لأنكم تشتتون الناس بهذه الخلافات؛ فالرسول هو الحجة في الأشياء التي لا دخل للعقل فيها. ونعرف تاريخياً أن آفة الفلسفة أنها تضع وتتخذ عدداً ضيقاً من المجالات لتبحث فيها، وكانت الفلسفة قديماً هي أمُّ العلوم مجتمعة، فالهندسة كانت فرعاً منها، وكذلك كل الرياضيات، وأيضاً المواد العلمية كالكيمياء والفيزياء وكذلك أصول اللغات. لكن عندما رأى العلماء أصحاب التجارب المعملية أن الفلاسفة يدخلون في متاهات نظرية ولا يدخلون إلى مجال التجارب العلمية التطبيقية، تركوا الفلاسفة وأسسوا العلوم التجريبية منفصلة عن الفلسفة. وأنتج العلم التجريبي لنا كل هذه الاختراعات والاكتشافات المعاصرة التي تسهل علينا الحياة ونستفيد منها. لقد ظل الفلاسفة على حالهم يبحثون في النظريات بعيدين عن مجال التجارب العلمية التطبيقية. ولا تلتقي مدرسة فلسفية بمدرسة أخرى؛ لأنهم يختلفون حيث الجهل طبيعة مسيطرة على الغيب الذي يبحثون عنه ولا يمكن الاهتداء أبداً إلى أسرار الغيب، إنما الغيب يبلغ به الرسل. والمثال الذي أضربه دائماً واكرره حتى يستقر في الأذهان: لنفترض أننا نجلس في حجرة ثم دق الجرس، هنا تستوي عقولنا جميعاً في أن طارقاً بالباب، ولا نختلف في هذا الأمر. لكن عندما ندخل في تصور من الطارق؟ يقول واحد: «الطارق رجل» وثانٍ يقول: «الطارق امرأة» وثالث يقول: «الطارق رجل شرطة» ورابع يقول: «صديق لنا» وخامس يقول: «بشير» وسادس يقول: «نذير» ، يحدث ذلك لأننا دخلنا إلى متاهات التصور. وأقول: هذه الأمور لا تُترك للعقل، فلو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2850 أردتم راحة أنفسكم لآمنتم بالتعقل، تعقل أن هناك طارقاً بالباب، ثم تتركون للطارق أن يعلن عن نفسه ويقول لكم: أنا فلان وأسمي كذا وصفتي كذا وجئت إليكم من أجل كذا، وبذلك نتفق جميعاً. لكن الفلاسفة أدخلوا التصور في التعقل. ولا يمكننا أن نعرف اسم الخالق بالعقل أبداً ولا مطلوبه. بل لأ بد أن يبلغ عن نفسه، فإذا انشغل العقل بأن هذا الكون العظيم لا بد له من قوة خالقة، فلماذا لا تبلغنا عن نفسها؟ . وإذا ما جاء رسول من أجل أن يحل اللغز الوجودي الذي يعيشه البشر فيبلغنا أن القوة الخالقة اسمها الله. هنا أراح الحق النفس البشرية بما كانت تتمنى أن تعرفه، ومن عقل العاقل أن يفرح بمجيء الرسول ويستشرف إلى السماع عنه؛ لأن الرسول إنما جاء يحل اللغز الشاغل للنفس البشرية من تفسير مَن خلق الكون بهذه الدقة، وما هي مطلوبات هذه القوة؟ ويحسم الرسول الخلاف عندهم ويحل اللغز الشاغل للبال. ولذلك نرى الإمام عليا - كرم الله وجهه - أمام سؤال من أحدهم: - أعرفت محمداً بربك؟ أم عرفت ربك بمحمد؟ . فأجاب الإمام عليّ وكان باب العلم: لو عرفت ربي بمحمد لكان محمد أوثق عندي من ربي، ولو عرفت محمداً بربي لما احتجت إلى رسول، ولكني عرفت ربي بربي وجاء محمد فيبلغني مراد ربي مني. هكذا حدد لنا سيدنا عليّ المسألة. . فالعقل الفطري يؤمن بقوة مبهمة وراء هذا الكون هي التي خلقت وهي التي رزقت وهي التي أمدت بقيوميتها وقدرتها، وبعد ذلك تجيء الرسل من أجل تعريفنا باسم القوة ومطلوبها منا. والذين يختلفون حول دور العقل في الحجة ودور الرسول في الحجة، عليهم ألا يتوهوا في متاهات نحن في غنى عنها؛ لأن العقل لا يمكن أن يكون الحجة بمفرده، والرسول إنما هو مبلغ عن القوة، وقد يقول قائل: إذن لابد لكل رسول من رسول، وقد يبلغ التفلسف الطريق المسدود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2851 لكن عندما نعلم أن الحق قد صنع كل رسول على عينه معصوماً ليبلغ، وعلى سبيل المثال نجد سيدنا محمد بن عبد الله استطاع أن يصنع أمة في ثلاث وعشرين سنة ليمتد خيرها إلى يوم القيامة، فعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك مبلغاً عن الله ليهدي أمته إلى كيفية عمل الطيب والابتعاد عن العمل الخبيث. وخلق الله محمداً على خُلق عظيم. وهكذا نعرف أن الحق قد أراح العقل من ضرورة البحث عن اسم القوة الخالقة ومطلوبها فأرسل الرسل. ويقول الحق من بعد ذلك: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2852 نعرف أن البشارة تكون بأمر سار يأتي من بعد. والنذارة هي إخبار بأمر مسيء يأتي من بعد. والعزيز سبحانه لا يُغلب. والحكيم سبحانه وضع كل شيء في موضعه، لماذا؟ . لأن الرسل يبشرون وينذرون بأن هناك جنة وناراً وحساباً، فإياكم أن تظنوا أن الذي كفر بقادر على أن يصنع شيئاً لنفسه؛ والله عزيز وغنيُّ عن خلقه جميعاً. ونعلم أن الحق لا يجرم سلوكاً إلا بنص، وقبل أن يعاقب فهو يضع القواعد التي لا يصح الخروج عنها. وحين يقول الحق: {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} فعزته وحكمته هي التي أتاحت لنا أن نعرف منهجه. ويقول الحق من بعد ذلك: {لكن الله يَشْهَدُ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2852 وساعة نسمع «لكن» فمعنى ذلك أن هناك استدراكاً. وقوله الحق: {لكن الله يَشْهَدُ} نأخذ منها بلاغاً من الحق. خصومك يا محمد لا يشهدون أنك أهل لهذه الرسالة، ويستدرك الله عليهم ويوضح لهم أنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بقانون صيانته. ومنهج الله إلى البشر بواسطة الرسل هو قانون صيانة ذلك الإنسان. وإذا كان أهل الكتاب لا يشهدون بما أنزل الله إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وينكرون ما في كتبهم من البشارة بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كرسول خاتم، فإن الله يشهد وكفى بالله شهيداً. لقد أنزل القرآن بعلمه، وهو الذي لا تخفى عليه خافية، وهو الذي خلق كل الخلق ويعلم - وهو العليم - ما يصلح للبشر من قوانين. وفي أعرافنا البشرية نجد أن الذي يصنع الصنعة يضع قانون صيانتها لتؤدي مهمتها كما ينبغي، كذلك الله الذي خلق الإنسان، هو سبحانه الذي وضع له قانون صيانته ب «افعل» و «لا تفعل» . ولذلك يقول الحق: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14] ونجد الإنسان منا يذهب بساعته إلى عامل إصلاح الساعات فيكشف عليها ويقرر ما فيها من فساد، فما بالنا بخالق الإنسان. إنّ العبث الذي يوجد في العالم سببه أن الناس قد استقبلوا خلق الله لهم، ولم يدع أحد أنه خلق نفسه أو خلق غيره، ومع ذلك يحاولون أن يقننوا قوانين صيانة للإنسان خارجة عن منهج الله. ونقول: دعوا خالق الإنسان، يضع لكم قانون صيانة الإنسان ب «افعل» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2853 ولا «تفعل» وإن أردتم أن تشرِّعوا، فلتشرعوا في ضوء منهج الله، وإن حدث أي عطب في الإنسان فلنرده إلى قانون صيانة الصانع الأول وهو القرآن؛ لأن المتاعب إنما تنبع من أن الإنسان يتناسى في بعض الأحيان أنه من صنعة الله، ويحاول أن يصنع لنفسه قانون صيانة بعيداً عن منهج الله، والذي يزيل متاعب الإنسانية هو أن تعود إلى قانون صيانتها الذي وضعه الخالق تبارك وتعالى. {لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ} والملائكة تشهد لأنها نالت شرف أن يكون المبلغ لرسول الله منهم وهو جبريل عليه السلام، وهم أيضاً الذين يحسبون حسابات العمل الصالح أو الفاسد للإنسان ويكتبونها في صحيفته، وهم كذلك الذين حملوا ما في اللوح المحفوظ وبلغوا ما أمروا بتبليغه وهم يعرفون الكثير {وكفى بالله شَهِيداً} لماذا لم يقل الله هنا وكفى بالله وبالملائكة شهوداً؟ . لأن الحق سبحانه وتعالى لا يأخذ شهادة الملائكة تعزيزاً لشهادته. ونحن لا نأخذ شهادة الملائكة تعزيزاً لشهادة الله وإلا كانت الملائكة أوثق عندنا من الله. وسبحانه يؤرخ شهادة الناس وشهادة الملائكة، لكنك يا رسول الله تكفيك شهادة الله. ومن بعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2854 إنّ كُفر الكافر إنما يعود عليه، وهو يملك الاختيار بين الكُفر والإيمان، لكن أن يصد الكافر غيره عن الإيمان فهذا ضلال متعدّ؛ لقد ضل في نفسه، وهو يحاول أن يضل غيره؛ لذلك لا يحمل وزره فقط ولكن يحمل أوزار من يضلّهم. وكيف يكون الصدّ عن سبيل الله؟ . بمحاولة أهل الضلال أن يمنعوا آيات الهُدى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2854 من أن تصل إلى آذان الناس، فيقولوا ما رواه الحق عنهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] ولو فهموا معنى هذه الآية لما قالوا ما جاء فيها، فقولهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} أي اصنعوا ضجة تشوّش على سماع القرآن، وهم قد علموا أن هذا القرآن عندما يصل إلى الأسماع فإنه يبلغ الهداية، ولو كان القرآن غير مؤثر لما قالوا ذلك، إذن هم يعترفون بأنهم يُغلَبُون عندما يصل صوت القرآن إلى آذان البشر المدعوين إلى الهداية. {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً} . كان يكفي أن يقول الحق {قَدْ ضَلُّواْ} ، لكنه جاء بالمصدر التأكيدي {قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً} أي إنه الضلال بعينه، وهو فوق ذلك ضلال بعيد. وعندما ننظر في كلمة «بعيد» ، نعرف أن الشيء البعيد هو الذي بينه وبين مصدره مسافة زمنية طويلة. والذي يضل قصارى ضلاله أن ينتهي بانتهاء حياته، لكن الذي يعمل على إضلال غيره فهو يجعل الضلال يمتد، أي أن الضلال سيأخذ في هذه الحالة زمناً أكبر من حياة المُضل، ويتوالى الضلال عن المضلين أجيالاً، وهكذا يصبح الضلال ممتداً. والضلال المعروف في الماديات البشرية هو - على سبيل المثال - أن يسير الإنسان إلى طريق فيضل إلى طريق آخر. وقصارى ما يضل فيه هو أن يذهب إلى مفازه - أي صحراء - ولا يجد ماء ولا طعاماً فيموت. لكن الضال المضل يجعل ضلاله يأخذ زمن الدنيا والآخرة وبذلك يكون ضلاله ممتداً. ومن بعد ذلك يقول الحق: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2855 والحديث هنا يبدأ عن الكفر والظلم {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} . والكفر هو ستر الوجود الأعلى، والظلم معناه أنهم عاشوا بمنهج بشري لا يؤدي لهم متاعاً ولا سعادة في حياتهم الدنيا، وبذلك يكونون قد ظلموا أنفسهم. ومن بعد ذلك يقودهم هذا المنهج إلى عذاب الآخرة. والذي كفر ستر وجود الله وحرم نفسه بستر الوجود الأعلى من المنهج الذي يأتي به الله إنه بذلك قد ضل ضلالاً بعيداً. وسبحانه القائل: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] وهناك آية أخرى يقول فيها الحق: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] والذي يأخذ بهوى نفسه وبمنهج البشر فإن له معيشة ضنكا ضيقة شديدة. ولا يظنن ظان أن الذي يأخذ ويتناول الأمور بهواه قد أخذ انطلاقاً بلا حدود وراحة لا نهاية لها، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك قد يرتاح مرة لكنه يقابل التعب ويعيش فيه ولا ينفك عنه من بعد ذلك، وهكذا يظلم نفسه. وقد يقول قائل: لقد ظلموا أنفسهم، ومعنى ذلك أنه لا بد من وجود ظالم ومظلوم. فمن هو الظالم ومن هو المظلوم؟ . كل واحد منهم الظالم. وكل واحد منهم المظلوم؛ لأن الإنسان مركب من ملكات متعددة، ملكة شهوات تريد أن تنطلق إلى الشهوات، وملكة قيم تريد أن يحفظ الإنسان نفسه ويسير على صراط القيم المستقيم. وفي حالة من يكفر ولا يتبع منهج الله إنما يترك الفرصة لملكة الشهوات أن تظلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2856 ملكة القيم. والإسلام إنما جاء ليوازي بين الملكات لتتساند في النفس البشرية، فلا يطغى سيال ملكة على سيال ملكة أخرى. {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} [النساء: 168 - 169] هذا هو حكم الحق في الذين يكفرون ويظلمون أنفسهم، لن ينالوا مغفرة الله وليس أمامهم إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً. ويقول الحق بعد ذلك: {ياأيها الناس ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2857 فبعد أن وصف لنا - بإيجاز محكم - سلسلة المعارك التي نشأت بين الرسول واليهود مرة، ومرة أخرى بينه وبين المشركين، وها هوذا سبحانه يخاطب الناس جميعاً، ليصفي مركز منهج الله في الأرض، فيقول منبهاً كل الناس: لقد جاءت رسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ تصفية لكل الرسالات التي سبقت، وعلى الناس جميعاً أن يميزوا، ليختاروا الحياة الإيمانية الجديدة؛ لأن الرسول قد جاء بالنور والبرهان، الذي يرجح ما هو عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ما هم عليه، والنور الذي يهديهم سواء السبيل. لقد كان الناس قبل رسول الله على مِلَلٍ وعلى أديان ونحل شتى، فجاء البرهان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2857 بأن الإسلام قد جاء ناسخاً وخاتماً. والبرهان هو تعاليم هذا الدين وأدلته، فلا حجة لأحد أن يتمسك بشيء مما كان عليه. وجاء محمد بالنور الذي يهدي الإنسان إلى سواء السبيل، وهذه تصفية عقدية شاملة، أو كما نقول بالعامية «أوكازيون إيماني» تتخلص به البشرية من كل ما يشوب عقائدها، ولتبدأ مرحلة جديدة. {ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ} والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير مهما تغيرت عليه الظروف؛ لأن الحق صدق له لون واحد، فإذا ما رأيتم جميعاً حادثة واحدة، ثم جاء كل واحد منكم فأخبر بها إخبار صدق فلن تختلف رواية الحادثة من واحد لآخر. أما إن سولت نفس بعض الناس لهم أن يتزيدوا في الحادثة فكل واحد سيحكي الحادثة على لون مختلف عن بقية الألوان، وقد يسافر خيال أحدهم في شطحة الكذب ويسترسل فيه. إذن فالذي لا يتغير في الحق هو أن يحكوا جميعاً الرواية الواحدة بصدق ولو كانوا ملايين الناس، لكن إن سولت نفوس بعضهم الكذب وحسنته له وأغرته به لاختلفت الرواية؛ لأن الكذب مشاع أوهام ولا حقيقة له. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: لقد جاءكم الرسول بالحق مهما تغيرت الظروف والأحوال، ومهما جئتم إليه من أي لون، سواء في العقديات أو في العباديات أو في الأخلاق أو في السلوك. وستجدون كل شيء ثابتاً لأنّه الحق. ويضرب الحق سبحانه وتعالى لنا مثلاً في هذا الحق: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} [الرعد: 17] كل وادٍ يأخذ ماء على قدر حجمه، وساعة ينزل السيل من الجبال يحمل معه التراب والقش والأشياء التي لا لزوم لها، وهو ما نسميه «الريم» وهو الزَّبَد الرابي. وكذلك الحديد أو النحاس أو الذهب الذي نصنع منه الحلي أو أدوات المتاع، وعندما نضع هذه المعادن في النار، نجد الزِّبَد يفور على سطح هذه المعادن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2858 عندما تنصهر، وتسمى هذه الأشياء الخبث. ويوضح الحق لنا كيف يضرب الحق والباطل. {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17] ومهما اختلطت بالحق أشياء فهو كحق يبعد ويطرد هذه الفقاقيع والخبث وينحيها عنه. فإن علا الباطل يوماً على الحق فلنعلم أنه علو الزَّبَد الذي يذهب جفاء مرميا به ومطروحا، وسيظل الحق هو الحق. وسبحانه يقول: {ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ} . والإيمان هو اعتناق العقيدة بوجود الإله الأعلى، والبلاغ عنه بواسطة الرسل، وأن للحق ملائكة، وأن هناك بعثاً بعد الموت، وحساباً. ويقتضي الإيمان أن نعمل العمل وَفق مقتضياته وذلك هو اختيار الخير، ولنعلم جيداً أن الإيمان لا ينفصل عن العمل. وماذا يحدث لو لم يؤمن الناس؟ ها هوذا الحق يقول: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} وسبحانه غني، وسيظل كَونُه الثابتُ - بنظرية القهر والتسخير - هو كونه، ولن يتغير شيء في الكون بكفر الكافرين، سوى سخط الكون عليهم لأنه مسخر لهم؛ لأن الكون ملك لله، ولن تتغير السماء ولا النجوم ولا القمر ولا المطر ولا أي شيء. ونقول لك: لو نظرت إلى الدنيا لوجدت الفساد فيها ناشئاً مما فعلته وأحدثته يد الإنسان على غير منهج الله، أما الشيء الذي لم تدخل فيه يد الإنسان فهو لا يفسد، ولم نر يوماً الشمس وقد عصيت عن الشروق أو الغروب، وكذلك القمر لم تختل حركته، وكذلك النجوم في الأفلاك، وتسير الرياح بأمر خالقها، وكل شيء في الكون منتظم الحركة، اللهم إلا الأشياء التي يتدخل فيها الإنسان، فإذا كان قد دخلها بمواصفات منهج الله فهي منسجمة مع نفسها ومع الكون، وإن دخلها بغير مواصفات منهج الله فلن تستقيم، بل تفسد. ولذلك قال الحق: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2859 إن الأمر الفاسد إنما يأتي من داخل نفوس البشر عندما يضلون عن منهج الله، ولذلك نقول: أشَكى الناس أزمة ضوء؟ . لا؛ لأن الشمس ليست في متناولنا، وكذلك لم يشك الناس أزمة هواء، لكنهم يشكون أزمة طعام؛ لأن الطعام ينبت من الأرض، فإما أن يكسل الإنسان مثلاً فلا يعمل، وإما أن يعمل ويخرج ثمراً فيأخذه بعضهم ويضنوا ويبخلوا ولا يعطوه لغيرهم، وهذا سبب من أسباب الفساد الناشئ في الكون. وجاء الحق لهم بما يمكن أن يكون فتحاً يدخلون فيه بالإيمان بمنهج الرسول الخاتم، ويكفرون عن أخطائهم مع أنبيائهم ومع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يقول سبحانه: {ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2860 يبدأ الحق بأمر موجه لأهل الكتاب: {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} والغلو هو الخروج عن حد الاعتدال في الحكم، لأن كل شيء له وسط وله طرفان، وعندما يمسك شخص طرفاً نطلب منه ألا يكون هناك إفراط أو تفريط. وقد وقع أهل الكتاب في هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2860 المأزق، فلم يأخذوا الأمر بالاعتدال دون إفراط أو تفريط، لقد كفر اليهود بعيسى واتهموا مريم بالزنا، وهذا غلو في الكُرْه، وغالى النصارى في الحب لعيسى فقالوا: إنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة؛ وهذا غلو، ويطلب الحق منهم أن يقفوا من أمر الدين موقف الاعتدال: {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} . إن أمر المنهج لا يحتاج إلى غلو، ولذلك جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من عند الله بالدين الوسط الذي يضع كل أمر في نصابه. وشرح لنا بإخبارات النبوة وإلهامها ما سوف يحدث للإمام علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وقد حدث ما تنبأ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالخوارج كفَّروا علياً، والمسرفون بالتشيع قالوا: إنه نبي، وبعضهم زاد الإسراف فجعله إلهاً. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعليّ - كرم الله وجهه -: «إن فيك من عيسى مثلا. أبغضته اليهود حتى بهتوا أُمَّهُ، وأحبته النصارى حتى انزلوه المنزل الذي ليس له» . وكما قال سيدنا علي - كرم الله وجهه -: «ألا وإنه يهلك فيّ اثنان: محبٌ يقرظني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا إني لست بنبيّ ولا يوحى إليّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم» . وقد أخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليّاً أن المحب الذي يغالي في حبه ليس مع عليّ وكذلك الكاره المبغض؛ فالذي يحب عليا بغلو جعل منه إلهاً أو رسولاً، والذي أبغض علياً جعله كافراً. وكذلك النصارى من أهل الكتاب جاءوا إلى عيسى فأحبوه بغلو وجعلوه إلهاً أو ابن إله أو ثالث ثلاثة، فيقول لهم الحق: {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله} . وقوله الحق: {عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله} رد على غلو اليهود الذين رفضوا الإيمان بعيسى، وقالوا في عيسى وأمه البهتان العظيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2861 وقوله الحق عن عيسى ابن مريم: {رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} رد على غلو النصارى الذين نصبوه إلهاً أو جعلوه ابناً لله أو ثالث ثلاثة، فعيسى عليه السلام هو ابن مريم وعندما بشرها به الحق وقالت: {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47] قالت ذلك بفطنة الصديقية التي جعلتها تنبه إلى أنها لم يمسسها بشر، ومادام الحق قد نسبه إليها فليس له أب، سيولد عيسى دون أن يمسسها بشر، ويوضح سبحانه ذلك عندما يقول: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} . فعيسى روح من الحق؛ لأنه سبحانه قال: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] وما معنى «كلمته» ؟ . هذا القول يدل على أن الروح نفخت ثم جاءت كلمة «كن» التي قال عنها سبحانه: {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] لقد احتاج وجود عيسى إلى أمرين: «روح» و «كن» . والشبهة عند النصارى مردها إلى أن عنصر الذكورة لم يلمس مريم؛ وقالوا: مادام الله قد قال: إن عيسى روح منه فهو جزء من الله، ونسوا أن كل شيء من الله، وسبحانه القائل: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} [الجاثية: 13] فهل هذا يعني أن «الأرض» قطعة من الله وكذلك الشمس؟ . لا. فإذا كانت الشبهة قد جاءت من غياب عنصر الذكورة مع وجود عنصر الأنوثة لكان من الواجب منطقياً أن تكون الشبهة في آدم قبل أن تكون الشبهة في عيسى؛ لأن آدم جاء من غير ذكورة ولا أنوثة؛ فلا أب ولا أم له؛ لقد قال القرآن بمنتهى البساطة ومنتهى الوسع: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2862 {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] ولا يملك أحد القيد على فضل الله ووسعه، ومسألة آدم كانت أدق، لكن الله بتفضله يساوي بين خلق عيسى وخلق آدم، وهذا هو التلطف في الجدل. وأخبرنا سبحانه عن عيسى أنه جاء بأمر منه، وقال في آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29] إذن فآدم قد احتاج إلى الأمرين نفسيهما: «كن» ، و «النفخ فيه من الروح» ، وعندما ننظر إلى هذه المسألة نجد أننا لا بد أن نتعرض لقضية خلق آدم، حتى نعرف كيف تسلسلت مسألة الخلق، سواء أكان الخلق ملائكة أم خلق آدم أم خلق حواء أو غيرهم من الخلق، كذلك خلق عيسى. لقد كان خلق آدم غيباً عن آدم، وليس لآدم نفسه ولا لمن جاء بعده أن يتكلم كيف خُلق؛ لأن هذه المسألة لا دخل لأحد بها، ويقول لنا الخلق محذرا من أن نستمع إلى قوم يقولون بغير ذلك عن الخلق فقال: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] ولا يمكن - إذن - أن نستمع إلى هؤلاء الذين افترضوا أن أصل الإنسان قرد أو غير ذلك؛ لأن الذي يتكلم عن الخلق بغير علم من عند الله، فهو يتكلم في أمر لم يشهده. والخلق الأول أمر لا يمكن أن يدخل المعمل التجريبي؛ لأن المعمل التجريبي إنما يحلل مواد موجودة بالفعل. إذن فالحكم على أمور بغَير ما أخبرنا بها الله أمر باطل. ولم يكن هناك أحد مع الله ساعة خلق الخلق ليقول لنا كيف تم ذلك. وعَلِمْنا هذه المسائل بإخبار الخالق لنا فهو الأعلم بنا، والخالق أخبرنا أنه خلقنا من ماء وتراب وطين وحمأ مسنون وصلصال كالفخار، وحدثنا بذلك في آيات متعددة. والذين يريدون أن يكذبوا القرآن يقولون: إن القرآن لم يأت بخبر واحد عن خلق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2863 الخلق، فمرة يقول إن الخلق كان من ماء ومرة كان من تراب، ومرة كان من طين، ومرة كان من صلصال. ونقول: أحين يتكلم الحق عن مراحل الخلق فهل في هذا تضاد؟ . اصل الخلق ماء، خلطه الحق بتراب، وبعد وضع الماء على التراب صار الإثنان طيناً، ثم إذا تركنا الطين إلى أن يختمر، يصير حمأ مسنوناً، وبعد ذلك يصير صلصالاً، ومن بعد ذلك خلق منه الحق آدم. إذن فكل شيء تكلم عنه سبحانه في خلق آدم إنما يتفق مع كل الآيات التي جاءت عن هذا الخلق. وهو القائل عن آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29] وبعد صنع الله القالب الذي يشبه التمثال الذي نراه، ولكن تنقصه الحركة ولحياة، فيأتي النفخ في الروح بكلمة «كن» . إذن نحن نحتاج إلى روح وإلى كلمة. والروح عنصر وجودي. وعندما تختلط بالقالب تحدث الحياة، ولا بد من بعد ذلك من الإرادة بكلمة «كن» . ولذلك نجد الإنسان قد يصنع نفس خلطة الإنسان الكيماوية لكنها لا تصير إنساناً؛ لأن الأمر ينقص الإذْن بميلاد الإنسان. وساعة يتكلم الحق عن خلق آدم وهو أمر لم نشهده، فذلك من رحمته بنا، ويترك لنا سبحانه في الكون دليلاً على صدقه عن خلق آدم، فإذا كنا لم نشهد خلق الحياة فنحن نشهد نقيض الحياة وهو الموت، الذي يحدث فيه أولاً خروج الروح، ومن بعد ذلك ينتفخ الجسم كأنه الحمأ المسنون، ثم يتبخر الماء، وبعد ذلك يتحلل إلى تراب. هذه هي مراحل الموت التي تبدأ من خروج الروح ويتصلب الجسم إلى أن يَرِم ثم يتبخر الماء، وتبقى العناصر في الأرض. وإذا كنا لم نعرف كيف بدأت الحياة، فنحن نعرف كيف انتهت الحياة أمامنا بالأمر المشهدي، وجعل سبحانه أمر انتهاء الحياة أمامنا دليلاً على صدقة في إخبارنا بالحياة وكيف بدأت؛ لأن نقض الحياة يكون بالموت، ونقض أي شيء إنما يتم على عكس طريقة بنائه. وآخر أمر دخل في الإنسان هو الروح، ولذلك فهي أول ما يخرج من الإنسان عند الموت. وبعد ذلك يتصلب الجسم، وبعد ذلك يصير رمة وهي الحمأ المسنون. وبعد ذلك يتبخر الماء ويبقى أخيراً التراب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2864 وقد حللوا الإنسان حديثاً. فوجدوا فيه عناصر كثيرة، ثم حللوا طينة الأرض الخصبة التي يخرج منها الزرع الذي يقتات منه الإنسان، فوجدوا هذه الطينة مكونة من هذه العناصر. ومن العجيب أن العناصر المكونة للإنسان هي نفسها المكونة لطين التربة الخصبة، مما يدل على تأكيد الصدق في أن الله خلقنا من طين، وجعل استبقاء حياتنا مما يخرج من هذا الطين بعناصره المختلفة، جتى يمد كل عنصر من الطين كل عنصر من الوجود الإنساني. ولما قاموا بتحليل الإنسان مقارناً بتحليل التربة وجدوا أن أضخم عنصر في تكوين الإنسان هو الأوكسجين ونسبته على ما أذكر سبع وستون بالمائة، وبعده عنصر الكربون، ونسبته على ما أذكر تسع عشرة بالمائة، إلى أن تنتهي العناصر المكونة للإنسان والتربة إلى المنجنيز ونسبته تقل عن واحدة بالمائة، وأهم هذه العناصر هو: الأوكسجين، الكربون، الهيدروجين، النتروجين، الكلور، الكبريت، الكالسيوم، والفوسفور، والبوتاسيوم، الصوديوم، الحديد، اليود، والسيلوز، والمنجنيز. هذه هي أهم وأكثر العناصر المكونة لتركيب الإنسان وهي العناصر نفسها الموجودة في تركيبة الطين وبعضها عناصر مكونة للمركبات العضوية وبعضها عناصر غير عضوية وبعضها عناصر وظائفها ثابتة ومعروفة، ويسأل أهل الذكر في تفاصيل ذلك. وبطبيعة الحال فالذين قاموا بتحليل التربة وعناصر الإنسان لم يكونوا علماء دين، ولم يكن في بالهم إقامة الدليل على صدق الله في القرآن، ذلك أن بعضهم يجهل مسألة القرآن كلها، ولكن الحق سبحانه وتعالى أجرى على لسان رسوله حديثاً يشرح لنا حقيقة إثبات صحة كل ما فيه ولو جاء على لسان رجل فاجر، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» فسبحانه - إذن - أراد أن ينصر الدين بالكافرين، وجعل بعضاً منهم يصلون إلى أشياء لو أنهم علموا أنها ستخدم قضايا الهدى لما أعلنوها. ومن حكمة الله أن جعل الكافرين غير قادرين على إغفال نصرة الدين، وجعل سبحانه بعضاً منهم يخدمون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2865 الدين على رغم أنوفهم. ونريد أن نأخذ من هذه المسألة فهماً عميقاً، يتسم باللطف والسماحة، فإذا كان الله قد خلق الإنسان الأول من طين، وهناك آية أخرى قال عنها الحق: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29] وآية ثالثة قال فيها سبحانه: {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] إذن فخلق آدم احتاج إلى أمرين: النفخ من روح الحق، والأمر «كن» ، وهما الأمران أنفسهما في مسألة خلق عيسى، روح من الحق، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وهذه دليل صدق لقوله الحق: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ} [آل عمران: 59] والحق قد قص لنا أنه خلق آدم من طين وصنع القالب وسواه بيديه: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 75 - 76] فإذا كان الهيكل الذي خلقه الله ونفخ فيه الروح، ودبت فيه الحياة ثم تناسل النسل من آدم إلى أن تقوم الساعة، فهل مجيء عيسى على الصورة التي جاء بها يكون أمراً عسيراً على الله؟ . لا. وساعة أنجب آدم أول ذرية له؛ ألم يخرج لحظتها حيوان منوي من آدم إلى البويضة في رحم حواء؛ وأراد به الله ميلاد أول نسل من آدم وهو جزء من آدم، وهذا الحيوان المنوي له مادة وله حياة، ومادته معروفة، وحياة هذا الحيوان المنوي هي التي تسمح له بالحركة لتلقيح البويضة، هذه المادة مخلوقة من آدم، والحياة التي فيه من روح آدم، وآدم نفسه خلقه الله بيديه، وهذا إثبات أن الحيوان المنوي هو جزء مما خلقه الله بيديه وهو آدم، وفي الحيوان المنوي حياة مما نفخه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2866 الله من روحه، وانتقل إلى رحم حواء وأخصب البويضة وولدته حواء، واستمر ميلاد حيوانات منوية حية تخصب بويضات حية ليستمر الخصب والنسل والأحفاد. إننا إذا سلسلنا نسل آدم إلى أن تقوم الساعة، فكل ذرة من ذرات من يوجد آخر الدنيا مكونة من شيء به خلق من خلق الله في القالب، وفيه شيء من نفخ الله في الروح؛ ولم يطرأ عليه موت أبداً؛ فلو طرأ عليه موت أو فناء لما صلح أن ينجب مثله. وهكذا نعلم أن كل واحد فينا به جزء من القالب الذي صنعه الله بيديه، وفيه جزء من نفخ الروح. وأكرر المثل الذي أضر به دائماً ليستقر في أذهان الناشئة؛ لو جئنا بسنتيمتر مكعب من سائل ملون مركز، وأضفناه إلى لتر من الماء، ثم أخذنا قطرة من لتر الماء سنجد بها جزءا ضئيلاً من السنتيمتر المكعب الملون. وإذا أخذنا هذه القطرة وأضفناها إلى برميل من المياه فيصير في البرميل جزء من السنتيمتر المكعب الملون. وإذا أخذنا من البرميل قطرة من المياه، وأضفناها إلى البحر فإن جزءا من السنتيمتر الملون يصير بالبحر. إذن فكل نسل آدم - إلى أن تقوم الساعة - فيه جُزَيْء - من آدم عليه السلام. ونلحظ أن كثيراً من المفكرين والمثقفين في الغرب صاروا يبتعدون عن فكرة بنوة عيسى لله. وعندما يدخلون في نقاش حول هذه المسألة يقولون: إنها بنوة حب. وإذا كانت المسألة بنوة حب، فالله يحب جميع عباده ونصير نحن مثل المسيح ويصير المسيح مثلنا. فالخلق كلهم عيال الله، والحديث القدسي يقول: «الناس كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم بعياله» ولو أخذنا هذا القول بالدقة التجريبية المعملية نجد أن هذا القول صدق وحق؛ لأننا جميعاً قد صدرنا عن قدرة الله وإرادته وكل منا فيه شيء من صنع الله منذ بداية خلق آدم، إذن هو بشر مثلنا ويتميز عنا بأن السماء اختارته رسولاً. أما القول بالثالوث. فبعضهم يقول: نقصد بالثالوث ثالوث الصفات. وهل ثالوث الصفات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2867 تأتي فيه إضافيات؟ . كالقول «بالأب والابن والروح القدس» ؟ لن يوجد أب إلا إذا وُجد ابن، ولن يوجد ابن إلا إذا وجد أب. إننا نعلم أن هناك حقائق ثابتة وهناك حقائق إضافية؛ فالإنسان يكون ابناً وأباً، فهو ابن بالنسبة لوالده، وهو أب بالنسبة لابنه، وكل هذه صفات إضافية، وصفات الحق يُفترض فيها أنها تجتمع لا أن تكون إضافية، وعندما يقال: «الأب والابن والروح القدس» فهذا القول لا يحمل صفات إلهية، بل صفات إضافية، وحاول بعضهم أن يقول: «إن فاتحة الكتاب يوجد فيها التثليث؛ لأنكم تقولون بسم الله الرحمن الرحيم، أنتم تفتتحون القرآن بثلاث صفات هي الله والرحمن والرحيم» وقلت لهم: نحن نقول «بسم الله الرحمن الرحيم» ولا نقول «بسم الله والرحمن والرحيم» . وما الذي يجعل الحق يُنجب ابناً منذ أكثر من ألف وتسعمائة سنة؟ . ثم يترك سبحانه الأزمان السابقة على ميلاد المسيح محرومة من ميلاد ابن له؟ . لماذا يترك الله الأزمان كلها بدون ابن لله، ويختص البشرية بابن له منذ حوالي عشرين قرناً فقط؟ . ثم ما المدة الزمنية التي شرفها الله بابنه بأن أوجده فيها؟ أتكفي ثلاثة وثلاثون عاماً فقط - وهي عمر المسيح - لتشريف البشرية بوجود ابن الله؟ . ولماذا يحرم الله - إذن - بقية الأزمان من بدء الخليقة إلى يوم القيامة من هذا الشرف؟ . ونسأل أيضاً لماذا يريد أي كائن إنجاب ابن؟ . إنه يرغب ذلك ليضمن استبقاء الحياة؛ لأن الإنسان يعرف أنه سيموت، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الموت والحياة وهو الباقي أبدا، وليس في حاجة لاستبقاء حياته في أحد من البشر ويؤكد لنا ذلك في سورة الإخلاص. {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2868 وهم يقولون: «إله واحد» ، ومرة أخرى يقولون: «إله أحد» . وواحد لا تساوي «أحد» والدارسون للغة والمنطق يعرفون أن هناك شيئاً اسمه «الكل» وشيئاً اسمه «الجزء» وشيئاً اسمه «الكلي» وشيئاً اسمه «الجزئي» . «فالكلي» يطلق على ماله أفراد مثل الإنسان: كخالد ومحمد وعليّ، و «الكل» يُطلق على ماله أجزاء، مثال ذلك الكرسي نجده مكوناً من أشياء؛ كالخشب والغراء والمسامير وغير ذلك من مواد. فالكرسي - إذن - «كُلٌّ» لأنه مصنوع من مواد كثيرة. وحقيقة الخشب تختلف عن حقيقة المسمار؛ لذلك فالكرسي «كُلٌّ» لأنه مكون من أشياء كثيرة مختلفة الحقائق. ولا يصح أن نطلق على أي شيء من مكونات الكرسي اسم «كُل» . فلا نقول: «المسمار كرسي» أو «الخشب كرسي» ؛ لأن الكرسي يُطلق على مجموع الخشب والمسامير والغراء والطلاء في شكل وترتيب معين. ومثال آخر، كلمة «إنسان» وهي كلمة تطلق على كثيرين، ولأن الحقائق متفقة نطلق على الإنسان كلمة «كُلّي» . ويصح أن نطلق على أي كائن يتمتع بالصفات المتفق عليها للإنسان لقب إنسان، فنقول محمد إنسان وزيد إنسان، وعليٌّ إنسان. «فالكل» له أجزاء، ولل «كلي» جزئيات، ويكون الكل شيئا واحداً ولكنه ذو أجزاء، فقد يكون عندنا كرسي واحد. ولكن لهذا الكرسي أجزاء. وهل نقول على الحق سبحانه وتعالى: انه «كل» أو «كلي» ؟ . لا نقول على اسم الحق «كل» أو «كلي» ؛ لأنه اسم لا يطلق على كثيرين فليس كليا لأنه واحدٌ، وليس له أجزاء؛ لأنه أحد، وليس له أفراد لأنه واحد. فلا يقال لله سبحانه وتعالى «كل» أو «جزء» أو «كلي» أو «جزئي» ، فلو كان كُلٍّياً لكان - كما قلنا - له أفراد ولو كان «كُلاًّ» لكان له أجزاء، ولكن الله واحد لا أفراد له، وأحد لا أجزاء له. ولذلك يَرُدُّ القرآن على أي قائل بغير هذا، فيقول: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2869 ويقول أيضاً: {وإلهكم إله وَاحِدٌ} [البقرة: 163] وقد قلت كل ذلك لنفهم قوله الحق: {ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتهوا خَيْراً} [النساء: 171] وقوله الحق: «انتهوا» أي اقضوا على كلمات الباطل، و «خيراً لكم» أي تمسكوا بكلمات الحق، وفي قوله: «انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} تخلية وإبعاد لكلمات الباطل، نأخذ ذلك من قوله: (انتهوا) وتحلية لكلمات الحق ونأخذها من قوله - سبحانه -: {خَيْراً لَّكُمْ} . ويقول الحق: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} أي أنه سبحانه لا أفراد له، ويضيف: {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} ، وساعة نسمع كلمة» سبحانه «فلنفهم أنها تنزيه للذات الخالقة. ولذلك نجد كلمة» سبحانه «تأتي في الأمور العجيبة التي يقف فيها العقل، وعلى الرغم من وجود كفار في هذا الوجود، وعلى الرغم من وجود مجترئين على الله في هذا العالم، وعلى الرغم من وجود من ينعتون البشر بألفاظ الألوهية، إلاأن إنساناً واحداً لم يجترئ على أن يقول لمخلوق كلمة:» سبحانك «، ولذلك نقول لله عَزَّ وَجَلَّ» سبحانك أيضاً في سبحانك «. كذلك لم نجد أحداً من أي ملة أو عقيدة أو دين قد سمى نفسه باسم «الله» ، وهو سبحانه يتحدى به حتى الكفرة والملاحدة أن يسمى هذا الاسم لمسمى أي مسمى. وبالله هل يوجد واحد من المتبجحين الكافرين يسمي ابناً له «الله» ؟ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2870 حتى هذه لم توجد؛ لأن هذا الكافر غير واثق أنه على حق. ومن الجائز أن يفعل ذلك فتحدث له كارثة. ولو كان هناك كافر واحد مؤمن بما يقول بأنه لا إله لهذا الكون لسمّى ابناً له «الله» . لكن أحداً لا يجترئ على هذه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] وكان هذا التحدي موجوداً من قبل أن تنزل هذه الآية. فماذا عن الذي جاء بعدها بزمن؟ وهل اجترأ أحد على أن يسمي ابناً له «الله» ؟ لم يجترئ أحد على هذه أيضاً على الرغم من أنهم يسمون بكل شيء؛ وكان عندنا في القرية واحد أطلق على ابنته اسماً طويلاً عجيباً. لقد سمّاها «ورد انتشي في دندشة روح الفؤاد والملك وفا» وهو حرّ في ذلك، لكن لم يجرؤ أحد على الإطلاق أن يسمي ابنه «الله» ، وهذا دليل على أن الملاحدة والكفار على باطل. ويخاف أي منهم أن يجترئ على هذه المسألة، ويتحدى الحق بسبحانك ويتحدى بالذات «الله» ، ولذلك فليقل كل واحد «سبحانك» وهو مطمئن، «ولا تقال إلا لك» ، واستقرئوا وتتبعوا المدائح التي قيلت للناس جميعاً، أقال واحد من البشر لواحد من البشر «سبحانك» ؟ ما قالها أحد قط. وهكذا يتحكم الله في أمر للإنسان اختيار فيه، ولا يجرؤ إنسان على إطلاق هذه الأسماء على أحد من البشر. {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} و «الولد» كما نعلم يكون مما في السموات أو مما في الأرض؛ فكيف يكون له وملكه، وهو ابنه؟ إن هذا الادعاء لا يستقيم أبداً، ولذلك يذيل الحق الآية: {وكفى بالله وَكِيلاً} . ويقول الحق بعد ذلك: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2871 مصدر الشرف للإنسان أن يحس ويشعر بتجلي الله عليه بعبوديته له، وسبحانه عندما أراد أن يتجلى على نبينا الخاتم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويسري به إلى المسجد الأقصى؛ قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] ولم يقل: «سبحان الذي أسرى برسوله» ولكنه قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} ؛ لأن «العبودية» عطاء علوي من الله، فكأن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما تناهى في العبودية لله نال تناهي الخير، فمن إذن يستنكف أن يكون عبداً لله؟ لا يستنكف المسيح ذلك، وكذلك الملائكة لا تستنكف أن تكون عبيداً لله. {وَلاَ الملائكة المقربون} ويسمون ذلك ارتقاء في النفي، مثلما يقول فلاح: لا يستطيع شيخ الخفر أن يقف أمامي ولا العمدة. إذن فالملائكة في الخلق أحسن من البشر. ولذلك قال الحق: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون} وقال بعض العلماء: إن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر والأصل في اللغات أن توضع الألفاظ أولأً لمحسّات، ثم تنتقل من المحسّات إلى المعنويات؛ لأن إلف الإنسان في أول تكوين المدركات له إنما يكون بالحسّ، كما قال الحق: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] إذن مادام سبحانه قد قال: {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} فالذي يأتي من بعدها إنما يأتي كوسيلة للعلم، وهي حواس السمع والإبصار والقدرة على تكوين الخبرة. ومثال ذلك عندما ندرس في الفقه موضوع الغصب. والغصب هو أن يأخذ أحد حق غيره قهراً وعلانية، وهو غير السرقة التي يأخذها السارق خفية. وغير الخطف؛ لأن الخطف هو أن تمتد يد لتشد شيئاً من أمام صاحبه ويجري الخاطف بعيداً، أما الغصب فهو الأخذ عنوة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2872 وكلها - الغصب، والسرقة، والخطف - هي أخذ لغير الحق، والغصب مأخوذ من امر حسيّ هو سلخ الجلد عن الشاة. وسُمِّيَ أخذ الحق من صاحبه غصباً، كأنه أخذ للجلد. ونُقل المعنى من المُحسّات إلى المعنويات. وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون} . و «يستنكف» مثلها مثل «يستفهم» ، ومثل «يستخرج» . إذن فهناك مادة اسمها «نكف» ، و «النَّكْف» عملية حسّية تتمثل في أن يزيل الإنسان دمعة العين بأصبعه. ولنفرض أن إنساناً يعلم أن له كرامة في البيت وجاء له ظرف نفسي جعله يبكي، فدخل عليه ابنه أو زوجته، فهو يحاول إزالة الدمع بأصبعه. «واستنكف» معناها أزال «النَّكْف» . والنكف معناه أن يزيل الدمع بأصبعه. وإزالة الدمع بالأصبع تعني أن صاحب الدمع يستكبر أن يراه أحد باكياً لأنه مقهور على أمر قد كان، وهذه العملية لا تحدث إلا عندما يريد الإنسان أن يستر بكاءه عن أحد. وانتقلت هذه الكلمة من المعنى الحسيّ إلى أي مجال فيه استعلاء، مثلما يستنكف إنسان أن يسير في طريق إنسان آخر، أو أن يجلس مع آخر، أو يجلس في مقعد أقل من مقعد آخر. ويشرح ذلك المعنى الدارج بأن المسيح لا يجد غضاضة أن كان عبداً لله، ولا يستكبر على ذلك بل هو يُشرف به. والملائكة المقربون أيضاً تشرف بهذا الأمر، والملائكة المقربون هم الذين لا يعلمون شيئاً عن هذا العالم وليس لهم عمل إلا التسبيح لله؛ لأنهم عرفوا العبودية لله. وهي عبودية ليست لمن يَسْتَذِل، لكنها لمن يُعزّ، وليست عبودية للذي يأخذ ولكنها للذي يعطي. والذي يستنكف من ذلك لا يعرف قيمة العبودية لله؛ لذلك لا يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا الملائكة المقربون. ويضيف الحق: {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} المستنكفون؛ أو الذين على طريقة الاستنكاف، ومن يشجعهم على ذلك، كل هؤلاء يصيرون إلى جهنم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2873 ويقول الحق بعد ذلك: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2874 لماذا لم يأت الله بشرط الآية الثاني الذي يتحدث عن المستنكفين والمستكبرين مقدماً على شطر الآية الأول؟ . ولماذا لم يواصل الحديث عن الذين استنكفوا واستكبروا ليستكمل ما جاء بشأنهم في الآية السابقة ويبينْ كيف أن مصيرهم إلى العذاب حيث لا يجدون من دون الله ولياً ولا نصيراً، ثم بعد ذلك يحدثنا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟ . ذلك أن الحق ساعة يتكلم عن جماعة خرجت عن المنهج فهو لا يمنحهم ثواب هؤلاء الذين لم يخرجوا عن المنهج، فيأتي أوّلاً بثواب الطائعين ليستشرف إليه الخارجون عن طاعة الله، ثم يحرمهم من هذا الثواب لتكون حسرة الخارجين عن المنهج أشد. «والضد يظهر حسنه الضد» . لقد قال الحق: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} ونعلك أن الأجر على العمل. لماذا الفضل إذن؟ . لقد عرفنا من قبل أن العمل جاء فيه حديث شريف: «لن يُدخل أحداً عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2874 فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب» والحق قد قال: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] وفطن الناس إلى ذلك فقالوا: «اللهم بالفضل لا بالعدل» ؛ لأن الفضل هو الذي يعطينا المنازل المتميزة، وقد يضيعنا العدل. ويقول الحق مرة أخرى عن هؤلاء الذين استنكفوا واستكبروا: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي أنهم لن يجدوا من يشفع لهم عند الله، ولا من ينصرهم ولا أحد بقادر أن يرد عنهم العذاب. وبعد ذلك يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الناس ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2875 والبرهان هو الإعجاز الدال على صدق المبلغ الأخير عن الله، وهو الحجة الدامغة. وقد يقول قائل: ما هو البرهان وما هو النور؟ . ونعلم أن كل رسول يأتي بمعجزة تثبت صدق بلاغه عن ربه قد تكون المعجزة بعيدة عن المنهج، ثم يعطيهم الرسول المنهج ببلاغ من الله؛ مثال ذلك أن معجزة سيدنا موسى كانت العصا لكن منهجه هو التوراة. إذن فالمعجزة هي البرهان على صدق الرسول فيما بلغ عن ربه، وقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2875 لا يكون للمعجزة صلة بالمنهج، فعيسى عليه السلام كانت معجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ومنهجه الإنجيل. اما رسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو النبي الخاتم فقد تجلت معجزته في أنها عين منهجه، إنّها القرآن ولم تنفصل المعجزة عن المنهج؛ لأنه رسول عام إلى الناس كافة وإلى أن تقوم الساعة. هذا هو البرهان. أما «النور» فقد جاء أيضاً من أمر حسيّ؛ لأن النور يمنع الإنسان من أن يتعثر في مشيته أو أن يخطئ الطرق أو أن يصطدم بالأشياء فيؤذيها أو تؤذيه. إذن النور الموجود في القرآن هو حقائق القيم، أما نور الله في الماديات فهو أمر معروف للكافة. ومن بعد ذلك يقول الحق: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2876 لقد آمنوا بالله واعتصموا به، ما معنى الاعتصام؟ . قديماً كان الرجل عندما يقع في هوة يصرخ ليحذبه إنسان خارج الهوة بيده، وهذا هو الأصل في الاعتصام، أي يستمسك الإنسان بمن ينقذه من هاوية أو كارثة، والحق يعطي الأسباب، فإذا جاءت الشمس وسار فيها إنسان فقد أعطاه الله الشجرة ليستظل بها. وإذا ما نزل المطر فيمكن أن نستتر منه بمظلة، وإذا عطش إنسان فالله يعطيه سبباً ليأخذ كوب ماء، والعاقل هو الذي يذكر عند كل سبب من أوجد السبب. فإياك أيها المؤمن أن تغتر بالأسباب؛ لأن عدم الاغترار بالأسباب يحمي الإنسان. فعندما تأتيه أمور في ظاهرها شر، فمادام مجريها هو الله فهي خير بالتأكيد، لكنك لا تعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2876 وما أضل علم الإنسان في كثير من المسائل؛ فالإنسان قد يحسب أمرا أنّه هو الحسن، فيظهر له بعد حين أنه السوء، وقد يعتبر إنسان أمرا هو السيئ، فيظهر له بعد حين أنه الحسن، ولا يوجد واحد منا إلا وفي حياته أشياء كان يظنها خيرا؛ فإذا بها شر، أو كان يظنها شراً فإذا بها خير. والشر هو ما يأتيه الإنسان لنفسه بعمله، أما الأمور التي تقع على الإنسان فحكمتها تمشي على مقتضى علم الله لا على مقتضى هوى البشر. إننا نجد من يقول: إنني أدعو الله بكذا ولا يستجيب لي. ونقول: أنك تدعو بأشياء تظنها الخير لك؛ لكن الله يعلم أن هذه الأشياء ليست هي الخير؛ لذلك لا يعطيها لك، فإن كنت مؤمناً بالله ومعتصماً به فأنت تهمس لنفسك: أَلِيَ في هذا الأمر مدخل أم لا مدخل لي فيه؟ . فإذا كان لك فيه مدخل فاللوم على نفسك. وإن كان الأمر قد أجراه عليك فهو خير لك ولله حكمة في ذلك. وحَظِّي من الدنيا سواء لأنني ... رضيت بحكم الله في العسر واليسر فإن أقبلت كان الجزاء على النجا ... وإن أدبرت كان الجزاء على الصبر {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} . وماداموا قد آمنوا بالله واعتصموا بالله واعتصموا به فسيهديهم صراطه المستقيم، وعاقبة الهداية وثمرتها فسرها وبيّنها قوله الحق: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] وقال لنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من عمل بما عَلِم ورّثه الله عِلْمَ ما لم يعلم» أي يصير مأموناً على العلم؛ لأن العلم الذي أخذه عن الله وظَّفه في خدمة غيره، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2877 ولم يدخره أو يعطله. ويختتم الحق سبحانه وتعالى سورة النساء بقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2878 والاستفتاء هو طلب الفتيا. ومعناها إرادة معرفة حكم شرعي لله في أمر لا يجد السائل علماً له فيه. وكان الصحابة يستفتون رسول الله، مع أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» وجاء القرآن في كثير من الآيات ب «يسألونك» . كأن الحق يعلمنا أن الصحابة أرادوا أن يثبتوا أنهم أحبوا منهج الله فأرادوا أن يبنوا حياتهم كلها على منهج الله، ولو كانوا قد كرهوا منهج الله لما سألوا، لقد وجدوا أن الإسلام قد جاء، ووجد أشياء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2878 الجاهلية وأقرها، ووجد أشياء قام بتغييرها؛ ولم يرد الصحابة أن يصنعوا الأشياء على أنّها امتداد لصنع الجاهلية، بل أرادوا أن يصنعوها على أنها حكم للإسلام؛ لذلك جاءت أسئلتهم الكثيرة. والفتوى تكون في حكم. والسؤال يكون في حكم وفي غير حكم. وهم يطلبون الفتوى في الكلالة، ودقة القرآن في إيجاز السؤال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} وقد تقدم من قبل الحديث عن الكلالة: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً} [النساء: 12] إلا أن الذي تقدم هناك كان عن الصلة من ناحية الأم، وسؤال جابر بن عبد الله كان عن الصلة من ناحية الأب. فعن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: (مرضت مرضا فأتاني النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبو بكر وهما ماشيان فوجداني أغمي عليّ، فتوضا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم صبّ وَضوءه عليّ فأفقت فإذا النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث «. وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض. وبعض العلماء قال: إن كلمة» كلالة «مأخوذة من كلال التعب؛ لأن الكلالة في الشرع هو من ليس له ولد ولا والد، والإنسان بين حياتين؛ حياة يعولها والد، وعندما يكبر ويضعف تصير حياته يعولها ولد؛ لذلك فالذي ليس له والد ولا ولد يعيش مرهقاً؛ فليس له والد سبق بالرعاية، وليس له ولد يحمله في الكبر؛ لذا سمي بالكلالة. وبعضهم قال: إنها من الإكليل؛ أي التاج. وهو محيط بالرأس من جوانبه والمقصود به الأقارب المحيطون بالإنسان وليس لهم به صلة أعلى أي من الآباء، أو من أدنى أي من الأبناء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2879 {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ} أي أن الكلالة هي أن يموت أحد وله أخت شقيقة أو أخت من أب فهي ترث النصف؛ وإذا ماتت هذه الأخت فالأخ يرثها سواء أكان شقيقاً أم أخاً لأب. وإن ترك الرجل الكلال أختين أو أكثر فلهما الثلثان مما ترك ذلك الأخ. وإن كان له إخوة من رجال ونساء، فها هوذا قول الحق: {وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} . أي أن للذكر من الأخوة مثل حظ الأنثيين. ويختم الحق الآية: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . أي أنه الحق يبين أحكامه خشية أن يصيب القوم الضلال. وقد علم سبحانه أزلاً بكل سلوك، وكل خافية، وهو العليم أبداً بما ينفع الناس جميعاً. وبذلك انتهينا بعون الله من خواطرنا في سورة النساء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2880 البداية - إذن - عن ضرورة الوفاء بالعقود وتحليل تناول بهيمة الأنعام كطعام. وسورة المائدة - كما نعلم - جاءت في الترتيب المصحفي بعد سورة النساء التي تتضمن الكثير من العقود الإيمانية؛ فقد تضمنت سورة النساء عقود الإنكاح والصداق والوصية والدَّين والميراث، وكلها أحكام لعقود، فكأن الحق سبحانه وتعالى من بعد سورة النساء يقول لنا: لقد عرفتم ما في سورة النساء من عقود، فحافظوا عليها وأوفوا بها. ونلحظ أن سورة البقرة جاءت بعدها سورة آل عمران، وفي كلتيهما حديث عن الماديين من اليهود، وسورة النساء والمائدة تواجه أيضاً المجتمع المدني بالمدينة بعد أن كان القرآن بمكة يواجه مسألة تربية وغرس العقيدة الإلهية الواحدة والنبوات. وقد خدمت سورة البقرة وسورة آل عمران مسألة العقيدة المنهجية والأنبياء، وسورة النساء تتضمن حسم العقيدة الحكمية. وها نحن أولاء أمام سورة المائدة التي يقول فيها الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2887 بالعقود} والحق يخاطب المؤمنين بالاسم الموصول، ولم يقل: يا أيها المؤمنون «، وهذا يدل على أن الإيمان ليس أمراً عابراً يمر بالإنسان فترة من الزمن؛ ولكن الإيمان يتجدد بتجدد الفعل حتى ينفذ المؤمن الأحكام التي جاء بها العقد الإيماني. وحين يتوجه الحق بخطابه للذين آمنوا، إنما يؤكد لنا أنه لا يقتحم على أحد حياته ليكلفه، وإن كان سبحانه كرب للعالمين قد خلق الخلق وأوجد الوجود وسخّره للخلق. الله - سبحانه وتعالى - لم يستخدم هذا الحق ليأمر البشر بالإيمان، بل دعا الناس جميعاً أولاً إلى الإيمان، فمن آمن ينزل إليه التشريف بالتكليف ويكون القول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} أي يا من آمنتم بالله إلهاً. والإله لابد له من صفات تناسب الألوهية، كطلاقة القدرة والجاه والحكمة والقهر. وسبحانه لا يكلف مَن لم يؤمن به، بل يدعو من لم يؤمن إلى الإيمان، ولذلك نجد أن كل آيات الأحكام تبدأ بالقول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ} ؛ لأن لكل إيمان تبعة. {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} ونعرف أن اللغة بها أسرة ألفاظ؛ ف» أوفوا «على سبيل المثال فيها» وفى «. والمصارع هو» يفي «، وفي أفعالها» أوفى «و» وَفَّى «، حسب المراحل المختلفة قوة وضعفاً وكثرة وقلة، مثال ذلك قوله الحق: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37] وقد قام سيدنا إبراهيم عليه السلام بالكثير من الإنجاز: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] ولا بد أن يكون قوله الحق: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} شرحاً لما قام به إبراهيم من مواجهة الابتلاء، فالتوفية هي الإتمام. والحق يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} أي عليكم يا من آمنتم بالله أن تتموا العقود. والتمام إما أن ينطلق إلى الأفراد ويشملها فلا ينقص فرد، وإما أن يلتفت إلى الكيفيات فلا تختل كيفية، هذا هو التمام. وقد يأتي إنسان بكل فصول الكتاب ويقرأها، فيكون قد وفى قراءة كل الأجزاء، ولكن الحق يريد أن يتقن الإنسان تنفيذ كل جزئية في كتاب التكليف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2888 وسبحانه طلب منا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن نقيم الصلاة وأن نؤتي الزكاة وأن نصوم رمضان وأن نحج البيت إن استطعنا إلى ذلك سبيلا، وقد يؤدي شخص كل هذه الأعمال وبذلك يكون قد قام بآداء التكليف، لكن هناك إنسان آخر يؤدي كل جزئية بتمامها فلا يختصر شيئاً منها بل إنّه يوفيها بلا تدليس. والحق هنا يخاطب المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} أي أننا أمام «إيمان» و «عقد» . وشرحنا معنى الإيمان، أما العقد فهو العلاقة الموثقة بين طرفين، وعلى كل طرف أن يلتزم بما عليه وأن يأخذ ما له. وسمي العقد عقداً؛ لأن العقد هو الربط، أي شيء لا ينحل من بعد ذلك. ولذلك نسمي ما يستقر في مواجيد الناس ونفوسهم «عقيدة» . لأنها الأمر المعقود، وليس الأمر الطارئ الذي يأتي اليوم وينتهي غداً. والشيء المعقود في نظر الفقه هو الأمر الذي لا يطفو إلى العقل ليُبحث من جديد، بل إنه مستقر وثابت في القلب. ويأمر سبحانه بالوفاء بالعقود. والعقود - كما نعلم - هي جمع ل «عقد» وبالإسلام عقود كثيرة، تبدأ بالعقد الأول وهو عقد الذر: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] ويريد سبحانه الوفاء بهذا العهد الأول فلا يأتي الإنسان ساعة التطبيق ويفر منها، ثم نأتي إلى عهد الاستخلاف في الأرض وبه استخلف فيها آدم وذريته من بعده، وإياك أن تظن أنك الأصيل في الكون حين تدوم لك الأسباب وتدين لك بعض الوقت. لا تظن أن الأشياء قد دانت لك بمهارتك أنت فقط، وحين تبذر البذور في الأرض وتروي الأرض فاعلم أن الزرع ينبت بتسخير الله أَرْضَه لك. وإياك من الظن لحظة تركب المهر أنك الخيال الفارس الذي روّض المهر، لا، إنه تسخير الحق للفرس. ونجد الفرس في بعض الأحايين يجمح ليقع الفارس من فوق ظهره، لعلنا ننتبه إلى الجزئية التي لا يصح أن تغيب عنا، فلو لم يذلل الله الخيل لنا لما استطعنا أن نركبها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2889 {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71 - 72] وعلى المؤمن أن يتذكر أيضاً أن الحق سبحانه ذلل الجمل لصاحبه، وجعل الطفل الصغير يأمر الجمل فيرقد على الأرض؛ ليضع عليه الأحمال الثقيلة، ويأمره فيقوم. أما إن واجه الثعبان أو الحية فهو لا يجرؤ على تذليلهما، وهذا لفت من الحق للخلق لقدرته المطلقة؛ فقد ذلل لهم الكبير، وأفزعهم أضعاف ذلك من الثعبان ذي الجسم الصغير. {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72] ومن التذليل يأتي رضوخ بقية الكائنات للإنسان؛ فالحمار عند الفلاح يحمل السماد للأرض من بقايا فضلات الإنسان والحيوان، ولا ينطق الحمار معترضاً، ويأتي الفلاح ليرتقي في حياته ويصير شيخاً للخفر، فيأمر أن يستحم الحمار، ويشتري له السرج ليركبه وهو ذاهب للقاء المأمور في المركز، ولم يعص الحمار في الحالتين. إنه التذليل. إياك أن تظن أن مهارتك وحدها أيها الإنسان هي التي ذللت لك الكائنات، فلو اعتمد الأمر على المهارة وحدها، لذلل الإنسان البرغوث الصغير الذي يهاجمه في أي وقت، وقد يفزعك ذلك البرغوث الصغير طوال الليل. وقد تسهر أسرة بأكملها من أجل قتل برغوث واحد. {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} [الحج: 73] ولذلك أمرنا الحق أن نقول قبل البدء في أي عمل «بسم الله الرحمن الرحيم» . وإياك أن تقبل على العمل بقوتك وحدها. فالعمل إنما ينفعل لك لأنه سبحانه قد أخضعه لك. وأنت تبدأ العمل باسم الله لأنه سبحانه الذي استخلفك وأخضع لك الكائنات المذللة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2890 ثم هناك ذلك العهد الذي قال فيه الحق لآدم: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] والعهد الذي قال فيه الحق: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] وهذا عهد لكل البشر، والمسلمون عاهدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في العقبة بأن ينصروه ويمنعوا عنه ما يمنعون عن أنفسهم. وعاهدوا الرسول في الحديبية. إن الحق سبحانه يأمر بالوفاء بكل العقود، وكل ما نتج عن قمة العقائد وهو الإيمان بالله؛ فما جاء من الله الذي آمنت به يُعتبر عقداً أنت شريك فيه، لأن العقد يكون دائماً بين طرفين، ولم يرغم الله أحداً على الإيمان به، ولكن الإنسان يؤمن بالله اختياراً. ومادام المؤمن قد آمن بالله من طوع اختياره، فلا بد أن يتبع منهجه. ومن آمن هو الذي يذهب إلى الحق قائلاً: يارب إن ما تأمر به سأفعله. وهذا اعتراف بالعقد. وكتابة أي عقد إيماني هو تنفيذ لهذا العقد والتوقيع مع الله، وبذلك يشترك العبد مع الله في هذا التعاقد؛ لأن إيمان العبد بالله يجعله طرفاً في العقد. والإله يشرع له، وينفذ العبد التشريع ليلتقي الجزاء الأوفى. العقد إذن قد يكون بين العبد وربِّه، أو بين العبد وخلق الله المساوين له، أو بين العبد ونفسه، لكنهم أطلقوا على العقد الذي بين الإنسان ونفسه اسماً هو «العهد» وهو النذر، كأن ينذر العبد الصيام أو الصلاة، ويجب على العبد تنفيذ ما نذر به مادام عاهد الله على ذلك. والعقد الذي بين العبد وغيره من البشر وكذلك العقد بينه وبين نفسه إنما ينبعان من العقد الأساسي وهو العقد الأول. . إنّه الإيمان بالله. إذن فقول الحق: {أَوْفُواْ بالعقود} أي نفذوا ما أمر الله به حلالاً، وامتنعوا عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2891 الشيء الذي جعله الحق حراماً. ولا داعي - إذن - للاختلاف في معنى «العقود» والتساؤل: هل هي العقود التي بين العبد وربه، أو بين العبد والناس، أو بين العبد ونفسه، فكل ما نبع من العقد القمة هو عقد على المؤمن وإلزام عليه أن يوفي به. {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} سبحانه يستهل السورة بالوفاء بالعقود، ثم إعلان تحليل بهيمة الأنعام. ونعرف أن الإنسان قد طرأ على الكون، وأنه سبحانه قد خلق الكون أولاً. ثم خلق الإنسان فيه، وهذا من رحمة الله بالإنسان فلم يخلق الإنسان أولاً، بل خلق له الشمس وأعد الكون قبل أن يخلق الإنسان، وحين طرأ الإنسان على الكون وجد فيه قوام الحياة من الجماد ومن النبات ومن الحيوان. وقمة المسخرات للإنسان هي الحيوان؛ لأن الجماد والنبات يخدمان الحيوان، ويشترك الحيوان مع الإنسان في أنّ له حياة ودماء وجوارح. وجاء الحق عنا بالإعلان عن أعلى المنزلة في خدمة الإنسان وهو بهيمة الأنعام {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} ويأمرنا بأن نوفي بالعقود، وله سبحانه وتعالى كل الحق فقد قدم لنا الثمن بخلق الكون مسخراً لنا وقمة المخلوقات المسخرة هي الأنعام. كأن {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} حيثية مقدمة من الحق. ونلحظ أنه جاء هنا بصيغة المبنى للمجهول في «أحلت» ؛ لأن الإيمان جعلنا طرفاً في أن تكون بهيمة الأنعام حِلاً لنا. ووقف العلماء عند «بهيمة الأنعام» . وفي اللغة العربية نجد صيغة «فعيل» التي تأتي بمعنى «فاعل» وتأتي بمعنى «مفعول» ، مثلما نقول «الله رحيم» أي أنه راحم؛ هو «فاعل» ، ونقول «فلان قتيل» أي مقتول أي مفعول به. و «بهيمة الأنعام» هنا تأتي بأي معنى، أهي بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول؟ ، و «بهيمة» إن نظرنا إلى أنّها مبهمة؛ لأن أمورها مجهولة يصعب إدراكها علينا ولا نعرف حركتها أو إشارتها أو لغاتها التي تتفاهم بها فتكون فعيلة بمعنى مفعولة. وتصلح أن تكون فعيلة بمعنى فاعل؛ لأنها لا تفهم، ونحن المبهمون عليها. ونقول: هي محكومة بالتسخير. ولم يصنف الإنسان طعامها وهو العلف إلا بعد أن رآها وهي سائبة حرة تتجه إلى العلف لتأكله، إذن فهي التي علمت الإنسان صنف علومها. فلا يقولن إنسان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2892 إنها بهيمة لا تفهم، وليعرف أنها لم تخلق لتفهم مسائل الإنسان، لأنها مسخرة له وقد يتعلم هو منها. ودليلنا أن الله امتن على بعض المصطفين من خلقه بأن علمهم منطق الطير، فقد حزّ في نفس الهدهد أن رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وهو الطائر فقد فهم أن السجود لا يكون إلاّ لله الواحد القهار لا للشمس، وهكذا نرى الإنسان يتعلم الكثير من أخلاق الحيوانات وعاداتها؛ ولذلك نجد هواة تربية الحيوانات يتعرفون على طعام هذه الحيوانات بعد أن يتتبعوها ويعرفوا ماذا تأكل، وعن أي شي تبتعد، والفلاح يقدم البرسيم للجاموس ولا يقدم له النعناع؛ لأنه رأى الجاموس وهو حرّ لا يأكل النعناع بل يأكل البرسيم، وقال الحق على لسان النمل: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18] نحن إذن الذين لا نفهم لغة النمل، ونجد البهيمة محكومة بالغريزة، لكن الإنسان يملك العقل، لكنه يغطي عقله بالهوى. وقول الله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} دليل على أن الذي أحلها، جعل التحليل لها في التسخير بدليل أن الحبل إن التف حول رقبة جاموسة أو رقبة خروف وقبل أن يختنق نجد الحيوان يمد رقبته، فيقول الناس: لقد طلب الحلال، فنادوا الجزار. وكأنه - وهو الحيوان - يطلب الذبح لينتفع الناس به، وكأنه يحس بالخسارة إن ضاع لحمه بلا فائدة، وهذا دليل على أنه مذلل، أما الحيوان غير المحلل فمن العجيب أنه لو حدث معه ذلك لما مد رقبته. والأنعام هي المذكورة في قوله الحق: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} [الأنعام: 143] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2893 وكذلك قول الرحمن: {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 144] إنها ثمانية أزواج؛ ثم ألحق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الظباء وحمر الوحش، ولم يحرم إلا كل ذي ذنب كالسباع وكل ذي مخلب من الطير، ولو لم يقيد الله هذا التحليل لانصرف بدون قيد، ولأسأنا إلى أنفسنا بأكل الميتة والموقوذة والمتردية، ولكن الحق أنقذنا من ذلك وحرم علينا تلك الأشياء الضارة. {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} إذن فمن حق الله عليكم أيها المؤمنون أن توفوا بالعقود؛ لأنه قدم لكم الكون بكل أجناسه وكل عناصره لخدمتكم. وأحلّ أقرب الأجناس إلى الإنسان لما فيه من حياة وحس وحركة، فيقول: {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} ولو لم يضع الحق ذلك التشريع لأكَل الإنسان - وهو مُحْرِمٌ - بهيمة الأنعام، وقد حرم سبحانه الصيد في اثناء الإحرام، وكذلك في حمى الحرم. والحَرَم - كما نعلم - مركزه الكعبة، وحول الكعبة المسجد. وتختلف مناطق الإحرام وتسمى الميقات المكاني، فالميقات المكاني للحج والعمرة لمن كان خارج الحرم (ذو الحليفة) وذلك للمتوجه من المدينة وهي (آبار علي) ، والجحفة وهي الآن (رابغ) للمتوجه من مصر والشام المغرب، و (يَلَمْلَم) للمتوجه من تهامة، و (قَرْن المنازل) للمتوجه من نجد اليمن ونجد الحجاز، و (ذات عرق) للمتوجه من المشرق والعراق وغيره. أما الميقات المكاني للحج لمن بمكة فهو مكة نفسها، أما ميقات العمرة المكاني لمن بالحرم فهو الخروج لأدنى الحل وهي الجعرانة ثم التنعيم (مسجد عائشة) ثم الحديبية. والميقات الزماني للحج شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، أما ميقات العمرة الزماني فهو جميع السنة إلاّ إذا كان محرما بحج أو بعمرة أخرى أو كان ذلك قبل النفر لانشغاله بالرمي والمبيت فيمتنع الإحرام بها. والتنعيم والجعرانة والحديبية، تلك هي حدود الحرم. والصيد في حدود الحرم حرم، وفي كل زمان وعلى كل إنسان، أما في غير الحرم، فالصيد حرام لمن كان محرماً فقط، وغير المحرم من حقه الصيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2894 وبذلك يؤدب الحق سبحانه وتعالى خلقه ويجعلهم على ذكر دائم للمنهج فيأتي لهم في مكان ويقول لهم: الصيد محرم في هذا المكان، والطعام والشراب محرم في هذا الزمان؛ كصوم رمضان. وعدة الشهور عندنا كمسلمين اثنا عشر شهرا. أربعة منها حُرُم. ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. وفي الميقات يحرم الصيد على الحاج فقط، وهذا انضباط إيماني. وعندما يأتي الإنسان إلى الميقات فهو يحرم، أي يغير وضعه ويلبس لباساً خاصا بالحج، يلبسه كل الناس ليكون الكل سواسية؛ لأن الناس إنما يميزون بهندامهم وهيئاتهم، فيأمر سبحانه أن يطرح الإنسان هذا التمايز من فور الإحرام. وما كان من الحلال أن يفعله المسلم قبل الميقات وقد منعه الإسلام منه لا يجرؤ على أن يفعله بعد الميقات والإحرام. ويستطيع المسلم قبل الميقات أن يحلق ويتطيب ويصطاد ويقطع من النبات؛ لكنه ما إن يبدأ الإحرام يمتنع عن ذلك حتى يستعد لما يشحن أعماقه بالوجود مع المنعم لا مع النعمة، هذا هو التهيؤ للدخول إلى بيت المنعم، ولذلك يضع المسلم النعمة على جانب ليبقى مع المنعم. ويمنع الإنسان أن يصيد في الحرم محرماً كان أو غير محرم ليشعر الكل أن الحرم لله فقط. وتستعد كل النفوس للقاء المهابة. ويمتنع الإنسان من أول الميقات عن أشياء كثيرة بداية من الصيد والاستمتاع بالحقوق الزوجية؛ ثم يدخل منطقة يحرم فيها الصيد على كل الناس كرمز للمهابة. ويحج المسلم في حياته مرة واحدة كأداء الفريضة؛ وفي كل مرة تحج وتقصد بيت ربّك يوضح الله لك فيها: لا تنشغل بالنعم لأنك ذاهب إلى المنعم، ويمحو سبحانه بالحج كل الذنوب. {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فإن أردناها محرمين فهي صحيحة، وإن أردناها للحرم فهي صحيحة؛ لأن الصيد محرم في منطقة الحرم للحاج أو لغيره. ويذيل الحق الآية: {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} وسبحانه بدأ الاية بقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} هكذا نرى أن التذييل منطقي يتفق فيه آخر الآية مع صدرها؛ لأن الله حين يخاطب المؤمنين الذين آمنوا به، فمن لوازم الإيمان أن ينفذوا حكم الله الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2895 آمنوا به ومادام المؤمن قد آمن بالله إلهاً فليتجه إلى ما يريده الله من أحكام ليفعلها لكن عمومية الآية قد تجعل واحداً يعزل الآية عن صدرها، رغبة في التشكيك في الإسلام، فيقول: إن الله يقول إنه يحكم ما يريد، وقد أراد من الناس من يؤمن ومن لا يؤمن، فكيف يقول: {يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} ، بينما لا يؤمن الكل؟ . ونقول: لا تعزل الآية عن صدرها؛ لأن الله إنما يخاطب في هذه الآية من آمن به رباً، ومن آمن بالإله يعمد ويقصد ويتجه إلى ما يريده الله من حكم ليطبقه. ولا يعتقدَنَّ أحد أنّ الكافرين خارجون عن إرادته سبحانه في قوله: {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} فالذي تمرد على حكم الله يقتضيه المنطق أن يظل متمرداً على حكم الإله. لكن المتمرد على حكم الله التكليفي الشرعي لا يجرؤ ولا يملك أن يكون منطقياً مع نفسه، فإن حكم الله عليه بالضعف. فليقل للضعف: لا، أنا لن أضعف وأنا قوي. لا أحد يملك من مثل هذا الأمر شيئاً. المتمرد يأخذه ملك الموت وهو غير مريض، فماذا إذن يصنع تمرد المتمرد إزاء الموت؟ إذن هناك أمور يخضع فيها الإنسان - كل إنسان - لحكم الله. وخضوع الإنسان لحكم الله في بعض الأمور أقوى من خضوع المؤمن لها؛ لأن المؤمن حين آمن بالله يستقبل الموت - على سبيل المثال - كحكم من الله، أما المتمرد الذي لا يصلي ولا يؤدي أي أمر تكليفي، ويتعرض للأغيار بما فيها الموت، فهو يعاني من كل ذلك مشقَّة وَحِدّة تفوق حدة استقبال المؤمن للأغيار أو الموت. إذن فقوله الحق: {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} هو قضية عامة؛ لأن الذي تمرد على حكمه سبحانه فيما له فيه اختيار، كان من الواجب أن يكون منطقياً مع نفسه، فيتمرد على حكم يجريه الله عليه، وذلك بعكس كثير من الاحكام الوضعية فإنها لا تقوى على هذا التمرد، ويكون هنا حكم الله أقوى؛ لأن المتمرد لن يجرؤ على الرد على أمر الله. فلا يظنن ظان أن الله جعل للاختيار في العبد طلاقة، لكنه جعل للاختيار في العبد تقييداً، وللقدرة القادرة طلاقة، فإن تمرد متمرد على الإيمان؛ فلن يجرؤ على التمرد في أشياء أخرى. إذن فالله يحكم ما يريد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2896 ومن بعد ذلك يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2897 بداية هذه الآية تقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} وهي تأتي بعد آية اَحَلّت أشياءَ، كأن الحق يقول للعبد: مادمت قد أعطيت فأنا أمنع عنك؛ أعطيتك أشياء وأمنعك أشياء. وسبحانه حين يخطر على الإنسان شيئاً ويمنعه منه؛ فهو يعطي هذا الشيء لأخ مؤمن، ومادام الأمر كذلك فلا يستطيع ولا يصح أن تنظر إلى الشيء المسلوب منك فقط بل انظر إلى المسلوب من غيرك بالنسبة لك. وعلى سبيل المثال حين يأمرك الحق: «لا تسرق» ، فأنت شخص واحد، ويقيد سبحانه حريتك بهذا الأمر، وقيد في الوقت نفسه حرية كل الناس بالنسبة إليك. وعندما تقارن الأمر بالنسبة لنفسك تجد أنك المستفيد أساساً؛ لأن كل الناس ستطبق حكم الله بألا يسرقوا منك شيئاً، وفي هذا خدمة لكل عبد. وهب أن واحداً سرق، إنه لن يستطيع أن يسرق من كل الناس. ولو سرق ألف من الناس شخصاً واحداً فما الذي يبقى له؟! وحين يأمر الحق العبد ألا ينظر إلى محارم غيره، فظاهر الأمر أنّه تقييد لحركة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2897 العبد، لكن الواقع أنه سبحانه قيد حركة الناس كلها من أجل هذا العبد، وأمرهم ألا ينظروا إلى محارم غيرهم. إذن ساعة ترى أيها المسلم نهياً أمر به الله، فلا تصب النهي عليك. ولكن صب النهي أيضا على كل الناس بالنسبة لك. وساعة يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} أي لا تجعلوا شعائر الله حلالاً. والشعائر هي معالم الدين كلها. ونقول «هذه الدولة شعارها النسر» معنى ذلك أننا إذا رأينا الشعار نعرف البلد. وكذلك أعلام الدول، فهذا علم لمصر، وذاك علم لانجلترا، وثالث علم لفرنسا، وكل محافظة في مصر - على سبيل المثال - تضع لنفسها شعاراً وعلماً، إذن فالشعار هو المَعْلَم الذي يدل على الشيء. وشعائر الله هي معالم دين الله المتركزة في «افعل» و «لا تفعل» زماناً ومكاناً، عقائد وأحكاماً. لكن الشعائر غلبت على ما نسميه مناسك الحج، وأول عملية في مناسك الحج هي الإحرام، أي لا نهمل الإحرام. ومن شعائر الحج الطواف، فلا تحل شعائر الله، ووجب عليك أن تطوف حول البيت، وكذلك السعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، ورمي الجمار، كل هذه شعائر الله التي أمر ألا يحلها المؤمنون، أي أمر - سبحانه - ألا يتهاونوا فيها؛ لأن هذه الشعائر هي الضابط الإيماني. وأن ننظر إلى أن أمر الله لكل حاج أو معتمر بالإحرام هو أمر بالعزلة لبعض الوقت عن النعمة؛ لأن الإنسان يذهب للحج في رحلة إلى المنعم. وأن الإنسان يغير ملابسه بملابس موحدة ولا يتفاضل فيها أحد على أحد؛ لأن الناس في الحياة اليومية تتفاضل بهندامهم، وتدل الملابس على مواقعهم الاجتماعية. وعندما يخلعون جميعاً ملابسهم ويرتدون لباساً جديداً موحداً، تكون السمة المميزة هي إعلان الولاء لله. وكذلك عندما يأتي الأمر بألا يقص الإنسان شعرة منه سواء أكان عظيماً في مجتمعه أم فقيراً ويتراءى الناس جميعاً وينظر بعضهم إلى بعض فيجدون أنهم على سواء على الرغم من اختلاف منازلهم وأقدارهم وتكون ذلة الكبير مساوية لذلة الصغير. وذلك انضباط إيماني لا بين الإنسان والمساوي له، ولكنه الانضباط مع الكون كله، بكل أجناسه. فالشجرة بجانب الحرم محرم على كل إنسان أن يقطعها أو يقطع جزءا منها. وبذلك يأمن النبات في الحرم، وكذلك الحمام والحيوانات وأيضاً يأمن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2898 لإنسان؛ لأن الجميع في حَرمِ رب الجميع، وتلك مسألة تصنع رعشة ورهبة إيمانية في النفس البشرية. وتكون فترة الحج هي فترة الانضباط الإيماني. وتتوافق فيها كل أجناس الوجود. فالإنسان يتساوى مع الإنسان ولا يلمس الحيوانَ كذلك النباتَ، ويبقى الجماد وهو خادم الجميع من أجناس الكون؛ لأن الحيوان يخدم الإنسان، والنبات يخدم الحيوان، والجماد يخدم الكل، وهو خادم غير مخدوم. ويصنع الحق حماية للجماد في الكعبة نفسها، فيأمر الناس باستلام الحجر الأسود أو بتقبيله إذا تيسر ذلك أو بالإشارة إليه. فهذا السيد العالي - الإنسان - على النبات والحيوان يأتي إلى جماد فيعظمه ويوقره، فالذي لا يستطيع تقبيل الحجر الأسود عليه تحيته بأن يشير إليه بيده، حتى يكون الحج مقبولاً منه؛ لذلك يتزاحم الناس للذهاب إلى الحجر الأسود، وهكذا يكون الجماد مصوناً في بيت الله الحرام. ويعوضه الله بأن جعله منسكاً، وجعله شعيرة وجعل الناس تزدحم عليه وتقبله بينما لا يقبل الإنسان الحيوان أو النبات، لكنه يقبّل الجماد أدنى الأجناس. وهذه قمة التوازن الوجودي. فالإنسان المختار المتعالي على الأجناس يذهب صاغراً لتقبيل أو استلام الحجر الأسود بأمر الله. ويرجم الإنسان حجراً آخر هو رمز إبليس، وذلك حتى يعرف الإنسان أن الحجرية ليست قيمة في حد ذاتها، ولكنها أوامر الآمر الأعلى، حتى لا يستقر في ذهن الإنسان تعظيم الحجر، فالحاج يقبل حجراً ويرجم ويرمي حجراً آخر. {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} ؛ لأن الله جعل الشعائر لتحقق الانضباط الإيماني، وبقاء ذكر الاستخلاف لله فلا يدعي أحد أنه أصيل في الكون، بل الكل عبيد لله. والوجود كله هو سلسلة من الخدمة؛ فالإنسان يخدم الإنسان، والحيوان يخدم الإنسان، والنبات يخدم الإنسان والحيوان، والجماد يخدم الكل؛ لكن لا أحد أفضل من أحد، بل الجماد نفسه مسبح بحمد الله، وقد لا يسبح الإنسان. {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2899 وهذا الأمر بعدم الحل لشعائر الله جعل كل عشيرة تأخذ حقا من التقدير والاحترام، ولا يظنن ظان أن شعيرة من الشعائر ستأخذ لذاتها تقديساً ذاتياً، بل كله تقديس موهوب من الله ويسلبه الله. {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام} أي لا تحلوا الشهر الحرام، أي عليكم أن تحرموا هذا الشهر الحرام، فقد جعله الله شهراً حراماً لمصلحة الإنسان، ويحمي به سبحانه عزة وذلة الإنسان أمام عدوه، يحمي انكسار نفس الضعيف أمام القوي. فالقويّ القادر على القتال قد تهفو نفسه إلى أن يتوقف عن الحرب فترة يلتقط فيها الأنفاس، ولو فعل ذلك لكان إعلاناً للتخاذل أمام الخصم، ولذلك يأتي الحق بزمان يقول فيه: أنا حرمت الحرب في الأشهر الحرم. هنا يقول المقاتل: لقد حرم الله القتال في الأشهر الحرم، وتلك حماية للإنسان، وليذوق لذة الأمن والسلام والطمأنينة؛ فقد يعشق الإنسان القوي السلامَ من بعد ذلك. لماذا إذن جاء الحق هنا بالشهر الحرام بينما نحن نعرف أن الأشهر الحرم أربعة؟ إن نظرنا إلى الأشهر الحرم كجنس فهي تطلق على كل شهر من الشهور الأربعة، وإذا اعتبرنا الشهر الحرام أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، فالمعنى صحيح ونعرف أن الأشهر الحرم أربعة، ثلاثة متصلة، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد منفصل هو رجب، وسبحانه وتعالى يعلم أن كل فعل من الأفعال لابد له من زمان ولابد له من مكان. فحبن لا يوجد حدث، لا يوجد زمان ولامكان، ولم يأت الزمان والمكان إلا بعد أن أحدث الله في كونه شيئاً. ولا يقولن واحد: متى كان الله ولا أين كان الله؛ لأن «متى» و «أين» من مخلوقات الله. وجعل سبحانه لكل حدث زماناً ومكاناً. ولذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليحمي عزة الناس وليجعل لهم من تشريعه الرحيم ستاراً يستتر فيه ضعيفهم، ويراجع فيه قويُّهم لعله يرعوي ويرجع عن غيّه وظلمه فأوجد أماكن محرمة، وأزمنة محرمة، والأماكن المحرمة هي التي عند الحرم: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] حيث يُؤَمَّن الإنسان أخاه الإنسان إذا ما دخل الحرم. وكذلك في الزمان جعل سبحانه الأشهر الحرم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2900 لقد أخذ الحق الحدث للزمان والمكان. وكان القوي قديماً يحارب ويقترب من النصر. وعندما يهل الشهر الحرام يستمر في الحرب، ثم يعلن أن الشهر الحرام هو الذي سيأتي بعد الحرب، ولذلك يأمر سبحانه بعدم تغيير زمان الشهر الحرام؛ لأن الله يريد بالشهر الحرام أن ينهي سعار الحرب. وبعد ذلك يقول الحق: {وَلاَ الهدي} والهدي هو ما يهدي إلى الحرم؛ وهو جمع هدية، وهناك من يقدم للكعبة هدية، ومجموع الهدايا تسمى هدياً. وهدي الحرم إنما جعله الله للحرم؛ فالحرم قديماً كان بوادٍ غير ذي زرع، ولم تكن به حيوانات كثيرة. وكانوا يأتون بالهدي معهم عندما يحجون، لذلك حرم الله الاقتراب من الهدي لأنها هدايا إلى الحرم. والحجيج أفواج كثيرة، وعندما يأتي أناس كثيرون في واد غير ذي زرع يحتاجون إلى الطعام، ولا يصح أن يجعل المؤمن الهدي لغير ما أهدي إليه، فقد يشتاق إنسان صحب معه الهدي إلى أكل اللحم وهو في الطريق إلى الكعبة فيذبحه ليأكل منه؛ وهذا الفعل حرام؛ لأن الهدي إنما جاء إلى الحرم ويجب أن يُهدى ويقدم إلى الحرم. وعلى الإنسان أن يصون هدي غيره أيضاً. {وَلاَ القلائد} وهي جمع «قلادة» والقلادة هي ما تعلق بالرقبة. وقديماً كان الذاهب إلى الحج يخاف على الهدي أن يشرد منه؛ لذلك كانوا يضعون حول عنق الهدي قلادة حتى يعرف من يراه أنه «هدي» ذاهب إلى الحرم. والهدي الأول هو الهدي العام الذي لا قلائد حول عنقه، والقلائد تعبر عن الهدي الذي توجد حول رقابه قلائد وتدل عليه وتكون علامة على أنه مهدي إلى الحرم، وقد يكون النهي هنا حتى عن استحلال القلادة التي حول رقبة الهدي حتى لا تضيع الحكمة. والحق سبحانه وتعالى حين يعبر بعبارة ما فهو يعبر بعبارة تؤدي المعنى ببلاغة. وكانوا قديماً عندما لا يجدون قلادة يأخذون لحاء الشجر وقشره ويقطعون منه قطعة ويربطونها حول رقبة الهدي، وذلك حتى يعرف الناس أن هذا هدي ذاهب إلى الحرم. ويضمن سبحانه اقتيات الوافد إليه. لا من القوت العادي ولكن يطعمه من اللحم أيضاً، ويجعل ذلك من ضمن المناسك. أليس هو من دعا هؤلاء الناس إلى الحج؟ أليس هؤلاء هم ضيوف الرحمن؟! إن الإنسان منا يقوم بذبح الذبائح لضيوفه، فما بالنا بالحق الأعلى سبحانه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2901 وتعالى؟ لذلك جعل الهدي طعاماً لضيوفه. وتزدحم الناس في منى وعرفات بكثرة لا حدود لها، ولابد أن يكرمهم الله بألذ وأطيب الطعام، والفقير يذهب إلى المذبح ويأخذ من اللحم أطيبه ويقوم بتجفيفه في الهواء والشمس ويخزنه ليطعم منه طويلا وهو ما يعرف ويسمى بالقديد. والحق سبحانه وتعالى يأتي بالحكم بطريقة لها منتهى البلاغة، فهو يحرم حتى قلادة الهدي أن يلمسها أحد. ويقول سبحانه: {وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} أي لا تمنعوا أناساً ذاهبين إلى بيت الله الحرام ولا تصدوهم عن السبيل، فهم وفد الله. وقد جاء هذا القول قبل أن يُنَزَّل الحق قوله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] وكان غير المسلمين يحجون بيت الله الحرام من قبل نزول هذه الآية، فلم يكن الحكم قد صدر. ونتساءل: هل الكافرون بالله يبتغون فضلاً من الله؟ . نعم ففضل الله يغمر الجميع حتى الكافر، لكن رضوان الله لا يكون على الكافر. والفضل من التجارة التي كانوا يتاجرون بها، وفضل الله موجود حتى في أيامنا هذه على الكفار أيضاً. لكن كيف يتأتى رضوان الله على الكافر؟ . إنه رضوان الله المتوهم في معتقدهم. فهم يعتقدون أنهم يفعلون ذلك إرضاءً لله. وتتجلى دقة القرآن حين يقول: {فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} ، فلم يقل: فضلاً من الله ورضواناً؛ لأن العبد المؤمن هو من يختص بتنفيذ التكاليف الإيمانية. ولله عطاءان: عطاء الربوبية، فهو المربي الذي استدعى إلى الكون المؤمن والكافر - وسبحانه - سخر الأسباب للكل؛ هذا هو عطاء الربوبية، فالشمس تشرق على المؤمن والكافر، والأسباب قد تعطي المؤمن والكافر، أما عطاء الألوهية فيتمثل في «افعل» و «لا تفعل» . ويقول الحق هنا: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ} . إذن فجناحا المنهج الإيماني - افعل ولا تفعل - ليست في بالهم. ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} أي إذا انتهى الإحرام، وبعد أن يخرج الحاج من الحرم ويتحلل من إحرامه فمن حقه أن يصطاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2902 {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} وقبل أن ينزل تحريم زيارة المشركين للبيت الحرام كان من حسن المعاملة ألا يأخذ المؤمنون الكفار الذين يزورون البيت الحرام فيعتدوا عليهم انتقاماً لما فعله الكفار من قبل؛ لذلك أمر الحق المؤمنين ألا يقولوا: ها هم أولاء قد جاءوا لنا فلنرد لهم الصاع صاعين مثلما فعلوا معنا في صلح الحديبية عندما منعونا من البيت الحرام. لأنكم أيها المؤمنون قد أخذتم من الله القوامة على منهجه في الأرض، والقائم على منهج الله في الأرض يجب ألا تكون له ذاتية ولا عصبية أسرية، ولا عصبية قبلية؛ لأنه جاء ليهيمن على الدنيا كلها، ومن الصَّغار أن ينتقم المؤمن من الكافر عندما يأتي إلى بيت الله. ولا يليق ذلك بمهمة القوامة على منهج الله. ولذلك قال الحق لرسوله: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105] وحينما أمر الحق رسوله أن يحكم بين الناس فذلك الحكم يقتضي عدم تمييز المؤمن على الكافر؛ لأن المسلمين هم القُوَّام، وهم خير أمة أخرجها الله للناس كافة. ولو فهم الناس أن خير الأمة الإسلامية عائد عليهم لما حاربوها. فنحن - المسلمين - لسنا خيراً لأنفسنا فقط، ولكننا أمة لخير الناس جميعاً. ولذلك قال الحق: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ} أي لا يصح أن يحملكم الغضب على قوم أن تعتدوا عليهم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية. وعندما يسمع الكافر أن الله سبحانه وتعالى يوصي من آمن به على من كفر به ماذا يكون موقفه؟ إنّه يلمس رحمة الرب. وفي ذلك لذع للكافر لأنه لم يؤمن، لكن لو اعتدى المؤمن على الكافر رداً على العدوان السابق، لقال الكافر لنفسه: لقد رد العدوان. أما حين يرى الكافر أن المؤمن لم يعتد امتثالاً لأمر الله بذلك، عندئذ يرى أن الإسلام أعاد صياغة أهله بما يحقق لهم السمو النفسي الذي يتعالى عن الضغن والحقد والعصبية، ويعبر الأداء القرآني عن ذلك بدقة، فلم يأت الدين ليكبت عواطف أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2903 غرائز ولا يجعل الإنسان أفلاطونياً كما يدعون. ولم يقل: اكتموا بغضكم، ولكنه أوضح لنا أي: لا يحملكم كرههم وبغضهم على أن تعتدوا عليهم. فسبحانه لا يمنع الشنآن، وهو البغض، لأنه مسألة عاطفية. فسبحانه يعلم أن منع ذلك إنما يكبت المؤمنين وكأنه يطلب منهم الأمر المحال. لذلك فالبغض من حرية الإنسان. ولكن إياك أن يحملك البغض أو الكره على أن تعتدي عليهم. ونرى سيدنا عمر يمر عليه قاتل أخيه زيد بن الخطاب، يقول له أحدهم: هذا قاتل زيد، فيقول عمر: وماذا أصنع به وقد هداه الله إلى الإسلام، فإذا كان الإسلام جبّ الكفر ألا يجب دم أخٍ لعمر؟ ولكن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول لقاتل أخيه: عندما تراني نحّ وجهك عني. قال ذلك لأنه يعرف دور العاطفة ويعرف أنه لا يحب قاتل أخيه، فقال قاتل أخي عمر: وهل عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ فقال غمر: لا. بل تأخذ حقوقك كلها. فقال قاتل أخي عمر: لا ضير؛ إنما يبكي على الحب النساء. فالإيمان هو الذي منع عمر من أن ينتقم من قاتل أخيه. {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ} اي أنه سبحانه لا يمنع مواجيد المؤمنين ووجدانهم وضمائرهم وقلوبهم التي تنفعل بالبغض والكره؛ لأنه يعلم أن ذلك لا يطيقه الإنسان؛ لأنها أمور عاطفية. والعواطف لا يقنن لها بتشريع. ولكن اعلموا أن هذه العواطف لا تبيح لكم الاعتداء. وهكذا يتدخل الإسلام في الحركة الإنسانية ليفعل الإنسان أمراً أو يتجنب فعل أمر ما؛ فالإسلام لا يتدخل إلا في النزوع وهي تعبير عن مرحلة لاحقة للإدراك الذي يسبب للإنسان العاطفة محبة أو كراهية، ثم يعبر الإنسان عن هذه العاطفة بالنزوع؛ لأن مظاهر الشعور ثلاثة: إدراك، ووجدان، ونزوع، فحين يمشي إنسان في بستان فيه أزهار ويرى الوردة فهذا إدراك، ولا يمنع الإسلام هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2904 الإدراك. وعندما يعجب الإنسان بالوردة ويحبها فهذه حرية، لكن أن تمتد اليد لتقطف الوردة فهذا ممنوع. إن التشريع لا يتدخل في العملية النزوعية فقط إلا في مجال واحد وهو ما يتعلق بالمرأة. إن الإسلام يتدخل من أولى المراحل من مرحلة الإدراك. فالرجل حين يرى امرأة جميلة فهذا إدراك، وعندما ينشغل قلبه بحبها فهذا وجدان، لكن أن يقترب منها الإنسان فهذا نزوع. لقد رأف الحق بالرجل ان أمره أن يغض البصر من البداية؛ لأن الإنسان لن يستطيع مطلقاً أن يفصل بين الإدراك والوجدان والنزوع. فكل من الإدراك والوجدان يصنعان تفاعلاً في التركيب الكيماوي للرجل. فإما أن يعف الإنسان نفسه ويكبت أحاسيسه، وإما ألا يعف فيلغ في أعراض الناس؛ لذلك يخدم الشرع الإنسان من أول الأمر حين يأمره بغض البصر: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30 - 31] هنا يتدخل الشرع من أول مرحلة الإدراك، فبعدها لا يمكن فصل النزوع عن المواجيد؛ لأن رؤية المرأة تحدث تفاعلاً كيماوياً في نفس الرجل، وكذلك الرجل يحدث تفاعلاً كيماوياً في نفس المرأة. أما الوردة فلا تحدث مثل هذا التفاعل. ويستطيع الإنسان اقتناء زهرية للورود. إذن فالمراد أن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع المؤمن أن تجيش عواطفه البشرية بالبغض وبالكره؛ لأن ذلك انفعال مطلوب للإيمان. وبعض من أعداء الإسلام يقول: آيات القرآن تتعارض؛ لأنه يقول: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2905 آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ} [المجادلة: 22] والنسب الإيماني يمنع ذلك. ويقول القرآن في موضع آخر {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] والذي يتعمق جيداً يعرف أن المعروف يصنعه الإنسان مع من يحب ومن لا يحب. أما الودّ فهو عمل القلب، وهذا ما نهى عنه الله بالنسبة للمشركين به، أما المعروف فالمسلم مطالب أن يفعله حتى بالنسبة لمن يكرهه. {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} إذن فالحق لم يمنع البغض. ولكنه منع النزوع المترتب على الشنآن ولو وُجد سبب من الأسباب كما حدث في صلح الحديبية. وبعد ذلك يأمر: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} . وهذه الآية هي التي تجعل مسألة الإيمان قضية عالمية، وكلمة «تعاون» على وزن «تفاعل» ، والتفاعل يأتي من اثنين؛ مثلما نقول «تشارك» ؛ فهي تقتضي اثنين؛ كأن نقول: تشارك زيد وعمرو أو: شارك زيد عمراً أو شارك عمرو زيداً. وكلاهما متساو. . اللهم إلا تغليب واحد بأن يأتي فاعلا مرة ومفعولا مرة ثانية، والفاعل في هذه الحالة فاعل ومفعول في آن واحد، والمفعول أيضاً فاعل في الوقت نفسه. ومثال ذلك قولنا «قاتل فلان فلاناً» أي أن الاثنين اشتبكا في قتال أي مفاعلة. وساعة يأتي اثنان في فعل واحد، فهناك فاعل ومفعول. وهناك فرق بين أن تقول: أعن فلاناً، فالمطلوب هنا أمر لواحد بالمعاونة لآخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2906 وهذا يختلف عن القول: تعاون مع فلان، أي أن تتشاركا معاً في المعاونة. ومسائل الحياة أكثر من أن تستوعبها موهبة واحدة. فأنت حين تبني بيتاً تحتاج إلى من يحفر الأساس ويبني الجدران. ومن يصنع الطوب ومن يصنع الأسمنت ومن يصنع الحديد، ولا يستطيع إنسان واحد أن يتعلم كل هذه الحرف ليبني بيتاً. لكن التعاون خصص لكل إنسان عملا يقوم به، فهناك متخصص في كل جزئية يحتاج إليها الإنسان في حياكة الملابس، والطب، والصيدلة وغيرها من أوجه احتياجات الحياة، والحق يأمر: «وتعاونوا» ليسير دولاب الحياة ويستفيد الإنسان من كل المواهب لقاء إخلاصه في أداء عمله، و «تعاونوا» هي أن تأتي بشيء فيه تفاعل ما، ومعنى الشيء الذي فيه تفاعل أنه يوجد «مُعين» و «مُعان» . ولكن المعين لا يظل دائماً معينا، بل سينقلب في يوم ما إلى أن يكون مُعانا، والمعان لا يظل مُعانا، بل سيأتي وقت يصير فيه مُعينا، وهذا هو التفاعل الذي تحتاج إليه أقضية الحياة التي شاءها الله للإنسان الخليفة في الأرض والمطالب أن يعبد الله الذي لا شريك له، وأن يعمر هذه الأرض. ولا تتأتى عمارة الأرض إلا بالحركة فيها، والحركة في الأرض أوسع من أن تتحملها الطاقة النفسية لفرد واحد، بل لا بد أن تتكاتف الطاقات كلها لإنشاء هذه العمارة. إننا حين نبني عمارة واحدة نستخدم أجهزة كثيرة لطاقات كثيرة بداية من المهندس الذي يرفع مساحة القطعة من الأرض ويرسمها، وإن شاء الترقي في صنعته يصنع نموذجا مجسدا لما يرغب في بنائه، وبعد ذلك يأتي الحافر ليحفر في الأرض ثم من يضع الأساس، ومن يضع الحديد. ومن يصنع «الخرسانة» المسلحة. ثم يأتي من يرفع البناء، ومن يقوم بالأعمال الصحية من توصيلات للمياه والمجاري، ثم يأتي من يصمم التوصيلات الكهربائية، وهكذا تتعاون طاقات كثيرة لبناء واحد، ولا تتحمله طاقة إنسان واحد. إذن فالتعاون أمر ضروري للاستخلاف في الحياة. ومادام الإستخلاف في الحياة بقتضي من الإنسان عمارة هذه الحياة، وعمارة الحياة تقتضي ألا نفسد الشيء الصالح بل نزيده صلاحا، وحين يقول الحق: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2907 الإثم والعدوان} أي انه يريد كوناً عامراً لا كوناً خرباً. والشيء الصالح في ذاته يبقيه على صلاحه. إذن فعمارة الحياة تتطلب منا أن نتعاون على الخير لا على الإثم. والبر، ما هو؟ البر هو ما اطمأنت إليه نفسك؛ والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه أحد، فساعة يأتي إليك أمر تريد أن تفعله وتخاف أن يراك غيرك وأنت ترتكبه فهذا هو الإثم؛ لأنه لو لم يكن إثما لأحببت أن يراك الناس وأنت تفعل ذلك. إذن قوله الحق: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} هو أمر لكل جماعة أن تتعاون على الخير، وهذه مناسبة لأقول لكل جماعة: تعاونوا معاً بشرط ألا تجعلوا لجمعياتكم نشاطاً يُنسب إلى غير دينكم. مثال ذلك الجمعيات المسماة ب «الروتاري» أو «الماسونية» ويقال: إن نشاطها خيري. ونقول: كل جمعية خيرية على العين والرأس ولكن لماذا تكونونها وأنتم تقلدون فيها الغرب؟ لماذا لا تصنعون الخير باسم دينكم فيعرف العالم أن هذا خير قادم من بلاد مسلمة. والخير كل الخير ألا نأخذ هذه الأسماء الأجنبية ونطلقها على جمعياتنا حتى لا يظنن ظان أن الخير يصنعه غيرنا. وإن كان للواحد منا طاقة على العمل الخيري؛ فليعمل من خلال الدين الإسلامي. وليعلم كل إنسان أن الدين طلب منا أن تكون كل حياتنا للخير. وهذا ما يجب أن يستقر في الأذهان حتى لا يأخذ الظن الخاطئ كل من يصيبه خير من هذه الجمعيات بأن الخير قادم من غير دين الإسلام. إننا مكلفون بنسبة الخير الذي يقوم به إلى ديننا؛ لأن ديننا أمرنا به وحثنا عليه، وليعلم كل مسلم أنه ليس فقيراً إلى القيم حتى يتسولها من الخارج، بل في دين الإسلام ما يغنينا جميعاً عن كل هؤلاء. وإذا كنا نفعل الخير ونقدم الخدمة الاجتماعية للناس فلماذا نسميها هذا الاسم وننسبها إلى قوم آخرين، ولنقرأ جميعاً قول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} [فصلت: 33] فعلى الإنسان منا أن يعمل الخير وهو يعلن أن الإسلام يأمره بذلك، ولا ينسب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2908 عمل الخير إلى «الروتاري» أو غير ذلك من الجمعيات. فنسبة الخير من المسلم إلى جمعيات خارجة عن الإسلام حرام على المسلم؛ لأنه تعاون ليس لله، والحق يقول: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} هو يريد منا أن نبني الخير وأن نمنع الهدم، وعلى كل منا أن يعرف أنه لا يستطيع وحده أن يقيم كل أبنية الخير. وقد نسأل الفقير صاحب الثوب الواحد من أين أتى برغيف الخبز، فيشير إلى بقال أعطاه هذا الرغيف. ونلتفت إلى أن الله قد سخر هذا البقال أن يأتي بالخبز ليشتري منه كل الناس، ويتصدق ببعضه على الفقير. وهذا تيسير أراده الله. وعندما نذهب إلى المخبز، نجد أن الدقيق جاء إلى المخبز من المطحن، وفي المطحن نجد عشرات العمال والمهندسين يعملون من أجل طحن الدقيق الذاهب للمخبز ليعجنه واحد، ويخبزه آخر، ويبيعه ثالث. ويجب أن نلتفت هنا إلى قدرة الله الذي سخر بعضا من الممولين الذين فكروا في خير أنفسهم واشتروا هذه الآلات الضخمة للطحين وإنضاج الخبز، وهي آلات لا يستطيع الفرد أن يشتريها بمفرده، لارتفاع ثمنها وتأتي من الدول الأجنبية، وتلك الدول فيها من المعامل والعلماء الذين يدرسون الحركة والطاقة من أجل تصميم هذه الأجهزة، ليأكل الإنسان رغيفاً واحداً. هذه هي مشيئة الحق من أجل أن تنتظم كل حركة الحياة؛ فالرغيف يعرضه البقال، وعمل فيه الخباز ومن قبله الطحان، والعجان ومن استورد الآلة؛ ومن صممها، وشاركت فيه المدرسة التي علمت المهندس الذي صمم الآلة؛ كل ذلك عمل فيه تعاون من أجل خدمة رغيف الخبز، على الرغم من أن الإنسان منا لا يفكر في رغيف الخبز إلا ساعة أن يجوع. إذن فحركة الحياة كلها تم بناؤها على التعاون. لكن ماذا إن تعاون الناس على الإثم؟ إنهم إن فعلوا ذلك يهدمون الخير؛ لأن التعاون على الإثم إنما يبدأ من كل من يعين على أمر يخالف أمر الله، وأوامر الله تنحصر في «افعل» و «لا تفعل» ، ما ليس فيه «افعل» و «لا تفعل» فهو مباح، إن شئت فعلته وإن شئت لا تفعله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2909 والذي يأمر بتطبيق «افعل» ويحزم الأمر مع «لا تفعل» وينهى عنه ويجرِّم من يفعله هو متعاون على البر والتقوى. ومن يعمل ضد ذلك؛ يتعاون على الإثم والعدوان؛ لأنه ينقل الأفعال من دائرة «افعل» إلى دائرة «لا تفعل» . وينقل النواهي من «لا تفعل» إلى دائرة «افعل» ؛ هذا هو التعاون على الإثم. وقوله الحق: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} ضَمِن عمارة الكون وضَمِن منع الفساد في الكون. فالذي يرتشي والذي يسهل عملية الرشوة، وهو الوسيط والسفير بين الراشي والمرتشي ويُسمَّى الرائش والذي يحمل الخمر والذي يدلس، كل هؤلاء متعاونون على الإثم والعدوان، حتى البواب الذي يجلس على باب عمارة ويعلم أن بها شقة تدار لأعمال مشبوهة ويأخذ ثمن ذلك هو متعاون على الإثم. نقول لكل هؤلاء: إياكم أن تفتنوا بما يدره عليكم فعل الإثم؛ لكن لننظر مصير كل منكم فلن يترك الله أمثالكم دون أن ينهي الواحد منكم حياته بمأساة، حتى المرأة التي استنزفت الناس بجمالها، تنتهي حياتها بالضنك من العيش ثم لا تجد مأوى إلا القلوب الرحيمة التي لم تفتتن بهذا الجمال ولم تتمتع به في الحرام؛ لأن الرجل إن نظر إلى امرأة أعانته على أفثم سيتذكر كل المصائب التي جاءته منها فيكرهها. لقد أراد الحق بهذا عدالة في الكون ليستقيم، وكل من يأخذ شيئا من إثم يكتوي بنار هذا الإثم في الحياة، وكل فرد فيكم مطالب بعمل حصر وإحصاء للمال الذي جاءه من عرقه وحلاله ويكتبه، والقرش الذي جاءه من حرام. وبعد ذلك يقوم بعمل حصر وإحصاء للكوارث التي أصابته. وكم كلفته من مصاريف. إنه لو فعل ذلك لوجد أن الكوارث تأخذ كل الحرام وتجوز على المال الذي كسبه من حلال. ولا تختلف هذه المسألة أبداً ولا يتركها الله للآخرة؛ فسبحانه يريد أن يعدل نظام الكون، وإلا كيف يشهد من لا يؤمن بيوم الحساب قدرة الله على إجراء التوازن في كونه؟ إن الحق أراد الحساب في الدنيا حتى لا يعربد من لا يؤمن بيوم الحساب في كون الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2910 إن كل معربد سوف يرى مصير معربد سبقه. كذلك الذين يتمتعون بثمرات الإثم في هذه الدنيا يجب أن يفطنوا إلى نفوسهم قبل أن يفوتهم الأوان، المعذور فقط هم الأطفال الذين لا نضج لهم ولا دراية؛ لأنهم يعيشون من أموال الإثم. لكن ما إن يبلغ الولد الرشد وكذلك البنت ثم ترى مالا يتدفق عليها من مصادر غير حل، عليها أن تستحي من شراء «فستان» من هذا المال أو أن تأكل منه لقمة خبز، وليفطن الإنسان أن الله قد أباح للإنسان أن يسأل عن مصدر المال حتى لا يأخذ لنفسه من المال الموبوء الخبيث. وأن يسأل الإنسان الصدقة خير من أن يصرف على نفسه مالاً موبوءا. ولن يترك الحق مثل هذا الإنسان سائلا أبداً. وليكتب كل واحد منكم هذا القول الكريم أمامه: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} . وليجعلها ميزاناً يزن بها صور الذين يراهم في الكون؛ حتى ولو كانت صورة سائق التاكسي الذي يدلس على رجل وامرأة في طريق مظلم ويأخذ أجراً على هذا، ليحسب هذا الرجل النقود التي ستأتي من هذا الباب، وليحسب النقود التي ستخرج على ألم فيه، أو ألم فيمن يرعى من ولد أو بنت. {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} وصور العدوان شتى يعاني منها المجتمع وتهزه بعنف، عدوان على الوقت لأن الإنسان يأخذ أجراً على العمل ولا يقوم به، وعدوان يضرُّ به إنسانا بأن يأخذ حقه أو أن يرتشي، كل ذلك عدوان. وحتى يصير المجتمع مجتمعا إيمانيا سليما لا بد أن يحافظ على قضية الاستخلاف في الأرض، وأن يعلم أن هذا يقتضي عمارة الكون وعدم الإفساد فيه. {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} فكأن هذه المخالفات السابقة التي تحدث هي نتيجة عدم التعاون على البر، ونتيجة التعاون على الإثم والعدوان، ولهذه المخالفة عقاب شديد، أما التقوى فمعناها أن نفعل ما أمر به الله أن نفعله، وأن ننتهي عما نهى الله عنه، فلا ننقل فعلاً من دائرة «لا تفعل» إلى دائرة «افعل» وكذلك العكس. وبذلك نجعل بيننا وبين الجبار وقاية. وبعض السطحيين قد ينظر إلى بعض من آيات القرآن ويقول: إن بها تناقضاً؛ فيقولون: بعض من آيات القرآن تقول: {اتقوا النار} ، وبعض الآيات تقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2911 {اتقوا الله} فهل للنار وقاية؟ وهل لله وقاية؟ وهؤلاء لا يفهمون أن «اتقوا» تعني: اجعل وقاية بينك وبين ما يؤذيك ويتعبك، ف {اتقوا الله} تعني اجعل بينك وبين عقاب الله وقاية وهي الدرع التي يقيمها الإنسان بتنفيذ أوامر الله ب «افعل» والامتثال لنواهي الله ب «لا تفعل» . وعندما تجعل بينك وبين الله وقاية، فأنت تجعل بينك وبين غضب الله وقاية، وهكذا تتساوى «تقوى الله» مع «اتقاء النار» . ويذيل الحق الآية {إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} . إنّ ما يجعل الناس تتهاون في التعاون على البر ويجترئون على الإثم أنهم لا يجدون من مجتمعاتهم رادعاً، ولو وجدوا الردع من المجتمع لحمى المجتمع أفراده من الإثم. وإن صار للمجتمع وعي إيماني لقاطع المخالفين وأشعرهم بأنهم منبوذون، وساعة يرى أمثال هؤلاء الناس أنهم منبوذون من المجتمع الإيماني فهم يرجعون إلى المنهج الحق. فما يغري الناس على الجرائم الكبيرة إلاّ تهاون المجتمع في الجرائم الصغيرة. ولذلك يلفتنا الحق أنه لن يترك الأمر كما تركه بعض من خلقه؛ لأن الخلق قد يجاملون وقد لا يقفون أمام ما يفعله بعضهم من آثام، لكن الله شديد العقاب، سيأتي العقاب في وقت ليس للفرد فيه جاه من مال أو حسب أو نسب يحميه من الله، فإن أطمعك ضعف المجتمع في أن تتعاون على الإثم فعليك أن تخاف الله؛ لأن عقابه شديد. وكيف يأتي العقاب إلى المذنب؟ لا نعرف؛ لأننا لسنا آلهة، ونجد العقاب يتسلل إلى المذنب في نفسه كمرض مؤلم لا يصرف المذنب فيه ما عنده من مال فقط، لكنه قد يسأل الناس ليعالج نفسه، أو يعالج من يحب. وجنود عقاب الله قد لا تتأخر للآخرة بل تتسلل إلى حياة المذنب دون أن يعرفها وهذه هي شدة العقاب. وبعد ذلك يأتي الحق بأمر تحريم أشياء بعد أن حلل الله أشياء في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} . لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين تخصيصا لما أحل من الأنعام. . فقد حلل الله من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2912 اثنين. وألحق الرسول بها الظباء وبقر الوحش، وكل ذات أربع من حيوان البحر، وكان قول الله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} مؤذنا بأن هناك تحريماً قادماً سيأتي، ويبين الحق بالقرآن ما يحرمه الله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2913 الآية تبدأ بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} ونلحظ أن البداية فعل مبني للمجهول. على الرغم من أن الفاعل في التحريم واضح وهو الله. ولم يقتحم سبحانه على أحد، فالإنسان نفسه اشترك في العقد الإيماني مع ربِّه فألزمه - سبحانه - والعبد من جانبه التزم؛ لذلك يقول الحق: «حرمت» ، حرمها سبحانه كإله وشاركه في ذلك العبد الذي آمن بالله إلها. والميتة هي التي ذهبت منها الحياة أو خرجت منها الروح بدون نقض للبنية، أي ماتت حتف أنفها، فذهاب الحياة له طريقان: طريق هو الموت أي بدون نقض بنية، وطريق بنقض البنية؛ فعندما يخنق الإنسان كائنا آخر يمنع عنه النفس وفي هذا إزهاق للروح بنقض شيء في البنية؛ لأن التنفس أمر ضروري، وقد يزهق الإنسان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2913 روحا آخر يضربه بالرصاص؛ لأن الروح لا تحل إلا في جسد له مواصفات خاصة. لكَن هناك جوارح يمكن أن تبقى الروح في الجسم دونها، والمثال على ذلك اليد إن قطعت، أما إن توقف قلب الإنسان فقد يشقون صدره ويدلكون هذا القلب فينبض مرة أخرى بشرط أن يكون المخ مازال حيا، وأقصى مدة لحياة المخ دون هواء سبع دقائق في حالات نادرة. فما أن يصاب المخ بالعطب حتى يحدث الموت. ولذلك عرف الأطباء الموت الإكلينيكي بأنه توقف المخ. إذن فهناك موت، وهناك قتل، وفي كليهما ذهاب للروح. وفي الموت تذهب الروح أولاً، وفي القتل تذهب الروح بسبب نقض البنية. والميتة هي التي ذهبت منها الحياة بدون نقض البنية، ومن رحمة الله أن حرم الميتة؛ لأنها ماتت بسبب لا نراه في عضو من أعضائها، حتى لا نأكلها بدائها. وكذلك حرم الدم، وهو السائل الذي يجري في الأوردة والشرايين ويعطي الجسم الدفء والحرارة وينقل الغذاء، وللدم مجالان في الجريان؛ فهو يحمل الفضلات من الكلى والرئة، وهناك دم نقي يحمل الغذاء، والأوعية الدموية بها لونان من الدم: دم فاسد ودم صالح. وعندما نأخذ هذا الدم قد يكون فيه النوع الصالح ويكون فيه أيضاً النوع الذي لم تخرج منه الشوائب التي في الكلى والرئة، ولذلك يسمونه الدم المسفوح، أي الجاري؛ وكانوا يأخذونه قديما ويملأون به أمعاء الذبائح ويقومون بشيه ويأكلونه. وهناك دم غير فاسد، مثال ذلك الكبد، فهو قطعة متوحدة، وكذلك الطحال، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أحلت لكم ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» إذن فالكبد والطحال مستثنيان من الدم، لكن إذا جئنا للدم المسفوح فهو حرام. والحكمة في تحليل السمك والجراد هي عدم وجود نفس سائلة بهما، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2914 فليس في لحمها دم سائل، وعندما نقطع سمكة كبيرة لا ينزل منها دم. بل يوجد فقط عند الأغشية التي في الرأس ولا يوجد في شعيراته. وعندما يموت السمك ويؤكل فلا خطر منه، وكذلك الجراد. ويأتي بعد ذلك في سلسلة المحرمات {وَلَحْمُ الخنزير} . ولا يقولن مؤمن: لماذا حرم الله لحم الخنزير؟ لقد ذهب العلم إلى كل مبحث ليعرف لماذا حرم الله الميتة وكذلك الدم حتى عرف العلماء أن الله لا يريد أن ينقل داء من حيوان ميت إلى الإنسان، وكذلك حرم الله الدم لأن به فضلات سامة «كالبولينا» وغيرها. ولكل تحريم حكمة قد تكون ظاهرة، وقد تكون خافية. والقرآن قد نزل على رسول أمي في أمة أمية لا تعرف المسائل العلمية الشديدة التعقيد، وطبق المؤمنون الأوائل تعاليم القرآن لأن الله الذي آمنا به إلها حكيما هو قائلها، وهو يريد صيانة صنعته؛ وكل صانع من البشر يضع قواعد صيانة ما صنع. ولم نجد صانع أثاث - مثلا - يحطم دولاب ملابس، بل نجده باذلا الجهد ليجمل الصنعة، ومادام الله هو الذي خلقنا وآمنا به إلها؛ فلا بد لنا أن ننفذ ما يأمرنا به، وأن نتجنب ما نهانا عنه، ولا يمنع ذلك أن نتلمس أسباب العلم، رغبة في ازدياد أسباب الإيمان بالله ومن أجل أن نرد على أي فضولي مجادل، على الرغم من أنه ليس من حق أحد أن يجادل في دين الله؛ لأن الذي يرغب في الجدال فليجادل في القمة أولاً؛ وهي وجود الله، وفي البلاغ عن الله بواسطة الرسول؛ فإن اقتنع، فعليه أن يطبق ما قاله الله. فالدين لا يمكن أن نبحثه من أذنابه، ولكن يبحث الدين من قمته. ونحن ننفذ أوامر الله. ولذلك نجد أول حكم يأتي لم يقل الحق فيه: يا أيها الناس كتب عليكم كذا، ولكن سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} أي يا من آمنت بي خذ الحكم مني. وأكرر المثل الذي ضربته سابقاً: أثمن ما عند الإنسان صحته، فإذا تعرضت صحته للاختلال فهو يدرس الأسباب؛ إن كان يرهقه الطعام يختار طبيبا على درجة علم عالية في الجهاز الهضمي، ويكتب الطبيب الدواء، ولا يقول المريض للطبيب: أنا لن أتناول هذا الدواء إلا إذا قلت لي لماذا وماذا سيفعل هذا الدواء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2915 إذن فالعقل مهمته أن ينتهي إلى الطبيب الذي اقتنع به، وما كتبه الطبيب من تعاليم فعليك تنفيذها، وكذلك الإيمان بالله، فمادام الإنسان قد آمن بالله إلها فعليه أن ينفذ الأوامر في حركة الحياة ب «افعل» و «لا تفعل» ، والمريض لا يناقش طبيبا، فكيف يناقش أي إنسان ربه: «لم كتبت علي هذا» ؟ والطبيب من البشر قد يخطئ؛ وقد يتسبب في موت مريض، وعندما نشك في قدرة طبيب ما نستدعي عدداً من الأطباء لاستشارة كبيرة. وننفذ أوامر الأطباء، ولا يجرؤ أحد أن يناقش الله سبحانه وتعالى بل نقول: كل أوامرك مطاعة. إننا ننفذ أوامر الأطباء فكيف لا ننفذ أوامر الله؟ إن الإنسان يضع ثثقته في البشر الخطائين، ولا يمكن - إذن - أن تعلو على الثقة في رب السماء؛ لذلك فالعاقلون هم الذين أخذوا أوامر الله وطبقوها جون من مناقشة؛ لأن العقل كالمطية يوصل الإنسان إلى عتبة السلطان، ولكن لا يدخل معك عليه، وحين تسمع من الله فأنت تنفذ ما أمر به. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير} وقد أثبتت التحليلات أن بلحم الخنزير دودة شريطية ودودة حلزونية وعددا آخر من الديدان التي لا يقهرها علاج. والمحرمات من بعد ذلك {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي رفع الصوت به لغير الله كقولهم: باسم اللات والعزى عند ذبحه، ولا يقال عند ذبحه: «الله أكبر بسم الله» ؛ لأن الإنسان منتفع في الكون الذي يعيش فيه بالأجناس التي طرأ عليها، لقد وجد الإنسان هذه الأجناس في انتظاره لتخدمه لأنه خليفة الله في الأرض، والحيوان له روح ولكنه يقل عن الإنسان بالتفكير، والنبات تحت الحيوان، والجماد أقل من النبات. وساعة يأخذ الإنسان خدمة هذه المسخرات، فعليه أن يذكر الخالق المنعم، وعندما يذبح الإنسان حيوانا، فهو يذبحه بإذن الأكبر من الإنسان والحيوان والكون كله، يذبحه باسم الخالق. إن هناك من ينظر إلى اللحم قائلاً: أنا لا آكل لحم الحيوانات لأني لا أحب الذبح للحيوان شفقة ورحمة، لكن آكل النبات. ونقول: لو أدركت ما في النبات من حياة أكنت تمتنع عن أكله؟ لقد ثبت في عصرنا أن للنبات حياة، بل وللجماد حياة أيضاً؛ لأنك عندما تفتت حصوة من الصوان أو أي نوع من الأحجار، فأنت تعاند بدقات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2916 المطرقة ما في تلك الحصوة من تعانق الجزيئات المتماسكة، وقد تفعل ذلك وأنت لا تدري أن فيها حياة. {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] والصالحون من عباد الله يعرفون ذلك ويديرون لأعمالهم وتعاملهم مع ما سواهم من المخلوقات جميعا - حيوان أو جماد - على أنها مسبّحة لذلك لا يمتهنون الأشياء ولا يحتقرونها مهما دقت وحقرت وإنما يتلطفون معها حتى لو ذبحوا حيوانا فإنهم يرحمون ذلك الحيوان فلا يشحذون ولا يسنون السكين أمامه ولا يذبحون حيوانا أمام حيوان آخر فضلا على أنهم يطعمون ويسقون ما يرديون ذبحه لأنهم يعلمون أنه مسبح ولكنهم فعلوا فيه ما فعلوا لأن الله أباح لهم ذلك ليستديموا حياتهم بأكله فهم أهل تكليف من الله، أما ما عداهم فهم أهل تسخير. {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} تشرح لنا أن الحق هو الذي حلل لنا أن نأكل من الذي له حس وحركة، كالحيوان الذي يتطامن للإنسان فيذبحه، ولا بد للإنسان أن يعرف الشكر لواهب النعمة، ف «بسم الله الله أكبر» تؤكد أنك لم تذبحه إلا باسم من أحله لك. {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71 - 72] إذن فالأكل من ضمن التذليل، وعندما تذبح الحيوان لا بد أن تذكر من ذلل لك ذلك. ويحرم الحق أكل المنخنقة، أي الحيوان الذي مات خنقاً؛ لأن قوام الحياة ثلاثة؛ طعام، شراب، هواء، وهذا من حكمة الخالق الذي خلق الصنعة ورتب الأمر حسب الأهم والمهم، فالإنسان قد يصبر على الجوع إلى ثلاثين يوماً؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قدر لك - أيها الإنسان - ظروف الأغيار، فجعل في جسمك مخزونا لزمن قد تجوع فيه، وجعل للإنسان شهوة إلى الطعام، وغالبا لا يأكل الإنسان ليسد الرمق فقط، ولكن بشهوة في الأكل. إن ربنا يوضح لنا: أنا أحترم شهوتك للطعام، ولتأخذ حركتُك الضروريَّ لها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2917 من الطاقة، والزائد سيُخزن في الجسم كدهون ولحم، فإن جاء يوم لا تجد فيه طعاماً أخذت من الدهون المخزونة طاقة لك. وهذه من دقة الصنعة، وإن قارنتها بسيارة صنعها الإنسان إذا ما فرغ منها الوقود فإنها تقف ولا تسير، أما صنعة الخالق فهي لا تقف إن توقف الطعام بل تستمر إلى ثلاثين يوماً، وربما حن على الإنسان قلب إنسان آخر فأحضر له الطعام، وربما احتال الإنسان ليخرج من مأزق عدم وجود الطعام. إن المرأة العربية وصفت الشدة والعوز فقالت: «سنة أذابت الشحم، وسنة أذهبت اللحم، وسنة محت العظم» أي أن الأمر درجات، فالإنسان يتغذى من دهنه ثم من لحمه ثم من عظامه، ويصبر الإنسان على الماء مدة تترواح ما بين ثلاثة، وعشرة أيام، حسب كمية المياه المخزونة في الجسم. أما الهواء فلا يصبر عنه الإنسان إلا بمقدار الشهيق والزفير، فإن حُبس الهواء عن الإنسان مات. فالنَفَس هو أهم ضرورة للحياة، ولذلك نجد من حكمة الحق سبحانه أنه لم يملّك الهواء لأحد؛ لأن أحداً لو امتلك الهواء بالنسبة لإنسان آخر فقد يمنع عنه الهواء لحظة غضب فتنتهي منه الحياة. واللغة العربية فيها من السعة ومن دقة الأداء ما يدل على أن هناك أسرارا للمعاني، تلتقي عند شيء ما، فمثلاً إذا قلت: نَفْس، أو نفيس، أو نفَس، نجد أنها ثلاث كلمات مكونة من مادة واحدة هي «النون والفاء والسين» ، النفْس هي اتصال الروح بالمادة فتنشأ الحياة بها، ويلهم ربنا النفس فجورها وتقواها، والنَّفَس: وهو الريح تدخل وتخرج من فم وأنف الحي ذي الرئة حال التنفس ولا تدوم الحياة إلا به، ومادام أساس الحياة هو النفَس فيجب ألا تكون حياتك إلا من أجل نفيس، ويجب أن تحترم خلق الله لك وألا يكون سعيك في الدنيا إلا من أجل نفيس، ولا نفيس إلا الإيمان. وفي اللغة العربية أمثلة كثيرة لما يسمى بالجناس، فنحن نسمي الأكل في الميعاد «وجبة» ، ونسمي المسئولية «واجبا» ونسمي دقة القلب «الوجيب» . ولذلك عندما أراد الشعراء أن يتفننوا جاء واحد منهم بلفظين متماثلين ولكل منهما معنى مختلف فقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2918 رحلت عن الديار لكم أسير ... وقلبي في محبتكم أسير فأسير في الشطر الأول يمعنى أمشي، وأسير في الشطر الثاني من البيت بمعنى مأسور ومقيد. فالمنخنقة إذن هي التي منع عنها النفس، ومادام مَنْع النفس أوصلها إلى الخنق فهي إلى الموت، فلماذا جاء ذكرها مرة أخرى بعد الميتة؟ لقد جاء ذكر المنخنقة لأن الإنسان قد يلحقها بالذبح، فإن سال منها دم، وطرفت فيها عين أو تحرك الذيل فهي حلال. أما إن لم يلحقها الإنسان وذبحها ولم يسل منها دم فهي حرام، ويحرم الحق الموقوذة، وهي البهيمة التي يتم ضربها بأي شيء إلى أن تصل للموت، فهي قد ماتت، بنقض بنية وكذلك المتردية التي وقعت من ارتفاع حتى ماتت، وكذلك {والنطيحة} أي التي نطحها حيوان آخر إلى أن ماتت. {وَمَآ أَكَلَ السبع} وهو ما يبقى من أكل السبع من لحم ما افترسه من حيوان مأكول، {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} ، والذكاة هي الذبح الذي يسيل منه الدم وتأتي بعده حركة من المذبوح. والمقصود بقوله {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} هو المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، فإن أدركها الإنسان وذبحها وسال منها دم وصدرت منها حركة فهي حلال. هذا هو رأي علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وهو مفتي الإيمان. وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وهو حَبْر الأمة قال - أيضا - في قوله الحق: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} هو استثناء لغير الميتة والدم ولحم الخنزير ومقصود به المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وهذا يوضح لنا أن هناك حيوانات شرسة قد لا يقوى الإنسان عليها. وأحياناً قد يقدر الإنسان عليها فيقوم بتكتيفها بالحبال، وأحيانا يضربها بآلة لتختل وتضعف قليلا ويتملكها الجزار ليذبحها. ونلاحظ أن الحق لم يحدد الحيز من الجسم الذي أصيبت فيه الموقوذة سواء أكان البطن أم الرأس أم الظهر، فالحيوان المضروب رميا بالحجارة قد تأتي الأحجار في الرأس أو البطن أو الظهر، فمن الجائز أن يضرب الإنسان الحيوان الشرس ليستطيع أن يذبحه. والحجة عندنا في التحليل أو التحريم هي: أيسيل منها الدم ساعة الذبح أم لا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2919 وهل يصدر عن جسمها حركة ولو طرفة عين؟ فإن توافر ذلك في الذبيحة فهي حلال، وهكذا نعرف أن قوله الحق: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} هو استثناء لغير الثلاثة الأول وهي: الميتة والدم ولحم الخنزير ومعها ما أهل لغير الله به لأنه محرم بطبيعة الإيمان العقدي. {وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} ويحرم الحق ما أكله السبع إلا إذا كان الحيوان الذي أكله السبع لم يمت واستطاع واحد أن يذبحه الذبح الشرعي. وسبحانه يحريم ما لم يذبح بالأسلوب الشرعي، فلا يحل ذَبْح بعظم أو بِسِنّ والذي ذبح على النصب، أي المذبوح على الأحجار المنصوبة كالأصنام فهو حرام، والكلام هنا عقدي، والتحريم هنا بعارض عقدي. و «النُّصُب» من الألفاظ التي وردت مفرداً ووردت جمعاً. ف «نصُب» هي جمع، مثلما نجمع كلمة «حمار» ونقول «حُمُر» ، وفي هذه الحالة يكون مفردها «نِصاب» ، ومرة تكون «نصب» مفرداً، مثلها مثل «طُنُب» وهو الحبل وجمعها «أطناب» أي حبال، وفي هذه الحالة يكون جمع «نُصُب» هو «أنْصَاب» . والنُّصُب هي حجارة كانت منصوبة حول الكعبة يذبح عليها المشركون الذبائح تقرباً للآلهة. والتحريم هنا بسبب عقدي مثله مثل تحريم ما أهل لغير الله به، فما أهل لغير الله فيه شرك بالله فافتقد ذكر الله الذي ذلل للإنسان هذا الحيوان القريب من الإنسان في الحس والحركة وغير ذلك. وكذلك أيضاً ما ذبح على النصب محرم؛ لأن النصب غير واهب ولا معط، والواجب أن نتقرب إلى الواجد الواهب. {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} واستسقم أي طلب القسمة، وكانت القسمة في بعض الأحيان عملية محرجة فيريدون إلصاقها بعيرهم، وهنا يقال: «إن الأزلام هي التي أمرتني» . والأزلام هي قداح من الخشب مكتوب على بعضها: «أمرني ربي» ومكتوب على البعض الآخر: «نهاني ربي» وبعض من هذه القداح غفل بغير كتابة. وكان المشرك إذا أراد السفر فهو يذهب إلى سادن الكعبة أو الكاهن، ويخرج السادن أو الكاهن الأزلام من الكيس، ويحرك القداح ويختار المشرك قِدْحاً، فإن قرأ عليه «أمرني ربي» يسافر إلى المهمة التي يريدها، وإن لم يقرأ عليه ووجده غفلا فهو يعيد الكَرَّةَ؛ فإن وجد «نهاني ربي» لا يسافر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2920 ونسأل: من هو الرب الذي أمر؟ هل هو الرب الأعلى، أو الرب الذي كانوا يعبدونه؟ أي إله كانوا يقصدون؟ إن كان المقصود به الإله الأعلى، فمن أدراهم أن الله أمر بهذا السفر أو نهى عن ذلك السفر؟ إن ذلك كذب على الله. وإن كان الذي أمر هو الرب الذي يعبدونه، فهذا أمر باطل من أساسه، إذن ف «استقسم» أي أنّه طلب حظه وقسمته بواسطة القداح. وكان الاستقسام يتم في مسائل الزواج أو عدم الزواج، والكلام هنا في هذه الآية عن الأكل؛ فالسياق عن تحليل ألوان الطعام فلماذا هذا الاستقسام؟ من هذا نعرف أنهم كانوا في الجاهلية يخضعون للون من الاستقسام بالأزلام، كانت عندهم عشرة قداح وكان مكتوبا عليها أسماء، فواحد على سبيل المثال مكتوب عليه «الفذ» وعليه علامة واحدة. أي أن الذي يسحب هذا القدح يأخذ نصيبا واحداً؛ أما المكتوب عليه «التوأم» فيأخذ نصيبين، والمكتوب عليه «الرقيب» يأخذ ثلاثة أنصباء، والمكتوب عليه «الحِلس» يأخذ أربعة أنصباء، والمكتوب عليه «النافر» يأخذ خمسة أنصباء؛ والمكتوب عليه «المُسْبل» يأخذ ستة أنصبة، ووالمكتوب عليه «المُعلّي» يأخذ سبعة أنصبة، والباقي ثلاثة أنواع مكتوب على كل واحد منها إما «المنيح» وإمّا «السفيح» وإمّا «الوغد» . وعندما يقومون بذبح الجمل كانوا يقسمونه إلى ثمانية وعشرين نصيباً بعدد الأنصبة التي ينالها الأشخاص السبعة الأوائل، أما من خرج لهم «المنيح» أو «السفيح» أو «الوغد» فلا نصيب لهم ويدفعون ثمن الذبيحة. إذن فقوله الحق: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} أي أن مسألة طلب القسمة بواسطة الأزلام هو أسلوب مجحف وحرام، وهو لون من الميسر، والاستقسام بالأزلام خلاف القرعة، فالقرعة تكون بين اثنين متساويين ولا يريد أحدهما أن يظلم الآخر، فيخرجا الهوى من الاختيار. مثال ذلك: اثنان من البشر يملكان بيتاً، وتحري كل منهما العدل في القسمة ويلجآن إلى القرعة بأن يكتب كل منهما اسمه في ورقة ثم يضعا الورقتين في إناء ضيق ويحضر طفل صغير لا يعرف المسألة ويغمض عينيه ويشد ورقة من الاثنتين، فيأخذ كل واحد النصيب الذي حددته القرعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2921 ومثال آخر: الرجل المتزوج بأكثر من واحدة، عليه أن يقرع بين النساء إن أراد صحبة إحداهن في سفر، والقرعة هنا حتى لا تغضب واحدة من الزوجات، وحتى لا يكون الهوى هو الحكم، وبذلك يخرج من دائرة لوم مَن لا تخرج قرعتها. ولنا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأسوة الحسنة، فعندما أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يكسر خاطر أي واحد من الأنصار عندما هاجر إلى المدينة، وتطلع كل واحد من الأنصار إلى أن ينزل رسول الله في بيته، وحاول كل واحد أن يمسك بزمام الناقة وأن يجعلها تقف أمام بيته، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» فعندما تميل الناقة وتقف عند أي بيت لن يقول أحد: إن النبي آثر فلاناً على فلان. جعلها الرسول في يد من لا يقدر أحد على ان يخالفه عليه، وكذلك فالاستخارة غير الاستقسام. إذن فالاستقسام بالأزلام هو المحرم شرعاً؛ لأنها عملية غير مناسبة وهي ظالمة، ووردت هنا في سياق ألوان الطعام. ويقول سبحانه عن كل تلك الألوان من المحرمات؛ إنَّ ارتكابها فسق. {ذلكم فِسْقٌ} والفسق هو الخروج عن الطاعة. والمعاني - كما علمنا من قبل - مأخوذة من المحسّات؛ لأن إلف الإنسان في أول إدراكاته بالمحسات، فهو يرى ويسمع ويشم، وبعد ذلك تأتي الأمور العقلية. وأصل الفسق هو خروج الرطبة عن قشرتها؛ فالبلحة عندما تترطب تنكمش الثمرة داخل القشرة وتخرج منها عندئذ يقال: «فسقت الرطبة» أي خرجت من قشرتها، وكذلك من يخرج عن منهج الله يسمونه فاسقاً؛ تماماً مثل الرطبة، وفي هذا رمزية تدل على أن شرع الله سياج يحيط بالإنسان؛ فالذي يخرج عن منهج الله يكون فاسقاً. وإياك أيها المسلم أن تخرج عن شرع الله؛ لأن الرطبة عندما تخرج عن القشرة فالذباب يحوم حولها ويصيبها التراب وتعافها النفس، فَكَان دين الله كإطار يحمي الإنسان بالإيمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2922 وهذه الأحكام كلها تبني قضية الدين، قضية عقدية في الألوهية، قضية البلاغ عن الألوهية بواسطة الرسالة. وأحكام تنظم حركة المجتمع بالعقود والأمانات والأنكحة وغيرها، كل هذه الأحكام تصنع هيكل الدين العام. وقد مر هيكل الدين العام بمرحلتين: المرحلة المكية وكان كل هدفها التركيز على العقيدة والإيمان بوحدانية الله والنبوات والبلاغ عن الله، وبعد ذلك في المرحلة المدنية جاءت سورة النساء وسورة المائدة لتتكلما عن الأحكام. وبالعقيدة وبالبلاغ عن الله وبالأحكام يكتمل الدين؛ لذلك يقول الحق: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} كأن الكافرين كان لهم أمل في أن يحبطوا هذا الدين وأن يبطلوه وأن ينقضوه، وكذلك المؤمنون بأديان سابقة أو بكتب سابقة كانوا يحبون أن يطرأ على القرآن الأفعال التي مارسوها مع كتابهم من النسيان والترك والتحريف، وسبحانه هو القائل عن أصحاب الكتب السابقة: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 13] إذن فقد أرادوا أن ينسى المسلمون - أيضاً - حظاً من القرآن، لكن الحق يخبر بأنهم يئسوا أن ينسى المسلمون حظا مما ذكروا به؛ لأن الصحابة حفظوا القرآن في الصدور وكتبوه في السطور ومن لسان الرسول مباشرة. ولم يحدث مثلما حدث مع الرسل السابقين. فقد تم تسجيل هذه الكتب المنزلة عليهم بعد ثلاثة أو أربعة قرون، بل أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكتابة القرآن من فور نزول كل نجم من الآيات، وكان يأمر بوضع الآيات بترتيب معين. إن على الذين كفروا أن ييأسوا من أن ينسى المسلمون حظاً مما ذكروا به. وهؤلاء القوم من أهل الكتاب لم ينسوا حظاً مما ذكروا به فقط، لا أيضاً حرفوا الكتاب عن مواضعه وكتموا ما أنزل الله: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} [البقرة: 174] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2923 وهم يئسوا من أن يكتم المسلمون ما أنزل الله، بدليل أن رسول الله صلى اله عليه وسلم كان يأتي بحكم في شيء، ثم يغير الله ذلك الحكم، فلا يستحي رسول الله أن يبلغ: أن الحكم الذي قلته لكم قد غيره الله لي. وهل يستنكف أن يعدل الله له؟ وهذا دليل على أمانة البلاغ عن الله؛ لذلك يئس الكافرون بألوانهم المختلفة من أن ينسى المؤمنون حظا مما ذكروا به؛ لأن تسجيل القرآن كان أمينا بصورة لا نهاية لها، وظل القرآن مكتوباً في السطور ومحفوظاً في الصدور. والحق يعلن عن يأس الكفار من مشركين وأهل كتاب بقوله: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} يئسوا لأن المراحل التي مرت بالكتب السابقة لن تمر بهذا الدين. وقد توهم أهل الكتاب أن الإسلام سيمر بما طرأ عليهم، وظن بعضهم أن المسلمين سيصيرون إلى ما صار إليه أهل الكتاب من ترك لدينهم وإهدار له. وكذلك ظن بعض كفار قريش أن المسلمين سيصيرون إلى ما صار إليه أهل الكتاب، فقد كانت عندهم التوراة وهم مع ذلك لا يتبعون كتابهم، فيرد الحق على كل هؤلاء: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} . وقوله: «اليوم» يعني الزمان الذي مضى والزمان المستبقل، فقد أتم الله دين الإسلام ورضيه لنا وفتحت مكة للمسلمين ودخل الناس في دين الله أفواجا. وصار القرآن مكتوباً ومحفوظاً. وبذلك تأكد يأس الكافرين والمشركين أن يُنسى القرآن أو أن يُكتم القرآن؛ لأن من أنزل عليه الكتاب، كان إذا جاء أمر يتعلق به فهو يقوله. وعندما مال قلب المسلمين ذات مرة إلى تبرئة المسلم الذي سرق وأن تلصق التهمة باليهودي البريء، هنا نزل من القرآن قوله: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105] لقد أمر الحق أن يكون النبي هو الحكم العدل حتى ولو كان حكماً ضد مسلم ويأمر الحق رسوله أن يستغفر الله إن كان قد ألم به خاطر أن ينصر المسلم الخائن على اليهودي الذي لم يسرق، إنها سماحة دين الإسلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2924 {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} . ولقد تم دين الله. ودخل الناس إلى الإسلام أفواجا. ولن يُنسى القرآن. ولن يكتم القرآن أحد. ولن يحرف القرآن أحد. ولن يحدث للقرآن ما حدث للكتب السابقة من نسيان وكتمان وتحريف، أو الإتيان بأشياء أخرى والقول والزعم بأنها من عند الله، وهي ليست من عند الله. إذن فقد يئس الذين كفروا من أن يتزيد المسلمون في دينهم. ولن توجد بين المسلمين تلك المثالب والعيوب التي ظهرت في الأقوام السابقة. {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْْ} لقد يئسوا من أن يُغلب الإسلام، بل إن الإسلام سَيَغْلب. وأرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره. {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} وقد حكم سبحانه ألا يأتي أمر يحقق لأعداء الإسلام الشماتة به، أو أن تتحقق لهم الفرصة في انكسار الإسلام، فلا تخشوهم أيها المسلمون لأنكم منصورون عليهم، ولن تدخلوا في أسباب الخيبة التي دخلوا فيها. وعليكم أيها المؤمنون بخشية الله. ولو أراد أحد تغيير شيء من منهجه سبحانه سيلقى العقاب، وسبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فكتاب الله معكم وترك فيكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهجه، فإن خالفتم المنهج فستتلقون العقاب، كما هزم الله المسلمين في أحُد أمام المشركين لأنهم خالفوا المنهج. فما نفعهم أنهم كانوا مسلمين منسوبين للإسلام بينما هم يخالفون عن أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن فلا خشية من المسلمين لأعدائهم. ولكن الخشية تكون لله، فإن خفتم فخافوا الله وحافظوا على تنفيذ منهج الله. ومادام سبحانه هو الآمر: لا تخش أعداء الله لأنه زرع في قلوبهم اليأس من أن ينسى المسلمون المنهج، او أن يتزايدوا في الدين، أو يكتموا الدين، فهم لا يحرفونه ولا يزيدون فيه. إذن فالعيب كل العيب ألا تطبقوا منهج الله. {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والإكمال هو أن يأتي الشيء على كماله، وكمال الشيء باستيفاء أجزائه، واستيفاء كل جزء للمراد منه. وقد أتم الله استمرار النعمة بتمام المنهج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2925 لقد رضي الحق الإسلام ديناً للمسلمين. ومادام رضي سبحانه الإسلام منهجاً، فإياكم أن يرتفع رأس ليقول: لنستدرك على الله؛ لأن الله قال: «أكملت» فلا نقص. وقال: «أتممت» فلا زيادة. وعندما يأتي من يقول: إن التشريع الإسلامي لا يناسب العصر. نرد: إن الإسلام يناسب كل عصر، وإياك أن تستدرك على الله؛ لأنك بمثل هذا القول تريد أن تقول: إن الله قد غفل عن كذا وأريد أو أصوب لله، وسبحانه قال: «أكملت» فلا تزيد، وقال: «أتممت» فلا استدراك، وقال: «ورضيت» فمن خالف ذلك فقد غَلَّب رضاه على رضا ربه. إن الخالق سبحانه هو أعلم بخلقه تمام العلم، ويعلم جل وعلا أن الخلق ذو أغيار، وقد تطرأ عليهم ظروف تجعل تطبيق المنهج بحذافيره عسيراً عليهم أو معتذراً فلا يترك لهم أن يترخصوا هم، بل هو الذي يرخص، فلا يقولن أحد: إن هذه مسألة ليست في طاقتنا. فساعة علم الحق أن هناك أمراً ليس في طاقة المسلم فقد خففه من البداية. وما دمنا ذوي أغيار، وصاحب الأغيار ينتقل مرة من قوة إلى ضعف، ومن وجود إلى عدم، ومن عزة إلى ذلة؛ لذلك قدر سبحانه أن يكون من المؤمنين بهذا المنهج الكامل من لا يستطيع القيام لمرض أو مخمصة، فرخص لنا سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . إذن فالحق قد ذكر أن شيئاً من الأغيار قد يطرأ على النفس البشرية، وما دام استبقاء الحياة يتطلب القوت، والإنسان قد يمر بمخمصة وهي المجاعة التي تسبب الضمور في البطن، هنا يرخص الحق للجائع في مخمصة أن يأكل الميتة أو ما في حكمها بشرط الاضطرار لاستبقاء الحياة، فلا يقول واحد على سبيل المثال: أنا مضطر أن أتعامل مع البنك بالربا لأني أريد أن أتاجر في مائة ألف جنيه وليس معي إلا ألف جنيه. وهذا ما هو حادث في كل الناس. هنا أقول: لا. عليك بالتجارة في الألف التي تملكها ولا تقل أنا مضطر للتعامل في الربا. فالمضطر هو الذي يعيش في مجاعة وإن لم يفعل ذلك يموت أو يموت من يعول. وقد رخص الشرع للإنسان الذي لا يملك مالاً أن يقترض من المرابي إن لم يجد من يقرضه ليشتري دواء أو طعاماً أو شيئا يضطر إليه لنفسه أو لمن يعول. والإثم هنا يكون على المرابي، لا على المقترض لأنه مضطر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2926 ولذلك قال الحق: {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} ، أي أنه كاره للإثم وإن ذهب إليه. ولذلك يباح للمضطر على قدر الضرورة. لدرجة أن رجال الشريعة قالوا: إن على الإنسان المضطر ألا يأكل من الميتة أو ما في حكمها بالقدر الذي يشبع، بل يأخذ أقل الطعام الذي يمسك عليه رمقه ويبقى حياته فقط. فإذا كان يسير في الصحراء فعليه ألا يأخذ من الميتة أو ما في حكمها إلاَّ قدراً يسيراً لأنه لا يجد شيئاً يتقوت به. إذن فمعنى اضطر في مخمصة شرط أن يكون غير متجانف لإثم، أي لا يكون مائلاً إلى الإثم فرحا به، فعليه ألا يأخذ إلا على قدر الضرورة. ومادام على قدر الضرورة فهو لن يحمل معه من هذه الأشياء المحرمة إلا ما يقيم أوده ويمسك روحه. والمضطر هو من فقد الأسباب البشرية. وسبحانه وتعالى قد بسط أسبابه في الكون ومد بها يديه إلى خلقه، وأمر الأسباب: استجيبي لهم مؤمنين كانوا أو كافرين، فالذي يزرع ويحسن الزراعة والري والبذر والحرث فالله يعطيه، والذي يتقن عمله كتاجر تتسع تجارته وتزيد أرباحه. {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] إن عطاء الأسباب هو عطاء الربوبية. والمضطر هو من فقد أسبابه. ولذلك فالحق يجيب المضطر إذا دعاه. وقد يقول قائل: إنني أدعو الله ولا يجيبني. ونقول: إنك غير مضطر لأنك تدعو - على سبيل المثال - بأن تسكن في قصر بدلاً من الشقة التي تسكنها، وأنت تدعو بأن يعطيك الله سيارة فارهة وأنت تملك وسيلة مواصلات عادية. فالمضطر - إذن - هو الذي فقد الأسباب ومقومات الحياة. {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء} [النمل: 62] وقد ضربنا من قبل المثل - ولله المثل الأعلى - بتاجر يستورد بضائع تصله من الخارج في صناديق ثقيلة. تحملها السيارات الضخمة، ويقوم أحد العمال أمامه بحمل صندوق ضخم، فغلب الصندوقُ العامل. وهنا يقفز التاجر ليسند العامل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2927 وهذه هي المساندة في المجال البشري، إذن فلا يَردّ واحد أسبابَ الله من يده ويقول من بعد ذلك: يارب أعني؛ لأن الله في تلك اللحظة يوضح للعبد: إنّ عندك أسبابي ومادامت أسبابي موجودة، فلا تطلب من ذاتي إلا بعد أن تنفذ أسبابي من عندك؛ لذلك يباح للمضطر أن يأخذ القدر الذي يردّ به السوء عن نفسه. {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ومادام سبحانه قد رخص لنا ذلك، فما الداعي أن يذيل الآية بمغفرته ورحمته؟ ولنفهم أن الإنسان يأخذ الغفر مرة على أنه ستر العقاب عنه، وقد يكون الغفر سترَ الذنب عن العبد لأن الله رحيم. وهذا ما يشرح لنا ما قاله الحق لرسوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} [الفتح: 2] فسبحانه يغفر بستر العقاب، ويقدم الغفر لستر الذنب فلا يفارقه الإنسان ويقول الحق بعد ذلك: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2928 فبعد أن بين الحق ما حرم وما أحل، نجد أن المحَلَّلَ غير محصور، بل المحصور هو المحرم؛ لأن الحق حرم عشرة أشياء، فإن هذه الأشياء العشرة ليست هي كل الموجودات في الكون، فالموجودات في الكون كثيرة. وسبحانه وتعالى حين خلق آدم وجعله يتناسل ويتكاثر للخلافة في الأرض؛ قدر في هذه الأرض مقومات استبقاء الحياة لذلك النوع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2928 والاستبقاء نوعان: استبقاء حياة الذات للإنسان، واستبقاء حياة نوع الإنسان، واستبقاء حياة الذات تكون بالتنَفس والشراب والطعام، واستبقاء حياة النوع تكون بالإنكاح والتناسل. إذن يوجد بقاءان لاستمرار الخلافة: البقاء الأول: أن تبقى الحياة وذلك بمقوماتها، والبقاء الثاني: أن يبقى نوع الحي وذلك بالتكاثر. وحتى تبقى الحياة ويتكاثر الإنسان لا بد من وجود أشياء وأجناس تخدم الإنسان وتعطيه الطاقة. وطمأننا سبحانه وتعالى على الرزق حينما قال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 9 - 11] وهو بذلك يخبرنا بأنه قدر في الأرض أقواتها، وقدر هذه الأقوات للإنسان الخليفة في الأرض، لتقيت الإنسان لهذه الحياة، ويُبقي الإنسان نوعه بالإنكاح. وحين يعد العبد النعم التي وفرها له الحق يجدها لا تحصى. ولم يحاول الإنسان على طول تاريخه أن يحسب ويحصي نعم الله في الأرض؛ لأن الإقبال على الإحصاء يكون نتيجة المظنة بالقدرة على الإحاطة بالنعم. وقد عرف الإنسان بداية أنه لا يقدر على الإحاطة بنعم الله؛ فلم يجرؤ أحد على أن يعدها. ولذلك قال الحق سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وقد استخدم «إن» وهي للأمر المشكوك فيه. إذن فهي نعم كثيرة لا نقدر على إحصائها. ونسأل: أيقول الحق لنا النعم المحللة أو الأشياء المحرمة؟ وبما أن المحلل كثير لا نهاية له، وبما أن المحرم محصور؛ لذلك يورد لنا الأشياء المحرمة. وقد بين لنا الحق عشرة أشياء محرمة من النعم. ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2929 حينما تكلم عن عدم قدرة الإنسان على إحصاء نعمه سبحانه وتعالى قال في آية: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] وقال في آية أخرى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18] وظاهر كلام الناس يقول: إنها عبارات تقال وتتكرر، ولكننا نقول: يجب أن ننتبه إلى أن النعمة تحتاج إلى من يعطيها وهو المُنعِم، ومن تعطى له وهو المنعم عليه. إذن فنحن أمام ثلاثة عناصر: نعمة، ومُنعِم، ومُنْعَمِ عليه. أما من جهة النعمة وأفرادها فلن يقدر البشر على إحصائها لأنها فوق الحصر. ومن جهة المنعم فهو غفور رحيم. ومن جهة المنعم عليه فهو ظلوم كفار. لماذا يأتي الله لنا بمثل هذه الحقائق؟ إنه سبحانه لو عاملنا بكفرنا وجحودنا وظلمنا لمنع النعمة، ولكن استدامة نعمة الله علينا فضل منه ورحمة لأنها تشملنا حتى ولو كنا ظالمين وكنا كفارا؛ لذلك كان من اللازم أن يأتي بهاتين الآيتين، فمن ناحية النعمة لن نقدر على حصرها. ومن ناحية المنعم فهو غفور رحيم. ومن ناحية المنعم عليه فهو ظلوم كفار. ولذلك فعندما يرتكب الإنسان ذنبا فإن أهل الإيمان يقولون له: لا تيأس؛ فربك هو، هو، إنه غفور رحيم. ولذلك لا تستحي أيها العبد أن تطلب من ربك شيئا على الرغم من معصيتك، فالله غفور رحيم. وعندما ننظر إلى مقومات الأشياء، فإننا نعرف المقوم الأساسي. لكن هناك مقومات تخدم المقوم الأساسي. ومثال ذلك نحن نأخذ القمح وندرسه، ونصنع من حبوب القمح دقيقا لنصنع منه خبزاً. ويحتاج القمح إلى مقومات كثيرة حتى يخرج من الأرض - وهو مقوم أساسي - إن القمح يحتاج إلى ري منتظم وحرث وخلاف ذلك، إذن فالذي خلقنا قدر لنا هذه الأشياء، ومادام قد قدر لنا كل هذه الأشياء، فعلينا أن نسمع تعاليمه. وهو قد أوضح: إياك أن تظن أن كل ما خلقت من خلق فأنا مُحِلّه لك؛ لأني قد أخلق خلقاً ليس من طبيعته أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2930 تتناوله، وليس من طبيعتك أن تتناوله، ولكن لهذا المخلوق عمل فيما تتناوله كالحرث والري والتسميد للقمح، إنها وسائل وأسباب للحصول عليه. فإذا ما قال قائل: مادام هو سبحانه قد خلق هذه المحركات فلماذا حرمها؟ ونقول: هذه الأشياء ليس لها عمل مباشر فيك ولكن لها عمل آخر في الكون. وإذا كنا نحن البشر نصنع آلة ما، ويقول المخترع لنا: قد صممت هذه الآلة - على سبيل المثال - لتدار بالديزل، وآلة أخرى تدار البنزين، والبنزين أنواع، ولو جئنا للآلة التي تدار ببنزين ووضعنا لها سولارا، ما الذي يحدث لها؟ إنها تفسد، هذا في المجال البشري فما بالنا بخالق البشر؟ لقد صنع الحق صنعته وهي الإنسان ووضع المواصفات التي تسير هذه الآلة، وعلينا أن نخضع لتعاليمه حتى لا تفسد حياتنا فلا نخرج عن تلك التعاليم؛ لأنك عندما تخالف وتخرج عما وصفته لصنعتك من نظام، فالآلة التي من صناعتك تفسد. وفي حياتنا آلاف الأمثلة. . فالذي صنع الكهرباء ووضع العلامات للأسلاك السالبة والأسلاك الموجبة، لنأخذ الضوء أو الحركة. وإذا ما حدث خطأ في هذه التوصيلات الكهربية؛ نفاجأ بحدوث قطع في الكهرباء، وقد تحدث حرائق نتيجة شرارة من الاتصال الخاطئ. إذن فكل تكاثر وإنجاب من كل سالب وموجب أي ذكر وأنثى لا بد أن يكون على مواصفات من صنعه وإلا يحدث قطع ودمار، فإن تزوجنا بشرع الله ورسوله، استقامت الحياة، وإن حدث شيء على غير شرع الله، تشتعل الحرائق في الكون. ولذلك تجد العجب أمامك عندما تشهد عقد قران، تجد ولي الزوجة وهو مبتسم منشرح يوجه الدعوات للناس لأن شابا جاء يتزوج ابنته ويقدم الحلوى، لكن لو كانت هذه العروس تجلس في المنزل وحاول شاب أن يتلصص لرؤيتها، فما الذي يحدث في قلب والدها؟ إنه يغلي من الضيق والغضب والتوتر ومن الذي يتلصص لأنه ذهب إلى الفتاة بغير ما أحل الخالق. لكن عندما يدق الباب ويخطبها من أبيها؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2931 فالأب يفرح، فقد جاء في الأثر: (جدع الحلال أنف الغيرة) . ونجد الأب ينتقل من موقف الغيرة إلى موقف الفرح يوم زفاف ابنته، وتذهب الأم صباح اليوم التالي للزفاف لترى حالة ابنتها ولتطمئن، هل الابنة سعيدة أو لا؟ إذن. فلا يقولن أحد: إن الله خلق أشياء فلماذا حرمها؟ ، لأن الله خلق تلك الأشياء ولها عمل فيما أحل، ومادام سبحانه قد جعل لهذه الأشياء عملاً فيما أحل. فليس لك دخل إلا بالحلال. ولذلك يقول الحق رداً على تساؤل المؤمنين: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} أي أن كل طيب قد حلله الله، وكل خبيث حرمه الله، فلا تقولن: هذا طيب فيجب أن يكون حلالاً، وهذا خبيث فيجب أن يكون حراما، ولكن قل: هذا خلال فيجب أن يكون طيبا، وهذا حرام فيجب أن يكون خبيثا. وإياك أن تحكم أولا بأن هذا طيب وهذا خبيث ثم تبنى على ذلك التحريم والتحليل، فأنت لا تعرف مثلما يعرف خالقك عن كيفية وجدوى ترتيب الأشياء بالنسبة لك، حتى لا تقع في دائرة الذين يستطيبون المسائل الضارة؛ كهؤلاء الذين يتناولون المخدرات والسموم والخمور، بل يجب أن تحرص على فهم ما أحل الله فستراه طيبا، وترفض ما حرم الله لأنه خبيث، فلا تظن أبداً أن كل طيب ظاهريا محلل لك؛ لأن هذا الشيء الطيب في ظاهره قد يكون خبيثا. وعليك أن تترك تحديد الطيب والخبيث لخالقك، فهو أدرى بك وبالمناسب لك. امّا أنت فتعرف الشيء الطيب من تحليل الله له. وتعرف الخبيث من تحريم الله له. والحكم هنا يكون للتكليف، فالله هو الذي خلق، والله هو الذي يعلم الصالح للإنسان. فالمسألة إذن ليست العناصر؛ ولكنها إرادة الخالق لتلك العناصر، فهو الذي قدر فهدى. الخلاصة إذن في هذا الموضوع هي: أن الحق أحل للمؤمنين الطيبات وكل شيء أحله الله يكون طيباً، وكل شيء حرمه الله يكون خبيثاً، فلا تنظر أنت إلى الآراء البشرية التي يقول بعضها على شيء إنه طيب فيكون حلالاً، وإن ذلك الشيء خبيث فيكون حراماً، فأنت وغيرك من البشر لا يعرفون ترتيب الأشياء ولا فائدتها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2932 ولا مضرتها بالنسبة لك. والدليل: أن البشر يتدخلون في بعض الأحيان في تحريم أشياء بالنسبة لبعضهم البعض، فنجد الطبيب يقول للمريض: أنت مريض بالسكر فلا يصح أن تتناول النشويات والسكريات. فإذا كنا نسمع كلام الطبيب وهو من البشر، أفلا يجدر بنا أن نستحي ونستمع لأمر الخالق؟! بل نتجاسر ونسأل: لماذا حرمت علينا يا رب الشيء الفلاني؟ وقد يخطئ الطبيب لكن الله لا يمكن أن يخطئ. فهو ربنا المأمون علينا، فما أحله الله يكون الطيب وما حرمه يكون الخبيث، وهذه قضية يتعرض لها أناس كثيرون، فعلى سبيل المثال نسمع من يستشهد الاستشهاد الخاطئ وفي غير موضوعه بقول الحق: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ويقول: إن عملي يأخذ كل وقتي. ولا فسحة عندي لإقامة الصلاة، والله لم يكلفنا إلا ما في الوسع. ونقول: وهل أنت تقدر الوسع وتبني التكليف عليه؟ لا. عليك أن تسأل نفسك: أكلفك الله بالصلاة أم لا؟ . فإذا كان الحق قد كلفك بالصلاة، وغيرها من أركان الإسلام فهو الذي علم وسع الإنسان في العمل. ويجب أن تقدم التكليف أولاً لتعرف طاقة الوسع من بعد ذلك. وكذلك أسأل نفسك عما حلله الله واعرف أنه طيب وما حرمه الله فهو خبيث. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} وإذا سألنا ما تلك الطيبات؟ عرفنا أنها غير ما حرم الله، فكل غير محرم طيب، أو أنهم سألوا عن أشياء سيكون الجواب السابق هو الإجابة الطبيعية لها، وقدم الله الإجمال الذي سبق أن شرحناه. وبعد ذلك يكون المسئول عنه في مسألة الصيد بالكلاب، فجاء لهم بالبيان في مسألة الصيد بالكلاب، وكانت تلك مسألة مشهورة عند العرب بالجاهلية، وكذلك صيد الطيور. فقال: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح} فقد وضع الحق القضية العامة أولاً، ثم خصص بعد ذلك. لقد كانت مسألة صيد الجوارح موضوع سؤال من عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن الصيد بالكلاب وبالطيور. وعلينا أن نحسن الفهم عن القرآن بحسن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2933 الفهم عن النص، فالحق يقول هنا: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح} فهل الكلاب والفهود والنمور التي تصطاد بواسطتها هي المحللة لنا لأننا علمناها الصيد؟ لا. {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} هي قضية منتهية. وبعد ذلك فهنا كلام جديد هو: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} . إذن فالذي أُحل هو ما أمسكت ما علمت من الجوارح، وليست الجوارح التي يعلمها الإنسان، اي أن الحق أحل لنا الطيبات وأكل ما أمسكت علينا الكلاب التي علمناها الصيد. و «الجوارح» مفردها «جارح» ومعناها «كاسب» ، ولذلك تسمى أيدينا جوارح، وعيوننا جوارح، وآذاننا جوارح؛ لأننا نكسب بها المدركات. فالعين جارحة تكسب المرئي، والأذن جارحة تكسب المسموع. والأنف جارحة تكسب المشموم. واللمس جارحة لأننا نكسب بها الملموس. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60] و «ما جرحتم» أي ما كسبتم، إذن فالجارحة هي الكاسبة. وقوله الحق: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح} مقصود به الحيوانات التي نعلمها كيف تصطاد لنا، وسميت جوارح، لأنها كاسبة لأصحابها الصيد، فالإنسان يطلقها لتكسب له الصيد، أو أنها في الغالب تجرح ما اصطادته. وكلا المعنيين يصح ويعبِّر. والأصل في ما عَلّم الإنسان من الجوارح هو الكلاب، وألحق بالكلاب غيرها مثل الفهود والنمور والصقور. والحق قال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} أي ما بذلتم من جهد في تدريب هذه الجوارح للصيد، فالإنسان لا يطلق الكلب أو الصقر ليصطاد، لكنه يقوم - أولاً - بتدريب الحيوان على ذلك. ومثال ذلك: عندما يقوم مدرب القرود بتدريب كل قرد عل الألعاب المختلفة، وكذلك مدرب «السيرك» الذي يقوم بتدريب الأسود والفيلة، فهذا الفيل الضخم يقف بأربعة أرجل على اسطوانة قطرها متر واحد، وذلك كله ممكن بالتدريب بما علمكم الله وألهمكم أيها البشر وبما أعطاكم من طول البال وسعة الحيلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2934 وننتبه هنا إلى نقطة هامة: إن الإنسان يقوم بتدريب الحيوان على ألعاب ومهام مختلفة ولكن الفيل - على سبيل المثال - لا يقدر على تدريب ابنه الفيل الصغير على الألعاب نفسها. وهذا هو الفارق بين الإنسان والفيل، فابن الإنسان يتعلم من والده وقد يتفوق عليه، لكن تدريب الحيوان مقصور على الحيوان نفسه ولا يتعداه إلى غيره من الحيوانات من الجنس نفسه أو الذرية فلا يستطيع الحيوان الذي درّبته ورَّوضته وعلمته أن ينقل ذلك إلى ذريته ونسله فلا يستطيع أن يعلم ابنه. وكلمة «مكلب» تعني الإنسان الذي يعلم الكلاب ويدربها على عملية الصيد. وقال البعض: إن «مكلب» أي الرجل الذي يقتني الكلاب؛ لكنا نقول: إن الإنسان قد يقتني الكلاب لكنه لا يقوم بتدريبها، إذن المكلب هو الذي يحترف تدريب الكلاب، ومثله مثل سائس الخيل الذي يدرب الخيل؛ فالحصان يحتاج إلى تدريب قبل أن يمتطيه الإنسان أو قبل أن يستخدمه في جر العربات. ولماذا ذكر الله «المكلبين» ولم يذكر مدربي الفهود؟ . لأن الغالب أن الكلب شبه مستأنس، أما استئناس الفهد فأمر صعب بعض الشيء. و «مكلبين» تعني المنقطعين لتعليم الكلاب عملية الصيد. ويعرف معلم الكلاب أن الكلب قد تعلم الصيد بأنه إذا ما أغراه بالصيد فإن الكلب يذهب إليه. وإذا ما زجره المدرب فهو يرجع من الطريق. وإذا ما ذهب الكلب إلى الصيد بعد تعليمه وتدريبه وأمره المدرب أن يحمل الصيد ويأتي؛ فالكلب يطيع الأمر. ويأتي بالصيد سليماً ولا يأكل منه. فهذه أمارة وعلامة على أن الكلب تعلم الصيد ويمكن تلخيصها في هذه الخطوات: إذا أرسلته للصيد ذهب، وإذا زجرته انزجر، وإذا استدعيته جاء ويأتي بالصيد سليماً لا يأكل منه. فإن أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم؛ لأنه أمسك الصيد على نفسه، ولم يمسكه على صاحبه. ولذلك حدد الحق عملية الصيد بقوله عن الحيوانات التي تؤدي هذه المهمة: {مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} . ومن ضمن عملية التدريب هناك إطار إيماني، فالتدريب العضلي هو عملية يعلمها المكلِّب للكلب أما الإطار الإيماني فهو ذكر اسم الله على الصيد: {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} وذلك حتى يكون الصيد حلالاً، ولا يقع في دائرة {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} . وإذا ما هجم الكلب على الصيد وقتله، يكون الصيد حلالاً، إن كان صاحب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2935 الكلب قد قال: «بسم الله والله أكبر» قبل أن يرسل الكلب إلى الصيد. وإن لم يذكر اسم الله فعليه أن ينتظر إلى أن يعود الكلب بالصيد، فإن كان في الصيد الحياة فليذكِّه أي يذبحه، ويذكر اسم الله، وإن مات الصيد قبل ذلك فلا يأكل منه. وكذلك إذا اصطاد الإنسان بالبندقية. . إن ذكر اسم الله أولاً وقبل أن يطلق الرصاصة فليأكل من الصيد. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} هذه هي القضية العامة، ومن بعد ذلك يحدد لنا الحق ألا نأكل الكلاب، ولكن هذه الكلاب التي نعلمها الصيد وتصطاد لنا ما نأكله بشرط أن تذكر اسم الله على الصيد قبل إطلاق الكلب للصيد، أو بعد أن تذبح الصيد الذي اصطاده الكلب، فذكر اسم الله مسألة أساسية في تناول النعم، لأننا نذكر المذلل والمسخر، ولا يصح أن نأخذ النعمة من وراء صاحبها دون أن نتذكره بكلمة. ويذيل الحق الآية بقوله: {واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} وتقوى الله في هذا المجال تعني ألا يؤدي الإنسان هذه الأمور شكلياً، وعلى المؤمن أن يتقي الله في تنفيذ أوامره بنية خالصة ودقة سلوك؛ لأنه سبحانه سريع الحساب بأكثر من معنى، فمهما طالت دنياك فهي منتهية. ومادام الموت هو نهاية الحياة فالحياة قصيرة بالنسبة للفرد. وإياك أن تستطيل عمر الدنيا؛ لأن عمر الدنيا لك ولغيرك فلا تحسب الأمر بالنسبة إليك على أساس عمر غيرك الذي قد يطول عن عمرك. إذن مدة الحياة محدودة، ومادام الموت قد جاء، فعلى المؤمن أن يتذكر قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته» . والإنسان منا يعرف من خبر القرآن أن الموت مثل النوم. لا يعرف الإنسان منا كم ساعة قد نامها، ونعرف من خبر أهل الكهف أنهم تساءلوا فيما بينهم: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2936 يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] إذن هم لم يتبينوا أنهم ناموا ثلاثمائة عام وتسعة أعوام إلا بعد أن سألوا، وكذلك من يموت فهو لن يدري كم مات إلا يوم البعث. أو أنه سبحانه سريع الحساب أي أن له حساباً قبل حساب الآخرة، وهو حساب الدنيا. فعندما يرتكب العبد المخالفات التي نهى عنها الله، ويأكل غير ما حلل الله، فهو سبحانه قادر على أن يجازي العبد في الدنيا في نفسه بالأمراض أو التعب أو المرض النفسي، ويقف الأطباء أمام حالته حائرين. وقوله الحق: {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} يصح ان تكون السرعة في الحساب في الدنيا ويصح أن تكون في الآخرة. أو أنه سبحانه سريع الحساب بمعنى أنه يحاسب الجميع في أقل من لمح البصر، فالبعض يظن ظناً خاطئاً أنهم سيقفون يوم القيامة في طابور طويل ليتلقى كل واحد حسابه. لا، هو سبحانه يحاسب الجميع بسرعة تناسب طلاقة قدرته. ولذلك عندما سئل الإمام علي - كرم الله وجهه -: كيف سيحاسب الله كل الناس في وقت واحد ويقال إن مقداره كنصف يوم من أيام البشر؟ . فقال الإمام علي: فكما يرزقهم جميعاً في وقت واحد هو قادر على حسابهم في وقت واحد. فسبحانه لم يجعل البشر تقف طابورا في الرزق، بل كل واحد يتنفس وكل واحد يأكل، وكل إنسان يسعى في أرض الله لينال من فضله. ولا أحد بقادر على أن يحسب الزمن على الله؛ لأن الزمن إنما يُحسب على الذي يحدث الحدث وقدرته عاجزة، لذلك يحتاج إلى زمن. إننا عندما ننقل حجراً متوسط الحجم من مكانه فإن ذلك لا يكلف الرجل القوي إلا بعضاً من قُوَّته، لكن هذا العمل بالنسبة لطفل صغير يحتاج إلى وقت طويل، فما بالنا بخالق الإنسان والكون؟ وما بالنا بالفاعل الذي هو قوة القوى؟ هو لا يحتاج إلى زمن، وهو سريع الحساب بكل المعاني. ومن بعد ذلك يقول الحق: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2937 {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2938 سبحانه يبدأ الآية بتكرار الأمر السابق: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} . وأعادها حتى يؤكد على أن الإنسان لا يصح أن ينظر إلى الأمر الطيب إلا من زاوية أنه محلل من الله. وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن كيفية تناول المحللات، وأسلوب التعامل مع الصيد. نأتي هنا لوقفة، فسبحانه يقول: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} فهل كل طعام أهل الكتاب حل لنا؟ إن بعضهم يأكل الخنزير. لا، بل الحلال من طعام أهل الكتاب هو الطعام الذي يكون من جنس ما حلل الله لكم، ولا يستقيم أن يستنكف الإنسان من أنه طعام أهل كتاب؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل من الإنسان الذي ارتبط بالسماء ارتباطا حقيقيا كالمسلمين، ومن ارتبطوا بالسماء وإن اختلف تصورهم لله، يريد سبحانه أن يكون بينهم نوع من الاتصال لأنهم ارتبطوا جميعا بالسماء، ويجب أن يعاملوا على قدر ما دخلهم من إيمان باتصال الأرض بالسماء. إياك أن تقول بمقاطعة أهل الكتاب لا، ولكن انظر إلى طعامهم فإن كان من جنس الطعام المحلل في الإسلام فهو حلال. ولا يصح أن تمنع واحداً من أهل الكتاب من طعامك؛ لأن الله يريد أن ينشئ شيئا من الألفة يتناسب مع الناس الذين سبق أن السماء لها تشريع فيهم ويعترفون بالإله وإن اختلفوا في تصوره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2938 وضرب لنا - سبحانه - المثل مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ففي أول مجيء الدعوة الإسلامية، واجهت معسكرا ملحدا يعبد النار، ولا يؤمن بالإله وهو معسكر فارس؛ ومعسكراً يؤمن بالإله وهو معسكر الروم؛ كانت هناك قوتان في العالم: قوة شرقية وقوة غربية. وعندما يأتي رسول ليأخذ الناس إلى طريق الله، فلا بد أن يكون قلبه وقلوب المؤمنين معه مع الذين آمنوا بإله وبنمهج ورسالة، ولا يكون قلبه مع الملاحدة الذين يعبدون غير الله. ولنر العظمة الإيمانية في الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. نجد الذين يؤمنون بالله ويكفرون به كرسول أولى عنده ممن يكفرون بالله. ولذلك عندما قامت الحرب بين فارس والروم كانت الغلبة أولا لفارس. وكانت عواطف الرسول والذين آمنوا معه مع الروم؛ لأنهم أقرب إلى معسكر الإيمان الوليد وإن كانوا يكفرون بمحمد فقد كانوا يؤمنون بالله، وأن هناك منهجا وهناك يوم بعث، ولذلك يضربها الحق مثلا في القرآن ليعطينا عدة لقطات، وأولى هذه اللقطات هي أن المسلمين في جانب من عنده رائحة الإيمان، فيقول سبحانه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 1 - 5] وتبدأ هذه الآيات بخبر عن هزيمة الروم، ثم نبوءة من الحق بأنهم سيغلبون في بضع سنين. ويوم نصرهم سيفرح المؤمنون بنصر الله. وتنظر القوة الإسلامية التي جاءت لتؤسس دينا واسعا جامعا مانعا إلى معركة بين دولتين عظيمتين كلتيهما على أقصى ما يكون من الرقي الحضاري، هذه القوة الإسلامية تتعاطف مع الروم وتحزن - القوة الإسلامية - لأن الفرس قد غَلَبت. فيأتي الحق بالخبر اليقين وهو سَتَغْلِبُ الروم. وبالله من الذي يستطيع أن يحكم في نهاية معركة بين قوتين عظيمتين؟ إنه حكم لا يستغرق يوما، حتى ولو كان قائله عرف أن هناك مددا قادما للقوة التي ستنتصر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2939 إنه حكم يستغرق بضع سنين. فمن الذي يستطيع أن يتحكم في معركة ستحدث بعد بضع سنين؟ لا يستطيع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يجازف بهذا الحكم، وهو لا يعرف استعدادات كل قوة وحجم قواتها وأسلحتها، لكن الأمر يأتي كخبر موثق من الله: {وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 3 - 4] وهذا كلام موثق، لأنه قرآن مسطور يقرأه المؤمنون تعبداً. وعندما سمع أبو بكر الصديق هذه الآية، قال لقد أقمت رهاناً بأن الروم ستنتصر بعد ثلاث سنين، وطالبه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يمد مدة الرهان لأن الله قال: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} والبضع ما بين الثلاث إلى التسع، ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لسيدنا أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فجعلت مائة قلوص (ناقة) إلى تسع سنين. كأن هذا الأمر قد لقي الوثوق الكامل من المؤمنين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بالنصر. لقد أوردنا ذلك هنا حتى نفهم أن عواطف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت مع الذين يؤمنون بكتاب وبرسول. ونحن هنا نجد الحق يحلل لنا مطاعمة أهل الكتاب حتى تكون هناك صلة بيننا وبين من يؤمن بإله وبمنهج السماء: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} . وأوضح الحق سبحانه ذلك في آيات أخرى حينما قال: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} [الممتحنة: 8 - 9] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2940 فسبحانه يريد أن نوازن في أسلوب تعاملنا فلا نساوي بين ملحد مشرك ومؤمن بصلة السماء بالأرض وإن كفر برسول الله. وأن يكون هناك قدر محدود من التواصل الإنساني. فالذي يحل للمؤمنين من طعام أهل الكتاب هو الذي يكون حلالا في منهج الإسلام. ويجب أن ينتبه المسلم إلى أن بعض أطعمة أهل الكتاب تدخلها الخمور وعليه الامتناع عن كل ما هو محرم في ديننا ولياكل من طعامهم ما هو حلال لدينا. فلا يشرب المسلم خمراً، ولا يأكل المؤمن لحم الخنزير. والطعام كما نعلم وسيلة لاستبقاء الحياة. وها هوذا ينتقل إلى استبقاء النوع وهو التناسل؛ فقد أحل الله لنا أن نتزوج من بناتهم {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} . والمحصنة لها معنيان: وهي إما أن تكون الحرة في مقابل الأمة، وإما أن تكون المتزوجة؛ لأن الإحصان يعني الوقاية من أن تختلط اختلاطا غير شريف. وكانت الحرة قديما لا تفعل الفعل القبيح. وكان البغاء مقصورا على الإماء؛ لأن الأمة لا أب لها ولا أخ ولا عائل، وهي مُهْدَرة الكرامة. ولذلك نجد أن هنداً زوجة أبي سفيان عندما سمعت عن الزنا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تساءلت: يا رسول الله أَوَ تزني الحرة؟! كأن الحرة لم تكن لتزني في الجاهلية؛ لأن الحرة تستطيع أن تمتنع عكس غيرها. والمحصنة أيضاً هي المتزوجة. ويساوي الحق بين المحصنة من المؤمنات والمحصنة من أهل الكتاب، والمراد هنا الحرة العفيفة ويشترط وضع المهر لكل واحدة منهن. وبعض العلماء يقول: عندما تتزوج مسلمة يكفي أن تسمي لها المهر، لأن الدين الواحد يعطي الأمان العهدي، أما الزواج من كتابية فيجب أن يحدد الإنسان المهر وأن يقرره وأن يوفي بذلك. فالإيتاء هو أن يسمي الإنسان المهر ويقرره ويشهد عليه الشهود. ويستطيع أن يجعل الإنسان المهر كله مؤخراً. والشرط أن يكون الرجل محصناً أي متعففاً. ويحدد الحق: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} أي صدائق لهم دون زواج، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2941 والسفح هو الصب. والمرأة البغي هي من يسفح معها أي رجل، والخدن هي الخليلة أو العشيقة دون زواج، والخدن كذلك يطلق على الذكر كما يطلق على الأنثى. وإياك أن تفكر في أمر إقامة علاقة زواج متعة، بل لا بد أن يكون الإقبال على الزواج بنية الزواج التأبيدي لا الزواج الاستمتاعي. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} ؛ لأن فائدة الإيمان أن يستقبل المؤمن الأحكام ممن آمن به إلها وينفذها. فإن سترت شيئا من أحكام الله التي آمنت بها فقد كفرت بالإيمان. والحق لا يضره أن يكفر الناس جميعاً؛ لأنه هو الذي خلق الخلق بداية وهو متصف بكل صفات القدرة والكمال. إذن فالعالم كله لا يضيف إلى الله شيئا، فقبل أن يخلق الله الإنسان كانت كل صفات الكمال موجودة لله. وكل ثمار الطاعة والعبادة والإيمان إنما تعود على الإنسان. فإن جاء الإنسان إلى الأحكام التي شرعها الله له، وستر حكما منها فكأنه كفر بقضية الإيمان. وإن أنكر جزئية من جزئيات الإيمان، فهذا لون من الكفر، ويا ليت من يفعل ذلك أن يقول: «إن هذه الجزئية صحيحة ولكن لا أقدر على نفسي» . ففي هذه الحالة يكون الإنسان مؤمنا عاصيا يستغفر الله أو يتوب، أما الكفر فلا: والكفر بالإيمان يؤدي إلى حبط العمل. وهذا دليل على أن الحق يخاطب إنسانا يلتزم في بعض الأشياء ولا يلتزم في البعض الآخر. وهنا يوضح الحق للإنسان: إن ما أديت من خير في أعمالك سيذهب بثوابه ويحبط جزاءه ما منعت تنفيذه من أحكام الله، وجاء الحق بكلمة «حبط» التي تدل على أن العمل بطل وذهب ذهابا لا يعود. فالماشية حين تأكل طعاما لم ينضج بعد وإن كان من جنس ما تطعم مثل البرسيم في بدايته ويسمى «الرِّبة» ، هذا اللون من الطعام عندما ترعى فيه البهائم يحدث لها انتفاخ في البطن وتموت. والعرب تسمي هذا الداء الحُباط. فالحَبَط إذن هو انتفاخ البطن في الماشية التي تأكل أكلا غير مناسب لها. ويظن صاحبها أنها قد سمنت بينما هي تموت في الواقع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2942 وكذلك يكون العمل على غير ما شرع الله. والحق بدأ قضايا الإيمان في هذه السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] فكل عقد إيماني يتعلق بالوحدانية لله وبالبلاغ عن الله، وكل عقد عُقد بين المؤمنين بعضهم بعضا، وكل عقد عقده الإنسان بينه وبين نفسه؛ هذه العقود مطلوب الوفاء بها، ومن يكفر بهذه الأشياء فقد حبط عمله. وحبط العمل يأتي نتيجة أن الإنسان أنهى عمله وختمه بهذا اللون من الكفر وظن أنه عمل عملا صالحا. لكن العمل يحبط تماما كما تذهب البهيمة لترعى شيئا لا يتناسب معها فينتفخ بطنها. فيخيل للرائي أن ذلك شبع وأن ذلك عافية، ثم لا تلبث أن تنفق وتموت. كذلك عمل الذي يكفر بالإيمان، يظن أنه عمل شيئا ولكن ذلك الشيء متلف له. والآيات القرآنية تكلمت عن هذا المعنى كثيرا؛ فالحق يقول عن الكافرين بالله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور: 39] ونعلم أن السراب هو شيء من انعكاسات الضوء يخدع الرائي السائر في الصحراء فيظن أنه ماء، ويسير إليه الإنسان فلا يجده ماء، هكذا يكون عمل الذي يكفر بآيات الله. إنها أعمال تبدو متوهمة النفع. وقول الحق سبحانه: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} أي أن مثل هذا الإنسان يفاجأ بوجود الله، كأن مسألة وجود الإله لم تكن بخياله من قبل، والإنسان لا يأخذ أجره إلا لمن عمل به. فهل عمل الواحد من هؤلاء لله حتى يأخذ منه أجراً؟ . لا. لم يعمل لله، ولذلك نجد أن بعض السطحيين في الفهم يقولون: كيف لا يجزي الله الجزاء الحسن هؤلاء العلماء الذين اخترعوا العلاجات للأمراض، والعلماء الذين ابتكروا الأشياء التي تنفع الناس؟ كيف لا يحسن الله جزاءهم في الآخرة؟ ونقول: لقد فعلوا ذلك ولم يكن الله في بالهم، كان في بالهم الإنسانية، وقد أعطتهم الخلود في الذكرى وأقامت لهم التماثيل ومنحتهم أوسمة ووضعت فيهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2943 المؤلفات لتمدحهم. هم قد عملوا للناس فأعطاهم الناس. وهؤلاء الكافرون بتقدمهم في العلوم؛ مسخرون للإنسان المؤمن؛ فالمؤمن يستفيد من الكهرباء، وينتفع بها المسلمون ليقرأوا القرآن والعلم والذكر. ويستفيد المسلم من الطائرات فيذهب بها إلى الحج وزيارة المدينة المنورة، وينتفع بها كذلك في شئون دنياه، وعلى المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب حتى لا يكونوا أذلة وعالة على غيرهم. والحق يسخر علم الكفار للمؤمنين، ولا يثاب الكفار على هذا العمل من الله. ولذلك يقول الحق عن أعمالهم مرة: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] ومرة أخرى يقول الحق: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18] وها هوذا سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 103 - 105] إذن فالإنسان الذي يستر الإيمان بعضه أو كله، هو إنسان حابط العمل، وهو في الآخرة من الخاسرين؛ لأن النجاح في الآخرة نتيجة لعمل الدنيا. ومادام قد عمل لغير الله في الدنيا فلا بد أن يكون من الخاسرين في الآخرة. وقوله الحق: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} يوضح لنا ضرورة ألا نخدع ويغرر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2944 بنا لأن بعضاً من الكافرين يكسب بعضاً من الشهرة والجاه والثروة نتيجة اختراعاتهم؛ فكل ذلك أمور فانية، وهم مستسلمون لسنة الله، فإما أن يفوتهم النعيم وإما أن يفوتوا النعيم. والحساب الختامي يكون في الآخرة، فالكافر وإن أخذ شيئاً من الكسب في ظاهر هذه الحياة الدنيا فهو خاسر في الآخرة. وبعد ذلك ينتقل الحق ليربط لنا كل قضايا الدنيا رباطاً وافياً. فبعد أن يتكلم عن مقومات الحياة وعن مقومات النوع بالإنكاح وغيره، يوضح: كل هذه نعم أعطيتها لكم وأريد أن آخذ بأيديكم بعد أن بينت لكم فضل هذه النعم عليكم؛ لتلتقوا بصاحب كل هذه النعم. هو سبحانه يريد أن يأخذنا من مشاغل الدنيا لنلقى المنعم. وحتى تلقى أيها المسلم الإله المنعم - سبحانه - فلا بد أن تعد نفسك لهذا اللقاء؛ لأنها ليست مسألة طارئة؛ فلا بد من الإعداد الروحي والإعداد البدني والإعداد المكاني والإعداد الزماني. إن الإعداد البدني يكون بالطهارة. والإعداد الزماني هو مواقيت الصلاة. والإعداد المكاني هو وجود مكان طاهر لإقامة الصلاة وإعداد اتجاهي بتحديد وجهة الصلاة إلى القبلة. وهذه كلها مواصفات تهيئ النفس البشرية للوقوف بين يدي من أنعم على الإنسان بكل النعم. ولذلك نقول: إن الصلاة إعلان استدامة الولاء الإيماني للخالق الممد المنعم؛ فهو الذي خلق من عدم وأمد من عدم. وقد فرض الحق سبحانه وتعالى الصلاة خمس مرات في اليوم؛ ليقطع على الإنسان سبيل الغفلة عنه. وإذا ما أراد الإنسان أن يلقى الله في الأوقات التي بين الصلوات؛ وأراد أن يعلن استدامة الإيمان وهو يقوم بأي عمل غير الصلاة فليذكر الله؛ لأننا نعرف القاعدة الشرعية القائلة: [ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب] . مثال ذلك أن الإنسان حين يصلي فهو يحتاج إلى قوة. والقوة تتولد في الجسم نتيجة تناول الطعام. إذن عملية صناعة الطعام أمر واجب وكل ما يترتب على ذلك عملية واجبة. ولذلك عندما يأتي واحد ويقول: أريد أن أنقطع للعبادة وأعتزل حركة الحياة. لنقل له: افعل ذلك بشرط واحد هو ألا تنتفع بحركة متحرك واحد في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2945 الحياة، ولا تتناول أي طعام، ذلك أن الرغيف الذي يقدمه لك إنسان هو من عمل بشر كثيرين لم ينقطعوا عن الحياة. ولنقل أيضاً: لماذا ترتدي هذا الجلباب؟ . إنه نتيجة حركة حياة بشر آخرين، فهناك من زرع القطن وآخر حلج هذا القطن وثالث حوله إلى غزل ورابع نسجه وخامس قام بتفصيل هذا الجلباب. ولتنظر إلى ما خَلْف كل واحد من آلات. وإياك أن تنتفع بحركة واحد مشغول بالأسباب مادمت قد قررت الانقطاع عن حركة الحياة. إن الشغل بالأسباب عبادة؛ لأن العبادة لا تتم إلا به. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولذلك فَتَعَلُّم المهارات المفيدة للحياة هو فرض كفاية؛ والفرض الواجب على الإنسان: احد اثنين: إما فرض عين وهو الأمر المكلف به الفرد ولابد أن يؤديه ولا يجوز أن يؤديه أحدٌ نيابة عنه؛ كالصلاة، وإنا فرض كفاية: وهو ما لا يتم الواجب إلا به لذلك كان واجباً، فكل منا يريد الطعام. لذلك لا بد من تقسيم العمل، فهذا يزرع وهذا يصنع، فلا بد من زراعة القمح ولا بد من إقامة المطاحن ولا بد من إقامة الأفران. ولا بد من مهندسين يصممون هذه الآلات. وكل ذلك أمور تسهل للإنسان أن يمتلك القوة لأداء الصلاة؛ وأن يقف بين يدي الحق ليؤدي الصلاة. إذن فكل ذلك أمر واجب، وهو فرض كفاية. أي أنه فرض إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به بعضنا يكون الإثم على الجميع. ومثال آخر هو الصلاة على الميت هي فرض كفاية، فمن يصلي على الميت فهو يؤدي عنا، وإن لم يصل أحد على الميت يكون الإثم على كل مسلم، هكذا تتسع رقعة الإثم. وكل الأعمال التي لا يتم الواجب إلا لها فهي واجب، ولذلك فهي فرض كفاية، إن قام به البعض سقط الطلب عن الباقين، وإن لم يقم به البعض فالإثم على الجميع. وما موقف ولي الأمر في هذا؟ . على ولي الأمر أن يفرض القيام بفرض الكفاية على أحد الناس، وإلا تعطلت الواجبات التي نقول عنها: إنها واجبات دينية. فحين يذهب المسلم إلى السوق فلا يجد خبزاً؛ يضعف ولا يملك الفكاك من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2946 المجاعة؛ ولن يقدر على الصلاة أو العمل لينتج أو يجد ادخاراً يكفيه أن يحج إذن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما حثنا على أداء الصلاة في يوم الجمعة يقول: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] هو سبحانه يخرجنا من العمل إلى الصلاة، ولم يخرجنا إلى الصلاة من فراغ، لنلتفت إلى دقة الأداء القرآني حين يقول الحق: {وَذَرُواْ البيع} وحين يذر الإنسان البيع، فهو يذر الشراء من باب أولى؛ لأن البيع والشراء وجهان لعملية واحدة. والخلاف فقط أن المشتري قد يشتري السلعة وهو كاره لأن يشتري؛ لأنه يستهلك نقوده فيما يشتريه، أما البائع فيريد أن يحصل على ثمن البيع فوراً، وغالبا ما يحصل على ربح من وراء ذلك، وتلك هي قمة الكسب. فكسب الزارع - على سبيل المثال - يأتيه بعد شهور من الزراعة. وكسب الموظف يأتيه أول الشهر. لكن البائع يحصل على الكسسب فوراً. ولذلك يأمرنا الحق أن نذر البيع إذا سمعنا نداء الصلاة يوم الجمعة، وماذا بعد انتهاء الصلاة؟ . ها هوذا الحق يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] إذن فلا يقولن أحد أنا منقطع طوال حياتي للصلاة. فلن يستطيع أحد أن يذهب إلى الصلاة ما لم يكن يملك مقومات حياته. ومقومات الحياة تقتضي أن يضرب الإنسان في الأرض. ولا بد أن يبتغي الإنسان من فضل الله. إذن، فالسعي في الأرض هو عبادة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ويريد الحق سبحانه وتعالى ألا يعزل قضية تتعلق بمقومات الحياة طعاماً وإنكاحاً عن الصلاة. فيأتي الحق سبحانه وتعالى بشروط الوضوء استعداداً للصلاة بعد أن يتحدث عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2947 أحكام تحليل الأطعمة وتحريم بعضها، وبعض من أحكام النكاح، وذلك لنعرف أن مسئوليات الإيمان كلها مترابطة، فلا يصح أن نعزل عملاً ونقول: هذا عمل تعبدي وذاك عمل غير تعبدي. والمؤلفون عندما يضعون الكتب في الفقه ويخصصون أقساماً في هذه الكتب للعبادات وأقساماً للمعاملات، فهذا التقسيم تقسيم تصنيفي تأليفي، لكن كل ما يطلبه الكون لينصلح فهو عبادة لخالق هذا الكون، بدليل أنه قال: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} وهذا أمر. ويتلوه أمر آخر: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} . إن الإنسان لا ينفذ أمراً ويهمل أمراً آخر، ولكن عليه بمقتضى الإيمان أن ينفذ الأمرين معاً، فإن تأخر الإنسان في أي من الأمرين فهو مذنب؛ لذلك يخبرنا سبحانه - من بعد الحديث عن النعم التي أنعم بها علينا - بما أحل لنا من بهيمة الأنعام، وبما قص علينا من الزواج من المحصنات؛ ها هوذا يدخلنا إلى رحابه بالاستعداد للصلاة لأنه واهب كل النعم. ويأمرنا بالاستعداد للصلاة وأن يعد كل واحد منا نفسه لها. وهذا الإعداد يؤهل المسلم ليلقى الحق فقال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2948 سبحانه يأمرنا بوضوح محدد: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فلا بد لكم من تنفيذ عملية الوضوء. وتتعرض الآية إلى الأركان الأساسية في الوضوء. وقد يلتبس الأمر على بعض الناس ولا يستطيع أن يميز بين سنن الوضوء وأركان الوضوء؛ لأن السنن تقتضي أن يغسل الإنسان يديه ثم يتمضمض، ثم يستنشق الماء وهكذا. هذه هي السنن التي تمتزج بالأركان الأساسية للوضوء. ويبدأ الحق أركان الوضوء الأساسية بقوله: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} والغسل يتطلب إسالة الماء على العضو وأن يقطر منه الماء بعد ذلك. والمسح هو اللمس بالماء ليصيب العضو ولا يتقطر منه الماء؛ إنه مجرد بلولة بالماء. والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في هذه الآية عن الوضوء، تكلم عن أشياء تُغسل وعن شيء يُمسح. فالأمر بالغسل يشمل الوجه واليدين إلى المرافق والرجلين إلى الكعبين. والأمر بالمسح يشمل بعض الرأس. والغسل قد يكفي مرة أو اثنتين أو ثلاثا ليتأكد الإنسان تماما من الغسل، ولكن إذا كانت المياه قليلة فيكفي أن يغسل الأجزاء المطلوبة مرة وأن يتأكد أنه قد غسل المساحات المطلوبة. إن الزيادة على المرة الواحدة إلا ثلاث مرات أمر مسنون لا واجب وغسل الوجه معروف تماما للجميع، فالوجه هو ما به المواجهة. والمواجهة تكون من منبت الشعر إلى الذقن، وتحت منتهى لحييه وهما العظمان اللذان تنبت عليهما الأسنان السفلى، هذا في الطول، وفي العرض يشمل الوجه ما بين شحمتي الأذنين. ولا أحد يختلف في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2949 تحديد الوجه، ولذلك أطلق الحق الوجه ولم يعينه بغاية، فلم يقل: اغسل وجهك من كذا إلى كذا؛ ولكنه أمر بغسل الوجه، فلا اختلاف في مدلول الوجه لدى الجميع. والكل متفق عليه، هذا إذا ما بدأنا بالفروض الأساسية. لكن إذا ما بدأنا بالسنن فنحن نغسل الكفين إلى الرسغين أولا ثم نتمضمض ونستنشق. وبعض العارفين بالله يقول عن هذه المقدمات التي هي من السنن: إنها لم تأت اعتباطا؛ لأن تعريف الماء هو: السائل الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، وإن تغير أي وصف من هذه الأوصاف يكون السائل قد خرج عن المائية. فساعة تأخذ الماء بيديك ستطمئن على لون الماء، وتعرف أنه لا لون له، وعندما تتمضمض فأنت تطمئن إلى أنه لا طعم له؛ وعندما تستنشق فأنت تطمئن على أن الماء لا رائحة له، وبذلك تطمئن إلى أن الماء الذي تستعمله في الوضوء يكون قد استوفى الأوصاف قبل أن تبدأ في عمل المطلوب من أركان الوضوء التي يطلبها الله، والسنة تقدمت هنا على الأركان لحكمة هي أن توفر للإنسان الثقة في الماء الذي يتوضأ منه. وبعد ذلك يغسل الإنسان الوجه من منابت شعر الرأس وتحت منتهى لحييه وذلك طولا وما بين شحمتي الأذنين عرضًا. وبعد غسل الوجه قال الحق: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} وميز الحق هنا الأيدي بتحديد المساحة المطلوب غسلها بأنها إلى المرافق، أي أنه زاد غاية لم توجد في الوجه، ولكن جاء الأمر بغسل اليدين إلى المرافق؛ لأن اليد تطلق في اللغة ويراد بها الكف، مثال ذلك في حكم الحق على السارق والسارقة: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وتطلق اليد أيضا ويراد بها الكف والساعد إلى المرفق. وتطلق اليد أيضا ويراد بها إلى الكتف. فلليد ثلاث إطلاقات. ولو أن الحق قد أمر بغسل اليد ولم يحدد الغسل ب «إلى المرافق» لغسل البعض كفيه فقط، وغسل البعض يديه إلى المرافق، ولغسل البعض يديه إلى الكتفين؛ ولأن الحق يريد غسل اليد على وجه واحد محدد؛ لذلك قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} . إذن فساعة يريد الحق شيئا محددا، فهو يأتي بالأسلوب الذي يحدده تحديدا يقطع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2950 الاجتهاد في هذا الشيء. وكلمة «إلى» تحدد لنا الغاية، كما أن «مِن» تحدد الابتداء، ولكن هل تدخل الغاية هنا أم لا؟ هل تدخل المرافق في الغسل أم لا؟ إن «إلى» قد تدخل الغاية ومرة أخرى لا تدخل الغاية. فمثال إدخالها الغاية قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] هل أسرى الحق برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المسجد الأقصى ولم يدخله؟ لا أحد يعقل ذلك. إن «إلى» هنا تقتضي أن تدخل الغاية؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان قد ذهب إلى المسجد الأقصى بمراد الإسراء إليه والدخول والصلاة فيه. ويقول سبحانه: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] فهل يدخل الليل في الصيام؟ لا، لأننا لو أدخلنا الليل في الصوم لصار في الصيام وصالٌ أي نصل الليل بالنهار صائمين. إذن فمع «إلى» تجد الغاية تدخل مرة، وتجدها لا تدخل مرة أخرى. واختلف بعض العلماء حول المرفق هل يدخل في الغسل أو لا؟ وصار في عموم الاتفاق أن يدخل المرفق في الغسل احتياطيا؛ لأن أحداً لا يستطيع تحديد المرفق من أين وإلى أين. ونعرف أن هناك احتياطات للتعقل، فمرة نحتاط بالاتساع ومرة نحتاط بالتضييق. مثال ذلك عندما نصلي في البيت الحرام. ونحن نعرف أن الكعبة بناء واضح الجدران، وبجانب جدار من جدران الكعبة يوجد الحطيم وهو حجر إسماعيل وهو جزء من الكعبة يحيطه قوس. وعندما يصلي إنسان حول الكعبة، هل يتجه إلى الحطيم أم إلى بناء الكعبة؛ لأنه مقطوع بكعبيته، والاحتياط هنا احتياط بالنقص، فنتوجه إلى الكعبة وهي البناء العالي فقط، ولكن عند الطواف. فإننا نطوف حول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2951 الكعبة والحطيم، أي أن الاحتياط هنا يكون بالزيادة؛ لأننا إذا ما طفنا حتى من وراء المسجد فهو طواف حول البيت الحرام. إذن فالاحتياط يكون مرة بالنقص ومرة يكون بالزيادة. وفي مجال الوضوء يكون غسل المرافق هو احتياط بالزيادة؛ ذلك أن «إلى» تكون الغاية بها مرة داخلة، ومرة تكون الغاية بها غير داخلة. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} الأسلوب هنا يختلف؛ فالمطلوب هو المسح. كان المطلوب أولاً هو الغسل للوجه على اطلاقه؛ لأنه لا خلاف على الوجه، ثم غسل اليدين إلى المرافق، وتم تحديد الغاية لأن الحق يريد الغسل لليدين على لون يقطع الجدل والاجتهاد فيه. ولو قال الحق: «امسحوا رءوسكم» مثلما قال: «اغسلوا وجوهكم» لما كان هناك خلاف. لكن لو قال: «امسحوا بعض رؤوسكم» فهل يوجد خلاف؟ نعم فذلك البعض لم يحدد. ولو قال: «امسحوا ربع رءوسكم» فهل يوجد خلاف؟ نعم قد يوجد خلاف لأن تحديد الربع عسير وشاق. لماذا إذن اختار الحق هنا هذا الأسلوب {امسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} مع أن في الآية أساليب كثيرة، منها أسلوب مجرد عن الغاية، وأسلوب موجود به الغاية، وهذا الأسلوب لا هو مجرد ولا هو موجود به الغاية؟ وقال الحق: {امسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} ولنا أن نبحث عن كيفية استعمال حرف (الباء) التي تسبق «رءوسكم» . إن «الباء» في اللغة تأتي بمعان كثيرة. قال ابن مالك في الألفية: بالباء استعن وعد عوض الصق ... ومثل «مع» و «من» و «عن» بها انطق ومقصود بها أن تعطي الحرية للمشرع؛ لأن الباء تأتي لمعان كثيرة، للاستعانة مثل: كتبت بالقلم، ولتعدية الفعل اللازم نحو: ذهبت بالمريض إلى الطبيب، وللتعويض مثل: اشتريت القلم بعشرين جنيها، والالتصاق نحو: مررت بخالد، وتأتي بمعنى «مع» مثل: بعتك البيت بأثاثه أي مع أثاثه، وبمعنى «من» مثل: شرب بماء النيل أي من ماء النيل، وبمعنى «عن» مثل قوله تعالى {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، وتأتي أيضا للظرفية نحو: ذهبت إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2952 فلان بالليل أي في الليل، وتكون السببية نحو: باجتهاد محمد منح الجائزة أي بسبب اجتهاده، إلى غير ذلك من المصاحبة نحو: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي سبح مصاحبا حمد ربك. إن الذي يقول: امسحوا بعض رءوسكم ولو شعرة، فهذا أمر يصلح ويكفي وتسعفه الباء لغة، والمسح يقتضي الإلصاق، والآلة الماسحة هي اليد. وهناك من يقول: نأخذ على قدر الأداة الماسحة وهي اليد أي مسح مقدار ربع الرأس. إذن كل حكم من هذه الأحكام يصلح لتمام تنفيذ حكم مسح الرأس، ولو أن الله يريدها على لون واحد لأوضح ما أراد، فإن أراد كل الرأس لقال: «امسحوا رءوسكم» كما قال: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} ، وإن كان يريد غاية محددة، لحدد كما حدد غسل اليدين إلى المرفقين. ومادام سبحانه قد جاء بالباء، والباء في اللغة تحتمل معاني كثيرة؛ لذلك فمن ذهب إلى واحدة منها تكفي، لأن أي غاية محتملة بالباء أمر صحيح. والأمر هنا أن يتفهم كل منفذ لحكم محتمل ألا يُخَطِّئَ الحكم الآخر. بل عليه أن يقول: هذا هو مقدار فهمي لحكم الله. والله ترك لنا أن نفهم بمدلول الباء كما أرادها في اللغة. وقد خلقك الحق أيها الإنسان مقهورا لأشياء لا قدرة لك فيها؛ كحركة الجوارح، وكالأشياء التي تصيب الإنسان كالموت. إن هناك أشياء أنت مخير فيها، ولذلك كان تكليف الحق لك مبنيا على هذا؛ ففي أشياء يقول لك: «افعل كذا» أو «لا تفعل كذا» وفي أشياء أخرى يترك لك حرية التصرف في أدائها. وذلك حتى يتسق التكليف مع طبيعة التكوين الإنساني. فلم يَصُب الله الإنسان في قالب حديدي. ولنا في سلوك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القدوة الحسنة؛ هذا الرسول الذي أوكل إليه الحق إيضاح كل ما غمض من أمور الدين؛ فقال له الحق: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] وحينما كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع المؤمنين في غزوة الأحزاب التي قال عنها الحق: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2953 {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 11] هذه المعركة كانت قاسية، حرك الحق فيها الريح وتفرق فيها أعداء الإسلام، وصرف الحق الأحزاب ورجع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة. وكان من المفروض أن يرتاح المؤمنون المقاتلون. لكن قبل أن يخلعوا ملابس الحرب جاء جبريل إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: أَوَ قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم: فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عَزَّ وَجَلَّ يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. ف (أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مؤذنا فأذن في الناس: «لا يصلين أحدٌ العصرَ إلا في بني قُريظة فأدرك بَعْضِهُّم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي العصرَ حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يُردْ منا ذلك فذُكر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يُعَنِّف أحدًا منهم» . هي مسألة كبرى إذن. والتزاما بأمر النبوة خرج الصحابة إلى مواقع بني قريظة. وكادت الشمس تغرب وهم في الطريق؛ وانقسموا إلى قسمين؛ قسم قال: ستغيب الشمس ولم نصل العصر فلنصله قبل أن تغيب الشمس. وقال القسم الثاني: لقد أمرنا النبي ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة، ولن نصليه إلا هناك وإن غابت الشمس. وصلى القسم الأول ولم يصل القسم الثاني. وعندما ذهبوا إلى المشرع وهو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذكروا له الأمر لم يعب على أي جانب منهم شيئا، وأقر هذا وأقر ذاك. وتلك فطنة النبوة، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أن كل حدث من الأحداث يتطلب زمانا ويتطلب مكانا، والذين صلوا نظروا إلى عنصرية الزمن، وخافوا أن تغيب الشمس قبل ذلك. والذين لم يصلوا نظروا إلى عنصرية المكان فلم يصلوا العصر إلا في مواقع بني قريظة. وأقر رسول الله الأمرين معا. إن هذا يدلنا على أن هناك أشياء يتركها الحق قصدا دون تحديد قاطع لأنه يحبها على أي لون، مثال ذلك أن فعل من يمسح ربع رأسه في الوضوء جائز، وفعل من يمسح رأسه كلها جائز، وجاء الحق بالباء الصالحة لأي وجه من وجوه مسح الرأس، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2954 وكذلك شأن الخلافات في الأمور الاجتهادية. وإذا كانت القاعدة الشرعية تقول: «لا اجتهاد مع النص» فهذا لا يكون إلا مع النص الذي لا يحتمل الاجتهاد. وليس كل التشريع هكذا؛ لأنه سبحانه أوضح ما لا يحتمل الاجتهاد، وأوضح ما يحتمل الاجتهاد؛ وحينما كلف الله عبده الإنسان بتكليفات، إنما كلفه بما يتناسب وتكوينه، وكما أن تكوين الإنسان فيه أشياء هو مقهور عليها. فهناك الأحكام التي لا اختيار له فيها، وهناك أمور اختيارية، وما وصل إليه المجتهد هو حق وصواب يحتمل الخطأ، وما وصل إليه غيره خطأ يحتمل الحق والصواب. وكل ما وصل إليه طرف من الاجتهاد حق لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صوّب من صلى العصر قبل أن يصل إلى أرض بني قريظة، وصوب كذلك من صلى العصر بعد أن وصل إلى مواقع بني قريظة. فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعتبر فعل كل فريق منهما صوابا. ويقول الحق من بعد الأمر بمسح الرأس: «وأرجلكم» . وكان سياق النص يقتضي كسر اللام في «أرجلكم» ولكن الحق جاء بالأرجل معطوفة على غسل الوجه واليدين. وغير معطوفة على «برءوسكم» وهذا يعني أن الرجلين لا تدخلان في حيز المسح؛ إنما تدخلان في حيز الغسل. ونبه الحق بالحركة الإعرابية على أنها ليست معطوفة على الجزء المصرح بمسحه، ولكنَّها معطوفة على الأعضاء المطلوب غسلها. ولم يأت الحق بالممسوح في جانب والمغسول في جانب ليدل على أن الترتيب في هذه الأركان أمر تعبدي وإلا لجاء بالمغسول معا والممسوح معا، ويحدد الحق أيضا غسل الرجلين إلى الكعبين: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} . والرجل تطلق على القدم، وتطلق على القدم والساق إلى أصل الفخذ. ويريد سبحانه غسل الرجلين محدودا إلى الكعبين. وحتى نعلم أن هذه مسائل تعبدية؛ عرفنا أن اليد تطلق على الكف، ومن أطراف الأصابع إلى الكتف يطلق عليه «يد» أيضا، والمرفق في اليد هو الحد الوسط، و «الكعبين» هو الحد الأول في الساق؛ لأن الوسط بعد الساق هو الركبة. إذن. ترتيب المسألة في اليدين كف وساعد وعضد؛ والمرفق في وسط اليد، وفي الرجلين يقف الأمر عند الحد الأول وهو الكعبان. هي - إذن - مسألة تعبدية وليست مسألة قياسية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2955 ويبين الحق لنا أنه إذا أراد أمراً بدقة فهو يحدده بلا تدخل أو خلاف. أما إذا جاء بأمر غير واضح فهو إِذْنٌ منه سبحانه أن نجتهد فيه لنشعر أن لنا بعض الاختيار في بعض ما تعبدنا الله به، وكله داخل في مرادات الله؛ لأن إيراد النص - شاملا - لكل المفهومات هو إِذْنٌ بهذا المفهوم وإِذْنٌ بذلك المفهوم. {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} . إنّ الوضوء شرع لغير الجنب. أي أنه لمن يُحْدِثُ حدثا أصغر. وهناك فرق بين إخراج ما ينقض الوضوء وهو ما يؤذي، وبين إخراج ما يُمتع، فإنزال المني أو حدوث الجماع يقتضي الطهارة بالاغتسال. ونعلم أن الإنسان حين يستمتع بطعام؛ أو يستمتع برائحة، أو بأي شيء هو محدود بوسيلة الاستمتاع به، أما الاستمتاع بالجماع فلا يعرف أحد بأي عضو أدرك لذته. وهي مسألة معقدة إلى الآن. ولا يعرف أحد كيف تحدث، مما يدل على أن جميع ذرات التكوين الإنساني مشتركة فيها. ومادام الأمر كذلك فالطهور يقتضي أن يغسل الإنسان كل جسمه: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} . وقد يقول قائل: أليست «لامستم النساء» كالجنابة؟ ونقول: إن الذي يجيء هنا هو حكم ثان يوضح لنا ما ينوب عن المياه، لأن الحق يرتب لِعبادة لا تسقط عن المكلف أبداً؛ لذلك لن يكلفه بشيء قد لا يجده، فقد لا يجد الإنسان المياه، وعليه إذن بالتيمم؛ لأن الصلاة عبادة لا تسقط أبدا عن المكلف حتى في حالة مرضه الذي لا يستطيع أن يحرك معه أي عضو من جسمه، هنا يسمح سبحانه للمريض أن يصلي جالسا، أو مستلقيا أو يصلي بالإيماء برأسه، أو يصلِّي بأهداب عينيه، وحتى مريض الشلل عليه إجراء خواطر الصلاة وأركانها على قلبه؛ لأن فرض الصلاة عبادة لا تسقط أبدا عن الإنسان مادام فيه عقل. إننا نعرف أن الصلاة هي الركن الوحيد من أركان الإسلام الذي يتطلب الاستدامة، فيكفي المرء أن يقول الشهادة مرة واحدة في العمر، ويسقط الصوم عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2956 الإنسان إن كان مريضا، ويطعم غيره، أو يؤديه في أوقات أخرى إن كان مريضا مرضا مؤقتا أو على سفر. وقد لا يؤدي الإنسان الزكاة لأنه فقير، وكذلك الحج لا يجب على من لم يملك الاستطاعة من مال أو عافية، ولا تبقى من أركان الإسلام غير الصلاة فإنها لا تسقط أبداً. إن عظمة الصلاة توضحها كيفية تشريعها؛ لأن تشريعات أركان الإسلام كانت بالوحي، أما تشريع الصلاة فقد جاء وحده بالمباشرة ولم يقل الله لجبريل: «قل للنبي التكليف بالصلاة» . بل استدعى الله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليه وكلفه بالصلاة. وقلنا من قبل - ولله المثل الأعلى - حين يريد الإنسان أن يقدم أمراً لمرءوسيه، فالموضوع قد يأخذ دوره في الأوراق اليومية التي تنزل منه إليهم. أما إذا كان الموضوع مُهمَّا فهو يتصل بالقائد التنفيذي للمرءوسين ويوضح مدى أهمية الموضوع، أما إذا كان الموضوع غاية في الأهمية فالرئيس يستدعي القائد التنفيذي للمرءوسين ويبلغه أهمية الموضوع. إذن فكيفية إنزال التكليف تكون على قدر أهمية الموضوعات فما بالنا - إذن - بركن استدعى الله فيه محمداً إلى السماء ليكلفه به؟ وقد رأينا أن بعض التكليفات تجيء إلى رسول الله بالإلهام أن يفعله، وبعضها جاء بالوحي من جبريل أن يفعله، أما الصلاة فقد فرضها الله عندما استدعى محمداً إلى السماء إلى الرفيق الأعلى وفرض الله عليه الصلاة بالمباشرة، وعلى أمة محمد أن تؤدي هذا الفرض خمس مرات في اليوم، ولا تسقط أبداً. ولذلك جعلها الحق فارقة بين المسلم والكافر، إن المسلم ساعة أذان الصلاة يقوم إلى الصلاة، وهي استدعاء من الخالق لمن خلقه ليحضر في حضرته كل يوم خمس مرات. وأنت حر بعد ذلك ألا تبرح لقاء ربك؛ ولا يمل الله حتى يمل العبد. وإياكم أن تجعلوا للزمان مع الله تخطيطاً؛ فتقولوا: هذا للعمل والضرب في الأرض، وذلك لذكر الله؛ فمع ضربكم في الأرض لتبتغوا من فضل الله، إياكم أن تنسوا الله؛ لأن ذكر الله أمر دائم في كل حركة يقصدها الإنسان لعمارة هذا الوجود، وقد أراد الحق منا بوجودنا أن نعبده وحده لا شريك له: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2957 {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61] إذن فكل ما يؤدي إلى عمارة الكون والارتقاء به هو أمر عبادي، والحق سبحانه وتعالى يربط «العبادة» الاصطلاحية في الفقه بحركة الحياة كلها. ونجد مثالا لذلك حيما تكلمنا في سورة البقرة عن الأسرة كما جاء في قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 236 - 237] ذلك أمر الدنيا ومصالح الأسرة، وهو كلام في شئون تنظيم الأسرة، ثم ينقلنا من بعد الكلام في تنظيم الأسرة إلى أمر نقول عنه إنه العبادة وهو قوله الحق: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238 - 239] ثم يعود بعد ذلك إلى شئون تنظيم الأسرة فيقول سبحانه: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2958 إذن فقد أخرجنا من كلام في نظام الأسرة إلى الصلاة، ثم عاد بنا مرة أخرى إلى نظام الأسرة حتى تتداخل كل الأمور لتكون عبادة متماسكة متحدة فلا تقول: «هذه عبادة وتلك ليست عبادة» ، وأيضا؛ لأن الكلام في الصلاة وسط كلامه عن أمور الأسرة ينبهنا: إذا ذهبت إلى الصلاة فربما هدَّأت الصلاة من شِرة غضبك وحماسك ونزلت عليك سكينة تعينك ألا تنسى الفضل بينك وبين زوجك. في هذه السورة - سورة المائدة - صنع الحق معنا مثلما صنع في سورة البقرة؛ فبعد أن تكلم في أشياء وقص علينا أمر النعمة، ها هوذا يدخل بنا إلى رحاب المنعم، إلا إنه سبحانه لم يدخلنا على المنعم إلا بتهيئة طهورية. طهارة أبعاض؛ كالوضوء بأن نغسل الوجه ونغسل اليدين إلى المرفقين ونمسح على الرأس ونغسل الرجلين إلى الكعبين. وأحكم في أشياء وترك للاجتهاد مدخلا في أشياء، أحكمها في ثلاثة؛ غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، وغسل الرجلين إلى الكعبين، لكنه حينما تكلم عن الرءوس لم يقل: «امسحوا رءوسكم» ولا: «امسحوا ربع رءوسكم» ، ولا «امسحوا بعض رءوسكم» مما يدل على أن للمجتهد أن يفهم في «الباء» ما تُتيحهُ اللغة من «الباء» . إذن أعطانا الحق أشياء محكمة وأشياء للاجتهاد. وبعد طهارة الأبعاض يذكرنا بطهارة البدن من الجنابة. ونلتفت إلى الكلام الذي تقدم حيث أورد الحق فيه ما أحل لنا من بهيمة الأنعام من طعام وشراب، ثم تكلم في النكاح حتى أنه وسع لنا دائرة الاستمتاع ودائرة الإنسال بأن أباح لنا أن نتزوج الكتابيات، وفي هذا توسيع لرقعة الزواج فلم يقصر الزواج على المسلمات. ولما كان الطعام الذي أحله الله ينشأ عنه ما يخرج منا من بول وغائط، والنكاح الذي أحله الله يغير كيماوية الجسد؛ لذلك جعل الله الوضوء لشيء، والجنابة لها شيء آخر؛ فعن الطعام ينشأ الأخبثان، وعن الجماع أو خروج المني ينشأ الحدث الأكبر؛ فكان ولا بد بعد أن يتكلم عن طهارة الأبعاض في الحدث الأصغر أن يتكلم عن التطهير الكلي في الحدث الأكبر؛ فقال: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} . الله سبحانه وتعالى يريد لنا أن نستديم اتصالاتنا به ولم يشأ أن يجعل الوسيلة للصلاة بأمر الماء فقط؛ لأننا قد نفقد الماء وقد يوجد الماء ولا نقدر على استعماله؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2959 فلم يشأ الحق أن يقطع الصلة بأن يجعل الوسيلة الوحيدة للتطهر هي الماء، فأوجد وسيلة أخرى. فإن فقدت الماء أيها الإنسان فلا بد ان تدخل إلى لقاء الله بينة تطهير آخر وهو التيمم. هذا أمر لا يفقده من عاش على الأرض. إذن فعندنا تَطَهُّر بالماء وعندنا تَطَهُّر بالتراب. لذلك يقول سبحانه: {وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} فإن كان الإنسان مريضاً لا يقدر على استعمال الماء، أو كان على سفر ولا يجد الماء؛ أو جاء أحد من الغائط، أي من قضاء الحاجة في مكان غويط وهو الوطئ المنخفض من الأرض، وكانت العرب قديماً تفعل ذلك حتى لا يراهم أحد ويكونوا في ستر، رجالاً أو نساءً، وحتى بعد ملامسة النساء. إن لم يجد الإنسان بعدها ماء فالتيمم هو البديل، وإياكم أن تقولوا إن الماء هو الوسيلة الوحيدة للتطهر، فقد جعل للماء أيضاً خليفة وهو التراب. والتراب أوسع دائرة من الماء. فكأنه سبحانه وتعالى يريد أن يديم علينا نعمة البقاء به. ولكي يديم علينا نعمة اللقاء به جعل للماء - الذي يكون محصوراً - خليفة وهو التراب وهو غير محصور. ولا نريد أن ندخل في متاهات الخلاف عن الطهارة من ملامسة النساء، بين اللمس والملامسة؛ فاللمس لا يقتضي المفاعلة، أما الملامسة فتقتضي المفاعلة. واقتضاء المفاعلة ينقل المسألة من مجرد اللمس إلى معنى آخر هو الجماع. وفي حالة الجنابة وعدم وجود الماء فالتيمم هو البديل {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً} و «الصعيد» هو ما صعد على وجه الأرض من جنس الأرض بحيث لا تدخله صناعة الإنسان كالتراب والحجر، لكن الطوب الأحمر (الآجُرّ) الذي نصنعه نحن فليس من الصعيد الصالح للتيمم؛ لأن صنعة الإنسان قد دخلته. والأركان المفروضة في طهارة الأبعاض أربعة، أما طهارة الجسم فهي طهارة واحدة تشمل كل الجسم. وفي حالة التيمم جعل الحق الطهارة استعداداً للصلاة عوضاً عن الوضوء بمسح الوجه واليدين، وكذلك في الطهارة من الجنابة. ونلحظ أنه سبحانه جاء بالمسح في الوضوء على بعض من الرأس كإيناس متقدم، وذلك حتى يكون لنا إلف بالمسح حينما نتيمم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2960 {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} وجعل الحق الطهارة بالماء أو التراب إزالة للحرج؛ فالإنسان الذي لن يجد ماء سيقع في الحرج بالتأكيد؛ لأنه يريد أن يصلي ولا يجد وسيلة للطهارة. وإذا كان عنده القليل من الماء ليشرب فهل يتوضأ أو يستديم الحياة ويُبقي على نفسه بشرب الماء؟ . ولا يريد الله أن يُعْنت خلقه ولا أن يوقعهم في الحرج، بل خفف عليهم وجعل عنصر التراب يكفي كبديل للماء. {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} . وإياك أن تفهم أن الطهارة هي للتنظيف؛ لأن معنى الطهارة لو اقتصر على التنظيف لكانت الطهارة بالماء فقط، فلماذا إذن نمسح وجوهنا بالتراب؟ إن هذا يوضح أن الطهارة غير النظافة، فلو قال قائل: سأنظف نفسي ب «الكولونيا» . نقول له: لا. ليس هذا هو المطلوب. والله لا يطلب نظافة بهذا المعنى، ولكن يطلب التطهير. والتطهير يكون بشرط من تدخل عليه - وهو الله سبحانه - وقد وضع الحق لذلك أمرين: إما بالماء وإما بالتيمم بالتراب. فالطهارة تجعل المرء صالحاً ليستقبل ربه على ضوء ما شرع به. والذي يضع الشرط لذلك هو الله وليس أنت أيها العبد. وسبحانه قد أوضح أو العبد يكون طاهراً بالماء أو بالتراب، وبهذه الطهارة يكون صالحاً لاستقبال الله له. وأعاد الله الإنسان في قربه منه إلى أصل إيجاده وهو الماء والتراب. {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} والإنسان مغمور بنعم كثيرة. فهب أن إنساناً غاب عنه أبوه لكن خير الأب يصله كل يوم من مال وطعام وشراب ووسائل ترفيه، وبذلك يأخذ الإنسان نعمة الغاية من وجود أب له. ومع ذلك يشتاق هذا الإنسان المستمتع بنعمة والده الغائب إلى أن يكون مع والده، هذا هو تمام النعمة بين الأب والابن وكلاهما مخلوق لله، فما بالنا بتمام النعمة من الخالق لعباده؟ إن العبد الصالح يتمنى أن يرى مَن أنعم عليه؛ لذلك وضع الحق شرط الطهارة للقائه. وعندما يحضر الإنسان لحضرة ربه بالصلاة ويكبر: «الله أكبر» فهو منذ تلك اللحظة يوجد في حضرة الله. وإذا كانت الفيوضات تتجلى على الإنسان من نعمة مخلوق مثله سواء أكان أخاً أم أباً أم قريباً وهي نعمة مادية يراها الإنسان سواء أكانت طعاماً أم شراباً أم لباساً. فما بالنا بفيوضات المنعم الخالق الذي أنعم على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2961 الإنسان، إنها فيوضات من غيب؛ فكرمه لك غيب كالاعتدال في المزاج والعافية ورضا النفس وسمو الفكر. إذن فقوله الحق: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي أنكم عشتم قبل ذلك مع نعمة المنعم، وسبحانه يدعوكم إلى لقاء المنعم، ذلك تمام النعمة. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - إننا نجد الابن ينظر إلى هدايا الأب الغائب ويقول: أنا لا أريد هذه الأشياء ولكني أريد أبي. إن تمام النعمة - في المستوى البشري - أن يرى الإنسانُ المنعِمَ عليه وهو إنسان مثله، أما تمام النعمة على المخلوق من الخالق فيستدعي أن يتطهر الإنسان بما حدده له الله وأن يصلي فيلقى الله. {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ساعة نسمع: أنا فعلت ذلك وذلك لعلك تشكر، فهذا يعني أنك إن فعلت ما آمرك به فستجد أمراً عظيماً. والأمر الطبيعي يقتضي أن تَشْكُر عليه كأن ما فعله الله للإنسان يوجب عند الإنسان نعمة أخرى لا يمكن أن يستقبلها إلا بالشكر، مثلما قال الله: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] إنّ السمع والأبصار والأفئدة هي منافذ الإدراك. ومادام الحق قد خلقنا ولا نعلم شيئاً، وجعل لنا أدوات الإدراك. وأوضح: أنا خلقت لك هذه الأدوات للإدراك لعلك تشكر، أي تلمح آثارها في نفسك مما يربي عندك ملكة الإدراك للمدركات. ويقول الحق بعد ذلك: {واذكروا نِعْمَةَ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2962 وللإنسان أن يسأل: وما هو الذكر؟ . الذكر هو حفظ الشيء أو استحضاره، فإذا كان حفظ الشيء فهو حفظ لذاته، لكن الاستحضار يكون لمعنى الشيء. إذن فهناك فرق بين حفظ الشيء واستحضار الشيء، هذا هو معنى الذكر. وقد يكون الذكر بمعنى القول؛ لأنك لا تقول الشيء إلا بعد أن تستحضره. ولذلك نجد في تكوين الجهاز العصبي الأعلى ذاكرة، وحافظة، ومخيلة. ومن عجيب أمر التكوين الخلقي أن تمر أحداث على الإنسان في زمن مضى ولا يذكرها الإنسان لمدة طويلة تصل إلى سنوات، ثم يأتي للإننسان ظرف من تداعي المعاني فيذكر الإنسان هذا الشيء الذي حدث منذ عشرين عاماً. إذن فالشيء الذي أدركه الإنسان منذ عشرين سنة على سبيل المثال لم يذهب، ولو ذهب ما ذكره الإنسان، لكنه غاب فقط عن الذهن عشرين عاماً أو أكثر؛ فلما تداعت المعاني تذكره الإنسان. ومعنى ذلك أن هذا الشيء كان محفوظاً عند الإنسان وإن توارى عنه مدة طويلة. فالذاكرة - إذن - معناها أن يستدعي الإنسان المحفوظ ليصير في بؤرة شعوره. مثال ذلك: حادث وقع بين إنسان وآخر منذ أكثر من عشرين عاماً. ونسي الإنسان هذا الحادث. فلما التقى بصديقه، وجلسا يتذاكران الماضي تذكر الصديق الحادث الذي حدث له منذ أكثر من عشرين عاماً. إذن فالحادثة لم تذهب من الذاكرة، ولكنها محفوظة موجودة في حواشي الشعور البعيدة، وكلما بعد الإنسان في الزمن يبدو وكأنه نسي الحادثة، لكن عندما يأتي تداعي المعاني فالحادثة تأتي في بؤرة الشعور. فإذا ما جاءت في بؤرة الشعور من حواشي الشعور حيث مخزن الحافظة، يتذكرها الإنسان. وهذه هي قوة الخالق جل وعلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2963 وقد يسجل أحدنا على شريط تسجيل بعضاً من الكلام. ومن بعد ذلك يجب أن يسجل كلاماً آخر على الشريط نفسه فيمسح الكلام الذي سجله أولاً، ولكن ذاكرة الإنسان تختلف، فساعة تأتي المسائل في بؤرة شعوره فالإنسان يتذكرها. وإذا ما جاءت مسألة أخرى بعدها فلا بد أن تتزحزح المسألة الأولى من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور؛ لأن بؤرة الشعور لا تستقبل إلا خاطراً واحداً، فإن شغلت بؤرة الشعور بخاطر آخر فهي تحفظ الخاطر الأول في حواشي الحافظة. ولا يمسح خاطر خاطراً آخر. فإن أراد الإنسان أن يستدعي الخاطر القديم، كان ذلك في مقدوره، وهذا هو الفارق بين تسجيل الخالق وتسجيل المخلوق. وبعد ذلك نجد ان التذكر يكون للمعاني، فالذي يخزن في ذاكرة الإنسان ليس أَجْرَاماً، فلو كانت أجراماً لما وسعها المخ. ولهذا فالمعاني لا تتزاحم فيه، بل تتراكم بحيث إذا ما جاء تداعي المعاني فالإنسان يتذكر ما يريد أن يذكره، وذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان المخ من صنع الخالق الأعلى. ومادامت المعاني ليس لها حيز فالإنسان يقدر على حفظها في الذاكرة. الإنسان قد يجلس ليتذكر أسماء الجبال في العالم فيقول: من جبال العالم قمة «إفريست» ، وجبال «الهمالايا» ، وجبل «أحد» وجبل «ثور» . وساعة يتذكر هذه الأسماء فهو يتصور معانيها، فالموجود في ذهن الإنسان معاني هذا الكلمات وليس أجرام هذه الكائنات؛ لذلك فلا تزاحم أبداً في المعاني بل تظل موجودة ومختزنة في الذاكرة وحاشية الشعور. وإياكم أن تفهموا أن إنساناً يملك من الذكاء ما يحفظ به الشيء من مرة واحدة: وآخرَ أقل ذكاء يحفظ بعد قراءة الشيء مرتين، وثالثاً يحفظ عن ثلاث مرات لا، لأن الإنسان يملك ذهناً كآلة التصوير يلتقط من مرة واحدة، لكن لو أخذ الإنسان صورة لمكان وجاء شيء يضبب عدسة الصورة فهو يعيد التصوير، وكذلك الذهن إن أراد الإنسان أن يأخذ لقطة لشيء ما لتستقر في بؤرة الشعور وفي بؤرة الشعر شيء آخر، فالشيء لا يستقر في الذهن، بل لا بد من قراءة مضمون اللقطة مرة ثانية ليؤكد الإنسان المعلومات لتنطبع في بؤرة الشعور. ومثال ذلك الطالب الذي يدخل ساحة المدرسة التي يُعقد بها الامتحان. وقبل أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2964 يدق جرس الامتحان بخمس دقائق يأتي له واحد من زملائه ويقول له: ها ذاكرت الموضوع الفلاني. فيقول الطالب: لا لم استذكره. فيقول الصاحب: هذا الموضوع سيأتي منه سؤال في الامتحان. فيخطف الطالب كتابا ويقرأ فيه هذا الموضوع لمرة واحدة. هذا الطالب في هذه اللحظة لا يتذكر ماذا سيأكل على الغداء هذا اليوم، أو من سيقابل. بل يعرف أنه بصدد أمر فرصته ضيقة، ويركز كل ذهنه ليستقبل ما يقرأه. وفي لحظة واحدة يحفظ هذا الموضوع. وإذا جاء الامتحان ووجد السؤال فهو يجيب عليه بأدق التفاصيل. وقد نجد طالبا آخر جلس لأيام يحاول استذكار هذا الدرس بلا طائل. إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة، شريطة ألا يستقبل الإنسان ما يقرأه أو يسمعه من معلومات والذهن مشغول بأشياء أخرى. والدليل على ذلك: أن الإنسان قد يسمع القصيدة مرة واحدة أو يسمع الخطبة مرة واحدة فيحفظ من القصيدة أكثر من بيت، أو يحفظ من الخطبة أكثر من مقطع؛ لأن ذهن الإنسان في تلك اللحظة كان خياليا فالتقط الأبيات التي حفظها، وكذلك الخطبة، أما بقية أجزاء القصيدة أو الخطبة فقد يكون الذهن شرد إلى أشياء أخرى. ولذلك يحاول الإنسان أن يكرر الاستماع والإصغاء والقراءة أكثر من مرة ليهيئ ويعد بؤرة الشعور، فيحفظ الإنسان ما يريد. إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة، أما الذاكرة فهي تتذكر أي تستحضر المعاني التي قد تختفي في الحافظة، ولا شيء يضيع في الحافظة أبدا، بحيث إذا جاء الاستدعاء طفت المعاني على السطح. كأن انطباعات الإنسان في نعم الله لا تُنسى أبدا. وهي موجودة عند الإنسان، ولكنها تريد من الإنسان أن يستدعيها من الحافظة ويطلبها. ولنر دقة الأداء القرآني: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} سبحانه يقول هنا «نعمة» مع ان نعم الله كثيرة، ولكن الله قد آثر أن يأتي بالمفرد ولم يأت بالجمع. وذلك ليبين للإنسان أن أية نعمة في أية زاوية من حياة الإنسان تستحق أن يذكرها الإنسان؛ فنعم الله كثيرة، ولكن ليتذكر الإنسان ولو نعمة واحدة هي نعمة الإيجاد من عدم، أو نعمة البصر، أو السمع. وكل نعمة من هذه النعم تستحق من الإنسان أن يتذكرها دائما، ولا تطرد نعمة نعمة أخرى، فما بالنا إذا كانت النعم كثيرة؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2965 ولو تمعن الإنسان في كل نعمة لاحتاجت إلى أن يتذكرها دائما، أو أن النعمة اسم للجنس كله؛ لأن المفرد يطلق على كل الجنس، مثل الإنسان فإنها تطلق على كل فرد من أفراده مثل محمد وعلي وخالد. وكلمة «النعمة» قد تُنسب إلى سببها كنعمة سببها مروءة واحد من البشر، وهي محدودة بمقدار الأثر الذي أحدثته. لكن نحن هنا أمام نعمة المسبب وهو الله، ولا بد أن تناسب نعمة الله جلال وجمال عظمته وعطائه. {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ} و «واثق» تقتضي امرين: فالإنسان طرف الاحتياج والفقر والأخذ، والرب صاحب الفضل والعطاء والغنى، إنه هو الربوبية وأنت العبودية، وهو الحق القائل: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] إذن ف «واثقكم» تعني التأكيد من طرفين؛ لأن «واثق» على وزن «فاعَلَ» ، ولا بد في «فاعَلَ» أن تكون من اثنين. ومثال ذلك «شارك» تقولها لاثنين أو أكثر؛ فنقول: «شارك زيد عمراً» ؛ وكذلك «قاتل زيد عمراً» . وحين يقول الحق: إنه «واثق عباده» أي أنه شاركهم في هذا الميثاق وقبله منهم. لكن أي ميثاق هذا؟ ونحن نعرف الميثاق الأول الذي هو ميثاق الذر: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] وهو ميثاق الفطرة قبل أن توجد النفس وشهواتها. وبعد ذلك هناك ميثاق العقل الذي نظر به الإنسان إلى الوجود واستطاع أن يخرج من تلك الرؤية بأن الوجود محكم ومنظم وواسع، ولا بد لهذا الوجود من واجد وهو الله. وبعد ذلك ميثاق الإيمان بالله، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما عرض منهج الإسلام آمن به بعض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2966 الناس، أي أخذ منهم عهداً على أن ينفذوا مطلوبات الله، ألم يأخذ الرسول عهداً في العقبة حين قالوا له: خذ لنفسك ولربّك ما أحببت. فتكلم - رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أُزُرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن أبناء الحرب وأهل الحلقة (السلاح) ورثناها كابرا عن كابر. وحدث هذا - أيضا - عند بيعة الرضوان تخت الشجرة. إذن فمعنى «واثقكم به» إما أن يكون العهد العام الإيماني في عالم الذر، وإما أن يكون العهد الإيماني الذي جاء بواسطة الرسل. {وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وحين يؤمن الإنسان يقول: سمعت وأطعت، وهكذا تنتهي مسألة التعاقد. ويتبع الحق ذلك بقوله: {واتقوا الله إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} . واتقوا أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال من الله وقاية، فالمطلوب منا أن نلتحم بمنهج الله إلتحاما كاملا، وعلينا كذلك أن نجعل بيننا وبين صفات غضب الله وقاية. وعرفنا أن قوله الحق: «اتقوا الله» متساوٍ مع قوله: «اتقوا النار» ، وقد يقول قائل: وهل للنار أوامر ونواه؟ ونقول: أحسن الفهم عن ربك واجعل بينك وبين غضب الله وقاية، فالنار جند من جنود الله. وسبحانه يوضح: اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية؛ لأن الحق له صفات جلال هي الجبروت والانتقام والقهر، وللحق صفات جمال فهو الغفور الرحيم المغني، الحكيم إلى غير ذلك من صفات الجمال، إذن فلنجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية تقينا من جنود صفات الجلال ومنها النار. وقلنا من قبل: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبلغنا أنه في الليلة الأخيرة من رمضان يتجلى الجبار بالمغفرة. والنظرة السطحية تتساءل: ولماذا لم يقل: يتجلى الغفار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2967 بالمغفرة؟ ذلك أن (الجبار) صفة من صفات الجلال التي تقتضي معاقبة المذنب، والذنب متعلق بصفات الجلال لا بصفات الجمال، إذن فالمنطق يقتضي أن يقف المذنب أمام شديد الانتقام؛ لأن المقام يناسب صفات الجلال، ولكن علينا أن نتذكر جيدا أن الله يرخي العِنان للمذنب لعله يتوب، وأن الله يفرح بتوبة عبده وأن رحمته تَغْلب غضبه. ويذيل الحق الآية: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} والتقوى - كما نعلم - لا تنشأ من الأفعال المحسة المدركة فقط، بل تنشأ أيضا في الأحوال الدخيلة المضمرة. ومثال ذلك نية سيئة ونية حسنة. فالحقد، الحسد، التبييت، المكر، كل ذلك صفات سيئة؛ فإياكم أن تقولوا إن التقوى للمدركات فقط؛ بل للمحسات أيضا. وعمل القلوب له دخل في تقوى الله. ومن بعد ذلك يقول الحق: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2968 إنّ الحق - كما علمنا - حين ينادي المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ} إنه سبحانه لم يقتحم على الناس تصرفاتهم الاختيارية لمنهجه، بل يلزم ويأمر من آمن به ويوجب عليه؛ فيوضح: يا من آمنت بي إلها حكيما قادرا خذ منهجي. ولكن الحق يقول: {يا أيها الناس} حين يريد أن يلفت كل الخلق إلى الاعتقاد بوجوده، أما من يؤمن به فهو يدخل في دائرة قوله الحق: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ} وهذا النداء يقتضي بأن يسمع المؤمن التكليف ممن آمن بوجوده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2968 ونعلم أننا جميعا عبيد الله، لكن لسنا جميعا عباد الله. وهناك فرق بين «عبيد» و «عباد» . فالعبيد هم المرغمون على القهر في أي لون من ألوان حياتهم، ولا يستطيعون أن يدخلوا اختيارهم فيه. قد نجد متمرداً يقول: «أنا لا أؤمن بإله» ولكن هل يستطيع أن يتمرد على ما يقضيه الله فيما يجريه الله عليه قهرا؟ فإذا مرض وادعى أنه غير مريض فما الذي يحدث له؟ أيجرؤ واحد من هؤلاء المتمردين على ألا يموت؟!! لا أحد يقدر على ذلك. إذن فكل عبد مقهور لله، وكلنا عبيد الله يستدعينا وقتما يريد ويجري علينا ما يريد بما فوق الاختيارات. أما «العباد» فهم الذين يأتون إلى ما فيه اختيار لهم ويقولون لله: لقد نزعنا من أنفسنا صفة الاختيار هذه ورضينا بما تقوله لنا «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» . إذن فالعبيد مقهورون بما يجريه عليهم الحق بما يريد، والعباد هم الذين يرضون ويكون اختيارهم وفق ما يحبه الله ويرضاه؛ إنهم أسلموا الوجه لله. فهم مقهورون بالاختيار، أمّا العبيد فمقهورون بالإجبار. {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ} . و «قوام» صفة مبالغة والأصل فيها قائم، فإن أكثر القيام نطلق عليه «قوام» . ومثال ذلك رجل لا يحترف النجارة وجاء بقطعة من الخشب وأراد أن يسد بها ثقبا في باب بيته؛ هذا الرجل يقال له: «ناجر» ولا يقال له: «نجار» ، ذلك أن تخصصه في الحياة ليس في النجارة. وكذلك الهاوي الذي يخرج بالسنارة إلى البحر؛ واصطاد سمكتين؛ يقال له: «صائد» لكنه ليس صياداً؛ لأن الصيد ليس حرفته. إن الحق يطلب من كل مؤمن ألا يكون قائما لله فقط، ولكن يطلب من كل مؤمن أن يكون قواما؛ أي مبالغ في القيام بأمر الله. والقيام يقابله القعود. وبعد القعود الاضطجاع وهو وضع الجنب على الأرض ثم الاستلقاء، وبعد ذلك ينام الإنسان. ونحن أمام أكثر من مرحلة: قائم وقاعد ومستلق، ونائم. والنائم ليس عليه تكليف. والمستلقي هو المستريح على ظهره والحق يقول: {فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2969 أي اجعلوا الله دائما على بالكم؛ فالإنسان يملك في حالته الطبيعية نشاطا يمكنه أن يقوم ويقعد؛ فإن قيل: «قال فلان بأمر القوم» أي أنه بذل كل جهد لإدارة أمور الناس، والقيام في حركات الناس أصعب شيء. وسبحانه لا يريد منا أن نكون قائمين فقط؛ بل يريد أن نكون قوامين. ومادمنا قوامين فلن تخلو لحظة من قيامنا أن نكون لله؛ لله توجها. لا نفعا؛ لأن أية حركة من أي عبد لا تفيد الله في شيء؛ فالله خلق خلقه بمجموع صفات الكمال فيه، ولم ينشئ خلقه له صفة جمال أو كمال جديدة. وعندما يؤدي الإنسان أي عمل لله فهو يؤديه طاعة وتقربا لله. وإذا أراد الله من المؤمنين أن يكونوا قوامين لله، عندئذ تكون كل حركات المجتمع الإيماني حركات ربانية متساندة متصاعدة. وإذا كانت حركات المجموع الإيماني متساندة فسوف تكون النتيجة لهذه الحركة سعادة البشرية؛ فالإنسان إذا ما كان قواما فهو قوام لنفسه وللآخرين. والمراد أن نكون مداومين على قيامنا في كل أمر لله. ولا تعتقد أيها المؤمن أنك تعامل خلق الله، إنما تعامل الله الذي شرع لك ليضمن لك ويضمن منك، فأنت إن طولبت بالأمانة، فقد طولب كل الناس بالأمانة فيما هو خاص بك لا بغيرك، وحين ينهاك الله عن الخيانة فقد أمر الحق الناس جميعاً بالانتهاء عن الخيانة لك. إذن إن نظرت إلى تكليفات الله لوجدتها لصالحك أنت فلا يظنن ظان أن الدين إنما جاء ليقف أمام نفسه هو، فالدين وقف أمام النفس لدى الناس جميعاً، فحين يأمرك: ألاّ تمد يدك إلى مال غيرك فأنت واحد من الناس، وفي هذا القول أمر موجه لكل الناس: لا تمدوا أيديكم إلى مال فلان لتسرقوه. فانظر إلى أن الحق حين شرع عليك شرع لك. ولذلك يجب أن يكون كل قيامك لله سبحانه. ولذلك يظهر الحق سبحانه وتعالى في بعض خلقه أشياء وأحداثاً تُفهم الناس أن الذي يعمل لخلق الله مسلوب النعيم، والذي يعمل لله يكون موصول النعيم؛ فنجد الواحد من الناس يقول: «لقد صنعت لفلان كذا وكذا وكذا وأنكرني» . نقول له: أنت تستحق لأنك صنعت له، ولكنك لو صنعت لله لكفاك الله كل أمر. ولذلك يقول الحق عن هؤلاء الذين صنعوا لله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} [آل عمران: 30] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2970 إذن فالمؤمن يجب أن يوضح حركة قيامه وينميها، بمعنى أن يجعل كل حركته لله؛ فإن كانت كل حركته لله، فالله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا. والخاسرون هم الذين يعملون للناس؛ لأن الناس لا يملكون لهم نفعاً وربما تخلوا عنهم وربما أضمرت وحملت قلوبهم الضغن والحقد لمن أحسن إليهم، وربما تحولوا إلى أعداء لهم، فالمصنوع له الجميل قد يعطيه الله بعضاً من الجاه، وحين يلقى صانع الجميل بعد ذلك قد تتخاذل نفسه وتذل، ونرى في بعض الأحيان واحداً يجلس بين الناس وقد أخذته العزة، ثم يدخل عليه إنسان كان له فضل عليه، وساعة يراه يكره وجوده في مجلسه، ويتمنى ألا يحدث هذا اللقاء؛ وإذا ما لقيه بعد ذلك في طريق فهو يشيح بوجهه؛ لأن الذي صنع الجميل يسبب حرجاً له، ويجعل نفسه تتضعضع، وهو يريد أن يستكبر على الناس. إذن فالله يوضح: اعملوا لله؛ لإنه لا يضيع عنده شيء. واعلموا أن الله رقيب عليكم ولن يضيع عملٌ عنده. وعندما سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الإحسان قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» أتستطيع أنت أيها الإنسان أن تصنع في إنسان آخر ما يسوؤه أمامه؟ . أنت تسيء إلى ألاخر من وراء ظهره. فلماذا إذن يُسيء الواحد منكم إلى الله بالعصيان، وهو الناظر إليكم جميعاً؟ إذن حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن تحسن معاملة نفسك وغيرك فعليك أن تحتسب كل عمل لك عند الله. فقد سخر لنا الحق كل الوجود وأعطانا كل مقومات الحياة ويوضح لكل واحد منا: يا عبدي اجعل كل قيامك لله؛ ولا تكن قائماً فقط ولكن كن قوّاماً. . بمعنى أنه مادامت فيك بقية من العافية للعمل فاعمل، ولا تعمل على قدر حاجتك فقط، ولكن اعمل على قدر طاقتك؛ لأنك لو عملت على قدر حاجتك فإن الذي لا يقدر على العمل لن يجد ما يعيش به. إذن فاعمل على قدر طاقتك لتتسع حركتك للناس جميعاً. ويكون الفائض من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2971 عملك لغيرك. وحين يقول سبحانه: {كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط} يعلمنا ألا نضيع مجهودنا هباء، بل نوجه المجهود للعمل ونقوم به لوجه الله، لأنه سبحانه لا ينسى أبداً جزاء عبده، وهو الذي يرد كل جميل. إنه - سبحانه - يقول: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} . ويقول أيضا: {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [التوبة: 120] وحين يكون الواحد منا قوّاماً لله يكون قد استغل حركة وجوده لخير خلق الله، وهذا العمل مطلوب منك. ولا يكفي أن تكون حركتك محصورة في ذلك، بل يجب أن تمتد أيضاً حركة حياتك لتكون شاهداً بالعدل. وكذلك توجه للعدل من تحدثه نفسه أن ينحرف. وحين تكون قوّاماً لله فهذا أمر حسن، وعليك أن تحاول إقناع غيرك بأن يكون قيامه لله بأن تكون شاهداً بالقسط والعدل. وحين تكون شاهداً بالقسط والعدل لا يتمادى ظالم في ظلمه. فالذي يجعل الظالم يشتد ويستشري ظلمه ويتفاقم شره هو أنه يجد من يدلسون على العدالة ويسترون ويخفون العيوب ويخادعون الناس. لكن لو وُجِد الإنسان الذي ينير الطريق أمام العدالة لما وجد ظلم. لكن الظالم يحب من يدلس عليه؛ فيقول لنفسه: إن فلاناً ارتكب جريمة مثل جريمتي ونال البراءة. وتدليس الشهادة يقود إلى خراب المجتمعات. ولو أن المجتمع حينما يرى أن شهادة أفراده هي شهادة بالقسط وشهادة بالعدل، فإن كل فرد في المجتمع إذا هَمَّ بظلم يرتدع قبل أن يفعل الظلم، ولكان الظالم ينال عقابه ويصير مثالاً لارتداع غيره. والمؤمن مطالب بالقيام لله بإصلاح ذاته، ومطالب ثانياً أن يشهد بالقسط والعدل لإصلاح غيره. وكلمة «القسط» تأتي منها اشتقاقات كثيرة، وهي من الألفاظ التي قد تدل على العدل وقد تدل على الجور، وهي من الألفاظ التي تستعمل في المر وفي نقيضه. وهذا من محاسن اللغة. ويتطلب ذلك أن يمحص السامع الكلمة ويتعرف على معناها بما يتطلبه السياق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2972 «وقَسَطَ» معناها «عدل» . والفعل المضارع لها هو يقسط. والمصدر «قِسطا» ، ومرة يكون المصدر «قُسوطا» . والمصدر هو الذي قد يحول المعنى من العدل إلى الجور. فالقِِسط بمعنى العدل. وقَسَطَ يَقْسِطُ قُسُوطاً. أي جار وظلم. هنا نجد الفعل يأتي بالمعنى وضده؛ حتى يمتلك السامع اليقظة والفطنة التي تجعله يعرف التمييز بين معنى العدل ومعنى الجور. وحين نقول «أقسط» فإنها بمعنى عدل، وهنا ننتبه إلى ما يلي: أن هناك فرقاً بين عَدْلٍ يأتي من أول الأمر وذلك هو القِسط، وهناك حكم ظالم يحتاج إلى حكمٍ آخر يزيل الظلم. وذلك الذي نستعمل له «أقسط» أي أزال الظلم. فكأن جوراً كان موجوداً وأزاله الحكم. فالقِسط - إذن - هو العدل الابتدائي. ولذلك نسمع قول الحق سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] والقاسطون هنا هم الظالمون، فالقسط هنا من قسط يقسط قُسوطا. وفي الاية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق: {شُهَدَآءَ بالقسط} أي شهداء بالعدل. واللباقة في السامع هي التي توجه اللفظ إلى معناه المراد من خلال السياق، فالسامع للقرآن يُفْترض فيه الأريحية اللغوية بحيث يستطيع أن يفرق بين الشيء والمشابه له من شيء آخر. إذن فهناك قسط وأقسط، قسط بمعنى عدل، وأقسط بمعنى أقام القسط بإزالة الجور. والقسوط معناه الجور. والحق يقول: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} و «المقسطين» هي جمع «مُقسط» ؛ من: أقسط أي أزال الظلم والجور إذن فالذي يرجح المعنى هنا سياق الكلمة ومصدرها. وقد يراد بالكلمة المعنى المصدري. والمعنى المصدري لا يختلف باختلاف منطوقه، فيقال: «رجل عدل» ويقال: «امرأة عدل» . ويقال: «رجلان عدل» ، ويقال: «امرأتان عدل» ، و «رجال عدل» ، و «نساء عدل» . إذن فإن أردنا بالكلمة المصدر فهي لا تتغير في المفرد والمثنى وجمع المذكر وجمع المؤنث. والقرآن الكريم يقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2973 {وَنَضَعُ الموازين القسط} [الأنبياء: 47] وهنا قول آخر: {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} [الشعراء: 182] وفي الريف المصري نجد أن التاجر يصنع لنفسه الموازين من الأحجار، فيعاير قطعة من الحجر بوزن الكيلو جرام، ويعاير قطعاً أخرى لأجزاء الكيلو جرام؛ ومن كثرة الاستعمال وملامسة الحجر يعرف التاجر أن الحجر يتآكل، لذلك يعيد وزن الأحجار التي يستعملها في الميزان كل فترة متقاربة من الزمن. ويقال: إنه يعاير الأوزان. وسمي القسطاس؛ فالقسطاس هو الذي تعاير به الموازين، فإذا صنع الإنسان شيئاً للميزان مما يتآكل أو يتأثر باللمس فيجب عليه أن يعايره كل فترة حتى لا يظلم أحداً ولو بمقدار اللمسة الواحدة. ولذلك يقول الحق: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله} «أقسط» هنا معناها «أعدل» . فموازين الله غير موازين البشر، فموازين البشر قد يحدث فيها اختلاف. ونرى بعض التجار ينقضون الميزان بأن يضعوا شيئاً تحت كفة الميزان أو غير ذلك من الخدع، لكن الحق هو العادل الحق. وهو صاحب الميزان الأعدل وهو القائل: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله} . جاءت هذه الآية لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصدر حكماً؛ وهو حكم صحيح وعادل بقواعد البشر، فأوضح الحق له الحكم الأقسط، صحيح أن عدلك يا رسول الله لا يدخله هوى ولا يميل به غرض أو شهوة. ولكن العدل عند الله أكثر دقة وله مطلق الدقة. وقد قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الحكم بمنطق القسط البشري في أمر زيد بن حارثة وكان مولى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان عبداً لخديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وهبته لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبعد فترة علم أهل زيد بخبر اختطافه وبيعه كعبد وكيف آل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فجاء أهل زيد إلى رسول الله وطالبوا بابنهم. ورفض زيد أن يعود معهم وأراد أن يبقى مع رسول الله، وأراد رسول الله أن يكرم زيداً الذي فضله على أبيه وأهله مصداقاً لقول الله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2974 {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] لذلك كان لا بد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقدر زيد بن حارثة؛ فأعتقه ودعاه «زيد بن محمد» تكريماً له، على عادة العرب في تلك الأيام. لكن الله يريد أن يلغي مسألة التبنّي: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} [الأحزاب: 4] وأجرى الله الأحداث ليصحح مسألة التبني لكل العرب، وكان بداية تطبيق ذلك على سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وينزل القول الحق: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} [الأحزاب: 5] لم ينف الله القسط عن محمد، ولكن الأقسط يأتي من عند الله. ويطيب الله خاطر زيد بعد أن عاد إليه اسمه الفعلي منسوباً لأبيه لا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويكافئ الله زيداً بأن يجعل اسمه هو الاسم الوحيد في الإسلام الذي يذكر في القرآن ويتعبد المؤمنون بتلاوته إلى أن تقوم الساعة: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} [الأحزاب: 37] لقد صار اسمه في القرآن يتلوه المسلمون إلى قيام الساعة. وفي ذلك كل السلوى. إذن ف « {أَقْسَطُ عِندَ الله} جاءت في محلها، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد طلب منا أن يكون قيامنا مبالغاً فيه؛ أي ألا نترك فرصة لعمل الخير وأن نبالغ في الدقة في أداء العمل، وأن نَعْدل في المجتمع بأن نكون شهداء بالقسط. وبذلك يأخذ كل إنسان حقه فلا يقدر قوي أن يظلم ضعيفاً؛ لأن الضعيف سيجد أناساً يشهدون معه بالحق. وإياكم أن تأخذوا الهوى في مقاييس العدل. وهب أن المسألة تتعلق بعدوكم أو بخصومكم فالعدل هنا أكثر أهمية وأكثر وجوبا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2975 {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ} . أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا فتعتدوا عليهم، فمن له حق يجب أن يأخذه. ونعرف القصة التي حدثت، عندما سرق مسلم درع مسلم آخر وأراد السارق وأهله أن يلصقوا التهمة بيهودي وأن يبرئ نفسه، ولكن الله أنزل قرآناً: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105] أي لا تكن يا محمد لصالح الخائنين مخاصما للبرآء. وقوله الحق هنا: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ} أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا، وإلا سيكون البغض لصالح عدوكم، وبغض المؤمن إذا حمله على اتباع هواه سيكون لصالح العدو؛ لأن الله سيعاقب المؤمن لو أدخل الهوى والبغض في إقامة الميزان العادل. فتحكيم البغض والعِداء والهوى يكون لصالح الخصوم؛ لذلك لا يحملنكم أيها المؤمنون شنآن - أي بغض - قوم على ألا تعدلوا. ويضيف الحق: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} والعدالة حين تُطلب مع الخصم هي تقريع لذلك الخصم لأنه خالف الإيمان. ومن المؤكد أن الخصم يقول لنفسه: إن عدالة هذا المسلم لم تمنعه من أن يقول الحق ولا بد أن عقيدته تجعل منه إنساناً قوياً، وأن دينه الذي أمره بذلك هو نعم الدين. إذن ساعة تحكم أيها المؤمن بالعدل لخصمك فأنت تقرعه لأنه ليس مؤمنا، لكن لو رأى خصمك أنك قد جُرت ولم تذهب إلى الحق، فأنت بذلك تشجعه على أن يبقى كافراً؛ لأنه سيعرف أنك تتبع الهوى. أما إذا رآك وأنت تقف موقفاً يرضي الله مع أنه خصم لك، فهو يستدل من ذلك على أن العقيدة التي آمنت بها هي الحق، وأنك تقيم الحق حتى في أعدائك. وهكذا يقرع الخصمُ العقدي نفسَه، وقد يلفته ذلك إلى الإيمان. {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} أقرب إلى أي تقوى؟ أأقرب إلى تقوى المؤمن؟ أم أن الخصم يكون أقرب إلى التقوى حين يرى المؤمن مقيماً للعدل والحق، فلعله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2976 يرتدع ويعاود نفسه ويقول: إن الإيمان قد جعل هذا المسلم يتغلب على البغض وحكم بالحق على الرغم من أنه يعلم أنني عدو له. ولنا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام الأسوة الحسنة، فقد جاءه رجل غريب يسأله طعاماً أو مبيتاً، فسأله إبراهيم عن دينه. فوجده كافراً، فلم يجب مسألته. وسار الرجل بعيداً، فأنزل الله سبحانه على إبراهيم وحياً: أنا قبلته كافراً بي ومع ذلك ما قبضت نعمتي عنه. وسألك الرجل لقمة أو مبيتَ ليلةٍ فلم تجبه. وجرى سيدنا إبراهيم خلف الرجل واستوقفه، فسأل الرجل سيدنا إبراهيم؛ ما الذي حدث لتغير موقفك، فقال سيدنا إبراهيم: إن ربي عاتبني في ذلك. فقال الرجل: نعم الرب إله يعاتب أحبابه في أعدائه، وآمن الرجل. وهذا يوضح لنا معنى {أَقْرَبُ للتقوى} فقد صار الرجل الكافر أقرب للتقوى. إذن: فالمعنى النفسي الذي يصيب خصمك أو من يغضبك أو من بينك وبينه شنآن، حين يراك آثرت الحق على بغضك له، يجعله يلتفت إلى الإيمان الذي جعل الحق يعلو الهوى ويغلبه ويقهره، ويصير أقرب للتقوى. وأيضاًَ من يشهد بالقسط هو أقرب للتقوى. ويذيل الحق الآية بقوله: {واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فهو - سبحانه - الخبير بما نعمل. وإياك أيها المؤمن أن تصنع ذلك لشهرة أن يُقال عنك إنك رجل حكمت على نفسك. ولكن اعمل من أجل الله حتى وإن كان الموقف يستحق منك الفخر. إن كثيرا من الناس يحكمون بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل، كيف؟ لنفرض أنه قد عُرضت عليك قضية هي خصومة بين ابنك وابن جارك؛ الشجاعة الأولى تفرض أن تحكم لابن جارك وهو غير محق على ابنك، لكن الشجاعة الأقوى أن يكون الحق لابنك وتحكم له، أما إن حكمت لابن جارك - وهو غير محق - في هذه الحالة تكون قد حكمت بالظلم لتشتهر بين الناس بالعدل! يجب أن يكون الحق أعز عليك من ابنك وابن جارك، وإياكم أن تعملوا أعمالاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2977 ظاهرها عدل وباطنها رياء؛ لأننا نعلم أن لكل جارحة من الجوارح مجالاً تؤدي فيه وظيفتها؛ فاللسان أداؤه ووظيفته القول، والأذن فعلها أن تسمع، والأنف أداؤه أن يشم، ويجمع الجميع العمل. فالعمل إما أن يكون قولاً وإما أن يكون فعلا. قال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] إذن فالقول محله اللسان، والفعل محله بقية الجوارح، والاثنان يجمعهما العمل. ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2978 وعندما نتأمل كلمة «وعد» نجدها تأتي، وتأتي أيضاً كلمة «أوعد» و «وعد» وكذلك أوعد إذا لم تقترن بالموعود به، تكون وَعَد للخير، و «أَوْعَد» للشر. ولكن لو حدث غير ذلك وجئت بالموعود به، فالاثنان متساويان، فيصح أن تقول «وعدته بالخير» ويصح أيضاً أن تقول: «وعدته بالشر» . لكن إن لم تذكر المتعلق، فإن «وعد» تستعمل في الخير. و «أوعد» تستعمل في الشر. والشاعر يقول: وإنِّي إنْ أوعدته أو وعدته ... لُمخْلِفُ إِبعادي ومُنْجِزُ موعدي وحين يقول: «وعد الله» فهذا وعد مطلق لا إخلال به؛ لأن الذي يخل بالوعد هو الإنسان الذي تعتريه الأغيار؛ فقد يأتي ميعاد الوفاء بالوعد ويجد الإنسان نفسه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2978 موقف العاجر أو موقف المتغير قلبياً، لكن ساعة يكون الله هو الذي وعد فسبحانه الذي لا تداخله الأغيار، بل هو الذي يُجري الأغيار، لذلك يكون وعده هو الوعد الخالص الذي لا توجد قوة أخرى تحول دون أن ينفذ الله وعده. أما وعد البشر فقد تأتي قوة أخرى تعطل الوعد. {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ} سبحانه وتعالى يوضح أن مغفرته لكل عباده ولا يختص فقط الصالحين الورعين بل إنه يوجد حديثه إلى هؤلاء الذين ارتكبوا المعاصي فإن تابوا، فلهم مغفرة؛ لأن ردء المفسدة مقدم على جلب المصلحة؛ فأنت قد تكون جالسا ويأتي واحد جهة اليمين ليقدم لك تفاحة، وفي اللحظة نفسها التي تمتد يدك لتأخذ التفاحة تلتفت لتجد إنساناً آخر يريد أن يصفعك، أي اتجاهات سلوكك تغلب؟ . لا بد أنك سترد على من يضربك أولا. والحق يزيل الذنوب أولاً بالمغفرة. ونجده سبحانه وتعالى يأتي بأشياء تلفت القلب فهو يقول: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] فالخطوة الأولى للفوز هي الزحزحة عن النار، والخطوة التالية بعد ذلك هي دخول الجنة. فسبحانه يمنع المفسدة ويقدم دفعها ودرأها على جلب المنفعة؛ لذلك يقول الحق بداية: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} . والإنسان منا ساعة تأتي له الخواطر يفكر في أشياء يطمح إليها، وهناك أشياء يخاف منها. وينشغل الذهن أولاً بما يخاف منه، يخاف من المفسدة، يخاف من عدم تحقيق الآمال. إذن فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} . وكل أجر على عمل يأخذ عمره بقدر حيزه الزمني، فأجر الإنسان على عمله في الدنيا يذهب ويزول؛ لأن الإنسان نفسه يذهب إلى الموت، أما أجر الآخرة فهو الباقي أبداً، وهو أجر لا يفوت الإنسان ولا يفوته الإنسان، ذلك هو الأجر العظيم. وحين يتكلم الحق عن معنى من المعاني يتعلق بالإيمان والعمل الصالح تكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2979 النفس مستعدة؛ لأن هناك تأميلا في الخير وترهيباً من الشر؛ لذلك يتبع الحق هذه الآية بآية أخرى فيقول: {والذين كَفَرُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2980 وحين نسمع قوله: {أَصْحَابُ الجحيم} تتزلزل النفوس رهبة من تلك الصحبة التي نبرأ منها، فالصحبة تدل على التلازم وتعني الارتباط معاً، وألا يترك أحدهما الآخر؛ كأن الجحيم لا تتركهم، وهم لا يتركون الجحيم، بل تكون الجحيم نفسها في اشتياق لهم. وللجحيم يوم القيامة عملان؛ العمل الأول: الصحبة التي لا يقدر الكافر على الفكاك منها، والثاني: لا تترك الجحيم فرصة للكافر ليفك منها. ويقول الحق عن النار: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] ويقول الحق بعد ذلك: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ ... .} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2980 والذكر - كما عرفنا - يعني استحضار الشيء إلى الذهن؛ لأن الغفلة تطرأ على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2980 الإنسان وعليه الا يستمر فيها. وبعض أهل الإشراق والشطح يتلاعبون بالمواجيد النفسية فيقول واحد منهم: يعلم الله أني لست أذكره. وحين يسمع الإنسان مثل هذا القول قد يوجه لصاحبه التأنيب والنقد العنيف، لكن القائل يحلل الأمر التحليل العرفاني فيكمل بيت الشعر بالشطر الثاني: «إذْ كيف أذكره إذْ لست أنساه» . ... وهنا ترتاح النفس، ويقول الحق هنا أيضاً: {نِعْمَتَ الله} ولم يقل: «نعم» ؛ لأن كل نعمة على انفراد تستحق أن نشكر الله عليها؛ فكل نعمة مفردة في عظم وضخامة تستحق الشكر عليها، أو أن نعمة الله هي كل فيضه على خلقه، فأفضل النعمة أنه ربنا، وسبحانه يقول: {اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} . ومادام قد جاء ب «إذ» فالمراد نعمة بخصوصها؛ لأن «إذ» تعني «حين» فالحق يوضح: اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت الذي حدثت فيه هذه المسألة؛ لأنه جاء بزمن ويطلب أن نذكر نعمته في هذا الموقف، إنه يذكرنا بالنعمة التي حدثت عندما همّ قوم ببسط أيديهم إليكم. وهناك «قبض» لليد و «بسط» لليد. والبسط المنظور أن ترى النعمة. وفي الآية تكون النعمة هي كف أيدي الكافرين، ذلك أن أيديهم كانت ممدودة بالسوء والشر. ولو وقفنا عند بسط اليد؛ لظننا أنه سبحانه قد جعل من أسباب خلقه معبراً للنعم علينا أي أن نعم الله تعبر وتصل إلينا عن طريقهم وبأيديهم، لكن هذا ليس مراد من النص الكريم؛ لأننا حين نتابع قراءة الآية، نعرف أن كف أيديهم هو النعمة، فهؤلاء القوم أرادوا أن يبسطوا أيديهم بالإيذاء. ويقولون عن بذاءة اللسان: «بسط لسانه» ويقولون أيضاً: «بسط يده بالإيذاء» . ونعرف أن الحق جاء ب «إليكم» أو «عنكم» وكلاهما فيه ضمير يعود على المؤمنين مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالمؤمنون ملتحمون بمنهج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإذا همّ قوم أن يبسطوا أيديهم إلى رسول الله، ففي ذلك إساءة للمؤمنين برسول الله؛ لأن كل شيء يصيب رسول الله، يصيب المؤمنين أيضاً. وكانت هناك واقعة حال في زمن مقطوع وسابق، فهل يعني الحق سبحانه وتعالى بحادثة بني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2981 النضير، وكان بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبني النضير معاهدة ألا يعينوا عليه خصوم الإسلام وإذا حدث قتل من جهة المسلمين فعلى بني النضير المعاونة في الدية، وكان النبي قد أرسل مسلماً في سرية فقتل اثنين من المعاهدين خطأ، فطالبوا بدية للقتيلين. ولم يكن عند النبي؛ مالٌ فذهب إلى بني النضير كي يساعدوه بدية القتيلين، فقالوا له: «مرحبا» نطعمك ونسقيك وبعد ذلك نعطيك ما تريد، ثم سلطوا واحداً ليرمي الرسول بحجر. فصعد الرجل ليلقي على الرسول صخرة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قاعد إلى جانب جدار من بيوتهم فأخبر الحق رسوله فقام خارجاً، ولم ينتظر شيئا. {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} لقد أخبر الحق نبيه بما يبيتون قبل أن يتمكنوا من الفعل. و «الهمّ» هو حديث النفس، فإذا ما خرج إلى أول خطا النزوع فذلك هو القصد، و «الهم» هو الشيء الذي يغلب على فكر الإنسان في نفسه ويكون مصحوباً بغم. وفي اللغة الدارجة نسمع من يقول: «أنا في هم وغم» ؛ لأن «الهم» هو الأمر الذي لا يبارح النفس حديثاً ويسبب الغم. فالهم هو العدو الذي لا يقدر أن يقهره أحد؛ لأنه يتسرب إلى القلب، أما أي عدو آخر فالإنسان قد يدفعه، ونعرف عن سيدنا الإمام علي - رضوان الله عليه وكرم الله وجهه - أنه كان مشهوراً بأنه المفتي؛ فهو يُستفتى في الشيء فيجيب عليه، لدرجة أن سيدنا عمر نفسه يقول: «قضية ولا أبا حسن لها» أي أنها تكون قضية معضلة إذ لم يوجد أبو حسن لها فيحلها، وكان سيدنا عمر يستعيذ من أن يوجد في مكان لا يوجد به سيدنا علي. وعندما عرف الناس عنه ذلك تساءلوا: من أين يأتي بهذا الكلام؟ . فجاءوا بلغز وانتظروا كيف يخرج منه. فقالوا: إن الكون متسع وفيه أشياء أقوى من كل الأشياء، وقوى تتسلط على قوى، وحاولوا الاتفاق على شيء اقوى من كل الأشياء؛ فقال واحد: الجبل هو أقوى الأشياء. وقال الآخر: لكنا نقطع منه الأحجار بالحديد. وبينما هم يسلسلون هذه السلسلة جاء سيدنا علي فقالوا له: يا أبا الحسن ما أشد جنود الله؟ . فأجاب سيدنا علي - كرم الله وجهه - كأنه يقرأ من كتاب بدليل أنه عرف جنود الله وعرف الأقوى وحصر عددهم، وقال سيدنا علي: أشد جنود الله عشرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2982 وكأنه انشغل بهذه المسألة من قبل، ودرسها. قال: الجبال الرواسي والحديد يقطع الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو الشيء ويمضي لحاجته؛ والسُّكْر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السكر، والهم يغلب النوم، فأشد جنود الله الهم. ولا يمكننا أن نمر على كلمة «الهم» في القرآن إلا أن نستعرض مواقعها في كتاب الله. وأهم موقع من مواقعها تتعرض له من أسئلة الكثيرين في رسائلهم وفي لقاءاتنا معهم هو مسألة يوسف عليه السلام حينما قال الحق سبحانه وتعالى بخصوص مراودة امرأة العزيز له: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] ولنحقق هذه المسألة، فالذين يستبعدون على سيدنا يوسف عليه السلام هذا الأمر، يستبعدون على صاحب العصمة أن يُفكر في نفسه، وإن كان التفكير في النفس لم يبلغ العمل النزوعي فهو محتمل. بل قد يكون التفكير في الشيء ثم عدول النفس عنه أقوى من عدم التفكير فيه؛ لأن شغل النفس بهذا الأمر ثم الكف يعني مقاومة النفس مقاومة شديدة. ولكنهم يُجِلّون ويعظمون - أيضاً - سيدنا يوسف عن أن يكون قد مر بخاطره هذا الأمر فضلاً على أن يوسف - عليه السلام - لم يكن قد أرسل إليه، أي أنه لم يكن رسولا آنذاك. الآية تقول: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] أي أن امرأة العزيز هي التي بدأت المراودة ليوسف عليه السلام فهل تم نزوع إلى العمل؟ . لا، لأن النزوع إلى العمل يقتضي أن يشارك فيه سيدنا يوسف. إذن ف «همت به» أي صارت تحب أن تصنع العملية النزوعية وجاء المانع من سيدنا يوسف. وبالنسبة للمُرَاوَدِ وهو سيدنا يوسف، قال الحق: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2983 {وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] ونصرب لذلك مثلاً حتى نفهم هذا؛ إذ قال لك قائل: أزورك لولا وجود فلان عندك، هذا يعني أن القائل لم يزرك، وبالقياس نجد أن يوسف عليه السلام رأى البرهان فلم يهم. فمن أراد أن ينزه يوسف حتى عن حديث نفسه نقول: الأمر بالنسبة لها أنها همت به، وحتى يتحقق الفعل كان لا بد من قبول لهذا الأمر، وصار الامتناع لكنّه ليس من جهتها بل جاء الامتناع من جهته. وهو قد همّ بها لولا أن رأى برهان ربه. لماذا جاء الحق: بأنه همَّ بها لو أن رأى برهان ربه؟ جاء الحق بتلك الحكاية ليدلنا على احكمة في امتناع يوسف عن موافقته على المراودة، فلم يكن ذلك عن وجود نقص طبعي جسدي فيه، ولولا برهان ربه لكان من الممكن أن يحدث بينهما كل شيء. وأراد الحق أن يخبرنا أن رجولته كاملة وفحولته غير ناقصة واستعداده الجنسي موجود تماماً، والذي منعه من الإتيان لها هو برهان ربه، إنه امتناع ديني. لا امتناع طبيعي. وبذلك يكون إشكال الفهم لمسألة الهم عند امرأة العزيز ويوسف قد وضح تماماً. ونعود إلى الآية التي نحن بصددها: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ} وكلمة «قوم» إذا سمعتها ففيها معنى القيام، والقيام هو أنشط حالات الإنسان. وكما أوضحنا من قبل نجد أن الإنسان إما أن يكون قائما وإما أن يكون قاعدا وإما مضطجعا وإما مستلقيا وإما نائما. ونجد أن الراحات على مقدار هذه المسألة، فالقائم هو الذي يتعب أكثر من الآخرين؛ لأن ثقل جسمه كله على قدميه الصغيرتين، وعندما يقعد فإن الثقل يتوزع على المقعدة. وإذا اضطجع فرقعة الاحتمال تتسع. ولذلك يطلقونها على الرجال فقط؛ لأن من طبيعة الرجل أن يكون قواماً، ومن طبيعة المرأة أن تكون هادئة وديعة ساكنة مكنونة. فالقوم هم الرجال. ومقابل القوم هنا «النساء» . إذن فالنساء ليس من طبيعتهن القيام. والشاعر يقول: وما أدري ولست إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2984 وحين يقول الحق: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} فمعنى ذلك أنه لم يكن هناك نساء قد فكرن في أن يؤذين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونجد هنا أيضاً أن البسط مجال تساؤل، هل البسط يعني الأذى أو الكرم؟ . والحق يقول: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض} [الشورى: 27] هذا (في مجال العطاء) أما في مجال الأذى فالحق يقول على لسان ابن آدم لأخيه: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28] والأيدي لاتطلق إلا إذا أردنا حركة نزوعية تترجم معنى النفس سبق أَن مرّ على العقل من قبل، فمد الأيدي يقتضي التبييت بالفكر، وهكذا نعرف أن القوم قد بسطوا أيديهم إلى رسول الله والمؤمنين. وعندما ننظر في التاريخ المحمدي مع أعدائه، نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] أي أنهم قعدوا للتبييت. ونحن لا نعرف ذلك التبييت إلا إذا امتدت الأيدي للعمل، فقد مكروا وبيتوا للشر وأرادوا أن يثبتوا رسول الله أي أرادوا تحديد إقامته بحبسه أو تقييده أو إثخانه بالجراح حتى يوهنوه ويعجزوه فلا يستطيع النهوض والقيام أو يقتلوه أو يخرجوه من بلده. بإثباته ومنعه فلا يبرح، أو يخرجوه من المكان كله أو يقتلوه، فماذا كان الموقف؟ لقد هموا أن يبسطوا إليه أيديهم. وبسط اليد إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2985 يؤذي المؤمنين كلهم، لأنه لا يستقيم أمر المؤمنين إلا برسول الله، فلو بسط الكفار أيديهم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكان معنى ذلك بسط أيديهم على الكل. ويأتي التاريخ المحمدي بأمور يبسط فيها الكافرون أيديهم بالأذى إلى رسول الله وإلى المؤمنين ويكف الله أيديهم ويمكر بهم أي يجازيهم على ذلك بالعقاب. والمكر - كما نعلم - هو الشجر الملتف بعضه على بعضه الآخر حيث لا نعرف أي ورقة تنمو من أي جذع أو فرع. والمكر في المعاني هو التبييت في خفاء. وهو دليل ضعف لا دليل قوة. فالأقوياء يواجهون ولا يبيتون؛ ولذلك يقال: إن الذي يكيد لغيره إنما هو الضعيف؛ لأن الإنسان الواضح الصريح القادر على المواجهة هو القوي. ونجد البعض يجعل ضعف النساء دافعا لهن على قوة المكر استنادا لقول الحق: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76] وإلى قول الحق: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] فلا يكيد إلا الضعيف. ومن لا يقدر على المواجهة فهو يبيت، ولو كان قادراً على المواجهة لما احتاج إلى ذلك. وقد يمكر البشر ويبيتون بخفاء عن غيرهم. لكنهم لا يقدرون على التبييت بخفاء عن الله، لأنه عليم بخفايا الصدور. وأمر الحق في التبييت أقوى من أمر الخلق؛ لذلك نجد قوله سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2986 ولنلحظ أن تبييت الله خير. وقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُعلم أعداء الإسلام أنه بعد هذا التبييت لن تنالوا من رسولي، لن تنالوا منه بكل وسائلكم سواء أكانت تعذيباً لقومه أم تبييتا له. وعلى الرغم من أنهم بيتوا كثيراً إلا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج من بيته في مكة إلى المدينة وهم نائمون: {فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9] ونجد العجب في كف أيدي الكافرين عن رسول الله. فكل أجناس الوجود قد اشتركت في عملية كف أيدي الكافرين عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سواء أكانت تلك الأجناس جماداً أم نباتاً أم حيواناً أم إنساناً، نثر رسول الله التراب وهو جماد فأغشي به الكافرين، وصار التراب من جنود الله. وها هي ذي أسماء بنت أبي بكر تحمل الطعام لهم في الغار وهي ترعى الغنم، والأغنام تجد الحشائش فترعاها وتزيل الأثر الذي أحدثه ركب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. لقد اشترك النبات في كف أيدي الكافرين عن رسول الله، وكذلك الأغنام وهي من الحيوان، وكذلك فرس سراقة التي ساخت وغاصت قوائمها في الأرض، ثم الحمامة التي بنت عشها على الغار، وكذلك العنكبوت الذي بنى بيته على الغار، ورضخت كل جنود الله لأمر الله فشاركت في عملية كف أيدي الكافرين عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والأعجب من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى قد كف أيدي الكافرين بالكافرين، فالرسول الذي جاء ليهدي الخلق ويسير بهم إلى النور من الظلمات، نجد الذي يهديه في طريقه إلى المدينة هو أحد الكفار. وهكذا نرى أن هداية المعاني تستخدم هداية المادة، والرسول هو الحامل لهداية المعاني يستخدم هداية المادة ممثلة في ذلك الكافر. ونعرف أن من جنود الإسلام في دار الهجرة كان اليهود - برغم أنوفهم - ألم يقولوا للأوس والخزرج: سيأتي من بينكم نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم؟ فلما سمع الأوس والخزرج أن نبياً ظهر في مكة، قالوا: هذا هو النبي الذي توعدتنا به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2987 اليهود، فلا يسبقنكم إليه، فسبقوا إليه وأسلموا وبايعوه، فقد ورد أن يهودا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم. ثم كانت المدينة داراً للهجرة. هكذا نرى الباطل يخدم الحق، والكفر يخدم الإيمان، فها هوذا عبد الله بن أريقط - وكان كافراً - يضع نفسه كدليل للرسول وصاحبه أثناء الهجرة ولا ينظر إلى الجُعْل الذي رصدته قريش لمن يأتيها بمحمد. هكذا نجد أن كف الأيدي كانت له صور كثيرة. وقد تعرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأشياء ومواقف رآها الصحابة، ونشأت له خوارق من الحق سبحانه وتعالى تؤيد صدقه، وشاهد تلك الخوارق بعض الصحابة ولا نقول عنها معجزات؛ لأن معجزة الإسلام إلى قيام الساعة هي القرآن. ولكن رسول الله لم تخل حياته من بعض المعجزات الكونية مثل التي حدثت لغيره من الرسل. وأرادها الحق لا للمسلمين عموماً ولكن شاهدها بعضهم كما شاهدها بعض الكفار؛ لأن رسول الله كان في حاجة إلى أن يؤكد له الله أنه رسول الله. فها هوذا سيدنا جابر بن عبد الله يقول: «كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة فجلست فخلا عاما فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجذ منها شيئا، فجعلت استنظره إلى قابل فيأبى فأخبر بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2988 فقال لأصحابه: امشوا نستنظر لجابر من اليهودي، فجاءوني في نخلي فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يكلم اليهودي فيقول: أبا القاسم لا أُنظره، فلما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى؛ فقمت فجئت بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأكل ثم قال: أين عريشك يا جابر، فأخبرته فقال: افرش لي فيه ففرشته، فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه، فقام في الرطاب في النحل الثانية ثم قال: يا جابر، جذ واقض؛ فوقف في الجذاذ فجذذت منها ما قضيته وفضل منه فخرجت حتى جئت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبشرته فقال: أشهد أني رسول الله» . مثال آخر: كان الماء قليلاً عند قوم من الصحابة فيغمس رسول الله يده في الماء ويشرب كل الناس. وهل يجرؤ أحد من الذين رأوا تلك المعجزة أن يجادل فيها؟ طبعاً لا، لكن هل هذه المعجزة لنا؟ إن وثقنا فيمن أخبر فلن نستكثر على الله أن يكثر الماء لرسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن نحن نعلم أن الله قد تكفل بحفظ القرآن ليكون هو المعجزة الباقية فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . وقد ثبت أن رسول الله جمع قليلا من الزاد ودعا ما شاء الله أن يدعو وأطعم به جيشا. والذي عاش بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له أن يصدق تلك المعجزات أو لا يصدقها، ولكن على المؤمن الذي علم مقام ومكانة الرسول عند ربه، أن يصدق تلك الخوارق متى ثبت ذلك بطريق يقيني قطعي، ولذلك لا ضرورة لإقامة الجدل مع هؤلاء الذين ينكرون المعجزات الكونية. ونقول لهم: ليس أحدكم مسئولا بهذه المعجزات، أنت مسئول بمعجزة القرآن فقط. والخوارق التي وقعت إما أن تكون بغرض تثبيت رسول الله مصداقا لقوله الحق: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2989 وإما أن تكون لتثبيت أصحاب رسول الله؛ فقد كانت الأهوال تمر عليهم وتزلزلهم: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 11] وكان لا بد أن ترسل السماء لهم أيات لتثبت أقدامهم في الإيمان. والخلاصة أن كل الخوارق الكونية التي حدثت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس المقصود بها عامة المسلمين، ولكن المقصود بها من وقعت له أو وقعت أمامه، ونفض بذلك أي نزاع حول تلك الخوارق؛ لأن المعجزة الملزمة للجميع هي كتاب الله سبحانه وتعالى. وقد همّ بالأذى كثير من أعداء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ألم ترد امرأة من اليهود أن تسمّه وكف الله يديها؟ وحكاية بني النضير الذين أرادوا أن يلقوا عليه الحجر، فقام قبل أن يلقى مندوب بني النضير الحجر عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. «وها هوذا صفوان بن أمية له ثأر عند رسول الله من غزوة بدر يستأجر عمير ابن وهب الجمحي ويقول له: اذهب إلى المدينة واقتل محمداً وعليّ دينك، أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا. ويذهب عمير إلى المدينة ويدخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا إليه - وكان له ابن أسير لدى المسلمين - قال: فما بال السيف في عنقك؟ فقال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا؟ قال: أصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبيني فقال عمير. أشهد أنك رسول الله. قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2990 وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما آتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام «. ومثال آخر: ما رواه سيدنا جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في غزوة ذات الرقاع. «قال: جاء رجل يقال له غورث بن الحارث فقام على رأس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله. فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ السيف وقال: (ومن يمنعك مني) ؟ فقال: كن خير آخذ. قال: تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس» . وعندما سمع الرجل لأول مرة أن الله هو الذي يمنع الرسول منه وقع السيف من يده، ذلك أن ذرات الكفر في الرجل تزلزلت وعاد إلى إيمان الفطرة، وعندما أمسك النبي بالسيف وسأل الرجل: من يمنعك مني؟ لم يقل الرجل: «هبل» أو «اللات» أو «العزى» فالرجل يعلم أن مسألة الأصنام كذب في كذب، ولو كان مؤمناً بآلهته لقال أحد أسمائها. وعندما تزلزلت ذرات الكفر في كيانه عاد إلى الفطرة الأولى التي لا تكذب أبداً. وإن كذب الإنسان على الناس جميعاً لا يكذب على نفسه. وكلمة «الله» هي التي زلزلت كفر الرجل وأعادته إلى الحق. وفي معركة بدر نجد أن سيدنا أبا بكر الصديق كان مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينما ابنه عبد الرحمن كان مع الكفار، وبعد أن أسلم ابنه بفترة جلس الولد مع أبيه يتسامران، فقال الابن: لقد رأيتك يوم أحد فصدفت عنك فقال أبو بكر: لكني لو رأيتك ما صدفت عنك. فقد رأى ابن أبي بكر والده ولم يقتله، ولاشك أن مقارنة نفسية باطنية فكرية قد حدثت بين معزة أبيه وبين مكانة هبل أو تلك الحجارة، وعرف ابن أبي بكر أن والده أفضل بكثير من تلك الأحجار. ولكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2991 أبا بكر حينما يقول: ولو كنت رأيتك لقتلتك، فالمقارنة النفسية هنا تكون بين الإيمان بالله وبين الابن، ومن المؤكد أن الإيمان يغلب في نفس أبي بكر. وكل من أبي بكر وابنه كان منطقيا مع نفسه. ومثال آخر: «عن جابر بن عبد الله أنه غزا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل نجد فلما قفل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قفل معه فأدركتهم القائلة - شدة الحر في وسط النهار - في وادٍ كثير العضاة - شجر عظيم له شوك - فنزل رسول الله، وتفرق الناس في العضاة يستظلون بالشجر ونزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تحت سَمُرَة فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً فقال لي: من يمنعك مني؟ فقلت له: الله. فها هوذا جالس ثم لم يعاقبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» . ولماذا حدث ذلك؟ لأن الفطرة المستلهمة بدون تدخل من أحد تنضح بالإيمان. وها نحن أولاء نرى الصحابة في العهد الأول حينما اضطهدوا في مكة وهاجروا هحرتهم الأولى إلى الحبشة؛ هل ذهبوا إليها خبط عشواء؟ أو ذهبوا بتخطيط نبوي كريم؟ لقد درس النبي أولاً الأرض التي تصلح لاستقبالهم ويقبلهم فيها أهلها كمهاجرين. ودرس النبي أوضاع الجزيرة العربية ووجد أن قريشا تتمكن من كل قبيلة في الجزيرة العربية عندما يأتي موسم الحج؛ لذلك لن توجد القبيلة التي تحمي المهاجرين فيقول لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2992 وبالفعل ذهب المسلمون إلى الحبشة مهاجرين. وحاولت قريش أن تسترد المسلمين من أرض النجاشي. وأرسلت قريش بعثة لاستردادهم ورفض النجاشي. وسمع النجاشي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلم أنه النبي الذي بشر به الإنجيل. ولاشك أن النجاشي قد أسلم لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلى على النجاشي عندما مات. وكان إسلام النجاشي مكافأة له من الله؛ لأنه حمى المؤمنين بالله وبرسوله عنده. وما أعظم المكافأة التي نالها النجاشي أن يموت على الإسلام وأن يصلي عليه سيدنا رسول الله صلاة الغائب. إن كل هذا من كف أيدي الكافرين عن المؤمنين وعن رسول الله، ومن أجل أن يثبت الحق للجميع أن المؤمنين على حق وأن الله لن يخذلهم، فلا يخطر ببال المؤمنين أن عدوهم أقوى منهم؛ فالله أقوى من خلقه: {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} وكف أيدي الكافرين عن المؤمنين لأنه - سبحانه - يعد المؤمنين ليكونوا حملة منهجه إلى الخلق. ولذلك يجب أن يداوم المؤمنون على تكاليف الإيمان وتقوى الله ليكف الله أيدي الكافرين عنهم، فلا يتغلب كافر على مؤمن في لحظة من اللحظات إلا إذا كان المؤمن قد تخلى عن شيء في منهج الله؛ لأن الحق لا يقول قضية قرآنية ثم يترك القضايا الكونية التي تحدث في الحياة لتنسخ هذه القضية القرآنية. لقد قال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] إذن فعندما ترى جنداً من المسلمين قد انهزموا فلتعلم أنهم قد تخلوا عن منهج الله فتخلى الله عنهم، بدليل أن بعضاً من المسلمين ساعة لم ينفذوا ما أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غلبهم الكفار، فالله لا يغير سنته من أجل أناس نُسبوا إليه ولم ينفذوا تعاليم منهجه. والحق يقول: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] ويقول سبحانه: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2993 إنك إن انتسبت إلى الإسلام فيجب أن تنتسب إلى الإسلام بحق، وإن رأيت المؤمنين قد دخلوا معركة وانهزموا فلتبحث مصادر تخليهم عن منهج الحق، فسبحانه يقول: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 146 - 148] لقد أصاب المقاتلين مع النبي شيء، فلم يضعفوا ولكنهم صبروا وطلبوا من الحق أن يغفر لهم ذنوبهم، لقد عرفوا مصادر ضعفهم واستعانوا بالله على هذا الضعف، فماذا فعل الله لهم؟ . نصرهم سبحانه بأن آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين. وكل ذلك السلوك الإيماني الذي يقي من الهزيمة وكيد العدو، هو من تقوى الله، حتى يظل المؤمنون في معية الله. وعندما يكون المسلم في معية الله لا يجرؤ خلق من خلق الله أن ينال منه. وننظر إلى الهجرة كمثال لذلك؛ لنجد أن سيدنا أبا بكر كان حريصاً على حماية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فعن أنس بن مالك قال: «لما كان ليلة الغار، قال أبو بكر: يا رسول الله دعني فَلا دخُل قبلك فإن كانت حيّة أو شيء كانت لي قبْلك. قال: ادخل: فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه فكلما رأى جُحراً جاء بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال: فبقي جحر فوضع عقبه عليه ثم أدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال: فلما أصبح قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» فأين ثوبك يا أبا بكر؟ «فأخبره بالذي صَنع فرفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يده فقال:» اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة «فأوحى الله تعالى إليه» إن الله قد استجاب لك «. ويرى أبو بكر الكفار وهم يمرون أمام الغار فيقول لرسول الله:» لو أن أحدهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2994 نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» . وفي ذلك رد كامل؛ لأن الاثنين في معية الله، ومادام المؤمن في معية من لا تدركه الأبصار فلن تدركه الأبصار، كيف؟ . نحن لا نعرف كل أسرار الله ولكنه القادر الأعلى. وفي حياة البشر نجد الطفل الصغير قد يخرج بمفرده فيصيبه غيره من الأطفال بالضرر؛ ولكن إذا خرج الطفل مع عائله، مع أبيه مثلاً أو مع أخيه الأكبر، فالأطفال لا يقتربون منه؛ فما بالنا ونحن جميعاً عيال الله؛ وماذا يحدث عندما نتشبث بمعية الله؟ . إذن فتقوى الله هي التي تجعل المؤمن في معية ربه طَوال الوقت. ومن يُرِدِ المؤمن بسوء فإن جنود الله تحمي المؤمن. ويذيل الحق الآية: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} . وإياكم أن تقولوا: إننا بلا عَدَد أو عُدَّة. إنك مسئول أن تعد ما تقدر عليه وتستطيعه وأترك الباقي لله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60] ويقول التاريخ الإيماني لنا إنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. وقد يقول قائل: هذه المسألة مادية تحتاج إلى عدد وعُدد. ونرد: إن الحق قد طالب بأن نعد ما نستطيعه لا فوق ما نستطيعه. وهو سبحانه عنده من الجند اللطيف الخفيّ الدقيق الذي لا يُرى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [الأنفال: 12] ومادام الله قد ألقى الرعب في قلوب الأعداء فالمسألة تنتهي ولا تفلح عُدد أو عَدَد. ويكون التوكل على الله بعد أن يعد الإنسان ما يستطيعه وهو الاستكمال الفَعَّال للنصر، ولنعلم أن التوكل غير التواكل. إن المتوكل على الله يقتضي أن يعلم الإنسان أن لكل جارحة في الإنسان مهمة إيمانية، أن تطبق ما شرع الله؛ فالأذن تسمع، فإن سمعت أمراً من الحق فأنت تنفذه، وإن سمعت الذين يلحدون في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2995 آيات الله فأنت تعرض عنهم. واللسان يتكلم، لذلك لا تقل به إلا الكلمة الطيبة؛ فلكل جارحة عمل، وعمل جارحة القلب هو اليقين والتوكل، ولنتذكر أن السعي للقدم، والعمل لليد والتوكل للقلب، فلا تنقل عمل القلب إلى القدم أو اليد؛ لأن التوكل الحقيقي أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب، وكم من عاملٍ بلا توكل فتكون نتيجة عمله إحباطاً. إننا نجد الزارع الذي لا يتوكل على الله ينمو زرعه بشكل جيد ومتميز ثم تهب عليه عاصفة أو يتغير الجو فيصيبه الهلاك وتكون النتيجة الإحباط. واحذر إهمال الأسباب؛ أو أن تفتنك الأسباب؛ لأنك إن أهملت الأسباب فأنت غير متوكل بل متواكل. تنقل عمل القلب إلى الجوارح. وإذا قال لك واحد: أنا لا أعمل بل أتوكل على الله، قل له: هيا نر كيف يكون التوكل. وأحضر له طبق طعام يحبه. وعندما يمد يده إلى الطعام، قل له: اترك الطعام يقفز من الطبق إلى فمك. ويجعل الحق سبحانه وتعالى من قصص الرسل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تثبيتاً للإيمان وتربية للأسوة وإنماء لها، حتى لا يضيق صدر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما يفعله اليهود أو المشركون، فإن كان قد حدث معك - يا محمد - شيء من هذا الإنكار والإيلام، فقد حدث الكثير من تلك الأحداث مع الرسل من قبلك، فيقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2996 يُذَكِّر الحق هنا رسوله بالميثاق الذي أخذه من بني إسرائيل. وقد يكون المقصود هو ميثاق الذر أو يكون المراد بالميثاق ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} [آل عمران: 81] أو أن يكون المراد بالميثاق هو ما بينه بقوله سبحانه: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] ويقول سبحانه: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} ولنر «التكتيك» الديني الذي أراده الحق، فهو لا يجمع أجناس الخلق المختلفة على واحد من نوع منها؛ لأن ذلك قد يعرض الدعوة لعصبية؛ فاختار سبحانه اثني عشر نقيباً على عدد الأسباط حتى لا يقولن سبط: كيف لا يكون لي نقيب؟ . وحسم الله الأمر، ولم يجعله محلاً للنزاع؛ فجعل لكل سبط نقيباً منهم. والنقيب هو الذي يدير حركتهم العقدية والدينية. وساعة نسمع كلمة «نقيب» نعرف أنها من مادة «النون والقاف والباء» ، «والنقب» هو إحداث فجوة لها عمق في أي جسم صلب. إن إختيار الحق لكلمة نقيب، يَدل على أن النقيب الصادق ينبغي أن يكون صاحب عينين في منتهى اليقظة حتى يختار لكل فرد المهمة التي تناسبه ويركز على كل فرد بما يجعله يؤدي عمله بما ينفع الحركة الكاملة. وبذلك يكون كل فرد في البسط له عمله ومكانه المناسب. ولا يتأتى ذلك إلا بالتنقيب، أي معرفة حالة كل واحد وميوله فيضعه في المكان المناسب. إذن فالنقيب هو المنقب الذي لا يكتفي بظواهر الأمور بل ينقبها ليعرف ظروف وأسباب كل واحد. واختار الحق من كل سبط نقيباً، ولم يجعل لسبط نقيباً من سبط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2997 آخر حتى يمنع السيطرة من سبط على سبط، ويمنع أن يكون النقيب على جهالة بمن يريد حركتهم من الأسباط الآخرين. ونحن نسمع في حياتنا اليومية وصفاً لإنسان: فلان له مناقب كثيرة، أي أن له فضائل يذكرها الناس، كأنّ على صاحب الفضائل ألا يتباهى بها بنفسه بل عليه أن يترك الناس لينقبوا عن فضائله، ولذلك كانت كنوز الأرض وكنوز الحضارات مدفونة ننقب عليها، أما ما يظهر على سطح الأرض فتذروه الرياح وعواملُ التعرية ولا يبقى منه شيء. إذن فكلمة «نقيب» في كل مادتها تدور حول الدخول إلى العمق، لذلك تصف الرجل الفاضل: فلان له مناقب أي أن نقبت وجدت له فضائل تذكر، وقد أعطاه الله موهبة الخير ولا يتعالم بها، بل يدع الناس هم الذين يحكمون ويذكرون هذه الصفات. ومن نفس المادة «النقاب» أي أن تغطي المرأة وجهها. وقوله الحق: {إِنِّي مَعَكُمْ} يعطيهم خصلة إيمانية، فلا يظنن أحد أنه يواجه أعداء منهج الله بذاته الخاصة بل بمعونة الله فلا يضعف أحد أو يهن مادام مؤمناً، وكما قال الحق: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] وبعد أن يعد المؤمنون ما استطاعوا فليتركوا الباقي على الله. وجاء أيضاً قوله: {وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ} أي أن كل نقيب على سبط ليس له مطلق التصرف، ولكن الله يوضح: «أنا معكم وسأنظر كيف يدير كل نقيب هذه المسائل» أي أنه سبحانه وتعالى مطلع على واقعكم، فليس معنى الولاية أن يكون للوالي مطلق التصرف في جماعته؛ لا؛ لأن الله رقيب. وقوله الحق: {إِنِّي مَعَكُمْ} تدل على أن من ولي أمراً فلا بد أن يتابعه ويراه. وبعد ذلك قال: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . و «لئن» تضم شرطاً وقسماً، كأن الحق يقول: وعزتي لئن أقمتم الصلاة وفعلتم كذا وكذا ليكونن الجزاء أن أكفر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2998 عنكم السيئات. ودلت «اللام» على القسم، ودلت «إن» على الشرط فيه «إن» الشرطية. والقسم - كما نعلم - يحتاج إلى جواب، والشرط يحتاج إلى جواب أيضاً، فالواحد منا يقول للطالب: إن تذاكر تنجح. والواحد منا يقول: «والله لأفعلن كذا» ، و «الله» هي القسم. و «لأفعلن» جواب القسم المؤكد باللام. وحين يأتي القسم في جملة بمفرده فجوابه يأتي، وحين يأتي الشرط بمفرده في جملة فجوابه يأتي أيضاً. ولكن ماذا عندما يأتي القسم مع الشرط؟ هل يأتي جوابان: جواب للشرط وجواب للقسم؟ . عندما تجد هذه الحالة فانظر إلى المقدم منهما، هل هو القسم أو الشرط؟؛ لأن المقدم منهما هو الأهم؛ فيأتي جوابه، ويغني عن جواب الثاني. والمتقدم هنا هو القسم، تماماً مثل قولنا: - لئن قام زيد لأقومن، وهنا يكون الجواب جواب القسم، أما إن قلنا: إن قام زيد والله أُكرمْه، فالجواب جواب الشرط؛ فقدم الشرط على القسم. هذا إن لم يكن قد تقدم ما يحتاج إلى خبر كالمبتدأ أو ما في حكمه، فإن جاء والخبر أي المحتاج إلى الخبر فالشرط هو الراجح، أي فالراجح أن نأتي بجواب الشرط ونحذف جواب القسم؛ لأن الشرط تأسيس والقسم توكيد. وابن مالك في الألفية يوضح هذه القاعدة: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخّرت فهو مُلْتَزَمْ وإن تواليا وقَبْلُ ذو خبر ... فالشرط رَجَّحْ مطلقا بلا حَذَرْ والقسم قد تقدم في هذا الآية، لذا نجد الجواب هنا جواب القسم، وهو {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . وقوله الحق: {أَقَمْتُمُ الصلاة} يوضح أن الإقامة تحتاج إلى أمرين؛ فروض تؤدى، وكل فرض فيها يأخذ حقه في القيام به. وبعد ذلك {وَآتَيْتُمُ الزكاة} وفي كتب الفقه نضع الصلاة، والزكاة في باب العبادات. وجاء التقسيم الفقهي لتسهيل إيضاح الواجبات، لكن كل مأمور به من الله عبادة؛ لأن العبادة هي أن تطيع مَن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2999 تعبد في كل أمر به، وأن تجتنب ما نهى عنه، فكل أمر إلهي هو عبادة. وقلنا من قبل: إن الحق سبحانه قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9] وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] هنا نجد أمراً تعبدياً أن نترك البيع إلى الصلاة، وأمراً تعبدياً ثانياً أن ننتشر في الأرض ابتغاء لفضل الله بعد انقضاء الصلاة، وأي إخلال بالأمرين، إخلال بأمر تعبدي؛ فأنت مأمور أن تتحرك في الأرض على قدر قوتك حركةً تكفيك وتفيض عن حاجتك ليعم هذا الفائض على غيرك. وقوله الحق: {وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي أن ينعقد الإيمان في القلب فلا يطفو الأمر بعدذ لك لمناقشته، وأن تعزروا الرسل، أي وقرتموهم ونصرتموهم، والعَزْر في اللغة معناه المنع، ولكن المنع هنا مراد به أن يمنع الناس عن رسول الله من يريده بسوء؛ فإن أراد أحد من الأعداء السوء برسول من الله فليمنع المؤمنون هذا العدو عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وأنت في حياتك إن كان لك حبيب أراده إنسان بسوء، وكنت لا تدركه لأنه بعيد عنك فأنت تتمنى أن تأخذ صاحبك وتحميه من أن يناله العدو. لكن إن كان العدو أمامك فأنت تصده عن حبيبك. فالعزر هو المنع، اي أن تمنعه من عدوه وتحول بينه وبينه، أو تمنع عدوه من أن يناله بشر. والرسول بالنسبة للمؤمنين به تكون حياته أغلى من حياتهم، ففي أثناء المنع قد يصاب أحد المؤمنين، وفي ذلك تعظيم للرسول ونصرة له وتوقير. نقول ذلك حتى نرد على الذين يتصيدون ويقولون: إن «عزرتموهم» معناها «نصرتموهم» ، ومرة أخرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3000 يقولون: إن «عزرتموهم» معناها «منعتموهم» . ونقول: كل المعاني هنا ملتقية، فالعزر هو الرد والمنع، إما بمنع العدو عن الرسول، وإمّا أن يمنع الناس الرسول من أن يناله العدو، أو الاثنان معاً، ويجوز أيضا أن يكون معنى «عزرتموهم» هو نصرتموهم. وكذلك يجوز أن يكون معناها «وقرتموهم» ؛ لأن التعظيم والتوقير هما السبب في نصرة الإنسان للرسول. وبعد ذلك يقول الحق: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} . ويدبر الحق لنا سياسة المال، سواء للواجد أو لغير القادر، فالواجد يوضح له الحق: لا تجعل حركة حياتك على قدر حاجتك، بل اجعل حركة حياتك على قدر طاقتك، وخذ منها ما يكفيك ويكفي مَن تعول، والباقي رُدّه على مَن لم يقدر. ولو جعل كل إنسان حركة حياته على قدر حاجته، فلن يجد من لا يقدر على الحركة ما يعيش به. ولنذكر جيداً أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 1 - 4] وحين قال سبحانه: والذين هم للزكاة فاعلون، ليس معناها مجرد أداء زكاة، بل تعني أن يتحركوا في الحياة بغرض أن يتحقق لهم فائض يخرجون منه الزكاة، وإلا فما الفارق بين المؤمن والكافر؟ الكافر يعمل ليقوت نفسه ويقوت من يعول وليس في باله الله، أما مزية المؤمن فهو يعمل ليقوت نفسه، ويقوت من يعول ويبقى لديه فائض يعطيه للضعيف؛ فكأن إعطاء الضعيف كان في باله ساعة الفعل. وهذا هو المقصود بقوله الحق: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] أي أن كل فعل للمؤمن يُقصد منه أن يكفيه ويكفي أن يزكي منه. وهناك حق آخر في المال غير الزكاة؛ بأن يسد به ولي الأمر ما يحتاج إليه المجتمع الإيماني بشرط أن يقيم ولي الأمر كل شرع الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3001 والزكاة هي إخراج المال على نحو مخصوص، أما الصدقة فهي غير محسوبة من الزكاة لكنها فوق الزكاة. وهناك القرض، وهو المال الذي تتعلق به النفس، لأن الإنسان يقدمه لغيره شريطة أن يرده، ولذلك قيل إن القرض أحسن من الصدقة، ذلك أن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة، أما الذي تتصدق عليه فقد يكون غير محتاج، ويسأل دون حاجة، وأيضاً لأن نفس المتصدق تخرج من الشيء المتصدق به ولا تتعلق به، أما الذي يقدم القرض فنفسه متعلقة بالقرض وكلما صبر عليه نال حسنة، وكلما قدم نَظِرَةً إلى ميسرة فهذا له أجر كبير، هكذا يكون القرض أحسن من الصدقة. فالحق يريد أن تفيض حركة الحياة بالكثير. وكيف يقول سبحانه: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} وهو الواهب لكل النعم وهو الولي لكل النعم؟ وكيف يهب الحق للإنسان النعم، ثم يقول له: أقرضني؟ هو سبحانه وتعالى يحترم حركة الإنسان وعرقه مادام قد ضرب في الأرض وسعى فيها، فالمال مال الإنسان، ولكن أخا الإنسان قد يحتاج إليه، ولذلك فليقرضه ويعتبر سبحانه هذا قرضاً من الإنسان لله. ونحن نجد عائل الأسرة يقول لأحد أبنائه: بما أنك تدخر من مصروف يدك فأعط أخاك ما يحتاج إليه واعتبر ذلك قرضا عندي، صحيح أن العائل هو الذي أعطى المال لكل من يعول، فما بالنا بالذي أوجدنا جميعا، وهو الحق سبحانه وتعالى؟ لقد وهب كلاً منا ثمرة عمله واعتبر تلك الثمرة ملكاً لصاحبها. ويعتبر فوق ذلك إقراض المحتاج إقراضاً له. ويصف الحق القرض بأنه حسن حتى لا يكون فيه مَنُّ، أو منفعة تعود على المقرض وإلا صار في القرض ربا. ولنا الأسوة الحسنة في أبي حنيفة عندما يجلس في ظل بيتِ صاحبٍ له. واقترض صاحب هذا البيت من أبي حنيفة بعض المال. وجاء اليوم التالي للقرض وجلس ابو حنيفة بعيداً عن ظل البيت، فسأله صاحب البيت لماذا؟ أجاب أبو حنيفة: خفت أن يكون ذلك لونا من الربا. فقال صاحب البيت: لكنك كنت تقعد قبل أن تقرضني. فقال أبو حنيفة: كنت أقعد وأنت المتفضل علي بظل بيتك فأخاف أن أقعد وأنا المتفضل عليك بالمال. والقرض الحسن هو الذي لا يشوبه مَنٌّ أو اذًى أو منفعة؛ ولأن القرض دَيْنٌ، وضع الحق القواعد: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3002 {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} [البقرة: 282] فالحق يحمي المقترض من نفسه؛ لأنه إذا علم أن الدين مكتوب، يحاول جاهداً أن يتحرك في الحياة ليسد هذا الدين، ويستفيد المجتمع من حركته أيضاً. وعندما يُكتب القرض فهذا أمرٌ دافع للسداد وَحّاثٌّ عليه. لكن إن لم يكتب القرض فقد يأتي ظرف من الظروف ويتناسى القرض؟ ولو حدث ذلك من شخص فلن تمتد له يد من بعد ذلك بالمعاونة في أي أزمة، فيريد الحق أن يديم الأسباب التي تتداول فيها الحركة، ولذلك يقال في الأمثلة العامية: من يأخذ ويعطي يصير المال ماله. ويكون مال الدنيا كلها معه، ولذلك يقول الحق: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وفي ذلك حماية للنفس من الأغيار، ولم يمنع الحق الأريحية الإيمانية فقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] وهكذا يحمي الله الحركة الاقتصادية. ونجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو الرحيم بالمؤمنين، وقد بلغه أن واحداً قد مات وعليه دين، فقال للصحابة: صلوا على أخيكم. لكنه لم يصل على الميت. وتساءل الناس لماذا لم يصل رسول الله على هذا الميت وما ذنبه؟ كأن رسول الله أراد أن يعلم المؤمنين عن دين المدين فلم يمنع الصلاة، ولكنه لم يصل عليه حفزا للناس ودَفْعاً لهم إلى أن يبرئوا ذمتهم بسداد وأداء ما عليهم من دين. وقال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه. ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» . فمادام قد مات وهو مدين وليس عنده ما يسد الدين؛ فربما كان لا ينوي رد الدين، وأن نفسه قد حدثته بألا يرد الدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3003 وفي فلسفة هذا الأمر نفسياً نجد أن المقترض عندما يقترض شيئا كبيرا لا يستطيع أن يتجاهله أو ينساه، ثم لا يمر بذهن الذي أقرض أن فلاناً مدين، بل وقد تبلغ الحساسية بالذي قدم القرض ألا يمر على المقترض يريد أن يسدد القرض. أما إن تحرك قلب الدائن على المدين، وجلس يفكر في قيمة الدين، فليُفهم أن عند الذي اقترض بعض ما يسدد به الدين، أي أن المدين عنده القدرة على الوفاء بالدَّيْن أو ببعضه، ذلك أن الله لا يُحرج من يَجِد ويجتهد في السعي لسداد دينه. {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} . وقد يقول قائل: كان السياق اللفظي يقتضي أن يقول: «أقرضتم الله إقراضا» ؛ لكن الحق جاء بالقرض الحسن؛ لأن الإقراض هو العملية الحادثة بين الطالب للقرض والذي يقرض. وسبحانه يضع القرض الحسن في يده، ولنا أن نتصور ما في يد الله من قدرة على العطاء. ومثل ذلك قوله الحق: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] و «أنبتكم» تعبر عن عملية الإنبات، والأرض تخرج نباتا لا إنباتا. فمرة يأتي الله بالفعل ويأتي من بعد ذلك بالمصدر من الفعل؛ لأنه يريد به الاسم. و «أنبت» يدل على معنى وينشئ الله لكم منها نباتا. وهكذا قال الله عن القرض: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وفي ذلك جواب للقسم، ومن بعد ذلك يقول سبحانه: {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقد تكلمنا من قبل كثيرا عن الجنات. ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} ألم يكن الذي كفر من قبل ذلك قد ضل سواء السبيل؟ بلى، إنه قد ضل فعلا، ولكن الذي ضل بعد أن جاء ذكر تلك النعم والثواب فيها فالضلال أكثر. وكلمة «سواء» نقرأها في القرآن ونراها في الاستعمالات اللغوية؛ كمثل قوله الحق: {لَيْسُواْ سَوَآءً} [آل عمران: 113] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3004 وسواء معناها وسط، ومتساوون. والمعاني ملتقية؛ لأنه عندما يكون هناك وسط فمعنى ذلك أن هناك طرفين. ومادام الشيء في الوسط فالطرفان متساويان، وعندما نقول: وسط، فهذا يقتضي أن نجعل المسافة بينه وبين كل طرف متساوية. ولذلك يجب أن ننتبه إلى أن كثيراً من الألفاظ تستعمل في شيء وفي شيء آخر، وهذا ما يسمى بالمشترك اللفظي. . أي اللفظ واحد والمعنى متعدد، مثال ذلك قوله الحق: {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] والشطر هو الجهة. والشطر هو النصف. النصف هو الجهة بمعنى أن توجه إنسان ما إلى الكعبة يقتضي أن يكون الإنسان واقفاً في نقطة هي مركز بالنسبة لدائرة الأفق. وهذه النقطة بالنسبة لمحيط الأفق تقطع كل قطر من أقطارها في المنتصف تماماً. إذن. فعندما يقول: الجهة، نقول: صدقت، وعندما يقول النصف. نقول: صدقت. {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} والقرآن قد نزل على أمة تعيش في البادية وطرقها بين الجبال، وقد يكون الطريق معبّداً من ناحية، وقد يكون الطريق بين هاويتين. وقد يكون الطريق بين جبلين، ومن يأخذ بالأحوط فهو يمسي في الوسط. ولذلك قال الإمام علي - كرم الله وجهه -: اليمين والشمال مضلة وخير الأمور الوسط؛ لأن الإنسان قد يتجه يميناً فيقع. أو يتجه شمالاً فيقع؛ أو تقع عليه صخرة. ونجد الوالد ينصح ابنه فيقول له: امش ولا تلتفت يميناً أو يساراً واتجه إلى مقصدك. ونجد الحق يصف الطريق الذي يمشي عليه المؤمن يوم القيامة: {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] وسواء الجحيم هو نقطة المنتصف في النار؛ أي أنه لا يستطيع الذهاب يميناً أو شمالاً. ويقول الحق من بعد ذلك: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3005 وساعة يقول الحق: «ميثاقاً» فالميثاق يتطلب الوفاء. فهل وفوا بهذا الميثاق؟ . لا، لقد نقضوا المواثيق فلعنهم الله. واللعن هو الطرد والإبعاد، والحق في ذلك يقول: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} أي بسبب نقضهم الميثاق لعنهم الله. لقد أثار وجود «ما» هنا بعض التفسيرات، فهناك من العلماء من قال: إنها زائدة، وهناك آخرون قالوا: إنها «صلة» . ولكن الزيادة تكون عند البشر لا عند الله. ولا يمكن أن يكون بالقرآن شيء زائد؛ لأن كل كلمة في القرآن جاءت لمقتضى حال يحتم أن تكون في هذا الموضع. فها هوذا الحق يخبرنا بما وصى به لقمان ابنه: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] في الآية الأولى لم يورد «اللام» لتسبق «مِن» ، وفي الآية الثانية أورد «اللام» لتسبق «مِن» ، وليس ذلك من قبيل التفنن في العبارات، فقوله: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} دعوة للصبر على مصيبة ليس للإنسان غريم فيها، كالمرض، أو موت أحد الأقارب، وهذه الدعوة للصبر تأتي هنا كعزاء وتسلية، أما قوله الحق: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} فالدعوة للصبر هنا مع الغفران تقتضي وجود غريم يسبب للإنسان كارثة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3006 هنا يطلب الله من المؤمن أن يغفر لمن أصابه وأن يصبر. ومادام هناك غريم؛ فالنفس تكون متعلقة بالانتقام، وهذا موقف يحتاج إلى جرعة تأكيدية أكثر من الولى؛ فليس في الموقف الأول غريم واضح يُطلب منه الانتقام، أما وجود غريم فهو يحرك في النفس شهوة الانتقام، ولذلك يؤكدها الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} . ويقول سبحانه في موقع آخر: {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ} [المائدة: 19] وعندما يقوم النحاة بإعراب «بشير» فهم يقولون: «إنها فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخرة منع من ظهورها حركة حرف الجر الزائد. إنه التفاف طويل، ولا يوجد حرف زائد، فالإنسان يقول: ما عندي مال. وهذا القائل قد يقصد أنه لا يملك إلا القليل من المال لا يعتد به. وعندما يقول الإنسان» ما عندي من مال «ف» من «هنا تعني أنه لا يملك أي مالٍ من بداية ما يقال له مال. ولذلك ف» مِن «هنا ليست زائدة، ولكنها جاءت تعني لمعنى. إذن» ما جاءنا من بشير «أي لم يأت لنا بداية من يقال له بشير. وها هوذا قول الحق: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وقد يحسب البعض أن» ما «هنا حرف زائد، ولكنا نقول: ما الأصل في الاشتقاق؟ . إن الأصل الذي نشتق منه هو المصدر. ومرة يأتي المصدر ويراد به الفعل، كقول القائل: «ضرباً زيداً» أي «اضرب زيدا» . ومجيء المصدر هنا قول مقصود به الفعل، وكذلك قوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} . مادام النقض مصدراً فمن الممكن أن يقوم مقام الفعل. ومادام المصدر قد قام مقام الفعل فمن الجائز أن يأتي فعل آخر، فيصبح معنى القول: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} . إذن «ما» تدل هنا على أن المصدر قد جاء نيابة عن فعل. وبقيت «ما» لتدل على أن المصدر من الفعل المحذوف، أو أن «ما» جاءت استفهامية للتعجيب. . أي فبأي نقض من ألوان وصور نقضهم للعهد لعناهم؟ وذلك لكثرة ما نقضوا من العهود على صور وألوان شتى من النقض للعهد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3007 وقوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} . والنقض هو ضد الإبرام؛ لأن الإبرام هو إحكام الحكم بالأدلة. والنقض هو حل عناصر القضية، كأن العهد الموثق الذي أخذه الله عليهم قد نقضوه. ونحن نسمي العقيدة الإيمانية عقيدة، لماذا؟؛ لأنها مأخوذة من عقد الشيء بحيث لا يطفو ليناقش من جديد في الذهن. كذلك الميثاق إنه عهد مثبت ومؤكد. وعندما ينقضونه فهم يقومون بحله، أي أنهم أخرجوا أنفسهم عن متطلبات ذلك العقد. وجاء اللعن لأنهم نقضوا الميثاق. {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وهم عندما نقضوا المواثيق، طبع الله على قلوبهم؛ لأنه لم يطبع على قلوبهم بداية؛ فقد كفروا أولاً، وبعدذ لك تركهم الله في غيهم وضلالهم وطبع على القلوب فَمَا فيها من كفر لايخرج، والخارج عنها لا يدخل إليها. و «قاسية» تعني صُلبة. وفيها شدة. والصلابة مذمومة في القلوب وليست مذمومة في الدفاع عن الحق؛ لأننا نقيس كل موجود على مهمته. فعندما يكون كل موجود على مهمته يكون كل الكون جميلاً. مثال ذلك؛ نحن لا نقول عن الخُطاف ذمَّاً فيه إنه أعوج. فالخُطَّاف لا بد له من العوج؛ لأن ذلك العوج مناسب لمهمته، إذن فعوج الخطاف استقامة له. وكذلك القسوة غير مذمومة شريطة أن تكون في محلها، أما إن جاءت في غير محلها فهي مذمومة. إن القلوب القاسية مذمومة؛ لأن الحق يريد للقلوب أن تكون لينة: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23] والقسوة مأخوذة من القَسيِّ وهو الصلب الشديد، ونعرف أن الدنانير كانت تضرب من الذهب والدراهم تضرب من الفضة. وعندما يفحصها الصيرفي قد يُخرج واحداً منها ويقول: هذا زيف أو زائف لأنه قد سمع رنينها، أهي صلبة في الواقع أم لا؟ . وعندما تكون صلبة يقال لها: دراهم قاسية. إنّ الذهب لين. والفضة لينة. فعندما نقول: إن هذا ذهب عيار أربعة وعشرين أي ذَهَبٌ ليس به نسبة من المواد الأخرى التي تجعله قابلاً للتشكيل؛ لأنه عندما يكون ذهباً صافياً على إطلاقه فلن يستطيع الصائغ أن يصوغ منه الحلي؛ لذلك يخلطه الصائغ بمعدن صُلب، حتى يعطيه المعدن درجة الصلابة التي تتيح له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3008 تشكيل الحلي منه. وتختلف نسبة الصلابة من عيار إلى عيار في الذهب وكذلك الفضة. والمصوغات المصنوعة من عيار مرتفع من الذهب ليست عرضة للتداول، كالسبائك الذهبية. وإذا ما دخل المعدن الصلب إلى الذهب أو الفضة جعلها قاسية؛ أي صلبة. الصلابة - إذن - فيما يناسبها محمودة. وفيما لا يناسبها مذمومة كصلابة القلوب وقسوتها. ويقول الحق: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} مثل ذلك نقلهم أمر الله الذي طلب منهم أن يقولوا: «حطة» فقالوا: «حنطة» {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} وكانت وسائل النسخ في الكتب التي سبقت القرآن هي نسيان حظٍّ مما ذكروا به، والنسيان قد يكون عدم قدرة على الاستيعاب، لكنه أيضاً دليل على أن المنهج لم يكن على بالهم. فلو كانت كتب المنهج على بالهم لظلوا على ذكر منه، كما أنهم كتموا ما لم ينسوه، والذي لم ينسوه ولم يكتموه حرّفوه ولووا ألسنتهم به. وياليت الأمر اقتصر على ذلك، ولكنهم جاءوا بأشياء وأقاويل وقالوا إنها من عند الله وهي ليست من عند الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] هي أربعة ألوان من التغيير، النسيان، والكتم، والتحريف، ودسّ أشياء على أنها من عند الله وهي ليست من عند الله. ولنا أن نتأمل جمال القول الحكيم: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} فهم على قدر كبير من السوء بدرجة أنستهم الشيء الذي يأتي لهم بالحظ الكبير، مثل نسيانهم البشارات بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وكتمانها، ولو كانوا قد آمنوا بها، لكان حظهم كبيراً؛ ذلك أنهم نسوا أمراً كان يعطيهم جزاء حسناً، إذن فقد جنوا على أنفسهم؛ لأن الإسلام لن يستفيد لو كانوا مهتدين أو مؤمنين والخسار عليهم هم، ولم يدعهم الله ويتركهم على نسيانهم ليكون لهم بذلك حجة، بل أراد أن يذكرهم بما نسوه. وكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3009 مقتضى ذلك أن ينصفوا أنفسهم بأن يعودوا إلى الإيمان؛ لأن الحق ذكرهم بما نسوا ليحققوا لأنفسهم الحظ الجميل. وقد يراد أنّهم تركوا ذلك عامدين معرضين عنه مُغْفِلين له عن قصد. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} [المائدة: 13] أي أن خيانتهم لك يا رسول الله ولأتباعك ولمنهج الله الحق في الأرض ستتوالى، ولاأدل على ذلك مما حدث منهم ضد رسلهم أنفسهم مع أنهم من بني جلدتهم ومن عشيرتهم، إنهم من بني إسرائيل مثلهم، فما بالك بنبي جاء من جنس آخر ليقتحم عليهم سلطتهم الزمنية؟ إذن فخيانتهم لله متصورة. و «خائنة» بمعنى «خيانة» مثلها مثل «قائلة» وهي القيلولة أي المسافة الزمنية بعد الظهر، وفعلها: قال يقيل أي نام وسط النهار أو «خائنة» أي «نفس خائنة» . أو «خائنة» مثل امرأة خائنة «أو» خائنة «مبالغة كما نقول» راوٍ «و» راوية «ونحن نعني رجلاً، أو نقول» جماعة خائنة «. إذن فالكلمة الواحدة هنا مستوعبة لكل مصادر الخيانة منهم، رجل أو امرأة أو جماعة أو كل هؤلاء. والذي يتكلم هنا هو رب العالمين، ويتكلم للعرب وهم أهل فصاحة، إنه أداء لغوي عال. ومن فرط دقة القرآن وصدقه يأتي الحق بقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} طبقا لقانون صيانة الاحتمال. فحين يخاطب الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليبين له موقف اليهود منه، ألا يُحتمل أن يُوجد قوم من اليهود يغلبهم الفهم العميق فيفكروا في أن يؤمنوا بهذا الرسول، ويهدئوا من شراسة ظنهم به؟ وقد فكر بعضهم وأعلن الإسلام. وهؤلاء القوم عندما يسمعون أحكام الله على اليهود أجمعين، ألا يقولون: وما لنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3010 ندخل في هذه الزمرة؛ ونفكر في أن ننطق بالإيمان؟ فكأن قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} صان قانون الاحتمال أن يكون إنسان منهم فكر في الإيمان. ومن فكر في الإيمان فسوف يجد قوله الحق: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} وسيرى هذا الإنسان في نفسه أن القرآن دليل نزل على نور. وقد كان وأعلن قليل منهم إسلامه، وماذا يكون موقفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أن يخبره الحق: بأنك ستتعرض مستقبلا لخيانتهم؟ ألا يحرك ذلك نفسية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين عليهم، فإذا فعل اليهود خائنة فلا بد أن ينتقموا منهم، وتطبيقا للقاعدة الأساسية في رد العدوان بأن من يعتدي عليك فاعتد عليه. لم يشأ - سبحانه - أن يترك الموقف لعواطف البشر مع البشر بل قال: {فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} والعفو هو كما نقول: فلان عفَّى على آثاري، أي أن آثارك تكون واضحة على الأرض وتأتي الريح لتمسحها فتعفي على الأثر. والأمر بالعفو أي امسح الأثر لذنب فعلوه. والخطيئة التي ارتكبوها عليك أن تعتبرها كأنها لم تحدث، ولكن أيظل أثرها باقيا عند رسول الله؟ لا، فالأمر بالصفح يأتي وهناك فرق بين أن تمحو الخطيئة وتبقى أثرها في نفسك وتظل في حالة من الغيظ والحقد. والحق هنا يأمر بالعفو أي إزالة أثرها ويأمر بالصفح أي أن تُخْرِجَ أثر الخطيئة من بالك؛ لأن الإنسان منا له مراحل؛ المرحلة الأولى بعد أن يرتكب أحدهم ذنبا في حقه، فلا يقابل العدوان بمثله، وهذا هو العفو، والمرحلة الثانية: ألا يترك أثر هذا الذنب يعمل في قلبه بل يأتي الصفح حتى لا ينشغل قلب المؤمن بشيء قد عفا عنه، والمرحلة الثالثة: فرصة مفتوحة لمن يريد أن يتمادى في مرتبة الإحسان وترقي اليقين والإيمان بأن يحسن الإنسانُ إلى من أساء إليه. وهذه المراحل الثلاث يوضحها قوله الحق: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] وعملية الإحسان مع المسيء أو المعتدي: أهي عملية منطقية مع النفس الإنسانية؟ قد تكون غير منطقية مع النفس الإنسانية، ولكنك أيها الإنسان لا تشرع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3011 لنفسك، إنما الذي يشرع لك هو الأعلى من النفس الإنسانية. والخالق يقول لك: لو علمت ما قدَّمه لك من أساء إليك لأحسنت إليه. لأنك إن أسأت إلى خلق من خلق الله فالذي يثأر ويأخذ الحق لمن أسيء إليه هو رب هذا المخلوق. ويأتي الله في صف الذي تحمل الإساءة. إذن فإساءة العدو لك جعلت الله في صفك وفي جانبك، ألا يستحق ذلك المسيء أن نشكره؟ ألا تقول لنفسك القول المأثور: ألا تحسن إلى من جعل الله في جانبك. إذن هذا هو التشريع: {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} والإحسان هنا خرج بالترقي الإيماني عن مرحلة: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] والإحسان أن تفعل شيئا فوق ما افترضه الله، ولكن من جنس ما افترضه الله؛ والمحسن الذي يدخل في مقام الإحسان هو من يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فهو سبحانه وتعالى يرى كل خلقه. ونعرف قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15 - 16] ما الذي جاء بالإحسان هنا؟ وتكون الإجابة: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] وهل يكلف الله خلقه ألا يهجعوا إلا قليلا من الليل؟ لا. فقد كلف الله المسلم بالصلاةن وأعلمه بأنه حر بعد صلاة العشاء، وله الحق أن ينام إلى الفجر، فإن سمع أذان الفجر فليقم إلى صلاة الفجر. لكن المحسن يريد الارتقاء بإيمانه فيزيد من صلواته في الليل. ويضيف الحق مذكرا لنا بصفات المحسنين: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3012 أكلف الله الخلق بأن يستغفروا بالأسحار؟ لا. بل إن الرسول يجيب على رجل سأله عن الفروض الأساسية المطلوبة منه، فذكر له أركان الإسلام ومن بينها الصلوات الخمس المكتوبة، فقال الرجل: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أفلح إن صدق» . ويضيف الحق في استكمال صفات المحسنين: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] ونلحظ أن الحق هنا لم يقل: «حق معلوم» إنما قال: {حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} فالحق المعلوم هو الزكاة، أما المحسن فللسائل والمحروم في ماله حق غير معلوم، وذلك ليفسح سبحانه المجال للطموحات الإيمانية، فمن يزد في العطاء فله رصيد عند الله. والحق يقول: {فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} ؛ لأن الإحسان إليهم يهيج فيهم غريزة العرفان بالجميل، فيستل ذلك الإحسان الحقد من قلوبهم، ويفتحون آذانهم وقلوبهم لكلمة الحق: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] لأن العداوة لا تشتد إلا إذا وُجد مُؤجج لها من عداوة في المقابل. فعندما تعامل عدوك بالحسنى ولا ترد على عدائه بالعدوان فكم من الزمن يصير عدواً لك؟ إنه اعتدى مرة وسَكّتَّ أنت عليه، واعتدى ثانية وسكت أنت عليه. لا بد أنه يهدِّئ من نفسه. إذن فالعداوة لا تتأجج إلا إذا قابلتها عداوة أخرى. ولذلك نرى ما حدث في المعركة التي قامت بين فرعون وسيدنا موسى عليه السلام حين أراد الله أن يجعل العداوة لا من جهة واحدة ولكن من جهتين اثنتين لتكون معركة حامية؛ لأن العداوة لو كانت من جهة واحدة لهذا الطرف المعتدي: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3013 فهل هم التقطوه ليكون عدواً؟ لا. لقد التقطوه ليكون قرة عين. ولكن قدر الله سبق. كان الأمل في أن يصير موسى قرة عين آل فرعون، ولكن الله أراد أن يقوموا بتربيته، ثم يصير من بعد ذلك عدواً لهم. وهكذا يتضح لنا أن تدبير السماء فوق تدبير الأرض. وموسى السامري مثلاً ربته السماء بواسطة جبريل، وولدته أمه منقطعا في الصحراء، فكان جبريل ينزل عليه بما يطعمه إلى أن كبر، وموسى ابن عمران ذهب إلى فرعون ليربيه، لكن موسى السامري - الذي رباه جبريل - صار كافراً، وموسى بن عمران الذي رباه فرعون أصبح رسولاً إلى بني إسرائيل. وكلا القدرين أرادهما الله، ولذلك يقول الشاعر: إذا لم تصادف في بريق عناية ... فقد كذب الراجي وخاب المؤمل فموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل كأن آل فرعون قد قاموا بتربية موسى بن عمران ليكون عدواً لهم لا قرة عين. والعداوة تكون من جهة موسى لفرعون، وتجيء العداوة من فرعون لموسى، فيقول الحق: {فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 39] هكذا صارت العداوة من طرفين. والحق سبحانه وتعالى أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يصفح عن الخيانات التي تحدث منهم، لعل الوعي الإيماني يستيقظ فيهم، ويقولون: لم يعاملنا بمثل ما عاملناه به، ويعترفون به نبياً رحيماً رءوفاً كريماً، ولا يقفون في وجه دعوته. لكن أيظل العفو والصفح هما كل التعليمات الصادرة من الحق إلى نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ لا. فقد مر الأمر الإلهي بمرحليات متعددة؛ فالرسول يستقطب النفس الإنسانية بأن يستعبدها بالإحسان، فإن لم يستعبدها الإحسان فلا بد أن يشمر النبي عن الساعد ويفعل ما يأمره به الله، ولنقرأ قوله الحق: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3014 بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [لبقرة: 109] إذن فهناك أمر خفي هو: {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] وسبحانه قد أمر بأن يتركهم الرسول مع الصفح والعفو لمرحلة قادمة يأتي فيها الأمر بتأديبهم. وهذه عملية إنسانية فطرية عرفها العربي الجاهلي وخَبَرها قبل أن يأتي الإسلام؛ فقد كان العربي يحسن إلى عدوه مرة وثانية وثالثة، وعندما يجد أن الإحسان لم يثمر ثمرته؛ يقاتل العدو، وكما قال الشاعر: أناة فإن لم تغن قدم بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه من الحلم أن تستعمل الحزم دونه ... إذا لم يسع بالحلم ما أنت عازمه وقال الشاعر: صفحنا عن بني ذهل ... وقلنا القوم إخوان عسى الأيام أن يرجع ... ن قوماً كالذي كانوا فلما صَرَّحَ الشر ... وأضحى وهو عريان مشينا مشية الليث ... غَدَا والليث غضبان بضرب فيه تأييم ... وتفجيع وإرنان وطعن كفم الزق ... غَدَا والزق ملآن وفي الشر نجاة حي ... ن لا ينجيك إحسان وبعض الحلم عند الجه ... ل للذلة إذعان ومثل ما جرى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع اليهود، حدث مع النصارى واورد الحق سبحانه وتعالى هذا فقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3015 {وَمِنَ الذين قَالُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3016 لقد قالوا إنهم نصارى. وأخذ الحق الميثاق منهم، إما ميثاق الذر وإما ميثاقهم لنبيهم عيسى ابن مريم، فنسوا حظاً مما ذكروا به وتركوا ما أمرهم به الإنجيل ونقضوا الميثاق، فتفرقوا في عداء ملحوظ فِرَقاً شتى، وجاء أمر الله كما وعد: {يَا أَهْلَ الكتاب ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3016 كأن الحق سبحانه وتعالى يعطيهم الفرصة والعذر حتى لا يقولن واحد منهم: لم يبلغني عن رسولي شيء. وهناك فترة لم يأت فيها رسول. وها هوذا رسول من الله يأتي حاملاً لمنهج متكامل. ومجيء الرسول يمنحهم ويعطيهم فرصة لتجديد ميثاق الإيمان. وهم قد أخفوا من كتبهم بعض الأحكام. مثل الرجم والربا، وقال بعض من بني إسرائيل في الربا ما ذكره القرآن عنهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] أي أنهم أقروا الإقراض بالربا لمن هم على غير دينهم، ولكن لا ربا في تعاملهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3016 مع أبناء دينهم. وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يلم الشمل وأن يجمع أيديهم مع يده؛ لأنه نبي انتظروه ولهم في كتبهم البشارة به. وأن يقف الجمع المؤمن أمام موجة الإلحاد في الأرض حتى يسيطر نظام السماء على حركة الأرض؛ لذلك قال الحق: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌْ} . ومعنى ذلك ان كتمانهم لبعض منهج الله قد صنع ظلمة في الكون. ومادامت قد حدثت ظلمانية في الكون، وخاصة ظلمانية القيم، إذن فالكون صار في حاجة إلى من ينير له الطريق. ونعرف أن النور هو ما نتبين به الأشياء. وحين يعرض الحق لنا قضية النور الحسي يريد أن يأخذ بيدنا من النور الحسي إلى النور المعنوي؛ فالنور الحسي يبدد ظلام الطريق حتى لا نصطدم بالأشياء أو نقع في هوة أو نكسر شيئاً، لكن عندما يحمل الإنسان نوراً فهو يمشي على بينة من أمره. والنور الحسي يمنع من تصادم الحركات في المخلوقات، حتى لا تبدد الطاقة، فتبديد الطاقة يرهق الكون ولا يتم إنجاز ما. إن الشمس في أثناء النهار تضيء الكون، ثم يأتي القمر من بعد الشمس ليلقي بعضاً من الضوء، وكذلك النجوم بمواقعها تهدي الناس في ظلمات البر والبحر. وجعل الله هذه الكائنات من أجل ألا تتصادم الحركة المادية للموجودات، فإذا كان الله قد صنع نوراً مادياً حتى لا يصطدم مخلوق بمخلوق، فهو القادر على ألا يترك القيم والمعاني والموازين بدون نور، لذلك خلق الحق نور القيم ليهدي الإنسان سواء السبيل، فإذا كان الكافر أو الملحد يتساوى مع المؤمن في الاستفادة بالنور المادي لحماية الحركة المادية في الأرض، ولم نجد أحداً يقول: أنا في غير حاجة للانتفاع بالنور المادي، ونقول للكافرين والملاحدة: مادمتم قد انتفعتم بهذا النور فكان يجب أن تقولوا: إن لله نوراً في القيم يجب أن نتبعه. ويلخص المنهج هذا النور ب «افعل ولا تفعل» . فالمنهج - إذن - نور من الله. ولنقرأ: {الله نُورُ السماوات والأرض} [النور: 35] إنه يأخذ بيدنا في الطريق بالنور المادي الذي يستفيد منه الكل، سواء من كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3017 مؤمنا أو غير ذلك، ويضرب سبحانه لنا مثل النور. {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] والمشكاة هي الطاقة التي توجد في الجدار وهي غير النافذة، إنّها كوة في الجدار يوضع فيها المصباح الزيتي أو «الكيروسيني» وتوجد في المباني البدائية قبل أن يخترع الإنسان المصابيح الكهربية والثريات. ولا تتجاوز مساحة الكوة ثلاثين سنتيمترا، وطولها أربعون سنتيمتراً ولا يزيد عمقها على خمسة عشر سنتيمتراً؛ أما الحجرة فمساحتها تزيد أحياناً على ثلاثة أمتار في الطول والعرض والارتفاع. ويتحدث الحق عن الكوة فقط ولا يتحدث عن الحجرة. وأي مصباح في الكوة قادر على إنارة الحجرة. ولننتبه إلى أن هذا المصباح غير عادي، فهو مصباح في زجاجة. ونعرف أن المصباح الذي في زجاجة هو من الارتقاءات الفكرية للبشر. فالمصابيح قديماً كانت بدون زجاجة وكان يخرج منها ألسنة من السَّناج «الهباب» الذي يُسوّد ما حولها، فالسَّناج أثر دخان السراج في الحائط وغيره. وقد ينطفئ المصباح لأن الهواء يهب من كل ناحية، ثم وضع الإنسان حول شعلة المصباح زجاجة تحمي النار وتركز النور وتعكس الأشعة ويأخذ المصباح من الهواء من خلال الزجاجة على قدر احتياج الاشتعال. {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35] أي أن النور من هذا المصباح أشد قوة؛ لأن الزجاجة تعكس أشعة المصباح وتنشر الضوء في كل المكان. والزجاجة التي يوجد فيها هذا المصباح ليست عادية: {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] والكوكب نفسه مضيء، وتكون الزجاجة كأنها هذا الكوكب الدري في ضيائه ولمعانه. والمصباح يوقد من ماذا؟ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3018 {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35] وهذا ارتقاء في إضاءة المصباح من زيت شجرة زيتون، والشجرة غير عادية: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] فهي شجرة يتوافر لها أدق أنواع الاعتدال: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] ذلك هو من قدرة الله في نور الكونيات المادية، ولذلك فليس من المعقول أن يترك القيم والمعنويات بدون نور. فكما اهتدى الإنسان في الماديات فينبغي أن يفطن إلى قدرة الحق في هداية المعنويات، بدليل أن الله قال: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} [النور: 35] يهدي الله بنور القيم والمنهج والمعاني من يريد. وقد يهتدي الملحد بنور الشمس المادي إلى الماديات ولكن بصره أعمى عن رؤية نور المنهج والقيم؛ لذلك يوضح سبحانه أن هناك نوراً إلهياً هو المنهج. وضرب هذا المثل ليوضح المعاني الغيبية المعنوية بالمعاني الحسية. ونحن على مقاديرنا نستضيء، فالفقير أو البدائي يستضيء بمصباح غازي صغير، والذي في سعة من العيش قد يشتري مولداً كهربياً. وكل إنسان يستضيء بحسب قدرته. ولكن عندما تشرق الشمس في الصباح ما الذي يحدث؟ . يطفئ الإنسان تلك المصابيح، فالشمس هي نور أهداه الله لكل بني الإنسان، ولكل الكون. كذلك إذا فكرنا بعقولنا فيما ينير حياتنا فكل منا يفكر بقدرة عقله. ولكن إذا ما نزل من عند الله نور فهو يغني عن كل نور أخر. وكما نفعل في الماديات نفعل في المعنويات: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3019 {نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} [النور: 35] والذي يدلنا على أن النور الثاني هو نور القيم الذي يكشف لنا بضوء «افعل ولا تفعل» أن الله قال بعد ذلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [النور: 36] ولوبحثت عن متعلق الجار والمجرور لم تجده إلا في قوله: (في بيوت أذن الله أن ترفع) كأن النور على النور يأتي من مطالع الهدى في مساجده. فهي بيوت الله نقبل عليها ليفيض منها نور الحق على الخلق. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 36 - 37] وكلمة {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} لا تعني تحريم التجارة، فالإنسان الصادق لا تلهيه التجارة عن ذكر الله. وليكن الله على بال المؤمن دائما، فعندما يكون الإنسان على ذكر لله فالله يعطيه من مدده. إذن يا أهل الكتاب قد جاءكم النور، وبين لكم الرسول كثيراً مما تختلفون فيه. وتسامح عن كثير من خطاياكم، ويريد أن يجري معكم تصفية شاملة. فعليكم أن تلتفتوا وتنتبهوا وتُعَدِّلوا من موقفكم من هذا الدين الجديد. ولتبحثوا ماذا يريد الله بهذا المنهج. والله قد ضرب المثل بالنور، وهذا النور يهدي إلى «افعل ولا تفعل» . ومن الذي يقول لنا إن هذا النور قادم من الله؟ إنه الرسول، ومن الذي يدلنا على أن الرسول صادق في البلاغ عن الله؟ الذي يدل على صدقه هو قول الله: {يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174] فالذي جاء أولا من ربكم هو البرهان على أن رسول الله صادق في البلاغ عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3020 الله، وليبلغنا أن الكتاب قد جاء بالمنهج. والقرآن يتميز بأنه البرهان على صدق النبي وهو المنهج النوراني؛ لأن البرهان هو الحجة على صدق الرسول في البلاغ عن الله. ونعرف البرهان في حياتنا التعليمية أثناء دراسة مادة الهندسة عندما نقابل تمرينا هندسيا فنأخذ المعطيات وبعد ذلك ننظر إلى المطلوب إثباته. ونعيد النظر في المعطيات لنأخذ منها قوة للبرهنة على إثبات المطلوب. وإن كانت المعطيات لا تعطي ذلك فإننا نتجه إلى خطوة أخرى هي العمل على إثبات المطلوب. وهذا الكون فيه معطيات، وهو كون محكم، ونلمس إحكامه فيما لا دخل لحركتنا فيه: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار} [يس: 40] كون موزون بالسماء والأرض وحركة الرياح وغير ذلك، وتلك الأمور التي لا دخل للإنسان فيها نجد القوانين فيها مستقيمة تمام الاستقامة وكمالها. فإن أراد الإنسان أن يأخذ المعطيات من الكون، فليأخذ في اعتباره النظر إلى الأمور التي للإنسان دخل فيها ولسوف يجدها تتعرض للفساد؛ لأن الهوى في البشر له مدخل على هذه الأشياء. لكن الخالق الأعلى لا تطوله ولا تتناوله أمور الهوى. ولذلك يقول سبحانه: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7] فلا السماء تنطبق على الأرض، ولا كوكب يزاحم كوكبا آخر. ويبين لنا الحق كيفية السير بنظام الكون: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 8] فإن أردتم أن تكون حركتكم منتظمة فانظروا إلى ما لأيديكم دخل فيه واصنعوه كصنع الله فيما ليس لأيديكم مدخل فيه. {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 9] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3021 فإن كنتم معجبين باتزان الكون الأعلى فذلك لأنه مصنوع بنظام دقيق. وإذا كان الحق قد وضع لنا نظاما دقيقا هو المنهج ب «افعل كذا ولا تفعل كذا» فذلك حتى لا تفسد حركتك الاختيارية إن اتبعت المنهج، وتصرفت في حياتك بمنهج الله ويكون الميزان معتدلاً. إذن فقد أعطانا الحق معطيات عندما ينظر الإنسان فيها نظرا فطريا بدون هوى فإنها تأخذ بيده إلى الإيمان. وهذه الكائنات الموزونة لا بد لها من خالق؛ لأن الإنسان طرأ عليها ولم تأت هي من بعد خلق الإنسان. ولا أحد من البشر يدعي أنه صنع هذا الكون. إذن لا بد من البحث عمن صنع هذا الكون الدقيق، والدعوى حين تسلم من الضعف، أتكون صادقة أم غير صادقة؟ تكون صادقة تماما. والله هو الذي قال إنه خلق السماء والأرض والكون. ولم يأت مدعٍ آخر يقول لنا: إنه الذي خلق. إذن يثبت الأمر لله إلى أن يوجد مدعٍ. ومع توالي الأزمنة وتطاولها لم يدع ذلك أحد. وكان لا بد أن تكون مهمة العقل البشري أن يفكر ويقدح الذهن ليتعرف على صانع هذا الكون، وكان لا بد أن يتوجه بالشكر لمن جاء ليحل له هذا اللغز. وقد جاءت الرسل لتحل هذا اللغز ولتدلنا على مطلوب عقلي فطري، ولو أننا سلسلنا الوجود لوجدنا أن الإنسان هو سيد هذا الوجود؛ لأن كل الكائنات تعمل وتجهد في خدمته. وأجناس الوجود كما نعرفها التي تخدم الإنسان هي الحيوان ويتميز عنه الإنسان بالعقل، وهناك جنس تحت الحيوان هو النبات فيه النمو، وهناك جنس أدنى وهو الجماد. وكل هذه الأجناس مهمتها خدمة الإنسان. والجماد ليس هو الشيء الجامد، بل الهواء جماد والشمس جماد والتربة جماد، وكل ذلك يمارس مهمته في الوجود لخدمة الأجناس الأعلى منها ويستفيد الإنسان منها جميعا والحيوان يستفيد من الجماد وكذلك النبات يستفيد من الجماد، والحيوان يستفيد من النبات والجماد، والمحصلة النهائية لخدمة الإنسان. أليس من اللائق والواجب - إذن - أن يسأل الإنسان نفسه من الذي وهبه هذه المكانة؟ فإذا جاء الرسول ليحل هذا اللغز ويبلغنا أن الذي خلق الكون هو الله وهذه صفاته، ويبلغنا أن هذا المنهج جاء من الله ويحمل معه معجزةً هي دليل صدقِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3022 البلاغِ عن الله، وهي معجزة لا يقدر عليها البشر، ويتحدى الرسول البشر أن يأتوا بمثل معجزته. إذن فلا بد أن يؤمن كل البشر لو صَدَقُوا الفهم وأخلصوا النية. ما هو البرهان إذن؟ البرهان هو المعجزة الدالة على صدق الرسول في البلاغ عن الله. هذا البلاغ عن الله الذي بحث عنه العقل الفطري وآمن أنه لا بد أن يكون موجودا، لكنه لم يتعرف على أنه «الله» . إن الرسول هو الذي يبلغنا عن اسم الخالق، وهو الذي يقدم لنا المنهج. إذن فمجيء الرسل أمر منطقي تحتمه الفطرة ويحتمه العقل. ولذلك أنزل الحق النور العقدي، أنزل - سبحانه - المنهج ليحمي المجتمع من الاضطراب، ولذلك يقول الحق: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71] إذن فالدين جاء من الله ليتدخل في الأمور التي تختلف فيها الأهواء، فحسم الله النزاع بين الأهواء بأن انفرد سبحانه أن يشرع لنا تشريعا تلتقي فيه أهواؤنا، ولذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» . أي أن تتحد الأهواء تحت مظلة تشريع واحد؛ لأن كل إنسان إن انفرد بهواه، لا بد أن نصطدم، ولا نزال نكرر ونقول: إن خلافات البشر سواء أكانت على مستوى الأسرة أم الجماعة أم الأمة أم العالم، جاءت من اختلاف الأهواء، ولكن الأشياء التي لا دخل للأهواء فيها فالعالم متفق فيها تماما، بدليل أننا قلنا: إن المعسكر الشرقي السابق والمعسكر الغربي الحالي اختلفا بسياستين نظريتين، هذا يقول: «شيوعية» ؛ وهذا يقول: «رأس مالية» . إنه لا يوجد معمل مادي كي ندخل فيه الشيوعية أو الرأسمالية ونرى ما ينفعنا. أنَّها أهواء، لذلك تصادما في أكثر من موقع، وانهزمت الشيوعية وبقيت آثارها تدل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3023 عليها. لكن الأمور المادية المعملية. لم يختلفوا فيها. ونقول الكلمة المشهورة: «لا توجد كهرباء روسي ولا كهرباء أمريكاني» . «ولا توجد كيمياء روسي ولا كيمياء أمريكاني» ؛ فكل الأمور الخاضعة للتجربة والمعمل فيها اتفاق، والخلاف فقط فيما تختلف وتصطدم فيه الأهواء. فكأن الله ترك لنا ما في الأرض لنتفاعل معه بعقولنا المخلوقة له، وطاقاتنا وجوارحنا المخلوقة له، ويوضح: إن التجرية المعملية المادية لن تفرقكم بل ستجتمعون عليها. وسيحاول كل فريق منكم أن يأخذ ما انتهى إليه الفريق الآخر من التجارب المادية ولو تلصصها، ولو سرقها، أما الذي يضركم ويضر مجتمعكم فهو الاختلاف في الأهواء. وليت الأمر اقتصر على الاتفاق في الماديات والاختلاف في الأهواء، لا، بل جعلوا مما اتفقوا عليه من التجارب المادية والاختراعات والابتكارات وسيلة قهرية لفرض النظرية التي خضعت لأهوائهم. فكأننا أفسدنا المسألة. . أخذنا ما اتفقنا فيه لنفرض ما اختلفنا عليه. إن الحق سبحانه وتعالى أعطانا كل هذه المسائل كي تستقيم الحياة، ولا تستقيم الحياة إلا إن كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي يحسم في مسائل الهوى، ولذلك حتى في الريف يقولون: «من يقطع إصبعه الشرع لن يسيل منه دم» ؛ لأن الذي يقول ذلك مؤمن، أي أن الحكم حين يأتي من أعلى فلا غضاضة في أن نكون محكومين بمن خلقنا وخلق لنا الكون، وتدخلت السماء في مسألة الأهواء بالمنهج: افعل هذا ولا تفعل هذا، لكن ما ليس فيه أهواء أوضح سبحانه: أنتم ستتفقون فيها غصباً عنكم، بل ستسرقونها من بعضكم، إذن فلا خطر منها. إن الخطر في أهوائكم. ولذلك اذكروا: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمهات المسائل التي يترتب عليها حسن نظام المجتمع كما يريده الله كان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يتحمل هو التجربة في نفسه، ولا يجعل واحداً من المؤمنين به يتحمل التجربة، فمسألة التبني حين أراد ربنا أن ينهيها حتى لا يدعي واحد آخر أنه ابنه وهو ليس أباه، أنهاها الله في رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ} [الأحزاب: 37] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3024 وفي مسألة الماديات والأهواء يقول أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مر بقوم يلقحون فقال: «لو لم تفعلوا لصلح» قال: فخرج شيصا، فمر عليهم فقال: «ما لنخلكم» قالوا: قلت كذا وكذا قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تركهم لتجربتهم. السماء - إذن - لا تتدخل في المسائل التجريبية؛ لأنه سبحانه وهب العقل ووهب المادة ووهب التجربة، ورأينا رسول الله يتراجع عما اجتهد فيه بعد أن رأى غيره خيرا منه كي يثبت قضية هامة هي أن المسائل المادية المعملية الخاضعة للتجربة ليس للدين شأن بها فلا ندخلها في شئوننا، فلا نقول مثلاً: الأرض ليست كروية، أو أن الأرض لا تدور. فما لهذا بهذا؛ لأن الدين ليس له شأن بها أبداً، وهذه مسائل خاضعة للتجربة وللمعمل وللبرهان وللنظرية، بل دخل الدين ليحمينا من اختلاف أهوائنا؛ فالأمر الذي نختلف فيه يقول فيه: افعل كذا ولا تفعل كذا بحسم، والأمر الذي لم يتدخل فيه ب «افعل ولا تفعل» أوضح لك: سواء فعلته أم لم تفعله لا يترتب عليه فساد في الكون، وخذوا راحتكم فيما لم يرد فيه «افعل ولا تفعل» ، وأريحوا أنفسكم واختلفوا فيه؛ لأن الخلاف البشري مسألة في الفطرة والجبلّة والخلقة. وهنا يقول: «قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين» و «النور» أهو الكتاب أم غيره؟ . وفي آية أخرى يقول: {يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174] وهذا القول يدل على أن النور هنا هو «القرآن» وجمع بين أمرين؛ برهان. . أي معجزة، ونور ينير لنا سبيلنا. {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا} والإيمان بالله مسألة تطبيقية مرحلية. «الله» هو قمة الإيمان و «رسوله» هو المبلغ عن الله؛ لأنه جاء لنا بالنور. إلا أن أهل الشطح يقولون: النور مقصود به النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونقول: نحن لا نمانع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3025 أنه نور، وإن كان النص يحتمل أن يكون عطف تفسير، وحتى لا ندخل في متاهة مع بعض من يقولون: لا ليس الرسول نوراً؛ لأنه مأخوذ من المادة وسنجد من يرد عليهم بحديث جابر: ما أول ما خلق الله يا رسول الله؟ قال له: نور نبيك يا جابر. فعن جابر بن عبد الله قال: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء. قال: «يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيّك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنّة ولا نار ولا مَلَك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي» . وحتى لا ندخل في مسألة غيبية لا تستوي الأذهان في استقبالها ونفتن بعضنا. ويقول فلان كذا ويقول علان كذا. هنا نقول: من تجلى له أن يقنع بها أحداً كي لا ندخل في متاهة، وعندما يتعرض أحد لحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - نسأل: أهو قال: أول خلق الله نبيك يا جابر أم نور نبيك يا جابر؟ . قال الحديث: نور نبيك ولم يقل النبي نفسه الذي هو من لحم ودم، فمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من آدم وآدم من تراب؛ لذلك ليس علينا أن نتناول المسائل التي لا يصل إليها إلا أهل الرياضيات المتفوقة، حتى لا تكون فتنة؛ لأن من يقول لك: أنت تقول: النور هو رسول الله، ونقول: على العين والرأس، فرسول الله نور ولاشك؛ لأن النور يعني ألا نصطدم، وجاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمنهج كي ينير لنا الطريق، والقرآن منهج نظامي، والرسول منهج تطبيقي، فإن أخذت النور كي لا نصطدم، فالحق يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] إذن فسنأخذ بالمنهج النظري الذي هو القرآن، ونأخذ بالمنهج التطبيقي. {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} و «مبين» أي محيط بكل أمر وكل شيء مصداقاً لقوله الحق: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3026 {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] أي مما تختلف فيه أهواؤكم. وسُئل الإمام محمد عبده، وهو في باريس: أنتم تقولون {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} فكم رغيفاً في أردب الدقيق؟ . فقال: انتظروا: واستدعى خبازاً وسأله: كم رغيفا في أردب القمح؟ . فقال له: كذا رغيف. فقالوا له: أنت تقول إنه في الكتاب. فقال لهم: الكتاب هو الذي قال لي: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] إن قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} أي مما تختلف فيه الأهواء أو تفسد فيه حركة الحياة في الأرض. فربنا هو - سبحانه - جعل أناساً تتخصص في الموضوعات المختلفة. {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} يعني: يا أهل الكتاب انتبهوا إلى أن هذه فرصتكم لنصفي مسألة العقيدة في الأرض وننهي الخلاف الذي بين الدينين السابقين ونرجع إلى دين عام للناس جميعاً، ولا تبقى في الأرض هذه العصبية حتى تتساند الحركات الإنسانية ولا تتعاند، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] انظر كيف يجمع الإسلام بين أمرين متناقضين: فلم يجيء الإسلام كي يطبع الإنسان ليكون شديداً؛ لأن هناك مواقف شتى تتطلب الرحمة، ولم يطبعه على الرحمة المطلقة لأن هناك مواقف تتطلب الشدة، فلم يطبع الإنسان في قالب، ولكنه جعل المؤمن ينفعل للحدث. ويقول الحق: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3027 أي لا تقل إنّه طبع المؤمن على أن يكون ذليلاً ولا طبعه ليكون عزيزاً، بل طبعه ليكيّف نفسه التكييف الذي يتطلبه المقام، فيكون مرة ذليلاً للمؤمن وعزيزاً على الكافر. وقال الإسلام لنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] أي لا بد أن تعرف الطرفين أولاً، ثم تحدد، لأن الوسط لا يعرف إلا بتحديد الطرفين؛ فاليهودية بالغت في المادية، والنصرانية بالغت في الروحانية والبرهانية: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} [الحديد: 27] وعندما سئل سيدنا عيسى عن مسألة ميراث قال: «أنا لم أبعث مورثاً» ؛ لأنه جاء ليجدد الشحنة للطاقة الدينية، وبرغم الخلاف العميق بين اليهودية والنصرانية جاء أهل الفكر عندهم ليضعوا العهد القديم والعهد الجديد في كتاب واحد، ومع ذلك فقد جاء من اعتبر الإسلام خصماً عنيفاً عليهم على رغم أن الإسلام ليس خصماً إنما جاء ليمنح الناس حرية الاختيار، وعندما ننظر إلى المنهج المادي والمنهج الروحاني تجد أن اليهود أسرفوا في المادية وقالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] لقد أسرفوا في المادية لدرجة أن المسألة المتعلقة بقُوتِهم حينما كانوا في التيه وأنزل ربنا عليهم المن والسلوى، و «المن» كما نعرف طعام مثل كرات بيضاء ينزل من السماء على شجر أو حجر ينعقد ويجف جفاف الصمغ وهو حلو يؤكل وطعمه يقرب من عسل النحل، وجاء لهم بالسلوى وهو طائر يشبه الدجاج وهو السُّماني فقالوا: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] إننا نريد مما تخرجه الأرض من بقلها، والذي دعاهم إلى غلوهم في الأمر المادي أنهم قالوا: قد لا يأتي المن، وقد لانستطيع صيد الطير، نحن نريد أن نضمن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3028 الطعام. إذن فالغيبيات بعيدة عنهم فهم قد أسرفوا في هذه المادية وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعدل هذا النظام المادي المتطرف فأنزل منهجية روحانية متمثلة في منهج عيسى عليه السلام، وشحنهم بمواجيد دينية ليس فيها حكم مادي، كي تلتحم هذه بتلك ويصير المنهج مستقيماً، لكن الخلاف دب بينهم، فكان ولا بد أن يأتي دين جديد يجمع المادية المتعلقة الرزينة المتأنية، والروحانية المقسطة التي لا تفريط فيها ولا إفراط، إنها الروحانية المتلقاة من السماء دون ابتداع دين يأتي بالاثنتين في صلب دين واحد. فقال لنا: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29] وهذه كلها قيم تعبدية. فيكون هؤلاء ماديين وروحانيين في آن واحد. ويتابع الحق: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة} [الفتح: 29] كأن الله ضرب في التوراة مثلاً لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا من أسرفتم في المادية سيأتي رسول ليعدل ميزان العقائد والتشريع، فتكون أمته مخالفة لكم تماماً. فأنتم ماديون وقوم محمد ركع سجد، يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود. أي: ما فقدتموه أنتم في منهجكم سيوجد في أمة محمد. ويقول الحق: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} [الفتح: 29] فمثلهم في التوراة ما فُقد عند اليهود؛ ومثلهم في الإنجيل ما فُقد عند النصارى. إذن فدين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جمع بين القيم المادية والقيم الروحية فكان ديناً وسطاً بين الاثنين. فقال: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} أي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3029 انتهزوا الفرصة لتصححوا أخطاءكم ولتستأنفوا حياة صافية تربطكم بالسماء رباطاً يجمع بين دين قيمي يتطلب حركة الدنيا ويتطلب حركة الآخرة. ويقول الحق بعد ذلك: {يَهْدِي بِهِ الله ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3030 ومادام الله هو الذي يهدي فسبحانه منزه عن الأهواء المتعلقة بهم، وهكذا نضمن أن الإسلام ليس له هوى. لأن آفة من يشرع أن يذكر نفسه أو ما يحب في ما يشرع، فالمشرع يُشترط فيه ألا ينتفع بما يشرع، ولا يوجد هذا الوصف إلا في الله لأنه يشرع للجميع وهو فوق الجميع. {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} إنَّ من اتبع رضوانه يهديه الله لسبل السلام، إذن ففيه رضوان متبع، وفيه سبل سلام كمكافأة. وهل السلام طرق وسبل؟ . نعم؛ لأن هناك سلام نفس مع نفسها، وهناك سلام نفس مع أسرتها، هناك سلام نفس مع جماعتها، هناك سلا نفس مع أمتها وهناك سلام نفس مع العالم، وسلام نفس مع الكون كله، وهناك سلام نفس مع الله، كل هذا يجمع السلام. إذن فسُبل السلام متعددة، والسلام مع الله بأن تنزه ربك أيها العبد فلا تعبد معه إلهاً آخر، ولا تلصق به أحدا آخر. . أي لا تشرك به شيئا، أو لا تقل: لايوجد إله. ولذلك نجد الإسلام جاء بالوسط حتى في العقيدة؛ جاء بين ناس تقول: لا يوجد إله، وهذا نفي؛ وناس تقول: آلهة متعدة؛ الشَّر له إله، والخير له إله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3030 والظلمة لها إله، والنور له إله، والهواء له إله، والأرض لها إله! { إن الذين قالوا بالآلهة المتعددة: استندوا على الحس المادي ونسي كل منهم أن الإنسان مكون من مادة وروح، وحين تخرج الروح يصبح الجثمان رمّة؛ ولم يسأل أحدهم: نفسه ويقول: أين روحك التي تدير نفسك وجسمك كله هل تراها؟ ، وأين هي؟ . أهي في أنفك أم في أذنك أو في بطنك أين هي؟ ، وما شكلها؟ . وما لونها؟ . وما طعمها؟ . أنت لم تدركها وهي موجودة. إذن فمخلوق لله فيك لا تدركه فهل في إمكانك أن تدرك خالقه؟ . إن هذا هو الضلال. فلو أُدْرِك إِلهٌ لما صار إلهاً؛ لأنك إن أدركت شيئاً قدرت على تحديده ببصرك، ومادام قد قدرت على تحديده يكون بصرك قد قدر عليه، ولا ينقلب القادر الأعلى مقدوراً للأدنى أبداً. وحينما أراد الله أن يذلل على هذه الحكاية قال: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] انظر في نفسك تجد روحك التي تدير جسدك لا تراها ولا تسمعها ومع ذلك فهي موجودة فيك، فإن تخلت عنك صرت رمة وجيفة، فمخلوق لله فيك لا تقدر أن تدركه، أبعد ذلك تريد أن تدرك مَنْ خَلَقَ؟ إن هذا كلام ليس له طعم} والاتجاه الآخر يقول بآلهة متعددة؛ لأن هذالكون واسع، وكل شيء فيه يحتاج إلى إله بمفرده، فيأتي الإسلام بالأمر الحق ويقول: هناك إله واحد؛ لأنه إن كان هناك آلهة متعددة كما تقولون، فيكون هناك مثلا. إله للشمس وإله للسماء وإله للأرض وإله للماء وإله للهواء، حينئذ يكون كل إله من هذه الآلهة عاجزا عن أن يدير ويقوم على أمر آخر غير ما هو إله وقائم عليه ولنشأ بينهم خلاف وشقاق يوضح ذلك قوله تعالى: {لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] فإله الشمس قد يفصلها عن الكون، وإله الماء قد يمنعه عن بقية الكائنات، ويحسم الحق الأمر فيقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3031 {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] ويقول سبحانه: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) . إذن فالنواميس التي تراها أيضاً محكومة بالإله الواحد، ويأتي الرسول ليقول لك: هناك إله واحد، ويبلغنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا إله إلا الله، و «لا إله» نفت أنه لا آلهة أبداً. وبعدها قال: إلا الله، وهذه من مصلحة الإنسان حتى لا يكون ذليلاً وخاضعاً وعبداً لإله الشمس أو لإله الهواء أو لإله الماء. وقال الحق: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [الزمر: 29] فربنا يريد أن يريحنا من «الخيْلة» ، والوهم والاضطراب والتردد. . إنه إله واحد، وعندما يحكم الله حكماً فلا أحد يناقضه، وسبحانه يهدينا بما يشرعه لنا؛ لأنه سبحانه ليس له هوى فيما يشرع؛ لأن معنى الهوى أن تجعل الحركة التي تريدها خادمة لك في شيء، والله لا يحتاج إلى أحد لأنه خلق الوجود مله قبل أن يخلق الخلق، وليس لأحد ممن خلق - مهما أوتي من العلم ورجاجة العقل أن تكون له قدرة أو أي دخل في عملية الخلق أو تنظيمه. {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} ، مادام قد اتبع رضوانه فيهديه إلى سبل السلام، إذن فإن هناك هدايتين اثنتين: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وقال في آية أخرى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] فإياك أن تظن أن التقوى لن تنال ثوابها وجزاءها إلا في الآخرة؛ لأنه كلما فعلت أمراً وتلتفت وجدت آثاره في نفسك، تصلي تجد أمورك خَفَّت عن نفسك، فلا ترتكب السيئة في غفلة من الناس، قلبك لا يكون مشغولاً بأي شيء، ويحيا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3032 المؤمن في سلام مع نفسه أبداً. إذن فسبل السلام متعددة: سبل السلام مع الله، سبل السلام مع الكون كله، سبل السلام مع مجتمعه، سبل السلام مع أسرته، سبل السلام مع نفسه. ويقول الحق: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] إذن فهناك سبل سلام وسبل ضلال. وفي هذه الآية يقول الحق: {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، والظلمات هي محل الاصطدام، وعندما يخرجهم من الظلمات إلى النور يرون الطريق الصحيح الموصل إلى الخير، والطريق الموصل إلى غير الخير. وبعدما يخرجون من الظلمات إلى النور تكون حركاتهم متساندة وليست متعاندة، ولا يوجد صدام ولا شيء يورثهم بغضاء وشحناء، أو المراد أنّه يهديهم إلى الصراط المستقيم وهو الجنة. ويقول الحق من بعد ذلك: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3033 وقال سبحانه من قبل: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة} [المائدة: 14] فمن اتبعوا اليعقوبية قالوا شيئاً، والنصرانية قالت شيئاً، والملكانية قالت شيئاً ثالثاً؛ فجاء بالقمة: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} . ويأتي قوله سبحانه: «قل» ، رداً عليهم: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً} أي من يمنع قدر الله أن ينزل بمن جعلتموه إلهاً {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} . لقد زعموا أن الله هو المسيح عيسى ابن مريم وفي هذا اجتراء على مقام الألوهية المنزهة عن التشبيه وعن الحلول في أي شيء. وفي هذا القول الكريم بلاغ لهؤلاء أن أحداً لا يستطيع أن يمنع إهلاك الله لعيسى وأمه وجميع من في الأرض. فهو الحق الملك الخالق للسموات والأرض. وما بينهما يخلق ما يشاء كما يريد. فإن كان قد خلق المسيح دون أب؛ فقد جاءنا البلاغ من قبل بأنه سبحانه خلق آدم بدون أب ولا أم، وخلق حواء دون أم، جلت عظمته وقدرته لا يعجزه شيء. إن عيسى عليه السلام من البشر قابل للفناء ككل البشر. {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} جاء الحق هنا بالسماء كنوع علوي والأرض كنوع سفلي، وقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} يرد على الشبهة بإيجاز دقيق: {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} ؛ لأن الفتنة جاءت من ناحية أن عيسى عليه السلام مُيّز في طريقة خلقه بشيء لم يكن في عامة الناس؛ فأوضح الحق: لا تظنوا أن الخلق الذي أخلقه يشترط عليّ أن تكون هناك ذكورة وأنوثة ولقاح، هذا في العرف العام الذي يفترض وجود ذكورة وأنوثة، وإلا لكان يجب أن تكون الفتنة قبل عيسى في آدم؛ لأنه خلق من غير أب ولا أم. إذن فالذي يريد أن يفتتن بأنه من أم دون أب، كان يجب أن يفتتن في آدم لأنه لا أب ولا أم. ويوضح لهم: الله يخلق ما يشاء فلا يتحتم أو يلزم أن يكون من زوجين أو من ذكر فقط أو من أنثى فقط. إن ربنا سبحانه وتعالى له طلاقة القدرة في أن يخلق ما يشاء، وقد أراد خلقه على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3034 القسمة العقلية المنطقية الأربعة: إما أن يكون من أب وأم مثلنا جميعاً، وإما أن يكون بعدمهما مثل آدم، وإما أن يكون بالذكر دون الأنثى كحواء، وإما أن يكون بالأنثى دون الذكر كعيسى عليه السلام، فأدار الله الخلق على القواعد المنطقية الأربعة كي لا تفهم أن ربنا يريد مواصفات خاصة كي يخلق بل هو يخلق ما يشاء. والدليل على ذلك أن الزوجين يكونان موجودين مع بعضهما ومع ذلك لا يُنْجَبُ منهما، فهل هناك اكتمال أكثر من هذا؟! {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} [الشورى: 49 - 50] إذن فالمسألة ألا يُفرض على ربنا عناصر تكوين، لا، بل هي إرادة مُكَوِّن لا عنصرية مَكَوَّن. إنه {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} ، ومشيئته مطلقة وقدرته عامة. ولذلك لا بد أن يأتي القول: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . ويقول الحق بعد ذلك: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3035 وهل كل اليهود قالوا: نحن أبناء الله؟ هل كل النصارى قالوا: نحن أبناء الله؟ لا. فبعض من اليهود قال: إن عزيراً ابن الله وبعض النصارى قالوا: إن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3035 عيسى ابن الله، وجاء مسيلمة الكذاب وادّعى النبوة، وكان كل أهل مسيلمة يقولون: نحن الأنبياء، أي منا الأنبياء حتى أنصار سيدنا عبد الله بن الزبير أبي خبيب، قال أنصاره: نحن الخبيبيون أي نحن أتباع ابن الزبير الذي هو أبو خبيب، فكانوا ينسبون لأنفسهم ما لغيرهم. فمعنى {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله} يعني: نحن أشياع العزير، الذي هو ابن الله؛ ونحن أشياع عيسى الذي هو ابن الله. هذه نأخذ لها دليلاً من القرآن، نعرف قصة مؤمن آل فرعون: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظَاهِرِينَ فِي الأرض} [غافر: 28 - 29] والقوم جماعة. بالله أكان القوم كلهم ملوكا؟ . لا، فالذي كان ملكاً هو فرعون فقط. لكن مادام فرعون هو الملك، فيكون كل الذين كانوا أتباعا وأنصارا له ومن شيعته ملوكا لأنهم يعيشون في كنف ورعاية الملك. وأيضاً قال اليهود: {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} ، ولذلك عندما أرادوا أن يحددوا معنى «ملك» قالوا: إن «الملك» هو الرجل الذي عنده دار واسعة وفيها ماء يجري، وواحد آخر قال: «الملك» هو الذي يكون عنده حياة رتيبة وعنده من يخدمه ولا ينشغل بخدمة نفسه في بيته، وفي الخارج يخدم نفسه. وقال آخر: من عنده مال لا يحوجه للعمل الشاق، فهو ملك، ولذلك قال سيدنا الشيخ عبد الجليل عيسى في هذه المسألة: لا تستعجبوا ذلك فالأميون ينطقون وبلسانهم يقولون: هذا ملك زمانه، أي رجل مرتاح لا يعمل أعمالا شاقة وعنده النقود يصرفها كما يريد. إذن فأبناء الله يعني ليس كلهم أبناءه، ولذلك قال الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قل» رداً عليهم: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} ، وستدخلون في مشيئة المغفرة. {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} ، ولن تخرجوا عن المشيئة الغافرة أو المشيئة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3036 المعذبة، {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير} . ويقول الحق تصفية للمسألة العقدية في الأرض: {يَا أَهْلَ الكتاب ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3037 ورسولنا هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويبين لكم - يا أهل الكتاب - ما اختلفتم فيه أولاً وما يجب أن تلتقوا عليه ثانياً، وما زاده الإسلام من منهج فإنّما جاء به ليناسب أقضية الحياة التي يواجهها إلى أن تقوم الساعة. وقد جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على فترة من الرسل، ومعنى الفترة: الانقطاع. وفترة من الرسل أي على زمن انقطعت فيه الرسالات، وهي الفترة التي بينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين أخيه عيسى عليه السلام، وقام الناس بحسابها فقال بعضهم: إنها ستمائة سنة وقال البعض: خمسمائة وستون سنة عاماً. ولا يهمنا عدد السنين، إنما الذي يهمنا هو وجود فترة انقطعت فيها الرسل، اللهم إلا ما كان من قول الحق سبحانه: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 13 - 16] هؤلاء المرسلون أهم مرسلون من قبل الله بين عيسى وبين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3037 أم هم مرسلون من قبل عيسى عليه السلام إلى أهل أنطاكية؟ . وقد كفر الناس أولاً بهذين الرسولين، فعززهم الحق بثالث. وقال الناس لهم: {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15] وهنا قال الرسل: {قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16] فما الفرق بين {إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} وبين {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} ؟ . إن الأَخْبار دائماً تُلقى من المتكلم للسامع لتعطيه خبراً، فإن كان السامع خالي الذهن من الخبر، أُلقي إليه الكلام بدون تأكيد. وأما إن كان عنده شبه إنكار، ألقى إليه الكلام بتأكيد على قدر إنكاره. فإن زاد في لجاج الإنكار يزيد له التأكيد. فأصحاب القرية أرسل الله إليهم اثنين فكذبوهما، فعززهما بثالث، وهذا تعزيز رسالي، فبعد أن كانا رسولين زادهما الله ثالثاً، وقال الثلاثة: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} [يس: 14] صحيح ثمة تأكيد هنا. لأن الجملة إسمية، وسبقتها «إنّ» المؤكذة؛ فلما كذبوهم وقالوا لهم: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ} وكان هذا لجاجاً منهم من الإنكار فماذا يكون موقف الرسل؟ أيقولون: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} كما قيل أولاً؟ . لا. إن الإنكار هنا ممعن في اللجاجة والشدة، فيأتي الحق بتأكيد أقوى على ألسنة الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} . وذلك القول في حكم القسم؛ هذا هو التأكيد الأول، والتأكيد الثاني: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3038 وكما نعلم ف «إن» هنا مؤكِدّة، واللام التي في أول قوله: «لمرسلون» لزيادة التأكيد. وحين تأتي كلمة تدور على معانٍ متعددة، فالمعنى الجامع هو المعنى الأصلي، وكذلك كلمة «فترة» ، فالفترة هي الانقطاع. فإن قلت مثلاً: ماء فاتر، أي ماء انقطعت برودته، فالماء مشروط فيه البرودة حتى يروي العطش. وعندما يقال: ماء فاتر أي ماء فتر عن برودته، ولذلك يكون قولنا: «ماء فاتر» أي ماء دافئ قليلاً؛ أي ماء انقطعت عنه البرودة المرغبة فيه. ويقال أيضاً في وصف المرأة: في جفنها فتور أي أنها تغض الطرف ولا تحملق بعينيها باجتراء. بل منخفضة النظرة. إذن فالفترة هي الانقطاع. ولقد انقطعت مدة من الزمن وَخَلَتْ من الوحي ومن الرسل. وكان مقتضى هذا أن يطول عهد الغفلة، ويطول عهد انطماس المنهج، ويعيش أهل الخير في ظمأ وشوق لمجيء منهج جديد، فكان من الواجب - مادام قد جاء رسول - أن يرهف الناس آذانهم لما جاء به، فيوضح الحق أنه أرسل رسولاً جاء على فترة، فإن كنتم أهل خير فمن الواجب أن تلتمسوا ما جاء به من منهج، وأن ترهفوا آذانكم إلى ما يجيء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لسماع مهمته ورسالته. وقد أرسل الله إليهم الرسول على فترة حتى يقطع عنهم الحجة والعذر فلا يقولوا: {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} فقد جاءهم - إذن - بشير وجاءهم نذير. والبشير هو المعلم أو المخبر بخير يأتي زمانه بعد الإخبار. ومادام القادم بشيراً فهو يشجع الناس على أن يرغبوا في منهج الله ليأخذوا الخير. ولا بد من وجود فترة زمنية يمارس فيها الناس المنهج، ولا بد أيضاً أن توجد فترة ليمارس من لم يأخذ المنهج كل ما هو خارج عن المنهج ليأتي لهم الشر. مثال ذلك قول الأستاذ: بَشِّرْ الذي يذاكر بأنه ينجح. وعند ذلك يذاكر من الطلاب من يرغب في النجاح، أي لابد من وجود فترة حتى يحقق ما يوصله إلى ما يبشر به. وكذلك النذارة لا بد لها من فترة حتى يتجنب الإنسان ما يأتي بالشر. {قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} . ومجيء «أن تقولوا» إيضاح بأنه لا توجد فرصة للتعلل بقول « {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3039 ويقول الحق: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وسبحانه وتعالى القدير أبداً. فقد جعل الخلق يطرأون على كون منظم بحكمة وبكل وسائل الخير والحياة على أحسن نظام قبل أن يطرأ هؤلاء الخلق على هذا الكون، فإذا ما طرأ الخلق على هذا الخير، أيتركهم الخالق بدون هداية؟ . لا. فسبحانه قد قدر على أن يُوجد خلقه كلهم، ويعطي لهم ما يحفظ لهم حياتهم ويحفظ لهم نوعهم. ألا يعطي الحق الخلق إذن ما يحفظ لهم قيمهم؟ . إنه قادر على أن يعطي رزق القوت ورزق المبادئ والقيم وأن يوفي خلقه رزقهم في كل عطاء. وإرسال الرسل من جملة عطاءات الحق لعلاج القيم. ثم يرجع ثانية إلى قوم موسى ولكنه في هذه المرة يجعل المتكلم رسولهم: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3040 وساعة تسمع «إذ» فاعلم أنها ظرفية تعني «حين» كأن الحق يقول: اذكر حين قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم. ويقول الحق لرسوله ذلك لأن هذا اللون من الذكر يعين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على تحمل ما يتعرض له في أمر الدعوة والرسالة سواء من ملاحدة أو من أهل كتاب. إن الحق حينما قال: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} أي اذكر يا محمد، أو أذكر يا من تتبع محمداً، أو اذكر يا من تقرأ القرآن إذ قال موسى لقومه: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم. ولا يقول موسى لقومه: {يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} إلا إذا كان قد رأى منهم عملاً لا يتناسب مع النعم التي أنعم الله يها عليهم، وذلك - ولله المثل الأعلى - كما يقول الواحد منا لولد عاق: اذكر ما فعله والدك معك. ولا يقولن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3040 الواحد منا ذلك إلا وقد بدرت من الابن بوادر لا تتناسب مع مقدمات النعم ومقدمات الفضل عليه. فكأن قوم موسى قد أرهقوه وتحمل منهم الكثير؛ لدرجة أنه قال لهم على سبيل الزجر ما قد يجعلهم يفيقون وينتبهون ويفطنون إلى ذكر نعمة الله عليهم، ومعنى ذكر النعمة هو الاستماع إلى منهج الله وتنفيذ أوامر الحق واجتناب النواهي. {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وعرفنا أن «النعمة» يقصد بها الجنس والمراد بها النعم كلها، أو كأن كل نعمة على انفرادها خليقة وجديرة أن تُذكر وتُشكر، والدليل على أن النعمة يراد بها كل النعم أن الله قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] ومادام عدّ النعمة لا نستطيع معه أن نعرف إحصاءها؛ فهي نعم متعددة. إذن فالمراد بالنعمة كل النعم لأنها اسم جنس. {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وذكر النعمة يؤدي إلى شكر المنعم ويؤدي أيضاً إلى الاستحياء من أن نعصي من أنعم، ويجعلنا نستحي أن نأخذ نعمته لتكون معينا لنا على معصيته. {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وهي نعم كثيرة تمتعوا بها، ألم يفلق الحقُ لهم البحرَ: {اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63] وبعد أن ضرب الماء بالعصا: {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63] فقد صار الماء السائل جبالاً. وضرب لهم الحجر؛ بأمر الله فانفجرت منه المياه: {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة: 60] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3041 إنها عجائب كثيرة تتجلى فيها قدرة الخالق الأعظم، وتبين القدرة مجالات تصرفها، فقد ضرب موسى البحر فصار كل فرق كالطود العظيم، وكأن الماء صار صخراً. وضرب موسى الصخر فتفجرت المياه. إنها عجائب القدرة. ألم يظللكم بالغمام؟ ألم ينزل عليكم في التيه المن والسلوى؟ وكل هذه النعم ألا تستحق الذكر لله والشكر لله والاستحياء من أن تعصوه أو أن ترهقوا الرسول الذي جاء لهدايتكم؟ إن كل هذه النعم تستحق الشكر، والشكر ذكر. {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} وكلما أدركتهم غفلة فإن الحق يرسل لهم نبياً كأسوة سلوكية. ولم يغضب عليهم ولم يقل: أرسلت لهم رسولا واثنين وثلاثة وأربعة. ولم يهتدوا، بل كلما عصوا الله واستعصت داءاتهم أرسل لهم رسولا، مثلهم في ذلك كمثل المريض الذي لا يضن عليه عائله بطبيب أو بطبيبين أو ثلاثة أو أربعة، بل كلما لاحظ عائله شيئا فإنه يرسل له طبيباً. وفي ذلك امتنان؛ لأن الله أرسل إليهم كثيراً من الرسل. وكان عليهم أن يعلموا أن داءاتهم قد كثرت وصار مرضهم مستعصيا؛ لأنه لو لم يكن المرض مستعصيا؛ لما كانوا في حاجة إلى هذه الكثرة من الأطباء والأنبياء، ومع ذلك رحمهم الله وكلما زاد داؤهم أرسل لهم نبيا. ولم يكتف الحق بأن جعل فيهم أنبياء؛ بل قال: {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} وليس معنى ذلك أنهم كلهم صاروا ملوكاً؛ ولكن كان منهم الملوك. «والملك» كلمة أخذت اصطلاحاً سياسياً، فكل إنسان مالك ما في حوزته؛ مالك لثوبه، أو مالك اللقمة التي أكلها، أو مالك البيت الذي ينام فيه، لكن المَلِك هو الذي يملك وَيمْلِك مَن مَلك. إذن فكل واحد عنده القدرة أن يملك شيئاً ويملك مَن مَلَك يكون مَلِكاً، فرجل عنده رُعيان يقومون برعي القطعان من الماشية التي يملكها، وعنده أناس يخدمون في المنزل وأناس يعملون في المزرعة، وعنده أكثر من سائق، وعنده أناس كثيرون يأتمرون بأمره ولا يدخلون عليه إلا بإذنه ولا يتكلف في لقائهم أي حرج أو مشقة، هذا الرجل لا بد أن يكون ملكاً. إذن فقد أعطاهم الحق نعمة وفيرة. والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحدد الملكية الواسعة التي تحدد الفرد تحديداً إيمانياً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3042 فقال: «من أصبح منكم آمنا في سربه معافىً في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» . ومادام قد حيزت له الدنيا بحذافيرها بهذه الأشياء فهو ملك. وقد أعطاهم هذه المسائل أي جعلهم ملوكاً. {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين} أي أنه سبحانه أعطاهم ما لم يعده لأحد مِمَّن حولهم؛ ووالى عليهم ذلك العطاء، ألم يعط - سبحانه - نبي الله سيدنا سليمان وهو من بني إسرائيل مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده؟ تلك الواقعة لم يقلها موسى عليه السلام لأنها حدثت من بعد موسى بأحد عشر جيلاً. ويقول الحق بعد ذلك: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3043 وهذا بلاغ من موسى بما أوحى الله به إليه، ومتى حدث ذلك؟ نعرف أن صلة بني إسرائيل بمصر كانت منذ أيام يوسف عليه السلام، وعندما جاء يوسف بأبيه وإخوته وعاشوا بمصر وكونوا شيعة بني إسرائيل، ومكن الله ليوسف في الأرض وعاشوا في تلك الفترة. والعجيب أن المس القرآني للأحداث التاريخية فيه دقة متناهية، ولم نعرف نحن تلك الأحداث إلا بعد مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر. فعندما جاءت تلك الحملة صحبت معها بعثة علمية. وكانت تلك البعثة تنقب عن المعلومات الأثرية ليتعرفوا على سر حضارة المصريين، وسر تقدم العرب القديم، الذي سبق أوربا بقرون، وأخذت منه أوربا العلوم والفنون، في حين صار هذا العالم العربي إلى غفلة. إن العرب المسلمين هم الذين اخترعوا أشياء ذهل لها العالم الغربي، ويحكي لنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3043 التاريخ عن هدية من أحد ملوك العرب إلى شارلمان ملك فرنسا وكانت الساعة دقاقة، وظن الناس من أهل فرنسا أن بهذه الساعة الدقاقة شيطانا. وفكرة تلك الساعة أن العالم الذي صممها وضع فيها إناء من الماء به ثقب صغير تنزل منه القطرة بثقلها على شيء يشبه عقرب الساعة، فتتحرك الساعة دقيقة واحدة من الزمن. وكانت الساعة تسير بنقطة الماء. وكان ضبطها في منتهى الدقة. وحين رآها الناس في بلاط شارلمان ملك فرنسا ظنوا أن بداخلها شياطين. وهذا نموذج من نماذج كثيرة لا حصر لها ولا عدد تدخل في نطاق قوله الحق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53] وحينما جاء الفرنسيون إلى القاهرة كان معهم تلك البعثة العلمية ومعهم مطبعة، وعرض هؤلاء العلماء الفانوس السحري، وجعلوا الناس البسطاء يذهلون من تقدمهم العلمي. واستترت تلك الحملة بعروض أقرب إلى «الأكروبات» . وكان عمل العلماء هو البحث عن سر حضارة المصريين والمسلمين؛ لأنهم يعلمون أن الحضارة الإسلامية انتقلت إلى مصر بالإضافة إلى حضارة المصريين القدماء. لقد كانوا يعرضون ألعابهم السحرية العلمية بدرب الجماميز، وذلك حتى ينبهر الناس بالحضارة الفرنسية. وكان علماؤهم في الوقت نفسه يكتشفون ما نقش على حجر رشيد، وهو الحجر الذي اكتشفه ضابط فرنسي شاب اسمه شامبليون، وعلى هذا الحجر كتبت الكلمات الهيروغليفية. واستطاع شامبليون أن يفصل أسماء الأعلام الهيروغليفية ومن خلال ذلك استطاع أن يصل إلىأبجدية تلك اللغة. وكأن الله أراد أن يسخر الكافرين بمنهج الله ليؤيدوا منهج الله. إن في كل لغة شيئا اسمه «منطق الأعلامَ» ومثال ذلك أن يوجد اسم رجل أو أمير أو إنسان، فهذا الاسم مكون من حروف لا تتغير، مثال ذلك نأخذه من اللغة الإنجليزية؛ كان اسم رئيس وزراء انجلترا في وقت من الأوقات هو «تشرشل» هي كلمة إذا ترجمناها ترجمة حرفية لم تدل على صاحبها ولم تعرفنا به لأننا عندما نترجمها نكتفي بكتابة الاسم بالحروف العربية بدلاً من اللاتينية. إذن فالأعْلاَم لا يتغير نطقها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3044 وكشف شامبليون عن الحروف التي لم تتغير. واهتدى إلى فك طلاسم حروف اللغة الهيروغليفية؛ فعرف كيف يقرأ المكتوب على حجر رشيد، واستطاع أن يقدم لنا بدايات اكتشاف تاريخ مصر القديمة. واستطاع أن يقرأ اللغة المرسومة على ذلك الحجر. ولنا أن نرى عظمة القرآن حينما تعرض للأقدمين. . تعرّض لعادٍ وتعرَّض لثمود وتعرض لفرعون. تعرض لتلك الحضارات كلها في سورة الفجر، فقال سبحانه وتعالى: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر والليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد} [الفجر: 1 - 7] وإرم ذات العماد هي التي في الأحقاف - في الجزيرة العربية - ولم نكتشفها بعد، ولم نعرف عنها حتى الآن شيئاً، وهي التي يقول عنها الحق: {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 8] ثم يتكلم بعدها عن فرعون: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 10] والأهرام أقيمت بالفعل على أوتاد، وكذلك المسلات المصرية القديمة والمعابد. وغيرها من العجائب التي بهرت الناس في مختلف العصور. {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 8] ثم جاء بحضارة ثمود. {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد} [الفجر: 9] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3045 وقد رأينا هذه الحضارة التي كان الناس أثناءها ينحتون البيوت في الصخر، كما رأينا حضارة مصر. وحضارة عاد هي التي لم نرها حتى الآن؛ ولا بد أن تكون مطمورة تحت الأرض. ونعرف أن الهبة الرملية الواحدة عندما تهب في تلك المناطق تطمر القافلة كلها، فما بالنا بالقرون الطويلة التي مرت وهبت فيها آلاف العواصف الرملية، إذن لا بد أن ننقب كثيراً لنكتشف حضارة عاد. والحق تكلم عن موسى عليه السلام، تكلم _ أيضاً - عن المعاصرين له وكان أحد هؤلاء الفراعنة، فقال سبحانه لموسى ولأخيه هارون عليهما السلام: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 43] ويذهب موسى إلى فرعون حتى يخلص بني إسرائيل من ظلم فرعون. ولماذا ظلمهم فرعون؟ نحن نعرف أن كل سياسة تعقب سياسة سابقة عليها تحاول أن تطمس السياسة الأولى، وتعذب من نصروا السياسة الأولى، وتلك قضية واضحة في الكون. وهذا ما يتضح لنا من سيرة سيدنا يوسف الذي صار وزيراً للعزيز ودعا أباه وأمه وشيعته إلى مصر، ولن تأت سيرة فرعون في سورة يوسف. وعندما تكلم القرآن على رأس الدولة في أيام يوسف قال: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ} [يوسف: 54] لم يقل الحق: «فرعون» على الرغم من أنه قال قبل ذلك عنه إنه: «فرعون» وأيام موسى ذكر فرعون، لكن في أيام يوسف لم يأت بسيرة فرعون إنما جاء بسيرة مَلِك. وعندما جاء اكتشاف حجر رشيد، ظهر لنا أن فترة وجود يوسف عليه السلام في مصر هي فترة ملوك الرعاة أي الهكسوس الذين غَزَوْا مصر وأخذوا الْمُلْكَ من المصريين وحكموهم وصاروا ملوكاً، وسمي عصرهم بعصر الملوك. وقال القرآن: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ} . ولم يأت بذكر لفرعون. وعندما استرد الفراعنة ملكهم وطردوا الرعاة، استبد الفراعنة بمن كانوا يخدمون الملوك وهم بنو إسرائيل. وهكذا تتأكد دقة القرآن عندما ذكر فرعون لأنه كان الحاكم أيام موسى، لكن في زمن يوسف سمي حاكم مصر باسم الملك. وتلك أمور لم نعرفها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3046 إلا حديثاً. ولكن القرآن عرفنا ذلك. وكانت تحتاج إلى استنباط. وهي تدخل ضمن الآيات التي لا حصر لها في قوله الحق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] فسبحانه وتعالى بعد أن أيد موسى بالآيات وأغرق فرعون، هنا قال لهم موسى: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21] فقد انتهت المهمة بتخليص بني إسرائيل من فرعون، وخلصوا أهل مصر من فرعون. وكانت الدعوة لدخول الأرض المقدسة. وكلمة الأرض إذا أطلقت صارت علماً على الكرة الجامعة. ووردت كلمة «الأرض» في قصة بني إسرائيل في مواضع متعددة لمواقع متعددة. فها هوذا قول الله في آخر سورة الإسراء: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} [الإسراء: 104] فهل هناك سكن إلا الأرض؟ إن أحداً لا يقول: اسكن كذا إلا إذا حدد مكاناً من الأرض؛ لأن السكن بالقطع سيكون في الأرض، فكيف يأتي القول: {اسكنوا الأرض} ؟ والشائع أن يقال: اسكن المكان الفلاني من المدن، مثل: المنصورة أو أريحا، أو القدس. وقوله الحق: {اسكنوا الأرض} هو لفتة قرآنية، ومادام الحق لم يحدد من الأرض مسكوناً خاصاً، فكأنه قال: ذوبوا في الأرض فليس لكم وطن، وانساحوا في الأرض فليس لكم وطن، أي لا توطن لكم أبداً، وستسيحون في الأرض مقطعين، وقال سبحانه: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً} [الأعراف: 168] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3047 وحين يأتي القرآن بقضية قرآنية فلنبحث أايدتها القضايا الكونية أم عارضتها؟ القضية القرآنية هنا هي تقطيع بني إسرائيل في الأرض أمما، أي تفريقهم وتشتيتهم ولم يقل القرآن: «أذبناهم» بل قال: «قطعناهم» وتفيد أنه جعل بينهم أوصالاً ولكنهم مفرقون في البلاد. وعندما نراهم في أي بلد نزلوا فيها نجد أن لهم حيا مخصوصا، ولا يذوبون في المواطنين أبداً، ويكون لهم كل ما يخصهم من حاجات يستلقون بها، فكأنهم شائعون في الأرض وهم مقطعون في الأرض ولكنهم أمم، فهناك «حارات» وأماكن خاصة لليهود في كل بلد. حدث ذلك من بعد موسى عليه السلام، لكن ماذا كان الأمر في أيام موسى؟ قال لهم الحق: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي بعد رحلتكم مع فرعون اذهبوا إلى الأرض التي كتبها الله لكم. ونلحظ هنا أن كلمة «الأرض المقدسة» فيها تحييز وتحديد للأرض. ولكن ما معنى «مقدسة» ؟ المادة كلها تدل على الطهر والتطهير. ف «قَدَّس» أي طهّر ونزّه، ومقدسة يعني مطهرة. والألفاظ حين تأتي تتوارد جميع المادة على معانٍ متلاقية. ففي الريف المصري نجد ما نسميه «القَدَس» أو «القادوس» وهو الإناء الذي يرفع به الماء من الساقية، وكانوا يستعملونه للتطهير، فالقادوس في الريف المصري هو وعاء الماء النظيف. وعندما يقال: «مقدسة» أي مطهرة. إن من أسماء الحق «القُدُّوس» ، ويقال: «قُدِّس الله» أي نزه «، فالله ذات وليست كذات الإنسان، وله سبحانه صفات منزهة أن تكون كصفاتك، وهو سبحانه له أفعال، ولكن قدسه وطهره منزهة أن تكون كأفعالك. فذات الحق واجبة الوجود وذات الإنسان ممكنة الوجود؛ لأن ذات الإنسان طرأ عليها عدم أول، ويطرأ عليها عدم ثانٍ، وهو سبحانه واجب الوجود لذاته، والإنسان واجب لغيره وهو قادر سبحانه أن ينهي وجود العبد. ولله حياة وللإنسان حياة، لكن أحياتك أيها الإنسان كحياة الله؟ لا. إن حياته سبحانه منزهة وذاته ليست كذاتك، وصفاته ليست كصفاتك، فأنت قادر قدرة محدودة وله سبحانه طلاقة القدرة، وهو سبحانه سميع والعبد سميع؛ لكن سمع البشر محدود وسمعه سبحانه لا حدود له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3048 إذن فصفاته مقدسة، ولذلك فعندما تسمع أنه سبحانه سميع عليم فليس سمعه كسمعنا، وله فعل غير فعلنا. وعندما يقول الحق: إنه فعل، ففعله منزه عن التشبيه بفعل البشر؛ لأن البشر من خلق الله، وفعل البشر معالجة، ويكون للفعل بداية ووسط ونهاية ويفرغ من الأحداث على قدر الزمن. ونحن نحمل الأشياء في أزمان متعددة ويحتاج من يحمل الأشياء إلى قوة. ولكن فعل الحق مختلف، إنه فعل ب» كن «لذلك قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] أي أنه سبحانه وتعالى منزه عن التعب، فهو يقول: {كُنْ فَيَكُونُ} ولذلك قلنا في مسألة الإسراء: إننا يجب أن ننسب الحدث إلى الله لا إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى نعرف أن الذين عارضوا رسول الله في مسألة الإسراء كانوا على خطأ فقد قالوا: أنضرب لها أكباد الإبل شهراً وتدعي أنك أتيتها في ليلة؟! إن رسول الله لم يدع لنفسه هذا الأمر، لأنه لم يقل: سريت من مكة إلى بيت المقدس» حتى تقولوا: أنضرب لها أكباد الإبل شهراً وتدعي أنك أتيتها في ليلة «. لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: أُسْرِيَ بي. أي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس له فعل في الحدث. والفعل إذن لله. ومادام هو من فعل الله فهو لا يحتاج إلى زمن؛ لذلك كان يجب أن يفهموا على أي شيء يعترضون. ولكنا نعرف أن الله سبحانه وتعالى أراد لهم أن يفهموا على تلك الطريقة؛ لأنه سيأتي أناس من المتحذلقين المعاصرين ويقولون: «إن الإسراء كان بالروح» نقول لهم: بالله لو قال محمد للعرب: أنا سريت بروحي أكانوا يكذبونه؟ تماما مثلما يقول لنا قائل: «أنا كنت في نيويورك الليلة ورأيتها في المنام» فهل سيكذبه أحد؟ لا. إذن لقد كذب العرب لأنهم فهموا أنه أُسْرِيَ به بمعنى كامل. . أي كان الإسراء بالجسد والروح معا، بدليل أنهم قارنوا فعلاً بفعل، وحدثاً بحدث، ونقلة بنقلة، وقالوا قولهم السابق. لقد جاءت هذه المسألة لتخدم الإسلام. إذن ف «قدوس» يعني مطهر ومنزه. وساعة ترى شيئاً مخالفاً لقضية العقل اقرنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3049 بفعل الله، ولا تقرنه بفعلك أنت أيها العبد؛ لأن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل طرداً أو عكسا. فإن كان الفاعل صاحب قدرة قوية. فزمنه أقل. مثال ذلك: نقل أردب من القمح من مكان إلى مكان، فإن كان الذي يحمل الأردب طفلاً فلن ينقل الأردب إلا قدحا بقدح؛ وإن كان رجلا ناضجا سينقل الأردب «كيلة بكيلة» . وإن كان صاحب قوة كبيرة قد ينقل الأردب كله مرة واحدة. إذن فالزمن يتناسب مع القوة تناسبا عكسيا. فإن كثرت القوة قل الزمن. وهات أي فعل بقدرة الله فلن يستغرق أي زمن. إذن قدس الله في كل شيء. والأرض المقدسة هي المطهرة، وذلك بإرادة الحق سبحانه، تماما كما أراد سبحانه أن تكون بقعة من الأرض هي الحرم، لا يتم فيها الاعتداء على صيد أو نبات أو اعتداء بعضكم على بعض، وهل ذلك كلام كوني أو كلام تشريعي؟ {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] لو كانت المسألة إرادة كونية، فكان لا بد ألا يحدث خلل أبداً وألا يعتدي أحد على أحد. وما الفرق بين الكوني والتشريعي؟ إن الكوني يقع لأنه لا معارض في الأمور القهرية، فالحق يريد أن يكون عبداً طويل القامة، فتلك إرادة كونية تحدث ولا دخل للعبد بها. ولكن إن أراد الحق أن تكون طائعا مصليا، فتلك إرادة تشريعية. والإرادة تكون تشريعية فيما إذا كان للمريد اختيار، يصح أن يفعلها ويصح ألا يفعلها؛ لكن الإرادة الكونية هي فيما لا إرادة للإنسان فيه وواقع على رغم أنف الإنسان. والله سبحانه وتعالى يريد الحرم آمنا. وتلك إرادة تشريعية لأنه حدث أن أهيج فيه أناس ولم يأمنوا. ولو كانت إرادة كونية لما حدثت أبداً. لذلك فهي إرادة تشريعية، فإن أطعنا ربنا جعلنا الحرم آمنا، وإن لم نطعه فالذي لا يطيع يهيج فيه الناس ويفزعهم ويخيفهم. فمراد الله عز ومطلوبه شرعا «أن يكون الحرم آمنا» . {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فهل هذه الأرض المقدسة كتبها الله لهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3050 كتابة كونية أو كتابة تشريعية؟ إن كانت كتابة كونية لكان من اللازم أن يدخلوها ولكنه قال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 26] إذن هي إرادة تشريعية وليست إرادة كونية. فإن أطاعوا أمر الله وتشجعوا ودخلوا الأرض المقدسة فإنهم يأخذونها، وإن لم يطيعوه فهي محرمة عليهم. إذن فلا تناقض بين أن يقول سبحانه: إنه كتبها لهم، ثم قوله من بعد ذلك: إنها محرمة عليهم، لقد كتبها سبحانه كتابة تشريعية. فإن دخلوها بشجاعة ولم يخافوا ممن فيها واستبسلوا ووثقوا أن وراءهم إلهاً قوياً سيساندهم؛ فإنهم سيدخلونها، أما إن لم يفعلوا ذلك فهي محرمة عليهم. {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21] وجاءت الأرض هنا أكثر من مرة: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} [الإسراء: 104] وعرفنا مراد ذلك القول. ولادقة هنا أنه سبحانه جاء بأمر السكن في الأرض لبني إسرائيل أي في الأرض عموما ومحكوم عليهم أن يكونوا قطعا ومشردين. {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104] أي أنه سبحانه يجمعهم من كل بلد ويجيء بعد ذلك وعد الآخرة الذي جاء في أول سورة الإسراء: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 4] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3051 لأن الحق حينما قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] أي أنه سبحانه وتعالى يدخل بهذه الآية المسجد الأقصى في مقدسات الإسلام. وأوضح الحق لهم: يا أيها اليهود أنتم ستعيشون في مكان بعهد من رسولي، ولكنكم ستفسدون في المكان الذي تعيشون فيه وسيتحملكم القوم مرة أو اثنيتن وبعد ذلك يسلط الله عباداً له يجوسون خلال دياركم ويشردونكم من هذه البلاد. والحق يبلغنا: نحن أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم ما سيحدث لهم مع الإسلام: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} [الإسراء: 4 - 5] وبعض الناس يقولون: إن هذا كان أيام بختنصر؛ ونقول لهم: افهموا قول الحق: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} وكلمة «وعد» لا تأتي لشيء يسبق الكلام بل الشيء يأتي من بعد ذلك. إذن فلم يكن ذلك في زمان بختنصر. ف «إذا» الموجودة أولاً هي ظرف لما يُستقبل من الزمان، أي بعد أن جاء هذا الكلام. ثم هل كان بختنصر يدخل ضمن عباد الله؟ . إن قوله الحق: {عِبَاداً لَّنَآ} مقصود به الجنود الإيمانيون، وبختنصر هذا كان فارسيا مجوسيا. وهذا القول الحكيم يشير إلى الفساد الأول مع رسول الله بعد العهد الذي أعطاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم أجلاهم. وهل هي تقتصر على هذه؟ يقول سبحانه: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3052 الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} [الإسراء: 5] ولنا أن نسأل: وهل لم يفسد بنو إسرائيل في الأرض إلا مرتين؟ . لا، لولا أنهم لم يفسدوا في الأرض سوى مرتين، لكان ذلك بالقياس إلى مافعلوه أمراً طيباً؛ فقد أفسدوا أكثر من ذلك بكثير. ولابد أن يكون إفسادهم في الأرض المقصودة هو الفساد الذي صنعوه بالأرض التي كانت في حضانة الإسلام، وسبحانه قد قال: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فمادام يوجد «عباد الله خالصوا الإيمان وأعدوا العدة فلا بد أن يتحقق وعد الله، لكن إذا ما تخلى الناس عن هذا الوصف؛ فعلى الناس الذين يعانون من إفساد بني إسرائيل أن يتلقوا ما قاله الله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 6] فكأن الكّرَّة لا ترد إلا إذا كان القوم المؤمنون على غير مطلوب الإيمان. فإذا ما تساءل بعض المؤمنين: ولماذا تجعل يا الله الكّرَّة لبني إسرائيل؟ . تكون الإجابة: لأنكم أيها الناس قد تخلفتم عن مطلوب العبودية الخالصة لله. ومادمنا قد تخلفنا عن مفهوم» عباد الله «فلا بد أن تحدث لنا تلك السلسلة الطويلة التي نعرفها من عدوان بني إسرائيل. ونحن الآن في مواجهة اليهود في مرحلة قوله الحق: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 6] فإذا كنا عباداً لله فلن يتمكنوا منا. والله سبحانه وتعالى حينما يتكلم بقضية قرآنية فلا بد أن تأتي القضية الكونية مصدقة لها. ولو استمر الأمر دون كرّة من اليهود علينا، بينما نحن قد ابتعدنا عن منهجنا وأصبح كل يتبع هواه، لكانت القضية القرآنية غير ثابتة. ولكن لا بد من أن تأتي أحداث الكون مطابقة للقضية القرآنية. ولذلك رأينا أن بعض العارفين الذين نعتقد قربهم من الله حينما جاء أحدهم خبر دخول اليهود بيت المقدس سجد لله. فقلنا:» أتسجد لله على دخول اليهود بيت المقدس «. فقال: نعم. صدق ربنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3053 لأنه قد قال: {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هكذا قال الحق، وهل يكون دخول لثاني مرة إلا إذا كان هناك خروج من أول مرة؟ . لقد حمد ذلك العارف بالله ربنا لأن قضايا القرآن تتأكد بالكونيات، فإذا ما قال الحق: {رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة} [الإسراء: 6] فليست المسألة أنهم لكونهم يهوداً لا يعطيهم الله الكّرَّةَ. ولكن القضية هي أننا عندما نكون عباداً لله حقيقة. . اعتقادا وسلوكا. . قولا وعملا ننتصر عليهم. {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} [الإسراء: 6] وهم أغنياء لأنهم يديرون معظم حركة المال في العالم المعاصر. ولأنهم جميعاً في الجيش المدافع عن دولتهم. وذلك معنى بنين وأكثر نفيرا. النفير هو ما يستنفره الإنسان لنجدته؛ لأن قوة ذاته قاصرة عن الفعل. واليهود ليسوا قوة ذاتية بمفرد دولتهم، ولكن وراءهم أهم قوى في العالم المعاصر. إذن فقوله الحق: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ} [الإسراء: 6] قول صدق وحق. وقوله الحق: {وَبَنِينَ} [الإسراء: 6] قول صدق وحق. وقوله الحق: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} [الإسراء: 6] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3054 قول صدق وحق. ثم بعد ذلك يحسم الله قضيته ويقول لليهود: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وهل تستمر الكرَّة يا رب؟ . لا. فها هوذا الحق سبحانه يقول: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: 7] كأن الحق يعطينا البشارة بأننا سننتصر؛ ويكون الانتصار مرهونا بتنفيذ القاعدة التي شرعها الله بأن نكون عباداً لله حقا، عندئذ سَيَكِلُ الله لنا تنفيذ وعده لليهود: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: 7] وأشرف ما في الإنسان هو الوجه، وعندما نكون عباداً لله سنسوء وجوههم، وفوق ذلك: {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} [الإسراء: 7] ولم يأت الحق بذكر المسجد من قبل، فها هوذا قوله الكريم: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} [الإسراء: 4 - 5] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3055 إذن فالحق هنا لم يأت بذكر المسجد في أول مرة. فكيف يكون دخولنا المسجد إذن؟ . لقد دخلنا المسجد الأقصى أول مرة في الامتداد الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. والمسجد الأقصى أيام عمر بن الخطاب لم يكن في نطاق بني إسرائيل، ولكن كان في نطاق الدولة الرومانية، فدخولنا المسجد أول مرة لم يكن نكاية فيهم. ولكن الحق جاء بالمرة الثانية هنا والمسجد في نطاق سيطرة بني إسرائيل. {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 7] سنكون نحن إذن عباداً لَلَّهِ ذوي البأس الشديد الذين سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة، وجاء الحق سبحانه بالمسجد هنا؛ لأن دخول المسجد أول مرة لم يكن إذلالاً لليهود، فقد كانت السلطة السياسية في ذلك الزمن تتبع - كما قلنا - الدولة الرومانية. ويضيف الحق من بعد ذلك: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} [الإسراء: 7] وحتى نتبر ما يُعْلُونه - أي نجعله خرابا - لابد أن تمر مدة ليعلوا في البينان. وعلينا أن نعد أنفسنا لتكون عباداً لله لنعيش وعد الآخرة وقد جعلها الله وعدا تشريعياً، فإذا عدنا عباداً لله فسندخل المسجد ونتبر ما علوا تتبيرا، والحق سبحانه وتعالى في آيات سورة المائدة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يأتي بلقطة عن بلاغه لسيدنا موسى بعد خروجه مع قومه من مصر، فقال: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21] وقلنا إن الكتابة هنا تشريعية وليست كونية، فلو كان الأمر كونياً لدخلوا الأرض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3056 المقدسة بدون عقبات وبدون صراع وبدون قتال. والدليل على أن الكتابة تشريعية هو قوله الحق: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} أي أنكم إن ارتددتم على أدباركم انقلبتم خاسرين. فإن أطعتم الله ودخلتم الأرض دون إدبار، فستدخلون الأرض، وإن لم تفعلوا فلن تدخلوها. إذن ليست كتابة الأرض هنا كونية، ولكنها تشريعية. وقوله الحق: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} يشرح لنا طبيعة مواجهة الخصم؛ فالإنسان حين يواجه خصمه فهو يواجهه بوجهه. فإن فرّ الخصم من أمامه فهو يولي أدباره. والتولي على الأدبار يكون على لونين: لون هو الإدبار من أجل أن ينحرف الإنسان إلى جماعة وفئة لتشتد قوتهم ويقووا على هزيمة العدو أو يصنع مكيدة؛ ليعيد مواجهة الخصم، ولون آخر وهو الفرار وذلك مذموم، ومن المعاصي الموبقات المهلكات. وفي ذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [الأنفال: 16] فالارتداد على الأدبار ليس مذموماً إن كان من أجل حيلة أو صنع كمين للعدو. وفي هذه الحالة لا بأس أن يرتد الإنسان، أما خلاف ذلك فهو مذموم. وهل الارتداد على الأدبار رجوع بالظهر إلى الوراء مع الاحتفاظ بالوجه في مواجهة الخصم؟ . أو هو التفات بالوجه ناحية الدبر وفرار من العدو؟ . كلا الأمرين يصح. وقد جاء الأمر إلى بني إسرائيلَ بعدم الفِرار ليدخلوا الأرض فماذا كان موقفهم مادامت الكتابة لهذا الأمر تشريعية؟ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3057 كيف إذن يعلنون هذا التمرد على امر الحق؟ . وكيف علموا أن فيها قوماً جبارين؟ . ولنا أن ننتبه إلى أن الحق قد قال من قبل: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12] فقد ذهب النقباء أولاً وتجسسوا ونقبوا وعرفوا قصة هذه الأرض المقدسة، وأن فيها جماعة من العمالقة الكنعانيين. وساعة رأوا هؤلاء القوم، قالوا لأنفسهم: هل سنستطيع أن نقاوم هؤلاء الناس؟ إن ذلك أمر لا يصدق؛ لذلك لن ندخلها ما داموا فيها. إذن فقد تخاذلوا وارتدوا على أدبارهم. {قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} . وساعة أن تسمع كلمة «جَبَّار» تجدها أمراً معنوياً أُخذ من المحسات؛ فالجبارة هي النخلة التي لا تطولها يد الإنسان إذا أراد أن يجني ثمارها. وعندما تكون ثمار النخلة في متناول يد الإنسان حين يجني ثمارها فهي دانية القطوف، أما التي لا تطولها يد الإنسان لحظة الجني للثمار فهي جَبَّارة؛ لذلك أخذ هذا المعنى ليعبر عن الذي لا يقهر فسمي جباراً، وقد يكون الجبار مُكرِهاً ولكن على الإصلاح، وفي بلادنا نطلق على من يصلح كسور العظام «المجبراتي» . أي أنه يجبر العظام على أن تعود إلى مكانها الطبيعي. وقد يتألم الإنسان من ذلك، ولكن في هذا إصلاح لحياة الإنسان. و «الجَبَّار» اسم من أسماء الله؛ لأنه سبحانه يَقْهَر ولا يُقهَر. وقد يُكرهنا سبحانه وتعالى حتى يصلحنا. ويخنبرنا بالابتلاءات حتى يمحصنا وتستوي حياتنا. إذن ف «الجبار» صفة كمال في الحق لأنه يستعمل جبروته في الخير ويقهر الظالمين والمعاندين والمكابرين، وذلك لمصلحة الأخيار الطيبين. وهو سبحانه وتعالى لا يُقهَر. فعندما يكون في صف جماعة فإن أحداً لا يغلبهم، أما الجبار كصفة في الخلق فعي مذمومة؛ لأن التجبر هنا بدون أصالة كالبناء الأجوف. فالمتجبر قد يصيبه قليل من الصداع فيرقد متوجعاً. إننا نرى أمثلة لذلك في حياتنا، نجد المتجبر يصاب بأزمة قلبية فيحمل على نقالة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3058 إلى المستشفى، ونجد جباراً آخر يصاب بقليل من المغص، فيجري وهو ممسك ببطنه فيضحك عليه الأطفال. ويقولون له ما معناه: العب بعيداً فلست جباراً ولا فتوة ولا أي شيء. والجبار إن أراد أن يكون كذلك فعليه أن يكون صاحب رصيد مستمر، فلا تراه يوماً غير جبار. ولا يكون التجبر صفة ذاتية إلا لله سبحانه وتعالى. ويقول الحق: {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} وساعة نسمع «لن» تسبق الفعل فلنعرف أنها للنفي. والنفي قد يأخذ زمناً طويلاً، وقد يأخذ زمناً تأبيدياً. والفرق بين الدخول فقط والدخول التأبيدي، أن الدخول الأول له زمن ينهيه، والدخول الثاني لا زمن له لينهيه كدخول المؤمنين الجنة. وإذا عين الدخول بغاية كقولهم: {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} أي أن النفي التأبيدي مرتبط بغاية وهي خروج القوم الجبارين. والتأبيد هنا إضافي لأنهم قالوا: إنهم لن يدخلوا الأرض في مدة وجود الجبارين. {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} ونقول: وهل الأمم التي تخطو إلى الشر وتمارسه يمتنع فيها وجود عناصر الخير؟ . لا؛ لأن الحق يبقي بعضاً من عناصر الخير حتى لا ينطمس الخير، وهذا ما يوضحه الحق في بني إسرائيل عندما قالوا لموسى هذا القول، فقد خالفهم رجلان منهم: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3059 وهما رجلان يخالفان النكوص عن أمر الله، بينما بنو إسرائيل - كمجموع - لم يفهموا عن الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3059 حق الفهم؛ لأنهم لو نفذوا أمر الله لهم بالدخول إلى الأرض المقدسة ولم ينكصوا لمكنهم الله من ذلك. لكن لم يفهم عن الله فيها إلا رجلان. وهما كالب، ويوشع بن نون، أحدهما من سبط يهوذا والآخر من سبط افرايم، وهما ابنا يوسف عليه السلام، فقد قالا: مادام الله قد كتب لكم الدخول، فهو لا يطلب منا إلا قليلاً من الجهاد. فحين يأمر الله الإنسان بعمل من الأعمال، فيكفيه أن يتوجه إلى العمل اتجاهاً والمعونة من الله. وسبحانه يقول للعبد: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» . فإذا كان الشأن في المشي أن يتعب الذاهب والسائر، فالله لا يرد أن يرهق بالمشي من يقصده ويطلبه؛ لذلك يُهرول فضله ورحمته - سبحانه - إلى العبد. فالرغبة الأولى أن يكون العمل لك أنت أيها العبد. ومن عظائم فضل الله أنه فعل ونسب إليك. وسبحانه يسعد بالعبد الساعي إليه. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - لنفترض أنك أردت أن تمسك سيفاً، لماذا لا تحلل المسألة؟ . السيف الذي تمسكه، صنعته من الحديد، والحديد استخرجته من الأرض. والحق قال: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] إن الحق هو الذي أنزل الحديد، وهو الذي علمنا كيف نصقل الحديد ونشكله بالنار: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3060 وأنا أريد من علماء وظائف الأعضاء أن يحددوا لنا ساعة أن يمسك الإنسان بشيء وليكن السيف. فبأي عضلة يمسك الإنسان السيف؟ . وكيف يأمرها الإنسان بذلك؟ . وكم عضلة وكم خلية عصبية تحركت من أجل أداء هذا الفعل؟ . على الرغم من أن الإنسان بمجرد إرادته أن يمسك شيئاً. فهو يمسك به. والإنسان إذا ما مشى خطوة واحدة، فبأي العضلات بدأ المشي. إن الإنسان عندما يحرك ذراعاً آلياً في جهاز آلي؛ يصمم عشرات الوصلات والأدوات والدورات الكهربية من أجل تحريك ذراع آلي، فكم إذن من عضلات في الإنسان تتحرك بالسير لخطوة واحدة؟ إن الكثير جداً من أجهزة الإنسان تتحرك بالسير لخطوة واحدة. إن الكثير جداً من أجهزة الإنسان تتحرك لمجرد الإرادة منه!! . فإذا كانت إرادة الإنسان تفعل لمجرد أن يريد سواء أكانت هذه الإرادة هي الإمساك بالسيف أم حتى المشي لخطوة واحدة، أم حتى الإمساك بالقلم بين الأصابع للكتابة. فليعلم الإنسان أن الإرادة عطاء من الله والإنسان لا يستطيع تحديد مواقع إرادته من جسده فما بالنا بالحق حين يريد أمراً؟ ولنعد إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الآن: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] لقد أنعم الله على هذين الرجلين بحسن الفهم عن الله، فقالا لبني إسرائيل: ساعدوا أنفسكم بدخول هذه الأرض وسينصركم الله. ومثل الرجلين كمثل الأم التي طلب منها ابنها أن تدعو له بالنجاح، فقالت الأم لابنها: سأدعو لك ولكن عليك فقط أن تساعد الدعاء بالإقبال على الاستذكار. وكأن الخوف من مخالفة أمر الله نعمة على هذين الرجلين، وكأن الفهم عن الله لعباراته نعمة. {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} كأنهم بمجرد الدخول سيغلبون هؤلاء العمالقة. فلم يطلب منهم قتال هؤلاء العمالقة. بل ساعة يراهم القوم الجبارون يدخلون عليهم فجأة فسوف يذهلهم الرعب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3061 وهم عندما نسجوا الأساطير حول هذه القصة قالوا: إن أحد هؤلاء العمالقة واسمه عوج بن عناق خرج إلى بستان خارج المدينة ليقطف بعض الثمار لرئيسه؛ فخطف اثنين من هؤلاء الناس وخبأهما في كمّه، وألقاهما أمام رئيسه وهو يقدم الفاكهة إليه وقال الرجل العملاق لرئيسه: هذان من الجماعة التي تريد أن تدخل مدينتنا. هذه هي المبالغة التي صنعها خوفهم من هؤلاء العمالقة، برغم أن رجلين منهما أحسنا الفهم عن اللَّه بقولهما: {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب} ؛ لأن هذا هو مراد الله، وهو الذي يحقق لهم النصر. وبعض المفسرين قالوا في شرح هذه الآية: إن الرجلين اللذين قالا ذلك ليسا من بني إسرائيل؛ لأن هؤلاء المفسرين فهموا القول الحكيم: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} قالوا هما رجلان من الذين يخاف منهم بنو إسرائيل، وقالا لبني إسرائيل: لا يُخيفكم ولا يُرهبكم عظم أجسام هؤلاء فإن جنود الله ستنصركم: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] ويختتم الحق الآية بهذا التذييل: {وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي لا تتوقفوا عند حساب العدد في مواجهة العدد، والعُدة في مواجهة العُدة، ولكن احسبوا الأمر إيمانياً لأن اللَّه معكم {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} . وهو سبحانه القائل: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] وعلى المؤمن باللَّه أن يضع هذا الإيمان في كف قوته. فإن كان هؤلاء الناس من بني إسرائيل المأمورين بدخول تلك الأرض مؤمنين بحق فليتوكلوا على اللَّه. فماذا قال هؤلاء القوم: {قَالُواْ ياموسى ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3062 كأن خلاصة قولهم لموسى عليه السلام: لا ترهق نفسك معنا ووفّر عليك جهدك فنحن لن ندخل هذه الأرض، مادام هؤلاء العمالقة فيها. وإن كانت مصرّاً على دخولنا هذه الأرض فاذهب أنت وربك فقاتلا ونحن بانتظاركما هنا قاعدون. هكذا بلغ بهم الخوف أن سخروا من موسى وربّ موسى. وهكذا وصل بهم الاستهزاء إلى تلك الدرجة المُزرية. ولم يكن ذلك بالأمر الجديد عليهم فقد قالوا من قبل: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] ومن قبل ذلك أيضاً عبدوا العجل. فماذا يقول موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3063 وكان هارون أخاً لموسى عليه السلام ومُرسلاً مثله؛ فكأن موسى عليه السلام قد أعلن عدم ثقته في هؤلاء القوم الذين أرسله اللَّه إليهم؛ حتى ولا يوشع بن نون ولا كالب، وهما الرجلان اللذان قالا لبني إسرائيل: إنه يكفي دخول الباب لتهزموا هؤلاء الناس العمالقة. لكن أكانت نفس أخيه مملوكة له؟ أم أنه قال ما فحواه: إني لا أملك إلا نفسي وكذلك أخي لا يملك إلا نفسه، أما بقية القوم فقد سمعت منهم يارب أنهم لم يدخلوا هذه الأرض مادام بها هؤلاء العمالقة. إذن فأنا وأخي في طرف وبقية القوم في طرف آخر؛ لذلك افصل بيننا وبين هؤلاء القوم الفاسقين. والحق سبحانه وتعالى في هذا التعبير القرآني يأتي بهذه الكلمات على لسان سيدنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3063 موسى والتي تحتمل أن يرقّ لها قلب واحد من أتباع موسى عليه السلام فيقول لموسى: إنني معك. ولذلك جاء قول موسى: {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} . ومعنى الفاسقين - كما عرفنا - هم من خرجوا عن الإيمان، كما تفسق الرطبة؛ فالبلحة عندما ترطّب فإن قشرتها تتسع عن حجمها؛ فتخرج الرطبة من قشرتها؛ ويقال فسقت الرطبة؛ فكأن الإيمان كالجلد والجلد كالقشرة. وهو كغلاف يحيط بالإنسان. وعندما يفسق الإنسان عن الإيمان فهو يخرج عن قانون الصيانة، وكذلك كان فسق بني إسرائيل؛ لذلك قال الحق: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3064 فهل كان التحريم مدته أربعون عاما؟ أو أنه قال: «إنها مُحرّمة عليهم» وانتهى الأمر لأنهم تَأَبّوا على أن يدخلوها؟ . ولذلك فكل الذين قالوا: «لن ندخلها أبداً ماداموا فيها» لم يعش منهم أحد ليدخل هذه الأرض. وبعد ذلك صدر الحكم الآتي: {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض} فهل هذا القول هو استئناف للقول السابق فيكون ظرفاً ل «مُحرّمة» . أو هو حكم منفصل؟ . تصح هذه، وتصح تلك. والتيه هو كما نقول: فلان تاه أي سار على غير هدى ولا يعرف لنفسه مدخلاً ولا مخرجاً، والواحد عندما يدخل في مجال متشعب المسالك ومتعرج الطرقات، فهو لا يعرف كيفية الخروج منه، هذا هو التيه. ولكن كم فرسخاً هي مساحة التيه؟ . حدّدها العلماء بستة فراسخ [والفرسخ قدر ثلاثة أميال] . كيف يتيهون في تلك المساحة الضيقة من الأرض؟ لقد أراد الله ذلك؛ لأنهم ساعة يمشون ويرهقون فينامون ويأتي عليهم الصباح ليجدوا أنفسهم عند النقطة التي بدأوا منها، وكانوا يضعون العلامات لإيضاح الطريق، لكنهم كل صباح كانوا يجدون العلامات قد انتقلت من مكانها. وظلّوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3064 على هذا الوضع وفي هذا التيه إلى الأمد والوقت الذي حدده الله وهو أربعون سنة يتيهون في الأرض. وحين يؤدبّ الله عاصياً يحفظ له من القوت والرزق ما يبقى به حياته ولو كان كافراً؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود، ولهذا لم يضنّ عليهم في التيه بما لم يضنّ به على الكافرين به سبحانه. إذن حفظ الحياة أمر ضروري. وعنما يرتكب إنسانٌ مَا ذنباً كبيراً في حق المجتمع فإننا نضعه في السجن، ولكننا نطعمه ونسقيه، وعندما يرتقي المجتمع الإنساني، فهو يوفّر للسّجين عملاً يتناسب مع مواهبه ويحبس عنه حُرية الحركة في المجتمع، والسجين المذنب يظل في السجن، ولكنه يأكل ويشرب وينام ويعمل، فقط تختلف المسألة في النقطة المهمة في الحياة وهي أن يتحرك المتحرك وفق حريته، فما بالنا بالحق الأعظم عندما سجنهم في التيه؟ . لقد أطعمهم الله وسقاهم وأنزل عليهم المَنّ والسَّلوى. وقد يقول قائل: إن الله قد أنزل عليهم المَنّ والسَّلوى ليعيشوا كُسَالى وغّرقى في التَكبر والغرور. ونقول: لا. فذلك الإجراء الإلهي من ضمن حكمه البالغة أن يطيل عليهم الوقت. فلو أنه سبحانه وتعالى قد جعلهم يزرعون ويحرثون لانشغلوا بأمور الحياة اليومية، لكن الحق أراد أن يُطيل عليهم الإحساس بالزمن. فالمسألة ليست طعاماً وشراباً. ولكن هناك كرامة فوق الطعام وفوق الشراب. إننا نرى ذلك عندما نسمع عن اعتقالات لبعض الأفراد الذين أساءوا للمجتمع. وتسمح لهم السلطات بالطعام الذي يأتيهم من منازلهم. ولكنَّ هؤلاء المعتقلين يشعرون بالضيق من تقييد الحركة. إذن أراد الحق لهم عقاباً صارماً في فترة التيه. ولذلك نجد بعضهم يحسب المسألة والزمن في فترة التيه، فيقول الواحد منهم ما ذكره الحق: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3065 وبعد أن رحل موسى عن القوم عبدوا العجل الذي صنعه لهم موسى السامريّ، وعاد إليهم موسى وعاتب أخاه هارون العتاب القاسي، وعاقبهم ربهم على كفرهم أربعين سنة. كأن كل يوم من عبادة العجل صار سنة من العقاب في التيه. ولأنه رَبُّ ورحيم لم يتركهم دون أن يحفظ لهم حياتهم بالقوت، فكان القوت هو المَنّ والسَّلوى. هل كان موسى عليه السلام معهم في التيه أم لا؟ وهل مات معهم في التيه أم لا.؟ تلك أسئلة لا تهمنا الإجابة عنها بالرغم من أن بعض العلماء قد شغلوا أنفسهم بها؛ فتلك أمور لا تنفع ولا تضر. المهم أن بني إسرائيل لم يدخلوا أريحا إلا على يد يوشع بن نون بعد الأربعين سنة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} [المائدة: 25 - 26] ولنا أن نقرأ هذا القول الحكيم كما يلي: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} . وهذا الوقف يعطينا الفهم بأن الأرض المقدسة صارت مُحَّرمة عليهم إلى الأبد. وبعد ذلك يأتي أمر الله بعقابهم في التيه أربعين سنة: {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} . أما لو قرأنا هذا القول الحكيم كما يلي: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} فهذه القراءة تتيح لنا الفهم بأن مدة العقوبة لهؤلاء القوم الفاسقين أربعون سنة في التيه. ودخلوا بعدها مدينة أريحا. ويأمر الحق موسى ألاَّ يحزن على هؤلاء القوم الفاسقين، ذلك أن موسى عليه السلام عندما دعا الله بقوله: {فافرق بَيْنَنَا} انتابه قدرٌ من الضّيق من هذا الدُّعاء وقال لنفسه: لماذا لم أدعُ لهم بالهداية بدلاً من أن أدعو بالفراق؟ ، ولذلك قال له الحق: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} أي فلا تحزن عليهم لأنهم أَّوْلَى بالعذاب لفسقهم ومخالفاتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3066 ومن بعد ذلك يقول الحق: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3067 وساعة يتلو الإنسان - أي يقرأ - فهو يتكلم بترتيب ما رآه من صُور؛ ذلك أن الإنسان عندما يرى أمراً أو حادثة فهو يرى المجموع مرة واحدة، أو يرى كل صورة مكّونة للحدث منفصلة عن غيرها. وعندما يتكلم الإنسان فهو يرتّب الكلمات، كلمة من بعد كلمة، وحرفاً من بعد حرف؛ إذن فالمتابعة والتلاوة أمر خاص بالكلام. {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق} والنبأ هو الخبر المهم، فنحن لا نطلق النبأ على مطلق الخبر. ولكن النبأ هو الخبر اللافت للنظر. مثال ذلك قوله الحق: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 1 - 2] إذن فكلمة «نبأ» هي الخبر المهم الشديد الذي وقع وأثر عظيم. {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق} وساعة نسمع قوله الحق: «بالحق» فلنعلم أن ذلك أمر نزل من الحق فلا تغيير فيه ولا تبديل. ولذلك قال سبحانه: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105] أي أن ما أُنزل من عند الله لم يلتبس بغيره من الكلام، وبالحق الجامع لكل أوامر الخير والنواهي عن الشّر نزل. وعندما يقول سبحانه: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق} فسبحانه يحكي قصة قرآنية تحكي واقعة كونية. ومادام الله هو الذي يقصّ فهو سيأتي بها على النموذج الكامل من الصدق والفائدة. ولذلك يسمّيه سبحانه «القصص الحق» : الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3067 {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} [آل عمران: 62] ويُسمّيه سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] وسبحانه يقول: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} ونعرف أن آدم هو أول الخلق البشري، وأن ابني آدم هما هابيل وقابيل، كما قال المفسرون. وقد قرّب كل منهما قرباناً. والقُربان هو ما يتقرب به العبد إلى الله، و «قربان» على وزن «فعلان» . فيقال: «كَفَر كُفراناً» و «غَفَر غُفرانا» . وهي صيغة مبالغة في الحدث. وهل قدّم الاثنان قرباناً واحداً؛ أم أن كلا منهما قدّم قرباناً خاصّاً به؟ مادام الحق قد قبل من واحد منهما ولم يتقبّل من الآخر فمعنى ذلك أن كلاًّ منهما قدّم قرباناً منفصلاً عن الآخر؛ لأن الله قبل قربان واحد منهما ولم يتقبل قربان الآخر. و «القربان: مصدر. والمصادر في التثنية وفي الجمع وفي التذكير والتأنيث لا يتغير نطقها أو كتابتها. فنحن نصف الرجل بقولنا:» رجل عدل «وكذلك» امرأة عدل «و» رجلان عدل «و» امرأتان عدل «و» رجال عدل «و» نساء عدل «. إذن فالمصدر يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. ونعلم أن آدم هو أول الخلق الآدمي، وجاءت له حواء؛ وذلك من أجل اكتمال زوجية التكاثر؛ لأن التكاثر لا يأتي إلا من ذكر وأنثى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] فكل موجود أراد له الحق التكاثر فهو يخلق منه زوجين. {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} [يس: 36] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3068 ونرى ذلك حين نقوم بتلقيح النخلة من طلع ذكر النخل. وهناك بعض الكائنات لا نعرف لها ذكراً وأنثى؛ إما لأن الذكر غير موجود تحت أعيننا، ولكن يوجد على بعد والريح هي التي تحمل حبوب التلقيح: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً} [الحجر: 22] فتأتي الريح بحبوب التلقيح من أي مكان لتخصب النبات، وإما أن الذكورة والأنوثة يوجدان معاً في شيء واحد أو حيز واحد، مثال ذلك عُود الذّرة؛ حيث نجد ذكروته وأنوثته في شيء واحد؛ فقمّة العود فيها الذكورة ويخرج من كل «كوز» ذرة قدراً من الخيوط الرفيعة التي نسمّيها «الشّوشة» . وهذه هي حبال الأنوثة. وينقل الهواء طلع الذكورة من سنبلة الذرة إلى «الشوشة» ، وكل شعرة تأخذ من حبوب اللقاح كفايتها لتنضج الحبوب، وعندما تلتصق أوراق كوز الذرة ولا تسمح بخروج الخيوط الرفيعة لحبال الأنوثة، ولا تصلها حبوب اللقاح، فيخرج كوز الذرة بلا نضج وبلا حبوب ذرة. وعندما نمسك بكوز الذرة ونفتحه قد نجد بعضا من حبوبه ميتة وهي تلك التي لم تصلها حبوب اللقاح؛ لأنها لم تملك خيطا من الحبال الرفيعة لتلتقط به حبوب اللقاح. وحبّة الذّرة التي لم يخرج لها خيط رفيع لالتقاط حبوب اللقاح لا تنضج. إذن فكل شيء فيه الذكورة والأنوثة. {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} [يس: 36] وكذلك قوله: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} . وكل ما يقال له شيء لا بد له من ذكر وأنثى، حتى المطر لا بد أن يلقح فلو لم يتم تلقيح المطر بالذرات لما نزل المطر، وحتى الحصى فيه ذرات موجبة وذرات سالبة. وعندما اخترعنا الكهرباء واكتشفنا الموجب والسالب ارتحنا. إذن فعندما يقول الحق: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] وقوله سبحانه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3069 {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] وهذا أول علم للعرب، فلم يكونوا من قبل القرآن أمّة علم. وقد أوصل القرآن كل العلم للعرب حتى فاقوا غيرهم، عندما أحذوا بأسباب الله، لكن عندما تراخوا وواصل غيرهم الأخذ بالأسباب تقدمت الاكتشافات، وهذه الاكتشافات نجدها مطمورة في القرآن: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] إذن فكل ما يجدُّ ويحدث ويكتشف من شيء فيه موجب وسالب أي ذكورة وأنوثة؛ يدخل في نطاق: {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] والإنسان سيد الوجود لا بد له من زوجين ذكر وأنثى للتكاثر لا للإيجاد، أما الإيجاد فهو لله سبحانه وتعالى الذي أوجد كل شيء مَِن لا شيء. وعندما جاء آدم وحواء وبدأ اللقاح والتكاثر أخذ عدد سكان الأرض في النمو. ولو أننا رجعنا بالأنسال في العالم كله رجعة متأخرة نجد العدد يقل إلى أن يصل إلى آدم وحواء. مثال ذلك لو عدنا إلى الوراء مائة عام لوجدنا تعداد مصر لا يتجاوز خمسة ملايين نسمة على الأكثر، ولو عدنا إلى الوراء قروناً أكثر فإن التعداد يقل، إلى أن نصل إلى الخلق الأول الذي خلقه الله وهو آدم وخلق له حواء. فالإنسان بمفرده لا يأتي بنسل. إذن عندما نجري عملية الإحصاء الإنسالي في العالم ونرجع بها إلى الوراء، نعود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3070 إلى الخلق الأول. وكذلك كل شيء متكاثر سواء أكان حيواناً أم نباتاً. وعندما نسير بالإحصاء إلى الأمام سنجد الأعداد تتزايد، وتكون القفزة كبيرة. وعندما يبلغنا الحق أنه خلقنا من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثَّ منهُما رجالاً كثيراً ونساء، فإن عِلم الإحصاء إنما يؤكد ذلك. والتكاثر إنا يأتي بالتزاوج. والتزاوج جاء من آدم وحواء. وأراد الحق أن يرزق آدم بتوائم ليتزوج كل توأم بالتوأم المخالف له في النوع من الحمل المختلف. أي يتزوج الذكر من الأنثى التي لم تولد معه في بطن واحدة. وجاء ربّنا لنا بهذه القصة كي يبين لنا أصل التكاثر بياناً رمزياً. أوضح سبحانه: أن التباعد الزوجي كان موجوداً، ولكنه التباعد الإضافي، صحيح سيكون هذا الولد أخا للبنت هذه، وهذه البنت أخته؛ لكن حين تكون مولودة مع هذا، وتأتي بطن ثانٍ فيها ذكر وأنثى، فسيكون فيها بُعد إضافي، فتتزوج البنت لهذا البطن بالذكر في البطن الثاني. والذكر للبطن الثاني للبنت في البطن الآخر، وهذا هو البُعد الإضافي الذي كان مُتاحاً في ذلك الوقت؛ لأن العالم كان لا يزال في بداية طفولته الواهية. ونلحظ مثل هذا الأمر في الريف، حين يقول فلاح آخر: «الذرة بتاعك خايب» ، يقول الفلاح الثاني: إني آخذ من الأرض التي أخذت منها الذرة وأعطيها تقاوى منها، فأنا قد زرعت فداناً من ذرة، وأحجز كيلتين أو ثلاثا أستخدمها تقاوى لأزرعها، فتخرج الذرة ضعيفة، فيقول الفلاح الناضج: يا شيخ هات من ذرة جارك. فيكون ذرة جاري فيه شيء من البُعد. وبعد ذلك تصير النوعية واحدة، فيقول الفلاح الناضج: هات من بلد أخرى. وبعد ذلك من بلد ثالثة، ولذلك فالتهجين والتكاثر كيف نشأ؟ من أين نأتي بالتقاوى؟ كلما جئنا بها من الخارج يكون الناتج قوياً. كذلك التزاوج ليكون في هذه الزوجية مواهب، ولذلك فطن العربي قديماً لها، ومن العجيب أن هذا العربي البدوي الذي لم يشتغل بثقافة ولم نعرف له تعليما ولا علماً، يهتدي إلى مثل هذه الحقيقة اهتداءً يجعلها قضية عامة فطرية. ويريد أن يمدح رجلاً بالفتوة، فيقول عنه: فتى لم تلده بنتُ عمٍ فيضوي ... وقد يضوي سليل الأقارب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3071 كيف اهتدى هذا الشاعر لهذه؟! وبعد ذلك يقول: تجاوزت بنت العّمِ وهي حبيبة إليّ ... مخافة أن يضوي على سليلها أي هو يحبها، لكنه تجتوزها، حتى لا يضوي سليلها. ولذلك يقول الشاعر في هذه القضية: أنصح من كان بعيد الهم ... تزويج أولاد بنات العم فليس ينجو من ضوى وسقم ... الشاعر العربي الذي ليس في أمة مثقفة ولا تعرف التهجين ولا تعرف هذه الأشياء، انتبه إلى هذه المسألة، كيف؟ إما أن يكون قد اهتدى إليها في واقع الكون فوجد أن زواج القريبات يُنشئ ملاً ضعيفاً، وإما أن يكون ذلك من رواسب الديانات السابقة القديمة والعظات الأولى التي ظل الإنسان محتفظاً بها، فإذا أراد الله أن يبدأ تكاثر فلا بد أن يتزوج أخ بأخته، ولكن سبحانه يريد أن نتباعد، نعم أخ وأخت لكن نتباعد فنأخذ البطن المختلف، ولذلك حينما جاءوا لينسبوا قصة ابني آدم قابيل وهابيل، صحيح اختلفوا. مثلا «سِفْر التكوين» تكلم، ونحن نأخذ من «سفر التكوين» لأن التغيير فيه لا يهمهم. فقد كان التغيير في المسائل التي تهمهم، كمسألة نبوّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إنما المسائل الأخرى لا تهم، ومع ذلك ففيها أيضا الكثير. إنهم يقولون: إن هابيل هو أول قتيل في الإنسانية وقتله «قابيل» وبعض القصص تقول: لم يكن يعرف كيف يُميته أو يقتله، فالشيطان مَثَّل له بأنه جاء بطير ووضع رأسه على حجر ثم أخذ حجرا آخر فضرب به رأسه حتى قتله، فعلّمه كيف يقتل، مثلما سيأتي الغراب ويعلّمه كيف يدفن، أما مسألة كيف يقتل هذه لم تأت عندنا، إنما كيف يدفن فقد جاءت عندنا. {فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3072 فهذا هو أول من توفّى وقتل، لكن كيف تقولون: إنه لم يكن يعرف القتل حتى جاءه الشيطان وعلّمه كيف يقتل أخاه؟ نقول: أنتم لم تنتبهوا. فالحق قال: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3073 فقابيل - إذن - فاهم للقتل، فلا تقل إنه تعلم القتل، صحيح مسألة الدفن هذه جديدة، والقصة جاءت لتثبت لنا كيف بدأ التكاثر، ليجمع الله فيه بين الزوجين البُعد الإضافي؛ لأن البُعد غير الإضافي غير مُمكن في هذا الوقت فتكون هذه بالنسبة لهذا أجنبية، وهذا بالنسبة لهذه أجنبي إلى أن يتوسع الأمر، وبعد ذلك يُعاد التشريع بأن الأخت من أي بطن محرّمة على أخيها تحريماً أبديًّا، وبعد ذلك نتوسع في الأمر وننقله إلى المحرمات الأخريات من النسب والرضاع فلا بد أن لهذه القصة أصلا. هم قالوا نقرب قرباناً. . لماذا؟ «إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر» . لماذا يريدان أن يُقرِّبا قُرباناً؟ قالوا: إن أخت قابيل التي كانت في بطن معه كانت حلوة وجميلة، وأخت هابيل لم تكن جميلة، فطبقا لقواعد التباعُد في الزوجية كان على هابيل أن يأخذ أخت قابيل، وقابيل يأخذ أخت هابيل، فَحَسد قابيل أخاه وقال: كيف يأخذ الحلوة، أنا أولى بأختي هذه. وكان سيدنا آدم مازال قريب العهد بالوحي، فقال: قربوا قرباناً وانظروا. لأنه يعلم جيداً أن القربان سيكون في صف التباعد. {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} . وبعض المفسرين يقول: والله نحن لم نعرف طريقة التقبّل هذه. نقول له: فلنبحث عن «قُربان» في القرأن. ننظر ما هو القُربان؟ قد وردت هذه الكلمة في القرآن في أكثر من موضع. قال: {الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} [آل عمران: 183] والحق يقول لهم ردًّا عليهم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3073 {قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ} [ «آل عمران: 183] {وبالذي قُلْتُمْ} ما هو؟ إنه القُربان الذي تأكله النار. إذن كان القُربان معروفاً والاحتكام إلى قربان وتأكله النار علامة التقبّل من السماء ويكون صاحبه هو المُقرَّب، والقُربان في مسألة هابيل وقابيل لكي يعرف كل منهما من يتزوج الحلوة ومن يتزوج الأخرى، وتقبل الله قربان هابيل. لكن أرضِي المهزوم؟ لا، بل حَسَده، وهذا أول تأب على مُرادات الحق في تكليفه. {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} . وقالت لنا القصص: إن هابيل كان صاحب ضرع أي ماشية وبذلك يكون عنده زبْد ولبن وجبن، وحيوانات للحم، والثاني صاحب زرع وقالوا: إن قابيل قدّم شِرار زرعه، وهابيل قدّم خيار ماشيته. {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} . {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ} وسبحانه قال: {أَحَدِهِمَا} ولم يقل قابيل أو هابيل، {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} . فقوله: {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ} من الذي قال؟ الذي قال هو من لم يتقبل قربانه؛ لأنه لم يحقق مُراده وغرضه. {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} . وهل هذا الرّد مُناسب لقوله: «لأقتلنك» ؟ نعم؛ لأن «لأقتلنك» بسبب أن قربانك قُبِل وقرباني لم يُقبَل. قال: فما دخلي أنا بهذه العملية؟ الدخل في العملية للقابل للقربان، فأنا ليس لي دخل فيها، وربّنا لم يتقبله لأن الله لا يتقبل إلا من المتقين. وهو يعلم أنك لست بمتقٍ؛ فلن يتقبل منك لأنك تأبيت عن حكاية الزواج بابنة البطن المخالف، وهذا أول تمرُّد على منهج الله وعلى أمره لذلك قال هابيل: لا تلُمني فأنا لا دخل لي في القربان المتقبل؛ لأن هذا من عند الله. والله لم يظلمك؛ لأن ربنا يتقبل من المتقين. وأنت لست بمتقٍ؛ لأنك لم تَرْضَ بالحكم الأول في أن تبتعد البطون {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} . {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [المائدة: 28] وكلمة «البسط» ضد «القبض» ، وهناك: «بسط له» ، و «بسط إليه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3074 وتجد «بسط له كأن البسط لصالح المبسوط له. {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ} [الشورى: 27] ولم يقل:» إلى عباده «بل قال:» لعباده «، إذن فالبسط لصالح المبسوط له ولذلك لا يكون بإلى إلاّ في الشر، وشرحنا من قبل هذه المسألة وفي قوله الحق: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] إذن فالذي يبسط لك يعطيك نفعا والذي يبسط إليك يكون النفع له هو. {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} . وبيّنت» لتقتلني «مدلول» إليّ «. والعلة لا عجز عن مقابلة قوّتك بقوة، لا، وإنما لأنني أخاف الله، فليس في هذا تقصير في الدفاع عن نفسي لأنني أريد أن أُحَنّنِك تَحنيناً يرجعك إلى صَوابك. وساعة يأتي واحد يريد أن يقتل واحداً يقول له: والله لن أقاتلك لأنني أخاف ربنا. إذن فبيَّن له أن خَوفه من الله مسألة مُستقرة في الذهن حتى ولو كانت ضد استبقاء الحياة، وقد يعرفها في نفسه لأن أخاه كان يستطيع أن يقدّم دفاعاً قويا، لقد ردّ الأمر إلى الحقّ الأعلى. فلا تقل كان هابيل سَلبيّا لا. إنه صعّد الأمر إلى الأقوى ويقول الحق: {إني أُرِيدُ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3075 و «تبوء» أي ترجع من صفقة قتلى بأن تحمل إثم تلك الفعلة وتنال عقوبتها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3075 و «إثمك» وكذلك الإثم الذي كان من أجله أنك أردت أن تقتلني؛ لأنك تأبيت على المنهج، حين لم يتقبل ربنا قربانك. فقد أثمت في عدم قبولك التباعُد المطلوب في الزوجية. إذن فأنت عندك إثمان: الإثم الأول: وهو رفضك وعدم قبولك حكم الله ومنهجه وهو الذي من أجله لم يَقبل الله قربانك، والإثم الثاني: هو قتلي وأنا لا دخل لي في هذه المسألة؛ لأن الظالم لا بد أن يأخذ جزاءه. إن هابيل يقول: {إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} لم يتمن أن يكون أخوه عاصياً. بل قال: إن كان يعصي بهذه يبوء بإثمي ويأخذ جزاءه؛ فيكون قد تمنى وأراد له أن يعود إلى العقاب ويناله إن فعل وهو لا يريده أن يفعل. {إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين} وجزاء الظالمين تربية عاجلة للوقوف أمام سُعارات الظلم من الظالمين؛ لأن الحق لو تركها للآخرة لاستشرى الظُلم، والذي لا يؤمن بالآخرة يصبح مُحترفاً للظُلم، ولذلك قلنا من قبل: إن الحق سبحانه وتعالى ضرب لنا ذلك المثل في سورة «الكهف» حينما ذكر لنا قصة ذي القرنين: الذي آتاه الله من كل شيء سببا فأتبع سببا، وبعد ذلك بين لنا مُهمة من أوتي الأسباب واتبع الأسباب، وجعل قضيته في الأرض لعمارة الكون وصلاحه، وتأمين المجتمع. ماذا قال: {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] هذا في رأي العين، فحين تكون راكباً البحر. ترى الشمس تغرب في الماء، هي لا تغرب في الماء؛ لأن الماء هو نهاية امتداد أُفقك. {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف: 86] إذن فقد خيره: إمأ ان تعمل هذا وإما أن تعمل ذاك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3076 {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} [الكهف: 87] ذلك هو القانون الذي يجب أن يسير في المجتمع. جتى لا أترك لمن لا يؤمن بإله ولا يؤمن بآخرة أن يستشري في الظلم. فَلْيأخذ عقابه في الدنيا. {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] أي قبل الآخرة لهم عذاب. ولذلك حين يرى الناس مصرع الظالم، أو ترى الخيبة التي حدثت لهم فهم يأخذون من ذلك العظة، وجيلنا نحن عاصر ظالمين كثيرين نكل بعضهم ببعض؛ ولو مُكِّن المظلومون منهم ما فعلوا بهم ما فعله بعضهم ببعض، وأراد الحق أن يجري عذابهم أمامنا لتتضح المسألة. {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} [الكهف: 87] ولا ينتهي أمره بذلك، وبعد ذلك يُردّ لمن؟ يُردّ لله: {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} [الكهف: 87] يعني عذاب الدنيا؛ إن عذابها سيكون محتملا لأنه عذاب منوط بقدرة العاجزين، إنما العذاب في الآخرة فهو بقوة القادر الأعلى: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف: 88] تلك هي مهمة الله القوي المتين: إنّ الذي يظلم يضربه على يده، والذي يحسن عمله يعطيه الحوافز. والحق يقول هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3077 {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3078 ولا يقال: طوعت الشيء إلا إذا كان الشيء متأبيا على الفعل، فلا تقل: أنا طوّعت الماء، وإنما تقول: طوّعت الحديد، وقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فهل نفسه هي التي ستقتل وهي نفسه التي طوَّعَت؟ ولننتبه هنا أن الإنسان فيه ملَكتان اثنتان؛ ملكة فطرية تُحبّ الحق وتُحبّ الهير، وَملَكَة أهوائية خاضعة للهوى، فالملكتان تتصارعان. {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} كأن النفس الشريرة الأهوائية تغلبت على الخيّرة، فكأن هناك تجاذبا وتصارعاً وتدافعاً؛ لأن الإنسان لا يحب الظلم إن وقع عليه. لكن ساعة يتصور أنه هو الذي يظلم غيره فقد يقبل على ذلك. {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} إنه لا يزال فيه بقيّة من آثار النُّبوة؛ لأنه قريب من آدم، ولاتزال المسألة تتأرجح معه، والشر من الأخيار ينحدر، والشر في الأشرار يصعد. فقد تأتي لرجل طيب وتثير أعصابه فيقول: إن رأيته لأضربنه رصاصة أو أصفعه صفعتين، أو أوبِّخه، والشرِّير يقول: والله إن قابلته أبصق في وجهه، أو أضربه صفعتين، أو أضربه رصاصة. إذن فالشر عند الشرِّير يتصاعد، ويجد العملية لا تكفي للغضب عنده فيصعدها. إنما نفس الخير تُنفِّس عن غضبها وبعد ذلك ينزل عنها بكلمة، ولذلك نلاحظ في سورة سيدنا «يوسف» : {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] والعجيب أنهم جاءوا بالتعليل الذي ضدّهم؛ كي يعرفك أن الهوى والغضب والحسد والحقد تقلب الموازين، {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} هذه تدل على أنهم أقوياء. وهي التي جعلت أباه يعقوب يعطف على الضمير. أنتم تقولون: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3078 إلى أَبِينَا مِنَّا} نعم؛ لأنه صغير، وسألوا العربي: مالك تُحب الولد الصغير، قال: لأن أيامه أقصر الأيام معي، البكر مكث معي طويلاً، فأنا أعوض للصغير الأيام التي فاتته ببعض الحب وأعطيه بعض الحنان، قولهم: {نَحْنُ عُصْبَةٌ} هذه ضدهم، مما يدل على أن الرجل ساعة تختلط عليه موازين القيم، يأتي بالحُجّة التي ضده ويظن أنها معه! وبعد ذلك يقولون: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] واتفقوا. فبدأوا بقولهم: {اقتلوا يُوسُفَ} [يوسف: 9] وقالوا: {أَوِ اطرحوه أَرْضاً} [يوسف: 9] ولأنهم أسباط وأولاد يعقوب تنازلوا عن القتل والطرح في الأرض وقال قائل منهم: {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] وهل يرتب أحد النجاة لمن يكرهه؟ كأن النفس مازال فيها خير، فأولا قالوا: {اقتلوا يُوسُفَ} هذه شدة الغضب. أو {اطرحوه أَرْضاً} يطرحونه أرضاً فقد يأكله حيوان مفترس، فقال واحد: نلقيه في غيابة الجب ويلتقطه بعض السيارة، إذن فالأخيار تتنازل. {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} . ونعرف الخسران قضية التجارة؛ أن هناك مكسباً وهناك خسارة، و «مكسب» أي جاء رأس المال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3079 بزيادة عليه، و «الخسارة» أي أن رأس المال قد قلَّ، فلماذا قتل أخاه وكان أخوه الوحيد وكان يأنس به في الدنيا؟ إن هذا حدث من حكاية البنت. فقد أراد أن يأخذ أخته الحلوة ويترك الأخرى، ولما قدّما القربان ولم يقبل منه تصاعد الخلاف وقتل أخاه، إذن فَفَقد رأس المال، بينما كان يريد أن يكسب {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} . ويقول الحق بعد ذلك: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3080 ونعرف السوءة وهي ما تَتَكرّهه النفس. وهي من «ساء، يسوء، سوءا» أي يتكره، وسمينا «العَورة» سَوْءَة؛ لأنها تتكره. {فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض} . هل بعث الله حتى يُرِي قابيل كيف يواري سوءة هابيل، أم أن الغراب هو الذي سيقول له؟ كلا الأمرين متساوٍ؛ لأن ربنا هو الذي بعث، فإن كنت ستنظر للوسيلة القريبة فيكون الغُراب، وإن كنت ستنظر لوسيلة الباعث يكون هو الله؛ فالمسألة كلها واصلة لله، وأنت حين تنسب الأسباب تجدها كلها من الله. {قَالَ يَاوَيْلَتَا} . ساعة تسمع كلمة «يا ويلتي» يكون لها معنيان في الاستعمال: المعنى الأول للويل: هو الهلاك، وإن أردنا المبالغة في الهلاك نأتي بتاء التأنيث ونقول: ويلة، ولذلك عندما نحب أن نبالغ في وصف عالم نقول: فلان عالم وفلان علاّم وفلان عَلاَّمة، وتأتي التاء هنا لتؤكد المعنى، إذن فالويل: الهلاك، و «ويلة» تعني أيضا الهلاك، وماذا تعني «يا ويلتي» ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3080 إننا نعرف أن النداء يكون ب «يا» فكيف نُنادي الويل والهلاك؟ وهل يُنادي غير العاقل؟ نعم، يُنادي؛ لأنه مادام «الويل» و «الويلة» : الهلاك. كأنك تقول: أنا لم أعد أطيق ما أنا فيه من الهم والغم، ولا يُخلصني فيه إلا الهلاك، يا هلاكي تعال فهذا وقتك {إذن فقوله: «يا ويلتي» يعني يا هلاك تعال، والمتنبي فطن لهذه المسألة وقال: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا فأي داء هذا الذي تقول فيه: يارب أرحني بالموت} ! إذن فالذي يراه من ينادي الهلاك هو أكثر من الموت. المعنى الأول: أنك تنادي الهلاك أن يحضر؛ ولذلك يقول الحق: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] إنهم يتمنّون الموت؛ وكذلك قال قابيل «يا ويلتي» . وهل تأتيه الويلة عندما يطلبها؟ لا، فقد انتهت المسألة وصار قاتلاً لأخيه. والمعنى الثاني: أن تأتي «يا ويلتنا» بمعنى التعجب من أمر لا تعطيه الأسباب، وهناك فرق بين عطاء الأسباب وبين عطاء المُسبّب. فلو ظل عطاء الأسباب هو المُتحكّم في نواميس الكون، لكان معنى هذا أن الحق سبحانه قد زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة، وكأنه خلق الأسباب والنواميس وتركها تتحكم ونقول: لا. فبطلاقة القدرة خلقت الأسباب، وهي تأتي لتثبيت ذاتية القدرة وقيّوميّتها، فيقول الحق حينما يشاء: توقفي يا أسباب. إذن فهناك أسباب وهناك مُسبّب. والأمر العجيب لا تعطيه الأسباب. وحين لا يعطى السبب يتعجب الإنسان، ولذلك يَرُدّ الأمر إلى الأصل الذي لا يتعجب منه. وها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما جاءه الضيوف وقدم لهم الطعام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3081 ورأى أيديهم لا تصل إليه نكرهَم ونفر منهم ولم يأنس إليهم وأوجس منهم خِيفة. ويقول الحق عن هذا الموقف: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 28 - 29] وقال الحق أيضاً في هذا الموقف: {وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] وهنا قالت امرأة سيدنا إبراهيم: {ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72] أي أن الأسباب لا تعطى، ورُدّت إلى المُسبّب. (أتعجبين من أمر الله) ؟ كان لك أن تتعجبي من الأسباب لأنها تعطلت، أما حين تصل الأسباب إلى الله، فلا عجب. وقال سيدنا زكريا عليه السلام مثل قولها؛ فحين رأى السيدة مريم وهو الذي كَفلها، وكان يجيء لها بمطلوبات مقومات حياتها، وفُوجئ بأن عندها رزقا من طعامٍ وفاكهة. فسألها: {يامريم أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] كيف يقول لها ذلك؟ لا بد أنه رأى شيئا عندها لم يأتِ هُو به، وهنا ردَّت عجبه لتنبهه بالحقيقة الخالدة: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3082 وبشاء الحق أن تقولها سيدتنا مريم وهي صغيرة السن، وكأنها تقول ذلك كتمهيد؛ لأنها - كما قلنا سابقا - ستتعرض لمسألة لا يمكن أن يحلها إلا المُسبِّب، فسوف تلدِ بدون رُجولة، وهي مسألة عجيبة، لذلك كان لا بد أن تفهم هي وأن تنطق: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] وكأن الحق ينبئها ضمناً بأن عليها أن تتذكّر أنها هي التي قالت هذه الكلمة؛ لأن المستقبل سوف يأتي بك بأحداث تحتاج إلى تذكُر هذا القول. وهي التي تُذكِرّ سيدنا زكريا عليه السلام بهذه الحقيقية. ولنر دِقّة إشارة القرآن إلى الموقع الذي ذكرت له مريم فيه تلك الحقيقة: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] كأن ساعة سمع هذه المسألة قرّر أن يدعو الله بأمنيته في المحراب نفسه. وهل كان سيدنا زكريا لا يعرف تلك الحقيقة؟ كان يعرفها، ولكن هناك فرق بين حكم يكون في حاشية الشعور، وبين حكم يكون في بؤرة الشعور. وقول مريم لزكريا: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} جعل القضية تنتقل من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور. {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] لماذا لم يدعُ ربَّه من البداية؟ . كان سيدنا زكريا سائراً مع الأسباب ورتابة الأسباب قد تذهل وتُشغل عن المُسبِّب، وعندما سمع من مريم: {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أراد أن يدخل من هذا الباب، فدعا ربه؛ وبشّره الحق بأنه سيأتي له بذريّة، وتعجّب زكريا مرّة أخرى من هذا الأمر شارحاً حالته: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3083 ومادمت يا زكريا قد دعوت الله أن يهبك الذّرّية وقفزت قضية رزق الله لمن يشاء من حاشية شعورك إلى بؤرة شعورك. فقد جاء أمر الله: {كذلك قَالَ رَبُّكَ} [مريم: 9] إذن فلا بحث في الأسباب والمسببات. فهي إرادة الله. ويوضح الحق حيثيّات {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ويأتيك بالولد؛ فيقول سبحانه: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] وكل هذه مقدمات من مريم ومن سيدنا زكريا الكفيل لها؛ ذلك أن سيدنا زكريا سوف يكون عنصراً شاهداً عندما يأتيها الولد من غير أب وتلد، وهو كفيل لها، وهو الذي سيتعرض لهذا الأمر. ولماذا كل هذا التمهيد؟؛ لأن خرق الأسباب وخرق النواميس وخرق السُنن إنما حدث في أمور أخرى غير العِرْض، لكن عند مريم سيكون ذلك في العِرض وهو أقدس شيء بالنسبة للمرأة، لذلك لابد من كل هذه التمهيدات. إذن، هو أمر عجيب لكنه ليس بعجيب على الله. وها هوذا قابيل يقول: {يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب} كأن عملية الغراب أظهرت لقابيل أنه لم يعرف شيئاً يفعله الطائر الذي أمامه، فها هي ذي مسألة يفعلها غراب ولا تفعلها أنت يا قابيل، لقد امتلكت قدرة لتقتل بها أخاك، لكنك عاجز أن تفعل مثل هذا الغراب. فقابيل لا يقولها - إذن - إلا بعد أن مرّ بمعنى نفسيّ شديد قاسٍ على وجدانه. لقد قدر على أخيه وقتله وهو لم يعرف كيف يواريه، بينما عرف الغراب كيف يواري جثة غراب آخر. وهكذا أصبح قابيل من النادمين {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} . إن علينا أن ننتبه إلى الفارق بين «نَدِمٍ» و «نَدَمٍ» . وعلى سبيل المثال: هناك إنسان قد جرؤ على حدود الله وشرب الخمر بالنقود التي كان عليه أن يشتري بها طعام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3084 الأسرة. وعندما عاد إلى منزله ووجد أهله في انتظار الطعام، ندم لأنه شرب الخمر، فهل كان ندم الرجل على أنه عصى الله، أو ندم لأنه لم يشتر الطعام لأهله؟ . لقد ندم على عدم شراء الطعام وذلك ندم مرفوض، ليس من التوبة. وقد يكون هذا الشارب للخمر قد ارتدى أفخر ثيابه وخرج فشرب الخمر ووقع على الأرض، وهنا ندم لأن شُرب الخمر أوصله إلى هذا الحال؛ فهل ندم لأنه عصى ربه؟ . أو ندم لأنه صار هُزْأة بين الناس؟ . وكذلك كان ندم قابيل، لقد ندم على خيبته؛ لأنه لم يعرف ما عرفه الغراب. ويقول الحق بعد ذلك: {مِنْ أَجْلِ ذلك ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3085 نجد الحق قال: إنه قد كتب على بني إسرائيل ما جاء بهذه الآية من قانون واضح؛ لأن معنى كلمة «من أجل» هو «بسبب» ؛ و «أًجْل» مِن أَجَل شرا عليهم يَأْجُلُه، أي جنى جناية؛ أي من جريرة ذلك. أو من هذه الجناية شرعنا هذا التشريع: {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} . إذن فساعة تسمع «من أجل» فاعرف أنها تعني «بسبب ذلك» أو «بوقوع ذلك» أو «بجريرة ذلك» أو «بهذه الجناية كان ذلك» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3085 ولكن هل هذا الكَتْب خاص ببني إسرائيل؟ . بعض العلماء قال: إن ابني آدم ليس ابني آدم مباشرة؛ ولكنهما من ذُرّية آدم وهما من بني إسرائيل. ونَردّ: من هو إسرائيل أولاً الذي نُسب إليه أبناء إسرائيل؟ . إنه يعقوب بن إسحاق؛ بن إبراهيم، وإبراهيم يصل إلى نوح بأحد عشر أباً ويصل نوح إلى شيث، وبعد ذلك إلى آدم؛ فهل كانت كل هذه السلسلة لا تعرف كيف تدفن الميت إلى أن جاء بنو إسرائيل؟ طبعاً لا؛ ومادام الحق أوضح أنه سبحانه قد بعث غُراباً يبحث في الأرض ليُرِيَه كيف يُواري سَوْءَة أخيه، فهذا دليل على أن هابيل هو أول إنسان تَمَّ دفنه، ومن غير المقبول - إذن - أن نقول: إن الإنسان لم يعرف كيف يواري جثمان الميّت إلى أن وصلت البشرِّية إلى زمن بني إسرائيل، وأنهم هم الذين علموا البشرية ذلك! ولماذا جاء الحق هنا ببني إسرائيل؟ . سبب ذك أن بني إسرائيل اجترأوا لا على قتل النفس فقط بل اجترأوا على قتل النفس الهادية، وهي النفس التي تحمل رسالة النّبوة، ولذلك كان التخصيص، فقد قتلوا أنبيائهم الذين حملوا لهم المنهج التطبيقي؛ لأن الأنبياء يأتون كنماذج تطبيقية للمناهج حتى يلفِتوا الناس إلى حقيقة تطبيق منهج الله. الأنبياء - إذن - لا يأتون بشرع جديد، ولكنهم يسيرون على شرع من قبلهم. فلماذا قتل بنو إسرائيل بعضاً من الأنبياء؟ لقد تولّدت لدى بني إسرائيل حفيظة ضد هؤلاء الأنبياء. ونعلم أن الإنسان الخيّر حين يصنع الخير ويراه الشرّير الذي لا يقدر على صناعة الخير فتتولد في نفس الشرّير حفيظة وحقد وغضب على فاعل الخير. ففاعل الخير كلما فعل خيراً إنما يلدغ الشرّير، ولذلك يحاول الشرّير أن يُزيح فاعل الخير من أمامه. وكان الأنبياء هم القدوة السلوكية، وقد قال الحق عن بني إسرائيل: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ} [البقرة: 91] وجاء الحق هنا ب «من قبل» هذه لحكمة؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في عداءٍ مع اليهود، وقد تَهبّ عليهم الخواطر الشرّيرة فيحاولون قتل النّبي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3086 وقد حاولوا ذلك. مثلما أرادوا أن يلقوا عليه حجراً، ودسُّوا له السّم، ولذلك قال الله: «من قبل» أي إن قدرتكم على قتل الأنبياء كانت في الماضي؛ أما مع محمد المصطفى فلن تُمكَّنُوا منه. ويقول سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} . وهذا توضيح لإرادة الحق في تأسيس الوحدة الإيمانية ليجعل من المجتمع الإيماني رابطة يوضحها قول رسول الله فيما رواه أبو موسى الأشعري عنه: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» وإياك أن تنظر إلى مجترئ على غيرك، بالباطل، وتقف مكتوف اليدين؛ لأن الوحدة الإيمانية تجعل المؤمنين جميعاً كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحُمى. فإن قَتل إنسان إنساناً آخر ووقف المجتمع الإيماني موقف العاجز. فهذا إفسادٌ في الأرض، ولذلك يجب أن يقابل المجتمع مثل هذا الفعل لا على أساس أنه قتل نفسا واحدة، بل كأنه قتلٌ للناس جميعاً ما لم يكن قتل النفس لقصاص أو إفساد في الأرض. ويكمل الحق سبحانه الشق الثاني من تلك القضية الإيمانية: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} ، وهذه هي الوحدة الإيمانية، فمن يعتدي على نفس واحدة بريئة، كمن يعتدي على كل الناس، والذي يسعف إنساناً في مهلكه كأنه أنقذ الناس جميعاً. وفي التوقيع التكليفي يكون التطبيق العملي لتلك القاعدة، فالذي يقتل بريئاً عليه لعنة الله وغضبه ويعذبه الله، وكأنه قتل الناس أجمعين، وإن نظرنا إليها من ناحية الجزاء فالجزاء واحد. {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} . وسبحانه وتعالى يريد ألا يستقبل المجتمع الإيماني مجترئاً بباطل على حق إلا أن يقف كل المجتمع أمامه، فلا يقف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3087 المعتدَى عليه بمفرده؛ لأن الذي يُجرِّئ أصحاب الشرّ هو أن يقول بعض الناس كلمة «وأنا مَالِي» . و «الأنا مالية» هي التي تُجرِّئ أصحاب الشرور، ولذلك اقرأوا قصة الثيران الثلاثة: الثور الأسود والثور الأحمر والثور الأبيض، فقد احتال أسد على الثورين الأحمر والأسود، فسمحا له بأكل الثور الأبيض. واحتال على الثور الأسود فسمح الثور الأسود للأسد بأكل الثور الأحمر؛ وجاء الدور على الثور الأسود؛ فقال للأسد: - أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض. كأن الثور التفت إلى أن «أنا ماليته» جعلته ينال مصرعه. لكن لو كان الثيران الثلاثة اجتمعوا على الأسد لقتلوه. وهاهوذا الحديث النبوي الشريف الذي يمثل القائم على حدود الله والواقع فيها: عن النعمان بن بشير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجَوْا ونجوا جميعاً» كذلك مثل القائم على حدود الله ومثل الواقع فيها، فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول لنا: لا تنظر إلى أن نفساً قتلت نفساً بغير حق، ولكن انظر إليها كأن القاتل قتل الناس جميعاً؛ لأن الناس جميعاً متساوون في حق الحياة. ومادام القاتل قد اجترأ على واحد فمن الممكن أن يَجترئ على الباقين. أو أن يكون فعله أُسْوَة لغيره، ومادام قد اسْتَن مثل هذه السُّنة، سنجد كل من يغضب من آخر يقتله، وتظل السلسلة من القتلة والقتلى تتوالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3088 والحديث النبوي يقول: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» . إنه الاحتياط والدقة والقيد: {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض} . فكأن من قتل نفساً بنفس أو بفساد في الأرض، لا يقال عليه: إنه قتل الناس جميعاً، بل أحيا الناس جميعاً؛ لأن التجريم لأي فعل يعني مجيء النص الموضح أن هذا الفعل جريمة، وبعد ذلك نضع لهذه الجريمة عقوبة. ولا يمكن أن تأتي لواحد ارتكب فعلاً وتقول له: أنا أؤاخذك به وأُعاقبك عليه بغير أن يوجَد نص بتجريم هذا الفعل. وهناك توجد قاعدة شرعية قانونية تقول: «لا تجريم إلاّ بنص ولا عُقوبة إلاّ بتجريم» . أي أننا نُرتّب العقوبة على الجريمة، أو ساعة يُجرّم فعل يُذكر بجانب التجريم العقوبة، فعل القصد هو عقاب مُرتكب الجُرم. لا إنما القصد هو تفظيع العقاب حتى يراه كل إنسان قبل أن يرتكب الجريمة، والهدف هو منع الجريمة، ولذلك تجد الحكمة البشرية القائلة: «القتل أنفى للقتل» ، وبطبيعة الحال لا يمكن أن ترقى تلك الحكمة إلى قول الحق: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب} [البقرة: 179] لأننا يمكن أن نتساءل: أيّ قتل أنفى للقتل؟ . وسنجد أن المقصود بالحكمة ليس القتل الابتدائي ولكن قتل الاقتصاص. وهكذا نجد الأسلوب البشري قد فاتته اللمحة الفعَّالة في منع القتل الموجودة في قوله الحق: {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} . وكلمة «أحياها» لها أكثر من معنى. وبالتحديد لها معنيان: المعنى الأول: أنه أبقى فيها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3089 الروح التي تحرك المادة، والمعنى الثاني: إحياء الروح الإيمانية، مصداقاً لقول الحق: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] ولنا أن نلتفت إلى أن الحق وضع الفساد في الأرض مُستحقاً لعقوبة القتل. والفساد هو إخراج الصالح عن صلاحيته، والمطلوب منا إيمانياً أن الأمر الصالح في ذاته علينا أن نُبقبه صالحاً، فإن استطعنا أن نزيده صلاحاً فلنفعل وإن لم نستطع فلنتركه على صلاحه. ولماذا جاء الحق بعقابٍ للفساد في الأرض؟ . مدلول الأرض: أنها المنطقة التي استخلف الحق فيها البشر، وساعة يقول الحق: {أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض} فمعنى ذلك أن كل فساد عائد على كل مظروف في الأرض. وأول مظروف في الأرض أو السيد لها هو الإنسان. وعندما نفسد في الإنسان، فهذا معناه قتل الإنسان. إذن لا بد أن يكون الفساد في أشياء أخرى: هي الأكوان أو الأجناس الأخرى؛ الحيوانات والنباتات والجمادات. والفساد في هذه الكائنات بكون بإخراجها عن مستحوزها ملكيةً، كأن تسطو جماعة على بضاعة إنسان آخر، أو أن يأخذ واحد ثمار زرع لأحد، أو أن يأخذ بعضاً من إنتاج منجم منجنيز أو حديد أو خلافه. إن الفساد نوعان: فساد في الأرض وهو متعلف بالمظروف في الأرض، والمظروف في الأرض سيد وهو الإنسان، والفساد فيه قتله أو أن تُسبب له اختلالاً في أمنه النفسي كالقلق والاضطراب والخوف. ونلحظ أن الحق سبحانه قد امْتَنّ على قريش بأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. إذن فمن الفساد تفزيع الناس وترويعهم وهو قسمان: قسم تُفَزِّع فيه مَن لك عنده ثأر أو بينك وبينه ضغينة أو بُغض، أو أن تُفَزِّع قوماً لا علاقة بينك وبينهم ولم يصنعوا معك شيئاً. فمن يعتدي على إنسان بينه وبينه مشكله أو عداوة أو بغضاء، لا نُسمّيه خارجاً على الشريعة؛ بأخذ حقه، ولكنه لا يستوفي في حقه بيده بل لا بد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3090 من حاكم يقوم بذلك كي ينضبط الأمر ويستقيم، إنه يخرج على الشريعة فقط في حالة العُدوان. أما الذي يذهب للاعتداء على الناس ولم يكن بينه وبينهم عداء؛ فهذه هي الحرابة. كأن يخرج ليقطع الطريق على الناس ويخيف كل من يلقاه ويُسبِّب له القلق والرّعب والخوف عللى نفسه وماله، والمال قد يكون من جنس الحيوان أو جنس النبات أو جنس الجماد. وذلك ما يسميه الشرع حرابة وستأتي لها آية مخصوصة. إذن. فالفساد في الأرض معناه إخراج صالح عن صلاحه مظروف في الأرض، والمظروف في الأرض سيده الإنسان، والإفساد فيه إما بقتله أو إهاجته وإشاعة الرّعب فيه، وإما بشيء مملوك له من الأشياء التي دونه في الجنسية مثل الزروع أو النباتات أو الحيوانات. فكأن الفساد في الأرض - أيضاً - يؤهل لقتل النفس: {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} . أي أن القتل بغير إفساد في الأرض؛ هو القتل الذي يستحق العقاب. أما القتل بإفساد في الأرض فذلك أمر آخر؛ لأن هناك فارقاً بين أن يُقتل قِصاصاً أو أن يقتل حدَّاً من المُشرِّع؛ وحتى عفو صاحب الدم عن القاتل في الحرابة وقطع الطريق لا يشفع في ذلك ولا يسقط الحد عن الذي فعل ذلك؛ لأنها جريمة ضد المجتمع كله. ويتابع سبحانه: {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ} والمُسرف هو المُتجاوز للحَد، وهو من لا يأخذ قدر تكوينه وموقعه في الوجود، بل يحاول أن يخرج عن قدر إمكاناته في الوجود. مثال ذلك: رجل حاول أن يسطو على حق غيره في الوجود؛ متخطياً منزلة الاعتدال فلا يأخذ حقه فقط. مثل قطاع الطريق أو النهابين يأخذون عرق غيرهم وتعودوا أن يعيشوا كذلك وبراحة. والمصيبة لا تكون في قاطع الطريق وحده، ولكن تتعداه إلى المجتمع. فيقال: إن فلاناً يجلس في منزله براحة وتكفيه ساعة بالليل ليسرق الناس. إن الأمر لا يقف عند حدود ذلك الإنسان إنما يتعدّاه إلى غيره. ويحيا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3091 يملك مالاً في رُعب، وعندما يُفجَع في زائد ماله، يفقد الرغبة في أن يتحرك في الحياة حركة زائدة تُنتج فائضاً لأنه لا يشعر بالأمن والأمان. وعندئذ يفقد العاجز عن الحركة في المجتمع السند والعون من الذي كان يتحرك حركةً أوسع. إذن من رحمة الله أنه فتح أمام البشر أبواب الآمال في التملُّك، مادام السعي إلى ذلك يتم بطرق مشروعة. ونضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى -: الرجل المُرابي الذي يُقرض مُحتاجاً مائة جنيه، كيف يطلب المرابي زيادة مِمّن لا يجد شيئا يقيم به حياته؟ إنه بذلك يكون قد أعطى مَن وجد أزيد مما أخذ منه مع فقره وعجْزه. إن ذلك هو الإسراف عينه. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3092 أول شيء في الحرب هو الاستيلاء؛ فمعنى أن يحارب قوم قوماً غيرهم أي يرغبون في الاستيلاء على خيرات أو ممتلكات الطرف الآخر. فكيف يحارب قومٌ اللَّهَ وهو غيب؟ . وأول حرب للَّه هي محاولة الاستيلاء على سلطانه، وهو تشريعه. فإن حاولت أيها الإنسان أن تشرع أنت على غير منهج الله فأنت تريد أن تستولي على حق الله في التشريع. وهذه أول حرب لله. والذين يحاربون الله أَهُمُ الذين يريدون أن يستولوا على ملك الله؟ لا؛ لأن يد الله في مُلكه أزلا، وستبقى أبدًا وسبحانه لن يسلّمه لأحد من عباده. فعلى ماذا - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3092 إذن - يريدون الاستيلاء؟ . إنهم يريدون تزييف تشريعات الله، بينما سبحانه هو المُشرّع وحده. والتشريع - كما قلنا - هو قانون صيانة للصّنعة. إذن لماذا لا نترك خالق الإنسان ليضع القواعد التي تصون البشر؛ لذلك فأول افتيات يفعله الناس أنهم يُشرّعون لأنفسهم؛ لأن قانون صيانة الإنسان يضعه خالق الإنسان، فإذا ما جاء شخص وأراد أن يضع للإنسان - الذي هو منه - قانون صيانة نقول له: إنك تستولي على حق الله. وكيف يحاربون الرسول؟ . نعرف أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له وضعان؛ فالله غيب؛ لكن الرسول كان مشهداً من مشاهدنا في يوم من الأيام، وقد حورب بالسيف، وعندما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى أصبحت حربه كحرب الله، فنأخذ سلطته في التشريع، وهي السلطة الثانية ونقول لها: نحن سنشرع لأنفسنا ولا ضرورة لهذا الرسول، أو أن يقول نظام ما: سنأخذ من كلام الله فقط وذلك ما ينتشر في بعض البلدان. ونقول لكل واحد من هؤلاء: أتؤدي الصلاة؟ . فيقول: نعم. نسأله: كم ركعة صليت المغرب؟ . فيجيب ثلاث ركعات. نسأله: من أين أتيت بذلك؟ . ومن أين عرفت أن صلاة المغرب ثلاث ركعات وهي لم تذكر في القرآن الكريم؟ . هنا سيصمت. ونسأله: كيف تخرج الزكاة وبأي حساب تحسبها؟ فيقول: اخرج الزكاة بقدر اثنين ونصف بالمائة في النقدين والتجارة مثلا. نقول له: كيف - إذن - عرفت ذلك؟ . وأيضا كيف عرفت الحج؟ . إذن فللرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مهمة، وحرب النبي تكون في ترك قول أو فعل أو تقرير له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. ومثال ذلك هؤلاء الذين يقولون: إن أحاديث رسول الله كثيرة. ونقول لهم: كانت مدة رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاثة وعشرين عاماً وكل كلامه حديث، فكل كلمة خرجت من فمه حديث شريف، ولو كنا سنحسب الكلام فقط لكان مجلدات لا يمكن حصرها، وكل كلام سمعهُ وأَقرّه من غيره حديث، وكل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3093 فعل فعله غيره أمامه وأقرّه ولم يعترض عليه حديث، فكم تكون أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ . وكيف يستكثر بعض الناس قدراً من الأحاديث التي وصلتنا بعد قدر هائل من التنقية البالغة؟؛ لأنهم قالوا: لأن نبعد عن رسول الله ما قاله خير من أن ندخل على رسول الله ما لم يفعله. إنهم يدعون أن هذا حفظ للإسلام ولكن فاتهم أن الله حافظ دينه، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد وضع القواعد لغربلة الأحاديث فقال: «من كذب على مُتعمداً فليتبوّأ مقعده من النار» . وها هوذا البخاري ينقل عن المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والذين قابلوه، وسيدنا مُسلم يعتبر المعاصرة كافية لأنّها مظنَّة المقابلة وتحري كل منهما الدقة الفائقة. وأي شخص كان به خدشة سلوكية لا يؤخذ بقوله، ولذلك عندما حاول البعض أن ينال من الأحاديث وقال أحدهم: «أنا يكفيني أو أقول لا إله إلا الله» ، تساءلت: كيف لا يذكر أن محمداً رسول الله؟ وكيف يمكن أن يؤدي الأذان للصلاة؟ وكيف يؤدي الصلاة «وكيف يمكن أن يفهم قول الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وهذا تفويض من الله في أن يكون لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تشريع. وكذلك الاجتراءات على الأئمة، هم يجترئون أولاً على النبي ثم يزحفون على الدين كله. وجاء فيهم قول الحق: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً} أي يخرجون الصالح بذاته عن صلاحه ليكون فاسداً. الجزاء أن يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبُوا، وهذا التفعيل في قوله: {أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا} جاء للشدة والتقوية؛ حتى يقف منهم المجتمع الإيماني العام موقف القائم على هذا الأمر، والسلطة الشرعية قامت عن الجميع في هذا الأمر، كما يقال: إن النائب العام نائب عن الشعب في أن يرفع الدعوى، حتى لا ينتشر التقتيل بين الناس، دون أن يفهموا حكمة كل أمر. {أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3094 الأرض} . وهل» أو «هنا تخييرية، أو أنّ هنا - كما يقال -» لف ونشر «؟ واللف هو الطي. والنشر هو أن تبسط الشيء وتفرقه. فما اللف، وما النشر - إذن -؟ مثل ذلك ما يقوله الشاعر: قلبي وجفني واللسان وخالقي ..... لقد ذُكر مُتَعدّد ولكن الأحكام غير مذكورة، هذا هو اللف؛ فجمع المبتداءت دون أن يذكر لكل واحد منها خبره؛ ثم جاء بالأحكام على وفق المحكوم عليه. فأكمل بيت الشعر بقوله: راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفور ... ولنقرأ البيت كاملاً: قلبي وجفني واللسان وخالقي ... راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفورُ والحق يقول: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] فقوله: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} راجع إلى الليل، وقوله: {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} راجع إلى النهار. وهنا جاء باللف. ثم جاء بالنشر. والفساد - كما نعلم - له صُور متعددة، فالفساد في الإنسان قد يعني قتله. أو قتله وأخذ ماله. أو الاستيلاء على ماله دون قتله. أو إثارة الرعب في نفس الإنسان دون أخذ ماله أو قتله. فكأن كلمة الفساد طوي فيها ألوان الفساد، نفس القتل، أو نفس تقتل مع مال يُسلب ويؤخذ، أو مال يُؤخذ دون نفس تقتل، أو تخويف وتفزيع. ويقول الحق: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} ، والنفي معناه الطرد والإبعاد، والطرد لا يتأتى إلا لثابت مُستقر، والإبعاد لا يتأتى إلا لمُتمكن. إذن، فقبل أن يُنفى لا بد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3095 أن يكون له ثبًوت وتمكُّن في موضع ما، وهو ما نسميه اصطلاحاً السكن، أو الوطن، أو المكان الذي يقيم به الإنسان لأنه ثابت فيه. ومعنى ثابت فيه. أي له حركة في دائرته، إلا أنه يأوي إلى مكانٍ مُستقر ثابت، ولذلك سُمي سكناً؛ أي يسكن فيه من بعد تحركه في مجالاته المختلفة. ومعنى النفي على هذا هو إخراجه من مسكنه ومن وطنه الذي اتخذه موطناً له وكان مجالاً للإفساد فيه. ولكن إلى أي مكان نُخرج إليه هذا الذي نحكم عليه بالنفي؟ قد يقول قائل: أنت إن أخرجته من مكان أفسد فيه وذهبت به إلى مكان آخر فقد تشيع فساده! لا؛ لأن النفي لا يتيح له ذلك الإفساد، ذلك أن التوطن الأول يجعل له إلفاً بجغرافية المكان، إلفاً بمن يخيفهم؛ فهو يعرف سلوك جيرانه ويعرف كيف يخيف فلانا وكيف يغتصب بضاعة آخر وهكذا. ولكنه إن خرج إلى مكان غير مستوطن فيه فسوف يحتاج إلى وقت طويل حتى يتعرف إلى جغرافية المكان ومواقع الناس فيه، ومواطن الضعف فيهم. وعلى ذلك يكون النفي هو منعٌ لإفساد الفاسد. وحين يقول سبحانه: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} نعرف أن كلمة «الأرض» لها مدلول ونسمي الأرض الآن: الكرة الأرضية. وكانوا قديماً يفهمونها على أنها اليابسة وما فيها من مياه، وبعد أن عرفنا أن جَوَّ الأرض منها صار جو الأرض جزءا من الأرض. ولذلك قلنا في المقدسات المكانية: إن كل جو يأخذ التقديس من مكانه؛ فجو الكعبة كعبة؛ بدليل أن الذي يصلي في الدور الثالث من الحرم؛ ويتجه إلى الكعبة. يصلي متجها إلى جو الكعبة. ومن يستقل طائرة ويرغب في إقامة الصلاة يتجه إلى جو الكعبة، وعندما ازدحم الحجيج وصار المسعى لا يتسع لكل الحجيج أقاموا دوراً ثانياً حتى يسعى الناس فيه. إذن فالمسعى ليس هو المكان المحدد فقط، ولكن جوه أيضا له قدسية؛ فإن بنينا كذا طابقا فهي تصلح أيضا كمسعى. إذن فجو الأرض ينطبق عليه ما ينطبق على الأرض. ولذلك كانوا يُحرمون - قبل أن يوجد طيارون مسلمون - أن يُحَوِّم في جو الحرم طيار غير مسلم؛ لأن الطيار غير المسلم مُحرم عليه أن يدخل الكعبة والحرم. وما دام هناك إنسان ممنوع من دخول الكعبة فهو أيضا ممنوع من الطيران في جَوّ الكعبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3096 لأن جَوّ المكان يأخذ قُدسية المكان أو حكمه؛ فالجَوّ من الأرض، ونعرف أن الغلاف الجوي يدور مع الأرض. ومن هذا نعرف العطاءات القرآنية من القائل لكلامه وهو سبحانه الخالق لكونه. ومادام القائل للقرآن هو الخالق للكون، إذن لا يوجد تضارب بين حقيقة كونية وحقيقة قرآنية. وإنما يوجد التضارب من أحد أمرين: إما أن نعتبر الأمر الذي لا يزال في طور النظرية حقيقة في حين أنها لم تصبح حقيقة بعد؛ وإما أن نفهم أن هذا حقيقة قرآنية، على الرغم من أنه ليس كذلك، فإذا كان الأمر هو حقيقة كونية بحق وحقيقة قرآنية بحق، فلا تضارب على الإطلاق. ودليل ذلك على سبيل المثال قول الحق سبحانه: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام} [لقمان: 34] ويأتي العلم الحديث بالبحث والتحليل، ويقول بعض السطحيين: لا، إن العلم يعرف ما في الرّحم من ذكر أو أنثى. ونقول: نحن لا نناقش ذلك؛ لأنها حقيقة كونية وهي لا تتصادم مع الفهم الصحيح للحقيقة القرآنية؛ لكننا نسأل: متى يعرف العلماء ذلك؟ هم لا يعرفون هذا الأمر إلا بعد مُضي مُدة زمنية، ولكن الحق يعلمه قبل مرور أية مدة زمنية. ثم مَن قال: إن الحق يقصد ب {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام} ذكراً أو أنثى فحسب؟ وهل لمدلولها وجه واحد؟ لا، بل له وجوه متعددة فلن يعرف أحد أن ما في الرحم سيكون من بعد إنساناً طويلاً أو قصيراً؛ ذكيا أو غبيّاً؛ شقيّاً أو سعيداً؛ طويل العمر أو قصير العمر؛ حليماً أو غضوباً. فلماذا نحصر «ما» في مسألة الذكر والأنثى فقط؟ إنه هو سبحانه يعلم المستقبل أزلاً قبل أن يعلم أي عالم وقبل أن يحصل العالم على أية عينة. ثم هل تذهب كل حامل إلى الطبيب ليفحص معملياً ما الذي تحمله في بطنها؟ طبعاً لا، ونحن لا نعلم ماذا في بطنها ولكن الخالق الأعظم يعلم. ثم هل تذهب كل النساء الحوامل في العالم لطبيب واحد؟ بالطبع لا، ولكن الخالق الأعظم يعلم ما في كل الأرحام. إذن فالحقيقة القرآنية لم تصطدم بأية حقيقة كونية، لكن الصدام يحدث عندما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3097 نفهم فهما خطأ أن الحقيقة القرآنية في قوله الحق: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام} مقصود به العلم بالذكر والأنثى فقط. ومثال آخر، يقول الحق: {والأرض مَدَدْنَاهَا} [الحجر: 19] ويُخطئ البعض الفهم عن الله فيظن أن المقصود بذلك أن الأرض بساط أمام الإنسان. وقد ثبتت للبشر حقيقة كونية هي ان الأرض كروية بالأدلة خلال رحلة ماجلان ثم بالقواعد الخاصة بوضع الأعمدة؛ وظهور أعالي الأشياء قبل أسافلها وغير ذلك، ثم صارت في عصرنا مُشاهدة من الأقمار الصناعية. إذن هذه الحقيقة الكونية لا كلام فيها، وكان الخطأ هو فهم مدلول الحقيقة القرآنية والفهم الصواب في مدلول الحقيقة القرآنية الخاصة بقوله تعالى: {والأرض مَدَدْنَاهَا} ؛إننا كلما وقفنا في مكان نجد أرضا، أي أن الأرض لا نهاية لها وليس لها حافة. إذن فسبحانه قد مَد الأرض أمام الإنسان بحيث إذا سار الإنسان في أي اتجاه؛ يجد أرضاً. ولا يتأتى ذلك إلا إذا كانت الأرض كروية. لهذا كان الخطأ في فهم مدلول الحقيقة القرآنية؛ لأن التضارب إنما ينشأ من فهم أنها حقيقة كونية وهي ليست كذلك، أو من فهم أنها حقيقة كونية وهي ليست كذلك، أو من فهم أنها حقيقة قرآنية على نحو خاطئ، إنهما لا تتعارضان، فالقائل هو الخالق عينه. ولهذا عرفنا متأخراً أن الجو من الأرض وأن الغلاف الجوي يدور مع الأرض، وكنا نقول: سرنا على الأرض لكنه سبحانه قال وهو العليم: {سِيرُواْ فِي الأرض} [الأنعام: 11] وهو سبحانه علم أزلاً أن الجو جزء من الأرض. فمهما سار الإنسان على اليابسة ففوقه الغلاف الجوي. إذن فالإنسان إنما يمشي في الأرض وليس على الأرض. أما إن سار الإنسان فوق الغلاف الجوي فهو يسير فوق الأرض. ونعود إلى قوله الحق: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} وقد عرفنا أن النفي هو الطرد والإبعاد، فأي أرض ينفون منها وإلى أي أرض؟ ولا يكون الطرد إلا لمستقر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3098 ولا الإبعاد إلا لثابت. وحتى في اللغة نعرف ما يسمى النفي والإثبات. وكل ذلك مأخوذ من شيء حِسي؛ فعندما نأخذ الماء من البئر نُنزل إلى قاع البئر دلواً، وكل دلو ينزل إلى البئر له «رِشاء» وهو الحبل الذي نُنزل بواسطته الدلو. إننا ساعة نُخرج الدلو من البئر، يكون قد أخذ من الماء على قدر سعته وحجمه. فهل لدينا حركة ثابتة نستطيع بها المحافظة على استطراق الماء إلى تمام حافة الدلو؟ طبعاً هذا أمر غير ممكن؛ بل نجد قليلا من الماء يتساقط من حوافي الدلو، وهذا الماء المتساقط يُسمى «النَّفِي» ؛ لأننا لا نستطيع استخراج الدلو وهو ملآن لآخره بحركة ثابتة مستقرة بحيث تحافظ على استطراق الماء. إن الماء - كما نعلم - له استطراق دقيق إلى الدرجة التي جعلت البشر يصنعون منه ميزاناً للاستواء. ومن «النَفْي» تؤخذ معان كثيرة، فهناك «النفاية» وهي الشيء الزائد. إذن كيف يكون النفي من الأرض؟ وهل نأخذ الأرض بمفهومها العام أو بمعناها الخاص؟ أي الأرض التي حدث فيها قطع الطريق؟ إن أخذناها بالمعنى الخاص فالنفي يكون لأي أرض أخرى. وإن أخذنا الأرض بالمعنى العام فكيف يكون النفي؟ ونرى أن الحق سبحانه قد قال في موضع آخر من القرآن: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} [الإسراء: 104] هم بلا جدال يسكنون في الأرض. وجاء هذا القول لمعنى مقصود ونعرف أننا لا نذكر السكن إلا ويكون المقصود تحييز مكان في الأرض، كأن يقول قائل: «اسكن ميت غمر» أو «اسكن الدقهلية» أو «اسكن طنطا» ، وهذا تحديد لموقع من الأرض للاستقرار، والمعنى المقصود إذن أن الحق يبلغنا أنه سيقطعهم في الأرض تقطيعاً بحيث لا يستقرون في مكان أبدا. وذلك مصداقا لقول الله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً} [الأعراف: 168] فليس لهم وطن خاص. وتمت بًعْثَرَتُهم في كل الأرض، وهذا هو الواقع الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3099 حدث في الكون. أَوُجِدَ لبني إسرائيل استقرار في أي وطن؟ . لا. وحتى الوطن الذي أقاموه بسبب وعد بلفور لم يترك الحق أمره. بل أعطى وعده للمؤمنين بأن يدخلوا المسجد إذا ما أحسنوا العمل لاسترداده. ومازال اليهود بطبيعتهم شتاتاً في أنحاء الأرض. ولهم في كل وطن حيّ خاص بهم. وتحتفظ كل جماعة منهم في أي بلد بذاتيتهم ولا يذوبون في غيرهم: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104] وحين يأتي بهن الحق في الجولة الآخرة سيأتون لفيفاً أي مجتمعين؛ لأن الأُمّة المؤمنة حين يقوّيها الله لتضرب على هؤلاء القوم ضربة لا بد أن يكونوا مُجتمعين. وكأن الله قد أراد أن يكون هذا «الوطن القومي» حتى يتجمعوا فيه وبعد ذلك يرسل الضربة عليهم لأنه جاء بهم لفيفاً؛ لذلك لا نحزن لأنه قد صار لهم وطن، فقد جاء بهم لفيفاً. ونعود إلى الآية التي نحن بصددها. كيف يكون النفي من الأرض؟ حين يرد الله تَحييز مكان فهو يقول على سبيل المثال: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21] إذن فقد نفى غيرها. وهو يقول أيضاً: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف: 110] وكان المقصود بها مصر. فإذا أخذنا الأرض بالمعنى العام فحكمها حُكم «اسكنوا الأرض» . والنفي هو صورة من صور العقوبات للإفساد، والإفساد في الأرض ينقسم إلى أربعة أقسام؛ قتل، قتل وأخذ مال، أخذ مال فقط، ترويع. وقد زاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئاً وفعله في سيرته، فقد جاء بنا بأمر جديد في أمر الإفساد. وكان على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3100 العلماء أن ينتبهوا له، فأول نفي حصل في الإسلام كان نفي رسول الله الحَكَم بن أبي العاص من المدينة إلى الطائف؛ لأن الحكم - والعياذ بالله - كان يُقلّد مِشّيَة النبيّ باستهزاء، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما يَتَحدَّر من صَبَبٍ. فقد كانت مشية النبي مشية خاصة. وعلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الحَكَمَ يقلد مِشيته في استهزاء والتفت النبي - ذات مرة - فجأة، فوجد الحكم يقلده في مِشيته فنفاه من المدينة إلى الطائف، وظل الحكم في الطائف طوال حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فلما جاءت خلافة أبي بكر الصديق، ذهب أهل الحَكَم إلى أبي بكر، فقال: - ما كنت لأحلّ عقدة عقدها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وذهبوا إلى عمر بن الخطاب فلم يوافق. وعندما جاءت خلافة عثمان وكان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حَيياً وخجولاً فقال: لقد أخذت كلمة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحمل شبهة الإفراج عنه. ويفرج عنه عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وأثناء حياة الحَكَم في الطائف كان يربي بعض شُويهات وبعض غُنيمات وكان يرعاها عند جبيلات الطائف. وكان لهذه المسألة آثار من بعد ذلك. فأنتم تعلمون أن معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنجب يزيد الذي تولّى الخلافة من بعده. وانتقلت الخلافة بعد يزيد لآل مروان بن الحَكَم. وكان خالد بن يزيد الذي ترك الخلافة لمروان عالماً كبيراً في الكيمياء وله أخ اسمه عبد الله، وكان لعبد الله جياد يتسابق بها. وكان لولد من أولاد عبد الملك بن مروان جياد أيضاً، وجرت جياد عبد الله مع جياد ابن عبد الملك في مضمار سباق، فلما جاءت خيل عبد الله لتسبق. . حدث خلاف بين عبد الله وابن عبد الملك؛ فنهر ابن عبد الملك عبد الله، فذهب عبد الله واشتكى لأخيه خالد. وهنا ذهب خالد لعبد الملك بن مروان، وقال له: - لقد حدث من ابنك لأخي كذا وكذا. وكان عبد الملك فصيحاً في العرب وما جربوا عليه لحناً أبداً. وربّى أولاده على ألا يلحنوا في اللغة. وكان له ولد اسمه الوليد غير قادر على استيعاب النطق الصحيح للغة دون لحن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3101 فلما دخل خالد إلى عبد الملك أراد أن يجد فيه شيئاً يعيبه به، قال عبد الملك لخالد: أتكلمني في عبد الله وقد دخل عليّ آنفاً فلم يخل لسانه من اللحن؟ وقال خالد - معرضا بالوليد -: والله يا عبد الملك لقد أعجبتني فصاحة الوليد. فقال عبد الملك: إن يكن الوليد يلحن فإن أخاه سليمان لا يلحن. فقال خالد: وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالداً لا يلحن. فقال عبد الملك: اسكت يا هذا فلست في العيرٍ ولا في النفير. وأظن أن قصة العير والنفير معروفة. فالعير هي التي كانت مع أبي سفيان وعليها البضائع من الشام وتعرض لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم نجا بها أبو سفبان. والنفير هم الجماعة التي استنفزها أبو سفيان من مكة لأنه خاف من المسلمين وكانت زعامتهم لعتبة. فالعير كانت زعامته لأبي سفيان والنفير كانت زعامته لعتبة بن ربيعة، وكان عتبة هو جدّ خالد لأمه، وأبو سفيان هو جدّه لأبيه. فقال خالد: ومن أولى بالعير وبالنفير مني، جدّي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عُتّبة صاحب النفير، ولكن لو قلت غنيمات وشويهات وجبيلات وذكرت الطائف ورحم الله عثمان لكان أولى. وأسكته. إذن. فالنفي كان أول عقاب أنزله الرسول صلّى الله عليه وسلم، فهل ما فعله «الحَكَم» يُعتبر فساداً؟ . ونقول: إن كل فساد غنما يترتب على الفساد الذي يمس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكان الحَكَم يستهزئ بمِشية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقد يقول مُشرّع ما: إن السجن يقوم مقام النفي ونقول: لا، إن السجن الآن فيه الكثير من الرفاهية. فقد كان السجن قديماً أكثر قسوة. والهدف من السجن الإبعاد لتخفيف شرور المُفسِد وإن كان لا يبعده عن مستقره ووطنه. وذلك أمر متروك للحاكم يفعله كيف يشاء وخاصة إذا لم يكن هناك أرض إسلامية متعددة. بحيث يستطيع أن ينفيه من أرض إلى أرض أخرى. ويتبع الحق هذا بقوله: {ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3102 وهذا القول لاحق لعقاب محدد للمفسدين في الأرض المحاربين لله ورسوله وهو: {أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} . وهذه العقوبات خزي لهم. إن كلمة «خزي» ترد في اللغة بمعنيين؛ مرة بمعنى الفضيحة، «خَزِيَ، يَخْزِي، خِزياً» ، أي انفضح، ومرة ثانية هي «خَزِي، يَخْزَي، خَزاية وَخَزِّي» بمعنى استحى. والمعنيان يلتقيان، فمادام قد افتضح أمر عبدٍ فهو يستحي مما فعل. وتلك الأفعال خزي، كالذي قطع طريقاً على أناس آمنين، ونقول لمثل صاحب هذا الفعل: إن قوّتك ليست ذاتية بل قوّة اختلاسية؛ فلو كانت قُوّتك ذاتية لاستطعت أن تتأبّى لحظة أن يأخذوك ليقتلوك أو يصلبوك أو يقطعوا يدك ورجلك. فقد اجترأت على العُزَّل الذين ليست لهم استطاعة الدفاع عن أنفسهم، وفي هذا خزي لك. خصوصاً وأنت ترى من كانوا يخافونك وأنت تنال العقاب. وخزيك الآن هو مقدمة لعذاب آخر في الآخرة، فسوف تنال عذاباً عظيماً. {ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} . وكل جزاء في الدنيا إنما يأتي على قدر طاقات البشر في العقاب، ولكن ماذا إذا وكُلُّوُا إلى طاقة الطاقات؟ . ها هي ذي عدالة الحق تتجلّى فهو سبحانه وتعالى يفسح المجال للمُسرفين على أنفسهم؛ أولاً بالتوبة؛ لأن الله الرّحيم بعباده لو أخذ كل إنسان بجريرة فعلها أو عاقب كل صاحب ذنب بذنبه لاستشرى في الأرض فساد كل من ارتكب ذنباً لنه يئس من رحمة الله فتشتد ضرواته وقسوته. وسبحانه فتح باب التوبة لكل من الذين فعلوا ذلك استيقظ ضميره، فإن تاب قبل أن تقدروا عليه فهناك حُكْم، أما إن تاب بعد أن يقدر عليه المجتمع فلا توبة له. ويقول الحق: {إِلاَّ الذين تَابُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3103 ومادام الإنسان قد تاب وقام بتسليم نفسه دون أن يقدر عليه المجتمع فقبول التوبة حَقٌّ له، ويجب أن نأخذ {أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في نطاق ما جعله الله لنفسه، أما ما جعله الله لأولياء المُعتدى عليهم فلا بد من العقاب للمعتدي إن طلبه أصحابه. {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . والقرآن يجعل من المنهج الإيماني عجينة واحدة. لذلك يُقسّم المسائل إلى فصول كالتقنيات البشرية التي تُبوّب؛ لذلك نجد القرآن يعامل الأقضية وكأنها فُرص استيقاظ للنفس؛ لذلك يأخذ النفس إلى أمرٍ توجيهي بالطاعة. وضربنا من قبل المثل حينما تكلم القرآن عن مسائل الأسرة في سورة البقرة: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237] ومن بعد ذلك يأتي إلى أمر الصلاة: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238 - 239] وضع الله - إذن - الصلاة بين أمرين من أمور الأسرة، حيث قال من بعد أمره بالحفاظ على الصلاة حتى أثناء القتال: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 240] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3104 وجاء بأمر الحفاظ على الصلاة بين المشكلات الأسرية، وذلك ليجعل الدين لبنة واحدة، وأيضاً لأن النفس المشحونة بالبغضاء وزِحام أمور الزواج والوصيّة والطلاق؛ هذه النفس عندما تقوم إلى الصلاة لله فهي تهدأ. ولنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلم أُسوةٌ حسنة. فقد كان إذا حَزَبَه أمرٌ واشتد عليه قام إلى الصلاة. إذن فالحق سبحانه وتعالى لا يأتي بأمور الدين كأبواب منفصلة، باب الصلاة، وآخر للصوم، وثالث للزكاة، لا. بل يمزج كل ذلك في عجينة واحدة. ولذلك فعندما أنزل بالمفسدين المحاربين لله عقاب التقتيل والتصليب والتقطيع والنفي. كان ذلك لتربية مهابة الرُّعب في النفس البشرية. وساعة يستيقظ الرُّعب في النفس البشرية يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3105 لقد أخرجنا من جَوٍّ صارمٍ وحديث في عقوبات إلى تقوى الله. والتقوى - كما نعرف - أن يجعل الإنسان بينه وبين ما يؤذيه وقاية. وعرفنا أن الحق سبحانه الذي يقول {اتقوا الله} هو بعينه الذي يقول «اتقوا النار» ، وعرفنا كيف نفهم تقوى الله. بأن نجعل بيننا وبين الله وقاية. وإن قال قائل: إن الحق سبحانه يطلب منا أن نلتحم بمنهجه وأن نكون دائماً في معيَّته. فلنجعل الوقاية بيننا وبين عقابه. ومن عقابه النار. إذن فقوله الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله} أي أن نتقي صفات الجلال، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3105 والنار من خلق الله وجنده. وقوله سبحانه: {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} أي نبحث عن الوُصْلة التي تُوصّلنا إلى طاعته ورضوانه وإلى محبّته. وها هناك وسيلة إلا ما شرَّعه الله سبحانه وتعالى؟ وهل يتقرَّب إنسان إلى أي كائن إلا بما يعلم أنه يُحبّه؟ . وعلى المستوى البشري نحن نجد من يتساءل: ماذا يُحب فلان؟ . فيقال له: فلان يُحب ربطات العنق؛ فيُهديه عدداً من ربطات العُنق. ويقال أيضاً: فلان يحب المسبحة الجيدة، فيحضر له مسبحة رائعة. إذن كل إنسان يتقرّب إلى أي كائن بما يُحب، فما بالنا بالتقرب إلى الله؟ . وما يُحبه سبحانه أوضحه لنا في حديثه القدسي: «من عادى لي وليَّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أَحبّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه» فالحق سبحانه وتعالى يفسح الطريق أمام العبد، فيقول سبحانه في الحديث القدسي: «ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل» أي أن العبد يتقرب إلى الله بالأمور التي لم يلزمه الحق بها ولكنها من جنس ما افترضه سبحانه، فلا ابتكار في العبادات. إذن فابتغاء الوسيلة من الله هي طاعته والقيام على المنهج في «افعل» و «لاتفعل» . والوسيلة عندنا أيضاً هي منزلة من منازل الجنة. والرسول صلّى الله عليه وسلم طلب منا أن نسأل الله له الوسيلة فقال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فإنه من صلّى عليَّ صلاة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3106 صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة» ولا نريد أن ندخل هنا في مجال التوسل بالنبي أو الأولياء؛ لأنها مسألة لا يصح أن تكون مثار خلاف من أحد. فبعضهم يحكم بكفر هؤلاء. ونقول لمن يكفر المتوسلين بالنبي أو الولي: هذِّبوا هذا القول قليلاً؛ إنّ حدوث مثل هذا القول هو نتيجة عدم الفهم، فالذي يتوسل إلى النبي أو الولي هو يعتقد أن له منزلة عند الله. وهل يعتقد أحد أن الوليّ يجامله ليعطيه ما ليس له عند الله؟ . طبعا لا. وهناك من قال: إن الوسيلة بالأحياء مُمكنة، وأن الوسيلة بالأموات ممنوعة. ونقول له: أنت تضيق أمراً مُتسعاً؛ لأن حياة الحي لا مدخل لها بالتوسل، فإن جاء التوسل بحضرته صلّى الله عليه وسلم إلى الله، فإنك قد جعلت التوسل بحبك لمن علمت أنه أقرب منك إلى الله؛ فحُبك له هو الذي يشفع. وإياك أن تظن أنه سيأتي لك بما لا تستحق. والجماعة التي تقول: لا يصح أن نتوسل بالنبي؛ لأن النبي انتقل إلى الرفيق الأعلى، نقول لهم: انتظروا قليلاً وانتبهوا إلى ما قال سيدنا عُمر - رضوان الله عليه -؛ قال: كنا في عهد رسول الله إذا امتنع المطر نتوسل برسول الله ونستسقي به. ولما انتقل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، توسل بعمه العباس. وقالوا: لو كان التوسل برسول الله جائزاً بعد انتقاله لما عدل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن التوسل بالنبي بعد انتقاله، وذهب إلى التوسل بعم النبي. ونسأل: أقال عمر «كنا نتوسَّل بنبيك والآن نتوسَّل إليك بالعباس؟ أم قال: والآن نتوسل إليك بعم نبيك» ؟ . ولذلك فالذين يمنعون ذلك يوسعون الشقة على أنفسهم؛ لأن التوسُّل لا يكون بالنبي فقط ولكن التوسل أيضاً بمن يمت بصلة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم. فساعة يتوسل واحد إلى غيره يعني أنه يعتقد أن الذي توسل به لا يقدر على شيء، إنني أتوسل به إلى الغير لأني أعرف أنه لا يستطيع أن ينفذ لي مطلوبي. إذن فلنبعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3107 مسألة الشرك بالله عن هذا المجال، ونقول: نحن نتوسل به إلى غيره لأننا نعلم أن المتوسل إليه هو القادر وأن المتوسل به عاجز. وهذا هو منتهى اليقين ومنتهى الإيمان. ولكن المتوسِّل به قد ينتفع وقد لا ينتفع، وعندما توسَّل سيدنا عمر بالعباس عَمّ النبي كان يفعل ذلك من أجل المطر. والمطر في هذه الحالة لا ينتفع به رسول الله لذلك جاء بواحدٍ من آل البيت وكأنه قال: «يا ربُّ عمُّ نبيك عطشان فمن أجله نريد المطر» . إذن فتوسُّل عمر بن الخطاب بعم النبي دليل ضد الذين يمنعون التوسل بالنبي بعد الانتقال إلى الرفيق الأعلى. وحتى نخرج من الخلاف. نقول: إن العمل الصالح المتمثل في «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» هو الوسيلة الخالصة. وبذلك نخلص من الخلاف ولا ندخل في متاهات. {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ولنر الإيثار الإيماني الذي يريد الحق أن يُربّيه في النفس المؤمنة بتقوى الله التي تتمثل في الابتعاد عن مَحارِمه، وابتغاء الوسيلة إلى الله في اتباع أوامرِه. إن الدِّين لم يأتِكَ من أَجل نفسك فحسب، ولكن إيمانك لن يصبح كاملاً إلا أن تُحب لأخيك ما تحبه لنفسك، فإن كنت قد أحببت لنفسك أن تكون على المنهج فاحرص جيداً على أن يكون ذلك لإخوانك أيضاً. وإخوانك المؤمنون ليسوا هم فقط الذين يعيشون معك، ولكن هم المقدر لهم أن يوجدوا من بعد ذلك. ولذلك عليك أن تجاهد في سبيل الله لتعلو كلمة الله. وهكذا تتّسع الهِمَّةُ الإيمانية، فلا تنحصر في النفس أو المعاصرين للإنسان المؤمن. ولذلك يضع لنا الحق الطريق المستقيم ويوضحه ويبيّنه لنا. وكانت بداية الطريق أن المؤمن بالله حينما وثق بان لله نعيماً وجزاءً في الآخرة هو خير مما يعيشه قدَّم دمه واستشهد؛ لذلك قال صحابي جليل: أليس بيني وبين الجنة إلا أن أدخل هذه المعركة فإما أن أقتلهم وإما أن يقتلوني. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: نعم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3108 وألقى الصحابي تمرات كان يأكلها ودخل المعركة. لا بد إذن أنه قد عرف أن الحياة التي تنتظره خير من الحياة التي يعيشها؛ ومع ذلك لم يضع الله الجهاد كوسيلة في أول الأمر، بل طل يأمرهم بالانتظار والصبر حتى يُرَبِّيَ من يحملون الدعوة. فلن يجعلها سبحانه عملية انتحارية. وبعد ذلك نرى أثناء رحلة الدعوة للإسلام أن صحابياً يحزن لأنه في أثناء القتال قد أفلت منه عمرو بن العاص، وأن خالد بن الوليد قد هرب. وتثبت الأيام أن البشر لا يعرفون أن علم الله قد ادّخر خالداً وأنجاه من سيف ذلك الصحابي من أجل أن ينصر الإسلام بخالد. وكذلك عمرو بن العاص قد ادَّخره الله إلى نصرٍ آخر للإسلام. إذن فالجهاد في سبيل الله ضمانٌ للمؤمن أن يظل المنهج الذي آمن به موصولاً إلى أن تقوم الساعة، وذلك لا يتأَتّى إلا بإشاعة المنهج في العالم كله. والنفس المؤمنة إذا وقفت نفسها على أن تجاهد في سبيل الله كان عندها شيء من الإيثار الإيماني. وتعرف أنها أخذت خير الإيمان وتُحب أن توصّله إلى غيرها، ولا تقبل أن تأخذ خير الإيمان وتحرم منه المعاصرين لها في غير ديار الإسلام، وتحرص على أن يكون العالم كله مؤمناً، وإذا نظرنا إلى هذه المسألة نجدها تمثل الفهم العميق لمعنى الحياة، فالناس إذا كانوا أخياراً استفاد الإنسان من خيرهم كله، وإذا كانوا أشراراً يناله من شرِّهم شيء. إذن فمن مصلحة الخيِّر أن يشيع خيره في الناس؛ لأنه إن أشاع خيره فهو يتوقع أن ينتفع بجدوى هذا الخير وأن يعود عليه خيره؛ لأن الناس تأمن جانب الرجل الطيب ولا ينالهم منه شر. لأنه يحب أن يكون كل الناس طيبين وعلى ميزان الإيمان؛ لأنهم إن كانوا على ميزان الإيمان فالطيب يستفيد من خيرهم. أما إن بقي الناس على شرِّهم وبقي الإنسان الطيب على خيره، فسيظل خير الطيب مبذولاً لهم ويظل شرُّهم مبذولاً للطيب. إذن من حكمة الإيمان أن «يعدّي» الإنسان الخير للغير. وإن دعوة المؤمن إلى سبيل الله، ومن أجل انتشار منهج الله لا بد من الإعداد لذلك قبل اللقاء في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3109 ساحات المعارك؛ فقبل اللقاء مع الخصم في ساحة المعركة لا بد من حُسْنِ الإعداد. وعندما يعدّ المؤمن نفسه يجد أن حركة الحياة كلها تكون معه؛ لأن الدعوة إلى الله تقتضي سُلوكاً طيباً، والسُلوك الطيب ينتشر بين البشر، وهنا يقوى معسكر الإيمان، فيرتقي سلوكاً وعملاً، وعندما يقوى معسكر الإيمان يمكنه أن يستخرج كنوز الأرض ويحمي أرض الإيمان بالتقدم الصناعي والعلمي والعسكري. والحق يقول: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] سبحانه أنزل القرآن وأنزل الحديد، ويتبع ذلك: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} [الحديد: 25] وجاء معنى البأس من أجل ذلك، وهذا هو السبب الثاني الذي أوصانا به الحق: إياكم أن تأخذوا منهج الله فقط الذي ينحصر في «افعل ولا تفعل» ولكن خذوا منهج الله بما يحمي منهج الله وهو التقدم العلمي باستخراج كنوز الأرض وتصنيعها كالحديد مثلاً، فسبحانه كما أنزل القرآن يحمل المنهج، فقد أنزل الحديد وعلى الإنسان مهمة استنباط الحديد والمواد الخام التي تُسَهّل لنا صناعة الأجهزة العلمية ونقيم المصانع التي تنتج لنا من الحديد فولاذاً، ونحوِّل الفولاذ إلى دروع، ونصنع أدق الأجهزة التي تُهِّيئ للمقاتل فُرصة النصر. وكذلك نَدّخر المواد الغذائية لتكفي في أيام الحرب. إذن حركة الحياة كلها جهاد، وإياك أن تقصر فكرة الجهاد عندك على ساحة المعركة، ولكن أعدّ نفسك للمعركة؛ أنك إن أعددت نفسك جيّداً وعلم خصمك أنك أعددت له، ربما امتنع عن أن يحاربك. والذي يمنع العالم الآن من معركة ساخنة تدمره هو الخوف من قِبَل الكتل المتوازنة لأن كل دولة تُعدّ نفسها للحرب. ولو أن قوة واحدة في الكون لهدمت الدنيا. وقول الحق: {وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} نأخذه على أنه جهاد في سبيل منهج الله؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3110 وندرس هذا المنهج ونفهمه وبعد ذلك نجاهد فيه باللسان وبالسِّنان، ونجاهد فيه بالكتاب ونجاهد فيه بالكتيبة. إذن فقوله الحق: {وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} يصنع أمة إيمانية مُتحضرة، حتى لا تترك الفرصة للكافر بالله ليأخذ أسباب الله وأسراره في الكون. فمن يعبد الإله الواحد أولى بسرّ الله في الوجود، ولو فرضنا أنه لن تقوم حرب، لكننا نملك المصانع التي تنتج، وعندنا الزراعة التي تكفي حاجات الناس، عندئذ سنحقق الكفاية. وما لا تستعمله في الحرب سيعود على السلام. ويجب أن تفهموا أن كل اختراعات الحياة التقدمية تنشأ أولأً لقصد الحرب، وبعد ذلك تهدأ النفوس وتأخذ البشرية هذه الإنجازات لصالح السلام. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3111 الحق سبحانه تحدث من قبل عن العقوبات والقصاص والتقتيل والتقطيع، ثم ينقلنا من هذا الجو إلى أن نتقي الله ونبتغي إليه الوسيلة ونجاهد في سبيله حتى نفلح، وكان لا بد أن يأتي لنا الحق بالمقابل، فالعقاب الذي جاء من قبل كقصاص وقتل هو عقاب دنيوي. ولكن ما سيأتي في الآخرة أدهى وأمرّ. {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36] ولنا أن نتصور الجماعة الكافرة التي تتكبر في الدنيا ويعتلون ويرتفعون بالجبروت، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3111 فماذا عن موقفهم يوم القيامة؟ . لقد اقمتم الجبروت بقوَّتكم على غيركم، وها هي ذي القُوّة تضيع وتفلت. لقد كانت القوة تعيش معكم في الدنيا بالأسباب الممنوحة من الله لكم. ولم تَضنّ عليكم سُننْ الله أن ترتقوا، وسبحانه قد خلق السُنَن ومن يبحث في أسباب الله، ينلْ نتيجة ما بذل من جهد، لكن ها هوذا يوم القيامة، وها أنتم أولاء تعرفون أن الأسباب ليست ذاتية. وأن قوَّتكم لم تكن إلا عطاءٌ من الله. ها أنتم أولاء أمام المشهد الحيّ، فلو أن ما في الدنيا جميعاً معكم وحتى ولو كان ضعف ما في الدنيا وتريدون أن تقدِّموه فِدْيَةً لكم من عذاب جهنم فالله لا يتقبله، وتلك قِمِّة الخِزْي، ولن يستطيعوا تخليص أنفسهم من عذاب جهنم. وهذا المشهد يجعل النفس تستشعر أن المسألة ليست لعباً ولا هزلاً، ولكن هي جِدّ في منتهى الجِدّ. وعلى الإنسان أن يقدِّر العقوبة قبل أن يستلذّ بالجريمة. والذي يجعل النس تستَشري في الإسراف على أنفسهم، أن الواحد منهم يعزل الجريمة عن عقوبة الجريمة. ولو قارن الإنسان قبل أن يسرف على نفسه العقوبة بالجريمة لما ارتكبها. وكذلك الذي يكسل عن الطاعة؛ لو يقارن الطاعة بجزائها لأسرع إليها. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نفترض أن إنساناً في صحراء نظر إلى أعلى الجيل ورأى شجرة تفاح، واسْتَدَلّ على التفاح بأن رأى تُفاحة عَطبة واقعة على الأرض، وقال الرجل لنفسه: هأنذا أرى مصارع الناس؛ فهذا يصعد إلى الجبل فيقع من على حافته. وذلك تهاجمه الذئاب. وثالث يتوه عن الطريق. كل ذلك على أمل أن في الشجرة ثماراً. ولا بد لي من أن أختار الطريق السليم إلى الثمار. والطريق إلى ثمار الدنيا الطاعة لمنهج الله، وهو الطريق إلى ثمار الآخرة. وأيضاً: الطالب المجتهد الذي يتغلب على النعاس ويتوضأ ويًصلّي ويخرج إلى مدرسته في برد الشتاء ليحصل الدروس. ويعود إلى المنزل لتقدّم له أمه الطعام، ولكنه مشغول بالدرس. إن هذا الشاب يستحضر نتيجة هذا الجُهد؛ لذلك فكل تعب في سبيل التعلُّم صار سهلاً عليه، ولو أهمل ونام ولم يقم مبكراً إلى المدرسة، وإن استيقظ وخرج من المنزل ليتسكع في الطرقات مع أمثاله؛ يكون في مثل هذه الحالة غير مُقدِّر للنتيجة التي تقوده إليها الصَّعْلَكة. والعيب في البشر أنهم يعزلون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3112 العمل عن نتيجته، ويفصلون بين الجريمة وعقوبته، والطاعة عن ثوابها. إنّنا لو وضعنا النتيجة مقابل العمل لما ارتكب أحد معصية ولا أهمل أحد في طاعة. ولنا أن نتصور مشهد الجبارين في الدنيا وهم في نار الآخرة، عم بطشوا في الدنيا ونهبوا، ولنفترض أن الواحد منهم قد امتلك كل ما في الدنيا - على الرغم من أنّ هذا مستحيل - وفوق ذلك أخذ مثل ما في الدنيا معه ويريد أن يقدمه افتداء لنفسه من عذاب جهنم فيرفضه الحق منه {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وتلك هي قمة الخزي التي يجب أن يبتعد عنها الإنسان. وبعد ذلك يقول الحق: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3113 وكلما مَسَّهم لفحُ النار يريدون أن يخرجوا منها، لكن كيف تأتي لهم إرادة الخروج من النار. لا بد - إذن - أن لحظة لفحها عليهم وتقبلهم هنا وهناك تدفعهم ألسنة اللهب إلى القرب من الخارج فيظنون أن العذاب قد انتهى. ألم يقل الحق سبحانه من أجل أن يضع أمامنا التجسيد الكامل لبشاعة الجحيم: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29] هذا القول يُوحى أولاً بأن رحمةً ما ستصل إليهم، ولكن ما يأتي بعد هذا القول يرسم الهول الكامل ويجسده: {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29] وهذه قمة الهول. وهناك فرق بين الابتداء المُطمع والانتهاء المُوئِس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3113 مثال ذلك السجين العطشان الذي يطلب كوب ماء. ويستطيع السجّأن أن يقول له: لا. ليس هناك ماء. أما إذا أراد السجان تعذيبه بأكثر من ذلك فهو يقول له: سآتي لك بالماء ويحضر له كوباً من ماء زلال، ويمد السجين يده لكوب الماء، لكن السجان يسكب كوب الماء أرضاً. هذا هو الابتداء المُطْمع والانتهاء المُوئِس. وكذلك رغبتهم في الخروج من النار؛ فلا إرادة لَهم في الخروج إلا إذا كانت هناك مظنة أن يخرجوا نتيجة تقليب ألسنة اللهب لهم، ولذلك يقول الحق أيضاً عن هؤلاء: {فَبَشِّرْهُم} [آل عمران: 21] وتثير البُشرى في النفس الأمل في العفو، فيفرحون ولكن تكون النتيجة هي: {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وهكذا يريد لهم الحق صدمة الألم الموئس بعد الرجاء المطمع. {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37] وبعد ذلك ينقلنا الحق إلى قوله سبحانه: {والسارق والسارقة ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3114 جاء الحق من قبل بعقاب قطاع الطريق والمفسدين في الأرض، وهنا يأتي بقضية أخرى يريد أن يصون بها ثمرة حركة المؤمن في مجتمعه؛ لأن الإيمان يحب من المؤمن أن يتحرك، وحتى يتحرك الإنسان لا بد أن يضمن الإنسان ثمرة حركته. أما إن تحرك الإنسان وجاءت الثمرة ثم جاء من يأخذها فلا بد أن يزهذ المتحرك في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3114 الحركة، وحين يزهد الإنسان في الحركة يتوقف تقدم الوجود؛ لذلك من حظنا أن تستمر حركة الحياة، ولا تستمر حركة الحياة إلا إذا أمن الإنسان على حركته، وأن تكون حركته فيما شرع الله. وحين يتحرك الإنسان فيما شرع الله ويكسب من حلال؛ فليس لأحد دخل؛ لأن حركة هذا الإنسان تفيد المجتمع سواء أكان ذلك في باله أم لم يكن. وقلنا من قبل: إن الرجل الذي يملك مالاً يكتنزه يجد الحق يأمره بأن يستثمر هذا المال؛ لأنه سبحانه أمر بفتح أبواب الخير لمن يجد المال، فيدفع بخاطر بناء عمارة شاهقة في قلب صاحب المال، فيقول الرجل لنفسه: إن المال عندي مكتنز فلأبني لنفسي عمارة، ويزين له الحق هذا الأمر. ويفكر الرجل في أن يبني عمارة من عشرة طوابق وفي كل طابق أربع شقق، وليكن إيجار كل شقة مائة جنيه. وهو حصيلة شهرية لا بأس بها. لقد حسب الرجل المسألة وهو لا يدري أن الله سبحانه وتعالى يقذف في باله الخواطر، فيُسرع ليشتري قطعة الأرض. وبعد ذلك يأتي بمن يُصمّم بنيان العمارة ومن يقوم بالبناء، وتخرج النقود المكتنزة. وهكذا نرى أن الثرى قبل أن ينتفع بعمارته كان غيره قد انتفع بماله حتى أكثر طبقات المجتمع فقرا. ويحدث كل ذلك بمجرد الخاطر. ولكل إنسان خواطره، فالبخيل له من يسرف في ماله، والكريم له من يكتنز من ماله. وإياك أن تظن أن هناك حركة في الوجود خارجة عن إرادة الله. فالحق يقول: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ} [آل عمران: 89] وهم يفعلون ذلك لأن الذنوب تطاردهم، فيعوضون ذلك بإصلاح أعمالهم. ولذلك نجد أن الخير إنما يأتي من المسرفين على أنفسهم فيريدون إصلاح أمورهم وليس هناك من يستطيع أن يأخذ شيئاً من وراء الله. {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3115 كأن الحق سبحانه وتعالى بمجرد الخواطر يدفع الناس إلى ما يريد. نعم. فهو غيب قيّوم؛ ولذلك يكون تدبيره في الكون غيباً. وفي قرانا يخصّصون يوماً للسّوق ونرى ساحته في اليوم المُخصص ونتأملها فنتعجب من إبداع مُحرّك الكون؛ ففي الصباح يسير رجال إلى السوق ومعهم عصيّهم ولا يحملون شيئاً. وهؤلاء ذاهبون لشراء ما يحتاجون إليه، وآخرون يسوقون أمامهم العجول أو الحمير، وهؤلاء يذهبون لبيع بضائعهم. ونرى نساء تحمل كل واحدة منهُن صنفاً من الخضار فنعرف أنهن يذهبن للبيع في السوق. ونرى أخريات يحملن سِلالاً فارغة، ونعرف أن كلاً منهن ذاهبة للشراء. وفي آخر النهار نرى المسألة معكوسة، من كان يحمل في الصباح شيئاً حمله غيره، فمن الذي هيّج الخواطر ليذهب من يرغب في البيع إلى السوق ليبيع؟ من الذي حرّك الشاري للشراء؟ هو الحق سبحانه يحقق للرّاغب في البيع أن يوجد المشتري، ويحقق للراغب في الشراء أن يوجد البائع. إنه ترتيب الحيّ القيّوم. ونسمع من يقول: لقد أنزلنا في السوق اليوم عشرين طناً من الطماطم وأربعين طناً من الكوسة. وغيرها من الأطنان. ونجد آخر النهار أن كل شيء قد بيع. إنها خواطر الله المتوازنة في الناس والتي توازن المجتمع. إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المُتحرّك. ويُريد أيضاً ألاّ يقتات الإنسان أو يتمتّع بغير مجهود؛ لأن من يسرق إنما يأخذ مجهود غيره. وهذا الفعل يُزَهِّدُ الغير في العمل. إن في الإسلام قاعدة هي: عندما تكثر البطالة يقال لك لا تتصدق على الناس بنقود من ملكك، ولكن افتح أي مشروع ولو لم تكن في حاجة إليه كأن تحفز بئراً وتردمها بعد ذلك وأعط الأجير أجره حتى لا يتعوّد الإنسان على الكسل، بل يجب تعويده على العمل، ومن لا يقدر على العمل فلا بد له من ضمان. فضمان الإنسان لقوته يكون من عمله أولاً، فإن لم يكن قادراً على العمل، فضمانه من أسرته وقرابته، فإن لم توجد له أسرة أو قرابة، فأهل محلّته مسئولون عنه، وإن لم يستطع أهل القرية أو المحلّة أن يوفّروا له ذلك، فبيت المال عليه أن يتكفّل بالفقراء. إذن فالأرضية الإيمانية تَحثُّنا على أن نضمن للإنسان العمل، أو نعوله ونقوم بما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3116 يحتاج إليه إن كان عاجزاً. ولكن الآفة أن بعضاً من الناس يحبُّون عملاً بذاته، فهذا يرغب في التوظّف في وظيفة لا عمل فيها، ونقول له: في العالم المعاصر أزمة عمالة زائدة فتعلّم أي مهارة؛ فما ضنت الحياة أبداً على طالب قوت من عمل. ولنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأُسْوَة حين أقام أول مزادٍ في الإسلام. عندما جاء له رجلٌ من الأنصار يسأله، فقال له: «أما في بيتك شيء. قال الرجل: بلى، حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقَعْبٌ - أي قدح - نشرب فيه من الماء. قال: إيتني بهما. فأتاه بهما. فأخذهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: من يزيد على درهم؟ - مرتين أو ثلاثا - ثال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما للأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فنبذه - أي أَلْقِهِ - إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُوماً فائتني به» إذن أشار النبي صلّى الله عليه وسلم على الرجل وأمره بأن يحضر الحِلْس الذي ينام عليه والقدح الذي يشرب فيه، حتى يعرف الرجل أنه تَاجَر في شيء يملكه، لا في عطاء من أحد. وجاء الرجل إلى حضرة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ووجد أن النبي قد سوّى له يداً لقدوم وقال للرجل: «اذهب فاحتطب وبعْ، ولا أرينَّك خمسة عشر يوماً» وذهب الرجل يحتطب ويبيع امتثالاً لأمر النبي صلّى الله عليه وسلم وجاء بعد خمسة عشر يوماً وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3117 هذه هي التربية. إذن فالغرض الأساسي أن يحمي الإسلام أفراد المجحتمع، فالذي لا يجد قُوتَه نساعده بالرأي وبالعلم والقدرة والقوة. والخير أن نعلّمهم أن يعملوا لأنفسهم. ولذلك جاء الحق لنا بقصة ذي القرنين المليئة بالعِبَر: {حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف: 93] أي أنه لا توجد صلة للتفاهم. ولكنهم قالوا: {قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} [الكهف: 94] وها هو ذو القرنين يعلن أنه في غير حاجة إليهم، ولكن يكلفهم بعمل حتى يحقق لهم مُرادهم: {آتُونِي زُبَرَ الحديد حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين قَالَ انفخوا حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96] ومن العجيب أن القرآن عندما يحكي أمراً فهو لا يحكيه إلا لهدف، هم طلبوا من ذي القرنين أن يبني سدّاً، لكنه اقترح أن يجعل لهم رَدماً، ما الفرق؟ لقد تبين من العلم الحديث أن السَدّ قد تحدث له هزّة من أي جانب فينهدم كله، أما الرّدْم فإن حدثت له هزّة يزددْ تماسكاً. ولم يعمل ذو القرنين لهم، ولكن علّمهم كيف يصنعون الرَّدْم، وذلك حتى لا يعيشوا مع الإحساس بالعجز. وهكذا يُعلّمنا القرآن أن الإنسان لا بد له من عمل. لكن ماذا إن سَرَق؟ . أولاً ما هي السَّرقة؟ إنها أَخذُ مالٍ مقوّم خفية. فإن لم يكن الأخذ خفية فهو اغتصاب، ومرة أخرى يكون خطفاً، ومرة رابعة يكون اختلاساً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3118 فالأَخْذُ له أنواع مُتعددة؛ فالتاجر الذي يقف في دكانه ليبيع أي شيء، وجاء طفلٌ صغير وخطف قطعةً من الحلوى وجرى ولا يستطيع التاجر أن يطول الطفل أو أن يقدر على الإمساك به، هذا خَطْف. أما الذي يغتصب فهو الذي قهر صاحب الشيء على أن يتركه له. أما الاختلاس فهو أن يكون هناك إنسان أمين على مال فيأخذ منه، أما السرقة فهي أخذ لمال مقوَّم خفية وأن يكون في حرز مثله؛ أي يكون في مكان لا يمكن لغير المالك أن يدخله أو يتصرف فيه إلا بإذنه. أما الذي يترك بابه مفتوحاً أو يترك بضاعته في الشارع فهو المُقصّر، فكما يأمرنا الشرع بألا يسرق أحد أحداً، كذلك يأمر بعد الإهمال، بل لابد للإنسان أن يعقل أشياءه ويتوكَّل. وسبحانه هو المُشرّع العَدْل الذي يُقيم اليقظة علىلجانبين. حدّد الشّرع السرقة بما قيمته ربع دينار. وربع الدينار في ذلك الزمن كان كفي لأن يأكل إنسان هو وعياله ويزيد، بل إن الدرهم كان يكفي أن يقيم أود أسرة في ذلك الوقت. وكيف نقوِّم ربع الدينار في زماننا؟ . لإن كان لا يكفي لمعيشة، فيجب أن ترفع النصاب إلى ما يُعيش، ومادام الدينار كان في ذلك الزمان ذهباً؛ فربع الدينار ترتفع قيمته. وقديماً كان الجنيه الذهب يساوي سبعة وتسعين قرشاً ونصف القرش. أما الجنيه الذهب حاليا فهو يساوي أكثر من مائتين وسبعين جنيهاً، وقد يكون هناك إنسان يسرق لأنه محتاج أو جائع، ولذلك وضع الشرع له قدرا لا يتجاوزه المحتاج لحفظ حياته وحياة من يعول هو الدرهم. وسرقة الدرهم لا حد فيها كما لا إثم فيها، وذلك إذا استنفذ كل الطرق المشروعة في الحصول على القوت، ونعرف أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعطى الدرهم للرجل وقال: «اشتر طعاماً لك ولأسرتك» وكان الدرهم - كما قلنا - يكفي في ذلك الزمن. والدرهم جزء من اثني عشر جزءا من الدينار، فربع الدينار ثلاثة دراهم، والدرهم يساوي في زمننا هذا أكثر من عشرين جنيها. والسطحيون يقولون: إن سيدنا عمر ألغى حَدّ السّرقة في عام الرّمادة؛ ونقول لهم: لا، لم يسقط عمر بن الخطاب الحد، فالحد باقٍ ولكنه لم يدخل الحادثة التي حصلت فيما يوجب الحد. والحادثة التي حدثت في عام الرمادة أو عام الجوع هي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3119 وجود الشبهة. وبفطنته كأول أمير للمؤمنين، لم يدخل الحوادث فيما يوجب الحد. وفي مسألة عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة. عندما سرق غلمانه، فماذا حدث؟ قال الغلمان لعمر: كنا جوعى ولم يكن ابن أبي بلتعة يعطينا الطعام. ودرأ سيدنا عمر الحَدَّ بالشُّبهة. إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المتحرك وثمرة حركة المتحرك.، لكن بعض السطحيين في الفهم يقولون مثل ما قال المعرّي: يد بخمس مئين عسجد وُدِيَتْ ... ما بالها قطعت في ربع دينار تناقضْ ما لنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار وهنا ردّ عليه العالِم المؤمن فقال: أنت تعترض لأننا نعطي ديِة اليَد خمسمائة دينار، وعندما يسرق إنسان. نقطع يد السارق لأنها أخذت ربع دينار. وقال العالم المؤمن: عِز الأمانة أغلاها وأرخصها ... ذُل الخيانة فافهم حكمة الباري ونلاحظ أن التشريعات الجنائية وتشريعات العقوبات ليست تشريعات بشرية، لكنها تشريعات في منتهى الدقة. بالله لو أن مُقنّنا يقنن للسارق أو السارقة، ويُقَنّن للزاني والزانية ماذا يكون الموقف؟ إن الذي يتكلم هو رب العالمين، فقال هنا: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . والسرقة عادة ما تكون رغبة في الحاجة وهي غالبا ما تكون من عمل الرجل. أما في الزاني والزانية، فلو أن الرجل لم يُهّيج ويستثر بجمال امرأة لما فكر في الزِّنا. إذن فهي صاحبة البداية. وينص سبحَانه على العقوبة وجاء بالحكمة. وعندما يُشرع للقصاص وهي الحالة التي يغلي فيها دم أقارب القتيل، فيقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3120 {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] ولنر الحَنانَ الموجود في كلمة «أخيه» . ولا نجد تقنينا يدخل التحنين بين سطوره، إلا تقنين الرَّب الذي خلق الإنسان وهو أعلم به. {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} . هذا ما انتهى إليه حَد السّرقة في تشريعات السماء، وحتى في زمن سيدنا موسى كان السّارق يُستَرَق بسرقته؛ أي يتحوَّل الحُرّ إلى عَبد نتيجة سرقته. ولذلك نلاحظ ونحن نقرأ سورة سيدنا يوسف: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] و «السقاية» هي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك، وكان اسمها «صواع الملك» وأخذوها ليكيلوا بها. وبعد أن جعل السقاية في رحل أخيه، ماذا حدث؟ {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 70 - 72] وهنا قال إخوة يوسف بأنهم لم يأتوا ليفسدوا في الأرض، لذلك ترك لهم يوسف الأسلوب في تحديد الجزاء، ولم يحاكمهم بشرع الملك: {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كذلك نَجْزِي الظالمين} [يوسف: 75] لقد جعلهم يعترفون، ويحاكمهم حسب شريعتهم لأن شرع الملك أن من يسرق شيئا عليه أن يغرم ضعفي ما أخذ. وهذا ما يوضح معنى قول الحق سبحانه وتعالى: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3121 أي أنها حياة ليستبقي يوسف أخاه معه. ولو استعمل قانون مصر في ذلك الزمن لما أخذ أخاه معه. وهذا كيد لصالح يوسف؛ لأن «اللام» تفيد الملكية أو النفعية. وأضاف إخوة يوسف قائلين: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [يوسف: 77] ولماذا قالوا ذلك؟ أصل هذه المسألة أن يوسف كان يحيا عند عمته. وعندما كبر وأرادوا أن يأخذوه أرادات العمة أن تستبقيه فدست في متاعه تمثالاً. أو منطقة كانت لها من أبيها إسحاق وادعت أنها فقدت ذلك؛ ففتشوا الولد فعثروا معه على الشيء الذي ادعت عمته سرقته فاستبقته بشرع بني إسرائيل. وكان جزاء السرقة في الشريعة هو الاسترقاق. ونُسِخ هذا الشرع وجاءت آية حد السرقة تأكيداً للنسخ. وإن لم يكن قد نُسخ فهذه الآية هي بداية للنسخ. {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . والسُّنة هي التي تبين لنا كيفية القطع، وكان القطع لليد اليمنى؛ لأنها عادة التي تباشر مثل ذلك العمل. وفي إحدى رحلاتي إلى أمريكا، حدثني أخ مسلم ضمن جماعة تحضر إحدى محاضراتي وقال: إن التَّيَمُّن يجب أن يكون في كل شيء، فلماذا يأكل البعض بيده اليسرى؟ قلت: إن هذه مسألة تكوينية بدليل أن بعض الناس أجهزتها تختلف، فليست المسألة ميكانيكية. وأضفت: إن من خيبة بعض الاختراعات البشرية أنها لا تخطئ كالحاسب الآلي. ولو كان ينتقي ويختار لأمكن أن يخطئ، أما العقل فهو يعرف الانتقاء. وقلن: إنني أطلب من السائل أن يقف. فلما وقف طلبت منه أن يتقدم جهتي فلما تقدم جهتي مَد رجله اليمنى، فقلت تعليقا على هذا: «إنه تكوين خلقي» . ولذلك فالذي عنده ولد تتأبى عليه يمينه فإياك أن تُرغِمه على ذلك لأن مثل هذه العملية أرادها الخالق لتَشُذّ في الخبق، ولتظهر قدرة الخالق. فلا داعي لقهر الابن الذي تتأبَى عليه يَمينه؛ لأن العلماء قالوا إن مراكز السيطرة ليست في اليد ولكن في المخ. وقد أوجد الحق تلك الأمور في الكون حتى نفهم أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3122 خالق الكون لم يخلق الكون وتركه بسننه، لا. أنه يخرق السنن كلما أراد. لكن لو تأبى إنسان على استعمال اليد اليمنى في الأكل مثلا وهو قادر على ذلك فإنه يكون مخالفا لسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومجافيا للفطرة. {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً} وإذا سمعنا كلمة «كسب» فهي تعني الأخذ لأكثر من رأس المال. والسارق يكسب السيئة لأنه أخذ ما فوق الضرورة. والنكال: العقاب أو هو العبرة المانعة من وقوع الجرم سواءً لمن ارتكب الجريمة وكذلك لمن يراها. والحق يقول عن بعض الأمور: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] وضرورة الإعلان عن تنفيذ عقوبة الفعل المؤَثِّم من أجل الاعتبار والعظة، فالتشريع ليس من بشر لبشر، إنما تشريع خالق لمخلوق. والخالق هو الذي صنع الصنعة فلا تتعالم على خالق الصنعة. والشريعة لا تقرر مثل هذا العقاب رغبة في قطع الأيدي، بل تريد أن تمنع قطع الأيادي. وإن ظل التشريع على الورق دون تطبيق فلن يرتدع أحد. والذين قالوا «قطع الأيدي فعل وحشي» ، نقول لهم: إن يداً واحدة قطعت في السعودية فامتنعت كل سرقة. وإذا كان القتل أنفى للقتل؛ فالقطع أنفى للقطع، أما عن مسألة التشويه التي يطنطنون بها فحادثة سيارة واحدة تشوه عدداً من الناس وكذلك حادثة انفجار لأنبوبة «بوتوجاز» تفعل أكثر من ذلك. فلا تنظروا إلى القصاص مفصولا عن السرقة إن انتشرت في المجتمع. وإبطاء القائمين على الأمر للإجراءات التي يترتب عليها العقوبات ينسي المجتمع بشاعة الجريمة الأولى، وعندما يحين وقت محاكمة المُجرم تكون الرحمة موجودة. لكن إن وُقِّعَ العقاب سَاعَة الجُرم تنته المسألة. وساعة يسمع اللصوص أننا سنقطع يد السارق، سيفكر كل منهم قبل أن يسرق ولا يرتكب الجُرم؛ لأن المُراد من الجزاء العبرة والعِظة ومقصد من مقاصد التربية وتذكرة للإنسان بمطلوبات الله عنده إن أخذته الغفلة في سياسة الحياة فالجزاء هنا نكالا أي عقابا و «نكولا» وهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3123 الرجوع عن فعل الذنب أي العبرة المانعة من وقوع الجُرم. فكأن الجزاء كان المقصود منه أن يرى الإنسان من قطعت يده فيمتنع عن التفكير في مثل ما آلت إليه هذه الحالة. أو أن يحافظ الذي قُطعت يده على ما تبقى من جوارحه الباقية؛ لأنه قد قُطِعت يمينه وإن عاد قُطِعت يساره، فإن عاد قُطِعت رجله اليمنى ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ويكون النكال لمنع الرجوع للجريمة، وهو إما رجوع ممن رأى العقوبة تقع على السارق أو الرجوع من السارق نفسه إن رأى أي جارحة من جوارحه قد نقصت. فيحرص أن تظل الجوارح الباقية له. ويعامل الحق خلقه بسُنة كونية هي: أن من يأخذ غير حقِّه يُحَرم من حَقه. ومثال ذلك قوم من بني إسرائيل قال الله حكما فيهم: لقد استحللتم ما حرمته عليكم فلا جزاء لكم إلا أن أضيق عليكم وأحرم عليكم ما أحللت لكم. فقال: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] إذن ليس في قدرة أحد أن يضحك على الله أو أن يخدع الله أو أن يأخذ ما ليس حقا له. فإن أسرف الإنسان في تعاطي أشياء حرمها الله عليه فسيأتي وقت يحرمه الله فيه من أشياء حللها له كالذي أسرف في شُرب الخمر أو في تناول المواد المخدِّرة التي تغيب عن الوعي، يبتليه الحق بما يجعله محروماً من مُتع أخرى كانت حلالا. وإن أسرف الإنسان مثلا في تناول الحلوى. فإن المرض يأتيه، ويحرم الله عليه أشياء كثيرة. ولو قاس المسرف على نفسه ما أحله لنفسه بما حرمه الله عليه لوجد الصفقة بالنسبة له خاسرة. فالذي أسرف بغير حق في أن يأكل مال احد، يرى ماله وهو يضيع أمام عينيه. ولنا في ذلك المثل. كان السادة في الريف - قديما - يقومون بتنقية الدقيق إلى درجة عالية حتى يصبح في تمام النقاء من «الردة» . ويسمون هذا النوع من الدقيق «الدقيق العَلاَمَة» وكانوا يأكلون منه ويتركون البقية من الدقيق مختلطا بالردة ليأكله الخدم أو الفقراء، فتأتي فترة يُحرم الأطباء عليهم هذا الدقيق الأبيض، ولا يجد الواحد منهم طعاما إلا الدقيق «السِّن» الذي كان يرفضه قديما فعلينا - إذن - أن ننظر إليها كقضية سائدة في الكون كله، ولنجعل قول الله أمامنا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3124 {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] فأنت إن أخذت كسب يد واحدة يحرمك الحق من يدٍ لا من كسب. فإن زدت حرمك الله من جارحة أخرى، وهكذا. وتلك سُنَّة كونية تعدل نظام الكون بالنسبة للناس، وخصوصا من يستبطئون جزاء الآخرة، ومن يُغْريهم ويَغُرهم ويطمعهم حِلْم الله عليهم. وأنت إذا ما نظرت وصنعت لنفسك رُقعة جغرافية في البيئة التي تعيش فيها في أسرتك، أو حيك، أو بلدك أو أمتك، فأنت تجد قوما قد حرموا بأنفسهم من غير أن يحرم عليهم أحد، فتجد واحداً مصاباً - والعياذ بالله - بالبولينا: ولا يقدر أن يأكل قطعة من اللحم، أو آخر مصابا بمرض السكر؛ وتراه غير قادر على أن يأكل قطعة من الحلوى، أو ملعقة من العسل. لأن أحداً لن يستطيع أن يأخذ شيئا بدون علم الله. وصنع الله ذلك لأنه عزيز لا يُغلَب. فإياك أن تظن أن بإمكانك أخذ شيء من وراء شرع الله أو تظن انك خدعت شَرع الله، فهو سبحانه عزيز لا يُغلَب أبداً. ونرى في حياتنا الذين يأخذون أموالاً بغير حق رشوة أو سرقةً أو اختلاساً، نرى مصارف هذه الأشياء أو الرشاوي أو الأموال قد ذهبت وأنفقت في مهالك ومصائب؛ إننا نجدها قد أخذت ما أخذوه من حرام، ومالت وجارت على ما كسبوه من حلال. وأريد من المسرفين على أنفسهم أن يضعوا لأنفسهم كشف حساب، فيكتبوا في ناحية القرش الذي كسبوه من حرام، ويكتبوا في ناحية أخرى كل قرش كسبوه من حلال. وليشاهد كل مسرف على نفسه في أكل حقوق الناس المصائب التي سيبتليه الله بها، ولسوف يجد أنه قد صرف لمواجهة المصائب كل الحرام وبعضا من الحلال. ولذلك قال الأثر الصالح: «من أصاب مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر» . وكنت أعرف اثنين من الناس، ولكل واحد منهما ولد في التعليم. وكنت أجد أحدهما يعطي ولده خمسة قروش. فيقول الابن لأبيه: معي مصروف الأمس «. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3125 وكان الآخر يعطي ولده عشرة قروش فيقول الابن له:» إنها لا تكفي شيئاً «. وشاء الحق أن يجمعنا نحن الثلاثة في مكتب وزارة الري بالزقازيق، فلما جئنا لنخرج إذا برئيس كتاب تلك المصلحة يأتي بظرف أصفر كبير به أشياء كثيرة ويناوله لواحد منهما، فسألته: ما هذا؟ فقال: بعض من الورق الأبيض وبعض من ورق النشاف وعدد من الأقلام حتى يكتب الأولاد واجبهم المدرسي. فقلت له: هذا سر خيبة أولادك الدراسية وإسرافهم والدروس الخصوصية التي تدفع فيها فوق ما تطيق وسر قول ابنك لك: إن القروش العشرة لا تكفي شيئا. أما الشخص الآخر فابنه يقول له: لا أريد مصروف يد اليوم لأن معي خمسة قروش هي مصروف أمس ولا أريد أن آخذ دروسا خصوصية لأني أحب الاعتماد على نفسي. وسبحانه الحق القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. ويقول لنا بلاغا: قال أبو الجلد: «أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك: ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي؟ إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم قَلِمَ تجعلونني أهون الناظرين إليكم» . إذن قوله الحق: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله} واضح تماما، ويردف الحق قوله هذا: {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وسبحانه عزيز لا يغلبه أحد، حتى الذي يسرق، إنما يسرق الرزق المكتوب له؛ لأن العلماء اتفقوا على أن الشيء المسروق رزق أيضا لأنه يُنتفَع به. ووالله لو صبر لجاءه وطرق عليه بابه. فإياكم أن تحتالوا على قدر الله؛ لأنه حكيم في تقديره. وكلمة «حكيم» لها في حياتنا قصة، كنا ونحن في مقتبل حياتنا التعليمية نحب الأدب والشعر والشعراء، وبعد أن قرأنا للمعري وجدنا عنده بعضا من الشعر يؤول إلى الإلحاد، فزهدنا فيه وخصوصا عندما قرأنا قوله في قصيدته: تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3126 وأخذنا من ذلك القول أنّه ينكر البعث؛ فقلنا: يغنينا الله عنه. ولكن صديقنا الشيخ فهمي عبد اللطيف - رَحِمَهُ اللَّهُ - رأى المعري في الرؤيا وكان مولعا بالمعري، فجاء إلى ذات صباح ونحن في الزقازيق وقال لي: يا شيخ لقد رأيت المعري الليلة في الرؤيا وهو غاضب منك أنت لأنك جفوته. فقلت: أنا جفوته لكذا وكذا وأنت تعلم السبب في ذلك. وقال الشيخ فهمي عبد اللطيف: هذا ما حصل. وقلت لنفسي: يجب أن أعيد حسابي مع المعري، وجئنا بدواوينه «سقط الزند» و «لزوم ما لا يلزم» . ووجدنا أن للرجل عُذراً في أن يعتب علينا؛ لأن آفة الناس الذين يسجلون خواطر أصحاب الفكر أنهم لا ينظرون إلى تأريخ مقولاتهم، وقد قال المعري قوله الذي أنكره عليه وقت أن كان شابا مفتونا بفكره وعندما نضج قال عكسه. وكثير من المفكرين يمرون بذلك، مثل طه حسين والعقاد، بدأ كل منهما الحياة بكلام قد يؤول إلى الإلحاد ولكنهما كتبا بعد النضج ما يحمل عطر الإيمان الصحيح؛ لذلك لا يصح لمن يحكم عليهم أن يأخذهم بأوليات خواطرهم التي بدأوها بالشَّك حتى يصلوا إلى اليقين. وجلست أبحث في المعري الذي قال: تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك فوجدته هو نفسه الذي قال بعد أن ذهبت عنه المراهقة الفكرية: زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجساد قلت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما كأنه عاد إلى حظيرة الإيمان: وكذلك قال المعري: يد بخمس مئين عسجد وُدِيَتْ ... ما بالها قُطِعَت في ربع دينار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3127 وقال بعد ذلك: تناقض مالنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار وقلت للشيخ فهمي عبد اللطيف: للمعري حق في العتاب وسأحاول أن أعاود قراءة شعره، والأبيات التي أرى فيها خروجا سأعد لها قليلا. وعندما جئت إلى ذلك البيت. قلت: لو أنه قال - وأنا أستأذنه -: لحكمةٍ ما لنا إلا الرضاء بها ... وأن نعوذ بمولانا من النار فَلكل شيء حكمة. وحين نرى طبيباً يمسك طفلا قلبه لا يتحمل المُرِقد - أي البنج - أثناء إجراء عملية جراحية، فهل يظن ظان أن الطبيب ينتقم من هذا الطفل؟ طبعا لا، إذن فلكل شيء حكمة، ويجب أن ننظر إلى الشيء وأن نربطه بحكمته. والله عزيز أي لا يغلبه أحد ولا يحتال عليه أحد. وهو حكيم فيما يضع من عقوبات للجرائم؛ لأنه يزن المجتمع نفسه بميزان العدالة. ومن بعد ذلك يفتح الحق سبحانه باب التوبة رحمة لمن يتوب ورحمة للمجتمع؛ لذلك يقول الحق: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3128 والسارق ظالم؛ لأنه أخذ حق غيره، فإن تاب أي ندم على الفعل وعزم على ألا يعود شريطة ألا تكون التوبة بالكلام فقط، بل يصلح ما أفسده، هنا تُقبَل التوبة. ولكن كيف يفعل ذلك؟ إذا كان الشيء المسروق في حوزته فعليه أن يرده إلى صاحبه. وإن كان قد تصرف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3128 فيه فعليه أن يأتي لصاحب الشيء ويستحله ويقول له: كنت في غفلة نفسي وفي زهوة الشيطان مني ففعلت كذا وكذا. وأعتقد أن أي إنسان سرق من إنسان آخر وبعد فترة اعترف له وطلب العفو منه فأنا أقسم بالله أنه سيعفو عنه راضيا. وبذلك يستحل الشيء الذي أخذه. لكن ماذا إن كان السارق لا يعرف صاحب الشيء المسروق. كلص «الأتوبيسات» ؟ إن كان قد سرق محفظة نقود من شخص ووجد العنوان يستطيع أن يرد الشيء المسروق بحوالة بريدية من مجهول تحمل قيمة المبلغ المسروق ويطلب فيها السماح عن السرقة. وإن لم يعرف من سرقة فعليه أن يقول: الله أعلم بصاحب هذا المبلغ وأنا سأتصدق به في سبيل الله وأقول: يا رب ثوابه لصاحبه. إذن فوجوه الإصلاح كثيرة. وإن كان يخجل من رد الشيء المسروق فليقل: فُضُوح الدنيا أهون من فُضُوح الآخرة. وفي القرآن تأتي آيات كثيرة عن التوبة: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} [التوبة: 118] كأن توبة الله مكتوبة أولا؛ ثم يتوب العبد من بعد ذلك. وسبحانه يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} [طه: 82] وللتوبة - كما نعلم - ثلاث مراحل. فالحق حين شرع التوبة كان ذلك إذناً بها. وبعد ذلك يتوب العبد، فيتوب الله عليه ويمحو عنه الذنب ويكون الغفران بقبول الله للتوبة. ولذلك يقول الحق: {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وَصِفَةُ المغفرة وصِفَةُ الرحمة كل في مطلقها تَكُون لله وحده، وهي توبة للجاني ورحمة للمجني عليه. وكلمة {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} توضح لنا أنه سبحانه له طلاقة القدرة في أن يغفر وأن يرحم. فإياك أن تقول: إن فلانا لا يستحق المغفرة والرحمة؛ لأنه سبحانه مالك السماء والأرض، وهو الذي أعطى للبشر ما يستحقون بالحق الذي أوجبه على نفسه، وله طلاقة القدرة في الكون؛ ولذلك يقول الحق من بعد ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3129 {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3130 ويستخدم الحق سبحانه من أساليب البيان ما يخرجنا عن الغفلة، فلم يقل: «الله له ملك السموات والأرض» ، ولو كان قد قال ذلك لكان الأمر خَبَراً من المتكلم وهو الله، ولكنه يريد أن يكون الخبر من المُخَاطَب إقراراً من العبد. ولا يخرج الخَبَر مَخرج الاستفهام إلا وقائل الخبر واثِقٌ من أن جواب الاستفهام في صالحه؛ والمثال على هذا هو أن يأتيك إنسان ويقول: «انت تهملني» . فتقول: أنا أحسنت إليك. ولكن إن أردت أن تستخرج الخَبَر منه فأنت تقول: ألم أُحْسِن إليك؟ وبذلك تستفهم منه، والاستفهام يريد جوابا. فكأن المسئول حين يجيب عليه أن يدير ذهنه في كل مجال ولا يجد إلا أن يقول: نعم أنت أحسنت إليّ. ولو جاء ذلك من المتكلم لكانت دعوى، لكن إن جاءت من المُخاطَب فهي إقرار، ومثال ذلك قول الحق: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] إنه خَبرٌ من المتكلم والإقرار من المتلقي. وقد يقول قائل ولماذا لم يقل الحق: «أشرحنا لك صدرك» ؟ كان من الممكن ذلك، ولكن الحق لم يقلها حتى لا يكون في السؤال إيحاء بجواب الإثبات بل جاءت بالنفي. وفي قوله الحق: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 40] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3130 نجد منطوق الآية ليس دعوى من الحق، ولكنه استفهام للخلق ليديروا الجواب على هذا، فلا يجدوا جواباً إلا أن يقولوا: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} . وهذا أسلوب لإثبات الحجة والإقرار من العباد، لا إخباراً من الحق: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} ، وقد يقول إنسان: إن هناك أجزاء من الأرض ملكا للبشر. ونقول: صحيح أن في الأرض أجزاء هي ملك للبشر، ولكن هناك فرق بين أن يملك إنسان ما لا يقدر على الاحتفاظ به. . كملك البيت والأرض، إنه مِلْك - بكسر الميم - لمالك. وهناك «مُلْك» - بضم الميم - لِمَلِكٍ هو الله. وفي الدنيا نجد أن لكل إنسان ملكية ما. ولكن المَلِك في الأرض يملك القرار في أملاك شعبه، وهذا في دنيا الأسلوب، أما في الآخرة فالأسباب كلها تمتنع: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] فلا أحد له مُلكٌ يوم القيامة. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} والقارئ بإمعان للقرآن يجد فيه عبارات تجمع بين أمرين أحدهما يتقدم، والآخر يتأخر. ويأتي الأمر في أحيان أخرى بالعكس. ولكن هذا القول هو الوحيد في القرآن الذي يأتي على هذا النسق، فكل ما جاء في القرآن يكون الغفران مقدّماً على العذاب؛ لأن الحق سبحانه قال في الحديث القدسي: «إن رَحمتي سبقت غَضبي» فلماذا جاء العذاب في هذه الآية مقدماً على الغُفران: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} هل السبب هو التَّفنَّن في الأساليب؟ لا؛ لأن جمهرة الآيات تأتي بالغفران أولاً، ثم بالوعيد بالعذاب لمن يشاء سبحانه. ولننظر إلى السّياق. جاء الحديث أولاً عن السارق والسارقة، وبعد ذلك عمّن تاب. فالسرقة إذن تقتضي التعذيب، والتوبة تقتضي المغفرة، إذن فالترتيب هنا منطقي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3131 ونلحظ أن هذا القول قد جاء بعد آية السرقة وبعد آية الإعلام بأن له مُلْكَ السموات والأرض. ولذلك كان لا بد من تذييل يخدم الاثنين معاً. ليؤكد سيطرة القدرة. وحين يريد الحق أن يرحم واحداً. فليس في قدرة المرحوم أن يقول: «لا أريد الرحمة» . وحين يعذب واحداً لن يقول المعذَّب - بفتح الذال -: «لا داعي للعذاب» . فسيطرة القدرة تؤكد أنه لا قدرة لأحد على رَدِّ العذاب أو الرحمة. إذن فالآية قد جاءت لتخدم أغراضاً مُتعددة. فإن حسبناها في ميزان الأحداث فللحق كل القدرة. وإن حسبناها في ميزان الزمن، فكيف يكون الأمر؟ . نعرف أن التعذيب للسّرقة قسمان. . تعذيب بإقامة الحَدّ، وفي الآخرة تكون المغفرة. إذن فالكلام منطقي مُتَّسق. إنني أقول دائماً: إياكم أن تُخدَعوا بأن الكافر يكفر، والعاصي يعصى دون أن ينال عقابه؛ لأن من تعوَّد أن يتأبَى على منهج الله، فيكفر أو يعصي لا بد له من عقاب. لقد تمرَّدَ على المنهج، ولكنه لا يجرؤ على التَمرُّد على الله. إن الإنسان قد يتمرد على المنهج فلا يؤمن أو لا يقيم الصلاة، لكن لا قدرة لإنسان أن يتمرد على الله، لأنه لا أحد يقدر على أن يقف في مواجهة الموت، وهو بعضٌ من قُدْرةِ الله. وسبحانه وتعالى يحكم ما يريد. وقد أراد أن يوجِد للإنسان اختياراً في أشياء، وأن يقهر الإنسان على أشياء، فيا من مرَّنت نفسك على التمرّد على منهج الله عليك أن تحاول أن تتمرّد على صاحب المنهج وهو الله. ولن تستطيع لا في شكلك ولا لونك ولا صحتك ولا ميعاد موتك. وليفتح كل مُتَمرِّد أذنيه، وليعرف أنه لن يقدر على أن يَتمرَّد على صاحب المنهج وهو الله. إذن صدق قول الله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . ومن بعد ذلك يقول الحق: {ياأيها الرسول ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3132 نأتي في النِّداء بحرف الإقبال وهو «يا» وندخله على «المُنادى» أي أنك تطلب إقباله. فهل نطلب إقباله لمجرد الإقبال أو لشيء آخر؟ مثال ذلك قول الحق: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إذن النِّداء هنا لتلاوة التكليف عليهم. وحين يُنادي الحق سبحانه وتعالى أشرف من ناداهم وهم رُسُله، ونجد أنه نادى كل الرُّسل بمُشخَّصاتِهم العَلَمِيّة. (يا آدم) ، والمُشَخّص العَلمَي هو الاسم، وهو لا يعطي وصفاً إلا تشخيص الذات بدون صفاتها. وكذلك نادى الحق إبراهيم عليه السلام: {ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} [الصافات: 104 - 105] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3133 وكذلك نادى الحق نوحاً: {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ} [هود: 48] وكذلك نادى الحق موسى عليه السلام: {ياموسى إني أَنَا الله} [القصص: 30] وكذلك نادى الحق عيسى ابن مريم عليه السلام: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] كُل الرُّسُل ناداهم الحق بالمُشَخِّص العَلَمي الذي لا يعطي إلا التشخيص، ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتم الرُّسُل ما ناداه الله باسمه أبداً، إنما ناداه الله بالوصف الزائد عن مُشَخَّصات الذات فيقول: {ياأيها الرسول} ، ويقول: {ياأيها النبي} . حقًّا إنّ الجميع رُسُل، ولكنه سبحانه يريد أن يبلغنا أن محمداً صلّى الله عليه وسلم هو الرسول الذي جاء ناسخاً ومؤمناً بالكُلّ، هو الذي يستحق النّداء بالوصف الزائد عن مُشَخّصات الذات: {ياأيها الرسول} . وهو الرسول الذي تقوم عليه الساعة. ولذلك نجد خطاب الحق لرسوله دائما: {ياأيها الرسول} أو: {ياأيها النبي} ، وهذا نوع من التكريم. والحق يقول هنا: {ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} . أي لا تحزن يا رسول الله من الذين يسارعون في الكفر. وحين يخاطب الحق رسوله في ألا يحزن، علينا أن نعرف على ماذا يكون الحزن؟ سبحانه يوضح لرسوله: إياك أن تحزن لأني معك فلن ينالك شر خصومك ولا يمكن أن أختارك رسولاً وأخْذُلَك، إنهم لن ينالوا منك شيئاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3134 وقد يكون حزن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حزناً من لون آخر، اسمه الحزن المُتَسَامِي الذي قال فيه الحق: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] لأن الحق لو شاء أن يجعلهم مؤمنين لما جعل لديهم القدرة على الكفر. {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] وهل الله يريد أعناقا؟ لا. بل يريد قلوباً؛ لأن سيطرة القُدرة بإمكانها أن تفعل ما تريد، بدليل أن السماء والأرض والجبال وكل الكائنات أتت للخالق طائعة. فلا يمكن أن يتأبّى الكون على خالقه. والقدرة أفادت القهر وأفادت السيطرة والعزة والغلبة في سائر الكون، ولكن الله أحَب أن يأتي عبده - وهو السيد - للإيمان مختاراً؛ لأن الإيمان الأول هو إيمان القهر والقدرة، ولكن الإيمان الثاني هو إيمان المحبة. وقد ضربنا من قبل المثل على ذلك ولنوضحه: هب أن عندك خادمين ربطت أحدهما في سلسلة لأنك إن تركته قليلاً يهرب، وعندما تريده تجذب السلسلة فيأتي، إنه يأتي لسيطرة قُدرتك عليه والقهر منك، أما الخادم الآخر فأنت تتركه حُرّاً ويأتيك من فور النداء. فأيهما أحب إليك؟ لا شك أنك تحب الذي يجيء عن حُب لا عن قهر. وكل أجناس الكون مُسخَّرة بالقدرة، وشاء الحق أن يجعل الإنسان مُختاراً لذلك قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72] إذن فقد رفضت كل الأجناس حمل الأمانة. خوفا وإشفاقا من أنها قد لا تستطيع القيام بذلك. والحق يقول لرسوله: {لاَ يَحْزُنكَ} فأمّا إذا كان الحزن بسبب الخوف على المنهج منهم، فالحق ينصره ولن يمكنهم منه. وأما إن كان الخوف عليهم فلا؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3135 لأنه سبحانه خلق الإنسان مختاراً غير مقهور على القيام بتعاليم المنهج، وسبحانه يُحب أن يعرف من يأتيه حُباً وكرامة. ويقول الحق لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلم: {لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} . وهذه رُبوبية التعبير، فنحن نعلم أن السرعة تكون إلى الشيء، لا في الشيء كما قال الحق: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ} [آل عمران: 133] ولكن هنا نجده يقول: {يُسَارِعُونَ فِي الكفر} . ولو قال الحق: «يسارعون إلى الكفر» لكان قد ثبت لهم إيمان وبعد ذلك يذهبون إلى الكُفر، لا. الحق يريد أن يوضح لنا: أنهم يسارعون في دائرة الكفر. ويعلمنا أنهم في البداية في الكفر، ويسارعون إلى كفر أشد. ونعرف أن «في» في القرآن نستطيع أن نضع من أجلها المجلدات. فقد قلنا من قبل قال الله تعالى: {سِيرُواْ فِي الأرض} . ولم يقل سبحانه سيروا على الأرض. والحق سبحانه: وتعالى يقول: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] وهي ليست أموال المخاطبين، ولكنها في الأصل أموال السفهاء. ولكن سبحانه يبلغنا أن السُّفهاء غير مأمونين على المال، ولذلك يأتي الحق بالوصَيَّ والقيّن على المال ويأمره أن يعتبر المال ماله حتى يحافظ عليه. ويأمره بألا يخزن المال ليأكل منه السَّفيه؛ لأن المال إن أكل منه السَّفيه ودفع له الزكاة، قد ينضب وَينْفذ. لذلك قال الحق: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3136 ومن بعد ذلك يقول الحق: {وارزقوهم فِيهَا} [النساء: 5] لم يقل ارزقوهم منها، ذلك أنه سبحانه شاء أن يعلمنا أن الرزق مطمور في رأس المال ويجب أن يتحرك رأس المال في الحياة حتى لا ينقص بالنفقة، وحتى لا تستهلكه الزكاة، وحتى يبلغ السَّفيه رُشده ويجد المال قد نما. هذه بعض من معطيات «في» . وهنا آية الصَّلب: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] بعض المفسرين يقولون في هذه الآية: {لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} ونقول: إن الذين قالوا ذلك لم يُفسّروا هذه الآية وكان يجب أن يقولوا في تفسير ذلك: لأصلبنكم على جذوع النخل تصليباً قوياً يدخل المصلوب في المصلوب فيه. ومثال ذلك لو جئنا بعدو ثقاب وربطناه على الأصبع بخيط رفيع وأوثقنا الربط، فعود الثقاب يغوص في الأصبع حتى يصير وكأنه داخل الأصبع. وعندما يقول الحق: {لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} فيجب ألا نفهم هذا القول إلا على أساس أنه تصليب على جذوع النخل تصليباً قوياً يُدْخِلُ المصلوب في المصلوب فيه. وتلك هي العِلّة في وجود «في» وعدم وجود «على» . والحق يقول هنا: {لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} فكأن المسارعة إما أن تكون ب «إلى» وإما أن تكون ب «في» . فإن كانت ب «إلى» فهي انتقال إلى شيء لم يكن فيه ساعة بدْء السرعة، وإن كانت ب «في» فهي انتقال إلى عمق الشيء الذي كان فيه قبل أن يبدأ المسارعة. {لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} فالإيمان محلّه القلب، والإسلام محلّه الجوارح؛ ولذلك قال سبحانه: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3137 إنهم يسارعون إلى الصف الأول في الصلاة وهذا إسلام، أما الإيمان فمحلّه القلب. إذن فالذين قالوا بأفواههم آمنا، لهم أن يعرفوا أن منطقة الإيمان ليست الأفواه ولكنها القلوب. وهم قالوها بأفواههم وما مرّت على قلوبهم. وماداموا قد قالوا بأفواههم آمنا وما مرّت على قلوبهم فهؤلاء هم المنافقون، ومعنى ذلك أنهم في كل يوم ستظهر منهم أشياء تُدخِلهم في الكفر؛ لأنهم من البداية قد أبطنوا الكفر، وبعد ذلك يسارعون في مجال الكفر. {مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هَادُواْ} هم إذن صنفان اثنان يسارعان في الكفر؛ المنافقون الذين قالوا بأفواههم آمنا، والذين هادوا. ويصفهم الحق بقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} وساعة تسمع مادة «السين والميم والعين» فهذا يعني أن الأذن قد استقبلت صوتاً من مُصَوِّت، هذا المُصوِّت إما أن يكون مُتكلماً بالكلام الحقّ فيجذ من الأذن الإيمانية استماعاً بإنصات؛ ثم يتعدى الاستماع إلى القبول؛ فيقول المؤمن: أنا استمعت إلى فلان، لا يقصد أنه سمع منه فقط ولكن يقصد أنه سمع وقبل منه ما قال. إننا نعلم أن كثيراً من الورعين يسمعون كذباً، لكن الفيصل هو قبول الكذب أو رفضه. وليس المهم أن يكون الإنسان سامعاً فقط، ولكن أن يصدق ما يسمع. ونرى في الحياة اليومية إنساناً يريد أن يصلح شيئاً من أثاث منزله فيأتي بالأدوات اللازمة لذلك، ويقال هنا عن هذا الرجل: «نجر فهو ناجر» ولا يقال له: «نجّار» ؛ لأن النجار هو من تكون حرفته النّجارة. إذن كلمة: سامع للكذب لا تؤدي المعنى، ولكن «سمّاع» تؤدي المعنى، أي أن صناعته هي التسمّع، وعندما يقول الحق: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي ألِفُوا أن يقبلوا الكذب. وكيف يكون مزاج من يقبل الكذب؟ . لا بد أن يكون مزاجاً مريضاً بالفطرة. وما معنى الكذب هنا ومن هم السمّاعون؟ إما أن يكون المقصود بهم الأحبار والرهبان الذين قالوا لأتباعهم كلاماً غير ذي سندٍ من واقع من أجل الحفاظ على مراكزهم. وإما أن يكونوا سماعين للكذب لا لصالحهم هم، ولكن لصالح قوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3138 آخرين. كأنهم يقومون بالتجسس. والتجسس - كما نعلم - يكون بالعين أو بالأذن. وتقدمت هذه الوسائل في زماننا حتى صار التجسس بالصوت والصورة. وكأن الحق يريد أن يبلغنا أنهم سماعون للكذب، أي أنهم يسمعون لحساب قوم آخرين. والقوم الآخرون الذي يسمعون لهم هم القوم الذين أصابهم الكبر والغرور واستكبروا أن يحضروا مجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهم في الوقت نفسه لا يطيقون الانتظار ويريدون معرفة ماذا يقول رسول الله، لذلك يرسلون الجواسيس إلى مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لينقلوا لهم. أولئك السماعون للكذب هم سماعون لحساب قوم آخرين لم يأتوا إلى مجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تكبُّراً. وهؤلاء المتكبرون هم كبار اليهود، وهم لا يذهبون إلى مجلس رسول الله حتى لا يضعف مركزهم أمام أتباعهم. وعندما يُنقَل إليهم الكلام يحاولون تصويره على الغرض الذي يريدون، ولذلك يقول عنهم الحق: {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} . أي أنهم يُحرِّفون الكلام بعد أن استقر في مَواضعه ويستخرجونه منها فيهملونه ويزيلونه عن مواضعه بعد ان وضعه الله فيها وذلك بتغيير أحكام الله، وقال الحق فيها أيضاً من قبل ذلك: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} [المائدة: 13] أي أنهم حَرَّفُوا الكلام قبل أن يستقر. {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} وهم الذين يقولون لأتباعهم من جواسيس الاستماع إلى مجلس رسول الله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا} . فكأنهم أقبلوا على النبي بهذا، فإن أخذوا من رسول الله معنى يستطيعون تحريفه فعلوا. وإن لم يجدوا ما يحرفونه فعليهم الحذر. ومن دراسة تاريخ القوانين الوضعية نعرف معنى السلطة الزمنية. فالقوانين التي تواضع عليها بشر ليحكموا بها نظام الحياة تأخرت في الظهور إلى الواقع عن نظام الكهنة، فقد كان الكهنة يَدَّعُون أن لهم صلة بالسماء ولذلك كان الحكم لهم، أي أن التقنين في الأصل هو حكم السماء والذي جعل الناس تتجه إلى وضع قوانين خاصة بهم أنهم جربوا الكهنة فوجدوهم يحكمون في قضية ما حُكْماً. وفي القضية المشابهة يحكمون حُكْماً آخر. لقد كان كلام الكهنة مقبولا عندما ادعوا لأنفسهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3139 الانتساب إلى أحكام السماء. لكن عندما تضاربت أحكامهم خرج الناس على أحكام الكهنة ورفضوها لأنفسهم قوانين أخرى. والحكاية التاريخية توضح لنا ذلك: فقد زَنَى أحد أتباع ملك في العصر القديم وحاولوا أن يقيموا عليه الحد الموجود بالتوراة. لكن الملك قال للكهنة لا أريد أن يُرجَم هذا الرجل وابحثوا عن حكم آخر. ورضخ الكهنة لأمر الملك وقالوا: نُحَمِّم وجه الزَّاني - أي نُسَوِّد وجْهه بالحُمم وهو الفحم - ونجعله يركب حماراً ووجه إلى الخلف ونطوف به بين الناس بدلاً من الرَّجم. وهكذا أعطت السلطة الزمنية السياسية الأمر للسلطة الزمنية الدينية ليُغيِّروا في القوانين. فلما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة حاولوا أن يستغلوا وجوده في استصدار أحكام فيها هوادة ولين. وعرضوا عليه بعضا من القضايا من أجل ذلك، فإن جاء الحكم بالتخفيف قبلوه، وإن كان الحكم مُشدّداً لم يقبلوه. وتكررت مسألة الزّنا. وحاولوا الحصول على حكم مخفف من سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وجاء رسول الله بالحكم الذي نزل من السماء وهو الرَّجم. ولكنهم قالوا للرَّجم لا. يكفي أن نجلده أربعين جلدة وأن نُسَود وجهه وأن نجعله يركب حماراً ووجهه للخلف ويُطاف به. وهنا سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أليس عندكم رجل صالح له علم بالكتاب؟ وهنا صمتوا. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن «فدك» يقال له: «ابن صوريا» . فقالوا: نعم، هو أعلم يهود على وجه الأرض. فأمر الرسول بإحضاره ليرى الحُكم النازل في الزِّنا بالتوراة، وجاء الرجل وناشده رسول الله بالذي لا إله إلا هو وبحق من أرسل موسى، وبحق من أنزَل التوراة على موسى، وبحق من فلق البحر، وبحق من أغرق فرعون، وبحق من ظللهم بالغمام. وأراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُزلزل فيه كل باطل وأن يشحنه بالطاعة حتى ينطق الحق، فقال ابن صوريا: نعم نجد الرَّجم للزِّنا. وهنا سَبَّ اليهود الرجل الصالح. لقد أرادوا أن يحصلوا على حُكم مُخفف من رسول الله ليُنقذوا الزاني صاحب المقام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3140 العالي، وكذلك الزانية ذات الحسب والنسب؛ لذلك قال الحق على لسانهم: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا} . أي التخفيف المراد فخذوه، وإن وجدتم العقاب القاسي فاحذروه ولا تقبلوه. إذن فهم لم يذهبوا إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابتغاء الحق ولكنهم يبتغون التخفيف. فإن وافق الحكم هواهم قالوا: إن محمداً هو الذي حَكَم، ومن العجيب أنهم أعداء لمحمد وكافرون به. وبرغم ذلك يُحكِّمونه. هذه الواقعة يرويها الإمام مسلم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وهي: «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتى يهودي ويهودية قد زنيا فانطلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى جاء يهود فقال: ما تجدون في التوراة على مَنْ زنى؟ قالوا: نسوّد وجوههما ونحمّمهما ونحملهما ونخالف بين وجوههما، ويُطاف بهما، قال: (فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) قال: فجاءوا بها، فقرأوها، حتى إذا مرّ بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مُرْهُ فليرفع يده، فرفع يده فاذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرُجما، قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه» . إنهم يريدون الحُكم السهل الهين اللين. وقال البعض: إن سبب نزول هذه الآية هي قصة القَوَد. والقود هو القصاص. وقصة القود في إيجاز هي - كما رواها الامام أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن طائفتين من اليهود هما بنو النضير وبنو قريظة كانتا قد تحاربتا في الجاهلية، فقهرت بنو النَّضير بني قريظة، فكانت النَّضير وهي العزيزة إذا قتلت أحداً من بني قُريظة وهي الذَّليلة لم يُقِيدوهم أي لم يعطوهم القاتل ليقتلوه بقتيلهم. إنما يعطونهم الديَّة. وكانت قُريظة إذا قَتَلت أحداً من بني النَّضير لم يرضُوا منهم إلا بالقود. فلما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة تحاكموا إليه في هذا الأمر فحَكَم بالتَّسوية بينهم، فسَاءَهم ذلك ولم يقبلوا. وأي قصة منها هي مؤكِّدة للمعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3141 ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً} والفتنة هي التعذيب بالنار، وسبحانه يقول: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] والفتنة أيضاً هي الابتلاء والاختبار، ويقال: «فتنت الذهب» أي وضعت الذهب في بوتقة وحوَّلته بالحرارة العالية من جسم صُلب إلى سائل حتى تستخلصه من المواد العالقة الشائبة التي فيه ليصير نقياً. والفتنة في ذاتها ليست مذمومة. ولكن المذموم منها هو النتيجة التي تصل إليها؛ اينجح الإنسان فيها أم يرسُب؛ لأن الاختبارات التي يمر بها الإنسان كلها هي فتنة، والذي ينجح تكون الفتنة بالنسبة إليه طيبة. والذي يرسُب ويفشل فالفتنة بالنسبة إليه سيئة. وعندما يريد الله فتنة بشر أي يرد اختبارهم: أيأتون طوعا واختياراً أم لا؟ ومادام الحق سبحانه وتعالى أعطى للإنسان قدرة الاختيار حتى يُثبت صفة المحبوبية فسبحانه أراد ذلك، ولا أحد بقادر أن يجعل الإنسان مقهوراً. وقد أراده الله مُختاراً وأن يبتلى وأن يختبر. أينجح أم يرسُب، أيكون مُؤمناً أم كافراً: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً} . وجعل سبحانه ذلك قانونا لخلقه بمنتهى الوضوح، وهناك جانب في الإنسان مُسَخَّر، وجانب آخر مُخيَّر. {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً} . أي أن أحداً لا يجرؤ أن يغير نواميس الكون ولن يغير الله نواميس الكون من أجل أي أحد؛ لأن النواميس لا بد أن تسير كما أرادها الله حتى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقد عرفنا ما حدث في أُحُد؛ عندما تخاذل الرُّماة ولم يستمعوا إلى نصيحة القائد الأعلى سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ أَغَيَّر الله سُنَّته من أجل وجود حبيبه معهم؟ لا، وانهزموا على رغم وجود رسول الله معهم؛ لأن الله أراد للسُّنة الكونية أن تسير كما هي من أجل إصلاح الأمر. فلو فُرِض أنهم انتصروا من أجل خاطر النبي، ماذا يكون الموقف في أوامره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما بعد؟ كان من الممكن أن يقول شخص منهم: «خالفناه وانتصرنا» . إذن لا بد لسُنَّة الله أن تُنَفّذ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3142 {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41] لماذا لم يرد الله أن يُطهِّر قلوبهم؟ لأنهم منافقون. وفي قلب المنافق مرض. وعندما تأتي أحداث ينتفع بها المسلمون فالمنافق يزداد حِقداً ومَرضا لأنّ قلبه مُمتلئ بالغل، ولا يريد الله تطهير قلب إنسان إلا أن يقبل على الله ولذلك قال تعالى: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264] وقال سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [آل عمران: 86] فهل عدم هداية الله لهم نشأت أولاً، ثم نشأ الكُفر، أو نشأ الكُفر منهم فجاء عدم الهداية؟ نعلم أن عدم الهداية مرتبة على أنه ظالم أو كافر، وقلنا من قبل: إن هناك إرادة كونية وإرادة شرعية. والإرادة الكونية هي ما يحدث في كون الله. ولا شيء قد حدث في كون الله غصبا عن الله. والاختيار خلقه الله في الإنسان ليصير الإنسان مُخيراً بين الكُفر والإيمان. ومادام الحق قد خلق الإنسان مُختاراً لهذا أو لذلك إذن فهو سبحانه مُريد كَوْنِيًّا ما يصدر عن الإنسان اختياراً كفراً أو هدايةً. لكن أَمُريد هو سبحانه ذلك شرعاً؟ لا. إن الشرع أمر سماوي إما أن يُنفّذه العبد وإما أن يعصيه. ونعرف أن هناك أشياء مُرادة كونياً وأشياء مُرادة شرعيا. والمُراد الكوني هو الذي يكون: أما الإنسان فقد خلقه الله وله الاختيار، فالذي يسرق لا يسرق غصبا عن الله ولكن ما أعطاه له الله من اختيار ومن طاقة، إما أن يوجهها إلى الخير وإما إلى الشر. ونحن حين ننظر إلى الساعة التي نضعها حول المعصم وقد صنعها الصانع صالحة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3143 لأن يديرها الإنسان على توقيت أي بلد، فهل هذا يتم غصبا عن الصانع؟ لا. وكذلك جهاز «التليفزيون» ؛ إن أذعنا فيه برامج دينية فهو صالح للهدف، وإن أذعنا فيه حفلة راقصة فهو صالح لذلك أيضا. والذي صنع التليفزيون جعله صالحاً لهذا ولذاك، المهم هو توجيه الطاقة وكذلك الإنسان. والإرادة الكونية هي كل ما يكون في ملك الله، والإرادة الشرعية هي كل ما يكون في شرع الله «افعل ولا تفعل» . ومادام هناك أمرٌ كوني شرعي فالكون قد أوجده الله لخدمة المؤمن والكافر والعاصي، لكن الأمر الشرعي جعله الله للمؤمن. إذن فإيمان المؤمن أراده الله كونا؛ لأنه سبحانه قد وضع الإيمان منهجا، وأراد الله إيمان المؤمن شرعا. وكفر الكافر لم يتم غصبا عن الله. ولكن الإنسان بخلْقِه مختاراً. صار كُفره أمراً كونياً، ولكنه غير مُراد شرعاً فكفر الكافر مُراد كونا غير مُراد شرعا. وإيمان الكافر غير مُراد كوناً وكفر المؤمن غير مُراد كونا. وبهذا نكون أمام أربعة أقسام في المُراد كونا وشرعا. وهذه هي القسمة العقلية. إذن من يُرِد الله فتنته كوناً فلا راد لإرادة الله؛ فإذا لم يطع الشرع، فذلك لأنه مخلوق صالح للطاعة وصالح للمعصية. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - الوالد يعطي لابنه جنيها ويقول له: أنت حُر في هذا المبلغ فإن اشتريت مصحفا أو كتاب دين أو شيئاً تأكله أنت وإخوتك فسأكافئك وأستأمنك على أشياء كثيرة. أما إن اشتريت ورق اللعب المُسمّى «كوتشينة» فسأغضب منك. وحين يذهب الولد ليشتري ورق اللعب المُسمّى «كوتشينة» ، هل اشترى ذلك غصبا عن أبيه؟ لا. لكن الولد يصبح غير محبوب من أبيه. هذا هو الفارق بين المُراد كونا والمُراد شرعا. وبين المُراد كونا لا شرعا. والمُراد شرعا لا كونا. {أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} كان ذلك كونا؛ لأنه سبحانه خلقهم قابلين للتطهير وقابلين لغيره، فإن فعلوا أي شيء فهم لن يفعلوه غَصبا عن الله؛ لذلك يذيل الحق الآية: {لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} فكأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3144 معنى ذلك أن في قلوبهم أشياء ضد الطهارة، ولهم في الدنيا خزي. والخزي يطلق على الفضيحة ويطلق على الاستحياء، والمعنيان يلتقيان. وهنا في مجال هذه الآية: أي خزي وأي فتنة؟ إنهما فئتنا؛ المنافقون واليهود. وكان المنافقون كلما فعلوا شيئا ينفضح. وعندما يبيِّتون أي شيء فإن الله يخبر رسوله بما يبيِّتون. {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30] وكذلك الذين هادوا: يأتيهم الخزي أي الافتضاح، أي أن يصيروا إلى المُسترذل بعد أن كانوا في المُستحسن. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل المدينة واليهود سادة هذه البقعة؛ سادتها علما لأنهم أهل كتاب، أما الأوس والخزرج فأُميون لا يعرفون شيئا. وكان اقتصاد المدينة في أيدي اليهود، من مال وصنعة وزراعة. وعنجهية الجاه. وعندما يأتي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة يجدهم السادة، ثم ينفضح أمرهم وكذبهم، ويتم إجلاؤهم، وتُسبى نساؤهم ويُقتل بعضهم. وعندما يدبرون كيدا لرسول الله، يفضحهم الله، وكل ذلك خزي، وليس الخزي هو الجزاء الوحيد لهم، بل يلقون في الآخرة عذاباً أليماً. ويقول الحق من بعد ذلك: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3145 وفي اللغة ألفاظ مفردة، مثال: «سجنجل» وتفتح القاموس فتجد معناها « الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3145 البلور» ، وكذلك الصفا والمروة؛ وعندما تبحث في القاموس عن كلمة «مروة» تعرف أن معنى اللفظ بعيد عن النسبة، فأول عمل للغة أن تعرف معنى الألفاظ بعيداً عن نسبتها. ومهمة القاموس أن يشرح لك معنى اللفظ بعيداً عن النسبة دون إثبات أو نفي، مثال ذلك «الجو» معناها هو ما يحيط بك من هواء أو غير ذلك، لكن القاموس لا يشرح هل الجو مُكفهر أو صافٍ أو باردٌ. وإن تقدمنا مرحلة أخرى وأخذنا اللفظ لنصنع له نسبته، كأن نقول: «الجو صحو» ، هنا ننتقل من فهم معنى كلمة «جَوّ» ، إلى أننا نسبنا الصحو إليه. والكلام المفيد يأتي في النِسب. ولا تأتي النِسب إلا بعد معرفة معاني الألفاظ. والنِسب تعني أن ننسب شيئا إلى شيء، كأن نقول: «محمد مجتهد» هنا نسبنا لمحمد الاجتهاد، وذلك بعد أن عرفنا معنى كلمة «محمد» بمفردها، ومعنى «مجتهد» بمفردها. إذن الكلام المفيد يتأتى في النسب. وقد تكون الإفادة بضميمة كلمة إلى ما سبقها، فعندما يسألك إنسان: «من عندك» ؟ فتقول: «محمد» ؛ هذا القول أفاد؛ لأنه انضم إلى كلمة أخرى فصار المعنى: «محمد عندي» . إذن هناك نسب، والنسب هي أن تنسب حكماً إلى شيء إما إيجابا وإما نفياً. والنسبة تنقسم إلى قسمين؛ نسبة واقعة، ونسبة غير واقعة. وإن كانت النسبة واقعة فهل تعتقدها؟ وهل تستطيع أن تقيم عليها دليلاً؟ إن كانت النسبة الواقعة ومقام عليها الدليل تكون علماً. وإن كانت نسبة وواقعة وأنت تعتقدها ولا تستطيع أن تدلل عليها، فهذا تقليد، مثل الطفل الذي يقلد أباه فيقول: «الله أَحد» ، والطفل في هذه الحالة لا يستطيع أن يقيم على هذه النسبة دليلاً. إن العلم أعلى مراتب النسب لأنه نسبة معتقدة وواقعة وعليها دليل. أما إذا كانت نسبة معتقدة وغير واقعة، فهذا هو الجهل؛ لأن الجاهل هو الذي يعرف الشيء على غير وجهه الصحيح. أما الأمي فهو الذي لا يعرف شيئا ونجد صعوبة في الشرح للجاهل، مثال ذلك الذي يقول الأرض مبسوطة ويدافع عنها، إنه يقول نسبة يعتقدها، ولكنها غير الواقع لأنها كروية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3146 والجهل - إذن - أن تعرف نسبة تعتقدها وهي غير واقعة. ولا يرهق الدنيا غير الجاهل، لا الأمي؛ لأن الأمي له عقل فارغ يكفي أن تقول له الحقيقة فيصدقها، أما الجاهل فيحتاج إلى أن نخلع من أفكاره الفكر الخاطئ ونضع له الفكر الصحيح. أما إن كانت النسبة غير واقعة. فالنفي فيها يساوي الإثبات، وهذا هو الشك. وإن كانت هناك نسبة راجحة فهو الظن. والنسبة المرجوحة هي الوهم. إذن هناك عدد من النسب: نسبة علم، نسبة تقليد، نسبة جهل، نسبة شك، نسبة ظن، نسبة وهم. وعلى ذلك يكون الكذب نسبة غير واقعة، فإن كنت تعتقدها فأنت من الجاهلين. ويقابل الكذب الصدق، وعندما يقول الحق: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} . فالنسبة هنا غير مطابقة للواقع. ويقتنص الملبِّسون بعض النسب التي تأتي في بعض من أسلوب القرآن ويقولون: في القرآن كلام لو مَحَّصناه لوجدناه غير دقيق. مثال ذلك: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] كلام المنافقين هنا قد طابق كلام الله، ولكن لماذا يقول الحق من بعد ذلك: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] النسبة واحدة، لكن الله يكذب المنافقين. وإن فطنا إلى قول الله حكاية عنهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} [المنافقون: 1] أي أن الله يُكذِّب شهادتهم، لأن محمداً رسول الله بالفعل، ولكنهم كاذبون لأنهم لا يعتقدون ذلك، فالشهادة هي ما يوافق اللسان ما في القلب. إذن قوله الحق: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي أن عملهم الاستماع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3147 للكذب، وأكل السُّحت وكأنهم يرهقون إن أكلوا حلالاً، وأكَّال صيغة للمبالغة؛ وتكون إما في الحدث، وإما في تكرار أنواع الحدث. فيقال: «فلان أكال» ، و «فلان أكول» وهو الإنسان الذي يأكل بشراهة أو يأكل كثيراً، والمبالغة - إذن - إما أن تكون في الحدث وإما في تكرير الحدث. {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} ومادة «سَحت» تعني «استأصل ومحا» ، ولكنها تزيد أنها استأصلته استئصالاً لم يبق له أثراً وتعدى الاستئصال إلى ظرفه. مثال ذلك عند ظهور بقعة من زيت أو طعام على ثوب، نستطيع استئصال البقعة، ونستطيع المبالغة في استصالها إلى أن تنحت من الثوب. والسُّحت استئصال مبالغ فيه لدرجة الجوْر على الأصل قليلاً. أي يستأصل الذي جاء ومعه بعض من الأصل أيضاً؛ لذلك جاء المفسرون إلى هذا المعنى في شرح الرِّبا لأن الله يصفه بالقول: {يَمْحَقُ الله الربا} [البقرة: 276] والربا في مفهومنا أنه زيادة، ولكن الحق أوضح لنا أنه ليس بزيادة؛ لأنه يَدْخل ويستأصل ويأكل ويكحت أصل المال. وظاهر الرِّبا وباطنه محق واستئصال. أما الزكاة فظاهرها نقص، ولكنها نماء، وبذلك نرى اختلاف مقاييس الخلق عن مقاييس الحق. والمثل الواضح: أن النفس تلتفت دائماً إلى رزق الإيجاب، ولا تلتفت إلى رزق السلب. فرجل راتبه خمسمائة جنيه، وآخر راتبه مائة جنيه، صاحب الراتب البالغ الخمسمائة فتح الله عليه أبواباً تحتاج إلى ألفٍ من الجنيهات، والذي يأخذ مائة جنيه سَدَّ الحق عنه أبواباً لا تأخذ منه كل راتبه بل يتبقى له عشرة جنيهات. هناك - إذن - رزق إيجاب يزيد الدخل، ورزق سلب أن يسلب الحق عنك المصارف في المصائب والمهالك ويبارك لك فيما أعطاك. والسًّحْت هو كل شيء تأخذه من غير طريق الحلال؛ كالرشوة أو الربا أو السرقة أو الاختلاس أو الخطف. وكل أنواع المقامرة والمراهنة، كل ذلك اسمه سُحْت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3148 {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وهذا القول دليل على أن أُذَنَهُم اعتادت سماع الكذب ويقبلون عليه. وعندما نقول نحن في الصلاة: «سمع الله لمن حمده» ، أي أننا ندعو الله أن يقبل الحمد. وهم سماعون للكذب أي يقبلون الكذب. والسماع جارحة، والأكل بناء ما به الجارحة لأنه مقوم لها. مثلما يأكل لينمو، وإن كان ناضجاً يحفظ له الطاقة والقدرة. فالنّمو - إذن - معناه أن يدخل جوفه أكثر مما يخرج منه. وبعد فترة يدخل إلى جسمه على قدر ما يخرج منه، ثم الشيخوخة نجد فيها أن ما يخرج أكثر مما يدخل. وماداموا سماعين للكذب أكَّالين للسُّحت، فهم في بوارٍ دائم، لأن أكل السُّحْت حيثية من حيثيات الاستماع المصدِّق للكذب؛ لأنهم قد بنوا ذرات أجسادهم من حرام، فكيف ترفض آذانهم الكذب؟ بل آذانهم تستدعي الكذب، وألسنتهم تحترفه. وعيونهم تستدعي المحارم، وأيديهم تستدعي السرقة، إنها الأبعاض التي بناها أصحابها من حرام. ولم يقل عنهم: «سامعون» ، بل قال: «سماعون» أي جعلوا صناعتهم أن يتسمعوا، وهم الجواسيس، وإلا فإذا كان الأمر غير ذلك لكان كل من سمع كذبا يُعَد من هؤلاء. والقول مقصود به من جعل السماع صنعة له، ولا يجعل إنسان السماع صنعة له إلا إذا كان عينا لغيره، والعين للغير يتلصص على أمانة المجالس، ولكل مجلس أمانة. فإذا ما حضر إنسان مجلسا فليس له أن ينقل ما في ذلك المجلس إلى غيره إلا أن يكون ذلك هو صناعته، وتلك هي مهمته. {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وهنا قضيتان. فعل السماع للكذب سببه أكل السُّحت، أم أكل السُّحت سببه السماع للكذب؟ إن الحق سبحانه وتعالى حينما خلق الإنسان من طينة الأرض وصوره على شكل آدم نفخ فيه من روحه، وحين صوره من طينة الأرض جعل كل مقومات حركة حياته من طبيعة طينة الأرض، فإذا ما أخذ الإنسان شيئاً من حِلٍّ، اعتدلت الذرات في نفسه على الهيئة التي خلقها الله. وإن تدخل فيها بحرام جعل في الذرات اختلالا تكوينيا. وهذا الاختلال التكويني هو الذي جعل آكل الحرام سماعا للكذب. ولو لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3149 يكن فيه ذلك الاختلال التكويني الذي صنعه بنفسه لما سمع الكذب أبداً. أو أنه عندما أكل السُّحْت صار سماعا للكذب. أو سمع كذبا فصار أكَّالاً للسُّحْت. ولنلاحظ أن الحق لم يقل: «آكل للسُّحْت» ، ولم يقل: «سامع للكذب» ؛ ولكنه قال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي أنهم تعودوا سماع الكذب وتعودوا أكل السُّحت، فالواحد منهم أخذ حراما من أول الأمر، وعندما صار أكالا وسمَّاعًا للكذب في آن واحد، اختلت ذرَّات تكوينه، ولم يعد في أعماقه نور ليرفض الكذب. بل أقبل عليه، ويغريه الكذب ثانية بأن يأكل السُّحْت، والأمر دائر بين سماع كذب وأكل سحت. وقضية الكذب هي قضية صراع الباطل مع الحق. ومادام الكذب غير مطابق لوازع كوني أو لواقع منهجي تكليفي فهذا يصنع خللاً في الكون. وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا المثل في ذلك جاء بالمثل في أمرٍ حسي حتى نراه جميعا: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] أي أن كل وادٍ تحمَّل على قدر طاقته. ومن بعد ذلك يقول الحق: {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} [الرعد: 17] فقبل أن ينزل السيل من على الجبال إلى الوديان، يأخذ كل الأشياء التي تصادفه على الجبل من آثار الرياح، ومن أوراق النبات، فينزله إلى الوادي، وتلك هي الأشياء التي تصنع الزِّبَد ونقول عنه في لغتنا العامية: «الرَّغاوي» . {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} [الرعد: 17] و «رابياً» أي غائماً وعاليا وطافيا فوق المياه، لماذا؟ لأنه مادام زبداً ففيه فقاقيع هواء تجعل حجمه أكبر من وزنه. وتصبح كثافته أقل من المياه؛ لذلك يطفو فوقها. وماذا يكون الموقف بعد ذلك؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3150 {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} [الرعد: 17] ومن العجيب أنه سبحانه جعل المثلين في الماء والمضاد له وهو النار، فالماء يأتي بزبد وغثاء يطفو على المياه، وكذلك النار حين ندخل فيها المعادن. ومن رأى الحداد ينفخ في كيره على قطعة من الحديد يرى الخبث، والمواد الغريبة الممتزجة بالحديد والتي تنفصل أثناء الصهر عن الحديد ليصير صافيا. إذن فهناك زبد في الحديد تخرجه النار عند صهره، وزبد يطفو فوق الماء. {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} [الرعد: 17] ولهذا نرى الباطل وقد أتى عليه زمن ليطفو فوق السطح، ويخرج الخَبَث طافيا على أصيل الحديد. لكن أيظل الباطل كذلك؟ يُطمئِنُنا الحق أنه يحمي الحق فيقول: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17] وحين نرى الباطل وقد طفا على السطح نفاجأ بعد وقت من الزمن أن الزبد ينتهي صافياً. فإذا رأينا الباطل مرة يعلو، فلنعلم أنه لا بقاء لهذا العُلو؛ لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض. ولماذا لا يُعلن الحق عن نفسه من البداية؟ أراد الله ذلك ليجعل الباطل من جنود الحق، ولو لم يَعَض الباطل الناس ويُتعبهم أيتجهون إلى الحق؟ لا؛ لذلك كان لا بد أن يأتي إليهم الباطل الناس ويُتعبهم ليبحثوا عن الحق. وهكذا نرى الباطل كجندي من جنود الحق. وضربنا المثل من قبل وعرفنا أن الألم عند المريض من جنود العافية، فلولا ذلك الألم لاستشرى الداء دون أن يشعر المريض، فكأن الألم يلفته إلى موضع الداء ويدفعه للبحث عن وسائل الشفاء. وبذلك يتعرف على حلاوة العافية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3151 إذن فالباطل من جنود الحق والألم من جنود الشفاء؛ لأن أمور الحياة لو سارت على وتيرة واحدة لما عرف الإنسان أوجه الحياة، فلو لم يأتِ الألم إلى المريض لأكله المرض. فإذا كان الألم من جنود الشفاء، فالكفر أيضاً من جنود الإيمان؛ لأننا عندما نرى الكُفر ونشهد آثار الكُفر فساداً في المجتمع، نتساءل: ما الذي يخلِّصنا من ذلك؟ ونعرف أن الذي يخلصنا من الفساد هو الإيمان. وأُكرِّر دائماً: كلمة الكُفر بذاتها هي الدليل الأول على الإيمان؛ لأن الكُفر هو السَّتْر، ومادام الكفر هو السَّتر، والكافر يستر الإيمان، وظهور الكفر على السطح دليل وجود الإيمان في الأصل. ومادام الحق قد قال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فلا بد بعد هذا التشخيص أن يرسم لرسوله أسلوب التعامل معهم: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} . فأنت يا رسول الله بالخيار بين أن تحكم بينهم في القضية التي جاءوا من أجلها أو تعرض عنهم، فليس عليك تجاههم إلزام ما؛ لأنهم السماعون للكذب الأكَّالون للسُّحْت. وهم حينما يأتونك يا رسول الله طلباً لحكم إنما يفعلون ذلك لا رغبة في معرفة الحق ولا هم يلتمسون العدل. بل جاءوك مظنة تيسير امر الباطل وأكل السُّحت لنفوسهم. وقد طلبوا الحكم في قضية الزِّنا وعندهم في التوراة كان الرَّجم عقاباً للزنا. لقد ذهبوا لرسول الله لأنهم أرادوا أن يستروا حكم الزِّنا في التوراة، والاكتفاء بالجلد وتسويد وجه الزاني وركوبه حماراً في الوضع العكسي بحيث يكون وجهه في اتجاه الذيل وقفاه في اتجاه رأس الحمار، وأن يطوفوا بالزاني وهو على هذه الهيئة حول البلدة. ولما لم يسمعوا ذلك الحكم من الرسول ابتعدوا عنه. إذن هم يطلبون التخفيف لأنهم كانوا سماعين للكذب واكَّالين للسُّحت. ولأن الذي سيطبق عليه الحد رجل له جاه وله مكانة وهم يريدون التقرب إليه بتخفيف العقاب عنه. وهل هناك تعارض بين قول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وبين قول الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله} [المائدة: 48] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3152 لا تعارض. والبعض يقول: إن في قوله الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله} إلزاماً. ونقول: المعنى الواضح هو أنك يا رسول الله، إن رجحت جانب أن تحكم وتقضي بينهم فاحكم بما أنزل الله، ولننظر إلى الأداء القرآني لأن المتكلم إله وحكيم: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} . ونلحظ أن الأمر هنا جاء بطريقة تؤكد أن الإعراض ممكن؛ لأنهم أرادوا أن يحكم لهم رسول الله على هواهم، وطمأنه الله بأنه سيحميه من شرهم إن أعرض عنهم، وكأن الحق يقول لرسوله: إياك أن تفكر حين تعرض عنهم أنهم سينالونك بالشر لأنك لم تحقق لهم التيسير الذي ابتغوه عندك {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} وإياك أن تجعل الضرر منهم مُرجِّحاً للحكم؛ فأنت بالخيار؛ إما أن تحكم وإما أن تعرض. ولا تخش من شرهم لأن الذي أرسلك يحميك. {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} والحكم في هذه الآية يأتي كالقوس في البداية وفي النهاية، والحكم بينهم يكون بالقسط؛ أي بالعدل. والعدل ليس كما يراه الهوى ولكن حسب ما أنزل الله. أي أن الله يحب الذين يزيلون الجوْر. ومادام الحكم بالعدل يأتي ليزيل الجور، فكأنه كان من قبل جوْرٌ مُقنن؛ إذن ف «أقْسَط» أي أزال جوراً مقنناً وأعاد توازن الميزان ليعود الانسجام بين الإنسان والكون. والكون كله يسير بميزان؛ الأرض تدور والشمس تؤدي مهمتها، ولا كوكب يصطدم بكوكب آخر: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فإن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الاختيارية، فانظروا إلى الأمور الإجبارية التي حولكم، فإن كانت بنظام وميزان واعتدلت الأمور، اعدلوا - إذن - في إدارة شئونكم حتى تنسجموا كما انسجم الكون، ولذلك نقرأ قوله تعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 5 - 8] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3153 أمامكم الموازين العليا في الكون، ولا تستطيعون إفسادها لأنها تسير بنظام لا دخل لكم به؛ لذلك عليكم أن تتعلموا منها وأن تديروا أمور حياتكم بميزان حتى تستقيم أموركم الاختيارية. {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 8 - 9] فإن رأيت حولك كونا غير مُضطرب، وغير مُتصادم، ويؤدي حركته دون تعارض أو تصادم، فافهم أنه قائم على ميزان الحق، ووضع سبحانه لك ميزاناً في الأمور الاختيارية، والمرجحات الاختيارية هي أحكام التكليف من الله، فإن أردت أن تستقيم لك الأمور الاختيارية فسر بها على الميزان الذي وضعه الله. ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3154 يوضح سبحانه: كيف يأتون طلبا للحكم منك وعندهم التوراة، وهم لم يؤمنوا بك يا محمد رسولاً من الله، فكيف يرضاك من لم يؤمن بك حَكَما؟ لا بد أن في ذلك مصلحة مناقضة لما في التوراة، ولو لم تكن تلك المصلحة مناقضة لنفذوا الحكم الذي عندهم، وهم إنما جاءوا إليك يا رسول الله طمعا في أن تعطي شيئا من التسهيل وظنوا - والعياذ بالله - أنك قد توفر لهم أكل السُّحت وسماع الكذب. {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة} وهي مسألة عجيبة يجب أن يُفظن إليها؛ لأن عندهم التوراة فيها حكم الله، فلو حكموك في أمر ليس في التوراة لكان الأمر مقبولاً، لكن أن يحكموك في أمر له حكم في التوراة، وبعد ذلك يطلعك الله عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3154 لتكشفه فتقول يا رسول الله: هاتوا ابن صوريا ليأتي بحكم التوراة. ويعترف ابن صوريا بوجود حكم الرَّجم في التوراة. إذن هم رغبوا في الاحتيال، وأراد الله أن يثبت لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوناً في الإعلام عن هؤلاء المارقين على أحكام الله، هم يعلمون أن الرسول أُمّي، لم يقرأ ولم يكتب، فمن الذي أخبره بالحكم الموجود بالتوراة؟ إذن أخبره من أرسله، وإذا كانوا قد أرادوا البحث عن حكم مُخفَّف فالحق أراد ذلك ليكون سَبباً من أسباب الخزي لهم. {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين} [المائدة: 43] وهذا دليل على أن الرسول عندما حكم بغير مطلوب تيسيرهم. أعرضوا عن الحكم. ولو كانوا طالبين للحكم بادئ ذي بدء لقبلوا الحكم بالرجم كما قاله لهم رسول الله، لكنهم غير مؤمنين حتى بتوراتهم. ويقول سبحانه من بعد ذلك: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3155 الهدى هو الطريق أو الدرب المُوصِّل للغاية. وتأتي على الطريق أحقاب الليل والنهار، فالطريق مُظلم ليلاً، وقد تعترض السائر فيه عقبات، أو قد لا يمشي السائر في سواء السبيل أي وسط الطريق، فيقع في حفرة أو يصطدم بحجر. ويوضح الحق هنا: لقد صنعت لكم الدرب وأَنرته لكم حتى لا تصطدموا بشيء أو تأتي لكم عقبات، وتمثَّل ذلك في المنهج الذي جاء به موكب الرُّسل كلهم. وقديما كان العالم مفككا، متناثر الجماعات، فلا توجد مواصلات، وتعيش كل جماعة في انعزال وشبه استقلال، فإن حصلت داءات في بقعة ما تظل محصورة في هذه البقعة، ويأتي رسول ليعالج هذه الداءات، فهذا يعالج أمر عبادة الأصنام، وذلك يعالج مسألة الكيل والميزان، وثالث يعالج الأمور المنظمة للحياة الزوجية عند اليهود. هذه الداءات كانت متعددة بتعدد الجهات، وعندما أراد الحق سبحانه أن يبصر الناس بأسرار كونه ليستنبطوا منها ما يقرب المسافات ويمنع المشقات لتلتقي الأمم. وعندما تلتقي الأمم لا يوجد فصل بين الداءات، فالداء الواحد يحصل في الشرق لينتقل إلى الغرب. وكأن الداءات تتحد في العالم أيضاً. إذن لا بد أن يجيء الرسول الجامع ليعالج الداءات كلها، فيأتي صلّى الله عليه وسلم الجامع المانع، فإذا ما قال الحق: إنه أنزل التوراة فيها هدى ونور، فالإنجيل أيضاً فيه هدى ونور، وكل هدى ونور في أي كتاب إنما هو للداءات الموجودة في البيئة المنعزلة. مثال ذلك أن سيدنا إبراهيم كان موجوداً، ومعه في الزمن نفسه سيدنا لوط. وها هوذا سيدنا موسى كان موجودا. وكذلك سيدنا شعيب، إذن كانت الرُّسل تتعاصر في بعض الأحيان لأن كلا منهم يعالج داء معينا. وهكذا كانت الرسالات تأتي محدودة الزمان ومحدودة المكان. أما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد بعثه الله للناس كافة بكل أجناسهم وتقوم على منهجه الساعة؛ لذلك لم تعد الأرض في حاجة إلى رسول آخر، وصار من المنطقي أن يكون هو الرسول الخاتم. {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ} لماذا إذن يأتي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3156 الحق بإسلام الأنبياء هنا؟ جاء سبحانه بأمر إسلام الأنبياء تشريفا للإسلام لأنه جوهر منهج كل نبي. إننا نجد الشعراء يتفننون في هذا المعنى: ما إن مدحت محمداً بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمدٍ والشاعر الآخر يقول: قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لعمري ولكن منه شيبان فالقبيلة بالنسبة لأبي الصقر هي التي تنتسب إليه وليس هو الذي ينتسب إليها. ويردف قائلا: وكم أبٍ قد علا بابن ذُرَا شرفٍ ... كما علا برسول الله عدنان إذن فالنبيون عندما يصفهم الحق بأنهم أسلموا، إنما يريد الحق أن يشرف الإسلام بأن النبيين أسلموا قيادهم وزمامهم إلى الله لأنهم وجدوه الخير لهم. وإسلام النبيين هو الإسلام بمعناه الكامل، أي هو الانصياع لأوامر الله، فكلما فكر نبي منهم في أن هناك شراً سيأتي له بسبب دعوته، أو أن يضطهده أحد، أو يحلو لأحدٍ أن يسيء إليه فهو يسلم أمره لله؛ لأن الرسول منهم إنما يقول كلمة الحق ولا يبالي بما يحدث بعدها. {يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} وهم يحكمون بالتوراة بين الذين هادوا، أي من يهود، وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار. والرباني منسوب للرب، اي أن كل تصرفاته منسوبة إلى الله. والأحبار هم العلماء حملة أوعية العلم، لكن هل ينفذونه أو لا ينفذونه فهذا شيء آخر. صحيح أن كل عالم وعاءُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3157 علم، لكن قد ينتفع هو بعلمه، وقد لا ينتفع، لكنه ينقل علمه إلى من ينتفع به. ولذلك يقول أحد العلماء: فخذ بعلمي ولاتركن إلى عملي ... وأجْنِ الثمار وخلِّ العود للنار فلا تقل: إن هذا العالم يقول لنا كذا وكذا، ونراه في تصرفاته عكس ما يقول: لأن عليك أن تأخذ ثمرة العلم، واترك العود للنار. ولكن على العالم أن يكون أول من يمتثل ويطبق ما يقوله حتى لا يعذب ولا يدخل تحت قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} . {والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} وعرفنا أن التوراة فيها نور وهدى ويحكم بها النبيون والربانيون والأحبار بالوسيلة التي طلب الله منهم أن يحفظوها، وبما طلبه رسولهم منهم أن يحفظوا هذه التوراة. وقال الحق: «استحفظوا» ولم يقل: «حفظوا» ليبين لنا الفارق بين كل كتاب سابق للقرآن وبين القرآن؛ لأننا عرفنا أن كل رسول قد جاء بمعجزة تدل على أنه صادق البلاغ عن الله. ولكل الرسل من السابقين على رسول الله معجزة منفصلة عن المنهج، مثال ذلك سيدنا موسى فمعجزته العصا وفلق البحر، أما منهجهه فهو التوراة. وسيدنا عيسى معجزته إبراء الأكمه والأبرص، والمنهج الذي جاء به هو الإنجيل. أما سيدنا رسول الله فمعجزته هي عين منهجه، وهي القرآن. وكان الأمر الموجود بالنسبة لكل رسولٍ مرتبطا بزمانه وجماعته ومحتاجا إلى معجزة مناسبة ومنهج مناسب، لكن الرسول الذي أرسله الله إلى الناس جميعا وخاتما للأنبياء لا بد أن تظل معجزته عين منهجهه بحيث يستطيع أي مسلم أن يقول حتى قيام الساعة: محمد رسول الله وهذه معجزته وهي عين منهجهه. وسيظل القرآن معجزة ظاهرة إلى أن تقوم الساعة؛ لأن الله أرادها مختلفة عن بقية المناهج والمعجزات. فالمعجزات السابقة كانت كعود الثقاب الذي يشعل مرةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3158 واحدة؛ فمن رآه لحظة الاشتعال فالأمر بالنسبة إليه واضح، أما من لم يره فهو لن يصدق تلك المعجزة إلا ان يخبره من يصدقه. وقد استحفظ الله الربانيين والأحبار بالتوراة، أي طلب منهم أن يحفظوها، وكان هذا أمراً تكليفياً، والأمر التكليفي عُرضة لأن يُطاع وعُرضة لأن يُعصى. واستحفظهم الله التوراة والإنجيل: {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 14] وصار أمر المنهج منسياً. وليس على بالهم كثيراً؛ لأن الأمر إذا توارد على البال واستقر دائما في بؤرة الشعور يظل في الذهن، لكن النسيان يأتي عندما يكون الأمر بعيداً عن البال. والحق طلب منهم أن يحفظوا المنهج، ولكنهم - ما عدا النبيين - لم ينفذوا، وكل أمر تكليفي يدخل في دائرة الاختيار، ولذلك نجد أن الأحبار والربانيين قد نسوا، وما لم ينسوه كتموه. وأول مرحلة من مراحل عدم الحفظ أنهم نسوا، والمرحلة الثانية هي كتمان ما لم ينسوه، والثالثة هي: ما لم يكتموه حرَّفوه ولووا به ألسنتهم. وياليتهم اقتصروا على هذه المراحل فقط، ولكنهم جاءوا بأشياء وقالوا: هي من عند الله وهي ليست من عند الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله} [البقرة: 79] إذن فالحفظ منهم لم يتم؛ لذلك لم يدع الله القرآن للحفظ بطريق التكليف؛ لأنه سبحانه اختبر البشر من قبل، ولأنه أراد القرآن معجزة باقية؛ لذلك لم يكل الله سبحانه أمر حفظه إلى الخلق، ولكنه تكفل - سبحانه - بأمر حفظ القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ومصداق هذا النص، أن بعضاً من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في هجر منهج الإسلام ومنهج القرآن إلا أنك تجد عجباً، فبمقدار بُعدهم عن منهج الإسلام تطبيقاً يحافظون على القرآن تحقيقاً، فيكتبون القرآن بكل ألوان الكتابة وبكافة الأحجام، فهناك حجم ذهبي ترتديه النساء في صدورهن، وحجم يوضع في اليد، وبعد ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3159 نجد الكفرة أنفسهم يخترعون طريقة لكتابة القرآن في صفحة واحدة. إذن فالله يُسخر لحفظ القرآن حتى من لم يكن مسلماً. وتلك خواطر من الله. ونحن نرى كل يوم من يبتعدون بسلوكهم عن المنهج لكنهم يرصدون المال لحفظ القرآن. ونجد القرآن محققاً بألف وسيلة حفظ: الرجل يضع في سيارته مصحفاً، وفي حجرة نومه مصحفاً، وقد تكون المرأة سافرة وصدرها مكشوف ولكنها تعلق مصحفاً ذهبياً. وهذا يثبت لنا أن حفظ القرآن ليس أمراً تكليفياً. بل هو إرادة الله. فلو كان الأمر تكليفياً لكان نسيان القرآن وارداً؛ لأن المسلمين ابتعدوا في بعض أمورهم عنه كمنهج، ويناسب ذلك أن ينفصلوا عنه حفظاً. ولكن الأمر صار بالعكس. فعلى الرغم من بُعد المسلمين عن المنهج، ولكن حفظ القرآن لا يقل أبداً، ومن العجيب أن الكثيرين من المسرفين على أنفسهم، إن سمع واحد منهم أنّ شيئاً يمس المصحف، يقيم الدنيا ويقعدها، فالمسألة ليست مسألته، ولكنها مسألة الحافظ جل شأنه. وإن حدث أي تحريف يسير في القرآن من أعداء الإسلام، نجد أمة الإسلام تقف وقفة رجل واحد. ولقد أراد بعض المدلسين أن يدسوا على القرآن ما ليس فيه وجاءوا إلى آية في سورة الفتح وهي: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وقالوا: «محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وكأنهم يرغبون في زيادة التكريم لرسول الله، فلما عرف المسلمون ذلك قامت ضجة وأحرقوا تلك المصاحف. ومنع المسلمون التحريف مهما كان باب الدخول إليه. {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون} والخشية: خوف متوَهَّم ممن تظن أنه قادر على الضر، ولا أحد غير الله قادر على النفع والضر؛ لذلك لا يصح أن يخاف الإنسانُ مِن سواه، أما أن تظن أن السلطان أو القريب منه قادر على الضر، فهذا أمر غير صحيح، وليخشَ كل إنسان الحق سبحانه وهو جل وعلا نصحنا أن تكون الخشية منه دون سواه. وإن غيَّر أحد أحكام المنهج من أجل السلطان أو أقارب السلطان أو أصدقاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3160 السلطان فذلك عين الفساد. والآفات والشرور تأتي من ذلك. بل قد لا يدري السلطان شيئاً عن ذلك، وقد يتدخل قريب للسلطان - دون علم السلطان - ليطلب من العلماء تغيير بعض من المنهج ولا يستسلم له إلا الضعاف منهم، وقد فطن سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى هذا الأمر فقال: إن الفساد قد لا يأتي من السلطان، ولكن من الذين حول السلطان. والخشية هنا تكون من غير الله، ولذلك كان سيدنا عمر يجمع أقاربه والملتفين حوله ويقول لهم: لقد اعتزمت أن أصدر كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء من هذا جعلت نكالاً للمسلمين. هذا هو أسلوب من أداء أن يخدم ويحكم ولا يحمل أوزاراً، ونرى صور الفساد غنما جاءت نتيجة مخالفة القاعدة الحكيمة: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون} . ويتابع الحق من بعد ذلك: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} وثمن آيات الله مهما بولغ في تقييمها فلن يتجاوز نفعه هذه الدنيا؛ لأن الدنيا - كما قلنا سابقا - لا تقاس بعمرها الحقيقي أي إلى أن يُفني الله البشر، وإنما دنيا كل حيّ تقاس بعمره فيها. فهب أن الحياة طالت لملايين السنين فما نفع الفرد المحدود العمر بهذه الملايين من السنين؟ إذن فدنيا كل إنسان هي مقدار عمره في الحياة. وعمر الفرد في الدنيا له حد محدود غير معروف لأحد غير الله، فلكل أجل كتاب. ولذلك تجد واحداً يعيش متوسط الأعمار وهو سبعون عاماً. ويختلف العمر من إنسان لآخر، وقد يموت آخر عند الستين وثالث يموت في الأربعين ورابع يموت في المائة، وخامس يموت وهو طفل رضيع. إذن فدنيا الفرد قد تكون لحظة. ومادامت مسألة العمر لا يحكمها زمن ولا يحكمها سبب فهي - إذن - بإرادة الحق غيب. وأقضية الموت في الوجود جعلها الله شائعة في كل زمن ولم يجعلها الحق بعد الميلاد. بمعنى أن يولد الإنسان ليموت من بعد ذلك، لا، فقد يموت الكائن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3161 البشري وهو جنين في بطن أمه؛ فهذا حمل يسقط من بعد ساعة، وذاك حمل يسقط من بعد شهر أو شهور، وجعل الحق لنا ذلك لنأخذ من الأمر الغيبي وهو الجنين في البطن مراحلَ تكوينه. إنه يعطينا شكل الجنين بعد نصف ساعة من التكوين، ويعطينا شكل الجنين من بعد ساعة. وكل الأزمنة في الحياة والموت موجودة. وعندما نحلل تلك الأشكال نجد أمامنا كل أطوار الجنين، وكل أطوار الحياة ليكون ذلك واضحا جليا حتى لا يحسب أحد لنفسه عمراً في هذه الدنيا. ومادام الثمن الذي يأخذه المرتشون ليغيّروا آيات الله وأحكامه سينفعهم في هذه الدنيا، وأعمارهم في هذه الدنيا محدودة، كان عليهم أن يتذكروا أن حياتهم زمنياً قليلة بالنسبة لعمر الدنيا. وحتى يقوم الإنسان بعملية اقتصادية لا بد أن يتعرّف إلى أن عمره محدود بقدر سنوات مجهولة بالنسبة له في هذه الحياة، وهو عمر محدود مهما طال. وإن قارنها الإنسان بالحياة في العالم الآخر فسيجد أن عمره الدنيوي منهي، فإن قايضه بعمر غير منهي هو عمره في الآخرة، فذلك هو الفوز العظيم؛ لأن وجود الإنسان في الدنيا مظنون، ووجود الإنسان بالنسبة للآخرة متيقن. ونعيم الفرد في الدنيا هو على قدر إمكاناته ولو في السلب. ونعيم الإنسان في الآخرة ينسب إلى طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى. إذن فأي صفقة تكون هي الرابحة؟ محدود مقابل غير محدود، ومظنون مقابل متيقن، ونعيم على قدر مكنة وسلطان الفرد ولو بالسلب مقابل نعيم على قدر طلاقة قدرة الحق، أي صفقة هي الرابحة؟ إذن فصفقة الدنيا قليلة بالنسبة لما وعد الله به المتقين. ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} . ماذا يعني الحكم بما أنزل الله؟ . نعلم أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل قضية مخالفة في الكون حكماً، فإذا أردت أيها الإنسان أن تحكم في أمرٍ فعليك أن تبحث عن جوهره بسلسلة تاريخ هذا الأمر. ونجد أن قمة كل الأمور هي العقيدة، وهو وجود الواحب الأعلى وهو الله، فإن حكمت بأنه غير موجود فذلك هو الكفر.؟ وإن آمن الإنسان بالله ثم جاء إلى أحكام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3162 الله التي أنزلها وقال: لا ليس من المعقول أن يكون الحكم هو هكذا. فهذا لون من رد الحكم على الله وهو لون من الكفر. أما إن آمن الإنسان بالحكم وقال: إنني أصدق حكم الله، ولكن لا أقدر على نفسي فهل هذا كفر؟ أم هذا ظلم؟ . إنه ليس كفراً، ويكون ظلماً إن كان حكماً بين اثنين. وهو فسق إن كان بين الإنسان وبين نفسه؛ لأنه يفسق عن الحكم كما تفسق الرطبة عن قشرتها. فالفاسق هو من له إطار من التكليفات ويخرج عن هذا الإطار كالرطبة التي خرجت من قشرتها. ومادامت الرطبة قد خرجت من قشرتها فهي عرضة للتلوث. إذن فإن سمعت قول الله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] وعندما تسمع: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} [المائدة: 45] وعندما نسمع: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون} [المائدة: 47] فتذكر أحكام الله وحاول أن تقدر على نفسك. وقيل: إن ذلك لليهود؛ لأن الحق قال: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] وقيل: إن الثانية جاءت للنصارى الذين لم يحكموا بالإنجيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3163 ولنا أن نقول رداً على مثل هذه الأقوال: امن الممكن أن يكون ذلك للأديان السابقة على الإسلام وليس موجوداً بالإسلام؟ ذلك أمر لا يقبله العقل أو المنطق، فهي آيات نزلت في مناط الحكم عامة. فإن حكم إنسان في قضية القمّة وهي العقيدة بغير الحق، فذلك هو الكفر. وإن ردّ الإنسان الحكم على منشئه - وهو الحق الأعلى - فهذا لون من الكفر. وإن آمن الإنسان بالقضية وهو مؤمن بالإله فغلبته نفسه فهذا هو الفسق. وإن حكم إنسان بين اثنين وحاد ومال عن حكم الله فهذا هو الظلم. إذن ف «كافرون» و «ظالمون» و «فاسقون» تقول لنا: إن الألفاظ اختلفت باختلاف المحكوم به. فلا يقولن أحد: إن تلك آية نزلت لتلك الفئة، وتلك الآية نزلت لفئة أخرى، وثالثة نزلت لفئة ثالثة، ولكنها أحكام عامة لمناط التكليف عامة. والحق قال في بداية كل حكم «ومَن» ومَن كما نعلم كلمة عامة. والدليل على ذلك أن من يحكم بغير ما أنزل الله إنما هو يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً ورد الحكم على الله. وقال الحق في الآية اللاحقة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45] إنها أحكام تتعلق بجرائم، وعقوبات على جرائم، وهنا يكون الحكم بغير ما أنزل الله ظلماً. إذن فالأمر يختلف حسب المحكوم عليه. وحينما تعرضنا لقضية الخلق الأول وهو خلق آدم، وطلب الله من الملائكة المكلفين بتدبير أمور الخلق في الأرض أن يسجدوا لآدم. وقلنا إن هذا السجود هو رمزية لأن يكونوا في خدمة آدم؛ لأن كل مظهر من مظاهر القوة في الكون لا نرى الملك الذي يديره، فكل قوة لها ملك معين، ولأن ذلك الأمر من الغيب فنحن لا نراه، إنها ملائكة مدبرات أمر. وحين يبلغهم الحق أن الطارش علىلكون وهو آدم، وأنهم في خدمته، ومن أجل ذلك أمرهم بالسجود لآدم. ولذلك نجد أن بعضاً من الملائكة الذين ليسوا من المدبرات أمرا لم يشملهم الأمر. ويكلم الحق إبليس عندما رفض السجود قال سبحانه: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3164 إن «العالين» هم الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يدرون ولا يعلمون بأمر آدم، فقد سأل الحق إبليس: أانت مستكبر عن السجود أم أنت من العالين الذين لم يشملهم أمر السجود؟ وقلنا إن إبليس لم يكن من الملائكة، لأنه بنص القرآن: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] ولذلك لا يصح أن يكون «إبليس» محل خلاف أهو من الملائكة أم لا! فهو ليس من الملائكة. وفي القرآن نص صريح يثبت جنسية إبليس. وهو من الجن. وكان من المختارين، له أن يطيع أو أن يعصي. لأن الجن داخلون في قانون الاختيار. فإن ألزم الجنّي نفسه بمنهج الله إلزاماً يتساوى به مع الملائكة وجب عليه أن يقوم بذلك. ولكنه لم يفعل. وكان من الواجب أن يطيع إبليس الأمر. ومادام الحق هو الذي أمر بالسجود، فالأدنى وهو إبليس كان عليه أن يسجد؛ لأن المراتب محفوظة كما نعلم، فرئيس الجمهورية عندما يدخل على الوزراء فهم يطيعون أمره، وإن كان يجلس مع الوزراء بعض وكلاء الوزارات فهم يطيعون أوامره؛ ذلك أنهم يدخلون في الأمر من باب أولى. ولو كان إبليس أعلى من الملائكة لكان أولى له أن يستجيب لأمر الخالق الأعلى ولا يعصى ويتأبى، أما وإنّه كان أقل من الملائكة فكان لا بد من باب أولى - أن ينصاع لأمر الله. لكن إبليس علل أمر عدم السجود، فقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] وفي آية أخرى قال سبحانه: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] وحين يتأبّى كائن على الحكم، أيتأبّى على الحكم الأصم، أي على الحكم من حيث هو حكم دون النظر إلى الحاكم، أم على مَن حكم بالحكم وهو الأعلى سبحانه؟ . تأبى إبليس على من حكم بالحكم، ولذلك طرده الحق من الجنة وصار ملعوناً. لكن آدم عصى ربه وقرب من الشجرة التي نهاه الله عنها. ومن رحمة الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3165 تعالى أنه جعل في التكليفات مقدمات تنطبق على حالة المكلف نفسه، فلم يقل الحق لآدم: لا تأكل من الشجرة. ولكنه قال: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [البقرة: 35] لأن الحق علم أن آدم إنسان، والإنسان من الأغيار، وهو عندما يرى الشجرة بثمارها قد لا يقدر على نفسه، ولذلك كان من الأفضل ألا يقرب من هذه الشجرة. وسبحانه يريد أن يحمي الإنسان؛ لأن التكليفات التشريعية لا يرفعها الحق، ولا يُعفى المكلف من القيام بها إلا في الأمر الذي ليس للإنسان فيه اختيار، ولذلك أراد الحق أن يحمي الإنسان من الاقتراب من تلك الشجرة حتى لا تغريه وجاء الحق بمثل هذا الأمر في الخمر فلم يقل: لا تشربوا الخمر. ولكنه قال: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] لأن الإنسان لو جلس في مجلس خمر ورأى السُّكارى قد سعدوا وضحكوا فقد تراوده نفسه على شرب الخمر. إذن فالأمر بالاجتناب هنا أبلغ من «لا تشربوه» . ونجد أن تكليفات الحق إنما تاتي للعمل النزوعي، ومعنى العمل النزوعي أن يتحرك الإنسان للعمل. أما بالنسبة للإدراكات فمن الجائز أن يدرك الإنسان الأمر. ويترك الحق لنا حرية حب من نشاء وكراهية من نشاء. ولكن هذا الحب لا يصح أن يصدر عنه عمل نزوعي فنجامله بالباطل. وكذلك الكراهية فليس هناك أمر بالكراهية، ولكن إن كره إنسان إنساناً فلا يصح أن يظلمه. فالمنهيّ عنه هو الظلم، ولذلك قال الحق: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ} [المائدة: 8] أي لا يحملنكم بغض قوم ألا تعدلوا. إذن فالحق لم يحرم البغض لأنه مسألة عاطفية. ولكن التحريم ينحصر على الإقدام على عمل يخل بميزان العدل مع من تكره. ويجب أن يؤمن الإنسان إيماناً جازماً بأن من ظلمه بمعصية، فلا يجازيه الإنسان إلا بطاعة الله. وآدم أكل من الشجرة، فهو - إذن - قد تجاوز مسألة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3166 الاقتراب إلى مسألة الأكل من الشجرة؛ لأنه لو قرب منها لكان مخالفاً، فما بالنا وهو قد أكل منها أيضاً؟ إذن فقد أوغل آدم في المعصية، لكنه قال: (ظلمنا أنفسنا) . وهذا اعتراف واضح بأن حكمك يا الله هو الحكم الحق، لكني لم أقدر على نفسي يا ربي. إذن فهو لم يَرُدَّ الحكم على الله، ولكنه اعترف بأنه لم يقدر على تنفيذ الحكم، لذلك أعطاه الله كلمات ليقولها فيتوب عليه. وسبحانه هو الذي علم آدم كيف تكون التوبة. فآدم - إذن - ليس كإبليس الذي رد الحكم على الله؛ لأن آدم قال: أنا لم أقدر على نفسي. إذن فمن لم يحكم بما أنزل الله رادّاً للحكم على الله ومخطّئاً لله - سبحانه - فهو كافر. وإن كان حكماً بين اثنين وحكم بغير ما أنزل الله فهو ظالم. أما إن كان حكماً علىلنفس ولم يقدر عليه الإنسان فهذا فسق. وكل وصف جاء حسب حكمه. ولا داعي - إذن - للجدل ولا للخلاف ولا ادعاء أن هناك قولاً يقصد به اليهود، وآخر ورد في النصرانية، ولا يصح أن يزين الإنسان الباطل لأحد، لأن ورود الحكم بما أنزل الله في الإسلام أمر جازم يوجب الالتزام به. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3167 لقد كتب الحق على اليهود في التوراة التي وصفها من قبل بأنها هدى ونور، كتب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3167 وأوجب عليهم أن النفس بالنفس، وعلينا أن نأخذ كل أمر وما يناسبه من الحدث. أي أن النفس تُقتل بالنفس. ولكن عندما يقول الحق: {والعين بالعين} ، فهل يعني ذلك أن تقتل العين؟ لا. ولكن العين نقلع مقابل عين. وكذلك {والأنف بالأنف} . أي الأنف المجدوعة، مقابل جدع أنف أخرى. وكذلك قوله الحق: {والأذن بالأذن} أي إصابة اذن بالصمم مقابل إصابة أذن بالصمم. إذن فلكل ما يقابله. فهناك النفس تقتل بالنفس وهناك العين تفقأ بالعين، وكذلك الأمر في جدع الأنف، وصلم الأذن. إن تعبيرات اللغة واسعة تعطي لكل وصف ما يناسبه. فالإنسان مثلاً قد يكون جائعاً. ولكن إلى ماذا؟ إن كان جائعاً لطعام فهو جوعان. وإن أراد خصوصية أكل ويشتهيه كاللحم فلا يقال له: جوعان، ولكن يقال «قَرِم» . وإن كان يشتهي اللبن يقال له: «عَيْمان» ، وإن كان في حاجة للماء يقال له: «عطشان» . وإن كان جائعاً للجنس فهو «شَبِق» . وذلك يكشف لنا أن الإنسانية تحتاج إلى أمور متعددة، وكل أمر له اسم. وكل شيء له تعبير. ومثال آخر: يقال: فلان جلس، أي قعد. وهذا في المعنى العام. ولكن الجلوس يكون عن اضطْجاعٍ. أما قعد، فهي عن قيام، أي كان قائماً وقعد. ولذلك قال الحق: {قِيَاماً وَقُعُوداً} . ومثال آخر: يقال: «نظر» و «رمق» و «لمح» ؛ وكل كلمة لها موقفها؛ فالنظر يكون بجميع عينيه. و «رَمِق» أي لحظ لحظا خفيفاً. و «لَمَح» أي اختلس النظر إليه. وكذلك قوله الحق معناه: أننا كتبنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفسن والعين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوعة بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مخلوعة بالسن. وبعد ذلك يقول الحق عن الجروح: {والجروح قِصَاصٌ} لأن الجرح قد يكون في أي مكان. والقصاص يكون بمثله ومساوياً للشيء، وهو مأخوذ من قص الأثر؛ أي السير تبعاً لما سارت عليه القدم السابقة دون انحراف. ولما كان القصاص هو أمر مطلوب فيه المماثلة فذلك أمر صعب، صحيح أن الحق قال: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3168 لكن القصاص أمر صعب، فالصفعة من يد جائع متهافتة بعكس الصفعة التي تأتي من يدٍ صاحبُها في منتهى النشاط والقوة. فكيف يكون القصاص مناسباً لقوة الذي فعل الفعل؟ إذن لا يصح أن يدخل الإنسان في متاهة. ويمكنه أن يتصدق بالقصاص فلا يأخذه. ونحن نعلم حكاية «تاجر البندقية» ذلك المرابي اليهودي الذي أقرض نقوداً مقابل رطل من لحم صاحب القرض، وكتب الاثنان لاتعاقد وجاءا بالشهود ولم يستطع الرجل أن يُسدّد المال في الميعاد ولكن القاضي أنار الله بصيرته. فقال: خذ الرطل من لحم الرجل ولكن إن أنقصت أوقية فسنأخذها منك أو إن زدت أوقية فسنأخذها منك. فقال المرابي: لا أريد. وقد قنن الحق للجريمة، ولم يغلق سبحانه باب الطموحات الإيمانية، فقال: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُْ} . ومعنى «تصدق» أنه دفع وأعطى شيئا غير مستحق، ولا واجب عليه أي تبرع به ابتغاء وجه الله. إن الذي يتعب البشر في تقنيناتهم أنهم يطلبون إجراءات التقاضي، فساعة تقع جريمة يستمر التحقيق فيها بواسطة القضاء لأكثر من عام فتنبهت بشاعة الجريمة في النفس البشرية. ومن الواجب كذلك أن يكون الأمر لولي القصاص؛ لأنك إن مكنته أرضيت نفسه بأول شفاء. وساعة يُعطي الإنسان ذلك الحكم فقد يزهد فيه؛ لأن الأمر حين يكون في يده ويقدر على القصاص فمن المحتمل أن يعفو. وسيظل المتصدَّق عليه طيلة حياته يدين بحياته أو بجارحة من جوارحه لصاحب القصاص. وبدلاً من إيعازات الثأرات تنشأ المودة. وحين يشرع المشرع الأعلى يوضح لنا: لا تحكم بأنك دائماً معتدى عليك، بل تصور مرة أنك معتد، ألا تحب في مثل هذه الحالة أن يتصدق عليك صاحب القصاص؟ فإذا أرادت الحكومات لأن تنهي الثأرات فلهم في التشريع الأعلى الحكم الواضح. وفي صعيد مصر، ساعة يُقتل إنسان نجد الذي عليه الثأر يأخذ كفته ويذهب إلى العائلة الطالبة للثأر، ولحظة يدخل عليهم حاملاً كفنه بيديه، تشفي النفوس من طلب الثأر. ويحيا، وصاحب الثأر متفضل عليه بالعيش {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3169 لَّهُ} تكون الصدقة هنا من ولي القصاص. والفعل «تصدق» يحتاج إلى اثنين هما: «متصدِّق» و «متصدَّق عليه» . وسبحانه الحق يكفر عن المتصدق من الذنوب بقدر ما تسامح فيه لأخيه، وهنا يحنن الله الخلق بعضهم على بعض؛ لذلك تأتي المسألة هنا من ناحية صاحب القصاص لترغبه في التصدق. وينهي الحق الآية بقوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} وعرفنا من قبل ضرورة الحكم بما أنزل الله. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3170 وقفينا أي اتبعنا، فعيسى جاء من بعد موسى، فعندما يمشي رجل خلف رجل نجد أن قفا الأول يكون في وجه الثاني. وعندما يقول الحق: {وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مصدقاً لموسى الذي جاء بالتوراة. {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} . وعرفنا أن «الهدى والنور» يناسبان البيئة التي نزلت إليها تلك الهداية وذلك النور. إن هناك مقولات اسمها «المقولات الإضافية» ، كأن يقول إنسان في قرية لابنه: أشعل الضوء. ويشعل الولد المصباح الكيروسيني؛ أما إذا قال إنسان في مدينة لابنه: أضيء النور، فالابن يضغط على الزر ليضيء المصباح الكهربائي. وهذه الإضافات قد تجعل اللفظ يحمل معنيين. ومثال آخر أكثر وضوحاً: يسكن الإنسان في منزل ما، ويعرف أن السقف عال بالنسبة له، ولكنه أرض بالنسبة لأصحاب الدور الثاني، إنه علو وسفل وهذا هو المعنى الإضافي. وكذلك عندما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3170 نقول: فلان ابن فلانن فهذا لا يمنع أن هذا الابن يكون أباً بالنسبة لابنه. إذن {هُدًى وَنُورٌ} هي معان إضافية. وكل «هدى ونور» يناسب البيئة التي نزل يفيها. فالبيئة المادية الأولى كانت في حاجة إلى تقنين؛ لذلك جاءت التوراة، ومن بعد ذلك صارت هذه البيئة المادية في حاجة إلى طاقة روحية؛ لذلك جاء الإنجيل بكل الروحانيات، وعندما سئل عيسى ابن مريم عليه السلام في قضية الميراث قال: أنا لم أرسل مورثاً، فهو يعلم أنه جاء بشحنة روحية فيها مواجيد ومواعظ. ويتابع الحق من بعد ذلك: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3171 والحق أنزل في الإنجيل أن الأحكام تؤخذ من التوراة. أي أن الإنجيل تضمن إلى جانب روحانياته أسس الأحكام الموجودة في التوراة. ولذلك أوضح الحق: من لم يحكم بما أنزل الله فهو فاسق مادام قد خرج على الطاعة. فإن خرج أحد على الطاعة في أمر الألوهية والربوبية فهو كافر. ومن خرج على الأحكام بالنسبة للحكم بين الناس فهو ظالم. إذن فالمسألة كلها متداخلة، فالشرك ظلم عظيم أيضاً. وبعد أن تكلم الحق عن التوراة والإنجيل، جاء بما نزل إلى النبي الخاتم: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3171 وساعة نسمع كلمة «أنزلنا» نعرف أن هناك تشريعاً جاء من أعلى. وهناك من يريد أن يلبس الناس أهواءه، فيقول: إن الإسلام دين تقدمي، أو يقول: الإسلام دين رجعي، وكلاهما يحاول أن يلبس الإسلام بما ليس فيه، ونقول: لا تقولوا ذلك ولكن قولوا الإسلام فوقي؛ أنه جاء من الله، فإن كان للتقدمية مزايا فهو تقدمي، وإن كان للرجعية مزايا فهو رجعي، وإن كان لليمين مزايا فهو يميني وإن كان لليسار مزايا فالإسلام يساري؛ فقد جاء الإسلام بالاستطراق الاجتماعي والتقدم العلمي الأصيل؛ لأن مفهوم التقدم هو أن يرتقي الإنسان بنفيه ارتقاءً متقدماً يجعل الناس متكافئين. إن الإسلام ليس تقدمياً فقط بالنسبة للحياة الدنيا ولكن بالنسبة لحياة أخرى خالدة فوق هذه الحياة. إن الذين يناقشون تلك الأفكار لا يحسنون فهم أفكارهم سواء أكانت تقدمية أم رجعية أم يمينية أم يسارية. ونرى أن المناهج المعاصرة التي تسبب كل هذا الصراع في الدنيا من شرق وغرب هي: الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والوجودية وغيرها. وعندما ننظر - على سبيل المثال - إلى القائمين على أمر الثورة الشيوعية عام 1917، نجد قولهم: إنهم مازالوا في بداية الطريق إلى الشيوعية، ولكنه اختيار الطريق الاشتراكي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3172 كان يجب أن يتجهوا إلى ما نادوا به، ولكن ها نحن أولاء نرى أنهم كلما تقدموا في الزمن تراجعوا عن أفكارهم الأولى. حتى انقلبوا على أنفسهم. وذلك دليل على أن المنهج الذي اتخذوه لأنفسهم غير صحيح. والمنهج الرأسمالي أظل كما هو؟ لا؛ لأن الأحداث قد اضطرت الرأسمالية أن تعطي العمال حقوقاً وبذلك لم تبق لرأس المال شراسته. كما سارت الشيوعية إلى معظم أساليب الرأسمالية. والرأسمالية سارت إلى بعض من أساليب الاشتراكية وهما - إذن - يريدان أن يلتقيا. ولكن الإسلام أوجد هذا اللقاء من البداية، فاحترم رأس المال، واحترم العمل. وكل إنسان لزم حدوده. وضمن وجود واستمرار حركة الحياة. ولذلك نجد أن الرأسمالية تقول: يجب أن توفر الحوافز للعمل. ولم تصل الشيوعية أيضا إلى مداها، بل قامت لإهدار حقوق الناس، ثم ماذا عن الذين لم تمتد إليهم يد الشيوعية - قبل أن توجد - وكان فيهم من يستغل الناس؟ كان العقل يحتم أن تؤمن الشيوعية بان هناك آخرة يعاقب فيها من استغلوا الناس من قبل، ومن مصلحتهم إذن أن توجد آخرة. وكان من اللازم أن يكونوا متدينين. وكذلك الرأسمالية التي لا تعترف إلا بالربح المادي، امتلأت مجتمعاتها بالضحايا الذين فقدوا المعنويات. وقول الحق: «أنزلنا» يعتبر أن هناك منهجاً نزل من أعلى. وحين نأخذ معطيات البيان القرآني، نجده سبحانه يبلغنا تعاليمه: {قُلْ تَعَالَوْاْ} . أي ارتفعوا إلى مستوى السماء ولا تهبطوا إلى حضيض الأرض. ولذلك قال الحق: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق} ونرى أن آيات القرآن تتآزر وتخدم كل منها الأخرى. ونزول الكتاب بالحق يحتاج إلى صدق دليل أنه ينزل من الله حقا، وأن تأتي كل قوانين الحق في حركة الحياة بالانسجام لا بالتنافر، وهناك آية تشرح كلمة «الحق» : {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105] أي أنه نزل من عند الله وليس من صناعة بشر. {وبالحق نَزَلَ} أي نزل بالمنهج من عند الله الذي يقيم منطق الحق في كل نفس وكل مكان، ويَضمن كل حق يقيم حركة الحياة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3173 وهنا أجملت الآية، فقالت: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب} أي أن القرآن مصدق للكتب السماوية السابقة. وما الفارق بين كلمة «الكتاب» الأولى التي جاءت في صدر الآية، وكلمة «الكتاب» الثانية؟ إننا نعلم أن هناك «ال» للجنس، و «ال» للعهد، فيقال «لقيت رجلا فأكرمت الرجل» ، أي الرجل المعهود الذي قابلته. فكلمة الكتاب الأولى اللام فيها للعهد أي الكتاب المعهود المعروف وهو القرآن، وكلمة الكتاب الثانية يراد بها الجنس أي الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، فالقرآن مهيمنٌ رقيبٌ عليها؛ لأنها قد دخلها التحريف والتزييف. كلمة «الحق» - إذن - تعني أن كتاب الله الخاتم لكتبه المنزلة وهو القرآن قد نزل بالحق الثابت في كل قضايا الكون ومطلوب حركة الإنسان. ونزل بالحق بحيث لم يصبه تحريف ولا تغيير. إذن فالحق هو في مضمونه وفي ثبوت نزوله. وقد نزل القرآن بعد كتب أنزلها الله متناسبة مع الأزمنة التي نزلت فيها؛ لأنه سبحانه خلق الخلق لمهمة أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يعمروا هذا الكون بما أمدّهم به من عقل يفكر، وطاقات تنفّذ، ومادة في الكون تنفعل، فإن أرادوا أصل الحياة مجرداً عن أي ترقٍ أو إسعاد فلهم في مقومات الأرض ما يعطيهم، وإن أرادوا أن يرتقوا بأنفسهم فعليهم أن يُعملوا العقل الذي وهبه الله ليخدم الطاقات التي خلقها الله في المادة التي خلقها الله، وحينئذ يأخذون أسرار الله من الوجود. إن أسرار الله في الوجود كثيرة، وتفعل لنا وإن لم نعرف نحن السر. فنجد الجاذبية التي تمسك الأفلاك تفعل لنا، وإن لم نكن قد اكتشفنا الجاذبية إلا أخيراً. والكهرباء السارية في الكون سلباً وإيجاباً تعمل لنا وإن لم نعرف ما تنطوي عليه من سرّ إن الحق سبحانه حين يريد ميلاد سر في الكون سبحانه يمد الخلق بأسباب بروز هذا السر. واعلموا أن كل سر من أسرار الكون المسخر للإنسان له ميلاد كميلاد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3174 الإنسان نفسه، إما أن يصادف - هذا الميلاد - عمل العقل في مقدمات تنتهي إليه، وحينئذ يأتي الميلاد مع مقدمات استعملها البشر فوصلوا إلى النتيجة، تماماً مثل التمرين الهندسي الذي يقوم الطالب بحله بعد أن يعطيه الأستاذ بعضاً من المعطيات، ويستخدمها التلميذ كمقدمات ليستنبط ما يريد المدرس أن يستنبطه من مطلوب الإثبات. فإن صادف أن العقل بحث في الشيء معملياً وتجريبياً وصل ميلاد السر مع البحث. وإن جاء ميلاد السر في الكون، ولم يشغل الإنسان نفسه ببحث مقدمات توصل إليه، وأراد الله ذلك الميلاد للسر فماذا يكون الموقف؟ أيمنع الله ميلاد السر لأننا لم نعمل؟ . لا. بل يخرج سبحانه السر إلى الوجود كما نسمع دائماً عن مصادفة ميلاد شيء على يد باحث كان يبحث في شيء آخر، فنقول: إن هذا السر خرج إلى الوجود مصادفة. وإذا نظرت إلى الابتكارات والاختراعات وأمهات المسائل التي اكتشفت لوجدتها من النصف الثاني، ونجد المفكر أو العالم وقد غرق في بحث ما، ثم يعطيه الله سراً من أسرار الكون لم يكن يبحث عنه، فيقال عن الاكتشاف الجديد: إنه جاء مصادفة، وحينما جعل الله لكل سر ميلاداً، فهو قد أعطى خلقه حياة من واسع فضله، وأعطاه قدرة من فيض قدرته وأعطاه علماً من عنده {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} ، ووهبه حكمة يُؤتى بها خيرا {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} . وهو سبحانه وتعالى يريد من خلقه أن يتفاعلوا مع الكون ليبرزوا الأشياء، وإذا كان سبحانه يريد منا أن ننفعل هذا الانفعال فلا بد أن يضع المنهج الذي صون طاقاتنا وفكرنا مما يبددهما. والذي يبدد أفكار الناس وطاقاتهم هو تصارع الأهواء، فالهوى يصادم الهوى، والفكرة قد تصادم فكرة، وأهواء الناس مختلفة؛ لذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن لنا اتفاق الأهواء حتى نصدر في كل حركاتنا عن هوى واحد؛ وهو ما أنزله الخالق الأعلى الذي لا تغيره تلك الأهواء. أما ما لا تختلف فيه الأهواء فتركنا لكي نبحث فيه؛ لأننا سنتفق فيه قهراً عنا. ولذلك نقول دائما: لا توجد اختلافات في الأفكار المعملية التجريبية المادية، فما وجدنا كهرباء روسية، وكهرباء أمريكية لأن المعمل لا يجامل. والمادة الصماء لا تحابي. والنتيجة المعملية تخرج بوضوحها واحدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3175 إننا نرى اتفاق العلماء شرقاً وغرباً في معطيات المادة التجريبية وتحاول كل بلد أن يسرق من البلد الآخر ما انتهى إليه من نتائج لتدخلها على حضارتها، بينما يختلف الأمر في الأهواء البشرية، فكل بلد يحاول أن يبعد هوى الآخر عن حدوده؛ لأن الأهواء لا تلتقي أبداً، والحق قد وضع حركة الحياة لتنفعل ب «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» مما تختلف فيه الأهواء ليضمن اتحادنا وعدم تعاند الطاقات فينا. بل تتساند معاً. {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] إذن فمنهج الله في كونه إنما جاء لينظم حركة الإنسان فيما تختلف فيه الأهواء. أما الحركة فيما لا تختلف فيه الأهواء فقد تركها سبحانه حرة طليقة: لأن البشر يتفقون فيها قهراً عنهم، لأن المادة لا تجامل والمعمل لا يحابي. ولذلك قلنا: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين بعثه الله نبياً خاتماً أعطى ب «افعل ولا تفعل» . أما بالنسبة للأمر المادي المعملي فقد جعل أمره في ذات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. «فعندما قَدِمَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة كان أهلها يأبرون النخل؛ أي يلقّحونه ليثمر. فمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقومٍ يلقحون فقال:» لو لم تفعلوا لصلح «. فلم يأْبُروا النخل، فخرج شيصا؛ أي بُسْراً رديئاً، وخاب النخل. ومرّ بهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عَزَّ وَجَلَّ «. وفي رواية أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: » إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيءٍ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر « الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3176 ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليعلنها قضية كونية مادية تجريبية معملية:» أنتم أعلم بأمر دنياكم « أي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ترك للأمة إدارة شئونها التجريبية، ولم يكن ذلك القول تركا للحبل على الغارب في شئون المنهج، فقد وضع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الفيصل فيما تتدخل فيه السماء، وفيما تتركه السماء للبشر، وأعمار الناس - كما نعلم - تختلف، فنحن نقول للإنسان طفولة، وله فتوة، وشباب، وله اكتمال رجولة ونضج؛ لذلك يعطي الحق من الأحكام ما يناسب هذا المجتمع؛ يعطي أولاً الاحتياج المادي للطفولة، وعند عصر الفتوة يعطيه المسائل الإدراكية، وعندما يصل إلى الرشد يعطيه زمام الحركة في الكون على ضوء المنهج، فكانت رسالة الإسلام على ميعاد مع رشد الزمان، فَأَمِن الحق سبحانه أتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أن يقفوا ليحموا حركة الإنسان من أهواء البشر. وكانت الرسل تأتي من عند الله بالبلاغ للمجتمعات البشرية السابقة علىلإسلام. وكانت السماء هي التي تؤدب. ولكن عندما اكتمل رشد الإنسانية، رأينا الرسول يبلغ، ويوكِّله الله في أن يؤدب من يخرج على منهج الله في حركة الحياة، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصبح مأموناً على ذلك. وإذا نظرت إلى الكون قديماً لوجدته كوناً انعزالياً، فكل جماعة في مكان لا تعلم شيئاً عن الجماعة الأخرى، وكل جماعة لها نظامها وحركتها وعيشها وداءاتها. والإسلام جاء على اجتماع للبشر جميعاً. فقد علم الله أزلاً أن الإسلام سيجيء على ميعاد مع إلغاء فوارق الزمن والمسافات، وأن الداء يصبح في الشرق فلا يبيت إلا وهو في الغرب، وكذلك ما يحدث في الغرب لا يبيت إلا وهو في الشرق. إذن فقد اتحدت الداءات ولا بد أن يكون الدواء واحداً فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جامعاً للزمان وجامعاً للمكان ومانعا أن يجيء رسول آخر بعده، وأن العالم قد وصل إلى قمة نضجه. فإذا ما جاء الإنسان ليعلم منهج الله ب «افعل» ولا «تفعل» ، وجد أن المنهج محروس بالمنهج، بمعنى أن الكتب السابقة على القرآن فيها «افعل» و «لاتفعل» ، والقرآن أيضاً فيه «افعل» و «لا تفعل» لكن المنهج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3177 السابق على القرآن كان مطلوباً من المنزل إليهم أن يحافظوا عليه، ومادام قد طلب الحق منهم ذلك فكان من الواجب أن يتمثلوا لطاعته لكنهم تركوا المنهج. فكل منهج عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى، ولم يحفظوا الكتب وحدث فيها التحريف بمراحله المختلفة والتي سبق أن ذكرناها وهي النسيان وهو متمثل في قوله الحق: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 13] وما لم ينسوه كتموا بعضه، فقال الحق فيهم: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب أولئك يَلعَنُهُمُ الله} [البقرة: 159] وما لم يكتموه حرفوه ولووا ألسنتهم به وقال الحق: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب} [آل عمران: 78] ولم يقتصروا على ذلك بل وضعوا من عندهم أشياء وقالوا إنها من عند الله. وكان أمر حفظ كتب المنهج السابقة موكولاً لهم وبذلك قال الحق عنهم: {بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} [المائدة: 44] أي أن الحق طلب منهم أن يحافظوا على المنهج، وكان يجب أن يطيعوه ولكن أغلبهم آثر العصيان. فلما عصى البشر المنهج، لم يأمن الله البشر من بعد ذلك على أن يستحفظهم على القرآن، وكأنه قال: لقد جُرّبْتم فلم تحافظوا على المنهج، ولأن القرآن منهج خاتم لن يأتي له تعديل من بعد ذلك فسأتولى أنا أمر حفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3178 ومادام الحق هو الذي يحفظ المنهج فالقرآن مهيمن على كل الكتب؛ لأنه سبحانه وتعالى قد ضمن عدم التحريف فيه. إذن فالكتاب المهيمن هو القرآن، ومادام القرآن هو المهيمن فهو حقيقة ما يسمى بالكتاب. ودليل العهد هو قول الحق: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} أما قوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب} فالمقصود به الزبور والتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى، ثم جاء القرآن مهيمناً على كل هذه الكتب. وساعة نجد وصفاً وصف به غير الله وسمى به الله نفسه فما الموقف؟ نعرف أن لله صفات بلغت في تخصصها به مقامها الأعلى بالله، مثل قولنا: «الله سميع» والإنسان يسمع، و «الله غني» ويقال: «فلان غني» ؛ فإذا سمي الحق باسم وجد في الخلق، فليس من المتصور أن يكون هذا صفة مشتركة بين العبد والرب، ولكننا نأخذ ذلك في ضوء: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . إن أي اسم من هذه الصفات على إطلاقه لا ينصرف إلا لله، فإن قلت: «الغني» على إطلاقه فهو اسم لله، وإن قلت: «الرحيم» على إطلاقه فهو اسم لله. فإذا أطلق اللفظ من أسماء الله على اطلاقه فهو لله، واسم «المهيمن» يطلق هنا على القرآن وهو اسم من أسماء الله. ومن معنى «مهيمن» أنه مسيطر. ومن أمثلة الحياة أننا نرى صاحب مصنع يطلق يد مدير في شئون العمل، وهذا يعني أنه مؤمن ومسيطر وأمين، ولا بد أن متنبه، أي رقيب، وهو شهيد، إذن فالذين فسروا كلمة «مهيمن» على أنه مؤمن قول صحيح. والذين فسروا كلمة: «مهيمن» على أنه «مؤتمن» قول صحيح. والذين فسروا كلمة: «مهيمن» بأنه «رقيب» قول صحيح. والذين فسروا كلمة: «مهيمن» بأنه «شهيد» قول صحيح. والذين فسروا كلمة: «مهيمن» بأنه قائم على كل أمر قول صحيح. وإذا رأيت الاختلافات في تفسير اسم واحد من أسمائه - سبحانه - فلتعلم أن الحق بصدق عليه كل ذلك، وباللازم لا يكون «رقيباً» إلا إذا كان «شهيداً» ، ولا يكون شهيداً إلا إذا كان قائماً على الأمر، ولا يكون كل ذلك إلا إذا كان مؤمناً ومؤتمنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3179 إذن ف «مهيمن» هو قيم وشاهد ورقيب. ومادام القرآن قد جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب فعلى أي مجال يهيمن؟ نحن نعرف مدلول الكتاب بأنه نزل من عند الله، فإن بقي الكتاب الذي من عند الله كما هو فالقرآن مصدق لما به، أما إن لعبت في ذلك المنهج أهواء البشر فالقرآن مهيمن لأنه يصحح المنهج وينقيه من أهواء البشر. {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله} . و «احكم» مأخوذة من مادة «حكم» ، و «الحَكَمة» هي قطعة الحديد التي توضع في فم الحصان ونربطها باللجام؛ حتى نتحكم في الحصان. والحكمة هي الأ تدع المحكوم يفلت من إرادة الحاكم. وحين يقول الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله} فهل يحدث ذلك أيضا مع غير المؤمنين؟ نعم. فإذا ما جاء إليك يا رسول الله أناس غير مؤمنين وطلبوا أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل الله. ولذلك قال الحق: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] لكن لماذا جاءوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ برغم عدم إيمانهم به؟ جاءوا إلى الرسول ليحكم بينهم؛ لأنهم ألفوا أن يبيحوا ما حرم الله بشهوات الدنيا وأخذوا لأنفسهم سلطة زمنية، وماداموا قد أخذوا لأنفسهم سلطة زمنية أنستهم حكم الله. وأرادوا - على سبيل المثال - أن يخرجوا على حكم الرجم وتخفيفه، ولذلك ذهبوا إلى النبي، فإن حكم هو بالتخفيف أخذوا بالحكم المخفف، وإذا لم يحكم بالتخفيف فهم لن يأخذوا الحكم، هم ذهبوا إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقصد التيسير وقالوا له: أنت تعلم أن لنا سلطاناً وأن لنا نفوذاً ونحن نريد أن تحكم لنا لأنك عندما تحكم لنا سنؤمن بك وبعد ذلك تأتي إليك باقي جماعتنا ليؤمنوا بك ويتبعوك. لقد رفض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك تطبيقاً لقول الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} فإذا كان عندهم كتاب التوراة مصوناً من التحريف، فالرسول يشير عليهم بالحكم الموجود في التوراة، ولذلك عندما استدعى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلم علمائهم بالتوراة حاول بعضهم أن يضع يده على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3180 السطور التي بها الحكم؛ فالحكم بما أنزل الله يكون من التوراة إن لم يبدل، أما إذا كان الحكم قد بدله الناس فالحكم من القرآن؛ لأن القرآن هو المهيمن. {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} لأنهم بهذه الأهواء يريدون أن ييسروا على أنفسهم ليستبقوا لأنفسهم السلطة الزمنية، ووصفهم الحق: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} [التوبة: 9] هم - إذن - يريدون أن يستبدلوا بآيات الله مصلحتهم في الحكم. ويقول الحق: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ، وإن افترضنا أن بعضا من التوراة لم يحرف، وبه حكم أراد الإسلام أن يبدله، فأي أمر يتبع؟ إن الاتباع هنا يكون للقرآن لأنه هو المهيمن، فسبحانه أراد بالقرآن أن يصحح ويعدل ويغير. إن مناهج الأديان في العقائد ثابتة لا تغيير فيهان وأما ما يتصل بالأحكام التي تحكم أفعال الإنسان فالله سبحانه وتعالى ينزل حكماً لقوم يلائمهم ثم ينزل حكما آخر يلائم قوماً آخرين. ولذلك نجد أن سيدنا عيسى قال: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] أي أن هناك أشياء كانت محرمة في دين اليهود. وجاء عيسى عليه السلام ليحلل بعضاً من هذه المحرمات، وكان التحريم مناسباً بني إسرائيل في بعض الأمور، وجاء المسيح عيسى ابن مريم ليحلل لهم بعضاً من المحرمات، وكان تحريم بعض الأمور لبني إسرائيل بهدف التأديب: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] إذن فقد يكون تحريم الشيء بسبب الضرر الناشئ منه، أو بهدف التأديب؛ لأن الإنسان أحل لنفسه ما حرمه الله عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3181 {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} والشرعة هي الطريق في الماء. والمنهج هو الطريق في اليابسة. ومقومات حياة الإنسان هي من الماء ومن الغذاء الذي يخرج من الأرض فكذلك جعل الحق سبحانه وتعالى في القيم هذين الاثنين، الشرعة والمنهاج، ومادام سبحانه قد جعل لكل منا شرعة ومنهاجاً، فلماذا قال في موضع آخر من القرآن: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] معنى هذا القول هو الاتفاق في أصول العقائد التي لا تختلف أبداً باختلاف الأزمان. ففي بدء الإسلام نجد أنه جاء ليؤصل العقيدة أولاً بلا هوادة، فنادى بوحدانية الله، وعدم الشرك به، وصفات الكمال المطلق فيه، وعدم تعدد الآلهة. أما بقية الأحكام الفعلية فقد جعلها مراحل. وكان يخفف قليلاً فقليلاً. إذن فالمراحل إنما جاءت في الأحكام الفعلية، أما العقائد فقد جاءت كما هي وبحسم لا هوادة فيه. إذن فقوله الحق: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} . هذا القول مقصود به العقائد. ومادام قد شرع لنا في الدين ما وصى به نوحاً، فهذا توصية بأفعال تتعلق أيضا بزمن نوح، وسبحانه الذي وضع لنا المنهاج الذي نسير عليه في زماننا. إذن فالأمران متساويان. والمهم هو وحدة المصدر المشرِّع. ويقول الحق: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} . فلو شاء لجعل «افعل» ولا «تفعل» واحدة في كل المناهج، ولكن ذلك لم يكن متناسباً مع اختلاف الأزمان والأقوام الانعزالية قبل الإسلام بداءاتها المختلفة؛ لذلك كان من المنطقي أن تأتي الأحكام مناسبة للداءات. {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} [المائدة: 48] وسبحانه وتعالى لو شاء لجعلنا أمة واحدة في «افعل» و «لا تفعل» ولكنه - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3182 سبحانه - لم يرد ذلك حتى لا يألف الناس العبادة وتصير كالعادة عندهم، فحينما يألف الناس أداء العبادات، فهم بذلك يحرمون لذة التكليف والإيمان، فكان لا بد أن يأتي التشريع مناسبا لكل زمان. وذلك ليفرق بين قوم وقوم ففي الصوم - على سبيل المثال - نجد أن الحق يسمح لنا بالطعام والشراب والجنس في الفترة ما بين الإفطار والسحور؛ فالحق يأتي إلى الشيء الرتيب ويأتي فيه أمر الله بالامتناع عنه لفترة زمنية معينة. ولا يقرب المؤمن هذه المحرمات في زمان معين، ولا يقرب غيرها في أي زمان ومكان. مثل شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير. والمؤمن لا يقرب هذه الأشياء بطبيعة اختياره. ويأتيه الصوم ليعلمه ويدربه على الانصياع للتكليف فيحرمه الحق من الطعام طول نهار شهر رمضان وكذلك الشراب والجنس. المسألة - إذن - ليست رتابة أبداً. بل هي ابتلاء واختبار البشر {ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم} والابتلاء - كما نعلم - ليس أمراً مذموماً في ذاته، هو مذموم باعتبار ما تؤول إليه نهايته، ومادام سبحانه يبتلينا فيما آتانا فيجب أن نكون حكماء وأن نتسابق إلى الخير: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] والتسابق إلى الخيرات إنما يكون بهدف النجاح في الإبتلاء، والنجاح يعطينا أكثر مما ننال بعدم الانصياع. إذن فالابتلاء في مصلحتنا يعطي الناجحين فيه نجاحاً أخلد، وقصارى ما يزينه الشيطان للناس أو ما تتخيله نفوس الناس، أن تمر الشهوة العابرة وتنقضي في الدنيا العابرة. وبعد ذلك يأتي العذاب المقيم. وعندما نوازن هذا الأمر كصفقة نجدها خاسرة، لكن إن نجحنا في ابتلاء الله لنا فذلك هو الفوز العظيم: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . أي تسابقوا في الوصول إلى الخيرات، لأن الخير إنما يقاس بعائده، فإياكم أن تفهموا أن الله حَرَمكم شهوات الدنيا لأنه يريد حرمانكم، ولكنه حرمكم بعضا من شهوات الدنيا لأنها مفسدة. وكان التحريم لزمن محدود ليعطيكم نعيم ومتع الآخرة المُصلحة في زمن غير محدود، وهذا هو كل الخير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3183 {إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} والكل يرجع إلى الله سواء الملتزم أو المنحرف، وأمام الحق نرى القول الفصل: {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . ومادام هناك اختلاف فلا بد أن يوجد من أخذ جانب الخير ومن أخذ جانب الشر، ولو أن الله قال لنا: «ستأخذون الخير» وسكت عن الشر لكان ذلك كافياً، لكنه يعطينا الصورة الكاملة. ويتبع ذلك قول الحق: {وَأَنِ احكم ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3184 وقد يقول قائل: إن الله سبحانه وتعالى قال من قبل: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48] وتكون الإجابة: أن الحق بيّن إن القرآن قد نزل مهيمناً، وعلى الرسول أن يباشر مهمة التنفيذ؛ لذلك يأتي هنا قوله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله} بلاغاً للرسول وإيضاحاً: أنا أنزلت إليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمناً فاحكم، فإذا جاءك قوم بشيء مخالف لما نزل من القرآن، فاحكم بينهم بالقرآن. والذي زاد في هذه الآية هو قوله الحق: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} والحذر هو احتياط الإنسان واحترازه مِمَّن يريد أن يوقع به ضرراً في أمر ذي نفع، والذي يرغب الضر قد يزين لنفسه ولغيره الذر كأنه الخير، على الرغم من أن ما في باطنه هو كل الشر. إذن فالحذر هو ضرورة الانتباه لمن يريد بالإنسان شراً حتى لا يدخل عليه ضُرّاً في صورة نفع، كأن يأتي خصم ويقول لك: سأضع لك كذا وافعل من أجلك كذا وكذا. يجب عليك هنا أن تقول له: لا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3184 والحذر - إذن - يقتضي عقلاً مركباً، ولذلك كانوا يعرفون الحذر من الغراب. فها هوذا الغراب يعلم ابنه في قصة شعبية فيقول الغراب لابنه: احذر الإنسان؛ لأن الإنسان عندما ينحني ليلتقط شيئاً من الأرض فهو يلتقط قطعة من الطوب ليرميك بها. وهنا يقول الغراب الصغير لوالده: وماذا أفعل لو كان هذا الإنسان يخبئ قطعة الطوب في جيبه؟ إنها قصة توحي بأن الغراب حذر بفطرته. ونرى مثل ذلك في مظاهر الأشياء كالمرابي الذي يزين للناس أن يضعوا أموالهم عنده ويعطيهم فائدة تبلغ عشرين بالمائة، هذه صورة شيء ينفع ولكنها ضارة بالفعل؛ لأنها تزيد المال ظاهراً ولكن ينطبق عليها قول الله: {يَمْحَقُ الله الربا} . وهذا أمر ضار يزينه الخصم وكأنه أمر نافع. والحق يطلب من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكون حذراً، فماذا يكون المطلوب من الأتباع؟ . إنه الحذر نفسه؛ لأن أفضل البشر وَجَّهَهُ الله إلى الحذر: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} لأن الصورة التي دخلوا بها هي صورة تزين الخداع، فقد قالوا: نحن جئناك لتحكم لنا، فإن حكمت لصالحنا فلسوف نتبعك، وهذا أمر يبدو في صورة شيء نافع. وجاء القول الحق ليحسم هذه المسألة: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} وهنا يحذر الله ورسوله من الفتنة عن بعض ما أنزله إليه سبحانه. ويتابع الحق: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ} وهم إن تولوا، فاعلم أن الله يحميك أن تنزلق إلى شبهة باطل. فهم قد اختاروا أن يوغلوا في الكفر، وفي الابتعاد عن منهج الله، وسيصيبهم ببعض عذابه مقابل ذنوبهم، وسبحانه لا يصيبهم ظلماً، بل يصيبهم ببعض الذنوب التي ارتكبوها. وهو أعلم بهم، لأنه الأعلم بالناس جميعاً. ويختم الحق الآية بقول: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ} أي خارجون عن طاعة كتبهم ورسلهم؛ لأن طاعة الكتب السابقة على القرآن تنص على ضرورة الإيمان بالرسول النبي الأمين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3185 يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 157] إذن فطريق الفلاح كان مكتوباً في التوراة والإنجيل، وكان الأمر باتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ النبي الأمي موجوداً في الكتب السابقة على القرآن، وكانت البشارة بمحمد رسولا من عند الله يأمر بكل الخير وينهى عن كل الشر ويحل للناس كافة الأشياء التي تُحْسِن الفطرة الإنسانية استقبالها، ويحرم عليهم أن يزيفوا ويغيروا المنهج الذي جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وألا يستسلموا للعناد، فقد جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليزيل عنهم عبء تزييف المنهج. فمن اتبع نور رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحس بالنجاة والفوز. ومن لم يتبع هذا النور فهو الخارج عن طاعة كتاب السماء. ومحاولة إنكار رسالة رسول الله محكوم عليها بالفشل، فالعارفون بالتوراة والإنجيل يعرفون وصف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من هذه الكتب. {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] ونعلم جميعاً ما فعله عبد الله بن سلام عندما جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليعلن إسلامه. قال عبد الله بن سلام: - لأنا أشد معرفة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منّي بابني. فقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: - وكيف ذلك يا ابن سلام؟ . قال عبد الله بن سلام: لأني أشهد أن محمداً رسول الله حقاً ويقيناً وأنا لا أشهد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3186 بذلك على ابني لأني لا أدري، أحداث النساء. فقال عمر بن الخطاب: - وفقك الله يا ابن سلام. ولكن بعض علماء بني إسرائيل وأحبارهم كتموا البشارة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد كانوا يرجون الرئاسة والطمع في الهدايا التي كان يقدمها الناس إليهم. لذلك عمدوا إلى صفة رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكتموها. وماداموا قد فعلوا ذلك فلنعلم أن الله يريد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم. ونلحظ أن الحق حين أجرى على لسان رسوله خطاباً إلى اليهود. ولم يأت على لسانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اتهام شامل لليهود، بل اتهام لبعضهم فقط، وإن كان هذا البعض كثيراً، فلنعلم أن ذلك هو أسلوب صيانة الاحتمال؛ لأن بعضهم يدير أمر الإيمان بقلبه. صحيح أن كثيراً منهم فاسقون، ولكن القليل منهم غير ذلك. فها هوذا أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ينقل لنا ما حدث: «زنى رجل من اليهود بامرأة وقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي مبعوث للتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججناها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك. فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو جالس في المسجد مع أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في امرأة ورجل زنيا؟ . فلم يكلمهم حتى ذهب إلى مِدْراسهم. وهناك طلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من شاب رفض أن يتكلم بالكلام غير الصدق الذي يتكلمه قومه. وقال الشاب: إنا نجد في التوراة الرجم. وحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالرجم» . «عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيهودي مُحَمَّماً مجلوداً، فدعاهم فقال: هكذا تجدون الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم. قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3187 لم أخبرك، نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدّ، فقلنا: تعالَوْا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: (اللهم إني أول من أحيا أمرك إِذْ أَمَاتُوه) ، فأمر به فرُجم فأنزل الله: {ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} يَقُولون ائتوا محمداً فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا» . إذن فالكثير منهم فاسقون، والقليل منهم غير فاسق لأنهم يديرون فكرة الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فلو أن الاتهام كان شاملاً للكل بأنهم فاسقون؛ لما أحس الذين يفكرون في أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبالنور الذي جاء به. وعندما قال الحق: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ} يعني أن الذين يديرون في رؤوسهم فكرة الإيمان برسول الله سيجدون النور واضحاً في كلماته. ونتساءل: لماذا أرادوا أن يلووا أحكام الله ليحققوا لأنفسهم سلطة زمنية وثمناً تافهاً من تلك الأشياء التي يتقاضونها، لماذا يفعلون ذلك؟ ها هوذا قول الحق سبحانه: {أَفَحُكْمَ الجاهلية ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3188 والجاهلية هي نسبة إلى جاهل. ولو كانت نسبة مأخوذة من الجهل لجاء القول «جهلية» ، لكن الحق يقول هنا: «جاهلية» نسبة إلى جاهل. وحتى نعرف معنى الجاهل بالتحديد لا بد لنا أن نتذكر ونستعيد تقسيم النسب الذي قلناه قديماً، ونعرف أن كل لفظ نتكلم به له معنى، وساعة نسمع اللفظ فالمعنى يأتي إلى الذهن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3188 إفرادياً. مثلما نسمع كلمة «جبل» فيقفز إلى الذهن صورة الجبل، لكن لا توجد حالة واضحة للجبل؛ لأن الكلمة لم تكن مصحوبة بحكم. إذن فهناك معنى للفظ، ولكن هذا المعنى لا يستقل بفائدة. ولكن إن قلنا إن القاهرة مكتظة بالسكان، أو أن مرافقها متعبة، هناك نكون قد أتينا بحكم يوضح لنا ماذا نقصد بقولنا القاهرة. إن هناك فرقا بين اللفظ حين يؤدي إلى معنى مفرد لا حكم له، وبين لفظ له حكم، ولذلك نجد العربي القديم حين يأتيه لفظ بلا حكم لم يكن لقبله. وها هوذا رجل عربي قال: أشهد أن محمداً رسولَ الله - بفتح اللام في كلمة «رسول» - وبهذا القول تكون «رسول الله» صفة لمحمد وليس فيها الخبر المطلوب. لذلك قال عربي آخر: وماذا يصنع محمدا؟ ليفلت القائل إلى أنه لم يتلق الخبر. إذن كل لفظ له معنى، وهذا المعنى مفرد ولا بد له من نسبة. مثلما نقول لصديق: «محمد» ، ويعرف هذا الصديق محمدا، فيسألك: «وما لمحمد» ؟ وبقوله هذا إنما يطلب الخبر ليعرف ماذا حدث له أو منه، فتقول: «محمد زارني أمس» . وهكذا تكتمل الفائدة. إذن فكل لفظ من الألفاظ المفردة له معنى حين يفرد. فإذا ما جاء الحكم تنشأ عنه النسبة. وإن كانت النسبة واقعة وبعتقدها قائلها؛ ويستطيع إقامة الدليل عليها فهذه نسبة علم؛ لأن العلم نسبة مجزوم بها وواقعة ونستطيع إقامة الدليل عليها تماما مثلما نقول: (الأرض كروية) حيث توحي الكلمة أولاً بصورة الأرض وأضفنا إليها نسبة هي «كروية» لأننا نعتقد أنها كروية والواقع يؤكد ذلك، فإذا ما جئنا بالدليل عليها فهذه نسبة علم. إذن فالعلم نسبة مُعتقَدة وواقعة وعليها دليل. أما إذا كانت النسبة واقعة ومعتقدة ولا نستطيع التدليل عليها فذلك هو التقليد مثلما يكرر الطفل عن والده بعضاً من الحقائق ولكنه لا يستطيع إقامة الدليل عليها، إنه يقلد من يثق به، إذن فالمرحلة الأقل من العلم هي التقليد. أما إذا كان الإنسان يعتقد أن النسبة قد حدثت ولكن الواقع غير ذلك، فهذا هو الجهل، فالجهل ليس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3189 معناه أنك لا تعرف، ولكن أن تعرف قضية مناقضة للواقع. والجاهل يختلف عن الأمي، فالأمي هو الذي لا يعرف، أما الجاهل فهو الذي يعرف قضية مخالفة للواقع ومتشبث بها. {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} والحق هنا يتساءل: هل يرغبون في الاستمرار بالاعتقاد الخاطئ الجاهل؟ والأمر مع الأمي - كما عرفنا - يختلف عن الأمر مع الجاهل؛ لأنه يكفيك أن تقول للأمي العلم الذي تريد تعليمه إياه ويقبله منك، أما الجاهل فلا بد للتعامل معه من عملين. . الأول أن تجعله يحذف ويستبعد من باله القضية الخاطئة، والثاني أن تجعله يقتنع بالقضية الصحيحة. والذي يرهق الدعاة إلى الدين هم الجهلة هؤلاء الذين يعتقدون اعتقاداً خاطئاً يتضمن قضايا باطلة. لكن ماذا إن كانت النسبة مجالاً للنفي ومجالأً للإثبات؟ إن كان النفي مساوياً للإثبات فهي نسبة شك. وإن غلب الإثبات فهذا ظن. وإن كان النفي راجحاً فذلك هو الوهم. وهكذا يتضح لنا أن قضية الجهل قضية صعبة، والذي يسبب التعب في هذه الدنيا هم الجهلة؛ لأنهم يعتقدون في قضايا خاطئة. فإذا كان هناك حكم من الله. فلماذا لا يرتضون إذن؟ أيريدون حكم الجاهلية؟ وكان أهل الكتاب أنفسهم يسفهون حكم الجاهلية. ولنلحظ أن هذا التسفيه كان في زمن المواجهة بين الجاهلية وبين أهل الكتاب. وكانوا يستفتحون عن أهل المدينة ومكة. وكثيراً ما قالوا: لقد أظلّنا عهد نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. ولكن ما إن جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى قالوا العكس، ماذا قالوا للجاهلين؟ هاهوذا الحق يخبرنا بما قالوا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: 51] وقد ذهب بعض من أحبار اليهود إلى قريش، وسألهم بعض من سادة قريش: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم فأخبرونا عنا وعن محمد. فقال الأحبار: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3190 ما أنتم وما محمد؟ فقال سادة قريش: نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونفك العاني ونصل الأرحام ونسقي الحجيج وديننا القديم ودين محمد الحديث. فقال الأحبار: أنتم خير منه وأهدى سبيلا. وبذلك زوروا القول. وينقل الرواة قصة أخرى في هذا الموضع، أن واحداً من أحبار اليهود قال لأبي سفيان: أنتم والله أهدى سبيلاً مما هو عليه. وقال الأحبار ذلك حسداً لرسول الله. إذن فهل يرتضي أهل الكتاب حكم الجاهلية؟ لا. ولكنه التناقض والتضارب. وماداموا قد تناقضوا مع أنفسهم صار من السهل أن يتناقضوا مع الكتاب الذي نزل إليهم. ولذلك يتساءل الحق: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} ثم يأتي من بعد ذلك بالمقابل وهو قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً} . وسبحانه لم يقل: إن الأحسن في الحكم هم المسلمون لجواز أن يكون من المسلمين من ينحرف، لذلك رد الأمر إلى ما لا يتغير أبداً وهو حكم الله. وحين يقرر سبحانه ذلك فإنه - اولا - يعلم أنه سيأتي قوم مسلمون وينحرفون عن المنهج. ونحن نرى في بعض الأحيان سلوكاً منحرفاً من مسلم، فهل نلصق هذا السلوك بالإسلام؟ لا. بل ننظر إلى حكم الله في كتابه. وعندما نرى أن حكم الله يجرم فعلاً وله عقوبة، فالعقوبة تقع على المسلم المنحرف أيضاً. والمثال قوله الحق: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وهذا الحكم يطبق على المسلم وغير المسلم، إذن فلا نقول هذا حكم المسلمين وذلك حكم الجاهلية. ولكننا نقول: إنه حكم صاحب المنهج وهو الله. ونلحظ أن هناك استفهاماً في قوله الحق: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً} . والاستفهام هو نقل صورة الشيء في الذهن، لا نقل حقيقة الشيء. وساعة يطلب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3191 المتكلم من المخاطب أن ينقل إليه الفهم، هنا نقول: هل كان المتكلم لا يعلم الحكم؟ قد يصح ذلك في الحياة العادية. وقد نراه حين يقول إنسان لآخر: من زارك أمس؟ فنكون أمام حالة استفهام عن الذي زاره، تلك هي حقيقة الاستفهام، لكن ما بالنا إذا كان الذي يتكلم ويستفسر لا تخفى عليه خافية، إنه - سبحانه - يطلب - منا أن نجيب على سؤاله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً} . وتلك عظمة الأداء. وأضرب مثالاً آخر - ولله المثل الأعلى - عندما يأتيك إنسان ويدعي أنك لم تحسن إليه لأنه كان سجيناً مثلاً وأنت الذي أخرجته من السجن. فتقول له: من الذي ذهب ودفع عنك الكفالة وأخرجك من الحبس؟ إنك أنت الذي فعلت ولا تريد أن تقول له: لقد فعلت من أجلك كذا وكذا، ولكنك تريده هو أن ينطق بما فعلته له، ولا تقول ذلك إلا وأنت واثق أنه لن يجد جواباً إلا الاعتراف بأنك أنت الذي صنعت له كذا وكذا، وبذلك تصبح المسألة إقراراً وليس إخباراً. {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} فالحق عالم أنهم حين يديرون رءوسهم في الجواب، لن يجدوا إلا أن يقولوا: يارب أنت أحسن حكماً. وهذا إقرار منهم وإخبار أيضاً. أما عند المؤمن فالأمر يختلف تماماً؛ لأن المؤمن بعترف ويقر بفضل الله عليه. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالذي يفهم أن حكم الله هو الأفضل هم القوم الذين دخلوا إلى مرحلة اليقين. ونعلم أن مراحل اليقين تتفاوت فيما بينها، فعندما يخبرك إنسان صادق في قضية ما فأنت تعلم هذه القضية. كأن يقول لك: لقد ذهبت إلى نيويورك. وهذه المدينة تقع على عدد من الجزر وبها عمارات شاهقة والعنف منتشر فيها. والناس تبدو وكأنها ممسوسة من فرط الهوس على الثروة. وحين تسمع هذا الصادق فأنت تأخذه على محمل الجد وتعتبر كلامه يقيناً وهذا هو علم اليقين، أي أنه إخبار من إنسان تثق فيه لأنه صادق. وبعد ذلك يأتي هذا الإنسان ليوجه لك الدعوة، فتركب معه الطائرة، وتطير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3192 الطائرة على ارتفاع يساوي أربعين ألف قدم، وبعد إحدى عشرة ساعة تهبط الطائرة قليلاً؛ لترى أضواء مدينة صاخبة، ويقول لك صاحبك: هذه هي نيويورك، وتلك هي ناطحات السحاب. هكذا صار علم اليقين عين يقين. وعندما تنزلان معاً إلى شوارع نيويورك فأنتما تسيران إلى جزيرة مانهاتن. وتصعد إلى برج التجارة أعلى ناطحات السحاب في نيويورك، وهذا هو حق اليقين. إذن: فمراحل اليقين ثلاث: علم يقين: إذا أخبرك صادق بخبر ما، وعين يقين: إذا رأيت أنت هذا الخبر، وحق يقين: إذا دخلت وانغمست في مضمون وتفاصيل هذالخبر. وقديماً قلت لتلاميذي مثالاً محدداً لأوضح الفارق بين ألوان اليقين، قلت لهم: لقد رأيت في أندونيسيا ثمرة من ثمار الموز يبلغ طول الثمرة الواحدة نصف المتر. وبالطبع صدقني التلاميذ؛ لأنهم يصدفون قولي. وقد نقلت لهم صورة علمية. وصار لديهم علم يقين. وبعد ذلك أدخل إلى غرفة وأفتح حقيبة وأخرج منها ثمرة الموز التي يبلغ طولها نصف المتر. وبذلك يصير علم اليقين عين يقين. وبعد ذلك أمسكت بسكين وقمت بتقشير ثمرة الموز ووزعت على كل واحد منهم قطعة. وهكذا صار لديهم حق يقين. وحين يطلق الحق «اليقين» فهو يشمل الذي علم والذي تحقق. فأهل الأدلة، علموا علم اليقين، وأهل المرائي والمشاهدات علموا عين اليقين، وأهل الفيوضات والتجليات وصلوا إلى حق اليقين. والمؤمنون بالله يقول الواحد منهم: أنا بمجرد علم اليقين موقن تماماً ولا انتظر حق اليقين لأني لا أجرؤ على التكذيب؛ لذلك نجد أن سيدنا الإمام عليا - كرم الله وجهه - يقول: لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقيناً. {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 1 - 7] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3193 والبداية تكون علم اليقين، ثم نرى الجحيم ونحن نسير على الصراط فتصير عين اليقين، ومن لطف الله أنه جعلنا - نحن المسلمين - لا نراها حق اليقين. وهو القائل: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] هو يعطينا صورة الجحيم. لكن حينما أراد الحق أن يعطينا صورة حق اليقين، فقد جاء بها في قوله الحق: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 75 - 82] كل ذلك مقدمة ليقول الحق: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] وما يذكره الحق هنا عن منزلة المصدق المؤمن إن هذه المنزلة هي الجنة ويرى ذلك عين اليقين. أما منزلة المكذب الكافر، فله مكانه في النار؛ لذلك سيرى كل الناس النار كعين اليقين. أما من يدخله الحق النار - والعياذ بالله - فسيعاني منها حق اليقين، وسينعم المؤمنون بالجنة حق اليقين. ومن بعد ذلك يقول الحق: {ياأيها الذين ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3194 نلحظ أن الخطاب هنا للذين آمنوا. والمنهي عنه هو اتخاذ اليهود والنصارى أولياء. وما معنى الوليّ؟ . الوليّ هو الناصر وهو المعين. وهذا القول مأخوذ من ولي يلي؛ أي يقف في جانبه. ونسمي الذي ينوب عن المرأة في عقد النكاح «الوليّ» . وكذلك «وليّ المقتول» . والمراد هو: يا من آمنتم لاحظوا تماماً أنكم أصحاب مهمة وهي أن تخرجوا الضلالات من البشر، هذه الضلالات تمثلت في تحريف ديانات كان أصلها الهدى فصارت إلى ضلال، فإياكم أن تضعوا أيديكم لطلب المعونة والنصرة. إذن قوله الحق: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} هو حكم تكليفي. وحيثية الإيمان بالله. فما دمت قد آمنت بالله فكل من تقدح أنت في إيمانه بمخالفته لمنهج ربه لا يصح أن يكون مؤتمناًَ على نصرتك؛ لأنه لم يكن أميناً على ما معه فهل تتوقع منه أن يعينك على الأمانة التي معك لا؛ لأنه لم يكن أميناً على ما نزل عليه من منهج. والولاية نصرة، والنصرة انفعال الناصر لمساعدة المنصور. وهل تجد فيهم انفعالاً لك ينصرك ويعينك، أو يتظاهرون بنصرتك، ولتعلموا أنهم سيفعلون ما قاله الحق: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] إنهم لو دخلوا في صفوفكم لفعلوا فيكم مثلما يفعل المنافقون، فما بالنا بالذين خانوا أمانة الكتب المنزلة عليهم؟ إذن فالموالاة والنصرة والمعونة يجب أن تكون من متحد معك في الغاية العليا. وما دام هناك من يختلف مع الإسلام في الغاية العليا وهي الإيمان فلا يصح أن يأمنه المسلم. وسبحانه يقول: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} . وقد يتساءل الإنسان: كيف يقول الحق فيهم: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ} [البقرة: 113] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3195 ويقول سبحانه أيضاً: {وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113] ويقول جل شأنه: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113] نحن - إذن - أمام ثلاثة أقسام؛ يهود، ونصارى، ومشركون، وقد قال مشركو قريش مثل قول أهل الكتاب بشقيهم برغم أنهم في خلاف متضارب وكل منهم ينكر الآخر، وسبحانه قال: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة} [المائدة: 14] فكيف من بعد ذلك يقول سبحانه: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} ؟ وهذا أمر يحتاج إلى وقفة إيمان لنرى الصورة كاملة، ونعلم أن الذين يخالفون منهج الحق قد يصح أن يكون بينهم خلاف على السلطات الزمنية، لكنهم عندما يواجهون عملاقاً قادراً على دحر كل بنيان أكاذيبهم يتفقون معاً. وهذا ما نراه في الواقع الحياتي: معسكر الشرق - الذي كان - يعادي معسكر الغرب، ولكن ما إن يجيء شيء يتصل بالإسلام حتى يتفقوا معاً على الرغم من هزيمة المعسكر الشرقي؛ لأن الإسلام بمنهجه خطر على هؤلاء وهؤلاء وعلى سلطاتهم ولكنه في الحقيقة رحمة بهم إنه يخرجهم من الظلمات إلى النور وهم يتصرفون في ضوء ما قاله الحق: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} . وعندما ينفرد كل منهم بالآخر فإنه ينطبق عليهم قول الحق: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء} [المائدة: 14] هكذا نفهم طبيعة العلاقات بين أعداء الإسلام. ويقول الحق: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي أن من يتخذهم نصراء ومعينين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3196 فلا بد أنّه يقع في شرك النفاق؛ لأنه سيكون مع المسلمين بلسانه ومع أعداء الإسلام بقلبه. ويذيل الحق الآية بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} ونعرف أن الظلم هو نقل حق إلى غير صاحبه، وأعلى مراتب الظلم هو الشرك بالله، وهو الظلم العظيم؛ فالحق يقول: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ذلك أن الإنسان حين يظلم إنساناً آخر ويأخذ منه شيئاً ليعطيه لآخر فهل هناك إنسان يقدر على أن يأخذ من الله شيئاً؟ لا، فالإنسان لا يستطيع أن يظلم الله، لكنه ينال عقوبة الشرك وهذا ظلم خائب للنفس والذي يشرك بالله لا يأخذ إلا الخسار، وذلك هو كل الخيبة. لأن الظلم حينما يحقق للظالم فهو ظلم هين، ولكن الظلم العظيم هو أن يشرك إنسان بالله ولا يأخذ إلا العقاب الصارم. فإذا كان المشرك يتأبّى على منهج الله في الأشياء فهل يجرؤ على أن يتأبّى على قدريات الله غير الاختيارية فيه كالموت مثلاً؟ . والحق يأمر الإنسان بالإيمان. ومتعلقات الإيمان من شهادة بوحدانيته وإيمان برسله وكتبه واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا. والمشرك يتأبّى على الإيمان والتكاليف فهل يجرؤ على التأبي على المرض أو الموت؟ . لا؛ لذلك فهو يظلم نفسه ظلماً خائباً. والحق سبحانه لا يهديه؛ لأن معنى الهداية هو أن يجد الإنسان من يدله على الطريق الموصل للغاية. فهداه أي دلّه على الطريق الموصل للغاية. ولا يتجنّى سبحانه على خلقه فلا يهديهم، بل الذين ظلموا أنفسهم ولم يؤمنوا هم الذين لا ينالون عناية الحق سبحانه وتعالى باختيارهم. والحق سبحانه يقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3197 {فَتَرَى الذين ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3198 المجال هنا كان عن النهي عن اتخاذ أهل الكتاب أولياء من دون الله، ومن سمع هذا النهي وفي قلبه الإيمان نفّذ النصيحة. ولكن الذي طمس المرض - وهو النفاق - قلبه فهو الذي يتولاهم. وهو يسارع إلى هذه الولاية. ونعرف أن المسارعة هي تقليل الزمن في قطع المسافة الموصلة للغاية فإذا كانت هناك مسافة تقتضي السير لمدة خمس عشرة دقيقة فالمسارعة تفرض على الإنسان أن يقطعها في وقت أقل من ذلك. وهناك «يسارع إلى» و «يسارع في» ، مثل قول الحق: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133] والغاية هنا هي المغفرة من الله وعلى المؤمن أن يسارع إليها، أما عندما يقال: (يسارع في كذا) أي أنه كان في الأصل منغمساً في هذا الموضوع. وعندما يقول الحق: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي كانهم كانوا مع هؤلاء الكفار من البداية، ولذلك فالمسارعة في ظرفيتهم. وبذلك يتهافتون عليهم. والعلّة العامة أن في قلوبهم مرضاً جعلهم يبتكرون ويلفقون أسباباً، هذه الأسباب هي {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} والموالاة هنا من الخوف أن تدور الدوائر، ونحتاج إليهم لأن عندهم الأموال والسلاح، وهذا ما قاله المنافق عبد الله بن أبيّ؛ فقد قال: أنا رجل أخشى الدوائر. أي أنه يخشى الأحداث والمصائب. مثلما نقول: «الأيام دول» . ولكن كلمة «دول» هي انتقالية وقد لا يكون فيها ضرر، أما «دوائر» فهي انتقالية فيها ضرر. وعكس ذلك ما قاله عبادة بن الصامت قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: - أنا سآخذ ولاية الله ورسوله والمؤمنين وسأنفض عني ولاية اليهود والنصارى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3198 وأورد الحق قول المنافق: {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} وساعة نسمع كلمة «الفتح» ، فلنعرف أدلّ مدلولاتها أنه الحكم. {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89] أي احكم يا رب بيننا وبينهم. إذن فقوله الحق: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} أي الحكم الذي يضع حدّاً لمسألة موالاة أهل الكتاب والذين لا يعلمون. والأمر من عند الله هو حكم من الله أيضاً. يخاطب المؤمنين به. والمؤمن بالله له أعمال تؤدى كأسباب إلى مسببات، وقد يأتي للمؤمنين أشياء بدون مقدمات منهم، وهي الفضل من الله. إذن فعسى الله أن يأتي بالفتح، أي بأسباب أنتم تصنعونها وتعدّون ما استطعتم من عِدِّة وعُدَّة وتؤذونهم، ولذلك قال في آية أخرى: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: 6] مثال ذلك ما حدث لبني النضير، فكان الإجلاء، واستولى المسلمون على أرض بني قريظة، وهذا هو الفتح من عند الله. وسبحانه - إذن - يعامل المؤمنين معاملتين: الأولى أن يصنع المؤمنون مقدمات تؤدي إلى نتائج: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] وهنا جعل الحق قتال المؤمنين سبباً، أما الثانية فهي الأمر من عنده بالنصرة بالربوبية. وساعة تسمع «عسى» و «لعل» فهذا معناه الرجاء. والرجاء أن المتكلم يرجو أن يقع ما دخلت عليه «عسى» . مثال ذلك قولنا: {عسى أن تكرم زيداً) . ومن يقولها إنما يرجو سامعها أن يكرم زيداً، وهذا يعني أن القائل ليس في يده إكرام زيد. أما إذا قال القائل: (عسى الله أن يكرم زيداً) ، فهذا نقل للرجاء من البشر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3199 إلى الله. والقائل هنا بشر ويتكلم عن بشر، والمرجو هو الله، وقدرة الله أوسع من كل قدرة. هنا ندخل في اتساع دائرة الرجاء فما بالنا إذا كان المتكلم هو الله؟ إذن فهذا إطماع من كريم لا بد أن يتحقق. ونتعرف بذلك على درجات الرجاء: رجاء من بشر لبشر، رجاء بشر من إله لبشر، رجاء إله من إله لبشر، ولأن الرجاء الأخير من المالك الأعلى لذاته فهو الذي يعطي {فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أي أنهم صاروا إلى الندم. وبذلك صار قولهم: {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} هو كشف لما في قلوبهم من مرض النفاق، وقد خلعوا على المرض وعبروا عنه بهذا الكلام سترا لما في قلوبهم، فكأن الذي أسروه في نفوسهم هو كراهية هذا الدين وكراهية هذا المنهج وأنهم لا يحبون أن يستعلي هذا المنهج على غيره. إذن فالحق سبحانه وتعالى يدلنا على أن القول الذي نشأ منهم: {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} لم يكن هو السبب المباشر. ولكن السبب هو المرض في قلوبهم. والمرض: أنهم لا يحبون أن ينتصر منهج الإسلام؛ لأنهم يعيشون على ثروات المخالفين للدين، وساعة تكون السيطرة للإسلام ينتهي ثراؤهم. وكذلك كان أهل الكتاب في المدينة قبل أن يأتي الإسلام كانوا أصحاب العلم والمال والجاه، وكانت الأوس والخزرج يأخذون منهم المال بالربا ويشترون منهم السلاح، ويأخذون منهم العلم. ولما جاء الإسلام ضاع من اليهود كل ذلك فتمكن من قلوبهم المرض؛ لأن الإسلام سلبهم السلطة الزمنية، هذه السلطة التي جعلتهم يحرفون كتب الله. فإذا كانوا قد دخلوا مع الله في تحريف كتبه، أفلا يدخلون معكم - أيها المسلمون - في عداوة ويلبسون عليكم بأنهم يعينون وهم يُخَذِّلون؟ {فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} وساعة يسمعون هذا القول الرباني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3200 وهو قرآن يتلى ويتعبد بتلاوته ويُقرأ في المساجد ويسمعونه، ولم يكن هناك فتح، ولم يكن هناك أمر، ويخبرهم الله بمصيرهم: {فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} ومعنى ذلك أنه سبحانه كتب الذي في نفوسهم. مثلما قال من قبل: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ} . أي أنهم قالوا في أنفسهم وسمعهم الخالق. ولو لم يقولوا في أنفسهم لأعلنوا أنهم لم يقولوا ذلك، لكنهم بهتوا حين كشفهم الحق وفضحهم وسجل ما في أنفسهم وأورد مضمون القول، وكان من اللازم أن يعترفوا بمضمون القول، وكان لا بد لهم أن يتجهوا إلى الإيمان. لكنهم لم يفعلوا فصاروا إلى الندم. بنص الآية التي نزلت قبل أن يأتي فتح أو أمر من الله. ويقول الحق بعد ذلك: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3201 هنا يرى المؤمنون رأي العين ندم هؤلاء. والندم انكسار القلب في الحاضر على تصرف سابق مثلما يرتكب إنسان حماقة وتظهر آثارها من بعد ذلك، فيقول: يا ليتني لم أكن قد فعلت ذلك. إنه انكسار نفس على تصرف سابق. وانكسار النفس يتضح على بشرة الوجه. وساعة يأتي الفتح تجد المنافقين وأهل الكتاب مكبوتين كبتاً قسرياً وهو الكبت الذي لا يجرؤ صاحبه عليه فيدعي أنه فرحان، إنه قسري بإلحاح بِنْيَة، وظهور أثر ذلك على وجوههم. وهنا يفطن المؤمنون إلى ذلك فيقولون: {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} . ولو كان هؤلاء المنافقون من الصادقين لفرحوا ولكانت أساريرهم متهللة، ولظهرت عليهم الغبطة. لكنهم صاروا عكس ذلك، صاروا نادمين مكبوتين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3201 {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ} أي حبط عملهم وقولهم: «إنا معكم» . والحبط هو - كما قلنا - الانتفاخ الذي يصيب البهيمة التي تأكل طعاماً غير مناسب لها، فيظن الناس أنها قد سمنت ولكنهم ياتفتون فيجدون أنها مصابة بانتفاخ قاتل. {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} والخسارة في معناها الواضح أن يقل رأس المال. لقد فعل المنافقون ذلك ليستروا وراء المسلمين ولم يسلم لهم هذا الأمر وانكشفوا. ويقول الحق بعد ذلك: {ياأيها الذين ... } الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3202 والخطاب هنا للمؤمنين، وكل نداء مثل هذا قد يجيء بعده حكم من الأحكام أو بشارة من البشارات أو وعيد للمخالف. والذي يأتي فيه شبه إشكال وليس بإشكال، هو أن يأتي هذا القول ويكون ما بعده أمر بالإيمان كقوله الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} فسبحانه يناديهم كمؤمنين ويطلب منهم الإيمان، ومثال ذلك قول القائل: «يا قائم قم» برغم أن المفروض أن يكون القول: «يا قائم اجلس» أو «يا قائم تعال» ، أو «يا قائم انصرف إلى فلان» ، فكيف إذن يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} . هنا نقول: ما الإيمان؟ الإيمان هو استقرار العقيدة في القلب فلا تطفو للذهن لتناقش من جديد. ونسمي ذلك عقيدة، أي أمراً معقوداً في القلب. إذن فالحق سبحانه وتعالى حينما يخاطب مؤمناً يطالبه ان يؤمن، فمعنى ذلك أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3202 الحق يقول: أنت آمنت قبل أن أناديك وبسر الإيمان ناديتك فحافظ على هذا الإيمان دائما. وجدد دائماً إيمانك لأنني ناديتك بوصف الإيمان الذي عرفته فيك. إن الحق يوضح: يا أيها الذين آمنوا داوموا على إيمانكم ولتكن كل لحظة من لحظات حياتكم المقبلة في إيمان عالٍ مرتقٍ قبل أن أتكلم معكم بوصف الإيمان أنتم آمنتم أولاً فناديتكم فحافظوا على ذلك واثبتوا على إيمانكم. ومعنى قوله: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} أي من يتراجع منكم عن الإسلام فسيأتي الله بعوض عنه، وسيأتي بقوم لن يكونوا مثل هؤلاء المرتدين. إذن فمن يرتد فعليه أن يفهم أنه لن ينقص جند الله واحداً؛ لأن الذي أذن لشرعه أن ينزل على رسول ونبي خاتم لن يجعل هذا الرسول وهذا المنهج تحت رحمة أغيار الناس. فإن خرج أناس عن المنهج فالله يستبدل بهم غيرهم. وفي هذه الآية أسلوب يخالف آية البقرة في الوجه الإعرابي، وسبحانه يقول في آية البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] هنا وجدنا الحق يقول: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} أما في الآية التي نحن بصددها في سورة المائدة فهو سبحانه يقول: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} ونجد الأسلوبين مختلفين. والحكمة العليا في أن الحق سبحانه وتعالى يأتي في كتابه بآيات متحدة في المعنى إلا أن وجه الإعراب فيها يختلف ليدلنا أن القرآن نزل إلى الناس كافة. وقبل أن ينزل القرآن كانت هناك لغتان: لغة تميم، ولغة الحجاز. وكان الخلاف بين اللغتين محصوراً في الكلمة التي بها تضعيف، أي فيها حرفان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3203 من شكل واحد أي متماثلان. وكلمة «يرتد» بها «دالان» وأصلها «يرتدد» . و «يرتد» بها مِثْلان والنطق بهما صعب. ولذلك حاول الناس في مثل هذه الحالة أن يدغموا مِثْلاً في مثل. ولذلك كان من اللازم أن نُسكن الحرف الأول من المثلين. والمفروض أن «الدال» الثانية ساكنة؛ لأن «مَن» شرطية جازمة. والدال الأولى أصلها بالكسر. ولا بد من الإدغام. والإدغام يقتضي إسمان الحرف الأول. إذن فمن أجل الإدغام نفعل ذلك. ونحن نعلم أن الساكنين لا يلتقيان، وكان تسكين الحرف الأول لأنه ضروري للإدغام، أما الحرف الساكن الآخر فهو الطارئ. فنتصرف فيه، ولذلك نحركه بالفتح حتى نتخلص من التقاء الساكنين. ولذلك نقول: «من يرتد» بالفتح. وجاء لي ذات مرة سؤال يقول: كيف يأتي القرآن ب «يرتد» بالنصب أي بالفتح؟ وقلت: إنها ليست «فتحة نصب» والسائل يفهم أن «مَن» إما اسم موصول، وإمَّا هي «مَن» الشرطية، فلو كانت اسماً موصولاً؛ لكان القول «من يرتدُ» - بالضم - وإن كانت «مَن» الشرطية لجاءت بالتسكين ولأن ما قبلها جاء ساكناً للإدغام تخلصنا من السكون بالفتحة وهي «فتحة» التخلص من ساكنين، لأنه - كما قلنا - لا يلتقي ساكنان. والذي يُظهر لنا ذلك هو آية البقرة التي قال فيها الحق: «ومن يرتدد» بدليل أنه عندما عطف قال: «فيمت» بالجزم عطفا على يرتدد. أما السبب في أن جواب الشرط واضحٌ في آية المائدة أنه لم يأت فعل جوابي أو عطف، وجواب الشرط هو قول الحق: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ويدل على ذلك دخول الفاء على كلمة سوف لكن لو كان الحق قد قال: من يرتد منكم عن دينه يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه كان يمكن الفهم بسرعة أن «مَن» شرطية، لأن كلمة «يأت» جاءت مجزومة بحذف آخرها، ومن هنا يتضح أن الفتحة في «يرتد» هي فتحة التخلص من التقاء الساكنين. وما السبب في أن الحق يأتي بآية على هذا النسق، وآية أخرى على ذاك النسق؟ نحن نعلم أن القرآن قد نزل بلغة قريش. وكانت قريش تمتلك السيادة. ولم تكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3204 هناك قبيلة بقادرة على مواجهة قريش. ونعرف جميعاً أن رحلة قريش إلى اليمن لم يكن ليجرؤ إنسان أن يتعرض لها، وكذلك في رحلة قريش إلى الشام؛ لأن قريشا تستوطن حيث يوجد بيت الله الحرام الذي يحج إليه كل عربي. ويوم أن يتعرض أحد لقوافل قريش فعليه أن ينتظر العقاب له أو لقبيلته، إذن فالبيت الحرام هو الذي أوجد لهم تلك المهابة لذلك ينبههم الحق إلى ذلك عندما قال في سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1 - 5] وقد تم وعيد الله لأصحاب الفيل، لأنهم أرادوا هدم بيت الله الحرام. ثم يتبع الحق سورة الفيل بقوله في سورة قريش؛ {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 1 - 2] ليوضح سبحانه أنه من ضمن أسباب صيانة بيت الله الحرام أن حفظ سبحانه لقريش الأمان في رحلة الشتاء والصيف، ولو انهدم البيت الذي يحقق لقريش السيادة لهجم الناس على القرشيين من كل جانب؛ لأنه القائل في شأن من قصدهم لهدم بيت الله الحرام. {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5] {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] وما دامت تلك المسألة قد صنعها الله لقريش، فلا بد لهم من عبادة رب هذا البيت: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] إذن فقريش أخذت السيادة بين العرب بمكانة البيت، وأخذت السيادة أيضاً في اللغة، وكانت كل أسواق العرب تعقد هناك، وأشهرها سوق عكاظ، وكان ينصب في قريش خلاصة اللغات الجميلة من القبائل المختلفة. وهكذا أخذت اللغة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3205 المصفّاة المنتفاة، فكل شاعر كان يقدم أفضل ما عنده من شعر. وكل خطيب كان يأتي بأحسن ما عنده من خطب. وبذلك كانت قريش تسمع أجود الكلمات. ولهذا كانت اللغة التي عندهم هي اللغة العالية. ولذلك عندما جيء لزمن كتابة القرآن كانت الوصية: إن اختلف عليكم شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ لأن لغة قريش أخذت من اللغات محاسنها. وبنو تميم والحجاز كانوا مختلفين في بعض الأشياء. ولذلك كنا نسمع - عندما نتعلم الإعراب - قول المعلم وهو يسألنا: هل «ما» حجازية أو تميمية؟ وهذا يدلنا على أن هناك خلافاً بين النطق في القبيلتين. وفي الآية التي نحن بصددها ندغم ونقول: {مَن يَرْتَدَّ} وفي آية البقرة ننطقها دون إدغان فنقول: «ومن يرتدد» . وكأن الحق جاء بآية على لغة الحجاز واية على لغة تميم، وذلك برهان جديد على أن القرآن لم يأت ليحقق سيادة القريش، إنما هو للناس كافة؛ لذلك نجد من كل لهجة كلمة، ليتضح أن القرآن لعموم الناس جميعهم. وعندما نقرأ قول الحق: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] نعلم أنه سبحانه يعلمنا أنه قادر على أن يأتي بأهل إيمان غير الذين ارتدوا عنه، تماماً كما أخبرنا من قبل: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] والقول هنا: خبر عن مصير المرتد إلى جهنم بعد أن تقوم الساعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3206 ولكن القول: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} يدل على أن إجراءً سيحدث قبل أن تقوم القيامة. ومن ذا الذي يستطيع أن يتصور أن إلهاً ينزل قرآنا يتحدى به ثم يأتي في القرآن بقضية مازالت في الغيب ويجازف بها، إن لم تكن ستقع؟ . والحق يقول: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} و «سوف» تخبرنا بموقف قادم سيأتي من بعد ذلك. ونقول هنا: من الذي يستطيع أن يتحكم في اختيارات الناس للإيمان؟ . لا أحد يستطيع أن يتحكم في اختيارات الناس للإيمان إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يتحكم ويحكم ويخبرنا بأنه سوف يأتي أناس يؤمنون بدلاً من المرتدين. أما إن ارتد أناس، وانتظروا أن يروا البديل لهم، ولم يأت فماذا يكون الأمر؟ لا بد أن تنصرف الناس عن الدين. ولم يكن الحق ليجازف ويجري على لسان محمد بأن قوماً سيرتدون وهو لا يعلم أيأتي قوم مرتدون؟ والعلم جاء في هذه الآية كما جاء في كل القرآن من الله جل وعلا. وقد قالها الحق قضية كونية: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . وهل هناك قوم يحبهم الله وهم لا يحبونه؟ ونقول: إن هذا لا يحدث مع الله، وإن كان يحدث في الحياة البشرية مثلما قال الشاعر العربي: أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون محبّاً غير محبوب وشقاء المحبين إنما يأتي من أن العاشق يحب أحداً، وهذا الحبيب لا يبادله الحب؛ لذلك يظل العاشق باكياً طوال عمره. ولنا أن نلحظ أن حب الله هو السابق في هذا القول الكريم: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ؛ لأن هذه هي صفة الانكشاف للعلم، لقد علم الحق أنهم سيتجهون إليه فأحبهم، وعندما جاءوا فعلوا ما جعلهم محبوبين لله، ثم ما هو الحب؟ . إنه ودادة القلب. وقلنا الكثير من قبل في أمر ودادة القلب. ونعرف أن هناك لوناً من الحب يتحكم فيه العقل. ولوناً آخر من الحب لا يتحكم فيه العقل ولكن تتحكم فيه العاطفة. ومثال هذا عندما نذهب إلى طبيب ويصف لنا دواء مراً غير مستساغ الطعم، ونجد الإنسان الموصوف له الدواء يذهب إلى الصيدلية للسؤال عن الدواء، فإن لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3207 يجده فهو يلف ويدور ويسأل في كل صيدليات البلد فإن لم يجده فهو يوصي المسافر إلى الخارج لعله يأتي له بالدواء. وإذا جاء له صديق بهذا الدواء فهو يمتلئ بالامتنان بالسرور. أيقبل المريض على الدواء غير المستساغ بعاطفته ام بعقله؟ إنه يقبل على الدواء غير المستساغ الطعم ويحبه بعقله. والحب العقلي - إذن - هو إيثار النافع. ومثال ذلك نجد الوالد لابن غبي يحب ابناً ذكياً لإنسان غيره. الوالد - هنا - يحب ابنه الغبي بعاطفته. ولكنه يحب ابن جاره لأنه يمتلك رصيداً من الذكاء. إذن هناك حب عقلي وحب عاطفي. وهذا ما يحدث في المجال البشري لكن بالنسبة لله فلا. وعندما يقول الحق: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} أي أنهم يحبون الله بعقولهم، وقد يتسامى الحب إلى أن يصير بعاطفتهم، وقد يُجرب ذلك حين يجري الله على أناس أشياء هي شر في ظاهرها، ولكنهم يظلون على عشق لله. ومعنى ذلك أن حبهم لله انتقل من عقولهم إلى عاطفتهم. وسيدنا عمر جرى معه حل هذا الإشكال. كيف؟ لقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» . وهناك من قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنه أحب إليه من ماله وولده لكن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: أنت أحب إليّ من مالي وولدي أما نفسي فلا وأعاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القول: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» . وهنا علم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقصد الحب العقلي؛ لأن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه علم أيضا أن الحب العاطفي لا يكلف به، ولذلك قال عمر: الآن أحبك عن نفسي، فرد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الآن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3208 يا عمر. أي كأنه في هذه اللحظة قد اكتمل إيمان عمر. إذن فحب الله لا تقل فيه أيها المؤمن هل هو حب عقلي أو حب عاطفي؟؛ لأن المراد بحب الإله هو دوام فيوضاته على من يحب، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فالحق يلقاه في أحضان نعمه ويتجلى عليه برؤيته: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] والحسنى هي الجنة. أما الزيادة فقد قال المفسرون: إنها رؤية المحسن. {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وعندما يقول الحق: «فسوف» فلنعلم أن ما يأتي بعدها هو من إعلامات النبوة التي جاءت على لسان محمد في قرآن الله؛ لأن ذلك الأمر قد حدث كما جاء في قرآن الله، فقد ارتد قوم وانقسموا في الردة إلى قسمين؛ قسم ارتد على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقسم ارتد على عهد أبي بكر، ومنهم من ارتد على عهد عمر. وحين تنظر إلى ما بعد «سوف» لا بد أن تعرف أن هناك امتداداً زمنياً. وأول الارتداد كان في اليمن وكان ذلك بعد حجة الوداع وفي حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكان في اليمن كاهن مشعوذ اسمه عَبْهَلة بن كعب، ويقال له: ذو الخمار، أو ذو الحمار في رواية أخرى، وهو الذي يعرف في كتب التاريخ الإسلامي باسم الأسود العنسي. هو أحد الكذابين اللذين ذكرهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: «بَيْنَما أنا نائم إذ اوتيتُ خزائن الأرض، فوُضع في يديّ سواران من ذهب فكبر عليّ وأهمّني، فأُوحِي إليَّ ان انفخهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما الكذابَيْن اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة» . وكان لهذا الكاهن حمارٌ روّضه صاحبه رياضة من لون خاص تماماً كتدريب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3209 القرود، فكان يقول له: قف. فيقف. ويقول له: سر. فيسير. واعتبر هذا الكاهن أن مثل هذا الأمر للحمار هو معجزة. أو كان الرجل اسمه «ذو الخمار» أي أنه كان يرتدي خماراً على وجهه. ومن العجيب أن اي مرتد لم يطالبه من يتعبه بعلامة صدقه في النبوة. إن أول شيء في التأكد من صحة قول أي إنسان: «أنا نبي» أن يسأله الناس عن علامة الصدق في النبوة وأن يتعرفوا على معجزته، لكنا لا نجد ذلك في مرتد أبداً. وكيف لا يسأل الناسُ الذين يتبعون المرتد عن نفسه وعن دعواه أنه نبي وعن معجزته التي تدل على صدق رسالته، وهو ما يحدث مع أي رسول، كيف يؤمن أناس بفرد بدون معجزة؟ . هنا نذهب إلى الجانب النفسي من الأمر ونقول: إن التدين أمر فطري والإنسان الذي ليس له دين يغضب ويحزن عندما نقول له: يا قليل الدين. ولذلك نجد أن المبطل من هؤلاء يقول: أنا على دين. إنه لا يتصور أنه مبطل بلا دين. ولذلك قال الحق: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] فكأن الأصل في الفطرة الأصلية أن الدين ليس مجرد اسم أو صفة، ولكنه التزام بتكاليف. والذي يجعل الناس في خشية من الدين هو مشقة التكاليف؛ لذلك فعندما يأتي إنسان ويقول: أنا نبي ومعجزتي أنني خففت عليكم الصلاة والزكاة والصيام وأبحت لكم النظر إلى نساء بعضكم. لا بد أن يسيل لعاب أصحاب الهوى الذين لا بصيرة لهم ويقولون: إن مثل ذلك لدين جميل، ويستسلمون ويخدعون أنفسهم بأنهم متدينون ورغم تحللهم من بعض التزامات التدين، إن المرء ليتعجب من مدعي النبوة في الزمن القديم وحتى عصرنا هذا لأننا لم نجد أحداً من المثقفين قد وقف أمام مدع وقال له: ما معجزتك؟ ولكن الكل سأل: ما منهجك؟ وعندما سأل أهل اليمن ذا الخمار: ما منهجك؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3210 كانت إجابته: إنه أسقط عنهم بعض التكليفات بداية من تقليل الصلاة والزكاة إلى إباحة الاختلاط بنساء غيرهم. واستراح بعضهم لذلك المنهج وذهلوا وغفلوا عن طلب المعجزة. وكل الذين ادعوا النبوة كانوا من هذا الصنف. ولذلك نجد أن كل مدع للنبوة يحاول التخفيف من المنهج، فهناك من خفف الزكاة. وجاءت امرأة اسمها سجاح خففت الصلاة. وجاء ثالث ليخفف الربا فيبيحه. لكن أحداً منهم لم يأت بمعجزة. واتبعه بعضهم لمجرد تسهيل المنهج. ومدعي النبوة إنما يرضي النفوس التي لا تطيق ولا تقوى على مشقة المنهج بأن تكون متدينة ملتزمة به. ومثال ذلك ما حدث في الإسكندرية عندما ظهر مدع للنبوة. وأباح منكراً مثيراً، وتبعه بعض من المتعلمين الذين أرادوا دينا على هواهم، وكذلك كان الأمر في البداية. وعندما جاء ذو الخمار، أو ذو الحمار، وهو كما قلنا: مشعوذ، وكان كما يصفه المؤرخون يسبي قلوب من يسمع منطقه وكان يريهم الأعاجيب، واستطاع بذلك أن يستولي على مُلْك اليمن، وأعلن ارتداده. وغلب على صنعاء وعلى ما بين الطائف إلى البحرين. وجعل يستطير شره استطارة الحريق. وكان سيدنا معاذ بن جبل هو الوالي على اليمن من قِبَل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأخبر سيدنا معاذ بن جبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال: إن كاهناًَ اسمه ذو الخمار أو ذو الحمار، قد ارتد. ويذهب سيدنا معاذ إلى حضرموت. وهناك يأتيه كتاب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأمره فيه أن يبعث الرجال لمصاولة ذي الخمار. ويحتال المسلمون للنهوض بما أمرهم به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وبعد ذلك يدخل على ذي الخمار رجل ديلمي اسمه فيروز فيقتله على فراشه. وعلى الرغم من بعد المسافة بين اليمن والمدينة إلا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول في ليلتها: «قتل الليلة الأسود العنسي» . وبعد ذلك يأتي الخبر في آخر الشهر أن مدعي النبوة قد قتل. وتلك من إعجازات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3211 النبوة. إذن فقد تعرض المؤمنون على زمن رسول الله صلى اله عليه وسلم للهزة في العقيدة بحكاية ذي الخمار أو ذي الحمار. وكانت قصة ذي الخمار كالمصل الواقي الذي يربي المناعة، وأخبرهم الله بها أولاً: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . وذلك ليعطي الحق سبحانه وتعالى المؤمنين مناعة إيمانية وكأنه يقول للمؤمنين: لا تظنوا أنكم لن تتعرضوا إلى هزات عقدية دينية بل ستتعرضون. وكأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: قد يجوز أن يفهم الناس أني وأنا حي أقوم على منهج الله في الأرض فإذا أنا مت ربما ارتدوا عن الدين. ورسول الله عندما يبلغ ذلك للمؤمنين عن الله - سبحانه - إنما كان بقصد تربية المناعة. فلو فوجئ المسلمون بالردة ولم يكن الله قد خبرهم بها لما كان عندهم احتياط مناعي. والاحتياط المناعي هو أول عملية في الوقاية. ونعلم أن العلم المعاصر استطاع فصل الميكروب أو الفيروس المسبب لمرض وبائي، ويقوم العلماء بإضعاف هذا الميكروب أو الفيروس، ثم يوضع قليل من هذا الميكروب أو الفيروس بعد إضعافه في الجسم البشري، فتتحرك في الجسم أجهزة الوقاية والحماية لتقاتل هذا الميكروب أو الفيروس وتنتصر عليه، وبذلك تمتلك قوى الوقاية والحماية داخل الجسم القدرةَ على مقاومة هذا المرض، وهكذا أراد الحق بهذا القول الكريم: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . إذن فحين يوجد الارتداد، لا يفاجأ المسلمون بهذا الارتداد، ويثقون تماماً أنه بمجرد مجيئ الارتداد فإن وعد الله الآخر يجيء: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فلا فزع عند المؤمنين ساعة يحدث الارتداد ولا زلزلة في النفوس. وساعة يأتي الارتداد يقول المؤمن: إن الذي صدق في أنه يحدث الارتداد، سيصدق في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . وإذا رأيت «السين» تسبق قولاً فإن هذا يعني أن الزمن الذي يفصل بين الحدث والحدث قريب وقليل مثل قوله الحق: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} [البقرة: 142] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3212 أما عندما تقرأ «سوف» فأعلم أن الزمن الذي يفصل بين الحدث والحدث متسع وبعيد. ولذلك نحن نرى أن الردة قد امتدت في عهد أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وفي عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. وما هي ذي مواصفات القوم الذين يأتي بهم الله في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} ؟ إنها مواصفات ست: يحبهم الله، ويحبون الله، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم. وكيف يكون الإنسان المؤمن ذليلاً وعزيزاً في آن واحد؟ لأن الحق لا يريد أن يطبعنا على لون واحد من الانفعال، ولكنه يريد لنا أن ننفعل تبعاً للموقف. فعندما يحتاج الموقف إلى أن يكون المؤمن عطوفاً فالمؤمن يواجه الموقف بالعاطفة. وعندما يحتاج الموقف إلى الشدة فالمؤمن يواجه الموقف بالشدة. وإن احتاج الموقف إلى الكرم، فالمؤمن يقابل الموقف بالكرم. فالمسلم - إذن - ينفعل انفعالاً مناسباً لكل موقف، وليس مطبوعا على انفعال واحد. ولو انطبع المؤمن على موقف ذلة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب العزة فلا يجدها ولو طُبع المؤمن على عزة دائمة فقد يأتي لمواجهة موقف يتطلب الذلة فلا يجدها؛ لذلك جعل الحق قلب المؤمن ليناً قادراً على المواجهة كل موقف بما يناسبه. والمؤمن عزيز أمام عدوه لا يُغلب، ويجابهه بقوة. والمؤمن يخفض جناح الذل من الرحمة لوالديه امتثالاً لأمر الحق سبحانه: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الإسراء: 24] وهل إذا خفض المؤمن جناح الذل لوالديه. أيخدش ذلك عزته؟ لا. بل ذلك أمر يرفع من عزة الإنسان. والحق يريد المؤمن أن يكون غير مطبوع على لون واحد من الانفعال، ولكن لكل موقف انفعاله. وحين ينفعل المؤمن للمواقف المختلفة فهو يميز ما يحتاج إليه كل موقف {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} ويقال في اللغة: «ذليل لفلان» فلماذا - إذاً - يقول الحق هنا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3213 {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} ، و «على» تفيد العلو. والذلة تفيد المكانة المنخفضة، فكيف يأتي هذا التعبير؟ لقد جاء هذا القول على هذا الشكل لحكمة هي: أن المؤمن ما دام يحب الله ويحبه الله. وساعة يكون في ذلة لأخيه المؤمن فهذا يرفع من قدره. وهي ليست ذلة بالمعنى المتعارف عليه، ولكنه لين جانب وعطف ورحمة. إذن فقوله الحق: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} يعني أن المؤمنين يعطفون على غيرهم من المؤمنين حتى يبدو هذا العطف وكأنه ذلة. وبعض العلماء يقول: إن المادة «ذال» و «لام» تدل على معنيين متقابلين، مثال ذلك قوله الحق: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} [يس: 72] أي جعلناها خاضعة لتصرفهم. وهذا التذليل ليس بقهر من الإنسان للأنعام ولكنه بتسخير من الله. وهي ميسرة لخدمة الإنسان. ومثال آخر. قوله الحق: {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} [النحل: 69] أي متطامنة مهيأة. إذن فهذه ذلة اللين. وهناك «ذُل» - بضم الذال - وهو ضد العز. وهناك «ذِل» - بكسر الذال - وهو اللين. إذن فالذل بكسر الذال هو ضد الصعوبة؛ أي اللين. والذُّل - بضم الذال - هو ضد العز -، فإذا اردنا ذلّة اللين؛ فذل المؤمن للمؤمن من الذُّل، وإن أردنا الذلة التي هي ضد العز، فهي من الذُّل. وعندما يكون المؤمن على ذِلة للمؤمن. فهي ذِلة اللين والعطف. وعندما يريد الحق الشيء ليتدانى للمؤمن ولا يتعبه، فهو يقول: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان: 14] أي دُلِّيت عناقيدها. فالفاكهة تنزل إلى المكان الذي يوجد فيه المؤمن. وإن وقف المؤمن لطال بيده أن يقطف الثمار. وإن اضطجع لاستطاع أن ينال أيضاً من الثمار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3214 لأنها تتدانى له. وإن نام المؤمن لتدانى قطاف الثمار إلى مكانه وبذلك يستطيع أن يأكل منها في أي وقت وعلى أي وضع. وهنا يأتي الحق بالقول الحكيم: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} أي أن ذلة المؤمن لأخيه المؤمن ترفع منزلته. وبها يكون المؤمن أهلاً لأن ترفع منزلته؛ لأنه مصطفى بأن الله يحبه وأنه يحب الله، ولا توجد رفعة أكثر من هذه رفعة. ولذلك نجد القول المأثور: (من تواضع لله رفعه) . أي من تواضع وفي باله الله فإن الله يرفعه. {أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} وهذا هو الوصف الثالث للمؤمنين في تلك الآية بعد قوله الحق: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} . إن المؤمن عزيز على الكافرين بأنه لا يُغلب، وما دام هو يعرف ذلك فهو ينضم إلى الجهاد في سبيل الله. {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله} وكلمة «الجهاد في سبيل الله» تخصص لوناً من الجهاد، فالإنسان قد يجاهد حمية أو دفاعاً عن جنسيته أو أي انتماء آخر، وكل هذه الانتماءات في عرف الذين لا قيمة لها إلا إذا نبعت من الانتماء إلى منهج الله، لتكون كلمة الله هي العليا. وعندما سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أفضل القتال: «فيما جاء عن أبي موسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليُرَى مكانه، فَمَنْ في سبيل الله؟ قال:» مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله «. وما دام المؤمن محبوباً من الله ويحب الله وذليلاً على المؤمنين وعزيزا على الكافرين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3215 مادام الأمر كذلك فعندما يتولى مؤمن أمر قيادة غيره من المؤمنين فلا أحد منهم يأنف أن يكون تحت قيادته. وبذلك يخرج المؤمن عن دائرة الاستعلاء والاستكبار؛ لأنه يجاهد في سبيل الله. ولو جاءه إنسان ليلومه على ذلك فهو لا يسمح له، وكأنه سبحانه يوضح: تنبهوا جيداً إلى أن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله والذين هم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين ويجاهدون في سبيل الله فلا نظن أنهم بمنأى عن سخرية الساخرين، وهزؤ المستهزئين، ولوم اللائمين ليردوهم عن هذه العملية. ولذلك يقول الحق: {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} وقد وضح ذلك على مر تاريخ الإسلام وجاء الحق بقوم يحبهم ويحبونه وهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين وجاهدوا في سبيل الله وما خافوا لومة لائم. وساعة نستقرئ هذه الآية نجد أن» سوف «ابتدأ مدلولها الأول في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.» وحين سئل رسول الله عن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله وفيهم هذه الصفات؛ أشار بيده مرة إلى أبي موسى الأشعري، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هم قوم من هذا» . وعندما نزل قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} [الجمعة: 3] «سأل أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من هم يا رسول الله؟ . فوضع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يده على سلمان ثم قال:» لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجل من هؤلاء «. وقد حدثت الردة الأولى في اليمن، وكانت في قوم أبي موسى الأشعري، وكتب رسول الله إلى معاذ بن جبل - كما أوضحنا - وبعد ذلك تطوع فيروز الديلمي ودخل على من كان يدّعي النبوة ذي الخمار أو ذي الحمار، وقتله. وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3216 ليلتها بالأمر. ولكن خبر القتل جاء بعد أن انتقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الرفيق الأعلى. وكانت تلك من علامات النبوة. وحدث - أيضاً - في زمانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ادّعى مسيلمة الكذاب أنه نبي. وكتب مسيلمة إلى رسول الله كتاباً، يقول: مِن مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. ولم يقدر على نزع صفة النبوة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وجاء في كتاب مسيلمة: «أما بعد. فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك» كأنه قد فهم أن المسألة بالنسبة لرسول الله تحتاج إلى قسمة، فكتب إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلمات فيها هبات النبوة: «من محمد رسول لله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» ولم يسمع مسيلمة كلام رسول الله، وجهزت الحملة لترسل إليه لتأديبه. وجاء عهد أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وكانت المعركة على أشدها. وجاء «وحشي» الذي قتل حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في موقعة أحد. وأراد أن يكفر عن سيئاته فذهب وقتل مسيلمة. ولذلك كان يقول كلمته المشهورة: أنا قتلت في الجاهلية خير الناس - يقصد حمزة - وقتلت في الإسلام شر الناس - يقصد مسيلمة - وانتهى أمر مسيلمة. وجاء إنسان ثالث في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اسمه «طليحة بن خويلد» من بني أسد وادّعى النبوة، وكلّف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَن ذهب إليه وكان «خالد بن الوليد» وساعة علم الرجل أن خالداً هو الذي جاء لقتاله لاذ بالفرار، ولكنه من بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه. ونلاحظ أننا ننطق «الردة» بكسر الرا، وصفاً لتلك الأمور التي حدثت وقوبلت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3217 هذه المقابلة. ولا نسميها «رد» فتح الراء، لأن الرد - بفتح الراء - يكون عودة إلى حق، أما الردة - بكسرة الراء - فتكون إلى باطل، مثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} [النساء: 59] أما الذي يرتد فهو يرتد إلى باطل. ومن العجيب أن كلمة «الردة» التي جعلها الإسلام علامة على الانتقال من الإيمان إلى الكفر يستخدمها أعداء الإسلام الذين لا يؤمنون بأديان ما، فعندما يترك الشيوعية أحد أتباعها يقولون: لقد حدثت رِدة. وكان من الواجب لو أنهم أصحاب مبادئ أصيلة أن يختاروا لفظاً آخر لكن لا يوجد في اللغة لفظ يعبر عن الرجوع إلى الباطل إلا كلمة «ردة» وكذلك كلمة «منبر» لا توجد - أيضاً - إلا في الإسلام، وهو موقف الواعظ من المصلين يوم الجمعة. وعندما يأتون إلى تصنيف جماعة متطرفة إلى اليسار فهم يقولون: «منبر اليسار» ونقول: لماذا تأخذون هذه الكلمة من عندنا؟ . ومثال آخر عندما يكتب كاتب: هذه الراقصة تتعبد في محراب الفن. ونقول: لماذا تستخدم كلمة «محراب» ؟ . عليك أن تبحث عن كلمة أخرى. وكل ذلك يدل على أن كلمات الإيمان هي الكلمات المعبرة ولذلك يذهبون إليها. ويؤخذ في ظاهر الأمر على الإسلام أن من يرتد يُقتل. ونقول: أيظن أحد أن هذه ضد الإسلام؟ لا إنها لصالح الإسلام؛ لأن الإنسان إذا علم أنه عندما يقبل على الإسلام فهو يقبل على الدين الكامل؛ لأن من يخرج عليه يهدر دمه ويقتل. وعلى من يفكر في الدخول إلى الإسلام أن يحتاط لحياته. إذن فالإسلام لا يسهل لأحد الدخول فيه، ولكنه يصعب عملية الدخول: وينبه كل فرد إلى ضرورة الانتباه قبل الدخول في الإسلام؛ لأنه دخول إلى دين كامل وليس لهواً أو لعباً. إن على من يرغب في الدخول في الإسلام أن يفكر جيداً وأن ينتهي إلى الحق؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3218 لأن حياته ستكون ثمن الرجوع عن الإسلام وهذا دليل على جدية هذا الدين وعدم السماح بالعبث في عمليات الدخول فيه. وحين يصعب الإسلام عملية الدخول فيه إنما يعطي فرصة الاختيار ليعلم من يختار الدين الإسلامي أن يعي أن الرجوع عن الإسلام ثمنه الحياة. وساعة يطلب دين أن يفكر الإنسان جيداً قبل أن يدخل فيه فهل في ذلك خداع أو نصيحة؟ إنها النصيحة وهي عملية لصالح الإسلام، وهي أمر علني ليعلم كل داخل في الإسلام أن هذا هو الشرط. ولو أن الإسلام يريد تسهيل المسألة لقال: تعال إلى الإسلام واخرج متى تريد. لكن الدين الحق لا يخدع أحداً. وسبحانه يقول: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] وتكلمنا من قبل عن الردات التي حدثت في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن كلمة «سوف» التي جاءت في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} تدل على الامتدادية. وقد حدثت ردة في عهد أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وظهر سبعة ادّعوا النبوة، مثال ذلك: «بنو فزارة» قوم عيينة بن حصن ارتدوا وأرسل إليهم أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من حاربهم. وكذلك قوم غطفان ارتدوا. وكذلك قوم قرّة بن هبيدة بن سلمة، وكذلك بنو سُلَيْم. قوم الفجاءة بن عبد ياليل، فأرسل لهم أبو بكر من يؤدبهم. وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض من بني تميم الذين ادعت فيهم النبوّة سجاح بنت المنذر والتي تزوجت مسيلمة. وكذلك «كِندة» قوم الأشعث بن قيس، وكذلك قوم الحًطَم بن ضبيعة وهم بنو بكر بن وائل في البحرين. وقضى عليهم سيدنا أبو بكر مما جعل كثيراً من القوم يقولون: إن القوم الذين يحبهم الله ويحبون الله وفيهم كل تلك الأوصاف هم أبو بكر ومن معه. ولكن أيمنع ذلك أن كل جماعة سيكون فيها مثل أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؟ لا. ومثال ذلك علي بن أبي طالب؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال يوم خيبر: «عن سلمة بن الأكوع رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: كان علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه تخلف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3219 في خيبر، وكان به رمد فقال: أنا اتخلف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخرج على فلحق بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما كان مساء الليلة التي فتحها في صباحها فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لأعطين الراية - أو ليأخذنّ - غداً رجلٌ يحبه الله ورسوله، أو قال: يحب الله ورسوله. يفتح الله عليه. فإذا نحن بعليٍّ وما نرجوه، فقالوا هذا علي، فأعطاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ففتح الله عليه «. وفي عهد سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لم تحدث إلا ردة واحدة، جاءت من الغساسنة بقيادة جبلة بن الأيهم وهم من الشام وكانوا موالين للروم، وكان جبلة هو رئيسهم وأسلم وجاء ليطوف بالبيت الحرام بهيلمان كزعيم للغساسنة. وكان لهم العظمة في الجياد والملابس. وكان يرتدي رداءً طويلاً فوطئ أحد الناس رداءه؛ فسقط، فلطمه جبلة، وأبلغ الرجل عمر بن الخطاب. وقال عمر بن الخطاب: إنه القصاص. وقال سيد الغساسنة: إني أشتري هذه اللطمة بألف دينار ولم يقبل الرجل فعرض سيد الغساسنة ألفين من الدنانير فرفض الرجل، فزادها إلى عشرة آلاف ولم يقبل الرجل. وقال جبلة لعمر: أنظرني حتى أفكر في المسألة. فلما أنظره عمر، هرب الرجل إلى الشام ووتنصر. هكذا يتضح لنا آفاق كلمة» سوف «وأي زمن تأخذ، إن لها امتدادات حتى زماننا. إن الردة في زماننا جاءت من فارس ممثلة في البهائية والبابية، وهدف المرتد يكون جاه الدنيا، إن كان يريد الحكم، ووسيلة المرتد تيسير التكليف لمن يتبعه في الارتداد. ومن يدعي لنفسه النبوة والقدرة على الإتيان بتشريع جديد إنما يطلب لنفسه جاه الدنيا، والذي يتبع ذلك المدعي للنبوة إنما يقصد لنفسه تيسير التكليف. ولماذا تيسير التكليف؟؛ لأن الإنسان مؤمن بفطرته ودليل ذلك أننا إذا واجهنا إنساناً غير مؤمن، وقلنا له: أنت قليل الدين. يغضب ويثور؛ لأنه لا يتصور أن ينزع أحد منه أنه متدين بشكل ما. ونرى إنساناً قد يسرف على نفسه كثيراً لكنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3220 ساعة يسمع إنساناً آخر يسب الدين يثور ويغضب ويتحول إلى مدافع عن دين الله، وتلك هي الفطرة الإيمانية التي فطر الله كل الناس عليها. والذي يجعل الدين لأمراً شاقاً على النفس البشرية ليس فطرة الدين، ولكنه تكليف التدين؛ لأنه أمر يدخل في الاختيار. وقد جعل الحق التكليفات الإيمانية كلها في مناط الاختيار البشري، ولم يشا أن تكون أمراً قهرياً. ولو شاء سبحانه أن يجعل كل الناس مؤمنين لما قدر أحد على الكفر: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] فليس في قدرة أحد أن يتأبى على الله، ولكنه شاء أن يجعل تكاليف الإيمان مسألة اختيارية. والإنسان حر في أن يفعل تكاليف الإيمان أو لا يفعلها، وفي كلتا الحالتين سيلقى الجزاء. مثال ذلك: «اللسان» خلقه الله صالحاً أن يقول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، وهذا اللسان نفسه صالح لأن يقول: - والعياذ بالله - «أنا لا أؤمن بالله» . ولا يعصى اللسان صاحبه، فقد خلقه الله مجهزاً للتعبير عن مكنونات قلب الإنسان وخاضعا لإرادة الإنسان. ومثال آخر من مصنوعاتنا نحن: جهاز التليفزيون الذي صممه البشر ليكون آلة منقادة ومسخرة لما يرسله الإنسان فيه من برامج، فإن أرسل الإنسان في جهاز التليفزيون أفلاماً وبرامج دينية وعلمية تستكشف آيات الله في الكون وتثبت قيم الإنسان على الإيمان فهذا اختيار إيماني. وإن أرسل الإنسان أفلاماً خليعة تحض على المجون والفسق فهذا اختيار يلحق الإنسان بدائرة المفسدين في الأرض. إذن فالحق خلق الإنسان صالحاً لتطبيق تكاليف الإيمان وصالحاً للخروج عن التكليف. وحين يأمر الله عباده أن يطبقوا أو ينفذوا التكليف الإيماني فهو يعلم أن قدرة الإنسان تسع التكليف؛ لأنه العليم بعباده، ولو لم يكن باستطاعتهم تنفيذ التكليف لما كلفهم به. وكلنا نعرف الفرق بين «العباد» و «العبيد» ؛ فكل الكائنات عبيد لله، والإنسان من عبيد الله إن كان متكبراً على التكليف، وإن خرج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3221 على التكليف فهو مسير في أمور لا يقدر على الخروج منها، فلا يستطيع أحد بإرادته أن يتوقف عن التنفس، وهو - كما نعلم - أحد العمليات التي تجري على الرغم من الإنسان. ولا أحد يستطيع أن يتنفس عندما ينتهي أجله. كذلك لا أحد يستطيع أن يقاوم المرض إن أصابه. إذن فكِبْر الإنسان وخروجه عن طاعة الله في أشياء لا تعني أنه خارج في مطلق أموره عن الله؛ لأن الحق فعال لما يريد، فلا أحد يتحكم في بدايته حين يولد، ولا أحد يتحكم في نهايته حين يموت، وهناك أمور بين قوسَيْ الميلاد والموت ما من أحد بقادر على التحكم فيها، وإرادة الاختيار إنما توجد في بعض الأمور فقط. أما كل ما عدا ذلك فهو قهري، وكلنا عبيد لله في ذلك. لكن الحق تعالى أعطى لنا الاختيار في بقية أمور الحياة. والذكي حقاً هو من يسأل ربه: لقد خلقتني يارب مختاراً. وماذا تحب أنت أن أفعل؟ هنا يجد الإنسان نفسه أمام أوامر الله ونواهيه وأمام المنهج بمطلوباته، هذا المنهج الذي يوضح للمؤمن ما الذي يمكن أن يفعله وما الذي يمكن أن يتجنبه. ويقول المؤمن: إنني أخرج من اختياري إلى مرادك يارب. والعبد الذي يتنازل عن اختياره إلى مراد خالقه هو واحد من العباد الذين وصفهم الحق بأنهم عباد الرحمن. ونرى في حياتنا العادية نموذجا لما يحدث بين رب الأسرة وأفرادها، فرب الأسرة يقول لأبنائه: أنتم تريدون التنزه، فأي مكان تحبون الذهاب إليه؟ يجيب أحد أفراد الأسرة: لنذهب إلى المكان الفلاني. ويجيب آخر: أنت حر في أن تصحبنا إلى أي مكان تريد، المهم فقط أن تكون معنا. ومن المؤكد أن الذي يقول مثل هذا القول لرب الأسرة ينال منزلة رفيعة في قلبه. فإذا كان هذا يحدث بين إنسان وإنسان مثله فما بالنا بالاستحسان الذي يناله العبد حين يقول ذلك لخالقه الأكرم؟ لا بد أن ينال منزلة راقية؛ لأنه قد خرج من دائرة العبيد إلى دائرة العباد الذين قال عنهم الحق: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3222 وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 63 - 66] هؤلاء هم عباد الرحمن الذين يحبهم ويحبونه. أما الذي يتمرد على منهج الله فعليه أن يعرف أنه غير قادر على أن يتمرد على قدر الله. وأراد الحق أن يعطينا مناعة إيمانية حين قال: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وتتجلى تلك المناعة في أن المؤمن لا بد أن يلتفت إلى هؤلاء الذين يرتدون عن دين الله بادعاء أنهم أنبياء من بعد محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إن هذه الآية توضح لنا ما جد وما يجد من أمر هؤلاء المرتدين، والواحد منهم يعلن: أنا نبي مرسل. ويَجِدُ هذا النبي المزيف من يستمع له ويصدقه ويتبعه، ولا يجد من يسأله: إن كنتَ نبياً فما معجزتك؟ لكنه يجد من يصدقون هذا الزيف لهوى في نفوسهم. هذا الهوى يتلخص في أن مثل هذا النبي المزيف يأتي بمنهج ميسر يخدع به أتباعه الذين يخدعون أنفسهم بأن الواحد منهم متدين، لكنّه يتبع منهاجاً ضالاً. وكثير من الذين ادعوا أنهم أنبياء وأنّه هو المهدي المنتظر لم يسألهم أحد: ما المعجزة الدالة على صدق نبوتكم؟ لأن النبي المزيف من هؤلاء يلهي الناس بالتخفيف من التكليف. إننا نجد بعضاً من المثقفين أو الذين يدعون أنهم يعملون عقولهم في كل شيء يتبعون هؤلاء الدجالين. وقد رأينا منذ أعوام قليلة العجب العجاب، عندَما ادعى أحدهم النبوة. وآمن به واتبعه عدد من الرجال والنساء. وكانت المرأة المتزوجة تدخل على هذا النبي المزيف لتقبله ويقبلها من شفتيها وأمام زوجها. أين نخوة الرجل - إذن - في مثل هذا الموقف؟ إنه التدليس الضال الذي يدعي لنفسه الهداية، إنّها هداية إلى الجحيم. وهل تنبع تلك التيارات من الإسلام؟ لا، بل تأتي من قوم يبغضون الإسلام، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3223 ويصطادون الرجل الذي تظهر عليه المواهب والمخايل، ويقنعونه بأنه يمكن أن يلعب دور النبي المزيف. مثال ذلك الهندي ميزرا غلام أحمد الذي جاء بالقاديانية. ونعلم أن الإنجليز قد استعمروا الهند لسنوات طويلة، وكانوا يعتبرونها درة التاج البريطاني. ونعلم أن خصوم الإسلام وعلى رأسهم الاستعمار يحاولون أن ينالوا من الإسلام؛ لأنهم رأوا أن التمسك بالدين أتاح للمسلمين فتح الأمبراطوريات لا بالسيف ولكن بحماية حق الاعتقاد. إذا كانت الدعوة قد نشأت في الجزيرة العربية؛ فقد امتدت إلى آفاق الأرض. وانهزمت الفرس والروم أمام الذين يحملون راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله» . ومن بعد ذلك نجد أن الذين هزموا التتار هم المسلمون، وكذلك اشتعلت الحروب الصليبية في حملات متتابعة، ولكن المقاتلين تحت راية الإسلام أنزلوا بهم الهزيمة الضارية. إن الذي أرهق الاستعمار من الإسلام طاقة الإيمان والقتال في سبيله ولذلك جاء ميزرا غلام أحمد وحاول أن يضعف القدرة على الجهاد عند المسلمين، فقال: لقد جئت لكم لألغي الجهاد من العقيدة الإسلامية. وجرؤ ميزرا غلام أحمد، وأعلن إلغاء القتال. والحق يقول في كتابه الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] وسبحانه بقدرته يمهل ولا يهمل. وجاء وباء الكوليرا في الهند سنة 1908 ليقضي على غلام أحمد وينهي تأكيداً لقوله الحق: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وظهر أيضاً في فارس وهي موطن سلمان الفارسي مَن ادعى لنفسه النبوة، وكان من الذكاء بحيث حاول التسلل إلى الإسلام؛ لينقلب عليه من بعد ذلك، قال الرجل: أنا الباب ومن بعدي سيأتي المهدي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3224 وعندما سأله الناس: وماذا تحمل من منهج؟ أجاب: جئت لأخفف عنكم بعض التكاليف؛ لأن الإسلام صار بتكاليفه لا يناسب العصر. واتبعه أناس، وثار عليه أناس. ومن اتبعوه، ذهبوا إليه بغية تخفيف المنهج، ومن ثاروا عليه كانوا من القوم الذين يحبهم الله ويحبونه، وجاءوا له بالعلماء يناقشونه ويحاجونه فاعترف بأنه مخطئ وأعلن التوبة في المسجد الكبير. وعند ذلك تركه الناس. لكن هذا الرجل وجد من يلتقطه ليعيده إلى ضلاله وتضليله، التقطه قنصل روسيا في فارس، وهيأ له ملجأ، واوعز إليه أن يعلن أن توبته إنما كانت هرباً من القتل. واستطاع هذا الباب، واسمه علي محمد الشيرازي أن ينال دعاية واسعة وخاصة بعد أن انضمت إلى دعوته فتاة اسمها «قرة العين» وكانوا يلقبونها بالطاهرة. ووقفت لتخطب خطبة في الناس. ومن يقرأ تلك الخطبة يعرف إلى أي انحلال كان يدعو ذلك الباب. وأعلنت هذه المرأة أن الإسلام قد انقضت مدته كدين، وأن الباب قد اختفى لفترة؛ لأنه في انتظار شرع جديد، وأن العالم يمر بفترة انتقال، وصار ينزل المنهج الجديد على الباب. وقالت تلك «الطاهرة» : إنّ التشريع المختص بالمرأة، والذي جاء إلى الباب هو: «المرأة زهرة خُلِقَت لتُشَمّ ولِتُضَمّ» ... «فلا يمنع ولا يُحَدّ شامّها ولا ضامّها» وما دامت المرأة زهرة إذن فهي تجنَى وتقطَف «وإلى الأحباب تُهَدى وتتحف. . إلى أن تقول في نهاية خطابها: لا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم (! {) ومن يرغب في أن يعرف مسلسل الفضائح الخلقية التي جاءت في خطاب» قرة العين «تلك فليقرأ كتاب» نقطة الكاف «للباب الكاشاني طبعة لندن صفحة 154. هذا ما جاء به الباب من بعد أن أعلن إلغاء الإسلام: لا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم فإنه الآن لا منع ولا حد، خذوا حظكم من الحياة، فإنه ليس بعد الممات شيء. وهذه خلاصة الانحلال الذي جاء به هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3225 المدعو بالباب، لقد أعلن أنه لا حساب ولا يوم آخر، وأن المرأة عرضها مشاع تضم وتشم. والغريب أن بعضاً من المتزوجين قد اتبعوه. وقالوا عن أنفسهم: إنهم متدينون، لقد أخذوا ظاهر الأمر واعتبروا الفسوق الذي جاء به هذا الباب وأسموه دينا بعد أن سهل لهم بتعاليمه الفساد، فأخذوا الانحلال عن التكاليف، وادعو أن ذلك دين (} !) هكذا أراد خصوم الإسلام للإسلام. وقنصل روسيا القيصرية هو الذي شجع هذا الرجل وحماه في عام واحد وستين ومائتين بعد الألف من الهجرة. وبرغم ذلك حكم أهل فارس بإعدامه بعد موجة السخط العارم، ولم يستطع أن ينقذه أحد، وتم إعدامه فعلاً. والذين قرأوا أقواله لحظة الإعدام عرفوا كيف أنه تذلل وخضع وبكى. ولو كان مبعوثاً بحق من عند الله لما تذلل وخضع وطلب النجاة. ولامتلأ بالسرور والحبور؛ لأنه ذاهب إلى الله. لقد عرف هذا الرجل الدجال إلى أي عقاب سيذهب؛ لذلك بكى واسترحم. ولما قتل الباب، أعلن واحد من رجاله وهو ميرزا حسين أن الكتاب الذي جاء به الباب كتاب كاذب، وكان اسمه» البيان «. وقال ميرزا حسين علي: إنه جاء بكتاب اسمه» الأقدس «. كأن المسألة كلها خداع للناس وتبرير الخداع. ولو رجعنا إلى كتاب يسمونه» بهجة الصدور «لمؤلفه حيدر بن علي البهائي لوجدنا كل الانحرافات الممكنة، فالبهاء يقول: استر ذهبك وذهابك ومذهبك، أي لا تجعل أحداً يعرف ثروتك، ولا إلى أي مكان تذهب ولا تقل للناس: إنك بهائي حتى لا يقتلوك. واعتبر البهائيون أن القرآن قد انتهت مدته وأن كتاب» الأقدس «هو كتاب فوق القرآن. ويقرر كتاب «الأقدس» أن القدس لا بد أن تكون وطناً لليهود وأن موسى سيد الرسل جميعاً. ومما يدلنا على أن ذلك الرجل كان صنيعة الاستعمار والصهيونية، أنهم اقاموا له حفل تكريم في بريطانيا ومنحوه وسام الفروسية الإنجليزي؛ لأنه رجل خدم الاستعمار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3226 ونجد أن شيخنا رشيد رضا الذي نقل لنا تاريخ الإمام محمد عبده يروي قصة لقاء بينه وبين ذلك المدعو «بهاء» في بيروت، وحكى الشيخ رشيد عن الإمام محمد عبده أن هذا البهاء كان يأتي للصلوات الخمس ويصلي الجمعة. وعندما سأله عن تلك المسألة المسماة بالبهائية. أجاب بأنها محاولة للتقريب بين الشيعة وأهل السنة. وعندما أمرت الدولة العثمانية بمحاكمة ذلك البهاء توسط قنصل روسيا فاكتفوا بنفيه إلى بغداد. وعاش فترة فيها ثم مات وقام الأمر من بعده لابنه عباس المسمى عبد البهاء. لقد كانت البداية برجل سمى نفسه الباب صاحب كتاب البيان وقال فيه: «ملعون مطرود من يدعي أنه جاء بشريعة بعد شريعتي إلا بعد مرور ألف سنة» . وما أن تمر سبع سنوات حتى جاء رجل ثان يسمي نفسه البهاء، وأعلن أنه جاء بشريعة جديدة، ويعقد الوصية لابنه المسمى «عبد البهاء» . ثم يكون الأمر من بعده إلى ابنه المسمى «شوقي أفندي» وكان يقيم بعكّا. هكذا انفضحت أكاذيبهم. ورئيس البهائية الحالي هو يهودي اسمه بترسون. إذن فالردة عن الإسلام لم تكن نابعة من نفوس المسلمين ولكن مدفوع إليها من خصوم الإسلام الذين يأخذون أي رجل ملحد فيه بعض من الذكاء وينفخون فيه بدعاياتهم حتى يشوهوا دعوة الإسلام. وأقاموا مراكز لمثل هذه الانحرافات في بلجيكا وأمريكا وانجلترا. وحاولوا النفاذ إلى البلاد الإسلامية لينشروا فيها دعوتهم ومبادئهم. وكانوا يأخذون المرأة كنقطة هجوم على الإسلام. ويتهمون الإسلام بأنه يضع المرأة في الحريم، ويحبسها في خيمة وإلى آخر تلك الدعايات التي تشوه تكريم الإسلام للمرأة. ومن العجيب أني سمعت بأذني من واحدة هي بنت لتلك الحضارة الغربية. تقول: كنت أتمنى أن أكون مسلمة وأمًّا لشاب مسلم. فعلينا نحن المسلمين ألا ننخدع بتلك الدعايات وتلك المواهب التي تتسلل من باب تخفيف المنهج والمراد بها قتل قيم الإسلام التي تحمي الإنسان وتحترم مشاعره؛ لذلك يجب أن ننتبه إلى دعوات المتسللين إلى مجتمعاتنا بغية هدم ديننا. وعلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3229 الحكومات أن تضرب على أيدي العابثين بدين الله لا أن تترك مسائل الدين لهبّات الأفراد. وكل منا مطالب بأن يرد عن دين الله كل دخيلِ عليه وكل محاولة لوضع أمور ليست من الدين في شيء. وجزى الله قضاء مصر خيراً حينما تصدوا لمثل هذه الدعوات ووقفوا دفاعاً عن الإسلام لتبيين وإيضاح كل أمر دخيل عليه، فدستور الدولة ينص على أن مصر بلد مسلم، وإن كانت بعض التقنيات في دور التشريع. وجزى الله قضاء مصر عنا خيراً، فقد وضحوا تلك المسائل وبينوها. وعرفنا بسلوكهم أن خميرة الإيمان هي التي تحكم سلوك المسلم الحق، وإن تخلت عنه بعض القوانين التي عليه أن يحكم بها. وكلما حدث حادث من تلك الحوادث لنا أن نتذكر القول الصدق من الله: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] . وكل هذه الحركات المناوئة للإسلام تنتهي ويبقى الإسلام قوياً بأبنائه الذين يحبهم الله ويحبونه. هؤلاء الذين وصفهم الحق: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} [المائدة: 54] . ويذيل الحق سبحانه هذا القول الكريم: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] . نعم إنه فضل من الله؛ لأنهم ما داموا يحبهم الله ويحبون الله وهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين فقد جعلهم سبحانه حملة لواء منهجه لتكون كلمة الله هي العليا. وذلك تفضل من الله. ولنعلم أن الخير لا يعود منا على الله؛ لأنه سبحانه هو واهب كل خير، ولم يأت لنا الخير من بعد خلقنا، ولكن نحن الذين طرأنا على الخير، نحن طرأنا على الأرض، وعلى السماء بما فيهما من كل كنوز الخير، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3230 ففي الأرض العناصر والمعادن والقوت، وفي السماء الشمس والقمر والنجوم، وكل ذلك فضل الخالق على المخلوق. إن فضل الله يؤتيه سبحانه وتعالى من يشاء وتتسع قدرته لكل مطلوب؛ لذلك لا يمن المؤمن على الله بإيمانه، فليس عند الله أزمة في الذين يؤمنون به، وهو قادر على أن يأتي بقوم يحملون دعوته، فإذا ما ارتفعت رأس الباطل فهذا دليل على أن قطافها قد حان؛ لأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض. فكأن الله حين يندب المؤمنين لمهمة إيمانية فلا يقال: إن المؤمنين إنما يفعلون ذلك لمصلحة ربهم. لا، ولكن ذلك فضل من الله على المؤمنين حين يختارهم لمهمة حمل البلاغ عن الله، ويعود الخير إلى المؤمنين ثمرة مضاعفة. إذن فحين يكون اختيار الله للمؤمن لمهمة إيمانية فهذا فضل من الله على المؤمن. ونعرف أن الفضل هو الأمر الزائد عن العدل فالحق سبحانه وتعالى قد قال: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] . وكل تكليف من الحق للخلق هو فضل من الله؛ لأنك إن نظرت إلى كل تكليف من الحق للخلق لوجدت أن التكليف إنما يعود لصالح الخلق وما دامت الفائدة من التكليف تعود إلى الخلق فليس من المطلوب إذن أن يثاب الخلق المؤمنون المكلفون، لكن الله يأبى أن يكلف خلقه بتكاليف ويذهبون إلى هذه التكاليف بطاعة ومحبة دون أن يجازيهم على ذلك بحسن الثواب. ولهذا نجد الحق يقول: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: 17] . المنّة إذن لله حين تفضل على الخلق الذين أطاعوه بحسن حياتهم في إطار تكاليفه الإيمانية، وفوق ذلك هناك الثواب، وهذا هو عين التفضل من الحق على الخلق المؤمنين: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3231 وساعة نسمع «بفضل الله» فلنعلم أن فضل الله لا حدود له. وقد نجد من يقول: ولكن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} [النجم: 39 - 40] . ونقول: لنفترض أن إنساناً مات، ونجد الأمر من الخالق سبحانه وتعالى بأن نصلي عليه؛ لندعو له بالرحمة. ودعاؤنا للميت بالرحمة يأتي له بخير أكثر مما فعل هو في حياته، ولولا أن صلاتنا على الميت تثيب الميت وتثيبنا في آن واحد لولا ذلك ما أمرنا الحق بأداء هذه الصلاة. وقد يقول قائل: هذا الخير الذي يأتي إلى الميت من دعاء المصلين عليه ليس من سعي الميت. ونقول: إن «اللام» في قوله الحق: {لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] . هذه اللام تفيد الاستحقاق والملكية. وهو قول كريم يحدد العدل ولا يحدد الفضل. ونضرب مثلاً من حياتنا نحن البشر - ولله المثل الأعلى - تجد السيد يقول للخادم عنده: إن لك أجراً عندي يساوي مائة جنيه. ثم يجيء السيد في آخر الشهر ويقول للخادم: خذ مائة وخمسين جنيهاً. العدل إذن هو أن يأخذ الخادم أجره وهو مائة جنيه، ولكن الخمسين جنيهاً الزائدة هي الفضل الزائد عن الأجر. إننا حين يأمرنا الحق سبحانه وتعالى بأن نصلي على الميت فهذا تفضل من الله على الميت وعلينا أيضاً. هذا لون من تفضل الله على خلقه. وسبحانه يجازي كل إنسان بما عمل ويمنحه فوق ذلك، ومن قصّر في شيء من العمل. ويصلي عليه الناس ويدعون له بالرحمة فتفيض رحمة الله على العبد وعلى غيره من العباد. وهذا هو مناط قول الحق: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3232 وعندما نحقق في هذا الموقف وحده نجد أن الجزاء يكون أفضل من العمل. وما الذي يجعل المؤمن يصلي على ميت مؤمن؟ إنه إيمان هذا الذي مات وإيمان من مات ملك له، وعلى ذلك فملكية المؤمن لإيمانه تمتد بعد أن يموت لتشمل صلوات ودعاء من صلوا عليه. وذلك يدخل في فضل الله: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] . وما دامت المسألة فضلاً من الله يشمل كل مؤمن فلا بد أن الحق عنده من السعة ما يعطي الكل. وسبحانه واسع عليم. والحديث القدسي يقول: «يا عبادي، لو أن أوّلكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» . إذن فخزائن الله ملأى لا تنفد، وسعة الحق مطلقة. ولهذا نحن أيضاً نجد أن الحب في الله يزداد دائماً، فساعة نشاهد اثنين يتحابان في الله، فحبهما يزداد كل يوم؛ لأنه الحب في الله. أما إن كان الحب لأمر محدود فذلك الحب ينتهي ويترك كل منهما الاخر بانتهاء السبب لذلك الحب. ولنأخذ قضية واضحة أمامنا: من كان يحب في الله فالحب لغير المحدود لا حدود له. ومن كان يحب في غير الله، فالحب هنا لمحدود ويرتبط طردا وعكسا بمدى الإثراء من هذا المحدود. ومن يحب لغرض من أغراض الدنيا يقيس ما يعطيه لمن يحب، فإن زاد ما يعطيه على ما يأخذه يحس بالخسارة. وعندما نتبادل الحب في الله فلا شيء ينقص عند الله أبداً؛ لأنه سبحانه يعطي الاثنين معاً اللذين يتحابان فيه. وسبحانه العليم أزلاً، وصاحب القدرة الذي يعطي كل إنسان المناط الذي يستحقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3233 ويقول الحق من بعد ذلك: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3234 وحين نهانا الحق عن أن نتخذ اليهود والنصارى أولياء فعلينا أن نأخذ بالقياس أن النهي إنما يشمل كل خصوم ديننا، فلا نتخذ أيّاً من أعداء الدين وليّاً لنا؛ لأنه سبحانه وتعالى لم يتركنا بغير ولاية، وهو وليّنا وكذلك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والذين آمنوا. إذا أردنا المقارنة بين ولاية الله، وولاية أعداء الله فلنعرف أن كل عدو لله له قدرة محدودة لأنه من البشر، أما ولاية الله لنا فلها مطلق القدرة. وأي عدو له قد يتظاهر لنا بالولاية نفاقا. أما ولاية الله لنا فلا نفاق فيها لأنه لا قوة أعلى منه. وإن كان الحق قد منعنا أن نتخذ من أعدائه أولياء فذلك ليحررنا من الولاية المحدودة ليعطينا الولاية التي لا تتغير وهي ولايته سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} وهكذا يكون التعويض في الولاية أكبر من كل تصور. وساعة نرى «إنما» فلنعرف أن هناك ما نسميه «القصر» أو «الحصر» . مثال ذلك نقول: «إنما الكريم زيد» : كأن القائل قد استقرأ آراء الناس ولم يجد كريماً إلا زيداً، وكأنه يقول: «زيد كريم وغير زيد ليس بكريم» واختصر الجملتين في جملة واحده بقوله: «إنما الكريم زيد» وأثبت بهذا القول الكرم لزيد ونفاه عن غيره. أما إن قال القائل: «زيد كريم» فهذا القول لا يمنع أن يكون غيره من الكرماء. إن الحق سبحانه يحصر الولاية في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} وهو قد نهانا من قبل عن ولاية أهل الكتاب، وعن ولاية كل من لا توجد عنده مودة أو محبة تعين المؤمن على مهمته الإيمانية. فلو كان عند أحد من أهل الكتاب أو الملاحدة محبّة ومودّة تُعين المؤمن على أداء مهمته لما بقي هذا الإنسان على منهجه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3234 المحرّف أو على إلحاده، بل إن ذلك سيجعله يذهب إلى الإيمان برسالة الإسلام. إننا نجد بقاء الكافر على كفره أو إلحاده أو عدم إيمانه برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دليلا على أنه لم يستطع الوصول إلى الهداية أو أنه - إن كان من أهل الكتاب - لم يستطع أن يكون مأموناً على الكتاب الذي نزل إلى نبيّه وفيه البشارة بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكيف - إذن - يعين إنسان مثل هذا إنساناً مسلماً؟ . إنه لا يستطيع أن يعين ولا أن يوالي ولا أن يكون على هداية؛ لأنه لم يستطع أن يهدي نفسه. ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم» . لأن الذي لا يستطيع أن يهدي نفسه لن يستطيع هداية غيره. وحين نهانا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن سؤال أهل الكتاب كان يعلم أنهم في ريب من أنفسهم، وفي ضلال وخلط، فهم إما يخلطون الحق بالباطل، وإما في غيظ من الذين آمنوا؛ لذلك نهانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن نسألهم، وهذا هو الاحتياط للدين، فقد يسألهم المؤمن سؤالاً، فيجيبون بصدق، فيكذبهم المسلم، وقد يجيبون بكذب فيصدقهم المسلم؛ لذلك لا يصح ولا يستقيم أن يسألهم المسلم أبداً عن شيء؛ لأنه عرضة لأمر من اثنين: إما أن يصدق بباطل، وإما أن يكذب بحق. وأهل الكتاب أنفسهم قد تضاربوا، ألم يقل الحق على ألسنتهم: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ} [البقرة: 113] . وكذلك قالت النصارى: {لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113] . إذن فأي الموقفين نصدق؟ أنصدق رأي اليهود في النصارى؟ أم نصدق رأي النصارى في اليهود؟ ولا نستطيع أن نكذب رأي اليهود في النصارى، ولا نستطيع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3235 أن نكذب رأي النصارى في اليهود، إذن فحين يقول الحق سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} فعلينا أن نفهم أنه سبحانه وتعالى ما دام قد نهاكم عن أن تتخذوا أولياء من دون الله فلن يترككم أيها المؤمنون دون ولي. بل متعكم فقط من ولاية من لا يمكن صادقاً في معونتكم ولا في نصرتكم. لقد أراد سبحانه أن يكون هو بطلاقة قدرته وليكم، ورسول الله أيضاً وليكم، وكذلك الذين آمنوا. ونجد من يقول: الحق هنا قد عدد الولاية فيه سبحانه وتعالى وفي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي المؤمنين، لماذا لم يقل - إذن -: أولياؤكم هم الله والرسول والذين آمنوا؟ ونقول: هل كانت للرسول ولاية منفصلة عن ولاية الله والمؤمنين؟ وهل كانت للمؤمنين ولاية منفصلة عن ولاية الله والرسول؟ لا؛ لأن الولاية كلها منصبة لله، فلم يعزل الحق الرسول عن ربه، ولا عزل المؤمنين عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يقسم الولاية إلى أجزاء، بل كلها ولاية واحدة وأمر واحد، ونلحظ أن الخطاب في «كاف الخطاب» هو للجمع: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} ، و «كاف» الخطاب هنا تضم المؤمنين ومعهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالله سبحانه وتعالى ولي الرسول وولي المؤمنين، والرسول ولي المؤمنين، وجاء في المؤمنين قول الحق: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] . كم درجة من الولاية هنا إذن؟ الله ولي الرسول وولي المؤمنين. ذلك أن سبحانه شاء بفضله ألا يعزل الولاية أو يقسمها بل جعلها ولاية واحدة، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولي المؤمنين، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض؛ لذلك نجد أن كل مؤمن مطلوب منه معونة ونصرة أخيه المؤمن. إن الإنسان - كما نعلم - ابن أغيار، وما دام الإنسان ابناً للأغيار فعلينا أن نعرف أن المؤمنين لن يظلوا كلهم في حالة توجيه النصيحة. ولن يظلوا جميعهم في حالة تلقٍ للنصيحة. وكل واحد منهم يكون مرة ناصحاً ومرة يكون منصوحاً، فساعة يصيب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3236 الضعف مؤمناً في جزء من المنهج يجد أخاه المؤمن قد هبّ لنصحه ليعتدل. وساعة يصيب الضعف الناصح في جزء من منهجه فالمنصوح السابق يهب لنصح أخيه ليعتدل. والذي خلق الخلق وهو أعلم بهم، ويعلم كيف تستوعب الأغيار الخلق، وكيف أن كل إنسان له خواطره وله ظنونه وله مواقف ضعف وله مواقف قوة. إنه - سبحانه - لم يطلب من الناس أن يوصوا بالخير فحسب ولكنه قال: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3] . لماذا إذن التواصي بالحق؟؛ لأن سبل الحق شاقة، ولأن أصحاب الحق يلاقون المتاعب من أصحاب الباطل؛ لذلك لا بد أن يؤازر أصحاب الحق بعضهم بعضاً فيقول الإنسان من أهل الحق لأخيه ما يساعده على التمسك بما هو أعز من الراحة والصحة والمال. ولا بد أن نجعل الحق واضحاً في حياتنا وسلوكنا، وأن يتذاكر أهل الحق بما حدث لغيرهم وكيف صبروا، هكذا يكون التواصي بين المؤمنين. وتلك هي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} . إذن فقوله الحق: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله} هو ما يسمونه في اللغة «أسلوب الحصر» ، أي لا ولي لكم غير الله. وحين يُرَدّ الإنسان من الولاية المحدودة القدرة ويجعل العوض له في غير محدود القدرة فذلك كسب كبير للعبد، ولذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة، ومَن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» . كيف تكون أنت أيها العبد في عون أخيك؟ يتحقق لك ذلك عن طريق أن تقدم لأخيك المؤمن المعونة والنصرة والمؤازرة والتواصى. وتقدم لأخيك من وقتك وطاقتك وقدرتك ومالك ما يعينه. وإياك أن تحسب المسألة بأنك كنت تستطيع أن تفعل كذا وكذا في الوقت الذي أعطيته لأخيك المؤمن، بل يجب أن تحسبها بأن الله هو الذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3237 أعطاك الوقت والمال والجهد وأنت لا تفعل شيئاً بقدرتك أنت، وأن قدرتك المحدودة عندما تعطي بعضها منها لأخيك فأنت تصل قوتك المحدودة بصاحب القوة غير المحدودة وهو الله. وبذلك يكون الله في عونك وتكون أنت الأكثر كسباً. فمن يرد الله بجانبه فلا بد أن يكون مع الخلق دائماً بالمعونة، وبهذا السلوك يرتقي المؤمن إلى أعلى درجات الذكاء. {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} وسبحانه يريد أن يبين لنا مميزات أصحاب الإيمان؛ لأننا حين نتعرف على شعب الإيمان وصفاته الجميلة إنما نميز بهذه الصفات المؤمنين من غيرهم. وإقامة الصلاة هي الصفة الغالبة في وصف الذين يؤمنون بالله؛ لأن الصلاة هي الصلة المتجددة بإعلان الولاء لله خمس مرات في كل يوم. والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «بُني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» . وهذه الأركان الخمسة هي الدعائم والأسس التي تقام عليها عمارة الإسلام. وأي بيت لا يقوم بالأسس وحدها، ولكن هناك أشياء أخرى كثيرة وعشرات الفضائل والمطلوبات غير الأسس، وإذا ما راجع كل واحد منا علاقته بأسس الإسلام فلسوف يجد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مرة واحدة في العمر، ومن بعد ذلك يقيم الصلاة. ثم يؤتي الزكاة، لكن إن كان فقيراً فهو معفىً من أداء الزكاة. وحتى الذي يؤدي الزكاة فيؤديها في وقت واحد في السنة. ومن بعد ذلك يصوم رمضان. لكن المريض أو المسافر أو الذي له عذر فهو يفطر ويقضي الصوم؛ ويفدي عن الصيام المريض الذي لا يرجى شفاؤه والعجوز الذي تصيبه بالصوم مشقة شديدة. ومن يحج البيت يفعل ذلك مرة واحدة في العمر إن استطاع إلى ذلك سبيلا. هذه هي أركان الإسلام، وفيها إعفاءات كثيرة للمسلم. اللهم إلا الصلاة فهي أساس يتكرر ولذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رأس الأمر كله الإسلام وعموده الصلاة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3238 ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» . ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» . لذلك لا تسقط أبداً، فنحن نصلي ونحن قيام، ونصلي ونحن قعود، ونصلي على جنوبنا. ونصلي ونحن غير قادرين على أية حركة، نصلي بالإيماء. ومن لا يقدر على هز رأسه بحركات الصلاة في أثناء المرض الشديد فهو يصلي بعينيه. ومن أصابه - والعياذ بالله - شلل جعله لا يقدر على تحريك جفنيه بحركات الصلاة فهو يصلي بالخواطر وبالوعي أي يجري أركان الصلاة على قلبه. أما من ذهب عنه الوعي فقد سقطت عنه الصلاة. ولذلك يقول الحق: {والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة} ويقول بعد ذلك: {وَيُؤْتُونَ الزكاة} ؛ لإن إيتاء الزكاة معناه تقوية أثر حركتك لغيرك وتعدية أثر هذه الحركة للضعيف عنك، وحينما تزكي إنما تعطي مالاً، والمال هو ناتج من أثر حركتك في الوجود، وعطاؤك من مالك بالزكاة يدل أيضاً على الإيمان. ثم يذيل الحق الآية بقوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} . وهل الركوع هنا بمعنى الركوع في الصلاة؟ أو بمعنى الخضوع لكل تكاليف منهج الله؟ أو أنها نزلت هنا في مناسبة خاصة لحالة خاصة؟ هنالك رواية تقول: إن عبد الله بن سلام جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: إن قوماً من قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا ألا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل. وشكا عبد الله مما يلقاه من اليهود، فنزلت تلك الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3239 وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] . فقال ابن سلام: رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء. وتزيد الرواية في موقع آخر: وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المسجد والناس بين قائم وراكع ودخل إنسان إلى المسجد وسأل الصدقة فلم يعطه أحد فقال الرجل: أشهد الله أني جئت إلى مسجد رسول الله وطلبت الصدقة وما أعطاني أحد شيئاً، وسمعه علي ابن أبي طالب - كرم الله وجهه وكان يصلي - فمد على يده بحيث يراها الرجل وأشار له أن يأخذ من يده الخاتم كصدقة، فأخذه الرجل. وسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ السائل فقال: هل أعطاك أحد شيئاً. فأجاب الرجل نعم خاتما، وأشار إلى علي بن أبي طالب. وهنا نزلت الآية بتمامها: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] . وأياً كانت المناسبة التي نزلت فيها الآية، فالركوع معناه الخضوع، والخضوع يكون لكل تكاليف منهج الله. فإذا كنا نقول: فلان ركع لفلان فهذا معناه أن فلاناً قد خضع لفلان. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3240 ونلحظ أن الحق أوضح في الآية السابقة: إن الله هو المولى، وهنا تكون أنت أيها العبد المؤمن من الذين يتولاهم الله، تماماً مثل قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3240 وحين يكون الله في معونتك فهو يعطيك من قدرته غير المحدودة فكيف تتولى أنت الله؟ ويكون القول الحاسم في هذا الأمر هو قول الحق: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7] . والحق في الآية التي نحن بصددها جاء بالمقابل لما جاء في الآية السابقة عليها فهو القائل من قبل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} . وفي هذه الآية يأتي بالمقابل. فيقول سبحانه: {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة: 56] . هذه المقابلة توضح لنا كيف ينصر الله العبد، وكيف ينتصر العبدلله. ولم يقل سبحانه في وصف من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا: إنهم الغالبون فقط، ولكنه أورد هذه الغلبة في معنى عام فقال: {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} . وكلمة «حزب» معناها: جماعة التف بعضهم مع بعض على منهج يرون فيه الخير. ولا يمكن أن يجتمع قوم بقوة كل فرد فيهم بفكر كل فرد منهم إلا إذا كان هذا الأمر هو خير اجتمعوا عليه، إذن فحزب الله في أي وضع وفي أي تكوين ولأيَّةِ غايةٍ هو الحزب الغالب. وعلى المستوى الفردي نجد في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا حزّبه أمر قام إلى الصلاة» . فما معنى حَزّبه هنا؟ معناه أمر أتعبه وأرهقه وفكر فيه كثيراً. وبذلك يعلمنا رسول الله ألا نقصر رؤيتنا على رأينا وحده، ولكن لنلجأ إلى الله. فنهزم الأمر الذي يحزبنا ولا نقدر عليه بأن نقيم مع الله حزباً بالصلاة. إننا عندما نأخذ من سنة رسول الله المثل والقدوة نعرف أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن يحزبُه أمر يتعلق بدنياه وإنما أمر يتعلق بمنهج الله وبالدين؛ لذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3241 يذهب رسول الله إلى من يعطيه ويعطي أهل الإيمان كل الطاقة. إنّه يذهب إلى الصلاة. ويعلن أن أسبابه قد انتهت ولم يعد يقوى على تحمل هذا الأمر الذي حَزَبَهُ، ولأن الله لا يغلبه شيء؛ لذلك فسبحانه يرفع الهمَّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويغلب كل أمر صعب. وإن حَزَبَنا هذا الأمر في نفوسنا فسنجد العجب. إذن فحين تعز الأسباب على المؤمن في أمر ما ويكون قد أعطى كل جهده وما زال هذا الأمر يحزب المؤمن ويشتد عليه ويرهقه فعلى المؤمن أن يقوم إلى الصلاة، وييسر الحق هذا الأمر للمؤمن بالخير. والمؤمن عندما يحزبه أمر ما إنما يذهب بالصلاة إلى المسبب وهو الله، لكن على المسلم ألا يذهب إلى الله إلا بعد أن يستنفد كل الأسباب، فالأسباب إنما هي يد الله الممدودة، ولا يمكن للمؤمن أن يرفض يد الله ويطلب ذات الله، فإن انتهى الأخذ بالأسباب فليذهب إلى المسبب: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] . وسبحانه الذي يجيب المضطر وهو الذي يكشف السوء وهو الذي جعل البشر خلفاء في الأرض، وسبحانه لا شريك له في ملكه، وهو القائل: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65] . وإذا قال قائل: ولكني أدعو الله ولا يستجيب لي. ونقول: أنت لم تدع دعوة المضطر؛ لأنك لم تستنفد الأسباب. وعليك أن تستنفد الأسباب كلها. فإن استنفدت الأسباب فالحق يجيبك ما دمت مضطراً. إذن فحزب الله عندما يَغلِب إنما يعطينا قضية مكونة من «إن المؤكِّدة واسمها وخبرها» وهذه قضية قرآنية وهي تختلف عن القضية الكونية التي تصف واقع الحياة: ويقول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3242 {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة: 56] . وسبحانه يعلم ما يكون في كونه، ولن تختلف قضية القرآن عن قضية واقع الكون. وساعة تجد قوماً تجمعوا وفي صورتهم الرسمية الشكلية أنهم رجال الله، ولا يَغْلِبُون فعلينا أن نعرف أنهم خدعوا أنفسهم وخدعوا الناس بأنهم حزب الله وواقع الحال أنهم ليسوا كذلك؛ لأنه سبحانه قال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] . وهذه قضية قرآنية. ونأخذ الأمر دائماً بسؤال: هل غلبت أم لم تغلب؟ فإن كنت قد غلبت فإن جنديتك لله صدقة. وإن لم تكن فأنت تخدع نفسك بأنها جنديّة لله وهي ليست كذلك. «ولنا المثل الواضح من حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما كان بين صحابته في موقعة أُحُد وأمر الرُّماة أن يقفوا موقفاً خاصاً، فلما وجد الرّمَاة استهلال نصر المؤمنين على الكافرين، وأن الذين يحاربون أسفلهم يأخذون الغنائم، ذهبوا هم أيضاً إلى الغنائم وخالفوا أمر الرسول حينما قال لهم: إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزَمْنا القوم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» . فلما خالفوا أمر رسول الله أَكانوا جُنوداً لله بحق؟ لا، بل اختلت جُنديتهم لله. ولم يمنع وجود رسول الله فيهم سُنَّة الله الإيمانية في كونه ألا تقع، ولو ظلوا مُنتصرين على الرغم من أنهم خالفوا الرسول لهان أمر رسول الله في نظرهم؛ لذلك أراد الحق أن يُوقع بهم ألم الهزيمة المؤقتة من أجل أن يتأدبوا، وحتى يَعضُّوا على أمر سيدهم وسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنّواجذ. وقد أورد الحق ذلك الأمر ورسول الله فيهم من أجل مصلحة الإسلام، فلو نصرهم على الرغم من مخالفتهم لرسول الله لجرأهم ذلك على أن يخالفوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3243 ويقول الحق بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3244 والهُزُوُ هو السُّخرية والتَّنكيت. وهُزْء أهل الكتاب من أهل الحق لون من الانفعال العكسى. فساعة يرى بعض أهل الباطل واحداً ملتزماً يُصلّي ولا يُحملق في النساء قد يصفونه بصفات غير لائقة؛ لأنهم لا يستقبلون التزامه إلا بلونٍ من السخرية، وحتى لا يفهم أنه خيرٌ منهم، وقد يضلونه فيتبعهم. ولنفرض أن ثلاثة من الشباب جمعت بينهم الصداقة ثم انحرف منهم اثنان والْتزم واحد منهم. وكان لأحد المنحرفين أُخت فيطلب زميله المنحرف يد هذه الأخت، ويأتي له الصاحب الذي لم ينحرف ليطلب الأخت نفسها، هنا نجد الأخ لا يوافق على زواج أخته بالمنحرف، بل يوافق على زواجها من الذي لم ينحرف؛ لأنه لن يخدع نفسه. وعندما يعاتبه المنحرف فهو يرد عليه: وهل أستأمنك على أختي؟ أنا أعرفك حق المعرفة. وهكذا نرى أن القيم هي القيم. وعندما يكون هناك إنسان على حق ويلتقي بأناس على باطل نجدهم لا يتركونه وشأنه، ولأنهم لن يستطيعوا أن يكونوا مثله فلا أقل من أن يهزأوا منه حتى يحتفظوا لأنفسهم بفسادهم. وعندما ننظر إلى العادات الضَّارة التي تنتشر، مثل شمّ الهيروين أو تدخين المخدرات نجد أن الذي وقع في مصيدة هذه المصائب يريد أن يجر غيره إلى مثل هذا المستنقع. ونجد في القرآن ما يقوله لنا خالق الطباع والعليم بها: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3244 {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29 - 30] . مثل قول أهل الباطل للمؤمن: احملنا إلى الجنة على جناحك. أو: أتريد أن تكون وليّاً. {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] . ويرجع الواحد منهم إلى أهله فيحكي بسرور: لقد قابلنا إنساناً غارقاً في الإيمان وسخرنا منه: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 32 - 33] . بل قد نجد أن أهل الإضلال يتهمون المؤمن بأنه على ضلال، فماذا يكون العقاب يوم الحشر؟ {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34 - 36] . وكأن الحق يسأل المؤمنين: ألم آخذ لكم حقكم؟ إذن فالذين يتخذون الدين هُزُواً ولعباً. وادعوا الإيمان نفاقاً. إياكم أن تأمنوا لهم. ولقد حذرنا الحق بداية: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] . وهنا أمر بعدم اتخاذ الذين يتخذون الدين مادة للهزء أولياء، وعلى المؤمنين اليقظة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3245 والحذر؛ لأن الحق يقول: {واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإن كنتم مؤمنين حقاً فعليكم الأخذ بيقظة الإيمان، عليكم ألا توالوا اليهود والنصارى وكذلك من يتمسح في الإيمان نفاقاً ويريد الانتفاع بمزايا الإسلام ليأخذ حقوقه الظاهرية وقلبه مع غير المؤمنين. وتقوى الله تبدأ من أن ينفذ المؤمن المنهج، ويحاول أن يستبقي للمنهج مناعة اقتداره أمام خصومه بألا يُدخل المؤمنُ في حماية المنهج من لا يؤمن من اليهود والنصارى والكافرين والمنافقين. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها ... .} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3246 والنداء هو دعوة بجهر. ومقابل النداء المناجاة. وتثبت هذه الآية أن الأذان مشروع بالقرآن، وفي ذلك رد على الذين يقولون: إن الأذان قد شرع بالسنة. أو أن القرآن بهذه الآية قد أقر تشريع الأذان. {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} ذلك أنهم كانوا يقولون عن الأذان: لقد صاحوا صياح الحمير. ووصفهم الحق بقوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} والعقل - كما نعلم - هو الأداة التي تؤدي مهمة الاختيار ما بين البدائل؛ أي أن يختار الصالح من الأمور فيدرس مزايا كل أمر ومضاره ويختار الأمر الرابح. إن الهوى هو الذي يدفع العقل إلى أن يختار أمراً مخالفاً. فيجنح بالعقل إلى الضلال. وآفة الرأي الهوى. ولا يميل الإنسان عن جادة الصواب إلا إذا أراد أن يخدم هواه. ولذلك لا بد أن يكبح المؤمن جماح هواه بعقله، والعقل مأخوذ من عقال البعير، فصاحب الجمل يقيد ساقه بقطعة من الحبل حتى لا يجمح. ويحتاج الإنسان إلى العقل ليكبح جماح الهوى، ولينقذ الإنسان من الضلال لا أن يبرر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3246 الهوى. والذين يريدون العقل تحرراً من الفكر نقول لهم: أنتم لا تفهمون معنى كلمة العقل. فقد جاءت كلمة العقل لتمنع الهوى لا ليجترئ الإنسان بهواه على رأيه وسلوكه المستقيم، والعقل هو الذي يمنع الفكر من أن يكون مبرراً للهوى. فلو كانوا يعقلون لقلنا لهم: إن الأعمال التي تنادون بها عمر نفعها مظنون وقد تنفعكم في دنياكم، وعمر الدنيا لا يستطيع أحد أن يحدده بالنسبة لنفسه، فدنيا الفرد قد لا تزيد على مائة سنة. ودنيا الإنسان هو عمره فيها. وقد ستر الله سبب الموت وكيفيته عن الخلق حتى يعرف الإنسان أن عمره مظنون وقد ينتهي قبل أن تطرف عينه. ولو كانوا يعقلون لما باعوا آخرتهم بدنياهم. ولو عقلوا لأداروا مسألة البدائل في رءوسهم ولعلموا أنهم بموقفهم هذا من قضية الإيمان والإسلام إنما يقفون موقفاً خاسراً ليس في مصلحتهم. ويقول الحق بعد ذلك: {قُلْ ياأهل الكتاب ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3247 و «قُلْ» هي خطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وحين يخاطب الحق الرسول، فالخطاب أيضاً لأمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فنقول نحن أيضاً: {قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59] . و «نَقَم يَنْقِم» أي كره مني أن أفعل هذا، فلماذا تكرهون إيماننا يا أهل الكتاب؟ هل الإيمان مما يكره؟ وجاء الحق هنا بسؤال لا يقدرون على الإجابة عنه، فنحن آمنا بالله وبرسله وما أنزله علينا وما أنزل من قبل، فما الذي يُكره في هذا؟ وأبلغ سيدنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3247 محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اليهود أننا نؤمن بالله وبالرسل ومنهم سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، فغضبوا منه كثيراً. فكيف يكره أهل الكتاب إيمان المسلمين بالله؟ مثال ذلك عندما يدعوك إنسان إلى تصرف غير مستقيم أو إلى الذهاب إلى مكان مشبوه فترفض ذلك يكرهك هذا الإنسان، فتقول له: أتكره في سلوكي أن أكون مستقيماً؟ ونعلم أن الإنسان الأمين هو ثروة لمن يعرفه والذي يستحق النقمة والكراهية هو الفعل الضار، أما الإيمان بالله فهو أمر محبوب لأنه يُعلم الإنسان الأدب مع كل خلق الله، ويعلم الإنسان الحفاظ على أعراض الناس، ويعلم الإنسان ألاَّ يعتدي على أموال ودماء الناس ولا يغتاب الناس، ولا يرتشي، وأن يخلص في العمل وألا يكذب في ميعاد، فأي شيء في هذا يستحق الكراهية؟ إذن، فمن يكره إنساناً لأي سبب من هذا فهو كره بلا منطق، وكان من الواجب أن يكون سبب الكره سبباً للمحبة. وقد يأتي من يقول لك: ليس في فلان من عيوب إلا كذا. وقد يورد سبباً معقولاً. ولكن لا يقول أحد أبداً: لا عيب في فلان إلا أنه شهم؛ لأن الشهامة لا يمكن أن تكون عيباً، كأن القائل قد أعمل ذهنه حتى يكتشف عيباً، لم يجد إلا صفة رائعة، وقال عنها: إن كنت تعتبر هذه الصفة عيباً فهذا هو عيبه. ويسمون ذلك من أساليب الأداء الأدبي عند العرب وهو تأكيد المدح بما يشبه الذم، فيقول قائل: لا عيب في فلان إلا كذا. وساعة يسمع السامع هذا يظن أن العيب الذي سيورده هو صفة قبيحة فيفاجأ بأنها خصلة جميلة. وبذلك يؤكد القائل المدح بما يشبه الذم: {قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} . أنتم تقولون: إنكم أهل كتاب وعندكم التوارة، وكان يجب أن تعلموا كيف يشذب الإيمان النفوس ويدفع عنها الشر؛ لأن لكم سابقة في الإيمان، فقد آمنتم بالله وبالرسل السابقين على موسى وآمنتم بموسى، والمسلمون آمنوا بالله وآمنوا بما أنزل إليهم وآمنوا بالرسل ومنهم موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم فكيف يُكره ذلك؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3248 وإن كان هذا مما يُكره فعلينا كمؤمنين أن نسألكم: لماذا تنكرون علينا ذلك؟ لا شك أنكم تنكرون علينا إيماننا بالله لأنها قضية غير واضحة في أذهانكم. ولو كانت واضحة في أذناهكم ما كرهتم إيماننا. إذن فمسألة الإيمان بالله غير مستقرة في وجدانكم كأهل كتاب بدليل أنكم تكرهون من آمن بالله، ودليل ذلك أنكم أنزلتم الله منزلة لا تليق بكماله، فجسمتموه وقلتم: {حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] . وقلتم: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] . وقلتم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] . إذن فأنتم تكرهون لنا أن نؤمن بالله إيماناً يليق بكمال الله؛ لأنكم لم تؤمنوا بالله صحيح الإيمان، ولو طابق إيماننا إيمانكم ما كرهتمونا. وكذلك لم تؤمنوا بالكتب بدليل أنكم حرفتموها. ولم تؤمنوا بالرسل لأنكم وقفتم من عيسى عليه السلام هذه المواقف. إذن فأنتم تنقمون منا وتكرهون أموراً لا تُكره عند الطبع السليم، وهذا دليل على أن طبعكم هو المختل. وإذا كنتم تكرهون هذا الإيمان فماذا تملكون لمن تكرهون؟ لا قوة لكم لتفعلوا لنا أي شيء. ولكن حين يكرهكم الله فماذا يفعل بكم؟ إنكم حين تكرهوننا لا تملكون قدرة لعقابنا، لكن الذي يكرهكم هو الله وعنده القدرة المقتدرة لينتقم لنا منكم. إذن فكراهيتكم لنا لا قيمة لها. وإذا كنا نجاريكم، والمجاراة لون من جدال الخصوم فماذا يعنيكم من كوننا مؤمنين؟ مثال ذلك أن يتهمك إنسان بأنك بخيل فتقول له: هب أنني بخيل فعلاً فماذا يعنيك من هذا؟ وهذا ما نسميه مجاراة الخصوم؛ لذلك نقول لأهل الكتاب: هب أن لكراهيتكم لنا رصيداً وأنكم تستطيعون إيذاءنا، فلكم شر من هذا وهو عقاب الله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3249 وسنرى ماذا سيحدث لكم عندما يكرهكم الله. وهو قادر على كل شيء. وعلى فرض أن إيذاءكم لنا هو شر، فالأكثر فاعلية هو عقاب الحق لكم؛ لأنه عندما يكرهكم يقدر أن يعاقبكم بما شاء. إذن فالصفقة - صفقة كراهيتكم لنا - خاسرة من ناحيتكم. ولذلك قال الحق: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3250 فإن سلمنا جدلاً أنكم يا أهل الكتاب تعتبرون كيدكم لنا سيصيبنا بشر. على الرغم من أنكم لا تملكون أن تجازونا بشيء. وها هوذا الحق يخبركم على لسان رسوله بالأكثر شراً من هذا، وهي العقوبة التي يصنعها الله لكم وهو قادر على إنزالها بكم وهي الأكثر ضرراً. وهذا لون - كما قلنا - من مجاراة الخصم. ويعلمنا الله ذلك على لسان رسوله فيقول لخصومه: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] . والرسول على الهدى بالقطع وخصومه على ضلال بالقطع، ولكن رسول الله يسلم الأمر طالباً من خصومه أن يراجعوا أنفسهم ليناقشوا القيم التي يدعو إليها الإسلام. وسيجدون أن قيم الإسلام هي الهدى وأنهم على ضلال. ونعلم أن الهدى والضلال لا يجتمعان، فنحن كمسلمين على هدى، وأنتم على ضلال. ووسيلة التمييز أن يحكم الإنسان عقله في المسألة، وبذلك يرى مَن الذي على هدى ومَن الذي على ضلال، فأنت لا تناقش الخصم في أصل الدعوى، ولكن سلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3250 للخصم جدلاً. والتمييز النهائي هو الفيصل. وسيجد المميز حيثية ضلال الخصم واضحة وضوح حيثية هدى المسلمين. {قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59] . فإن كنتم تعيبون علينا أو تكرهوننا أو تأخذون إيماننا سُبَّة فهذا أمر لا يُكره الإنسانُ من أجله؛ لأنكم تدعون أنكم مؤمنون بالله. وكذلك لا يمكن أن يُسب الإنسان من أجل الإيمان بما أنزله الله في كتاب؛ لأنكم أيضاً تقولون إنكم مؤمنون بالتوارة. وتقولون إنكم مؤمنون بالأنبياء السابقين على موسى. والخلاف أن عيسى عليه السلام جاء بعد نبيكم فكفرتم به، لكننا آمنا به فنحن منطقيون مع أنفسنا ومع ربنا. والحق يبلغنا: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} . ونعرف أن صيانة الاحتمال تقتضي ألا يحكم الحق عليهم جميعاً بأنهم فاسقون؛ لأن فيهم بعضاً من الناس تراودهم نفوسهم بالإيمان وبالإسلام؛ لذلك لم يكن الحق أبداً ليعمم الحكم على كل أهل الكتاب بالفسق؛ ليعطي الفرصة لمن يفكر أن يعلن إيمانه. ومن بعد ذلك يأتي الخبر على لسان الرسول بعقابهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله} إذن فهناك أمر أكثر ضرراً لكم لأنه ما كان يصح أن تكرهوا إيماننا، والأكثر ضرراً من هذا هو لعنة الله {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} ويأتي سبحانه بالأوصاف التي فيهم، من لعنة الله وغضبه عليهم وجَعْلِه بعضاً منهم قردة وخنازير. وكيف يأتي الله بمثل هذه الأوصاف كمثوبة؟ إن هذا لون من فتح باب الرجاء والأمل ثم يصدمهم من بعد ذلك تماماً مثل قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] . والعذاب الأليم يُنذر به، وكذلك اللعنة لا يمكن أن تكون ثواباً، لكن الأسلوب القرآني يعطي النفس المخالِفة لوناً من الانبساط، ثم يعطيها اللون المناقض له من الانقباض، ليكون ذلك أبلغ في الانقباض وأكثر إيلاماً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3251 ومثال ذلك - كما قلنا من قبل - المسجون الذي يطلب كوب ماء فيأتي له الحارس بكوب الماء ويقربه من فمه ثم يسكب الماء على الأرض، هذه العملية زرعت في نفس السجين الأمل في الأرتواء أولاً، ثم يكون سكب الماء على الأرض سبباً في التعذيب والإمعان فيه، لكن لو رفض الحارس أولاً تقديم الماء لعاش السجين في اليأس وهو إحدى الراحتين. ونرى ذلك أيضاً فيمن ينتظر حكماً قد يكون إعداماً وقد يكون براءة، وتكون فترة الانتظار هي المليئة بالقلق. وعندما يضعون المنتظر في الميزان يجدون وزنه في انخفاض. وبعد الحكم بإعدامه يبدأ وزنه في الزيادة؛ لأن اليأس إحدى الراحتين. إذن فانبساط النفس ومجيء القبض بعدها هو الأمر الأنكى والأشد قسوة على النفس، ولذلك يقول الحق: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] . هذه البشارة تأتي بالانبساط للنفس ويتلوها الانقباض، ومثل قول الحق: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29] . أي أنه قد وقع عليهم لون من العذاب يستدعي الإغاثة، ومن بعد ذلك يغاثوا لا بما ينقذهم ولكن بما يزيد عذابهم. وساعة يسمعون «يغاثوا» تنفرج أساريرهم وتسكن وتطمئن نفوسهم، وبعد ذلك يحدث الانقباض بسماعهم: {بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} ، إذن فكلمة «مثوبة» تأتي لهم بشيء من الانبساط يتلوه العذاب. هذا. وإنّ أفعل التفضيل يأتي على صورة «أفعل» ، «أكرم» ، «أجود» ، «أشجع» فهذا لون من زيادة الصفة في طرف عنها في الطرف الآخر. اللهم إلا كلمات قليلة جاءت في اللغة على غير صيغة التفضيل منها كلمة «خيرط وكلمة» شر «فلم تأت منها كلمة» أَخْيَر «بمعنى أكثر خيراً. ولا كلمة أشر بمعنى أكثر شرا، ومرة تأتي كلمة» خير «ويقابلها الخير الأقل. والذي يميز المعنى هو وجود كلمة» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3252 من «كقولنا:» فلان خير من فلان «. أما إن قيل: فلان خير» فمقابله هو «شر» لأنه لا توجد كلمة «أَخْيَر» . وهكذا نجد كلمة «خير» تأتي للوصف مرة وتأتي للمبالغة في الوصف مرة أخرى، والفاصل للتمييز بين الاثنين هو وجود «مِن» . فيقال: فلان خير من فلان ومثلها في ذلك كلمة شر، وقد ورد استعمال كلمة خير للتفضيل ولغير التفضيل في قوله تعالى: {ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال: 70] . والحديث النبوي يقول: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» . إن في كل مؤمن خيراً. ولكن في المؤمن القوي خير أكثر مما في المؤمن الضعيف. والمثال على أن كلمة «خير» . تقابل كلمة «شر» ، هو قول الحق: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} [آل عمران: 180] . و «خير» هنا ليست أفعل التفضيل ولكنها للوصف العادي؛ وإذا جاءت «مِن» تعرف أنها للتفضيل، وعدم الإتيان بلفظة «مِن» يدلنا على أنها للوصف العادي ومقابله كلمة «شر» . وهنا يقول الحق: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك} . وجاءت كلمة «بشر» هنا للتفضيل ولا يعني ذلك أن المؤمنين في «شر» ولكنها مجاراة للخصم. واعتبار أن ما يقوله الخصم مقبول جدلاً. وهناك الأكثر شراً في الواقع وعند الله وهو المراد من قوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 60] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3253 لماذا إذن يكون مصير هؤلاء إلى شر؟ لأنهم كرهوا سلوك المؤمنين ولم يستطيعوا أن ينفسوا عن الغل الذي في صدورهم بعقوبة المؤمنين. ولكن الله يكرههم ويملك لهم العقوبة ويكون مصيرهم الذي يوضحه الحق في قوله: {لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} واللعنة هي الطرد من الرحمة. والطرد من الرحمة يعني حرمانهم من الخير. ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - عندما يكون هناك خادم في خدمة إنسان ما وهو يسكن ويأكل ويلبس على حساب السيد، فإذا لم يؤد هذا الخادم حقوق الخدمة على وجهها المطلوب، لا يرضى عنه سيده، ويطرده من الخدمة، وحين يطرد الإنسان فهو يُعْلن للناس أن هذا الخادم لم يؤد حق الخدمة، فلا يستخدمه أحد بعد ذلك، وهذا هو الغضب. وبهذا نعرف الفرق بين أن يُطرد من الرحمة فقط ولا يعقب ذلك شيء، أو أن يستمر الغضب بالإعلان عن السبب في الإخراج من الرحمة، فهذا معناه أن الله بعد أن طردهم يلاحقهم بغضبه وسخطه وأن لعنه لهم لا ينفك عنهم. والله سبحانه وتعالى يعلن لأهل الكتاب: إن طردي لكم من رحمتي وتواصل غضبي عليكم هو شر عظيم. وغضب الله - كما نعلم - يترتب عليه أشياء في كل حركة من حركات حياتهم، إنه يمنع الهُدى أن ينفذ إلى قلوبهم، بأن يختم على قلوبهم فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر. أو أن يجعل منهم القردة والخنازير. وإن تساءلنا: كيف يكون نسلهم؟ نعرف أن الذي يُمسخ لا يَتَناسل، إنه يُمسخ إلى أن يُرى مسخاً ثم يؤخذ إلى الموت. وهل هم الذين اعتدوا في السبت أو الذين عبدوا العجل أو الذين كفروا بعد نزول مائدة عيسى؟ إنهم كل هؤلاء. أو أنهم قردة، أي في خصال القردة، كالطيش وخفة الحركة وانكشاف العورة، أو طبائعهم وخصالهم كالخنازير، فهؤلاء لهم خبث ونتن وزخم كزخم الخنزير. وأهم ميزة في الخنزير أنه لا يغار على أنثاه. وهذه موجودة فيهم. وتفشت فيهم عادة تشغيل بناتهم في الدعارة وغير ذلك من أعمال الباطل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3254 وهكذا نفهم قوله الحق: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} إما على أساس أنه المسخ الحقيقي. والمسخ الحقيقي لا يظل متماثلاً ممسوكاً وإنما يكون المسخ لزمن محدود يراه الناس ممسوخاً ثم يموت وينتهي، وإما أن نفهمها على أن سلوكهم كسلوك القردة والخنازير. ويتابع الحق: {وَعَبَدَ الطاغوت} والعبادة إنما هي طاعة العبد للمعبود فيما أمر به وفيما نهى عنه. والطواغيت هم الذين يزينون لهم الشر والنفاق وأكل السحت والإثم. ويكون مصيرهم هو قوله الحق: {أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} وهذا هو الواقع الذي يعيشون فيه وهو شر كله، وهم لا يفكرون في السير في الطريق السليم. وعندما نقرأ قول الحق كاملاً في هذه الآية: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 60] . نعرف أنهم في حالة غفلة عن مسار الهدى الموصل للحق؛ لأن {سَوَآءِ السبيل} هو الأمر المستوي الموصل للغاية. وكانت طرق العرب إما فيها رمال وإما بين الجبال، وكانوا يختارون السير في وسط الطريق حتى لا ينالهم أذى من جرف هاوٍ من الرمال فيقع بهم أو أن تقع عليهم صخرة من جبل. ولذلك قال الحق: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 51 - 55] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3255 أي أنه في وسط الجحيم. ويقول الحق بعد ذلك عن الذين غضب عليهم: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3256 وهؤلاء هم الذين اتخذوا الدين هزواً ولعباً وسخرية. وهم ساعة يدخلون على المؤمنين يدخلون ومعهم الكفر. وعندما جلسوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرجوا أيضاً بالكفر. أي أنّ الكفر قد لازمهم داخلين خارجين. وكأن جلوسهم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يزدهم أي شيء. وكان من الممكن أن يدخل إنسان على مجلسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو كافر، وبعد ذلك تمسّه عناية الهداية فيخرج مؤمناً. ومثال ذلك: فضالة بن عمير الليثي الذي جاء ليقتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عام الفتح. وعندما مر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفضالة قال له: ما كنت تحدث به نفسك؟ فقال: لا شيء، كنت أذكر الله عَزَّ وَجَلَّ. فضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: أستغفر الله لك. ووضع يده عليه السلام على صدر فضالة. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما أجد على ظهر الأرض أحب إلي منه. لقد مسته العناية، فقد دخل - أولاً - بكفره وخرج - ثانياً - بعميق الإيمان. لكن هؤلاء دخلوا بالكفر وخرجوا بالكفر، كأن الدخول كان نفاقاً، بدليل قوله الحق: {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} وهذا القول دليل نفاقهم، فقد أعلنوا الإيمان لكنهم دخلوا بالكفر وخرجوا بالكفر. وكانوا يكتمون أن الدخول إلى رسول الله هو محض نفاق. وهذه خاصية لمن قالوا آمنا، ولكان كان دخولهم إلى الإسلام نفاقاً؛ لأن كفرهم أمر مستقر في قلوبهم لا يتزحزح، وكان يكفي في الأسلوب أن يقول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3256 وقد دخلوا بالكفر وخرجوا به، ولكنه قال: «وهم» وذلك تحديداً لهويتهم الكافرة، فكأن عملية الدخول بالكفر والخروج بالكفر هي عملية مسبقة؛ لذلك يكشفهم الحق: {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} . وجاء سبحانه بأفعل التفضيل «أعلم» فكأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من إشراقات الله عليه وتنويره له كان يعلم أيضاً أنهم منافقون. ولكن علم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يصل إلى علم الحق سبحانه وتعالى فعلم الله ذاتي وعلم رسوله فيض منه - سبحانه -. إذن فقوله الحق: {والله أَعْلَمُ} لم يمنع أن هناك أناساً قد علموا أنهم منافقون. وقد استقر في ذهن النبي أنهم منافقون وأن الله أعلم بما كانوا يكتمون. والكتم هو حبس الإحساس النفسي أن يخرج وأن يظهر واضحاً، ومحاولة الكتم عملية غير طبيعية لأنها قسرية. ويكاد كفرهم أن يظهر ويخرج فيحاولون أن يكتموه لأنهم يحرصون ألا ينكشفوا، ولكن علم الله لا تخفى عليه خافية. ويقول الحق بعد ذلك: {وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3257 والمسارعة في الإثم تعني أنهم من بداية الأمر في الإثم، ويسارعون فيه، أي أنهم كانوا على أولية الإثم ويجرون إلى آخرية الإثم، فَضَلاَلُهم واضح من البداية، وكأن خلقهم الكفر يفضحهم، برغم محاولتهم كتمان ذلك. ويجدون أنفسهم مسارعين إلى فعل الإثم، أي أن عملهم ينزع إلى الكفر، ويجعلهم الحق يغفلون عن الكتمان، فتبدو منهم أشياء هي أكثر فضيحة من القول، ذلك أن الإثم مراحل: مرحلة قول، ومرحلة فعل. والفعل أكثر فضحاً من القول. {وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان} ويقول الحق: {كَثِيراً مِّنْهُمْ} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3257 صيانة لاحتمال أن يوجد الإيمان في قلب القليل منهم، وذلك لتبرئة أي إنسان يفكر في الإيمان. وهم أيضاً يسارعون في العدوان، فإذا كان الإثم هو الجُّرم على أي لون كان، فالعدوان هو إثم يأخذ به إنسان حقاً لغيره، مثال ذلك الإنسان الذي يحقد، إثمه لنفسه ولذلك يعاني من تضارب الملكات حتى يبدو وكأنه يأكل بعضه بعضاً. إن الحقد - كما نعلم - جريمة نفسية لم تتعد الحد. ويقال عن الحقد: إنه الجريمة التي تسبقها عقوبتها، عكس أي جريمة أخرى، فأي جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحقد والحسد، فتنال عقوبة الحقد صاحبها من قبل أن يحقد؛ لأن الحاقد لا يحقد إلا لأن قلبه ومشاعره تتمزق عندما يرى المحقود عليه في خير. ولذلك يقال في الأثر: «حسبك من الحاسد أنه يغْتّم وقت سرورك» . إذن من يرتكب إثماً في نفسه لا يتعدى أثر إثمه إلى غيره، أما الذي يرتكب العدوان فهو ينقل حق إنسان إلى غيره. وهو قسمان؛ هناك من يعتدي ليعطي حقا لغير ذي حق. وهناك من يعتدي بالسكوت على الظالم، فالظالم تتملكه شهوة الظلم، لكن من يرى الظالم ويسكت ولا ينهاه فهذا عدوان أيضاً؛ لأن الظالم عنده وفي نفسه ما يدفعه إلى أن يظلم، أما الشاهد الذي يصمت فليس عنده في نفسه ما يدفعه إلى أن يُسكته. فمن - إذن - الأكثر شراً؟ إنه الذي يصمت عن تنبيه الظالم إلى أنه يظلم. {وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان} نلحظ أن كلمة «سارع» مثلها مثل كلمة «نافس» تدل على أن هناك أناساً في سباق؛ كأنهم يتسابقون على الإثم والعدوان، كأن الأثم والعدوان غاية منصوبة في أذهانهم، ومتفقة مع قلوبهم. {وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} والسحت هو كل مال مصدره حرام، سواء أكان رشوة أمْ ربا أم سرقة أم اختلاساً أم خطفاً أم اغتصاباً، كل تلك الألوان وما ماثلها من السحت إنها أخذ لحق الغير. وأخذ حق الغير له صور متعددة، فإن أخذه أحد خفية فتلك هي السرقة. وإن سارع إنسان لخطف شيء من بضاعة إنسان آخر فهذا هو الخطف. وإذا لحق به صاحب البضاعة وتجاذبا وتشادَّا فهذه المجاذبة تخرج بالخطف إلى دائرة الغضب. وإن كان الإنسان أميناً على شيء وأخذه فهذا هو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3258 الاختلاس، وكل ذلك أكل مال بالسحت. وبئس هذا اللون من العمل. ويقول الحق بعد ذلك: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3259 والربانيون هم الذين يُنسبون إلى الرب في كل تصرفاتهم، وكذلك الأحبار الذين يعرفون الدين، ولا هؤلاء ولا أولئك ينهون هؤلاء الناس من أهل الكتاب عن ارتكابهم الإثم وأكلهم السحت، فكيف يُنَصَّبُ هؤلاء الربانيون والأحبار أنفسَهم قادة للضمير الديني دون أن يقوموا بواجبهم بوعظ الناس؟ وفي هذا تأكيد على أن الربانيين والأحبار إنما يريدون فقط سلطة الهيمنة على الناس. والربانيون هم رؤساء النصارى، والأحبار هم رؤساء اليهود. وكان من بين اليهود والنصارى من تتملكه شهوات أكل السحت والظلم وقول الإثم، فلماذا لم يتحرك المنسوبون إلى الله للنهي عن ذلك وهم الذين أخذوا حظهم في الدنيا من أنهم منسوبون إلى حماية منهج الله من انحرافات البشر؟ . ألم يكن من واجبهم نهي الظالمين والآثمين عن الظلم والإثم؟ إن الذي يظلم له شهوة في أن ينتفع من الظلم، أما أنتم أيها الربانيون والأحبار فلماذا لا تتحركون لوقف ذلك؟ لا شك أنهم قد أمتلأوا سروراً من هذا الإثم وذلك العدوان وأكل السحت، ومبعث سرورهم أن الواحد من هؤلاء لو كان سليماً في تصرفاته وأحكامه لغار على المنهج، لكنه يقبل الانحراف؛ لأن من مصلحته أن ينحرف غيره حتى لا يلومه أحد. وجاء الحق ب «لولا» في أول هذه الآية تحضيضية أي يقصد بها الحث على الفعل. . أي كان يجب أن يناهم الربانيون والأحبار عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3259 أكل السحت وقول الإثم والعدوان. ثم تتجلى دقة الأداء القرآني - كما هو دائماً - في قوله الحق: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} . ونذكر أن تذييل الآية السابقة قال فيه الحق عن سلوك العامة من أهل الكتاب: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} ، إذن فالحق يفرق بين بئس عن صناعة وبئس عن عمل. وبئس الربانيون والأحبار هو بئس الصناعة. ونعلم أن كل جارحة من جوارح الإنسان لها حدث خاص بها: فالعين حدثها أن ترى، والأذن حدثها السمع، واليد اللمس ومناولة الفعل، والرِّجل تسعى، واللسان مجال عمله الكلام. والجوارح تنقسم إلى قسمين: اللسان وحدثه القول، وبقية الجوارح أحداثها أفعال، بدليل أن الله يقول: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] . إذن فالقول مقابله الفعل. والقول عمل، والفعل عمل. وما دام هناك قول وفعل من عامة أهل الكتاب في ذلك المجال لذلك يقول الحق: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . وقال عن الربانيين والأحبار: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} لإيضاح الفرق بين من يعمل ومن يصنع، فمن فُتق ثوبه بإبرة وخيط ليصلحه، فهو خائط، ولكن الذي يحترف ذلك هو «الخيَّاط» ؛ فصاحب الحرفة هو من يأخذ وصفها لأنه يجيدها، أما الذي يمارسها لمرة واحدة فلا يأخذ من الصنعة إلا بقدر ما يدل على أنه لم يتقنها. وكان الربانيون والأحبار قد اتخذوا أمر الدين والكهنوت صناعة بتجويد كبير. وذلك هو الذي جعل السلطة التقنينية في العالم كله تنتقل من منهج السماء إلى منهج الأرض. وحينما نرجع إلى تاريخ القانون نجد أن الأصل في التقنين كان من الكهنة الذين كانوا منسوبين إلى الله وخبر السماء، وهم الذين كانوا يحكمون بين الناس، لكنهم أفسدوا، ورأى المجتمع أنهم يحكمون في قضية بحكم، ثم في قضية مشابهة يحكمون بنقيض الحكم السابق، وأنهم ارتشوا في سبيل ذلك، وما يزوا بين الناس، وعرف الناس أن الكهنة غير مأمونين على العدالة؛ لذلك تركوا الكهنة وبدأوا يضعون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3260 قوانين خاصة بهم بعيدة عن حكم الكهنة. وهكذا انتقلت المسألة من تقنينات وحكم الكهنة إلى المجتمع الذي لم يعد يتمسك بالدين بسبب انحرافات أحكام الكهنة عن العدل وأنهم باعوا الأحكام لصالح من يدفع أكثر، أو يحكمون لصاحب النفوذ. وهكذا صارت المسألة صناعة لهم. وبئست تلك الصناعة. ومن بعد ذلك يقول الحق: {وَقَالَتِ اليهود ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3261 ونعرف أن اليد جارحة حرة الحركة تنفعل يميناً وتنفعل شِمالاً وتنفعل إلى أسفل وإلى أعلى، ولها من الأصابع ما جعل الله لكل أصبع مع زميله مهمة. وليلاحظ كل منا أصابعه في أثناء أي عمل، سيجدها تتباعد وتتقارب بحركة إرادية منسجمة لتؤدي المهمة. وخلقة الأصابع بالمفاصل والعُقل وحجم كل عقلة يختلف عن الأخرى؛ لتؤدي المهمة بانسجام. وساعة تعوّق هذه الجارحة عن أداء مهمتها فأنت بذلك تكون قد غللتها، أي ربطتها عن التصرف المطلوب منها. ومعنى قوله: «يد الله مغلولة» أي أن يد الله - والعياذ بالله - مشلولة الحركة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3261 وقد قالوا ذلك قبل ظهور سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقبل زحف الإسلام عليهم لينقض باطلهم. وحدث أن تفرغوا لصناعة آلات الحرب وبناء الحصون والزراعة، وانشغلوا عن الزراعة فخابت محاصيلهم وجاء وقت الحصاد فلم يجدوا، فقال «فنحاص» وهو واحد من اليهود: لماذا قبض الله يده عنا؟ إن يد الله مغلولة. ونلحظ أن الذي قال ذلك هو شخص واحد، ولكن الحق يقول هنا: «وقالت اليهود يد الله مغلولة» . ومعنى ذلك أن «فنحاص» عندما قال ذلك سمعوه وسرّهم ما قال، ووافقوه عليها. أو أنهم حينما شاهدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول الهجرة وقد آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت تمر على المسلمين الليالي دون طعام فيراهم اليهود فيتندرون على تلك الحال ويقولون: إن يد الله مغلولة عن محمد وآله. أو أنهم قالوا: إن يد الله مغلولة في الآخرة عن عقابنا؛ لأنه سيعقابنا أياماً معدودة. والذي يبيح لنفسه أن يجعل الله منفعلاً لأحداث خلقه إنما يكفر بالله؛ لأنه يُنزلُ الله من مكانته. فإذا كانت يد الله مغلولة، فهذا الرباط والغَلُّ والمنع يكون من خَلْق الله. وكيف يقدر خلقٌ من خلق الله أن يربط يد الله؟ . لقد اجترأوا على مقام الأولوهية وهذا من سوء الأدب، تماماً كما قالوا: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] . وحينما قالوا: «يد الله مغلولة» وردّ الحق عليهم: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وقال قبلها: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} فهل يدعو الحق عليهم؟ طبعاً لا؛ لأنه هو المصدر الذي يتجه إليه الخلق بالدعاء وهو القادر على كل الخلق. ولكن الحق حين روى ما قالوه إنما ينبه الذهن الإيماني الذي يستقبل كلامه أنه ساعة يجد وصفاً لا يناسب الله فعليه أن يدفع هذا الكلام حتى قبل أن يرى الرد عليهم. {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} وهذا يعلمنا أننا إذا سمعنا وصفاً لا يليق فلا بد أن ندحضه؛ لأن الحق لا يدعو على عبيده؛ لأن الدعاء هو أن يرفع عاجز طلبه إلى قادر لينفذ المطلوب له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3262 إذن فإن قالها الحق فهي إما أن تكون خبراً، وإما تعليماً لنا، فإذا كانت خبراً نلحظ أن الله كتب عليهم البخل ساعة قالوا هذا ومنذ لحظة هذا القول، وإن كان القصد هو تعليمنا، فنحن نتعلم الأدب الإيماني، ونرد أي وصف لا يليق بجلال الله. وهذه المسألة لها نظير، فعندما علم الحق سبحانه وتعالى تشوّق رسوله والمؤمنين أن يذهبوا إلى المسجد الحرام؛ قال لرسوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله} [الفتح: 27] . وهل هذا إخبار من الله، أو هو تعليم لنا؟ . إنه تعليم لنا أن نفعل ذلك عندما نشتاق إلى فعل. وكذلك هنا: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} لذلك يعلمنا سبحانه أن نقول: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} مثلما علمنا أن نقول: {إِن شَآءَ الله} حتى ننسب كل قدر لله. وقد حاول الفلاسفة أن ينسونا تقدير المشيئة، فقالوا: إن الله خلق النواميس والأكوان وجعل لها قوانين تعمل في الكون. وهل زاول الحق سلطانه ساعة خلق النواميس ثم ترك الأمور لذاتها؟ لا؛ لذلك جاء سبحانه بمعجزات تخرق النواميس ليدلنا على أن النواميس لم تأخذ هي الكلمة للتصرف بل إن يد الله ما زالت في كونه، فالنار - على سبيل المثال - التي تحرق يأتيها الأمر: {كُونِي بَرْداً وسلاما} [الأنبياء: 69] . والماء الذي يُغرق يأتيه الأمر: {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63] . وقال: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 77 - 78] . والعصا التي خلقت من غصن شجر جاف، تتحول إلى أفعى، أي نقلها كلها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3263 إلى جنس آخر، من نباتية إلى حيوانية. هذا هو خرق النواميس. ويقول الحق عن هؤلاء الذين ادعوا أن يد الله مغلولة: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} أي أنهم طردوا من رحمة الله، لأنهم هم الذين بشروا على أنفسهم وقالوا إن يد الله مغلولة، وسبحانه قادر أن يمنع عطاءه عنهم. ويتابع سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} ، وهو يعطي من يريد، وكلمة «اليد» في اللغة تُطلق على الجارحة وتطلق على النعمة، فيقول الرجل: إن لفلان علي يداً لا أنساها؛ أي أنه قدم جميلاً لا يُنسى. واستعملت اليد بهذا المعنى لأن جميع التناولات تكون باليد. وتُطلق اليد ويراد بها الملكية فيقول سبحانه: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237] . أي الذي يملك أن يُنكح المرأة، هو الذي يعفو. وفي القتال نجد القول الحكيم: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] . أو تطلق اليد على من له ولاية في عمل من الأعمال، لذلك نجد الحق قد قال: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] . وآدم هو الخلق الأول وكلنا من بعده مخلوقون بالتناسل من الزوجية. وقد كرّم الله الإنسان بأنه خلقه بيديه، وخلق كل شيء ب «كن» . إذن: كلمة «اليد» تطلق على معانٍ متعددة. والرسول يقول: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم» . أي عندما تجتمع الأيدي تكون هي اليد القادرة. وعندما نقرأ كلمة «يد الله» فهل نحصرها في نعمته أو ملكه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3264 {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1] . والله سبحانه وتعالى أعلم بذاته فنقف عند الوصف، نعم له يد، وله يدان، وإياك أن تتصور أن كل ما يتعلق بالله مثل ما يتعلق بك؛ لأن الأصل أن لك وجوداً الآن، ولله وجود، لكن وجودك غير وجود الله، وكذلك يده ليست كيدك. حتى لا نشبه ونقول: إن له يداً مثل أيدينا، فلنقل إن المراد باليد هو القدرة أو النعمة، والهدف الراقي هو تنزيه الحق. وهناك من يقول: إن لله يداً ولكن ليست كأيدينا لأننا نأخذ كل ما يأتي وصفاً لله على أنه «ليس كمثله شيء» والتأويل ممكن. مثلما بيّن الحق: انه قد صنع موسى على عينيه. وتأخذ أي مسألة تتعلق بوصف الله إما كما جاءت، بأنه له يداً ولكن ليست كالأيدي، وله وجود لا كالوجود البشرى، وله عين ليست كالأعين، ولكن كل وصف لله نأخذه في إطار «ليس كمثله شيء» . وإما أن نأخذ الوصف بالتأويل، ويراد بها النعمة ويراد بها القدرة. ويقول الحق: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} والمراد هما هو «النعمة» . ولم يكتف سبحانه بأن يرد بأن له يداً واحدة تعطي. لا، بل يرد بما هو أقوى مما يمكن، فهو يعطي بيديه الاثنتين، وهو القائل: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] . أنه يُعطي الظاهر ويُعطي الباطن. وإياك أن تقول تلك اليد اليمنى وتلك اليد اليسرى؛ لأن كلتا يدي الله يمين: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أي أنه سبحانه لا يمكن. أن يكون بخيلاً، حتى وإن منع الحق فذلك منح وعطاء وإنفاق؛ لأن الذي يطغى بنعمة، قد يذهب به الطغيان إلى بلاء وسوء مصير؛ لذلك يقبض سبحانه عنه النعمة ليعطيه الأمن من أن ينحرف بالنعمة. ولذلك نجد القول الحق في سورة الفجر: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3265 ورد الحق بعد ذلك بقوله: {كلا} . فلا الإعطاء هنا للإكرام، ولا المنع للإهانة. فكيف يكون الإعطاء دليل الإكرام وقد يعطيك الله ولا تؤدي حق النعمة؟ وكيف يكون المنع دليل الإهانة وهو قد منعك من وسيلة انحراف؟ إذن فهو قد أعطاك بالمنع - في بعض الأحيان - أنه قد أعطاك الأبقى وهو الهداية. إذن فمنعه أيضاً عطاء. {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} والناس تنظر دائماً إلى عطاء الله بعطاء الإيجاب، ولا تنظر عطاء السلب أي المنع، وهو أن يصرف عنك الحق مصرف سوء، وسبق أن ضربت المثل بالرجل الذي تحرى الحلال في مصدر ماله ويتقي الله في عمله ويأخذ دخله ويدير حركة حياته في إطار هذا الدخل، وقد يعود هذا الرجل إلى منزله فيجد حرارة الابن مرتفعة قليلاً، ولأن ماله حلال وذرات جسمه تعرف أن ماله حلال؛ لذلك يستقبل الأمر بهدوء ويعرض الابن على طبيب في مستوصف خيري بقروش قليلة، فيصف الطبيب دواء بقروش قليلة ويتم شفاء الابن. هذا الرجل يختلف حاله عن حال رجل آخر أتى بماله من السحت، وساعة يرى حرارة ابنه قد ارتفعت نجد باله يدور بين ألف خاطر سوء، ويدور الرجل بابنه على الأطباء ولا يصدق طبيباً واحداً. الرجل الأول رزقه الله الاطمئنان بمنع هواجس الحدَّة من قلبه وخواطره، أما الرجل الثاني فهو ينفق أضعاف ما أكله من سحت. إذن {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي أن هناك عطاء السلب. والعطاء الذي يحبه الإنسان هو عطاء السلب. والعطاء الذي يحبه الإنسان هو عطاء المال وهو عطاء المال وهو عطاء يذهب إلى الفانية. أما المنع فهو يمنع الإنسان من ارتكاب آثام. وبعد ذلك يأخذ الإنسان نعيمه في الآخرة. ونحن نجد كثيراً من الناس تدعو، ولكنهم لا يعلمون أن الله قد أعطى بالمنع. يقول الحق تبارك وتعالى: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3266 لذلك يعطي الحق أحياناً أشياء يكون العبد قد ألح عليها، وبعد ذلك يتبين الإنسان أنها شر، كأن الحق ساعة منع الإنسان لفترة كان ذلك صيانة له. {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} إذن فكله إنفاق. وسبحانه ينفق كيف يشاء، فلا يبخل أبداً حتى وإن منع، فالمنع في موضعه الصحيح هو عين الإنفاق، وهكذا يكون عطاء الله عطاء النعمة ظاهرة كانت أو باطنة. فإن أردت ب «اليد» القدرة فيدا الله مبسوطتان بالثواب لقوم وبالعقاب لقوم آخرين. وهو سبحانه وتعالى يعطي لحضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المناعة الإيمانية ضد كل متمرد عليه، أو ضد كل متأبٍ ومستكبر من الكافرين أو من أهل الكتاب. فكأنه سبحانه وتعالى يوضح: وطَّنْ نفسك يا محمد ولتوطن أمتك نفسها على أن هؤلاء الكفرة لن يكتفوا بالقدر اليسير والقليل من الكراهية لك، بل كلما جاءت لك نعمة بزيادة الهدى من الله سيحسدونك، وسيبغضونك، وسيزداد تمردهم وحقدهم عليك، فوطن نفسك على ذلك. وفي هذا ما يعطي مناعة إيمانية، يسد كل منافذ وسوسة النفس ويجعل النفس على استعداد لاستقبال ما يحدث حتى ولو كان من المكاره. ولنقرب هذا الأمر من الذهن. لا تشبيهاً ولكن لمجرد تقريب الأمر من الذهن - والله المثل الأعلى - لننظر إلى ما حدث في أوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت انجلترا تخوض الحرب ضد النازية، وكانت الأهوال تتساقط من الطائرات على المدن الإنجليزية. وجاء تشرشل ليقود الحرب فقال للإنجليز. إن الهول والصعاب هي التي تتنظركم فوطنوا أنفسكم على مواجهة الشدائد. وإذا كان هذا قد حدث في حرب بين شعبين، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وهو يعلم ضرورة التمحيص لأمته التي تحمل راية المنهج الكامل للهداية. كان لا بد إذن من أن يوطن نفس رسوله ونفوس المؤمنين معه على مواجهة الحسد والبغض والحقد والمكر والتبييت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3267 ويقول الحق: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة} . ولا يأتي قول الحق: «بينهم» إلا إذا كان هناك طائفتان، والمقصود إما الطوائف اليهودية فيما بينها، وإما طوائف النصرانية فيما بينها، أو بين اليهودية والنصرانية، خصوصاً أن هذه الآيات مستهلة بقوله الحق: {يَا أَهْلَ الكتاب} . فإذا كانت لليهود فالعداوة والبغضاء قائمة بين طوائفهم بعضها مع بعضها الآخر. وإذا كانت للنصارى فالعداوة والبغضاء حاصلان فيما بين طوائفهم، وإن كانت بين اليهود كقسم وبين النصارى كقسم فهي مسألة ممكنة. وهذه العداوة والبغضاء لا تنتهي أبداً بل هي قائمة بينهم إلى يوم القيامة. ويقول الحق: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} وهذا خبر عما وقع في حضن الإسلام، ومثال ذلك خروج «بني قينقاع» على العهد بعد أن جمعهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سوق بني قينقاع وقال لهم: «يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً» . فرفضوا وقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا. فنزل فيهم قول الحق: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} [آل عمران: 12] . فكان «بنو قينقاع» أول اليهود الذين نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحاربوا فيما بين موقعتي بدر وأحد. وكان سبب ذلك أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها - بضاعة - لتبيعها في سوق «بني قينقاع» ، فجلست إلى صائغ يهودي بالسوق، وحاول اليهود إجبارها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، وهي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3268 لا تشعر به، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت المرأة. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، وحدثت بذلك الفتنة، لكن الله أطفأ الفتنة وأجلى «بني قينقاع» ، ثم «بني النضير» وكان لهم - قبل ذلك - التجمع القوي في المدينة بالثراء والعلم. وقاتل المسلمون «بني قريظة» وأجلوا أهل خيبر، وتملك واستولى المسلمون على وادي القرى. حدث هذا في حضن الإسلام فماذا حدث في غير حضن الإسلام؟ لقد رأيناهم أيام المجوس وقد أهلكهم بختنصر، وكذلك تيتوس الروماني، ورأيناهم مقطعين في الأرض في كل زمان ومكان، وقد يقول قائل: إذا كان الحق قد قال: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} فلماذا لا تنطفىء الحرب الحالية بيننا وبينهم؟ ونقول: إن الذي يطفئ نيران الحرب لا بد أن يكون من جنود الله. وعندما نصبح جنوداً لله فلسوف تنطفئ هذه الحرب. والمثال القريب منا هو انتصارنا في العاشر من رمضان. لقد كان انتصارنا بالعمل تحت راية «الله أكبر» وقد جزى الله بالخير الضباط والجنود الذين كانوا يعلمون أن العتاد في جانب العدو كان أكبر من عتادنا، لكن النتيجة كانت في صالحنا لأننا دخلناها تحت ظل «الله أكبر» . أما الذين ادعوا أنه انتصار حضاري فنقول: عن أي حضارة تتحدثون؟ والإسلام هو نبع الحضارة المتوازنة، وليس الادعاء بالحضارة هو الخروج عن منهج الله. إننا إن ثبتنا على مبدأ «الله أكبر» لا كشعار ولكن كتطبيق لأطفأ الله نيران أي حرب. ويترك سبحانه في كونه السنن التي تعطي التجارب الواقعية لمن يتشكك في الإيمان. ومثال ذلك ما حدث من مخالفة لأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من بعض المقاتلين في غزوة أحد فكادت الهزيمة تلحق بهم. وفي غزوة حنين قالوا: لن نُغلب اليوم من قلة ولذلك يقول سبحانه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3269 {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] . وقد ترك الله هذه السنن الكونية ليلفت أي غافل عن الدين أن الخصم ينال منه؛ فالغفلة تؤدي إلى الانحراف، والانحراف لا يمكن أن يؤدي إلى النصر. هكذا يحذر الحق معسكر الإيمان. أما معسكر الكفر فالحق يريد له الذلة، فيعطيه في بعض اللحظات نصراً على المؤمنين في أوقات غفلتهم، وما أن يُفيق المؤمنون من الغفلة حتى تأتي ضربتهم لمعسكر الكفر. وتأتي الضربة وقت أن يكون معسكر الكفر في علو وغلو. ولنا في المثل الريفي الإيضاح. يقول المثل: لا يقع مؤمن من على حصيرة، والمقصود أن التواضع يحمي الإنسان من وهم العلو والكبر؛ لأن الذي يقع هو الذي يتخيل أنه علا في الأرض ولذلك يعميه الله عن الحرص، ويأتي قوله: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} [الإسراء: 7] . أي أن يتم العصف بكل شيء. وأهل السياسة عندما يريدون أن ينزلوا بخصومهم العقاب يرفعون خصومهم ويمدون لهم في حبال الصبر والإمهال حتى يعلو الخصم كثيراً ثم ينكشف ويظهر سوء سلوكه فيقع أمام الناس. ولذلك نجد القرآن صريحاً مطلق الصراحة في هذا المجال: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] . فسبحانه يمد ويملي لهم ليأخذوا وليبنوا وليترفوا، وليفرحوا بما أخذوا، ومن بعد ذلك يفتح الله عليهم أبواب كل شيء. وأمثلة ذلك في الحياة كثيرة. لقد رأينا الدول القوية تساعد خصومنا، واتفق المعكسر الشرقي والمعسكر الغربي لسنوات على مساعدة الخصم، وقلنا لهم: أنتم الآن في مقام: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3270 بِهِ} وأنتم أيها الخصوم قد تنتقلون إلى مقام: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا} . وسوف تنتقلون من بعد ذلك إلى مقام: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} . وقد حدث أن سقط الاتحاد السوفيتي بأكمله، وأخذهم الله بغتة بأيدي أناس منهم، وكثيراً ما تحدث الكوارث لمن يضطهد أهل الإيمان. إذن: فلا داعي لأن يغتر أحد بما وصل إليه. ويقول الحق: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} [المائدة: 64] . وهم مكبوتون دائماً. فالحق لا يُمَكّنهم من كل أهوائهم. لذلك يبغون في الأرض فساداً بأساليب الاختفاء. ومن يقرأ «بروتوكلات صهيون» يجد اعترافاتهم بأنهم أصحاب النظريات التي تقود إلى الأفكار الخاطئة كالماركسية والوجودية والداروينية وهي أمور مرتبة من قبل ليظهر أثرها الضار في الشعوب غير اليهودية. أما اليهود فقد حصنوهم ضد هذه المبادئ الفاسدة، هكذا أرادوا التبييت ضد العالم، وهكذا يكون سعيهم بالفساد بين الناس. وإذا نظرنا إلى الانحراف الحالي في الكون فإننا نجدهم وراءه. فالرأسمالية الشرسة من اليهود. والشيوعية الشرسة من اليهود. وهؤلاء الذين يدعون أنهم أنبياء من بعد رسول الله إنما يحدث لهم ذلك بفعل اليهود، وكذلك الجمعيات التي تتخفي وراء أسماء «الماسونية والروتاري والليونز» ، كلها من اليهود. ومع ذلك نتلفت إلى قوم يقولون إنهم متحضرون ويفخرون بأنهم أعضاء في الروتاري، ونسألهم: ماذا تفعلون في تلك الأندية؟ يقولون: نقوم بالأعمال الخيرية والخدمات. ونقول لهم: لماذا لا تفعلون أعمال الخير باسم الإسلام؟ . وهل تظنون أن هناك خيراً يأتي من خارج الإسلام؟! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3271 ويكتشف الكون كل فترة من الزمن أن الفساد الذي فيه إنما هو بسبب هؤلاء الناس وبسبب مكائدهم؛ لذلك يصيبهم الحق بالكوارث كل فترة من الزمن؛ لأنهم يسعون في الأرض فساداً. وهذا السعي في الأرض بالفساد إنما يأخذ صوراً متعددة، مرة يأخذ شكل النظريات العلمية، ومرة يأخذ شكل التطرف في الأنظمة السياسية من رأسمالية شرسة أو شيوعية شرسة، وكل ذلك تخريب لحياة الناس. والناس حين تجرب نظاماً فهي تقيس نجاحه أو فشله بمقدار ما يعود عليها من خير أو من شر. لقد كانت روسيا - على سبيل المثال - تمد العالم بالقمح من سيبيريا. ولكنها الآن تشكو قلة الزراعة وتنتظر من يبيع لها القمح. وعلى الجانب الآخر نجد الرأسمالية الشرسة تطحن أبناء تلك البلدان في الحياة غير المسئولة باسم الحرية. وقد شهدت ألمانيا - مثلاً - قسمة عاصمتها القديمة «برلين» إلى قسمين، ولكل قسم حياة، وشهدت إعادة التوحيد لأرض ألمانيا بما يصاحبه من مشكلات جمة. وقد تذهب بعض المجتمعات إلى أيدي أناس لهم شراسة أشد كالحزب الحاكم في كل دولة لا تتبع منهاجاً متوازناً، ونجد رجال هذا الحزب كهيئة تأخذ الدعوة ونقيض الدعوة حتى لا يتمرد عليهم أحد، فعَرق العامل في أيديهم ومصنع الرأسمالي في أيديهم وهم يعيشون حياة الأمراء ولا يجرؤ أحد على أن يسألهم. ومثال ذلك أيضاً نظرية الوجودية التي تدعو كل إنسان ليثبت وجوده، وصاحبتها موجة من الانحلال اللا مسئول، ذلك أنهم لم يفهموا إثبات الوجود على أساس أنه مسئولية العمل الصالح في الكون، ولكن فهموا الأمر على أنه انطلاق غرائز على الرغم من أن المفترض في كل إنسان إذا أراد أن يمد يده، فعلى يده أن تتوقف حيث يوجد أنف إنسان آخر. لكن هؤلاء الناس عاملوا الناس كأطفال، تماماً كما يأتي الأب لابنه بلعبة يلعب بها ولتكن آلة تليفون، يقدمها الأب لابنه ليستغل طاقته قبل أن يكون مكلفاً، ولكن الأب لا يسمح للابن أن يعلب بآلة التليفون الحقيقية، وهؤلاء الناس يأخذون الكبار إلى اللعب واللهو حتى لا يتدخل الكبار في أمور الجد. ومثال ذلك لعبة كرة القدم، إنهم ينفخون فيها بالبطولة وينقلون قوانين الجد إلى اللعب. وقبل المبارة بثلاث ساعات تجد قوات الأمن قد سدّت الطرق إلى الملعب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3272 الذي يشهد المباراة. ولو أخطأ الحكم خطأ تافهاً فإنّ الجهور يثور ويهيج. ولكن عندما يخطئ الحكام والحكومات ألف خطأ فلا أحد يتكلم، لماذا؟ . لأنكم نقلتم قوانين الجد إلى اللعب واللهو وتركتم الجِد بلا قوانين. مثال آخر: نجد كل فاكهة أو محصول أو صناعة في الوجود يقيمون لها الاحتفالات ويتوجون عليها ملكة، ملكة الكروم، ملكة القمح، ملكة الأزياء، وكل ذلك من أجل إبراز مفاتن النساء، ولا يوجد تكريم للعقول التي تنتج. وعلى سبيل المثال نجد ملابس الشباب الرياضية تغطي جسد الشباب من الذكور، لكنهم لا يفعلون ذلك بالنسبة للإناث، لماذا لا يغطون أجساد البنات أيضاً أثناء ممارسة الرياضة؟ والغرض - بطبيعة الحال - هو دغدغة أعصاب الناس، وكل ذلك إفساد في الأرض. {وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً} ومن العجيب أن سعيهم للفساد يلبسونه ثوب الحق وثوب الارتقاء وثوب الحضارة. ويأتي أناس من المسلمين ويشجعون مثل هذا الفساد، وينسون الحقيقة البديهية وهي: {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} فسبحانه وتعالى قد خلق الكون على هيئة الصلاح، فإذا استقبلت خير الله بصلاح الوجود الذي طرأت أنت عليه فأنت تحسن حياتك وعملك، أما إن لم ترد صلاح الكون فعليك ألا تأتي بفساد. والحق خلق الكون على نظام دقيق، ونرى ذلك في الأشياء التي لا دخل للإنسان فيها، ونجدها في منتهى الدقة والاستقامة، الشمس والكواكب والفصول والرياح، لكن الفساد يأتي عندما تدخلت يد البشر بغير منهج الله. إذن فالفساد هو الذي يصرف الناس عن منهج الله. ونجد بعضاً من الناس يركبون رءوسهم ويظنون أن ما يفعلونه هو الصلاح، فينطبق عليهم قول الحق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 - 12] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3273 هذا هو حكم الحق فيهم. . إنهم يدّعون الصلاح، ولكن يجب عليهم أن يرتدعوا فلا يفسدوا. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3274 هذا القول يدل على أن أهل الكتاب جميعاً في غير حظيرة الإيمان، والحق يوضح لهم: إن فسادهم كان سابقاً على ظهور الإسلام، ولهذا جاء الإسلام ليخرج الناس من فسادكم أنتم. لقد كان لكم منهج من الله ولكنكم حرّفتموه، وإن لكم رسلاً أرسلهم الله إليكم ولكنكم أسأتم إليهم، وطقوساً دينية ابتدعتموها. وجاء الإسلام لا ليهدي الملاحدة فقط، ولكن ليهدي أيضاً الذين أضلهم أرباب أهل الكتاب. وكانوا من بعد الإسلام يحاربون الإسلام بالاستشراق، وكانوا يؤلفون الكتب ليطعنوا الإسلام. لكنهم وجدوا أن الناس تنصرف عنهم؛ لذلك جاءوا بمن يمدح الإسلام ويدس في أثناء المديح ما يفسد عقيدة المسلمين. إننا نجد بعضاً من المؤلفات تتحدث عن عظمة الإسلام تأتي من الغرب، ولكنهم يحاولون الطعن من باب خلفي كأن يقولوا: إن محمداً عبقري نادر في تاريخ البشرية ويبنون كل القول على أساس أن ما جاء به محمد هو من باب العبقرية البشرية، لا من باب الرسالة والنبوة. ونجد مثالاً على ذلك رجلاً أوروبياً يؤلف كتاباً عن مائة عظيم في العالم ويضع محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على رأسهم جميعاً. ونقول له: شكراً: ولكن لماذا لم تؤمن أنت برسالة محمد بن عبد الله؟ إن شهادتهم لنا لا تهمنا في كثير أو في قليل. لقد هاجمونا من قبل بشكل علني. ويحاولون الآن الهجوم علينا بشكل مستتر. وهم أخذوا بعضاً من أبناء البلاد الإسلامية ليربوهم في مدارس الغرب وجامعاته من أجل أن يجعلوا من هؤلاء الشباب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3274 دعاة لقضاياهم في إفساد المسلمين، ولم ينجحوا إلا مع القليل؛ لذلك نقول لشبابنا: احذروا أن تكونوا المفسدين وتدعوا أنكم المصلحون، فلا تأخذوا المسألة بالطلاء الخارجي ولكن انظروا إلى عمق القضايا، وتذكروا قول الحق: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 104] . علينا أن نرقب كل فساد في الكون، وسنجد أن لأصابع أعداء الإسلام أثراً واضحاً. لقد كان من اجتراء الصهيونية إلى حد الوقاحة أن تقول: ليطمئن شعب الله المختار، فثمانون في المائة من وسائل الإعلام في العالم خاضعة لإرادتنا ولا يمكن أن يُعلم فيها إلا ما نحب أن يُعْلَم. والحق سبحانه وتعالى عندما يقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النعيم} [المائدة: 65] . فسبحانه وتعالى بهذه الآية يقدم الفرصة لهؤلاء الناس حتى يدخلوا إلى حظيرة الإيمان ويستغفروا الله عن خطاياهم الماضية وليبدأوا حياة جيدة على نقاء وصفاء بدلاً من التحريف والتضليل. وليعرفوا معرفة حقة قوله تعالى في رسوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} . هذا القول يجب أن يتهافت إليه غير المسلمين مع المسلمين ليأخذوا من ينبوع الرحمة، وفي ذلك تصفية عقدية شاملة لكل إنسان أن يبدأ طريق إصلاح نفسه. وقوله الحق: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا} إنما يدعوهم إلى الإيمان والتقوى. والإيمان محله القلب، أي أن يستقر في القلب الاعتقادُ بوجود إله أعلى، ونؤمن بالبلاغ عن الإله الأعلى بواسطة الرسل، وأن نؤمن بالرسل وبالمناهج التي جاءوا بها، وأن نتبع هذه المناهج، وأن نؤمن بأن المرجع إلى الله، هذا الإيمان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3275 ينعكس على الحركة الإيمانية في الأرض، ويحقق الإيمانُ مع التقوى اتجاهَ الإنسان إلى الصالح من العمل. وأن يبتعد عن غير الصالح من العمل اتباعاً لقول الحق: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1 - 3] . ولذلك نجد قولاً لأحد العلماء الصالحين من العرب هو: إن الإيمان كالْعُمُد والأعمال كالأطناب. وعرف أن كل بيت له أساس من الأعمدة، وله أوتاد تثبته. والخيمة العربية هي بيت من القماش السميك على عمود من الخشب وتشد الخيمة إلى الأوتاد بحبال، وهذه الحبال هي الأطناب ولا تقوم الخيمة إلا إذا ربطت بأحبال وشدت إلى أوتاد. وكان العربي يفك هذه الخيمة، ويحملها على ظهر بعيره لينصبها في أي مكان. وكان العربي يختار القماش الذي إن نزل عليه المطر، يمتص الماء ويمنع سقوطه داخل الخيمة. إذن فالإيمان عمود، والأعمال أطناب، وهكذا تكون دعوة الحق لأهل الكتاب حتى يؤمنوا ويتقوا الله حتى يكفر عنهم سئياتهم، والكفر - كما نعرف - هو الستر والتغطية والعفو هو محو الأثر، كأن الحق سيغطي على سيئاتهم ثم يمحو أثرها وذلك بأن يعفو عنها؛ لأن الإسلام إنما جاء رحمة يجب أن تستغل ليكفر الحق عن سيئاتهم التي ضللوا بها شعوبهم. لقد كان من الواجب عليهم أن يعرفوا أن مجيء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو فرصة للتراجع عن الكفر والبهتان. وقد جاء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليقيم تصفية عقدية في الكون، فالملحد يجب عليه أن يتعرف على خالق الوجود ويؤمن به، والمبدل لمنهج الله ينبغي أن يعود إلى منهج الله. وتلك هي التصفية العقدية الشاملة. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3276 أي أنهم لو طبقوا التوارة والإنجيل دون تحريف، وآمنوا بالقرآن الكريم لكان خيراً لهم. والتوارة كتاب اليهود. والإنجيل كتاب عيسى عليه السلام، وقد أنزل الله بعد ذلك الكتاب الجامع المانع وهو القرآن الكريم، وأراد لهم الحق بالإيمان بما جاء في التوارة والإنجيل من بشارة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الإيمان بالتوارة والإنجيل - من قبل تحريفهما - إنما يقود إلى الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبما أنزله الله إليه. واليهود - كما عرفنا - هم الذين توعدوا العرب بمجيء رسول الله، لكن العرب سبقوهم إلى الإيمان بمحمد بن عبد الله {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} . لقد كانوا - أهل الكتاب - يملكون المدخل الطبيعي للإيمان بالقرآن وهو الإيمان بالتوارة الصحيحة والإنجيل الصحيح؛ لأن فيهما نعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكان سيدنا عبد الله بن سلام وكان من أحبار اليهود يقول: «لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد» . وحينما يعد الحق أهل الكتاب إن آمنوا واتقوا بأن يكفر عنهم سيئاتهم ويقيهم من عذاب النار فحسب، ولكن سيمحو هذه السيئات ويدخلهم الجنة. وسبحانه هو الأعلم بهم، ويعلم أن منهم الماديين المرتبطين بالدنيا لذلك جاء لهم بخير الإيمان في الدنيا فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} فسبحانه يمد لهم أيضاً يد الأسباب في الدنيا، والمؤمن هو من يرتقي في الأخذ بالأسباب فيأخذ نعيم الدنيا والآخرة، أما الكافر فيأخذ الأسباب دون أن يشكر الخالق عليها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3277 لقد أراد الحق لأهل الكتاب أن يحسنوا الإيمان أولاً بصحيح التوارة وبصحيح الإنجيل حتى يكون ذلك هو المدخل الطبيعي للإيمان بالقرآن، فهذا هو السبيل إلى تكفير السيئات بألا يدخلوا النار بل ويدخلون الجنة في الآخرة. وهم بالإيمان لا يأخذون خير الآخرة فقط بل يأخذون خير الدنيا أيضاً؛ لأن الحق لا يضن على مجتهد في الأسباب، وهو القائل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] . فمن بقي منهم على الكفر يأخذ من أسباب الدنيا ولكنه لا يأخذ أبداً من عطاء الآخرة: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] . وبذلك يوضح الحق مصير أهل الكفر في الآخرة أولاً، ويوضح من بعد ذلك مصيرهم في عاجل الدنيا، فإن أخذوا بالأسباب أعطاهم الله نتائج الأسباب، وهو سبحانه الذي يحتفظ بطلاقة القدرة، فقد يعطل الأسباب ويسلب الأشياء خواصها، فالمزارع قد يأخذ بكل الأسباب من حرث للأرض وتسميد لها وانتقاء لسلالة البذور، ولكنَّ إعصاراً قد يهب فيقتلع كل شيء أو فيضاناً يغرق الزرع، أو حشرة فتاكة كدودة القطن تأكل المحصول. إذن، فالأسباب وراءها مُسبِّب له طلاقة القدرة، وسبحانه هو الذي وضع القوانين الكونية، وهو - أيضاً - الذي يسلبها خواصها. فأنت أيها الإنسان سيد الكون بإرادة الله ومقهور في كثير من الأقضية لقهرية الجبار. صحيح أن لك بعض الاختيارات في بعض الأشياء، ولكن هناك قهريات في أمور لا دخل لك فيها، فالمرض قد يقتل، والحادث المفاجئ قد يقتل، وتلك أشياء من قهريات الله التي تخرج الإنسان عن الأسباب. إن الحق سبحانه يرينا أن بلاداً كانت دائمة المطر ثم أصابها الجفاف، لماذا؟ لأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3278 الناس تغتر من رتابة النعمة، ولذلك يمسك الحق الكون بيده، وهو سبحانه لا يسلمه لأحد أبداً. لذلك يأتي في بعض الأحاديين ويقبض أسبابه حتى لا يفتن الإنسان بالأسباب ورتابتها. وأمثلة ذلك في حياتنا كثيرة، نرى المزارع الذي يملك عشرات الأفدنة فتهاجمها الدودة فتأتي على الأخضر واليابس، بينما جاره الذي لا يملك إلا قطعة يسيرة وقليلة من الأرض تطرح الخير كله لصاحبها؛ لأنه دفع ما يسميه أهل الريف «غفرة الأرض» أي زكاتها. والدودة في هذه الحالة تكون هي من جنود الحق فتأكل المال الباطل ولا تلمس المال الحلال. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] . ولذلك يقدم الحق أسبابه لمن يسعى فيها، ويزيد للمؤمن. ويقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} والرزق - كما علمنا - قسمان: قسم مباشر وقسم يأتي بالرزق المباشر، والرزق المباشر هو ما ننتفع به على الفور، كطعام نأكله أو ماء نشربه، أما الرزق الآخر فهو المال الذي قد نشتري به الرزق المباشر. وجاء سبحانه بأمور الحياة الواقعية حتى نفهم أن المنهج إنما نزل لينظم حركة الإنسان في هذه الحياة، والآخرة هي الجزاء على حسن العمل في الدنيا. وبعد أن وعدهم - سبحانه - بالجنة جزاءً للإيمان يمد لهم الأسباب في الدنيا رخاءً وسعة وترفاً وسعادة. ونجد من يسأل: وكيف يأكلون من فوقهم؟ ونقول: إن الأكل هو المظهر الأساسي لحياة الإنسان؛ لأن كل حركة يصنعها الإنسان هي فرع عن وجود حياته. ووجود حياة الإنسان يتوقف على ثلاثة عناصر مهمة هي الأكل والشرب والتنفس. فإذا ما أردنا استبقاء الحياة والتناسل فلا بد من توفير لهذه المصادر الثلاثة. إننا عندما ننظر إلى ترتيب الثلاثة في الأهمية نجد أن الإنسان قد يصبر على الطعام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3279 شهراً. وقد يصبر على الماء مدة تتراوح ما بين ثلاثة أيام وعشرة أيام، أما التنفس فلا يطيق الإنسان ألا يجد الهواء لمدة دقائق. ومن رأفة الحق بالخلق أن جعل الحيازة لهذه الأنواع المقومة لاستبقاء الحياة تترتب حسب أهميتها. لذلك نرى من يملك على إنسان آخر طعامه ويتحكم فيه، لكن الحق يجعل في جسد الإنسان ما قد يقيته شهراً. ونرى أن الحيازة في الماء أقل من الحيازة في الطعام؛ لذلك لم يُمَلِّكْهَا الحق إلا نادراً؛ ذلك أن الإنسان لا يطيق الصبر على العطش إلا لمدة تتراوح ما بين ثلاثة أيام وعشرة أيام. وأما الهواء فلم يجعله الحق ملكاً لأحد على الإطلاق؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يستغني عنه إلا بمقدار الشهيق والزفير، ولا يستطيع الإنسان أن يدخره في حجم رئتيه؛ لذلك لم يأمن الحق أحداً من الخلق على ملكية الهواء. وقوله الحق: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} مقصود به أن الاستقامة في تطبيق منهج الله تُخْضِعُ الأسباب الكونية لهم، أما إذا ما تمرد الإنسان على منهج الله فقد يعطيه الله زهرة الحياة الدنيا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، فالنواميس الكونية لم تنعزل عن يد الحق. لذلك يخاطب - سبحانه - الخلق خطاباً، فإن انفعلوا للخطاب، يسرَّ لهم كل ما سخره لهم في الكون. وإن لم ينفعلوا فهو ممسك الأسباب ويمكنه أن يخرق قوانينها، فلا الأرض ولا الهواء ولا أي شيء خرج عن طاعة الله، فإذا ما تمردت جماعة على نعم الله أو على الله فسبحانه يجعلهم نكالاً لغيرهم ويقبض عنهم الأسباب. والإنسان سيد هذه الكائنات في هذا الكون، وهو منفعل - أيضاً - بقدرة ربه وقد يمرض، وقد يموت، وقد ينكسر، وقد يغرق، فإذا كان الإنسان وهو المنفعل ب «كن» من ربع فكيف حال الأشياء الأدنى منه؟ إنها أيضاً منصاعة ب «كن» . والحق قادر أن يقول للأرض: كوني جدباً، وهو القادر على أن يوقف المطر لأنه هو سبحانه الذي يجعل الأشياء تسير سيراً رتيباً. ألم يقل الحق سبحانه وتعالى في خطابه لكل خلقه عن الأرض: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} . فإذا كان الحق قد أوحى للأرض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3280 لتبرز الكنوز أو تحدث الزلازل، فما بالنا بكل شيء آخر؟ . إن كل شيء إنما يسير بأمر الله، ذلك أن كل شيء يسبح بحمد الله، ولكن الإنسان لا يفقه لغات غيره من الكائنات: {لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمًْ} . وخطاب الله لكل خلقه يفهمه المنفعل له من أي جنس من أجناس الوجود، ولو علمك الله هذا الانفعال، لسمعت لغة الكائنات الأخرى. مثال ذلك سيدنا سليمان عليه السلام الذي سمع قول نملة لبقية النمل: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18] . وماذا قال سليمان بعد ذلك؟ . قال سليمان: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: 19] . وهو سبحانه القائل: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير} [الأنبياء: 79] . والهدهد قال في القرآن: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25] . إذن فكل كائن في الوجود يعرف قضية الإيمان وقضية التوحيد. وكل من في الوجود ينفعل لربه. وهكذا كل الأشياء التي تحفظ للإنسان حياته أو نوعه. فماذا عن حال من يتمرد على الله؟ . إنه سبحانه قد يقول للأسباب: انقبضي عنه. ونرى ذلك في حال بعض البلاد على ألوان مختلفة، فالبلاد التي تقع في منطقة يعرف عنها أنها دائمة المطر، يخرق الله طبيعة البيئة فتصير إلى جفاف، وغيرها التي تستطيع أن تصل إلى الفضاء الخارجي. لا تقدر على مواجهة إعصار، وذلك ليتأكد لنا أن يد المكوّن - سبحانه - فوق أسباب الكون. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي أن يأتي الخير من كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3281 ناحية. فإذا كان يراد بالأكل المباشر، فالمطر هو الذي ينزل من أعلى يروي الأرض فيخرج الزرع، وكذلك النخل يعلونا ويأتينا بالتمر، وكذلك أشجار الفاكهة من برتقال وتفاح وغير ذلك. أما ما تحت الأقدام فهي الخضراوات، والفواكه التي تنمو دون أن يكون لأي منها ساق على الأرض كالبطيخ والشمام وغير ذلك. ولنا في سقوط الفاكهة من على أشجارها العالية بعد تمام النضج الحكمة البالغة، فالرزق الذي طاب وإن لم تسع إليه يأت إليك تحت قدمك. وإن توسعنا في فهم قوله الحق: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} . فلله أسرار فوق الأسرار، وله فيما تحت الأرض أسرار. ألا نأخذ كل شيء يعيننا على الحياة من طبيعة الأرض سواء أكان حديداً أم نحاساً أم بترولاً؟ . وهكذا نجد أن كل شيء في الوجود يخدم بقاء نوع الإنسان أو استبقاء حياته هو من عطاء الله. إذن فلو أن أهل الكتاب أقاموا التوارة والإنجيل والقرآن وساروا على المنهج لوهبهم الله كل خير. ويؤكدالحق هذا المعنى في آية أخرى فيقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} . ونرى أن الحق قد أفاء على بعض الناس من النعمة الشيء الواسع والكثير ومن بعد ذلك يطغى أهلها بالنعمة فيمهلهم ربنا إلى أن يعلو أمرهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وحياتنا المعاصرة خير شاهد على ذلك؟ فكل بلد أخذت نعمة الله لتحاج بها الله وتكون ضد منهج الله نجدها تبوء بالفساد. ويأتي بأس أهلها فيما بينهم شديداً ويخربون بيوتهم بأيديهم. وكم من بلاد كانت متعة الناس أن يذهبوا إليها للترف أو الانفلات ثم يأتي بأس أهلها بينهم وتخرب بأيدي أبنائها. وفي واقع الكون ما يؤيد صدق ذلك، وكأن الحق يقول لنا: اعتبروا يا أولي الأبصار. ويقول سبحانه: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} [النحل: 112] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3282 والمراد بالقرية ليس قرية الريف التي نتعارف عليها اليوم؛ لأن القرية في عرف العربي القديم هي المكان الذي يقابل العاصمة. وكانت البيئة العربية قديماً بيئة «التبدّي» أي أنهم يقيمون في البادية وينتقلون من مكان إلى مكان، ولم يكونوا متوطنين في مكان واحد. وكانت عاصمة البدو هي القرية التي تتكون من عدد صغير من البيوت. ولذلك يسمي القرآن الكريم «مكة» بأم القرى. ويضرب الله مثلاً بالقرية الآمنة المطمئنة التي يأتيها رزقها واسعا من كل مكان، أي أن خيرها ليس ذاتياً ولا نابعاً منها ولكن يأتيها من كل مكان. وفي العصر الذي نعيشه نجد أن خير الدنيا يصب في قلب بعض القرى، وما أن يكفر أهل القرية بأنعم الله فما الذي يحدث؟ {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} [النحل: 112] . وهذا واقع نراه في كثير من البلاد التي أخذت نعمة الله فبدلتها كفراً فأحلوا قومهم دار البوار. ويرينا سبحانه القرى التي يلبسها الحق لباس الجوع والخوف. وعندما ننظر إلى قول الحق: «لباس» نرى أن الجوع له لذعة، واللباس له شمول ويلفهم الجوع كما يلفهم الثوب، وكذلك الخوف فتصير كل جارحة فيهم خائفة: أي أن الحق سلط عليهم الجوع فلا يجدون موادّ الاقتيات. وكذلك الخوف يأتيهم فإما أن يكون الخوف بسبب بأسهم فيما بينهم لأن عداوة بعضهم بعضاً شديدة، وإما أن يكون الخوف من عدو خارج عنهم. وهذا واقع معاصر. وكيف يكون الكفر بنعم الله؟ الكفر بنعم الله إما أن يكون بمعنى ستر النعمة. واستعمالها في معاصي الله، ومثله مثل الكفر بالله أي ستر وجود الله، وقد يكون الكفر بنعمة الله بالتكاسل عن استنباط النعمة من مظانها. وفساد العالم الآن يأتي من أناس كُسالى عن استنباط نعم الله المطمورة في كونه، وأناس يجدّون في استنباط نعم ويحبسونها لأنفسهم ولا يعطون منها الضعاف، ويستخدمون النعمة في المعاصي. إذن فقوله الحق: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3283 وقوله الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} . هم حكم عام؛ فهل وُجِدَ من يؤديه؟ . نعم؛ هناك أناس منهم عرفوا ذلك وساروا إلى السبيل المستقيم، وعن هؤلاء يقول سبحانه: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} . أي منهم أمة تسير إلى أغراضها وإلى غايتها على الطريق المستقيم. وهذه إشارة إلى أن بعضاً من أهل الكتاب يفعل ذلك، والبعض الآخر لا يفعل، وهذا القول أشار أيضاً إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يُخلى وجوده وكونه من خلية خير فيه، وقد تكون خلية الخير هذه من أضعف الناس الذين لا شوكة لهم في الدنيا ولا جاه ولا قوة. ولولا هؤلاء الناس لهدَّ الله الأرض ومن عليها. ويوضح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الأمر بقوله: «لولا عباد لله رُّكع، وصبية رضع، وبهائم رُتّع لصُبّ عليكم العذاب صبا ثم رُصَّ رَصّا» . كأننا مكرمون في هذا العالم من أجل الضعاف فينا. وكأن الحق لا يحجب الخير عن كونه، بل يجعل في الكون ذرات استبقاء للخير. ولذلك نجد من يقول: إذا بالغ الناس في الإلحاد زاد الله في المد. وقد تجد بلداً كلها من الملاحدة، وتجد فيها عبداً واحداً متبتلاً لربه، ويكون هذا الرجل هو الذي يستبقي الله من أجله هواء تلك البلدة وماءها. ولذلك قال سبحانه: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} . ويقول الحق من بعد ذلك: {ياأيها الرسول ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3284 تبدأ الآية بخطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومن عظمة رسولنا المصطفى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعلو مكانته عند من اصطفاه خاتماً لرسالاته في الأرض أن الله ذكر الرسل في خطابه لهم بنداء أسمائهم فقط كقوله الحق: {يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} [البقرة: 33] . أو قوله الحق: {ياموسى إني أَنَا الله} [القصص: 30] . أو قوله الحق: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] . أو قوله الحق: {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ} [هود: 48] . فسبحانه ينادي كل رسول له بالاسم المشخص للذات بصرف النظر عن أي صفة، لكن رسول الله لم يُناد باسمه أبداً بل ناداه الحق بالمشخص للوصف: «يا أيها الرسول» . أو قوله الحق: «يا أيها النبي» . فكأنك يا رسول الله قد اجتمعت فيك كل مسائل الرسالة لأنك صاحب الدين الذي سينتهي العالم عنده ولا يكون بعد ذلك لله في الأرض رسالة إلا فهم يؤتيه الله لأحد في كتاب الله. ومن عظمة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله أقسم بحياته، على الرغم من أن الحق لا يقسم بحياة أحد من البشر إلا رسوله، فقد أقسم بحياته. وهو سبحانه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3285 يقسم بما يشاء على ما يشاء، أقسم بالريح والضحى والليل والملائكة، لكنه ما حلف بحياة بشر أبداً إلا حياة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] . أي وحياتك يا محمد هم في سكرتهم يعمهون أي يترددون حيارى. ويقول الحق هنا مخاطباً الرسول: «يا أيها الرسول» . وما دام محمد هو الرسول الخاتم الذي جاء مصدقاً لما بين أيديهم من الكتب، فمعنى هذا أن كل خير في أي كتاب سبق القرآن موجود في القرآن وفيه أيضاً زيادة مما تتطلبه مصالح الحياة المستجدة. وما دام الخطاب للرسول فهذا يعني أنه رسول مرسل من قبل الله بمنهج لخلقه ليبلغه لهم: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} . وكيف يقول الحق لرسوله: «بلِّغ» وهو أن يعلم أن مهمة الرسول هي البلاغ؟ لقد أراد سبحانه بذلك إخبار الناس أنه إن أبلغهم بما يكره بعضهم فهو يبلغ التزاماً بأمر الله، فهو لا يقول من عنده، ذلك أن الرسول عليه البلاغ، فإن أبلغ أحداً ما يكدره فليس له مصلحة في ذلك. ويورد سبحانه ذلك حتى إذا بَلَّغ الرسول حكماً من الأحكام فعليهم أن يستقبلوا الحكم على أساس أنه قادم من الله وسبحانه يعلم أن رسوله لا يكتم البلاغ ولكن ليجعل لرسوله العذر عند البشر، فهو سبحانه حين يخاطبهم بشيء قد يكرهونه، فهو بلاغ من الله: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} . أي أنه إن لم يفعل ولو في جزئية يسيرة من المنهج فهذا معناه أن البلاغ ناقص والله يريد أن يكون البلاغ كاملاً بالدين المتكامل. إن التركيبة الإيمانية تقتضي أن يأتي القول بهذه الطريقة حتى ينسجم البلاغ بشكل كامل؛ فقد نزل المنهج بكليته، ويجب أن يُطبق بكليته من أجل أن ينصلح الكون وحتى لا تفسد حركة الإنسان في الكون، فقد أنزل سبحانه المنهج وأحكمه ليسير العالم على حسب تصميمه له دون أن يختل. ولذلك يقول الحق: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} . وبذلك يعطي الحق رسوله المناعة الكاملة. فلم يأت برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا لخير الناس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3286 لقد سبق أنَ خلق الله آدم وأعطاه المنهج. وكان على آدم أن يبلغ المنهج إلى الذرية وقد فعل، لكنَّ بعضاً من أجيال بني آدم غفلت عن المنهج؛ فيبعث الحق الرسل لتذكر بالمنهج. ولا يأتي رسول إلا بعد أن يكون الفساد قد فشا وانتشر بين الناس. وقد جعل الله في النفس الإنسانية نفساً لوامة، ونفساً تأمر بالسوء، ونفساً مطمئنة. إن مهمة النفس اللوامة هي أن ترد على كل ما توسوس به النفس الأمارة بالسوء. لكن إن لم تلم النفس اللوامة، فالنفس الآمرة بالسوء تتمادى ولا يردعها رادع. أما النفس المطمئنة فهي النفس التي تطمئن إلى منهج الله. ومثال ذلك الإنسان الذي تلح عليه شهوته لارتكاب معصية ما فيرتكبها، ومن بعد ذلك يندم ويلوم نفسه، ويتوب عن المعصية، هذا الإنسان يردع نفسه ذاتياً. لكن إن سيطرت النفس الأمارة بالسوء فلا رادع. وماذا إذا ساد الفساد بين عموم الناس؟ وماذا لو لم يتناهَوْا عن المنكر الذي يفعلونه؟ هنا لا بد أن يرسل الحق رسولاً بمعجزة جديدة ليأخذ العالم إلى منطق الرشاد ومنهج الحق. ولا يختار الحق الرسول إلا إذا علم الرسول أنه مبلغ عن الله. وسبحانه في الآية التي نحن بصددها يعطي رسوله المعذرة إن بلغ قومه شيئاً يسؤوهم، فما على الرسول إلا البلاغ في قوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} . ونعرف أن الرسالة تقتضي: المرسِل وهو الله، والمرِسَلَ إليهم وهم الخلق، ومرسَلاً وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمرسَل به وهو ما نزل على الرسول ليبلغه. وفي كل أمر مثل هذا نجد أن كلمة «أرسل» تتعدى إلى مفعولين؛ المرسَل: مثال ذلك أرسلت فلاناً إلى فلان، والمرسل إليه: وهو فلان. إذن فهنا مفعولان اثنان، أولهما تعدى الفعل إليه بذاته والآخر تعدى إليه الفعل بحرف الجر. وحرف الجر هنا هو: «إلى» . وبطبيعة الحال يعرف الرسول أنه مرسَل إلى الناس من الله رعاية لمصالحهم؛ فليس في أمر الرسالة شيء لصالح الله. وإن رأيت تعدياً ب «إلى» فهو لتحديد الغاية المرسل إليها، مثل قوله الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3287 {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 49] . وهذا يوضح أن عيسى - عليه السلام - جاء مبعوثاً بمنهج إلى بني إسرائيل لصالح بني إسرائيل. ومثلما يقول الحق: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} . أي لصالح الناس. و «اللام» هنا تفيد المعنيين؛ النفعية والغاية. {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن لم يبلغ الرسالة كاملة فمعنى ذلك أن البلاغ يكون ناقصاً. ومعاذ الله أن يكون بلاغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أنقص شيئاً، فمنهج الله كل متكامل. وقد يقول قائل: ولكن الناس قد لا تؤدي فروض الله في مواعيدها، والمثال على ذلك هو الصلاة. ونقول: إن هذا عجز في إدارة الناس لحياتهم حسب منهج الله. ومن واجب المجتمعات أن تنظم حركة الناس اليومية من بعد صلاة الفجر إلى الظهر. وفي ذلك قدر هائل من الحيوية والنشاط، وينتهي العمل عند الظهر، فلا تتصادم حركة الناس مع منهج الله، ولا توجد عرقلة ولا نشاز في حركتهم. ثم يقول الحق: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} . وكان لا بد أن يأتي هذا القول الحكيم؛ لأننا نعرف أن الرسول لا يجيء إلا بعد أن يعم الشر ويسود الفساد، ذلك أنه لو لم يسد الفساد، ولم يعم الشر لا كتفى الله بالمجتمع ليردع بعضه بعضاً، أو يكتفي الحق بأن تردع النفسُ اللوّامةُ النفسَ الأمارةَ بالسوء لتستوي النفس المطمئنة على عرش السلوك البشري. لكن عندما يعم الفساد الكونَ. فالسماء ترسل الرسول بمنهج يصلح حال البشرية. وبطبيعة الحال لن يترك المجتمعُ الشريرُ الرسولَ لحاله بل يقاومه؛ لأن مثل هذا المجتمع يريد أن تكون كفة الكون غير متوازنة؛ لأن هناك منتفعين بالفساد والشر، وهم المدافعون عن الفساد، فإن جاء من ينصف الضعفاء والمظلومين فلا بد أن يتعرض للمتاعب التي تأتيه من قبل الأقوياء المفسدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3288 إن هذه المتاعب تبدأ أول ما تبدأ في النفس؛ ولأن الرسول مخاطب من الله فيمكنه أن يتحملها لأن الحق قد أعده لهذه المهمة، ومثل تلك المتاعب تأتي أيضاً للأتباع، لذلك يمدهم الله بالمدد الذي يجعلهم يتحملونها. والحق يحفظ للرسول ذاته على الرغم من كل ما يحدث: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} . فكأن الحق يقول لرسوله: اطمئن يا محمد؛ لأن من أرسلك هداية للناس لن يخلي بينك وبين الناس. ولن يجرؤ أحد أن ينهي حياتك. ولكني سأمكنك من الحياة إلى أن تكمل رسالتك. وإياك أن يدخل في رُوعك أن الناس يقدرون عليك، صحيح أنك قد تتألم، وقد تعاني من أعراض التعب في أثناء الدعوة، ولكن هناك حماية إلهية لك. ونحن نعلم قدر المتاعب التي تعرض لها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ألم تكسر رباعيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزوة أحد؟ ألم يشج وجهه؟ ألم تدم أصبعه فيقول: «إن أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت» . لكن قول الحق سبحانه لرسوله: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} لم يكن المقصود هو منع الجهاد في سبيل الله والمعاناة في سبيل نشر الدعوة. ولكن الحق يبين لرسوله: إن أحداً غير قادر على أن يأخذ حياتك. ولم يمنع سبحانه المتاعب عن رسوله الكريم حتى لا يكون هناك أحد الداعين إلى الله لا يتحمل من الآلام أكثر مما تحمل رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولننظر ونستمع جيداً إلى «ما ترويه عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - حول هذه الآية إنها قالت: سهر رسول الله ذات ليلة وأنا إلى جنبه، فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟ قال: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة) ، فقالت: وبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت سلاح فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من هذا؟ فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك. فنام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3289 الآية فأخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأسه من قُبّة أدَم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله» . وهناك باحثة بلجيكية عكفت على دراسة سيرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى وصلت إلى هذه النقطة، فتوقفت عندها لتقول: لو كان هذا الرجل يخدع الناس جميعاً ما خدع نفسه في حياته، ولو لم يكن واثقاً من أن الله يحرسه لما فعل ذلك كتجربة واقعية تدل على ثقته في خالقه. وأضافت الباحثة البلجيكية: ولذلك أنا أقول بملء اليقين: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» . لقد أسلمت المرأة لمجرد وقوفها عند لمحة واحدة من لمحات حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} . ونعرف أن الهداية تعني الدلالة الموصلة إلى الغاية، وهي أيضاً المعونة التي توصل طالب الهداية إلى الغاية. وكان الكفار الذين يبيتون للرسول وينهكون أنفسهم في المكر والتفكير والتبييت، فيقطع الحق سبحانه وتعالى عليهم كل سبيل، وينصره عليهم، ويأتي التطبيق العملي لنصر الله للمؤمنين في بدر: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] . لقد بيتوا، ولكن عند المواجهة لم يقدروا على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحبه ولم يستطعوا إيذاءه، برغم المكر والتبييت؛ لأن الحق قطع عليهم كل سبيل لإيذاء محمد، ولن توجد وسيلة من وسائل اللؤم والخبث قادرة على قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقد تمثل ذلك يوم خرج رسول الله مهاجراً وغطى الله أبصار فتيان القبائل الذين حملوا سيوفهم ليقتلوا محمداً وليفرق دمُه بين القبائل فلم يبصروه لأن الله جعل على أبصارهم غشاوة. إذن فكلما فكروا في طريقة سد الله عليهم منافذ تنفيذ فكرتهم. وكأنه يقول لهم: لن تستطيعوا مصادمة محمد في منهجه لا بالعلن ولا بالدس ولا بالخفية، بل أنتم - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3290 أيها الكفار - تخدمون الدعوة من حيث تريدون هدمها، فقيامكم ضد محمد في بداية الدعوة كان لإثبات أن الحق جل وعلا أراد أن يشتد عود الدعوة بكفر أهل قريش. وعندما أردتم قتل محمد وأن يتفرق دمه بين القبائل خرج محمد سالماً وأغشى الله أبصار الذين أرادوا القتل. وهاجر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وفي الطريق إلى الهجرة يكون دليله من الكفار وهو عبد الله بن أريقط. كان ذلك لنعلم أن الكفر كان وسيلة الهداية إلى طريق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. عبد الله بن أريقط وهو كافر لا تغريه المكافأة أن يشى ويسعى بالرسول لدى مشركي مكة. ولكنهم لم يتخذوا من كل ذلك عبرة. وكذلك الغنم تُعفَّى الأثر، والأرض تشد قوائم فرس سراقة لتغوص وتسوخ فيها. إذن فكل جنود الله في صف محمد بن عبد الله. وهكذا رأينا كيف لم يهد الحق القوم الكافرين إلى الغاية التي أرادوها وهي التمكن من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأيضاً لا يهديهم الله إلى الإيمان. ويقول الحق من بعد ذلك: {قُلْ ياأهل الكتاب ... } . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3291 و «قل» - كما نعرف - هي خطاب له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وما يلي ذلك بلاغ من الله لأهل الكتاب إنهم بلا منهج لأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل بل حرفوهما، ولم يؤمنوا بالقرآن، وهو المنهج الكامل المنزل على محمد بن عبد الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3291 وحين يقول الحق: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ} فكلمة «شيء» تقال لأدنى فرد من أي جنس، فالقشة شيء، وورقة الشجرة شيء، وما يطلق عليه شيء - إذن - هو الأقل. وقوله الحق: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ} أي إياكم أن تظنوا أنكم حين تقومون بتنفيذ جزء من تعاليم التوارة والإنجيل وتخفون الباقي وتهملونه تكونون قد أخذتم شيئاً من الهداية، لا؛ فأنتم لستم على شيء حتى تقيموا التوارة والإنجيل وتؤمنوا بالكتاب الذي أنزل على محمد، والمنهج ليس عرضة لأن تأخذوا منه ما يعجبكم وأن تتركوا ما لا يعبجكم. وعندما يقال: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ} . ونعرف أن الشيء هو أقل مرتبة في الوجود، ولذلك نقول: شيء خير من لا شيء. ويقال بالعامية: هاش خير من لاش و «هاش» هو الهالك من ثياب المنزل الممزقة، أي أن الذي يملك ملابس ممزقة أفضل ممن لا يملك شيئاً على الإطلاق. وقوله الحق: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} هو إيضاح لهم أنهم في المرتبة الأدنى من الكائنات لأنهم بلا منهج. ويضيف: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي أنهم لن يظلوا على درجة واحدة ثابتة من الطغيان والكفر، بل كلما أنزل الحق إليك آية يا محمد، وكلما نصرك الله في أمر ازدادوا هم طيغاناً وكفراً. وكان من المفروض أن زيادة نزول الآيات لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تكون إضعافاً لتشددهم وترقيقا لقلوبهم، لكنه سبحانه أراد أن تشتد شراستهم ووحقدهم في أمر الاعتراف بالإسلام. وقد حدث من خالد بن الوليد وكان فارس الجاهلية ضد الإسلام أن قال لعمرو ابن العاص: لقد استقر الأمر لمحمد. واتجه الاثنان إلى الإسلام على الرغم من أن كلا منهما يعرف قوته ومكانته بين قومه. وبعد أن رأى خالد وعمرو أن الخيبة هي نصيب الواقف ضد محمد مهما علا شأنه. ذهبا إلى الإسلام، وهذا هو موقف المتدبر للأمر دون حقد ولَدَد. أما الذي يزدحم بالمعاناة حقداً ولدداً فتزيده آيات الله لنصرة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3292 منهجه حقداً ولدداً وطيغاناً؛ لأن الله شاء ألا يهديهم. ولذلك تصير كل آية في صف الإيمان والمؤمنين مصدرَ إثارةٍ وغيظ ومرارة في نفوس أهل الكفر. وهكذا يوطن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمره تجاه هؤلاء الكفار. إنك يا رسول الله لا تواجه طاقة محدودة ولكنك تواجه طاقة من الشر النامي. وكل آية إنما تهدي الذي في أعماقه بذرة من خير، أما الذي ينتفي الخير من داخله فالمسألة تزيده سراشة في قلبه. إن الشرير يُصَعِّد الشر ويزداد جُرمه وإثمه، أما الخير فينزل من قِمّةِ الجرم إلى أقل درجة. ولنا المثل في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، فالحق يقول على لسان أخوة يوسف: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] . ومن بعد ذلك قالوا لأبيهم: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} . ثم أخذوا في التبييت والتدبير وقالوا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} . وكان أول التدبير لهم هو ما قاله الحق حكاية عنهم: {اقتلوا يُوسُفَ} . ومعنى القتل هو إزهاق الروح. وهذه أعلى درجات الشر، لكنهم يتراجعون عنها ويقولون: {أَوِ اطرحوه أَرْضاً} . فهم لم يرغبوا في قتله، واكتفوا بأن يتركوه في مكان بعيد، وتصوروا أن بعض السيارة قد يلتقطه فيبعدون يوسف عن أبيه. إذن هم بدأوا التدبير قتلاً، ثم انتهوا بالتفكير لنجاة يوسف: {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] . والمرحلة الثالثة قولهم: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب} والجب فيه مياه، وهناك أناس كثيرون يذهبون إلى مصادر المياه. هكذا يورد الحق لنا كيفية نمو الخير من بطن الكيد. إذن، فقوله الحق: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي أن الكثير منهم سيواصل رحلة التصعيد في الشر، فوطن نفسك يا محمد على ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3293 ونلحظ أن الحق قد وضع صيانة لاحتمال أن تفكر قلة منهم في الإيمان، لذلك لم يشملهم كلهم بالحكم، ولكن الحكم شمل الكثرة من هؤلاء الكافرين. ولذلك يقول الحق لرسوله: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} أي لا تحزن عليهم يا رسول الله. فعلى الرغم من عداوة وشراسة من صادموا دعوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومحاولتهم كل تلك المحاولات، كان لا يكف عن الدعاء لهم: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» . وكان لا يكف عن القول: «لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله» . وقد تم ذلك بالفعل. وكان الصحابة بعد الغزوات الأولى يقول كل منهم للآخر: أنا حزين لأن عمراً أفلت مني ولم أقتله. فيقول الآخر: وأنا حزين لأن عكرمة أفلت مني. ويقول الثالث: وأنا لا أدري كيف أفلت منا خالد بن الوليد. ولم يمكن الحق الصحابة الأوائل من هؤلاء المقاتلين الأشاوس لأنه يدخرهم للإسلام ليحملوا السيف للإسلام مدافعين وناشرين لدعوته. وها هوذا عكرمة بن أبي جهل يتلقى الطعنة الأخيرة في حياته فيضع رأسه على فخذ خالد بن الوليد ويسأله: أهذه ميتة ترضى عني رسول الله؟ إذن فقد أراد الله من عدم تمكين المسلمين منهم في أوائل الغزوات أن يكونوا جنداً للإسلام بقدراتهم القتالية فاستبقاهم أحياء ليخدموا الدعوة. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3294 هم - إذن - أربعة ألوان من الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله. وهذه الآية وردت في صورتها العامة ثلاث مرات، مرة في سورة البقرة، ومرة هنا في سورة المائدة، ومرة في سورة الحج. ففي سورة البقرة يقول الحق: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] . ولنلحظ أن كلمة «الصابئين» في هذه الآية منصوبة. وفي سورة المائدة نجد قول الحق: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69] . ولنلحظ أن كلمة «الصابئون» هنا مرفوعة ومقدمة على كلمة «النصارى» . وفي آية سورة الحج يقول الحق: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17] . هنا إخبار عن أربعة، وزاد الحق عليهم اثنين في آية الحج، ونجد أن الإخبار يختلف، وكذلك يختلف الأسلوب، فمرة تتقدم النصارى على الصابئين، ومرة تتقدم الصابئون على النصارى، ومرة تكون الصابئون مرفوعة، ومرة تكون منصوبة بالياء. وأما اختلاف الإخبار، فهو سبحانه يخبرنا في سورة البقرة فيقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3295 {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] . والخبر في سورة المائدة هو: {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69] . والخبر في سورة الحج هو: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17] . والآيات الثلاث في مجموعها تتعرض لمعنى واحد، ولكن الأساليب مختلفة وكذلك الغايات فيها مختلفة. ونلحظ هنا أن الحق قال: «آمنوا» والإيمان هنا هو الإيمان اللفظي أي بالفم وليس بالقلب، والمتصفون بذلك هم المنافقون والذين هادوا، هم أتباع موسى، والنصارى هم أتباع عيسى، والصابئون ليسوا أتباعاً لأحد فقد كانوا أتباعاً لنوح ثم صبأوا عن ديانة نوح وعبدوا الكواكب، أو هم قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة. والمجوس وهم عبدة النار. إذن الحق يريد أن يجري تصفية إيمانية في الكون، فمن يبادر ويدخل في هذه التصفية. يسلم من شر ما فعله قبل ما مجيء الإسلام، ذلك أنهم أضلُّوا أناساً أو حكموا بالظلم. والحق في سورة البقرة يقول: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أي أنه - سبحانه - غفر لهم ما فعلوا من سوء وجزاهم على عملهم الصالح الذي لم يحبطوه ويذهبوه بعمل السيئات والآثام. هذا ما يتعلق بالآيتين ... آية سورة البقرة، وآية سورة المائدة، ونلاحظ أن آية سورة المائدة لم يرد فيها قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} ولعل ذلك راجع إلى الاكتفاء بذكرها في سورة البقرة، وذلك له نظير في القرآن الكريم. كحمل المطلق على المقيد ونحو ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3296 أما في آية سورة الحج فهي التي يأتي فيها الحكم: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} كأنهم لن يؤمنوا ولن يعملوا الصالح، فتكون هذه هي التصفية العقدية في الكون. وقد جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليصفي المسألة الإيمانية في الأرض ويقول عن المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} وهو ابتداء الخبر، وتكون فيه «الذين آمنوا» في محل نصب لأنه اسم «إن» كما يقول النحاة، وهو سبحانه قال هنا: و «الصابئون» وهي معطوفة على منصوب. وهذا كسر للإعراب. إنّ الإعراب يقتضي أن تكون الكلمة منصوبة فتكون «الصابئين» لماذا إذن عدل الحق عن إنزال الكلمة حسب سياقها من الإعراب وأنزلها بكسر الإعراب مع أنه في آية أخرى قال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين} . لقد جاءت هنا في مكانها ودون كسر للإعراب، وهي قد جاءت مرة قبل كلمة «النصارى» وجاءت مرة أخرى بعد كلمة «النصارى» . وهنا لا بد أن نتعرف على زمنية الصابئين، فقد كانوا قوماً متقدمين قبل مجيء النصرانية، فإن أردنا أن نعرف زمانهم نجد القول الحق يقدمهم على النصارى، وإن أردنا أن نعرف منزلتهم فإننا نقرؤها في موضع آخر من القرآن ونجدهم يأتون بعد «النصارى» . إذن فعندما أرّخ الحق لزمانهم جاء بهم متقدمين، وعندما أرّخ لكمّهم وعددهم ومقدارهم يؤخرهم عن النصارى؛ لأنهم أقل عدداً فهم لا يمثلون جمهرة كثيرة كالنصارى. وجاء بها الحق مرة منصوبة ومرة مرفوعة، لنعرف ونلتفت إليهم. وكسر الإعراب كان لمقتضى لفت الانتباه. وكان الصابئة قوماً يعبدون الكواكب والملائكة، وهذا لون من الضلال. إذن فهناك اليهود الذي عرفوا أن هناك إلهاً، وجاء موسى عليه السلام مبلغاً عنه، وهناك النصارى الذين عرفوا أن هناك إلهاً، وجاء عيسى ابن مريم - عليه السلام - مبلغاً عنه، وهناك المنافقون الذي أعلنوا الإيمان بألسنتهم ولكن لم يلمس الإيمان قلوبهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3297 وأراد الحق أن يلفتنا إلى أن الصابئين هم قوم خرجوا عن دائرة التسليم بوجود إله خالق غيب، ويحدثنا الحق أنه يغفر لهم إن آمنوا وعملوا صالحاً. فالإيمان بالله شرط أساسي لقبول العمل الصالح والإثابة عليه. وجاء بهم متقدمين على النصارى احتراساً وتوقيا من مظنة أنه لا يعفو عنهم إن آمنوا وعملوا العمل الصالح. ونلحظ أنها جاءت أيضاً في معرض جمع الله فيه بينهم وبين من يعبدون أغياراً من دون الله؛ لأن من يلصق ألوهية بغير الله يكون كمن عبد الكواكب وخرج عن التوحيد. إنه سبحانه وتعالى يتيح لكل إنسان أن يدخل حظيرة الإيمان ويقيم تصفية عقدية يدخل فيها الكل إلى رحاب الإيمان ويقطعون صلة لهم بالشرك. فلو آمن المنافقون واليهود والنصارى والصابئون وعملوا الصالحات فلهم الأجر والمثوبة من الله ولا خوف عليهم من عذاب الآخرة ولا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، وجاء العمل الصالح بعد الإيمان؛ لأن الإيمان إذا لم يقترن بعمل صالح يكون عرضة للسلب والعياذ بالله ولا فائدة فيه، وسبحانه يريد أن يسيطر الإيمان على حركة الحياة بالعمل الصالح فيأمر كل مؤمن بصالح العمل حتى يكون لهم الأجر عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أما الذين يصرّون على موقفهم الكفري، فإن الله يفصل بينهم يوم القيامة لأنه على كل شيء شهيد. وكلمة «يفصل» تدلنا على أنه سبحانه وتعالى سيصدر الحكم الذي يبين صاحب الحق من غيره. ونعرف أن الذي يحكم إنما يحكم ببينة. والبينة هي الإقرار، والإقرار - بلغة القانون - سيد الأدلة. أو الحكم بشهود. أو الحكم باليمين، وهو سبحانه يفصل بين المواقف المختلفة. والفصل هو القضاء بحكم. وعندما يكون الذي يحكم هو الذي شهد، فهو العادل. لذلك قال الحق: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3298 ويقول الحق بعد ذلك: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3299 والميثاق هو العهد المؤكد الموثق، الذي يقتضي الوفاء الشديد. ولا تُوثق العهود إلا مظنة المخالفة. والمواثيق في الإيمان بالله كثيرة. فهناك الميثاق الأول عندما كنا جميعاً في ظهور الآباء. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} [الأعراف: 172] . أو الميثاق الذي أخذه الله لنصرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] . أو الميثاق الخاص الذي أخذ على كل أمة. وفي كل جزئية من جزئيات الدين يؤخذ ميثاق، فنحن في الإسلام مأخوذ علينا الكثير من المواثيق. وكذلك رأينا النبي وقد أخذ لنفسه الميثاق في العقبة، رأى الرسول أن ما يربطه بالأوس والخزرج الكثير، كما يربطه بكل قوم يحنون إلى الوحدة تحت راية إيمان واحد، وكان اليهود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3299 يعتبرون عرب الأوس والخزرج مجرد همج وخدم يعملون لهم، وأرتأوا السيادة لأنفسهم. وكلما اختلفوا معهم هددوهم بمجيء رسول قادم سيؤمنون به وسيقتلونهم تقتيلاً. وكان كل من الأوس والخزرج يحاول أن يستميل اليهود إليه، فالأوس حالفت بني قريظة. وحالف الخزرج بني قينقاع وبني النضير. وتلقى الاثنان الوعيد من اليهود بعد ظهور النبي القادم، وذلك ما جعل كلاً من الأوس والخزرج يُسرع إلى التعرف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فجاء في موسم الحج نفر من ستة رجال ودعاهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الإسلام فآمنوا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. وجاءوا في العام الذي يلي ذلك إلى موسم الحج وزادوا حتى صاروا اثني عشر رجلاً. وكانت المعاهدة ألا يشرك منهم أحد بالله وألا يسرق ألا يزني وألا يقتل أولاده وألا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ورجليه، ولا يعصي رسول الله في معروف. وعادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن. وفي العام الثالث جاء ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان هما نسبية بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرة بن عديّ، وكانت مبايعتهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وزاد من ذلك إرباك قريش، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم: «» أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم «فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلْقَة (السلاح) وتكلم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال:» بل الدم الدم والهدم والهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم «. وبسط يده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبايعوه» وكانت بيعة العقبة ميثاقاً يضمن لأهل البيعة الجنة إن أوفوا به. وقد أوفوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3300 وهذا لون من العهود والمواثيق. وحين يخبرنا الحق هنا أنه أخذ من بني إسرائيل الميثاق، فمعنى ذلك أن هناك عهداً موثقاً مؤكداً: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70] . وقد أخذ الحق الميثاق وأرسل رسلاً بالمنهج، لكنهم كلما جاء إليهم رسول تباحثوا: هل المنهج الذي جاء به على هواهم أولا؟ . فإن لم يكن المنهج على هواهم قتلوا الرسول أو كذبوه على الرغم من أن الميثاق عهد مؤكد باتباع الرسول إن جاء بمعجزة ومنهج بلاغاً عن الله وتنفيذاً له في حركة الحياة. لكنّ بني إسرائيل كانوا يتمردون على مناهج الرسل لأنها لا تأتي بما تهواه أنفسهم وأول التمرد التكذيب. وهو أول خطوة في طريق الإخلال بالميثاق، ولم يكتفوا بالتكذيب، إنما حاولوا حصار الرسول حتى لا يصل المنهج إلى آذان تهتدي به. ولذلك لا يكتفون بالتكذيب بل قد يقتلون الرسول لأنه جاء بما لا تهوى أنفسهم. ما هو الهوى أولاً؟ . هو من مادة «الهاء والواو والألف المقصورة التي ترسم ياء» . ونجدها منطوقة مرة هَوى ومرة هواء. ومرة «هوى» بضم الهاء وكسر الواو وتشديد الياء، وكلها تدل على التغلغل والانحياز. والهوى هو لطف الشيء في النفس والميل إليه. فالشيء تستلطفه في نفسك فتنزع إليه نزوعاً وقد يكون غير مستحب أو غير مقبول ولا مشروع. وهل كل الهوى كذلك؟ . لا، لأن هناك هوى الإيمان الذي علمنا إياه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» . إذن فمن الممكن أن يتجه الهوى إلى الخير. وهو الهوى الذي يحمل النفس على أن يسير الإنسان تبعاً للحق. أما الهواء فهو الذي يتنفسه الإنسان ويستخلص منه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3301 الأوكسجين ليغذي به الجسم وتسير به الحياة. ولذلك يقول الأثر: وأقبلْت كالنَّفَس المرتَدِّ. إنه الإقبال الرقيق، فنحن نعرف أننا إن أكلنا شيئاً نحبه فإننا نشعر بطعمه، وعندما نشرب شيئاً نحبه نتذوق طعمه، أما التنفس فهو أمر لا إرادي فعندما نتنفس شيئاً نحبه يكون إحساساً لطيفاً. وهناك نطق ثالث ويعبر عن السقوط، وهو الهُوِىّ من هَوى يهوى - بالكسر للواو - ولذلك يقال: هُوِىّ الدلو، أي نزول الدلو إلى المياه التي في البئر. فأي نوع من الهوى تقصده الآية؟ يقول الحق: {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} إذن الهوى الذي يُتَحَدّث عنه هنا هو هوى النفس المجردة عن المنهج، وهو الذي يتحكم في حركة هذه النفس ويقودها إلى غير طاعة الله. وهل ترك الحق النفس الإنسانية دون عاصم لها؟ لا؛ لأنه أنزل الرسل تحمل منهجاً ملخصه «افعل» و «لا تفعل» . وهكذا يمكن أن يصير المنهج قَيِّماً على خواطر النفس. لكن ما دام الحق قد أراد أن يكون المنهج قَيِّماً على خواطر النفس، فلماذا أوجد النفس؟ . لقد أوجد سبحانه النفس لأن وجودها ينبني عليه أن يَهوَى إنسان الحق والحلال لاستبقاء النوع وتجويد العمل لحلال الرزق. إذن فالغريزة تكون موجودة وقد خلقها الله لمهمة، ولكنه يعصمها بالمنهج من الخروج عن مهمتها. ويقول قائل: ما دام الله قد خلق غريزة الجنس. . فلماذا لا نتركها لتعبر عن نفسها؟ ونقول له: اتق الله واعلم أن الغريزة الجنسية إنما جاءت لبقاء النوع، واستخدامها فيما يغضب الله فناء للنوع وانحراف يعاقب عليه المنهج. وكذلك أوجد الحق غريزة حب الطعام ليقيم الإنسان حياته ولم يوجدها للقضاء على الحياة بالنهم والتخمة والشره. وكذلك غريزة حب الاستطلاع ليست موجودة للتجسس على الناس، ولكن هي لاستكشاف أسرار الكون واستنباط الجديد فيما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3302 ينفع الناس. إذن فكل غريزة إنما توجد من أجل مهمة، فإن خرجت عن مهمتها، فالشرع يتحكم ويقول: لا. إن هناك إطاراً يمكن أن تستخدم فيه الغرائز، والشرع إنما يأتي لا ليمحو الغرائز، ولكن ليعلِىَ من الغرائز ليستعملها الإنسان فيما ينفع لا فيما يضر. ويقال في المثل العربي: «آفة الرأي الهوى» فإذا ما وقف اثنان أمام القاضي وأحدهما مظلوم والآخر ظالم فالقاضي العادل هو الذي يرفع الظلم عن المظلوم حتى وإن كان له هوى مع الظالم. ولذلك نجد الحق قد عصم رسوله فقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] . والسطحيون هم الذين لا يلتفتون إلى عظمة هذا الأداء البياني ويتساءلون: ما دام الحق يصوب لمحمد فكيف إذن لا ينطق عن الهوى. ونقول: أنتم لا تحسنون الفهم عن الله ولا عن رسول الله، فعندما صوّب الله لرسوله لم يكن الرسول قد خرج عن حكم إراده الله، ولم يعدل حكماً لله حسب هواه الشخصي، وإنما هو ببشريته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يصل إلى حكم ما ويراه ثم ترى السماء تعديلاً له، فينطق محمد بالتعديل كما انزله الله. ولم يخالف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربه في أي أمر. وجاء كل تصويب لله في أشياء لم يسبق فيها لله حكم، وكان كل تصويب قد جاء لاجتهاد بشرى من رسول الله، ولم يكن في ذلك أي هوى. وحين قال الحق: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} . إنما يبلغنا أنه لم يكن عند محمد حكم من الله فخالفه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اتباعاً لهوى، فمعنى الهوى أن يكون هناك منهج ثم يعدل عنه، وكل التصويبات التي صوّبها الله جاءت في أمور لم يكن فيها حكم. ولهذا نجد تصويب الحق لرسوله يتسم باللطف، فيقول سبحانه: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} [التوبة: 43] . وهذا العفو لم يكن نتيجة لمخالفة حكم من أحكام السماء، ولكن هو عفو سمح؛ لأن رسول الله أخذ بالاجتهاد البشرى في الأمور التي لم يكن فيها حكم الله، وهو قول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3303 {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1] . وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد حرّم أموراً على نفسه، ولم يحرمها على الناس، وهنا يوضح له الحق: لا تحرم على نفسك ما أحللتُ لك. إذن هذا أمر لمصلحة الرسول. وعندما جاء زيد بن حارثة ليخبر بين أن يكون مع رسول الله كعبد له، وأن يكون مع أهله، آثر زيدٌ رسول الله، فكافأه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن جعله في مقام الابن، وكان التبني معروفاً عند العرب، ونادى الناس زيدا بزيد بن محمد، فلما أراد الله أن يبطل التبني قال: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} . وكلمة «أقسط» تعني أعدل، ومعناها أن القسط أيضاً في دائرة العدل. وعندما يقال: فلان له القسط، أي له العدل. إذن فالقسط أولاً لرسول الله، والأكثر قسطاً هو حكم الله، فكأنك يا محمد قمت بالقسط عند البشر، ولكن الله يريد لك الأقسط. إذن فقوله الحق سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} . هو قول لا يستدرك عليه من مخالف لمنهج الإسلام، فإذا ما قال مخالف لمنهج الإسلام: إن الله يصوب لمحمد، فكيف لا ينطق محمد عن الهوى؟ . نقول: وهل تعرف معنى الهوى؟ إن الحكم بالهوى يعني أنّه وجد حكما لله فيعدل الحكم لهواه، ولم يحدث ذلك من سيدنا ومولانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكل تصويب من الله لم يأت على لسان رجل آخر، إنما جاء على لسان رسول الله نفسه. وهذه هي منتهى الأمانة في البلاغ عن الله. والحق يقول عن بني إسرائيل: {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} إذن فهم فريقان: منهم من لا يقبل عن الإيمان بالمنهج لهوى في نفسه فيكذب. ومنهم من تمتلئ نفسه باللدد وشدة الخصومة على الرسول، ويخشى أن يحيا الرسول لإبلاغ قوم آخرين، فيحاول أن يقتل الرسول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3304 والتكذيب هو أول نقطة في اللدد، ثم هناك من يترقى في اللدد ويخشى أن يصل البلاغ إلى قوم آخرين فيحاول أن يقتل الرسول. والتكذيب هو إنكار لقول أو فعل. أما القتل فهو إزالة لأصل الحياة. والذي يقتل هو الأكثر لدداً. وتتجلى دقة القرآن حين يأتي الحق بصيغة الماضي، لفئة وصيغة المضارع لفئة أخرى: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} لأن التكذيب هو تأب من المكذِّب، أما القتل فهو تأبٍ على وجود الرسول من الذين يكذبون. والأبشع هو القتل؛ لأنه إزالة لكل أثر من آثار وجود المقتول. وجاء التكذيب في صيغة الماضي. وجاء في المسألة البشعة بصيغة المضارع. فالحدث حين يكون بشعاً فهو يبرد بعد مرور فترة من الزمن. وهذا ما يجعل المجتمع يثور عندما تحدث جريمة بشعة، ولكن ما إن تمر عليها عشر سنوات ويصدر الحكم بقتل المجرم لا ينفعل الناس، بل منهم من يتعاطف مع المجرم. ولذلك يحذرنا الحق أن ننسخ من الأذهان صورة قتلهم للرسل، بل يجب أن نستحضر بشاعته دائما فلا نعطف على الذين قتلوا الرسل، وقد قال علماء العربية: إن التعبير بالفعل المضارع يكون لاستحضار صورة الفعل. وساعة يأمر القاضي العادل بالقصاص من إنسان قتل إنساناً آخر، فهو لا يجعل القتل حدثاً منسياً لأنه ماضٍ، بل يستحضره في ذهنه وكأن دمه ما زال ينزف ومكان الطعنة واضحاً؛ لأنه لا يأخذ شيئاً مستوراً بالماضي، بل يأخذ شيئاً واقعاً في الحال. وكأن الحق يأمرنا باستحضار صورة ما حدث أمامنا. ومثال آخر لاستحضار الصورة: نجد الحق يقول لنا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} [الحج: 63] . إنه أنزل الماء، لكنه يتبع ذلك: {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3305 هو سبحانه يستخدم الفعل المضارع لتظل الصورة في أذهاننا مستحضرة في الحال وفي الاستقبال. والحق يقول: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} وكيف يقول الحق: إنهم يقتلون الرسل، والرسل لا تقتل، وأنه سبحانه يريد أن يجعل لهم من العمر ما يمكنهم من تمام البلاغ عنه، إن الأنبياء فقط هو الذين يجوز عليهم القتل؟ ونقول: إن الأنبياء رسل أيضاً بدليل أن الحق قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} [الحج: 52] . إن كليهما مرسل، والفرق أن الرسول يصحب وينزل معه منهجه، والنبي مرسل كنموذج هداية بمنهج قد سبق. ويقول الحق من بعد ذلك: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3306 «وحسب» إن كانت بفتح الحاء وكسر العين فمعناها الظن، وإن كانت بفتح الحاء وفتح السين فبمعنى «عد» ، والحسبان هو أن تظن وترجع وجود الشيء. والذين أخذ الله عليهم الله الميثاق وهم - بنو إسرائيل - ظنوا أن تكذيب الرسل وقتلهم لا يكون فتنة. ويعني أنهم لم يعلموا علم اليقين، وقد رجحوا ألا تكون فتنة. والأصل في الفتنة - كما نعرف - هي الاختبار، إما أن ينجح فيه الإنسان وإما ألاّ ينجح. فكيف جاءهم الظن أن هذا ليس اختباراً؟ لقد جاءهم هذا الظن من الخطأ الذي وقعوا فيه عندما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3306 والخطأ الذي تمادوا فيه عندما قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] . لقد ظنوا أن الحق سيعاقبهم فقط على عبادة العجل ولن يعاقبهم على أي شيء آخر. وكان هذا ظناً خاطئاً. إن المنهج لم يأت لينجي أناساً بذواتهم مهما فعلوا، ولكن المنهج جاء ليحاسب كل إنسان حسب ما عمل. ومن العجيب أنهم ظنوا الظن الخاطئ ولم يقوموا بحساب الأمر بحسابه الصحيح على الرغم من أنهم أهل تفوق في العد والحساب، فالحساب هو الذي يضمن صحة أمر أو يكذبه. ومن العجيب أن من رحمة الحق بالخلق ساعة يؤاخذهم فهو يقول: لك كذا وعليك كذا. لكن ساعة يرزقهم فهو يرزقهم بغير حساب. ولكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك وقال عنهم الحق: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ظنوا أن ذلك الأمر لا اختبار فيه وأنهم غير محاسبين عليه. ونعرف أن «أَنْ» تنصب الفعل. وقال لي سائل: لقد سمعت قارئ القرآن في المذياع ينطقها {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} . وقلت له: إن هناك ثلاثة من أكابر القراء في صدر الإسلام هم: «أبو عمرو» و «حمزة» و «الكسائي» ، وكان لكل منهم أسلوب متميز. وعندما نعلم أن «أنْ» تنصب الفعل لا بد أن يكون الفعل الذي يليها لا يدل على العلم واليقين والتبين، «فأن» بعد العلم لا تنصب، كقوله الحق: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض} [المزمل: 20] . وألفية ابن مالك تقول: (وبلن انصبه وكي كذابِأَنْ لا بعد علم) . أما «أن» التي من بعد ظن فمن الممكن أن تنصب ومن الممكن أن يُرفع الفعل بعدها، فالذي رجح وجود الفعل وأدركه إدراكاً راجحا يرفع، والذي لم يكن لديه هذا الإدراك الراجح ينصب، والرفع هو قراءة الكسائي وأبي عمرو وحمزة. فقد بنوا الأمر على أنَّ الرجحان يقرب من اليقين. وما دام قد حدث ذلك تكون «أَنْ» هنا هي «أن» المؤكدة، لا «أن» الناصبة ويسمونها أن المخففة من الثقيلة فأصلها أنّ. {وحسبوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3307 أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} . وتأتي «فتنة» بالرفع لأنها اسم تكون. و «تكون» من «كان. و» كان «لها اسم مرفوع وخبر منصوب. وهي هنا ليس لها خبر؛ لأنها مِن» كان التامة «. فهناك» كان الناقصة «وهناك» كان التامة «. ونقول ذلك حتى نتقن فهم القرآن، مثلما نقرأ قوله الحق: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ. .} [البقرة: 280] . و» كان «فعل ماضي، و» ذو عسرة «اسم كان التامة؛ لذلك لا خبر لها؛ لأن المقصود هو القول: وإن وُجِد ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. ولا بد لنا أن نعرف ما معنى» تام «وما معنى» ناقص «؟ نعلم أن كل لفظ ننطق به ويدور حول أمرين اثنين، إما لفظ مهمل وغير مستعمل وإمّا لفظ مستعمل. والمستعمل هو الذي له معنى يصل إلى الذهن ساعة نطقه ويستقل به الفهم، فإن كان لا دخل للزمن فيه فهو الاسم ككلمة» أرض «و» شمس «و» قمر «. وهناك لفظ لا يستقل بالفهم كحرف الجر» في «مثلاً. صحيح أنه يدل على شيء في شيء؛ ولكنه لا يستقل بالفهم؛ لذلك لا بد أن ينضم لشيء، كقولنا: الماء في الكوب أو قولنا: التلميذ في الفصل. فإذا كان للفظ معنى ومستقل بالفهم، والزمن له دخل فيه فهو الفعل. مثال ذلك قولنا: السماء. إن السماء كانت في الماضي وهي في الحاضر وهي في المستقبل. إذن فالزمن لا دخل له بها، وكلمة: كلُوا نجدها تأتي من الأكل، وهي معنى مستقل بالفهم والزمن جزء منه. ولفظ» في «يدل على معنى غير مستقل بالفهم فلا بد من أن ينضم لشيء آخر. إذن كل لفظ له معنى، وهذا المعنى قد يكون مستقلا بالفهم أو غير مستقل، فإن كان مستقلاً بالفهم فإننا نسأل: هل الزمن جزء منه؟ وفي هذه الحالة يكون» فعلاً «وإن لم يكن الزمن جزء منه فهو الاسم. وإن كان غير مستقل بالفهم ويريد شيئاً آخر ليستقيم المعنى فهو» حرف «. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3308 وهكذا تعرف الألفاظ. والفعل هو» معنى زائد عليه زمن «كقولنا: أكل؛ فهي تعني تناول إنسان طعاماً في زمن ماضٍ، وهكذا نفهم قولنا:» كان «. فإن قلنا:» كان «بمعنى حدوث شيء في الماضي، كقولنا» كان زيد مسافراً «فهي ناقصة. وفي ضوء هذا نفهم قول الحق: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . فإن أردت الوجود فقط من غير شيء جديد طارئ عليه، فالفعل يكون تاماً لا يحتاج إلى خبر. وإن أردت الوجود مع أي شيء آخر فهو الفعل الناقص الذي تكمله بخبر. مثل قوله تعالى: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ألا توجد فتنة، فهي لا تحتاج إلى خبر. وكان مثل بني إسرائيل كمثل التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة ولا يعلم أن فيها اختباراً آخر العام فيُمضي الوقَت في تحصيل ولا جد ولا اجتهاد بل في لهو ولعب، وكان هذا حسباناً خاطئاً؛ لأن المنهج لم يأت اعتباطاً، ولكنه جاء كنظام حركة للحياة ليعمله المؤمن. وكان المفروض أن يستقبلوا المنهج على حسب تعاليم المنهج. ومن العجيب أنهم ظنوا ولم يحسبوا بالحساب على الرغم من أنهم أهل علم بالحساب، فهم حسبوا - بكسر السين - وما حسبوا - بفتح السين - وكان المفروض أن يقوموا بالحساب، فالحساب هو الذي يضمن صحة المسائل. وكل شيء عند الله يكون بالحساب، حساب للعبد وحساب على العبد. {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ظنوا أنها ليست اختباراً. وظنوا أن الرسالات والمناهج هي مسألة لا اختبار لهم فيها، فلما عرفوا تعاموا عن ذلك وصموا آذانهم عنه. ونعلم أن وسائل الإدراك في النفس البشرية هي السمع والأَبْصار والأفئدة: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3309 إذن فوسائل الإدراك: سمع، وبصر، وفؤاد. وما تراه العين هو تجربة الإنسان بنفسه. أما ما يسمعه الإنسان فهو تجربة كل غير له. وبذلك يكون السمع اكثر اتساعاً من العين. والسمع هو وسيلة الإدراك التي توجد أولاً في الإنسان حين يولد. ونجد المولود لا يهتز عندما يقترب شيء من عينيه؛ لأنه لا يرى بدقة وقد يستمر ذلك لمدة عشرة أيام ومن بعد ذلك يبدأ في الرؤية. لكن الطفل إذا سمع صوتاً بجانب أذنيه ينفعل، كأن حاسة السمع هي التي توجد أولاً، ولذلك يأتي لنا الحق بذك السمع أولاً ومن بعد ذلك الأبصار ثم الأفئدة. «فعموا وصموا» وهو سبحانه يسألهم أولاً عن التجربة الشخصية فيهم. ولم يسألهم عن الذي سمعوه عن غيرهم فقط، «فعموا» أي لم يروا حتى الأمور المتعلقة بهم، ولم ينظروا في آيات الكون ولم يسمعوا البشير ولا النذير ولا المنهج من الله ولا اتفقوا على تنفيذه. وسبحانه يعاتبهم أولاً أنهم لم يستعملوا عيونهم. وحتى لو افترضنا أنهم لم يروا آيات الكون بأنفسهم فما بالهم لا ينظرون وقد جاءهم الرسول ودعاهم لينظروا في كون الله وأن يعتبروا. فإذا كانوا أولاً في غفلة فلم يروا، فلماذا لم ينتبهوا ويسمعوا سماع إذعان وانقياد عندما جاءهم البشير والنذير لينبههم؛ لذلك «فعموا وصموا» منطقية جداً هنا. وبعد ذلك قبل الله منهم، وأنجاهم من فرعون وفلق لهم البحر، وعبروا، ولكنهم بمجرد خروجهم من البحر، ومروا على قوم يعكفون ويلزمون ويقبلون على أصنام لهم يعبدونها. قالوا لموسى: نريد إلهاً كما لهم آلهة. وأمرهم موسى أن يتوبوا وقبل الله توبتهم. مع كثرة ما ارتكبوا من ذنوب. ومن بعد ذلك يتوب الله عليهم. {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} . والتوبة هي فتح مجال للنفس السوية لتنطلق في الخير من جديد، فلو لم يتب الله على من أذنب فماذا يكون موقف المذنب بلا توبة؟ إنه يتمادى ويحس أنه ذاهب في طريق الشر بلا عودة. وحين يقبل الحق توبة المذنب، فذلك معناه أنه سبحانه يريد أن يحمي المجتمع من شره. والتوبة مراحل: الأولى: حين يشرع الله التوبة، والثانية: أن يتوب العبيد، والثالثة: هي قبول الله للتوبة. وهذا ما جاء به الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3310 {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} [التوبة: 118] . ماذا تعني توبة الله عليهم؟ سبحانه لن يتوب عليهم توبة القبول إلا بعد أن يتوبوا. إذن فتوبة الله عليهم الأولى هي التشريع لهم بالتوبة، ثم توبتهم، ثم قبول الحق للتوبة. لكن هؤلاء عموا وصموا، وعلى الرغم من ذلك لطف الله بهم. فماذا حدث منهم بعد ذلك؟ عموا وصموا مرة أخرى {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} . و «عموا» مأخوذة من الفعل «عمى» ، ومثلها مثل «أكلوا» و «شربوا» و «حضروا» ، فأين الفاعل؟ الفاعل هو «واو الجماعة» . وابن مالك قعّد لهذه المسألة، فساعة تسند الفعل إلى اثنين أو إلى جماعة، فلا بد أن تجرد الفعل من علامة التثنية أو الجمع، فلا تقول: «قاما زيد وعمرو» ولكن تقول: «قام زيد وعمرو» ، ولا نقول: «قاموا التلاميذ» بل نقول: «قام التلاميذ» ، لأن مدلول «الواو» هو مدلول «التلاميذ» ؛ قال ابن مالك: وجرد الفعل إذا ما أسندا ... لاثنين أو جمع ك «فاز الشهدا» أي أن الفعل إذا أسند لمثنى أو مجموع وجب تجريده من العلامة التي تدل على التثنية أو على الجمع. أما كلمة كثير فتعرب إما على أنها البدل من واو الجماعة، وإما على إضمار مبتدأ أي العُمْىُ والصُّم كثير منهم، وإما على أنها فاعل ويكون ذلك قد جاء على لغة طائفة من العرب وهم بنو الحارث بن كعب، وهؤلاء قد يأتون بعلامة تدل على التثنية أو الجمع إذا أسند الفعل إلى اسم ظاهر مثنى أو مجموع مثل: قاموا الرجال وسافرا محمد وعلي. وحمل بعضهم قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} على هذا، وكان قول الحق: {كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} صيانة للاحتمال بأن قلة منهم تدير أمر الإيمان في قلوبهم، وكلمة «كثير» جاءت حتى تنبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يهمل أبداً القلة التي تدير أمر الإيمان في خواطرهم. ليؤكد ويعاضد ما جاء في قوله تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} . {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} و «بصير» مثلها مثل «عليم» ، أي شاهد وليس مع العين أين. ويقول الحق من بعد ذلك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3311 {لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3312 وهناك ثلاث آيات تتعرض لهذه المسألة: {لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} . والآية الثانية: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] . والآية الثالثة: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] . إذن فالخلاف في المسألة جاء على ثلاث صور: طائفة تقول: المسيح هو الله. وطائفة تقول: إن المسيح هو إله مع اثنين آخرين. وطائفة تقول: إن المسيح هو وأمه إلهان. ولكل طائفة رد. والرد يأتي من أبسط شيء نشاهده في الوجود للكائن الحي، فالإنسان - كما نعرف - سيد الكون والأدنى منه يخدمه. فالإنسان يحتاج إلى الحيوان من أجل منافعه، وكذلك يحتاج إلى النبات والجماد، هذا السيد - الإنسان - يحتاج إلى الأدنى منه. والحق سبحانه وتعالى أراد أن يرد على تأليه سيدنا عيسى وسيدتنا مريم، فقال: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} [المائدة: 75] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3312 وهذا استدلال من أوضح الأدلة، لا للفيلسوف فحسب ولكن لكل المستويات، فماداما يأكلان الطعام فقد احتاجا إلى الأدنى منهما. والذي يحتاج إلى الأدنى منه لا يكون الأعلى ولا هو الواحد الأحد. والمتبعون لهذه الفرق الثلاثة مختلفون. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} وكلمة {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} تستعمل على أنه واحد من ثلاثة لكنه غير معين. فكل ثلاثة يجتمعون معاً، يقال لكل واحد منهم إنه {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} . وليس هذا القول ممنوعاً إلا في حالة واحدة، أن نقول: ثالث ثلاثة آلهة؛ لأن الإله لا يتعدد. ويصح أن نقول كلمة: «ثالث اثنين» لأن الله يقول: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] . إذن فمن الممكن أن نقول: هو رابع ثلاثة، أو خامس أربعة أو سادس خمسة. وهو الذي يصير الثلاثة به أربعة أو يصير الأربعة به خمسة أو يصير الخمسة به ستة. إننا إن أوردنا عدداً هو اسم فاعل وبعد ذلك أضفناه لما دونه، فهذا تعيين بأنه الأخير. فإن قال قائل: الله رابع ثلاث جالسين فهذا قول صحيح. لكن لو قلنا إنهم آلهة. فهذا هو المحرم، والممنوع؛ لأن الإله لا يتعدد. ويلاحظ أن الحق لم يقل: ما يكون من نجوى اثنين إلاّ هو ثالثهم؛ لأن النجوى لا تكون إلا من ثلاثة، فإن جلس اثنان معاً فهما يتكلمان معاً دون نجوى؛ لأن النجوى تتطلب ألا يسمعهم أحد. والنجوى مُسَارَّةَ، وأول النجوى ثلاثة، ولذلك بدأها الحق بأول عدد تنطبق عليه. فإن قلت: «ثالث ثلاثة» فهذا قول صحيح إن لم يكونوا ثلاثة آلهة. والحق أراد أن يدفع هذا القول بالبطلان حين قال: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} . والطعام مقوم للحياة ومعطٍ للطاقة في حركة الحياة؛ لأن الإنسان يريد أن يستبقي الحياة ويريد طاقة، والطعام أدنى من الإنسان لأنه في خدمته، فإذا ما كانا يأكلان الطعام فهما في حاجة للأدنى. وإن لم يأكلا فلا بد من الجوع والهزال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3313 ولذلك فهما ليسا آلهة. بعضهم يقول: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} هي كناية عن شيء آخر هو إخراج الخبث. ونقول: ليس إخراج الخبث ضرورياً لأن الله سيطعمنا في الجنة ولا يخرج منا خبث. فهذا ليس بدليل. ويرتقي الحق مع الناس في الجدل، فاليهود قالوا في المسيح - عليه السلام - ما لا يليق بمكانته كنبي مرسل وقالوا في مريم عليها السلام ما لا يليق باصطفائها من الحق. واليهود إذن خصوم المسيح. وأنصار المسيح هم الحواريون! فإذا كان لم يستطع أن يصنع من خصومه ما يضرهم ولا مع حوارييه ما ينفعهم فكيف يكون إلهاً؟ والنص القرآني يقول عن مريم: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} [آل عمران: 43] . والمسيح نفسه كان دائماً مع الله خاشعاً عابداً. والذي يعبد إنما يعبد من هو أعلى منه؛ فالإله لا يعبد ذاته. وإذا كان هذا قول من ينتسبون إلى السماء إيماناً بإله وإيماناً بمنهج، فماذا عن قول الذين لا ينتسبون إلى السماء من الملاحدة الذين ينكرون الأولوهية؟ إذن كان من الواجب أن يؤمن المنسوبون إلى السماء بواسطة مناهج وبواسطة أنبياء وأن يصفوا هذه المسائل فيما بينهم. وعلى سبيل المثال كان العالم موجوداً ومداراً قبل المسيح فمن إذن كان يدير العالم من قبل ميلاده؟ ولذلك أراد الحق سبحانه جل جلاله أن يحسم الموقف. والقرآن يعلمنا: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] . أيمكن أن يكون المتناقضان محقين؟ لا؛ لأن أحدهما لا بد أن يكون على هدى ولا بد أن يكون الآخر على ضلال. ولذلك نقول: كلامكم لا يلزمنا وكلامنا لا يلزمكم. ونفوض الأمر إلى الإله الذي نؤمن به. وحتى نصفي هذه المسألة نذكر قول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3314 {نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين} [آل عمران: 61] . ونقول: اجعل لعنتك على الكاذبين. حتى تخرجنا من هذا الخلاف ولا تجعل واحداً منا يسطير على الآخر، فأنت صاحب الشأن، فها نحن أولاء بأنفسنا ونسائنا وأولادنا ندعو دعاءً واحداً: اجعل لعنة الله على الكاذبين منا. وما تلاعن قوم وابتهلوا إلا وأظهر الله المسألة في وقتها. ولم يقبل أحد من أهل الكتاب هذه المباهلة، والحق يقول: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3315 إذن فالذين لا يعلنون التوبة عن ذلك يقعون في الكفر ويعذبون. ثم يقول الحق: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3315 فكأن هذا القول يقتضي التوبة واستغفار الحق. ويقول سبحانه بعد ذلك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3315 {مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ ... } . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3316 و «أفك» يعني انصرف أو صُرف، أي يصرفهم غيرهم. وهذا يعني أن هذا إيعاز من الشيطان؛ لأن المسيح عليه السلام ما هو إلا رسول مثل من سبقوه من الرسل وأمه (صدِّيقة) مصدِّقة بما جاء به، والدليل على بشريتهما أنهما يحتاجان كسائر البشر لما يَقوَّم حياتهما من طعام وشراب وكساء، والأولوهية المدّعاة منهم تتنافى مع هذا الاعتقاد وهذا هو الإفك بعينه الذي يتصادم مع العقل المجرد عن الهوى. يقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3316 والعقل يستنكر أن نعبد أحداً غير الله، فغيره لا يملك أن يصنع الضر للخصوم، ولا النفع لنفسه أو لأشياعه وأنصاره بدليل أن الأعداء فعلوا ما فعلوه وما ملك عيسى عليه السلام أو الحواريون أن يضروهم ولا استطاعوا أن يفعلوا شيئاً ينفعون به أنفسه. ويختم الحق الآية بقوله: {والله هُوَ السميع العليم} . وكلمة «السميع» تدل على قول. وكلمة «العليم» تدل على شيء يدور في الخواطر، والشيء الذي يدور في الخواطر أهو حراسة سلطة زمنية جعلتهم يقولون هذا الكلام؟ إنه سبحانه العليم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3316 بذلك. فإن كان قد حصل كلام فهو قد سمعه، وإن كانت قد دارت خواطر في النفس فهو يعلمها؛ لأن العاقل قبل أن يتكلم لا بد أن يدير الكلام في النفس. وكل كلام لا بد له من نزوع. وهو سبحانه السميع العليم أزلا وأبدًا. ويقول الحق: {قُلْ ياأهل الكتاب ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3317 عندما يوجد شيء مشترك بين النصارى واليهود يحدثهم الله بقوله: {قُلْ ياأهل الكتاب} أما الشيء الخاص فهو يتحدث به لكل فئة بمفردها. والغلو هو أن يتطرف إنسان في حكم ما إيجاباً أو سلباً. وهو إما الإفراط في المنزلة العالية وإما التفريط في المنزلة الدنيا. ولذلك نجد المتناقضات دائماً في الغلو. «ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لسيدنا علي - كرم الله وجهه -: يا عليّ، يهلك فيك رجلان. . محب غال ومبغض غال» ويقول: «يا عليّ لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» . ويقول: «يا علي ستقاتلك الفئة الباغية» إن هناك من أحب سيدنا عليًّا إلى درجة أنهم اعتبروه نبياً وقالوا: إن الوحي أخطأ عليًّا وجاء إلى رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو اعتبروا عليًّا إلهاً!! وكل ذلك غلو، فقد أحبّوه إلى منزلة فيها غلو وإفراط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3317 أما الخوارج فقد قالوا عن سيدنا علي: إنه كافر. جاء الغلو - إذن - من ناحية المحبين فجعلوه نبياً أو فوق ذلك مما يدخلهم في الشرك، أو من المبغضين القائلين بتكفيره وإخراجه من دائرة الدين، ولذلك يجب ألاّ نغلو في الدين فلا نحب إنساناً ونرفعه فوق مستوى البشر، ولا نبغض إنساناً وننزل به إلى الحضيض. بل يجب أن نعطي كل واحد قدره ومقداره الذي وضعه الله فيه؛ لأن وضع الله له هو تكريمه: {قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 77] . وجاء مثل هذا القول في آية أخرى: {ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} [النساء: 171] . وحتى نفهم أن مسألة الغلو إنما جاءت في ادعاءات ألوهية البشر؛ قال الحق بعد ذلك: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171] . فلا داعي للغلو بنسب الأولوهية له أو أنه ثالث ثلاثة. فإن كنتم متشككين ووصلتم إلى هذا الشك بسبب عدم عنصر الذكورة في مجيء عيسى، فافهموا أن كل الأشياء جاءت ب «كن» ؛ لأنه وإن وجُدت مقدمات للإنسان، فَرَقَّ هذه المسألة إلى واحد لم يأت من إنسال، وستصل إلى آدم وآدم من تراب؛ إذن كل الكون كلمة. وإن وجدت أسباباً فما طمره الله في الكلمة الأولى، فحين يجيء إنسان أُنشئ بكلمة فلا تقولن: إن هذا شيء عجيب؛ لأن الكون كله إنما نشأ بكلمة: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] . وإن كانت الفتنة قد نشأت في ظاهر الأمر من أن المسيح ليس له أب في عالم الإنسال وقانون التناسل، فما كان يجب أن تكون الشبهة في هذا؛ لأنه مخلوق من أم، وآدم مخلوق بلا أب ولا أم. وكان يجب أن تكون الفتنة في آدم أكبر. والكلمة من الله تنشئ حياة. والحياة إدخال روح في مادة لتهبها الحركة والحس ومقومات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3318 الحياة. إذن فالكلمة تقال من الله فتأتي الروح لتدخل في المادة: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} . {وَرُوحٌ مِّنْهُ} مثلها مثلما قال في آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] . إذن فآدم كلمة، وآدم روح منه، وكذلك المسيح، فلا شبهة هنا ولا شبهة هناك. ويطلب الحق من المنسوبين إلى السماء: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} . فإذا كنتم منسوبين إلى السماء فلا تذبذبوا أفكار الناس بمثل هذه المسائل، وكان يجب أن تقفوا بعيسى عندما أراد الله له من التكريم؛ لأن التكريم هو أن يكون أسوة حسنة، فلو كان من جنس آخر غير البشر لا متنعت الأسوة فيه؛ لأن الأسوة إنما تكون من جنس من يتبعها، فلو رأه الناس خاشعاً متعبداً لما استطاعوا أن يفعلوا مثله لو كان من مادة أخرى غير مادة البشر. وقلت مرة: لو أن إنساناً رأى أسداً يفترس في الغابة ويصول ويجول على الحيوانات، أيفكر واحد من الرائين أن يجعل نفسه أسداً؟ . لا. لكن لو رأى فارساً مثله شجاعاً في حرب يصول ويجول في الأعداء فهو يقلده ويحاول أن يكون مثله. إذن فالأسوة لا تكون إلا مع وحدة الجنس، فلو أنه لم يكن من جنس البشر لما صلح أن يكون رسولاً. {قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق} لقد جاء الحق هنا بالحديث شاملاً لكل أهل الكتاب؛ لأن كلا منهما جاء بطرفي الأمور. فاليهود اتهموا سيدتنا البتول المصطفاة مريم بما ليس فيها، وأولئك جاءوا بالمغالاة في الجهة الأخرى؛ لذلك يأمرهما الحق بعدم المغالاة؛ لأن الحق لا يتعاند؛ فهو شيء ثابت لا يتغير أبداً ولا يتعارض. والإنسان إن رأى حدثاً من الأحداث بعينيه ثم طُلب منه أن يحكيه فهو يحكيه الآن ويحكيه غداً ويحكيه بعد عام وتظل روايته واقعاً لأنه شهده وهذا هو الواقع المشهود يفرض نفسه عليه، لكن الكاذب لا يذكر ذلك، وقد يقول قضية ويكون فيها كاذبا فلا بد أن يغير من الحقيقة عندما يحكيها لمرة ثانية. ولذلك يقال «إن كنت كذوباً فكن ذكوراً» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3319 إن الذي يحكم الحق هو واقعة؛ لأن المتكلم به يستقرئ واقعاً. لكن الكاذب لا يستقرئ واقعاً فلا يعلم ماذا كذب في المرة الأولى. ونذكر الكاذب الذي جلس يقول: مرة كنا سائرين وخرجنا من القرية ذاهبين إلى المدينة لنأتي بحاجات عيد الفطر. وكانت الدنيا قمراً كالظهر وقوله: «قمراً كالظهر» هي التي تكشف كذبه، فكيف يكون في ليلة العيد قمرٌ، وأول ليلة في عيد الفطر هي أول ليلة في شوّال، وليس فيها أي قمر، الهلال يكاد يكون مخفياً. إذن فالذي يستوحي واقعاً لا يتغير كلامه لأنه حق. والذي يستوحي غير الواقع لا يذكر ماذا قال فيخلط. لذلك لا يقولن إنسان غير الحق لأن قوله سيتضارب. وإذا تضارب هذا القول في مسألة الألوهية فإن الناس قد تشك في منهج السماء الذي يتبعونه. وإذا شك الناس في منهج السماء فسيكون عليكم وزر إضلال الناس؛ لأن الذي يتعرض لهذه القضية يجب ألا يجرب الناس عليه أي شيء من المخالفة. ولذلك قال سيدنا إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} [الممتحنة: 5] . لماذا قال سيدنا إبراهيم هذا الدعاء؟؛ لأنه إن قال شيئاً ثم عمل بما يناقضه فقد يتصور من يراه أنه - والعياذ بالله - كذاب. {قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل} ويا ليتهم ضلوا فقط في ذواتهم بل هم يحاولون إضلال غيرهم. لذلك قال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] . وسبحانه يوضح لهم: لا تفعلوا ذلك حتى لا تضلوا؛ لأن وزرك أن تعمل، وهناك وزر آخر هو أن تُضلِّل غيرك. ولذلك يقول الحق: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3320 قال الحق ذلك مع أنه قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . حتى نفهم الأمر علينا أن نعرف أن الوزر الأول هو وزر الضلال؛ والثاني هو وزر الإضلال. {وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ} أي لا تقلدوا أناساً اتبعوا الهوى. والهوى هو لُطف موقع الشيء وقربه إلى النفس فيصنعه الإنسان على طريقة لا تنبغي. ولذلك كل كلمة «هوى» في القرآن جاءت في مجال الخسران والضلال. وعندما نقرأ قوله الحق: {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} . وهو القائل سبحانه: {واتبع هَوَاهُ فتردى} . وقد جاء الهوى في قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» أي المطلوب أن يطوِّع الإنسان هواه لمطلوب الله. وما دام قدْ طوِّع هواه لمطلوب الله، فهذا يعني أن هواه الشخصي قد امتنع. {وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل} . إن هذا هو النهي عن اتباع الهوى الذي يضل ويكون سبباً في الإضلال عن سواء السبيل. ويقول الحق بعد ذلك: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3321 الحق سبحانه وتعالى يعطي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسوة تصبره على ما يلاقيه من خصومه من أهل الكتاب، وكأنه يقول له: إن هذا الأمر ليس بدعاً وليس عجيباً؛ لأن تاريخ أهل الكتاب الطويل يؤيد هذا، فها هوذا موقفهم من نبي الله داود، وكذلك موقفهم من عيسى ابن مريم عليه السلام. وهذا يجعل لك أسوة بهؤلاء الرسل الذين نالهم من أذى هؤلاء. فالمسألة ليست خاصة بك وحدك، وإنما هي طبيعة فيهم، ويبسط سبحانه في التسرية عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يجعل موقفه موقف الصلابة الإيمانية التي لا تخاف ولا تهتز. فينسب هذه الأشياء لنفسه فيقول: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] . فمرة قالوا عن الرسول: إنه مجنون، ومرة أخرى قالوا: «ساحر» وثالثة قالوا: «كذاب» . وهم يعرفون كذبهم، فهم على الرغم من اتهامهم للرسول بالكذب والجنون والسحر إلا أنهم لا يأمنون أحداً على مصالحهم إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو الأمين دائماً. وكان لهم أن يتعجبوا من موقفهم هذا، ومن صدهم عن دين الله بالكفر، وعلى الرغم من ذلك فعندما يكون هناك شيء ثمين ونفيس فلا يُؤمَن عليه إلا محمد بن عبد الله. ما هذا الأمر العجيب إذن!! لقد عرفوا صدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحقيقة رسالته - ما في ذلك ريب - ولكن لأن لهم أهواء أصرّوا على الضلال تمسكاً بالسلطة الزمنية. هم يعرفون أن محمداً هو الأمين. ولذلك نرى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدع عليّاً - كرم الله وجهه - ويتركه في مكة ليؤدي الأمانات التي كانت عنده لهؤلاء جميعاً. إذن {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} . أي أنك يا رسول الله عندهم الصادق. أنت عندهم يا رسول الله الأمين. أنت عندهم يا رسول الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3322 في منتهى السمو الخلقي. ولو لم تقل أنك رسول من الله لكانوا قد رفعوك إلى أعلى المنازل. ولكنك ببلاغك عن الله زلزلت سلطتهم الزمنية. ولقد حاولوا أن يثنوك عن الرسالة، فعرضوا عليك الملك، وعرضوا عليك الثراء، ولو كنت تقصد شيئاً من ذلك لحققوا لك ما تريد. ولكنك تختار البلاغ الأمين عن الله. لقد عرضوا عليك الملك طواعية. وعرضوا عليك الثروة. وزينوا لك أمر السيادة فيهم شريطة أن تتخلى عن الرسالة. لكنك تختار السبيل الواضح الذي لا لبس فيه على الرغم مما فيه من متاعب، تختار السبيل الذي يكلفك أمنك وأمن من يتبعك. إنك تتبع ما أنزل إليك من ربك. ومن بعد ذلك جاءوا ليحاصروك في الشِّعب ليمارسوا معك الحصار الاقتصادي بتجويعك وتجويع من معك. ومع هذا كله ما تنازلت عن البلاغ. وكان يجب أن يفطنوا إلى أنك لا تطلب لنفسك شيئاً، لا المال ولا الجاه بل أنت رسول من الله لا تأكل من صدقة أحد، لا أنت ولا أهلك. وكان يجب أن يتساءلوا: لماذا تدخل بنفسك إلى هذه الحرب الضارية؛ فلا أنت طالب جاه ولا أنت طالب مال، ولا أنت طالب لمتعة من تلك المتع. وكان يجب أن يأخذوا العبرة، فهم يعرضون عليه كل هذه الأشياء. وهو يرفضها؛ لأنه خاتم الأنبياء؛ لذلك يتمثل فيه خير كل من سبقه من الأنبياء. يتمثل فيه على سبيل المثال ما قاله سليمان لوفد بلقيس ملكة سبأ: {فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36] . إذن كان يجب على الناس أن يفطنوا إلى أن النبوة حينما تأتي إنما تأتي لتلفت الناس إلى السماء وإلى منهجها ولتنتظم حركة حياتها في الكون، وأن المنتفع أولاً وأخيراً بالمنهج هم أنفسهم؛ لأنهم هم الذين يشقون بمخالفتهم منهج الله. وليجرد كل إنسان نفسه من كل شيء ولينظر إلى المنهج ولسوف يجد أنه في صالحه. فها هوذا سليمان الذي دانت له الدنيا وأُعْطِيَ ملكاً لم يعطه الله لأحد من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3323 بعده فسخر الله له الريح وسخر له الجن يفعلون له ما يشاء. وكان سليمان يعطي الدقيق النقي للعبيد ليستمتعوا بالطيبات، ويأكل هو ما تبقى من نخالة الدقيق، وكان ذلك دليلاً من الله أن هذه المناهج ليست لصالح نبي، ولكن كل نبي إنما يريد بالمنهج صالحَ من أُرسل إليهم. وكانت مقاومة أهل الكتاب لنبي الله داود، وكيف أنهم اعتدوا في يوم السبت فدعا عليهم داود عليه السلام فمسخهم الحق قردة، ولعنهم في الزبور، وكذلك قالوا الإفك في مريم البتول ولعنهم الله في الإنجيل، ولم يكن اللعن إلا بناءً على ما فعلوا؛ لذلك يذيل الحق الآية بالقول: {ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} . والعصيان - كما نعلم - هو العصيان في ذات الإنسان وفي أموره الخاصة التي لا تتعدى إلى الغير، أما الاعتداء فهو أيضاً معصية ولكنها متعدية إلى الغير. مثال ذلك: الحاقد إنما يعاقب نفسه، أما السارق أو المرتشي فهو يضر بغيره. إذن فهناك معصية وهناك عدوان، المعصية تعود على صاحبها دون أن تتعدى إلى الغير، أما العدوان فهو أخذ حق من الغير للنفس، وضرر يرتكبه الفرد فينتقل أثرة إلى الغير. ويقول الحق من بعد ذلك: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3324 ونعلم أن حراسة منهج الله تعطي الإنسان السلامة في حركة الحياة على الأرض. وقد جعل الحق سبحانه في النفس البشرية مناعة ذاتية، فساعة توجد في الإنسان شهوة على أي لون سواء في الجنس أو في المال أو في الجاه. فقد يحاول الوصول إليها بأي طريق، ولا يمنعه من ذلك إلا الضمير الذي يفرض عليه أن يسير في الطريق الصحيح. هذا الضمير هو خميرة الإيمان، وهو الذي يلوم الإنسان إن أقدم على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3324 معصية، هذا إن كان من أصحاب الدين. ولنا أن ندقق في هذا القول القرآني لأنه يحمل الوصف الدقيق للنفس البشرية في حالتها المتقلبة، فها هوذا قابيل يتحدث عنه القرآن: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30] . ومن بعد ذلك، قتل قابيل هابيل، ثم هدأت النفس من سعار الغضب وسعار الحقد، وانتقل قابيل إلى ما يقول عنه القرآن: {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} [المائدة: 30] . فبعد أن غواه غضبه إلى أن قَتَل أخاه وسلبه الحياة. يبعث الله له غراباً ليريه كيف يواري سوأة أخيه؛ لأنه لم يكن يعرف كيف يواري جثمان أخيه. وانتقل بالندم من مرحلة أنه لم يرع حق أخيه في الحياة فأراد أن يرعى حق مماته، إذن فالنفس البشرية وإن كانت لها شهوات إلا أن لها اعتدالا مزاجيا يتدخل بالندم عندما يرتكب الإنسان إثماً أو معصية. ولذلك تجد كثيراً من الناس تعاني من متاعب لأنهم ارتكبوا معاصي، لكنهم يريدون الاعتراف بها لأي إنسان وأي إنسان يتلقى الاعتراف ليست لديه القدرة على تدارك آثار تلك المتاعب؛ لأنها وقعت وانتهى الأمر. لكن لماذا يريد الإنسان أن يعترف لأخر بمعصية؟ . إنه اعتراف للتنفيس؛ لأن كل حركة في النفس البشرية ينتج عنها تأثير في النزوع، فعندما يغضبك أحد فأنت تنزع إلى الانتقام، ولهذا يأمرك الشرع حين يغضبك أحد أن تغير من وضعك وقل: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} . حتى تصرف الطاقة السعارية عندك، فإن أغضبك أحد وأنت قائم فاقعد، وإن كنت قاعدا فاضطجع، وأن كنت ثابتاً في مكان فلتسر بضع خطوات. والشرع حين يطلب منك أن تتحرك لحظة الغضب فذلك ليزيل من جسدك بعض الطاقة الفائضة الزائدة التي تسبب لك الغليان فتقل حدّة الغضب. ولذلك فالشاعر العربي ينصح كل مستمع للشكوى ألا يرد السماع بل يصغي لصاحب الشكوى؛ لذلك يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3325 ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع وحينما تظهر المشاركة لصاحب الشكوى فأنت تريحه، وتهديه إلى الاطمئنان. وينصح الشاعر صاحب الشكوى أن يضعها عند ذي المروءة؛ لأن ذا المروءة إنما يعطيك أذنه ومشاعره وهو جدير أن تستأمنه على السّر، وكأن الأسرار في خِزانة لن يعرف أحد ما بداخلها، وبمثل هذا الاعتراف يريح الإنسان نفسه، ويصرف انفعاله إلى شيء آخر. وعندما تكرر النفس البشرية فعل السوء ولا تجد من ينهها أو ينهاها، فالسوء يعم وينتشر، هنا تتدخل السماء بإرسال رسول. ويوضح الحق أن السبب في إرسال رسول لهؤلاء الناس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، والتناهي عن المنكر إنما يكون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا يظنن المؤمن أنه بمنجاة عن خاطر السوء في نفسه لأن كلاً منا بشر. وعرضة للأغيار، ومن لطف الله لحظة أن يهب خاطر السوء على مؤمن أن يجد أخاً خالياً من خواطر السوء فيواصيه بالحق ويواصيه بالصبر؛ لأن الفرد إن جاءه سعار الشهوة في اللحظة التي يجيء فيه السعار نفسه عند صديق له فقد يتفقان على المنكر، أما إن جاء سعار الشهوة لإنسان وكان صديقه مؤمناً خالياً من خواطر السوء، فهو ينهاه ويوصيه بالحق والصبر. وهكذا. يتبادل المؤمنون التناهي بالتواصي؛ فمرة يكون الإنسان ناهياً، ومرة أخرى يكون الإنسان منهياً. وكذلك أعطى الله هذه المسألة كلمة التواصي: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1 - 3] . ولم يخصص الحق قوماً ليكونوا الناهين، وقوماً آخرين ليكونوا المنهيين، لا، بل كل واحد منا عرضة أن يكون ناهياً إن اتجهت خواطر صاحبه إلى الحرام، وعرضة أيضاً لأن يكون منهياً إن كانت نفسه تتجه إلى الحرام، وبذلك نتبادل النهي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3326 والتناهي، ويسمون ذلك «المفاعلة» مثلما نقول: «شارك زيد عمرا» ، ولا يشارك الإنسان نفسه إنما يشارك غيره، ومعنى هذا أن هناك شخصا قد كان فاعلا مرة، ومرة أخرى يكون مفعولاً، وكيف تكون صيغة التفاعل هذه؟ . إنها مثل «تشارك» و «تضارب» أي أن يأتي الفعل من اثنين. ومن السهل إذن أن ينهي إنسان صديقاً له أو ينهاه صديق له. وقد نفسرها على أن الجميع ينهى نفسه بفعل القوة الخفية الفطرية التي توجد في كل نفس، أي أن كل نفس تنهى نفسها. إذن فالتفاعل إما أن يكون في النفس وإما أن يكون في المجتمع. {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} ولننتبه هنا إلى أنهم قد فعلوا المنكر بالفعل، فكيف يكون التناهي عن المنكر؟ . يمكن أن نفهم العبارة على أساس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله، أي أن الإنسان منهم كان يرى زميلاً له يتهيأ لارتكاب منكر فلا ينهاه. ومثلها في ذلك قوله الحق: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] . وهذا القول لا يعني أبداً أن يتوضأ الإنسان بعد أن يدخل في الصلاة. إنما يعني أن نبدأ الوضوء لحظة الاستعداد للصلاة، يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأداءها. وقوله الحق: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} يجعلنا في حالة انتباه وفراسة إيمانية ويقظة. ويلتفت كل منا إلى نفسه ويرقبها ويراقبها، وإلى أي اتجاه تسير، فلا يترك الإنسان نفسه تتجه إلى أي مكان موبوء أو فعل غير مستقيم. وكذلك ينتبه الإنسان إلى أصدقائه وأخلائه حتى نتناهى عن أي منكر فلا نقع أبداً في دائرة هذا الحكم {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} وساعة نسمع «لبئس» فلنعرف أن اللام إذا سبقت فهي للقسم، وحين يقسم الله فهذا تأكيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3327 للقضية، فهل هذا تأكيد على طريقتنا نحن البشر؟ . لا. فليس أحد منا كالله، ونحن في حياتنا نعرف الأدلة على الحق، إما إقرار، وإما شهادة، وإما قسم. والقاضي لا يحكم إلا بإقرار المتهم أو بشهادة الشهود، أو باليمين، وحين يأتي الحق بالحكم فهو يأتي به على معرفة الخلق. وعدم التناهي عن المنكر هو فعل وقول معا. وبما أن الحق لم يقل: لبئس ما كانوا يقولون، ذلك أن القول مقابل للفعل، وكلاهما أيضاً عمل، فالقول عمل جارحة اللسان، والفعل هو عمل الجوارح كلها، ويجمع القول والفعل وصف «العمل» . ونلحظ أن المسألة لا تقتصر على القول، إنما هي عمل قد نتج عن فعل. ولنر الحديث النبوي القائل: «من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان» . وقوله الحق: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} دليل على أنهم كانوا يفعلون المنكر والقبيح قولاً وعملاً. ويتابع الحق من بعد ذلك فيقول: {ترى كَثِيراً ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3328 ونلحظ الفارق بين أن يخبر الحق رسوله بأمور حدثت من قبل مثل قوله الحق: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 78] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3328 وبين الواقع الذي يجري في زمن رسول الله؛ فالخبر الأول هو خبر عن أمر صدر منهم مع من سبق من الرسل. لكن هناك أشياء يا رسول الله أنت تراها بنفسك، وهذا دليل على أن كفرهم لم يكن نزوة وانتهت، لا، بل كفرهم أصبح ملكة فيهم انطبعت عليها نفوسهم، كيف؟ نعلم أن الإسلام حينما جاء واجه معسكرات شتّى، وهذه المعسكرات كانت تفسد حركة الإنسان في الحياة، والحق سبحانه وتعالى خلق الكون مسخّراً للإنسان ويريد أن يظل الإنسان حارساً لصلاح الكون أو أن يزيد صلاح الكون وألا يسمح بتسرب الفاسد إلى الصالح. إن هذا هو مراد الحق من وجود منهج للإنسان. وهدف المنهج أن يحمي حركة الحياة كلها من الفساد وأن يزيد صلاحية الكون، فعملنا في الكون دائماً لصالحنا؛ ولا يوجد عمل يفعله مخلوق يأتي للحق سبحانه وتعالى بصفة زائدة على كمالاته - سبحانه -؛ لأن الحق له كمال الصفات، وهو الذي خلقنا وأوجدنا وأمدنا، وتكليفنا منه لم يزده سبحانه شيئا، فهو - سبحانه - مستغن بذاته عن جميع خلقه. جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذن - ليحارب معسكرات هي معسكر أهل الشرك في مكة، ومعسكر أهل الكتاب، وكان المفترض في أهل الكتاب أن لهم صلة بالسماء ولهم إلف بمناهج الرسل. وبعجزات الرسل وعندهم البشارة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كتبهم، ومعكسر المنافقين الذين ظهروا بعد أن قويت شوكة الإسلام، فأعلنوا الدخول في الإسلام وهم لم يؤمنوا بل أضمروا الكفر. وعندما نتوقف عند معكسر أهل الكتاب، كان من الطبيعي أن ينتظر منهم رسول الله أن يؤمنوا لأنه جاء بالمنهج الذي يقوي من صلة السماء بالأرض، لو كانوا صادقين وحريصين على تلك الصلة. وخصوصاً أنهم كثيراً ما تباهوا بمقدم النبي قبل أن تأتي الرسالة. وكانوا يقولون للأوس والخزرج: لقد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا، يأتي سنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. وفي ذلك جاء قول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3329 {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] . وقالت لهم كتبهم: إن النبي إنما يأتي في أرض ذات نخيل، وهذا ينطبق على مكان مبعثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن فقد عرفوا المكان، وعرفوا الصفات، وعرفوا الجبهات التي سيحارب فيها لأنه سبق لأنبيائهم أن حاربوا فيها. وعندما جاء محمد رسولاً من عند الله اهتزت سلطتهم الزمنية، وأرادوا أن يستبقوها بتحريفهم منهج السماء. وجاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمنهج الرباني ليعيد حركة الكون إلى الإيمان. ودخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة بينما كانوا ينسجون الإكليل كتاج لملك ينصبونه. هكذا أوقف رسول الله سلطتهم الزمنية ولم يعد لهم الجاه، ووحّد الأوس والخزرج، وكان اليهود يعيشون على الشقاق بينهما، ببيع الأسلحة والإقراض بالربا. ومع مجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تهدم بنيان سلطتهم؛ لذلك حاولوا أن يشجعوا خصوم رسول الله وهو ما زال في مكة ليهزموا الدين الجديد حتى لا يزحف الدين إلى المدينة ويهدر سلطانهم: وفي ذلك جاء القول الحق: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] . والثمن القليل هو الأبهة والرئاسة وسدة الحكم. وها هوذا كعب بن الأشرف كبير يهود وله ثراء ولسان، يخرج إلى قريش ليناقشهم في ضرورة وأد الدين الجديد والقضاء عليه. فقالت له قريش: إنك من أهل الكتاب. ولك صلة بالسماء. فيقول لهم: إنكم أهدى من محمد سبيلا!! كيف يصير المشركون عبدة الأصنام أهدى من محمد سبيلا؟ . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3330 وهكذا نرى قوله الحق: {ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} . لقد تحالفوا مع معكسر الشرك الذي كان بينهم وبينه خصومة حتى لا تتسرب السلطة من أيديهم. وتعاونوا مع الذين أشركوا لإيقاف زحف الدين الجديد. {ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80] . ويتولونهم أي ينصرونهم ويعينونهم ويدعون أنهم على حق، وكأن الدين الجديد على باطل. ويقسم الحق هنا أنه بئس ما زينت لهم النفس الأمارة بالسوء، لأنهم افتقدوا النفس اللوامة، وغلبت عليهم النفس الأمارة بالسوء. وتتابع الآية: «أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون» وينشأ عن السخط الابتعاد عن طريق الهداية. والبعد عن طريق الهداية يقود إلى العذاب الخالد. كأن الحق يوضح لهم: على فرض أنكم أخذتم متاعاً قليلاً في الحياة، ولكنكم أتيتم لأنفسكم بمتاعب أزلية تنتظركم في الآخرة. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3331 فلو كان عندهم إيمان بالله حقيقة وبالمنهج المنزل من الله، ما اتخذوا أهل الشرك أولياء، ولكن كثرة هؤلاء أهل فسق. ونلحظ أن الكثير فاسق، وهذا يعني أن القليل غير فاسق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3331 ويقول الحق بعد ذلك: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3332 الحق سبحانه وتعالى يُقْسم لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن واقع الحياة مع فرقتين كاليهود والنصارى سيتجلى واضحاً على الرغم من أن كل جانب منهما مخالف لرسول الله في ناحية، فمواجيد هؤلاء الناس وأهواؤهم مختلفة ولكنهم اتفقوا جميعاً في الهدف. فاليهود أشد عداوة لأنهم أخذوا سلطة زمنية جعلتهم السادة في المنطقة، أما النصارى فلم تكن لهم سيادة ولا سلطة زمنية وكانوا عاكفين في صوامعهم وبيعهم يعبدون الله. والجانب الذي ليس له سلطة زمنية لا يعادي من جاء ليسحب من أهل الجور سلطتهم الزمنية ويقيم العدل بين الناس. فما العلّة في ذلك؟ يقول الحق: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} . و «القسيسون» جمع قَس وهو المتفرغ للعلم الرباني. و «الرهبان» هم الذين تفرغوا للعبادة. فكأن القسيس مهمته أن يعلم العلم. والراهب مهمته أن ينفذ مطلوب العلم ويترهبن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3332 إننا نجد هنا أن الحق سبحانه وتعالى قد امتن بشيئين وبذلك جعلهم أقرب مودة للذين آمنوا، امتن سبحانه بأن منهم قسيسين يحافظون على علم الكتاب، وامتن بأن منهم رهباناً ينفذون مدلول المطلوب من العلم، وبذلك صاروا أقرب مودة للذين آمنوا إن ظلوا على هذا الوضع؛ لأن العلّة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً. وما دام قد عللها - سبحانه - بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون فذلك لأنهم لا يتطاولون إلى رئاسة وليس لهم تكبر أو ترفع؛ لأن طبيعة دينهم تعطيهم طاقة روحية كبرى حتى إنهم يقولون: «من ضرب على خدّك الأيمن فادر له خدّك الأيسر» . وهذا يعطيهم شحنة إيمانية نراها ناضحة عليهم. {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} وقد جاء واقع الكون مؤيداً لهذا، فمواقف اليهود من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معروفة حتى إنهم نزلت بهم الخسّة وتمكن منهم الحقد ودفعهم الغدر أن أرادوا أن يقلوا عليه حجراً ليقتلوه وحاولوا دسّ السّم له. وحين تجد إنساناً لا يجد طريقا إلى الخلاص من خصمه إلا بأن يقتله، فيمكنك أن تواجهه قائلاً: أنت لا تملك شجاعة تواجهه بها في حياته، ولو كنت تملك تلك الشجاعة ما فكرت في أن تقتله. وهذا دليل على أنه أضعف منه وليس أشجع منه، فلو كان قوياً لكان عليه أن يواجه هذا الخصم مواجهة في حركة حياته ولا يفكر في قتله؛ لأن الضعيف هو من يرى أن حياة الخصم ترهقه. لقد كان اليهود أهلاً لهذا الضعف في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونعلم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما جهر بدعوته اتبعه بعض الناس، ولكن هؤلاء المؤمنين الأوائل عانوا من اضطهاد أهلهم وذويهم. حتى إن البيت الواحد انقسم. مثال ذلك تجد أن أم حبيبة السيدة رملة وهي بنت أبي سفيان تؤمن بينما والدها شيخ الكفرة آنذاك، وتذهب أم حبيبة مع زوجها إلى الحبشة ويحرص سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على هذه الخلايا الإيمانية لأنه يعلم أنها ستفرخ الإيمان بعد ذلك. وبتلك الهجرة إلى الحبشة أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحمي بذور الإيمان لتكون هي مركز انتشار الإيمان من بعد ذلك؛ لأنهم سوف يؤدون مهمة إيمانية، والشجاعة - كما نعلم - تقتضي الحرص. وشاعرنا أحمد شوقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3333 قال في إحدى مقطوعاته النثرية التي سمّاها «أسواق الذهب» : ربما تقتضيك الشجاعة، أن تجبن ساعة؟ وهذه الشجاعة لا تكون على العدو فقط ولكنها تكون شجاعة في مواجهة النفس، مثال ذلك: لو أن جماعة من الأقوياء كانوا جالسين معاً في جلسة سمر، ثم دخل عليهم صعلوك يحمل مسدساً، وقام بتوجيه السباب لكل منهم، هنا يتحايل عليه هؤلاء إلى أن يتمكنوا منه ليعاقبوه. إذن فالشجاعة تقتضي أن يجبن الإنسان لحظة إلى أن يتمكن من الخصم. وهذه هي الكياسة والحيلة، فالإيمان ليس انتحاراً، بل يقتضي الإيمان ألا يدخل المؤمن معركة إلا وعنده حسبان في الكسب. وها هوذا حضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسمي خالد بن الوليد «سيف الله المسلول» في معركة لم ينتصر فيها خالد، ولكنه انتصر انتصاراً سلبياً بأن عرف كيف يسحب الجيش، فالأَمرُ بسحب الجيش يحتاج إلى قوة أكثر مما يحتاج إليه النصر. فالمنتصر تكون الريح معه. أما المهزوم فتكون الريح ضده. ونجد القرآن الكريم يقول: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} [الأنفال: 16] . إذن فالمناورة والكيد من المهارة القتالية لأنها تتيح من بعد ذلك القدرة على مواجهة العدو. وينير النور الإلهي بصيرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيستعرض الأرض كلها حتى يختار مكاناً آمنا يذهب إليه هؤلاء المؤمنون، فيختار الحبشة. لم يشأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يأمرهم بالذهاب إلى أي قبيلة من القبائل، لأنه يعلم أن كل قبائل الجزيرة تخشى قريشاً، فموسم الحج جامع للقبائل تحت سيادة قريش. ومن يقف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3334 ضد إرادة قريش فسيتعرض للمتاعب، وعلى ذلك لن يأمن رسول الله على خلايا الإيمان أن يذهبوا إلى أي قبيلة. واستقرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأرض كلها، واختار الحبشة؟ لماذا؟ ها هي ذي كلمات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باقية إلى زماننا: «إن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد فأقيموا ببلاده حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم به» . وفي حديث الزهري: لما كثر المسلمون، وظهر تعذيب الكفار - قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تفرقوا في أرض الله فإن الله سيجمعكم، قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: إلى ها هنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة» . وتسللوا في جنح الليل إلى الطريق متجهين إلى الحبشة. وعندما علمت قريش بالخبر حاولت أن تقطع عليهم الطريق لتعيدهم إلى مكة لتواصل الحملة عليهم والتنكيل بهم لصدهم عن الإسلام. ولكن الحق أراد أمراً مختلفاً وكان الطريق سهلاً، ووصلوا إلى الحبشة، وأنجاهم الله من كيد الكافرين. كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يملك - بما علمه له ربه - الخبرة الكاملة بالرقعة الأرضية ويعرف من يظلم من الحكام ومن لا يظلم. وصدق رسول الله في فراسته الإيمانية، فحينما ذهب المؤمنون المهاجرون إلى الحبشة وجدوا أنهم دخلوا دار أمن، أمنوا فيها على دينهم. وجن جنون قريش وأرادوا استرداد هؤلاء القوم من النجاشي ملك الحبشة فأرسلوا صناديدهم ومعهم الهدايا والتحف لملك الحبشة. سافر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وعمارة بن الوليد بن المغيرة. وطلب وفد قريش من النجاشي أن يسلمهم هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة، وحاولوا الدس للمهاجرين عند النجاشي، فاتهموا المسلمين المهاجرين أنهم قوم تركوا دين الآباء واعتنقوا ديناً جديداً يعادي الأديان كلها. ويقولون في عيسى بن مريم قولاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3335 لا يليق به أو بأمه. ورفض النجاشي أن يصدق حرفاً واحداً، وطلب أن يسمع من هؤلاء المهاجرين. فتقدم جعفر بن أبي طالب وقال: «أيها الملك كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقدف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله وحده لا نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان وترك عبادة الله تعالى وأن نستحل ما كنا عليه من الخبائث، فلما قهرونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، وآثرناك على من سواك، ورجونا ألا نظلم عندك» . وثبت للنجاشي أن المسيح بشهادة القرآن نبي نقي طاهر العرض. وهكذا لم يستمع إلى وشاية وفد قريش. وامتلأ قلب النجاشي بالإيمان ولم يستكبر مع أنه ملك ووقف أمام محاولات قريش للنيل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وعندما سمع ما نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من سورة مريم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. وعرف رسول الله أن الإيمان قد خامر قلب النجاشي، بدليل أن أم حبيبة بنت أبي سفيان عندما هاجرت مع زوجها إلى الحبشة وتنصر الزوج لكنها بقيت على دينها على الرغم من أنّها كانت تحبه خالص الحب، وهنا انفصلت أم حبيبة عن زوجها وذلك حتى يثبت الحق أن - هجرتها - كانت لله. وأراد الله على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكرمها وأن يكرم النجاشي على موقفه من عدم تسليم المؤمنين إلى وفد قريش وموقفه من أنه شهد للإسلام بأنه يخرج الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3336 من نفس المشكاة التي خرج منها إنجيل عيسى عليه السلام، لذلك يجعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولي نكاحه لأم حبيبة؛ لأنه مأمون على ما عَرَف من الإنجيل، ومأمون على ما سمع من القرآن في مريم، ومأمون على أنه لم يسلم المهاجرين؛ لذلك اختاره وكيلاً عنه في زواجه من أم حبيبة بعد أن تنصر زوجها، وتلك حادثة واحدة أضاءت أكثر من موقف: موقف أم حبيبة التي أثبتت أنها لم تذهب إلى الهجرة تبعاً لزوجها، فلو تبعت زوجها لتنصرّت كما تنصر. وأضاءت أن رسول الله كان لا ينطق عن الهوى حين قال مسبقاً عن النجاشي: إنه لا يظلم عنده أحد. وعندما يبلغ الرسول نبأ وفاة النجاشي فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي عليه صلاة الغائب. {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] . وهذا امتنان من الله بأن جعل منهم القسيسين الذي يعلمون وهذا تكريم للعلم والرهبان الذين ينفذون منطوقات العلم. إذن فلنعلم أننا يجب أن نفرق بين العَالِم الذي قد يُكتفى بأخذ العلم عنه إن لم يكن يعمل به، وأن نحترم الذين يعبدون الله تطبيقاً للعلم بالله ونترك هؤلاء الذين لا يعملون بعلمهم لينالوا جزاءهم، ولكن علينا أن نأخذ بعلمهم ونعمل به. فخذ بعلمي ولا تركن إلى عملي ... واجنِ الثمار وخلِّ العود للنار ونجد أن قوله الحق: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} حيثية تجعلهم أقرب مودّة للمسلمين. فهل الرهبانية ممدوحة عند الله؟ وإذا كانت ممدوحة عند الله فلماذا قال سبحانه: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل وَجَعَلْنَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3337 فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] . هو سبحانه يحدثنا عن موكب الرسل إلى أن وصل إلى عيسى عليه السلام وما جاء به من الإنجيل وكيف أودع في قلوب الذين اتبعوه شفقة شديدة ورقة وعطفاً وابتدعوا الرهبانية زيادة منهم في العبادة ولم يفرضها الله عليهم، لكنهم التزموها ابتغاء رضوان الله؛ لكن منهم من حافظ عليها والكثير منهم فسق عنها. وسبحانه حين يفرض أمراً تعبدياً فعلى المؤمن أن يؤديه. ويزيد ثواب المؤمن إن ترقى في التعبديات. لكن إن ترقى الإنسان في التعبد فعليه أن يعطي هذا الترقي حقه لأنّه ألزم به نفسه أمام الله. إذن فالمأخوذ عليهم ليس ابتدع الرهبانية، ولكن عدم رعاية بعضهم لها حق الرعاية. {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} إذن فمنهم من يرصد حياته للعلم، ومنهم النموذج التطبيقي العملي وهم الرهبان، وليس فيهم الاستكبار أو العلو، وما دام فيهم ذلك فهذا يعني أنهم لا يطلبون السلطة الزمنية. وسيظلون أقرب إلينا مودة ما دامت فيهم هذه الحيثية. فإن تخلوْا عن واحدة منها وأصابوا سلطة زمنية فهذا يعني أنهم تخلوْا عن الصفة التي حكم الله لهم بسببها بأنهم أقرب مودة. وإن تمسكوا بها على العين والرأس. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ ... َ} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3338 هذه دقة الأداء القرآني الذي جاء من قبل أن يجهد المفكرون أنفسهم في دراسة ظواهر وأحوال النفس البشرية في مجال علم النفس بالبحث والاستقراء والتجارب، وأثر ذلك في وظائف الأعضاء. لقد قال العلم: إن لكل آلة وظيفة، فالعين ترى، والأذن تسمع، واللسان يتذوق ويتكلم، والأنف يشم، واليد تلمس، وقال العلماء في البداية: إن هذه هي الحواس الخمس الظاهرة، وكلمة «الظاهرة» هذه إنما جاءت للاحتياط؛ لأن هناك أموراً يشعر بها الإنسان ولكن لا يدرك كيفية ولا مصدر شعوره بها مثل الجوع أو العطش، أو في أثناء المقارنة بين شيئين أيهما أكثر ثقلاً. لقد حاول العلماء إدراك كيفية تمييز الإنسان بين ثقل وثقل آخر، فقالوا: إن هناك حاسة اسمها حاسة العضل، فعندما يحمل الإنسان شيئاً ما فإنه يجهد العضلات لدرجة تمكنه من التمييز بين درجات الجهد. وعرفوا أيضاً أن هناك حاسة اسمها حاسة البين، وهي الحاسة التي يميز بها الإنسان درجة نعومة أو سمك أي نوع من القماش حتى ولو كان السمك يبلغ الواحد من العشرة من المللميتر. إذن فهناك حواس كثيرة يمكن للإنسان الإدراك بها، وهناك حواس تترك بعضاً من الأثر في النفس البشرية كآثار الحب والميل أو البغض والنفرة، ومقرها الوجدان. كإدراك حلاوة طعم شيء أو كراهة شيء آخر، فإذا استطاب الإنسان شيئاً أخذ منه مرة ثانية، وهذا العمل هو نزوع يتبع الوجدان الذي يتبع الإدراك. إذن فهناك إدراك يدرك. وهناك وجدان يجد، وهناك نزوع ينزع. مثال ذلك إدراك وردة جميلة المنظر واللون في بستان هذا الإدراك قد يصيب من القلب عشقاً وحباً؛ أي وجداناً، وأنت حر في أن تدرك ما شئت، وأن تجد ما شئت، لكن ليس لك أن تمد يدك لتقطف الوردة؛ لأن الشرع يحرم ذلك. وحارس البستان أيضاً يمنعك من ذلك. هذا على الرغم من أن أحداً لا يمنعك من أن تنظر إلى الوردة وتستمتع بجمالها. فالإدراك - إذن - مباح، والوجدان أمر مباح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3339 أما النزوع فهذا هو الأمر الذي تتدخل فيه الشريعة، ولنا أن نكرر أن الإدراك مباح والوجدان مباح إلا في إدراك جمال الأنوثة، فالشرع يتدخل من البداية. فأنت قد تدرك جمال المرأة فتجد في نفسك حباً وميلاً، فإذا نوعت فكيف يمكنك أن تضبط نفسك؟ فأنت بعد الإدراك والوجدان إما أن تنزع وإما أن تكبت. وإن نزعت انتهكت أعراض الناس، وإن كبت، أصابك القهر والألم؛ لذلك يتدخل الشرع في هذه المسألة من بدايتها فيمنعك تحريماً من أن تدرك، وذلك بأمر واضح وهو غض البصر؛ لأن المسألة الجنسية من الصعب أن تفصلها عن بعضها، فالإدراك يمكن فصله عن الوجدان، والنزوع يمكن فصله عن الوجدان والإدراك في أمر الوردة. أما في المسألة الجنسية فهي سعار. . إما أن يقابله الإنسان بأن يعف وإما أن يلغ. فإن عف الإنسان فهو يكبت ويتوتر، وإن ولغ الإنسان في أعراض الناس فهذا أمر يسبب هتك أعراض الناس. ولذلك يمنع الشرع من البداية مسألة الإدراك. وقد جاءت هذه الآية الكريمة قبل أن يأتي علماء لنفس ليفسروا أمور الإدراك والوجدان والنزوع، فها هوذا الحق يقول: {وَإِذَا سَمِعُواْ} وهذا إدراك بحاسة الأذن. وما المسموع، يجيب القرآن: {مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول} . وهذا هو سبب الوجدان الذي يأتي في قوله: {ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} . فكيف يكون نزوعهم بعد هذا الوجدان؟ إنهم: {يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين} ، وهذه هي العملية النزوعية. والقرآن الذي نزل من أربعة عشر قرناً، جاء بترتيب الإدراك والوجدان والنزوع قبل أن يأتي به العلم. فساعة سمعوا بالأذن، حدث شيء في الوجدان، والتغير الذي في الوجدان له علامات ظهرت في عيونهم التّي فاضت بالدمع. وهنا نميز بين أمرين: الأول هو اغروراق العين بالدمع، أي أن تمتلئ العين بالدمع لكن لم تصل درجة التأثر إلى أن تسقط الدموع من العين، ويقال: «اغرورقت عين فلان» أي امتلأت عينه بالدموع ولكنها لم تسقط. والثاني وهو فيض الدموع من العين، والفيض لا يكون إلا نتيجة امتلاء الظرف بالمظروف، فكأن الدمع قد ملأها امتلاء، تماماً مثلما نملأ إناء أو كوباً إلى النهاية فيزيد ويفيض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3340 إذن كان سبب كل ذلك أنهم عرفوا أن القرآن من الحق. ونلحظ أن: «مِنْ» تتكرر في الأداء هنا. {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} . ف «من» تسبق من الدمع. و «من» مدغومة في «ما» فصاروا معاً «مما و» مِن «تسبق الحق. {تَفِيضُ مِنَ الدمع} ف» مِن «هنا هي:» مِن «الابتدائية. و» مما عرفوا «هنا» مِن «السببية أي بسبب أنهم عرفوا أن هذا القرآن منزل من الحق سبحانه. و» من الحق «للتبعيض، أي عرفوا بعضاً من الحق؛ لأنهم لم يسمعوا كل القرآن. إذن جاءت» مِنْ «ثلاث مرات، وكل مرة لها مجال لتؤدي إلى المجموع البياني الذي يصف المظاهر الثلاثة للإدراك والوجدان والنزوع. وهذه المراتب هي مظاهر الشعور التي انتهى إليها العالم التجريبي حين أراد أن يتعرف إلى وظائف الأعضاء ومدى تغلغلها إدراكاً ووجداناً ونزوعاً. والنزوع هو الذي يهمنا هنا، لقد قالوا: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} والإيمان امر يعود إليهم. أما الكتابة مع الشاهدين فهي أمر يعود على الآخرين، فكأن المؤمن ينال حظاً عالياً، إنه يؤمن لذاته، ثم من بعد ذلك يكون وعاءً ولساناً يبلغ منهج الإيمان إلى غيره لأنه لا يكون شاهداً إلا إذا كانت شهادته امتداداً لشهادة الرسول وهذا مصداق لقوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] . أي إنكم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجت للناس لا حسباً ولا نسباً ولكن اتباعاً لمنهج، ومن يتبع المنهج ب «افعل» و «لا تفعل» فهو الذي يطبق عملية الإيمان بالله. ومن أهل الكتاب من يؤمن بالله فيصير مسلماً، ولكن الكثير منهم يخرج عن حدود الإيمان. وهناك آية أخرى يقول فيها الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3341 {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143] . إذن فالأمة التي تتبع منهج الإسلام - وهو منهج الاعتدال - هي الأمة المهتدية التي تسير إلى العمل الصالح الصحيح وتعمل به وتطبقه؛ لأنه المنهج الذي ينسخ ما قبله ويصححه، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو المهيمن على كل من سبقه من الرسل، وحياته وما جاء فيها من سلوك هو سنة إيمانية تهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم. وجاءت في هذه الآية مسألة تحويل القبلة لتعلم المسلمين أن الأمر الأول بالاتجاه إلى بيت المقدس كان اختباراً ينجح فيه من يذعن لصاحب كل أمر وهو الله، وكان ذلك من الأمور الشاقة إلا على من وفقه الله إلى الهداية، ثم جاء من بعد ذلك الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة وهي أول بيت وضعه الله للناس. إذن فمادمنا شهداء، وما دام الرسول شهيداً علينا، فالرسول إنما يشهد أننا بلغنا وننال منزلتين: منزلة تلقى البلاغ عن الرسول، ومنزلة الإبلاغ من بعد ذلك إلى غيرنا من الناس. والمؤمن لا يكون شهيداً إلا إذا كانت شهادته امتداداً لشهادة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. هذه الشهادة التي جاء بها الحق في وصف أمة المؤمنين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] . فأنتم يا أمة محمد أفضل أمة أخرجها الله للناس بشرط أن تتبعوا المنهج ب «افعل» و «لا تفعل» . تأمرون بالطاعات وتنهون عن كل ما نهى عنه الدين، وبذلك تكونون قد طبقتم المنهج الدال على صدق إيمانكم بالله إيماناً صحيحاً صادقاً. ولو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3342 صدق أهل الكتاب مثلكم في إيمانكم، لكان خيراً لهم مما هم عليه. لكنّ بعضاً منهم يدير أمر الإيمان في قلبه، والكثير منهم يخرج ويفسق عن مقتضى الإيمان. إذن فهم عندما قالوا: {آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين} ، فذلك إقرار بأن الإيمان كان إيمان ذات وإيمان بلاغ إلى الغير. وهم بذلك قد دخلوا الإسلام وصاروا من أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وها هوذا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» . وها هوذا الحق يحدد لنا قيمة الكلمة الطيبة المبلغة عن الله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24 - 25] . إن الكلمة الطيبة هي شجرة لها من الثمار ما ينفع الناس وتظل بظلها الحنون سامعها، ولها أصل ضارب الجذور في الأرض. ولها فروع تعلو إلى اتجاه السماء. وتعطي الثمار في كل زمن بإرادة خالقها. وهذا المعنى المحسوس مادياً يضربه الله كمثل للناس حتى يعرفوا قيمة المعاني السامية. إذن سيظل صاحب قوله الحق في بلاغ منهج الإيمان إلى الناس يقطف ثمار هذه الكلمة ما بقي إنسان مؤمن إلى أن نلقى الله. {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} والشاهد هو المبلغ. وعندما يطلب مؤمن من الله أن يكتبه مع الشاهدين فهو يطلب لنفسه المكانة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فالشهيد ليس هو من قتل فقط، إنما الشهيد هو من يعطي شهادته. والشهيد في معركة إيمانية تفقه حياته هو إنسان أعطى شهادة على أن ما ذهب إليه إثمن من حياته كلها. وهو في ذلك يعطي شهادة علمية. ومن بعد ذلك يقول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3343 {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3344 عندما يأتي التعجب هنا فهذا معناه أن الإنسان يحب أن يعلم أن إيمانه بالله مسألة تعطينا الخير لأنفسنا. فحين نؤمن بالله يقابلنا الحق بفيض الكرم من اطمئنان وخير وعطاء. فإياكم أيها الناس أن تعتقدوا أن الإيمان جاء ليحجب حرياتكم أو أنه يمنع عنكم اشتهاء الأشياء. ولكن الإيمان جاء ليعلي الحرية، ويعلي الشهوة فلا يأخذها الإنسان عابرة تنتهي بانتهاء الدنيا ولكن ليأخذها الإنسان خالدة ما بقيت السموات والأرض. إذن فالدين إنما جاء بالنفعية العاقلة؛ لأن العاقل إنما يأخذ على مقدار عمره من نفع يسير ولا يضر أحداً، وإن كان يضر النفس أو الغير فالدين يأمر بترك هذا النفع، ذلك أن النفع إما أن يفوت الإنسان أو يفوته الإنسان. والذكي هو من يؤثر نفع غيره على نفع نفسه. مثال ذلك أن يأتيك سائل يسألك الطعام لأنه لم يأكل منذ يومين، ولا يكون في جيبك إلا جنيه واحد فتعطيه له، إنك بذلك تؤثره على نفسك، فتكون ضمن من قال فيهم الحق سبحانه: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} [الحشر: 9] . وبمثل هذا السلوك يكون الإنسان قد اقتدى بالأنصار الذين استضافوا المهاجرين وخلصوا الإيمان فأحبوا أهله، ولا يجدون حقداً أو حسداً فيما خُصّ به المهاجرون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3344 من مال الفيء وغيره، وكان جل همهم أن يسعد المهاجرون وقد سبق أن آثروهم بأشياء كانت لهم وارتضوا لأنفسهم عدم البخل، فوقاهم الله شر البخل فكانوا من الفائزين. والمتصدق بجنيه إنما يأخذ من الله عشرة أمثاله، وهذه نفعية كبرى. وعندما أمرنا الشرع بغض البصر عن محارم الغير، والمنفذ لذلك يحفظه الله ويغض الجميع عيونهم عن محارمه، أليست هذه نفعية؟ إذن فمن الحمق أن يظن إنسان أن الدين يقيد الحرية، لأن الدين إنما يعلي الحرية وينميها، وينمي الانتفاع عند المؤمن بأن يحول بينه وبين النفعية الحمقاء. ودائماً أضرب هذه المثل: لنفترض أن رجلاً له ولدان؛ الأول منهما يستيقظ صباحاً من النوم فيفعل مثلما علمه أبوه: يتوضأ ويصلي ويتجه إلى دراسته بعد أن يتناول إفطاره، أما الابن الثاني فلا يستيقظ إلا بصعوبة ويظل يتناوم إلى أن يأتي الضحى ثم يخرج من المنزل إلى المقهى. إن كلاً من الولدين أراد النفع لنفسه، الأول أراد النفع الآجل، والثاني أراد النفع العاجل، وبعد أن تمر عشر سنوات يتخرج الابن الأول ليكون مفلحاً وناجحاً في الحياة، ولكن الابن الثاني يظل صعلوكاً فاشلاً، إذن فكلاهما نظر إلى النفعية ولكن المنظار مختلف. وإياكم أن تفهموا أن هناك إنساناً لا يحب نفسه، لا. كلنا نحب أنفسنا. ولكن هناك من يحب نفسه حباً يعطي لها طول البقاء، فيجد ويجاهد، وقد يكون شهيداً، وآخر أحب نفسه بضيق أفق فحافظ على حياته بالجبن وهو قد مات ألف مرة في أثناء هذا الجبن، وفقد كرامته حرصاً على حياة لن يزيد في مقدارها يوماً واحداً. والمتنبي يقول: أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صبا فحب الجبان النفس أورده التُّقَى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا ولذلك فالمتأمل بعمق في أمر الدين يقول لنفسه: «ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق» ، والمؤمن يرى أنه من العجيب ألا يؤمن لأنه يطمح إلى مكانة المؤمن. «ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين» إذن فالمؤمن يطلب مكانة الإنسان الصالح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3345 ويقول الحق من بعد ذلك: {فَأَثَابَهُمُ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3346 إنها كلمة الحق التي تقال في كل مكان وزمان. قالها نجاشي الحبشة وله سلطان لأهل الجاه من قريش الذين استبد بهم باطلهم؛ لذلك كان لهذه الكلمة وزنها، فعندما سمع ما نزل من القرآن من سورة مريم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. إذن فهي كلمة حق لها وزن، والله سبحانه وتعالى يجزل العطاء لكل من ساند الحق ولو بكلمة فهو سبحانه (الشكور) الذي يعطي على القليل الكثير، و (المحسن) الذي يضاعف الجزاء للمحسنين. ولنا أن نعرف أن للقول أهمية كبرى لأنه يرتبط من بعد ذلك بالسلوك. وكان قول النجاشي عظيماً، لكن العمر قد قصر به عن استمرار العمل بما قال. فقد قال كلمته وجاءه التوكيل من رسول الله ليعقد للرسول على أم حبيبة بنت أبي سفيان فقعد عليها وكيلاً عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأمرها من ماله ثم مات، ولم تكن أحكام الإسْلام قد وصلت إليه ليطبقها؛ لذلك كان يكفيه أنه قال هذا القول، ولذلك صلى عليه النبي صلاة الغائب. وهناك قصة «مخيريق» اليهودي. لقد تشرب قلبه الإسلام وامتلأ به وكان في غاية الثراء فقال لليهود: كل مالي لمحمد وسأخرج لأحارب معه. وخرج إلى القتال مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقتل فمات شهيداً، وهو لم يكن قد صلى في حياته كلها ركعة واحدة. إذن مجرد القول هو فتح لمجال الفعل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3346 {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} والحق يريد أن يؤكد لنا أن كل حركة إيمانية حتى ولو كانت قولاً إنما تأخذ كمالها من عمرها. ونعلم أن الإيمان في مكة كان هو الإيمان بالقول. ذلك أن الناس آمنت ولم تكن الأحكام قد نزلت، فغالبية الأحكام نزلت في المدينة. وعلى ذلك أثاب الله المؤمنين لمجرد أنهم قالوا كلمة الإيمان، حدث ذلك ولم يكن قد جاء من الحق الأمر بالبلاغ الشامل وهو قوله الحق: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] . فهؤلاء قد جزاهم الله حسن الثواب وسمّاهم «محسنين» وكذلك فعل النجاشي، فقد ذهب إلى الإيمان دون أن توجه له دعوة وكان ذلك قبل أن يكتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الدعوة للملوك ليؤمنوا، وعلى هذا فالنجاشي محسن؛ لأنه قفز إلى الإيمان قبل أن يطلب منه. وساعة يتكلم الحق عن منزلة من منازل الإيمان فهو أيضاً يتعرض للمقابل، وذلك لتبلغ العظة مراميها الكاملة. فإذا تحدث عن أهل الجنة فهو يعقبها بحديث عن أهل النار، وإذا تحدث عن أهل النار فهو يعقبها بحديث عن أهل الجنة؛ لأن النفس الإنسانية تكون مستعدة للشيء ومقابله. ويقول الحق من بعد ذلك: {والذين كَفَرُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3347 ونعرف أن كلمة «صاحب» وكلمة «صحبة» وكلمة «أصحاب» ، هذه الكلمات تدل على الملازمة، والملازمة في الحياة تكون اختيارية لا قهرية؛ فلا أحد يصاحب أحداً بالقهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3347 ونفهم من قوله: {أَصْحَابُ الجحيم} أن هذا يعني العشق المتبادل بين النار وأهلها، وليس هذا مرادا، فهو إما أن يكون على سبيل السخرية والاستهزاء بهم، وإما أن يكون المراد هو الملازمة التامة والمصاحبة الدائمة التي لا تنفك ولا تنهى. وبعد أن تكلم الحق عن المشركين وتكلم عن اليهود وتكلم عن النصارى. فهو يتكلم عن المؤمنين، إنه ينفض أذهاننا أولا ليزيل عنها ما علق بها من أمر المخالفين ومناهجهم، ويأتي لنا من بعد ذلك بالأحكام، وقد فعل ذلك في هذه السورة التي تبدأ بآية العقود: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] . وعقد الإيمان هو ما يرتفع ويسمو على ما يقوله المشركون ويخرج عما يقوله اليهود والنصارى. ومن بعد ذلك نلاحظ أن الحق بعد أن تكلم عن ضرورة الوفاء بالعقود، فهو يلزم المؤمنين بالمنهج الذي يحمي حركة الحياة. وحركة الحياة يتم استبقاؤها أولاً بالطعام والشراب. لذلك قال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} [المائدة: 1] . ومن بعد استبقاء حركة الحياة بالطعام والشراب، ها هوذا يقول: {حُرِّمَتْ} . وهنا لنا وقفة، فعندما يحلل الله شيئاً من أجناس الوجود؛ وحينما يحرم شيئاً آخر من أجناس الوجود فللسائل أن يسأل بعقلانية ويقول: ما دام الحق قد حرم هذه الأشياء فلماذا أوجدها؟ ونعلم في حياتنا العادية أن كل صانع إنما يحدد خصائص لصنعته. ومثال ذلك صانع الطائرة يصمم طائرته ويحدد الوقود اللازم لها، ولا يمكن أن تسير بوقود سيارة، فإذا كانت الآلات التي من صنع البشر تفسد إن استخدمنا لها ما لا يناسبها. فكيف إذن نقول لصانعنا: لماذا خلقت الأشياء التي لا تناسبنا؟ لا بد أن لها مهمة في الكون واستخداماً آخر يجعلها تنتج الأشياء المفيدة لنا. مثال ذلك سمّ الحية، إنه يقتل الإنسان، ولكن الله ألهم الإنسان القدرة على استخراج السّم من الحيّة لقتل بعض الميكروبات. إذن فالعالم قد خلقه الله بتركيب معين. ومثال ذلك نجد التمساح وهو راقد على الشاطئ والطيور تلتقط من فمه بعضاً من غذائها ولا يؤذيها؛ لأن هذه الطيور هي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3348 التي تنبه التمساح إذا جاء صياد ليقتنصه، فالطيور تحرص على مصدر قوتها وتحافظ على حياة التمساح، والكهرباء نستخدمها في مجالها، أما في عكس مجالها فهي تصعق وتدمر. إذن فليس للإنسان أن يسأل لماذا حرم الله أشياء على الإنسان؟ لأن لتلك الأشياء دورة في الحياة. ولا يصح أن ننقل الوسيلة لتكون غاية. والحق أراد بالحلال والحرام أن ينتفع الإنسان بالصلح له. مثال ذلك أن حرم الله أكل لحم الخنزير. والخنزير إنما وُجد ليأكل ميكروبات. إذن فليس للإنسان أن يُحَوَّل الوسيلة إلى غاية. ويعطي الحق كل يوم للإسلام قوة تأييد تأتيه من خصوم الإسلام. ومثال ذلك: إننا نجد أن الأمراض تنتشر بنسب عالية في الأمم التي تستهلك لحم الخنزير، وتشرب الخمر، وهناك مرض اسمه «تشمع الكبد» ينتشر في تلك البلدان، فهل كنا نؤخر تنفيذ أمر الله إلى أن تنشأ المعامل وتقول لنا نتائج أكل الخنزير؟ أو كان يكفي أن نحرم على أنفسنا ما حرم الله؟ إن علينا أن ننفذ أوامر الله صيانة لنا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53] . وكل يوم تظهر لنا آية تؤكد صدق إيماننا بالله؛ لذلك فلا يقولن أحد: لماذا خلق الله تلك الأشياء المحرمة؟ لقد خلقها الله وسيلة لا غاية. ومثال ذلك أن خلق الله لنا البترول لنستخرج منه الوقود؛ فهل أحد منا يقدر على شرب البترول؟! إذن فالتحليل والتحريم لصالح الإنسان. فإن خرج الإنسان عن ذلك فلا يلومن إلا نفسه. ولذلك يقول الحق: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} [يونس: 59] . كأن الحق يستنكر أن نصنع من حلال ما خلق أشياء محرمة. وأن نحرم أشياء حللها الله. كترك البحيرة والسائبة والوصيلة؛ وكلها أرزاق من الله. هو سبحانه خالق كل الأشياء وهو الذي يحدد نفعها وعدم نفعها للإنسان. والبحيرة هي الناقة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3349 التي كانوا يشقون أذنها حتى لا يتعرض لها أحد بعد أن تكون قد نتجت خمسة أبطن آخرها ذكر، وكانوا يطلقونها في المراعي لا تُركب ولا تُحلب ولا يُمنع عنها مرعى أو ماء. وكانوا يقولون إنها للآلهة. وعندما نستكشف آفاق من يستفيد منها، كنا نجد الكهنة هم الذين يستفيدون منها. وكذلك السائبة وكانوا يتركونها تطوعاً لا يركبها أحد ولا يحلبها أحد وكان المستفيد منها الكهنة أيضاً. وكذلك الوصيلة وهي الأنثى التي جاءت في بطن واحد مع ذكر وقالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وكذلك كانوا يطلقون الفحل الذي نتج من صلبه عشرة أبطن وقالوا قد حمى ظهره فلا يركب، ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى، والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أنا لم أحرم هذه الأشياء فلماذا تحرمونها؟ هو سبحانه قد حرم الميتة والدم لأنه هو الذي حدد وبيّن ما هو حلال وما هو حرام. وسبحانه الذي يرزق الرزق فيكون مرة رزقاً مباشراً ومرة يكون رزقا غير مباشر. ولذلك جاء الحق بالقول الكريم: {ياأيها الذين ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3350 إذن فأمر التحريم موكول إلى خالق الآله الإنسانية، وأمر التحليل موكول إلى خالق الآله الإنسانية. وأنت أيها الإنسان لا تتدخل في ذلك أبداً. لأن تدخل الإنسان يكون أحياناً بتحريم ما أحل الله، وأحياناً يكون تدخل الإنسان بتحليل ما حرم الله. إياك أيها الإنسان أن تحرم ما أحل الله لك، وإياك أن تحلل ما حرم الله عليك. ونحن هنا أمام مراحل عدة، لا تعتقد أن هناك أمراً حلله الله هو حرام، ولا تقل إن هناك أمراً حلله الله هو حرام، ولا تمتنع عن أمر حلله الله ظناً أنه حرام، ولا تُفْتِ بأمر حلله الله على أنه حرام، ولا تجعل أمراً حلله الله فتحرمهَ على نفسك، فلا ينذر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3350 أحد ألا يأكل لحم الضأن أو البرتقال - على سبيل المثال - لأن النذر في ذلك ليس حلالاً، لأن تحريم الأشياء المحللة بالنذر هو أمر محرم. ولذلك علمنا الحق قائلاً لرسوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1] . لا بد لنا أن نعى ذلك الأمر وأن نعرف مراحله: لا تعتقد، لا تقل، لا تمتنع، لا تُفْتِ، لا تنذر، لماذا؟ لأن في ذلك اعتداء. يقول الحق تبارك وتعالى: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} [المائدة: 87] . وما الاعتداء؟ إنه تجاوز الحد فيما حرم الله أو فيما حلل الله. أي أن الله يحب من يقف عند الحدود. وهو سبحانه يقول مرة: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] . ومرة يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] . فهي المنهيات: لا تقترب. وفي ما أحله الله: لا تتعدَّ؛ لذلك جاء القول على لسان الرسول الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الحلال بين والحرام بين وبينهما مُشْتَبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المُشْتَبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه؛ ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3351 إذن فكل كائن له مميزات وله مهمة في الوجود. وأنت أيها الإنسان لا تقلب الوسيلة إلى غاية، فهناك كثير من المخلوقات هي وسائل ولا تصلح أن تكون غايات؛ ولذلك أمرنا الحق بأن نأخذ ما ننتفع به مباشرة وأن نترك الأشياء التي حرمها علينا؛ فلا نقرب - على سبيل المثال - لحم الخنزير؛ لأن الخنزير مخلوق ليخلصك من الميكروبات، فإن أكلته تكون قد قلبت الوسيلة إلى غاية. وعليك أيها الإنسان أن تحتفظ بالوسيلة كوسيلة وأن تحتفظ بالغاية كغاية. والذي يحدد لك ذلك هو من صنعك. . إنه الله. ودليل ذلك أن خصوم الإسلام يكتشفون كل يوم المميزات التي جاء بها الإسلام فيتجهون إليها. إن الله بتحريمه وبإيماننا بهذا التحريم منعنا من متاعب التجربة إلى أن تثبت، والكفار الذين لم يأمنوا اضطرتهم الظروف إلى تناوله، وعلى ذلك فكل شيء محلل أو محرم بأوامر الله يظهر لنا فائدته أو ضرره طبقاً لقول الحق سبحانه وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] . إذن فلا اعتقاد في شيء حلال أنه حرام ولا قول بمثل ذلك ولا امتناع عنه ولا يفتي إنسان بمثل ذلك. ويأتي الأمر: {وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} . ونعرف أن الاعتداء إنما هو أن نتجاوز الحد فيما حرم أو فيما حلل، والحق سبحانه يحب من يقف عند حدود الله. فلا يقربها الإنسان حتى لا تحدثه نفسه بمعصية. وعندما يبتعد المسلم عنها فهو يتقي الشبهات. والحق يبين لنا قد أحللت لكم كذا وحرمت عليكم كذا وهو الخالق. فيجب أن نأخذ من الخالق مواصفات ما يبقي لنا الحياة؛ هذا الإبقاء هو ما نصنعه نحن حينما نخترع آلة توفر علينا الحركة وتعطينا الثمرة بأقل مجهود، فحين يصنع الصانع آلة من الآلات يصنع لها ما يوجد لها الطاقة لتقوم بعملها، ولا يستطيع المستعمل لهذه الآلة أن يغير وقود هذه الطاقة، فإن غير نوع الطاقة، فالآلة لا تؤدي مهمتها. فما بالنا بالذي خلق؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3352 إنه حين يوضح أنّ هذه الآلة لا تصلح إلا بما أحللت، ولا يصح أن تدخل عليها ما حرمت عليك. هنا يجب أن نطيع الخالق؛ لأنه هو الذي يعلم ما يصلح لنا وما لا يصلح. ولم يدع أحد في الكون أنه خلق نفسه، فلنرد اقتياتنا وحفظ حياتنا إلى خالقنا، ولنأخذ ما حلله ونبعد عما حرمه، فالآلة - الإنسان - تصلح بأن تفعل الحلال وأن تترك فعل الحرام. إذن هناك أشياء تُفعل، وهناك أشياء لا تُفعل. وهناك أشياء لم يأت فيها الحل أو الحرمة، فإن أقبل عليها الإنسان فهي تصلح، وإن لم يقبل عليها الإنسان فهي تصلح أيضاً. والحق سبحانه وتعالى يوضح: أنكم لم تخلقوا هذه الآلة - الإنسان - وأنا الذي خلقتها، فإنا أعلم بما يعطيها مدد الطاقة ومدد البقاء، فإن صنعتم غير ذلك كنتم معتدين. ولذلك يخاطب الحق الذين آمنوا بأنه خلقهم من عدم وأمدهم من عدم ورزقهم لاستبقاء حياتهم ونوعهم، وعليهم أن يأخذوا من الله هذه الأحكام: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} . وسبحانه يوضح: إن الذي يؤمن بأني إله فليأخذ مني مواصفات استبقاء حياته. وعندما يقول سبحانه ذلك فلا بد أن يكون هناك سبب داعٍ لهذا القول ولما نزل قوله - سبحانه -: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] . الحق جاء في هذا القول الكريم بحيثيات مدحهم وحيثيات قربهم من مودتنا، فمنهم القسيسون والرهبان الذين زهدوا في الحياة. ولما سمع أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك بكوا واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وفيهم أبو بكر الصديق وعمر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك أي الدسم. ويجبوا المذاكير ويسيحوا في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجمعهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3353 فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» . وأنزل الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} [المائدة: 87] . وكلمات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لصحابته وللناس منطقية، فإذا كانوا يريدون أن يمتنعوا عن طبيات ما أحل الله حتى يعلنوا الزهد مثل السابقين عليهم، ومن يريد الرهبنة أَلا يصلي؟ أنه يقيم الصلاة؛ والصلاة لا بد لها من حركة، والحركة لا بد لها من قوة، والصلاة لا بد لها من ستر العورة، وستر العورة يقتضي اللباس، وهذا اللباس يحتاج إلى تفكير من أين يأتي هذا. القماش يأتي من تاجر أقمشة، وتاجر الأقمشة لا بد أنه يأتي به من المصانع التي تنسجه، والمصانع التي تنسجه لا بد أن تأتي من المصانع التي غزلته، والمصانع التي غزلته لا بد أن تأتي به من المحالج التي حلجت، ثم لا بد من الحيوانات التي أخذ منها إن كان صوفاً، وأن تُربى وتربيتها تحتاج إلى زراعة. إذن فكل هذه الأشياء تتطلب حركة واسعة، أنت لا تشعر بها إلا حين تحتاج إلى الثوب. فإن كنت تريد أن تنقطع للعبادة فإياك أن تنتفع بحركة من يقيم أركان الإسلام، ويتحرك في الحياة في ضوء منهج الله ساعياً إلى الرزق، وهذا أمر لا يتأتى. وأيضاً، ألا يأكل الذي يريد الانقطاع إلى العبادة؟ إنه يأكل ليقوم إلى الصلاة. وكلنا يعرف كيف يجيء رغيف الخبز. صحيح أن الإنسان يذهب إلى المخبز ليشتري رغيف الخبز، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن. والمطحن جاءته الغلال من المخازن، والغلال جاءت من الذي زرع. والذي زرع احتاج إلى الآت تحرث وآلات تغرس وإلى آلات تجنى، وبعد ذلك احتاج إلى أشياء أخرى كالسماد وغيره، إن هذا يحتاج إلى طاقة هائلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3354 إذن فالإنسان في حركته في الصلاة محتاج إلى كل هذه الأعمال، فإياك أن أردت أن تعتزل الحياة أن تنتفع بعمل من لم يعتزل الحياة. والعمل الذي لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولذلك يكون على ولي الأمر إن رأى حرفة يتطلبها الوجود الإنساني والوجود الإيماني ولم يذهب إليها أناس طوع أنفسهم عليه أن يلزم قوماً بأن يفعلوها. وكل صناعة هي فرض كفاية إن قام بها البعض سقطت عن الباقين. وإن لم يقم بها البعض أثم الجميع. إذن فلا بد من حركة الحياة. وحركة الحياة تُسْلم حلقة إلى حلقة أخرى. فلا تأخذ الثمرة وأنت مع ذلك تعتزل الحياة. والحق سبحانه وتعالى يقول: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله} . إنكم إن فعلتم ذلك تكونوا قد أخذتم صفة المشرع واعتديتم على حقه في أن يحلل وأن يحرم، وهذا اعتداء. وإذا كان الله قد حرم أشياء وحلل أشياء فهذا بمقتضى صلاحية الأشياء المحللة للإنسان. وعلى الإنسان أن ينظر إلى الأشياء الموجودة المحرمة على أنها رزق غير مباشر لأنها وسيلة إلى رزق مباشر، كما عرفنا أننا نستخلص من سم الثعبان علاجاً، إذن فالثعبان مخلوق لمهمة تخدم الإنسان. والعالم كله حلقات، حيوانات تستفيد من أذى بعضها إلى أن يصل الخير كله إلى المؤمن، فلا يقولن إنسان «لماذا خلق إذا كان قد حرم» . فلا تعتد لتحلل ما حرمه الله وتحرم ما حلله الله، فبترك الاعتداء ينتظم الوجود، وحين ينظر الإنسان إلى الغابة يجد أن لكل حيوان مهمة مع غيره، هذه المهمة تؤدي إلى الصلاح فيما يصلح للإنسان. لقد حرم الحق بعض الأشياء كرزق مباشر؛ لأنها رزق غير مباشر. والرزق المباشر هو ما يأكله الإنسان مباشرة وما يلبسه، والرزق غير المباشر هو وسيلة إلى الرزق المباشر، وما حرمه الله هي أشياء مخلوقة كوسائل إلى صحة غيرها. {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا} أي لا تجعلوا الحرام حلالاً، ولا تجعلوا الحلال حراماً، و «لا تعتدوا» أي كلوا من الطبيات دون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3355 أن تتجاوزوا الحد، وهذا هو معنى قوله الحق: {وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} [الأعراف: 31] . ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3356 أولا نسأل: ما هو الرزق؟ الرزق هو ما انتفع به. فالذي تأكله رزق، والذي تشربه رزق، والذي تلبسه رزق، والذي تتعلمه رزق، والصفات الخلقية من حلم وشجاعة وغيرها هي رزق، وكل شيء ينتفع به يُسمى رزقاً. ولكن حين يقول الحق: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} فهو ينصرف إلى ما يطعمه الإنسان. وحين يقول سبحانه ذلك فالمقصود به أن يأكل الإنسان من الرزق الحلال الطيب. إذن هناك رزق حرام، مثال ذلك اللص الذي يسرق شيئا ينتفع به، هذا رزق جاء به طريق حرام، ولو صبر لجاءته اللقمة تسعى إلى فمه لأنها رزقه. أو الرزق هو ما أحله الله، وهنا اختلف العلماء وتسائل البعض: هل الرزق هو الحلال فقط والباقي ليس رزقاً؟ وتسائل البعض الآخر: هل الرزق هو ما ينتفع به ومنه ما يكون حلالاً ومنه ما يكون حراماً؟ الحق يقول: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} [المائدة: 88] . كلوا ما رزقكم هذا أسلوب، {مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} هذا أسلوب آخر. فما رزقكم الله أي نأكله كله، وهذه لا تصلح؛ لإننا لا نأكله كله طبعا بل إننا سنأكل بعضه؛ لأن الذي يؤكل ويطعم إما أن يكون صالحاً لإيجاد مثله، وإما أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3356 يكون غير صالح لإيجاد مثله، فعندما يحتفظ الإنسان بالدقيق مثلاً فهو لا ينتج سنبلة قمح، إذن يجب علينا أن نأكل بعضاً ونستبقي بعضاً صالحاً لأن ينتج مثله، فعندما نحتفظ بالقمح فهو يصلح أن يأتي بسنابل القمح؛ لذلك جاء الأمر بأن نأكل بعض ما رزقنا الله حتى نحتفظ ببعض الورق لا نأكله، وهذا يعني أن نحتفظ بامتداد الرزق، فلو أكل الإنسان كل القمح الذي عنده فكيف يحدث إن أراد أن يزرع؟ إذن فاستبقاء الرزق يقتضي أن نحتفظ ببعض الرزق لنصنع به امتداداً رزقياً في الحياة؟ والرزق الحلال هنا نوعان: ما يصلح لامتداده فيحجب احتجاز بعض منه من اجل أن يستخدمه الإنسان في استجلاب رزق آخر. وما لا يصلح لامتداده كالدقيق مثلاً. نأكل بعضه ونحتفظ ببعضه لمن لا يقدر على الحركة. ولذلك نجد الحق في سورة يوسف يقول عن رؤيا الملك: {وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأيها الملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] . هنا قال أهل تفسير الرؤيا: {قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44] . إنه اضطراب في الجواب؛ لأن كونها أضغاث أحلام أنها لا معنى لها، وقولهم بعد ذلك: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ} فمعنى ذلك أن لها تأويلاً وقد كان لها تأويل، ثم من الذي رأى الرؤيا؟ إنه الملك. ويأتي الحق بيوسف مفسراً للرؤيا. إذن فلا ضرورة أن يكون الرائي مؤمنا ولا صالحاً. وقد يقول قائل: كيف يطلعه الله على مثل هذه المسائل؟ ونقول: قد تكون الرؤيا إكراماً للرائي، وقد تكون الرؤيا إكراماً للمعبر الذي يعرف التأويل، وهي هنا إكرام للمعبر وهو سيدنا يوسف. وعرف سيدنا يوسف كيف يفك «شفرة» الرؤيا، والعجيب في الرؤيا أن البقر الهزيل يأكل البقر السمين: وهنا قال يوسف: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3357 {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47] . أي كلوا البعض وليكن قليلا قليلا، لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد وهن سنين الجدب لتأكلوا فيها ما جمعتوه في سنين الخصب، اتركوا البعض الآخر. لاستمرار النوع. وتبين أن أفضل وسيلة لحفظ حبوب القمح في عصرنا هي أن نتركه في سنابله وكذلك الذرة نتركها في غلافها. وكان تعبير الرؤيا دقيقاً لأنه يريد أن يستبقي للناس حياتهم في زمن الجدب، ويستبقي لهم كذلك الضرع الحيواني، فتأكل الناس الحب، وتأكل الماشية التبن المتبقي، وكذلك ضمن الحق مقومات الحياة لكل ما يلزم للحياة. ونلحظ أن المأكول في هذه الآية هو القليل، أما الباقي فهو الكثير في سنابله، هذا في أيام الرخاء؛ فماذا عن أيام الجدب؟ {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 48] . أي أن الناس ستأكل في أعوام الجدب الكثير من الحبوب التي في المخازن ويجب أن يحتفظوا بقليل مما يحصنون في هذه المخازن، وذلك لاستبقاء جزء من القمح للزراعة. إذن ف (من) في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} للتبعيض أي أكلوا بعض ما رزقكم الله، فإن كانت الأشياء مما يكون بقاؤها سبباً لامتداد نوعها فالنوع يكون متصلاً. مثال ذلك رجل عنده بذور البطيخ وزرعها، وبعد أن جاءت الثمار أكلها هي والبذور فمن أين يزرع في العام القادم؟ كان يجب أن يحتفظ ببعض منها لتكون بذوراً. وكان يجب أن يحتفظ بجزء من البطيخ ليعطي منه الجار أو المحتاج؟ إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} تصلح لاستبقاء النوع وتصلح لصرف الزائد إلى غير القادر. {واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي أنك حين تتقى من تؤمن به إلهاً فليس في ذلك غضاضة؛ لأنك آمنت أنه إله وقوي، والغضاضة في أن تأمر بأمر مُساوٍ لك، أما الانقياد والائتمار لأمر الأعلى منك، فهذا لا يكون سبباً في الغضاضة إنما هو تشريف لك وتكريم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3358 ونجد الحق يشرع لنا ذلك في قصة سيدنا موسى على السحرة، فألقى موسى عليه السلام عصاه، ورآها السحرة حية، والساحر ينظر إلى الشيء الذي تم سحره فيراه على حقيقته وصورته الأصلية، أما المسحورون بالرؤية فهم الذين يرون الشكل المراد لهم رؤيته. ورأى السحرة حبالهم مجرد حبال؛ وعصا موسى هي التي صارت حية. هنا عرفوا أنها مسألة أخرى فماذا قالوا؟ : {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47 - 48] . لقد عرفوا أن هذا أمر خارج عن نطاق البشرية. إذن فما كان من أمر السحرة تجاه قوم فرعون هو تخييل للنظر: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] . وقال الحق: {سحروا أَعْيُنَ الناس} [الأعراف: 116] . أما موسى عليه السلام فحين ألقى العصا أول مرة ووجدها حية خاف لأنه رأى في ذلك قلباً للحقيقة. أما عند السحرة فليست حبالهم حيات حقيقية ولكنها سحر لأعين الناس أي تخيل للناظر. ومثال آخر هو سيدنا سليمان عندما أرسل لبلقيس ملكة سبأ. وجاء رسوله يقول لها: {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] . فماذا قالت لحاشيتها من رجال القتال؟ : {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32] . وهنا عرفت الحاشية أن المسألة تتطلب رأياً سياسياً؛ فقالوا: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3359 {قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] . الرأي إذن هو من حق السياسي الذي يزن الأمور بموازين العقل وموازين الاحتمال الواقعة، وموازين رد الفعل، وأدارت بلقيس المعركة سياسياً، فأرسلت هدية من مقام ملكة، فإن راقته الهدية فهو طالب دنيا ويريد خيرها، وعندما وصل رسلها بالهدية، ماذا قال سليمان؟ {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 36 - 37] . وهنا عرفت بلقيس أن الإسلام أمر ضروري، وها هي ذي الدقة لنعرف أن الأمر من المساوى هو الذي يعطي عزة في الآمر وذلة في المأمور، أما إذا كان الأمر من غير المساوى ومن الأعلى - سبحانه - فلا ذلة فيه لأحد. وكان إيمان بلقيس إيماناً ملوكياً. فقالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44] . إنها لم تقل أسلمت لسليمان وإنما قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ} . إذن فلا غضاضة في إيمانها. وذلك حتى لا يظن شعبها أنها ذهبت به إلى حضيض الذلة في أن يحكمهم إنسان آخر. لكن هي وسليمان محكومان لله رب العالمين، ولا غضاضة في ذلك: ونعود إلى قوله جل شأنه: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88] . أي: اجعلوا للإيمان حيثية، وما دمت قد آمنت وتأتمر بأمر من تؤمن به. فأنت لا تؤمن إلا بمن تثق في أنه يستحق الإيمان. وقوله أولاً في الآية السابقة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3360 {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88] . وقوله في تذييل هذه الآية: {واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88] . هو تسوير وإحاطة لطاعة بإيمانين، إيمان خوطبوا به، وإيمان أقروه به، ومن بعد ذلك يقول الحق: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3361 عندما ننظر في قول الحق: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} نعرف أن «يؤاخذ» من «أخذ» ويأخذ من أخذ، فإن قلت: «أخذت فلاناً بكذا» فذلك دليل على أنك أنزلت به نكالاً لأنه لم يدخل في تعاقد خيري معك، ولكن أن تقول: «آخذته» . كأن المفاعلة حدثت بأن دخل معك في عقد الإيمان ولذلك يأخذ الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3361 الكافرين أخذ عزيز مقتدر. ولكنه يؤاخذ المؤمنين، لماذا؟ لأن المؤمنين طرف في التعاقد، أما الكافرون فليسوا طرفاً في التعاقد؛ لذلك يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. إذن فالمؤاخذة غير الأخذ، المؤاخذة هي إنزال عقوبة بمن له معك عهد فخالفه بعمل جريمة نُصَّ عليها؛ فلا يؤاخذه أبداً بجريمة لم ينص عليها، ولا يتم توقيع عقاب على أحد دون تحذير مسبق. ولذلك ففي القانون المدني يقولون: لا عقوبة إلا بجريمة ولا جريمة إلا بنص. إذن لا بد من النص أولاً على العقاب على الجريمة؛ لأن النص على فعلٍ ما بأنه جريمة يجعل الإنسان يراجع نفسه قبل الإقدام على مثل هذا الفعل. أما عدم وجود نص على أن ذلك الفعل جريمة يجعل الإنسان حراً في أن يفعله أو لا يفعله لأنه فعل مباح. وعلينا أن نلحظ التعاقد في قوله الحق: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} . وعندما ننظر إلى معنى: «اللغو» نجده الشيء الذي يجري على اللسان بدون قصد قلبي؛ مثل قول الإنسان في اللغة العامية: لا والله أو: والله أن تأتي للغداء معنا، هذا هو اللغو. أي هو الكلام من غير أن يكون للقلب فيه تصميم. وسبحانه وتعالى قد خلقنا وهو الأعلم بنا علم - سبحانه - أن هناك كلمات تجري على ألسنتنا لا نعنيها. ودليل ذلك أن الأم التي تحب وحيدها قد تدعو عليه، لكن ذلك بلسانها، أما قلبها فيرفض ذلك. ولهذا يقول المثل الشعبي: أَدْعي على ابني واكره من يقول آمين. إذن الحق سبحانه وتعالى علم بشريتنا، وعلم أن اللسان قد يأتي بألفاظ لم تمر على قلبه فيقول سبحانه: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} واتبع الحق ذلك: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} . وساعة نرى كلمة «ولكن» نعرف أن هناك استدراكاً، والاستدراك هو إثبات ما يتوهم نفيه أو نفي ما يتوهم ثبوته. وساعة نرى كلمة «عقَّدتُم» فهي دليل على أنها عملية جزم قلبية، وأن الإنسان قبل أن ينطق بالقسم قد أدار المسألة في ذهنه وخواطره وانتهى إلى هذا الرأي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3362 إذن فاللغو هو مرور كلمة اللسان دون أن تمر علة القلب، وضربنا مثلاً على ذلك وهو دعاء الأم على وحيدها. ونحن نرى أن هناك ألفاظاً كثيرة تمر على ألسنة قد تؤدي إلى الكفر ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المبلغ عن الله يضع لنا صدق النية فيقول: «» أخطأ من شدة الفرح «. قالها رسول الله تعليقاً على رجل قال:» اللهم أنت عبدي وأنا ربك «» . هذا هو اللغو ومن رحمة الله بنا أنه يعفو بعميق وواسع رحمته فيقول لنا: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} . وكلمة «عقدتم» دليل على أن اللسان لم يعقد شيئاً فحسب ولكن عقده بإحكام قوي. فساعة تبالغ في الحدث فأنت تأتي له باللفظ الذي يدل على المعنى تماماً بتمكين وتثبيت. وعلى ذلك فكلمة «عقَّد» غير «عَقَدَ» إذن فكلمة «عقَّد» أي أن الإنسان قد صنع عقدة محكمة. ومثال على التأكيد قول الحق سبحانه وتعالى: {وَغَلَّقَتِ الأبواب} [يوسف: 23] . قد يقول قائل: ألم يكن يكفي أن يقول الحق سبحانه: «وغلقت الأبواب» ؟ ونقول: لا إن الحق قد أتى بالفعل الذي يؤكد إحكام الإغلاق. فإغلاق الأبواب يختلف من درجة إلى أخرى؛ فهناك غلق للباب بلسان «طبلة» الباب؛ وهناك غلق بالمزلاج، وقوله الحق: {وَغَلَّقَتِ الأبواب} أي أن امرأة العزيز بالغت في غلق الأبواب. وكذلك قوله الحق: {عَقَّدتُّمُ الأيمان} . أي جالت في قلوبكم جولة تُثبِّت صدق نيتكم في الحلف. وهناك صورة أدائية أخرى تلتقي مع هذه الصورة في المعنى، حين قال سبحانه: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225] . ونلحظ هنا أن القلوب قد كسبت، فما الذي تكسبه القلوب في مثل هذه الحالة؟ نعرف أن الكسب هو وجود حصيلة فوق رأس المال. والكسب الزائد في القسم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3363 هو أن يؤكد الإنسان بقلبه هذا القسم؛ أي أن القسم انعقد باللسان والقلب معاً وسبب نزول آية سورة المائدة {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} أن الصحابة الذين حرموا على أنفسهم طيبات المطاعم والملابس والمناكح وحلفوا على ذلك فلما نزل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 87 - 88] . قالوا: كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية أي أن تحريم الحلال لغو لا كفارة فيه، ونعلم أن الإنسان لا يصح له أن يحلف على شيء ليس له دخل فيه؛ كقول إنسان ما: والله لن أصلي. إن مثل هذه اليمين لا تنعقد، ولذلك لا كفارة لها. لكن إن قال: والله لأشربن الخمر. هنا نقول له: امتثل إلى ما جاء في حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» . والحق سبحانه وتعالى يقول: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} إذن فهناك استدراك يتعلق باليمين المؤكدة وهي تستدعي المؤاخذة. فكيف تكون المؤاخذة وهي عقوبة، على الرغم من أنه لا عقوبة إلا بنص؟ إن الحق سبحانه وتعالى ستر العقوبة ومنعها بالكفارة: «فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام» . والكفارة هي ستر للعقوبة. فهل معنى ذلك أن الإنسان تلزمه الكفارة ما دام قد عقَّد الأيمان؟ لا، تكون الكفارة فقد حين تحنث في القسم فلم تبر فيه. فتكون الكفارة في هذا المجال كالآتي: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، أو صوم ثلاثة أيام لمن لم يجد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3364 والمناسب في الكفارة يختلف في مفهوم المفتين باختلاف الحانث، ومثال ذلك أن خليفة في الأندلس حلف يميناً وأراد أن يؤدي عن اليمين كفارة، فجاء إلى القاضي منذر بن سعيد وسأله عن كفارة هذه اليمين؛ فقال: لا بد أن تصوم ثلاثة أيام. وكان يجلس شخص آخر فأشار للقاضي إشارة فلم يعبأ القاضي منذر بن سعيد بتلك الإشارة. وخرج القاضي ومعه ذلك الشخص، فسأل القاضي: يا أبا سعيد، إن في نفسي شيئاً من فتواك؛ لماذا لم تقل للخليفة إن كفارة اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟ فقال القاضي منذر بن سعيد: أمثل أمير المؤمنين يزجر بعتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟ وهذا يدلنا على أن القاضي منذر بن سعيد قد أجهد نفسه ليختار الكفارة التي تزجر. وهذا يعلمنا أن الكفارة في جانب منها زجر للنفس وفي جانب آخر جبر للذنب. وقد رجح القاضي منذر بن سعيد جانب الزجر على جانب جبر الذنب؛ لأن الخليفة لن يرهقه إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق أكثر من رقبة. وفي الإطعام لعشرة مساكين من أواسط ما نطعم به الأهل، قد يقول قائل: هل الأوسطية هنا للكمية أو الكيفية؟ ونقول: يراعى فيها الكمية والكيفية. فإن كانت وجبة الإنسان مكونة من رغيف واحد فليعرف أن مِن أهله من يأكل في الوجبة الواحدة ثلاثة أرغفة فيكون الأوسط في مثل هذه الحالة رغيفين مع ما يكون من أدم كلحم ودسم. وكذلك الكسوة؛ أن يكسو الإنسان الذي يكفر عن يمين عشرة مساكين بما يستر العورة وتصح به الصلاة؛ كإزار ورداء أو قميص وعمامة، أو أي ملابس تسترهم. وها نحن أولاء نجد أن كفارة تحرير رقبة تأتي في المرتبة قبل الأخيرة ويأتي بعدها قول الحق: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} . إذن فالحق لم يرتب الكفارة وإنما علينا أن نختار منها الكفارة الملائمة. ويأتي الحق من بعد ذلك بالقول: {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} والحفظ هو عدم التضييع. أما كيف نحفظ أيماننا؟ فنقول: إن على الإنسان ألا يجري اليمين على لسانه، هذه واحدة. والثانية: أن يحاول الإنسان ألا يحنث في اليمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3365 وهذا يقتضي ألا يحلف الإنسان على شيء يقوله بلسانه ويخضعه لقلبه إى إذا كان على ثقة من أنه سيجند كل جوارحه للقيام بهذا العمل الذي أقسم أن يقوم به، وهذا هو معنى قوله الحق: {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} . ويذيل الحق الآية الكريمة: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . والشكر هو الثناء من المّنعم عليه على المُنْعِمِ بالنعمة، فكأن هذه التشريعات تستحق منا الشكر؛ لأنها جعلت اللغو غير مؤاخذ عليه، ولأنها جعلت اليمين الذي عقَّدته له كفارة، وفي كل من الأمرين تيسير يستحق الشكر لله. ويتابع الحق القول: {ياأيها الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3366 ساعة تسمع كلمة: «إنما» فاعلم أنهم يسمونها في اللغة «أداة قصر» كقولنا: إنما زيد مجتهد، وهذا يعني أننا قَصِرَنْا زيداً على الاجتهاد. لكن إذا قلنا: إنما المجتهد زيد، فنحن في هذه الحالة قَصَرْنا الاجتهاد على زيد. وساعة تقصر إنساناً على وصف فذلك يسمونه: «قصر موصوف على صفة» ، وعندما نقول: إنما زيد شاعر. فهذا يعني أن زيداً شاعر فقط وهو ليس بكاتب أو خطيب. أما إن قلت: إنما الشاعر زيد، فهذا يعني أنه لا يوجد شاعر إلا زيد؛ فكأنك نفيت عن الآخرين أنهم شعراء، وأن زيداً فقط هو الشاعر ويحتمل أن يكون كاتباً وخطيباً وعالماً مع كونه شاعراً. إذن فساعة ترى «إنما» فاعرف أنها أداة من أدوات القصر. والحق سبحانه يقول هنا: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3366 {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . أي أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام كلها رجس من عمل الشيطان. والرجس هو الشيء الرديء الخبيث القذر. والقذارة والخبث هما من الأمور التي قد تكون حسية مثل الخمر، وقد تكون معنوية كالأنصاب والأزلام؛ وجمع الحق سبحانه في هذه الآية الأمرين معاً. ولم يقل إن الخمر هي عصير العنب أو عصير التفاح، إنما جاء بالخمر التي تشمل كل ما يخامر العقل ويستره. وتعجب بعض العلماء من أن هذه الآية نزلت في البلاد التي ليس فيها شيء من عصير العنب، ذلك أنهم ظنوا أن عصير العنب فقط هو الذي يستر العقل، لكن الحق جاء بالتحريم الشامل لكل ما يستر العقل. لماذا إذن تكون الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجساً من عمل الشيطان؟ إنّ الحق سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض وسخر له كل شيء في الوجود وطلب منه أن يعبده وحده وأن يعمر هذه الأرض. وأراد الحق أن يضمن للإنسان سلامة أشياء متعددة؛ سلامة نفسه فلا يُعتدي عليها بالقتل أو غير ذلك، وسلامة عقله فلا يُجنى عليه بما يستر آلية الاختيار بين البدائل، وسلامة عرضه فلا يَلغ فيه أحد وحتى تأتي الأنسال التي تعمر الكون وهي أنسال طاهرة، وسلامة ماله حتى يحفظ على الإنسان أثر حركته في الحياة وحتى لا يأخذ غيره أثر حركته، وذلك حتى لا يزهد العامل في العمل ولا يعود الطاقات أن تأخذ من غير عملها فتكسل وتتواكل، فالإنسان إذا ما اعتاد أن يأخذ من غير عمل صار العمل صعباً عليه، وهكذا كانت صيانة المال لا تبدد طاقة ولا تهدر حقا، ولا تعطي غير ذي حق حقا لغيره، وهكذا حتى لا يشيع العجز الاصطناعي في الكون. ولذلك قال الحق وهو مانح كل مال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3367 أي أنه - وهو المانح سبحانه وتعالى - قد احترم حركة الإنسان فلا يستمرئ أحد البطالة. وعندما تنتشر البطالة في الإسلام يعالج الأمر بحكمة بالغة؛ فهو يطلب من الوالي أن يسبب لهم الأسباب ليعملوا. وذلك حتى لا يتعودوا على الأخذ بغير عمل لئلا تكون مصيبة على المجتمع. وأراد سبحانه بالشريعة السمحاء أن يحمي الإنسان من كل ما يبدده، فحينما حرم الخمر، أي منع عن الإنسان ستر العقل، ذلك أن ميزة الإنسان على الحيوان هي العقل. إن الإنسان يختلف عن الحيوان بأنه يحفظ حياته بالعقل، أما الحيوان فيحفظ حياته بالغريزة. ولذلك فالحيوان لا يملك إلا رداً واحداً إذا ما تم الاعتداء عليه؛ الكلب يعض المعتدي والقطة تخمش المعتدي، أما الإنسان فعندما يعتدي عليه أحد فهو يختار بين بدائل للرد على العدوان، إما أن يضرب وإما يقتل وإما أن يسامح. ومثال لذلك نراه في الريف، عندما يحاول راكب الحمار أن يجبر الحمار على القفز على قناة صغيرة فيها مياه يرفض الحمار ذلك تماماً ومهما ضربه راكبه فهو يرفض القفز؛ لأن غريزته تمنعه من ذلك. أما الإنسان فقد ينتابه الغرور ويظن أنه قادر على القفز فوق القناة فيقفز لكنه قد يقع في المياه. وتوجد المجازفة عند الإنسان، لكنها لا توجد عند الحيوان بمقتضى الغريزة. ومثال آخر من عالم الحيوان. نجد ذكر الجاموس يقترب من الأنثى ليشمها فإن وجدها حاملاً لا يقربها، هكذا الحيوان. أما الإنسان فلا. والحمار يتناول طعامه من البرسيم مثلا ما يشبعه ولا يزيد أبداً في الطعام مهما ضربه صاحبه؛ لأنه محكوم بالغريزة، أما الإنسان فقد يأكل فوق طاقته. وهكذا نجد الغريزة هي التي تعصم الحيوان، والعقل هو الذي يعصم الإنسان. ولذلك لا يملك الحيوان القدرة على الاختيار، ولكن ميزان غرائزه لا يختل أبداً. أما ميزان الغرائز عند الإنسان فقد يختل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3368 لقد ميز الله الإنسان عن الحيوان بالاختيار بين البدائل بالعقل، ولذلك لا يصح ولا يستقيم من الإنسان أن يطمس هذه القدرة بالخمر. فإن طمس قدرة الاختيار، فإن غرائزه في هذه الحالة لا تنفعه لأنها غير مؤهلة لحمايته، ولذلك نجد الذي يطمس عقله يضع نفسه في مرتبة أقل من الحيوان؛ لأن الحيوان تحميه الغريزة، والإنسان يحفظه عقله، وهو في هذه الحالة قد طمسه وغطاه، وقد حرم الله الخمر لأنها تستر العقل. وكل ما يستر العقل خمر ولو كان أصله حلالاً؛ وذلك لأن العقل هو مناط التكليف. وكذلك حرم الله الميسر. ولنر دقة الاسم الذي اختاره الله للقمار، إنه «الميْسر» ولم يسمه «المعسر» ذلك أن أحداً لا يقبل على الميسر وهو يظن أنه سوف يخسر، وكل من يلعبون القمار إنما يفعلون ذلك على أمل الكسب؛ لذلك جاء بالاسم الذي يعبر عن حالة اللاعب للقمار إنه يلعب على وهم الكسب، وإن كسب فالمكسب يُغْريه بالمزيد من اللعب. والخسران يغري باللعب أكثر لعل كسباً يعرض الخسارة التي مني بها، وقد يبيع اللاعب للميسر كل ما يملك كي يعوض خسارته ومع ذلك فالكسب من الميسر هين على النفس تبدده وتنفقه فيما لا ينفع بل قد ينفقه فيما يضر، فالمكسب ليس له والخسارة محسوبة عليه. والذين يلعبون الميسر مع بعضهم لا تربطهم صداقة أو محبة. فكل منهم حريص على أن يأخذ ما في جيب الآخر. وهذا اللون من اللعب يعطل القدرة على الكسب الحلال؛ لأن الكسب الحلال يحتاج إلى حركة في الكون. والميسر يشل حركة الكاسب لأنه يزهد في العمل. والخسران يشل حركة الخاسر لأنه مهما سعى في الأرض فقد لا يستطيع أن يسدد ديونه. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن للناس ألا ينتفع أحد بشيء إلا نتيجة كده وعمله. والحق يريد أن يكون جسد كل إنسان من ناتج عرقه في عمل مشروع وكذلك أجساد من يعول. وأبلغنا أيضاً أن الأنصاب رجس من عمل الشيطان. والأنصاب ثلاثة قداح كانت توجد عند الكاهن؛ قدْح مكتوب عليه أمرني ربي، والقدح الثاني: مكتوب عليه نهاني ربي، والقدح الثالث: غفل من الكتابة أي خال منها فلا علامة فيه. فإن كان في نية إنسان السفر أو الزواج أو التجارة فهو يذهب إلى الكاهن ليضرب له هذه القداح. فإن خرج القدح المكتوب عليه أمرني ربي فعل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3369 وإن خرج نهاني ربي لم يفعل. أما أن خرج القدح الغفل فهو يعيد ضرب القداح حتى يخرج أحد القدحين: إما الذي يحمل الأمر، وإما الذي يحمل النهي. ولم يتساءل أحد لماذا عندما يخرج القدح الغفل لا يعتبر أن هذا أمر خارج عن نطاق التحريم. ويؤخذ على أنه إباحة واختيار يعمل أو لا يعمل. لقد أنساهم الحق ذلك حتى يدلنا على أن ذلك أمر كاذب جاء به الكهنة من عندهم. فإن سألهم سائل: من الإله الذي أمر ونهى؟ هنا يقول القائل منهم: الله هو الذي أمر وهو الذي نهى. (والله يعلم إنهم لكاذبون) . والحق سبحانه وتعالى حين ينهانا عن تلك الأمور فهو يريد للإنسان أن ينمي ملكة الاختيار بين البدائل. وعلى الإنسان أن يستنبط وأن يحلل وأن يعرف المقدمات فيدرسها ويحلل الخطوات ليصل إلى النتائج. لا أن يعطل القوة المدركة التي تختار بين البديلات، فالخمر تستر العقل، وكذلك الميسر يضع الإنسان بين فكي الوهم، وكذلك الأنصاب تعطل القدرة على السعي والرضوخ للكهنة. وعندما تسأل شارب الخمر: لماذا تشربها؟ يجيب: إنني أريد أن أستر همومي. وستر الهموم. لا يعني إنهاءها. ولكن مواجهة الهموم هي التي تنهي الهموم بالأسباب المتاحة للإنسان. فإن لم تقو أسبابك فالجأ إلى المسبب في إطار قول الحق: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] . وعندما تستنفد أسبابك وتلجأ إلى الله فهو يعينك على الأمر الشاق المسبب للهموم. ولنا في الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القدوة. فقد كان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة. ومعنى «حزبه» أي خرج عن نطاق أسبابه. ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يلجأ إلى رب الأسباب. وقد نجد من يقول: إنني أدعو الله كثيراً ولكنه لا يستجيب لي. ونقول: إما لأنك قد دعوت في غير اضطرار، وإما لأنك لم تلفت إلى الأسباب، وأنت حين تتجنب الأسباب فأنت ترفض يد الله الممدودة لك بالأسباب. وأنا أتحدى أن يوجد مضطر أنهى الأسباب، ولا يأتي له الفرج. وأنت حين تدعو بحاجة وتتأخر عليك، نقول لك: إنك دعوت بغير اضطرار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3370 وكثيراً ما أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى المنزه دائماً - وأقول: هب أن تاجراً من تجار الجملة الكبار يجلس أمام المخازن التي يملكها وجاءت السيارات الشاحنة بصناديق بضائعه. والعمال يحملون البضائع ليضعوها في المخازن. وفجأة رأى عاملاً من عماله يكاد يقع بالصندوق الذي يحمله، هنا نجد التاجر يهب بلا شعور لنجدة العامل. فما بالنا بالحق الذي خلق لنا الأسباب؟ إنك إن استنفدت الأسباب فإن الله يعينك مصداقاً لقوله: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء} [النمل: 62] . إذن فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان. والأزلام هي نوع من الميسر؛ فقد كانوا يحضرون الناقة أو الجزور ويذبحونها ويقسمونها إلى ثمانية وعشرين قسماً ويخصصون لإنسان نصيباً وللثاني نصيبين وللثالث ثلاثة أنصبة، وللرابع أربعة أنصبة وللخامس خمسة أنصبة، وللسادس ستة أنصبة، والسابع له سبعة أنصبة. وكانوا يأتون بالقِداح السبعة. قدح اسمه «الفذ» ويأخذ الفائز به نصيباً، والقدح الثاني: «التوأم» ويأخذ نصيبين، والقدح الثالث اسمه «الرقيب» يأخذ ثلاثة. والقدح الرابع اسمه «المُسْبِل» ويأخذ ستة. والسابع اسمه «المُعَلَّى» ويأخذ سبعة أنصبة. وهناك ثلاثة قداح هي المنيح والسفيح والوَغْد، وهؤلاء الثلاثة لا يأخذون شيئا بل يدفعون ثمن الذبيحة. وذلك رجس من عمل الشيطان. إن النفس العاقلة لا تقبل على مثل هذه الأعمال، بل لا بد أن يحرك أحد تلك الأطماع، ذلك أن المخالفات إنما تنشأ من أمرين؛ إما أن تكون من النفس، وإما أن تكون من الشيطان. والمخالفة التي تكون من النفس هي التي تحقق شهوة من نوع خاص بحيث إذا زحزحت النفس عنها فهي تريدها. والمخالفة التي من نزغ الشيطان تختلف، فقد يوعز الشيطان لإنسان بالسرقة، فيرفض، فيعرف الشيطان أن لهذا الإنسان مناعة ضد هذه المعصية، فيوعز بمعصية أخرى، فإذا وجد مناعة انتقل إلى معصية ثالثة؛ لأن وسوسة الشيطان تطلب الإنسان عاصياً على أي لون من الألوان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3371 فإذا وقفت عند معصية بذاتها فاعلم أن ذلك من عمل نفسك، وإن انتقلت بالوسوسة من معصية عزت على الشيطان إلى معصية أخرى فاعلم أنها من عمل الشيطان ولا دخل للنفس بها. والعاقل الذي يتمعن في كل تلك المسائل المحرمة يرى أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام هي أمور لا تستطيبها النفس غير المنزوعة من الشيطان، فكأن قوله الحق: {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان} يدلنا على أن العاقل لا يمكن أن يصنع هذه الأشياء. ويذيل الحق الآية: {فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . ويأمرنا سبحانه باجتناب الرجس الذي جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، والاجتناب هو أن يعطي الإنسان الشيء المجْتَنَب جانَبَه، أي المنع للذرائع والأسباب والسد لها؛ لأنك إن لم تجتنبها فمن الجائز أن قربك منها يغريك بارتكابها. وبعض الناس يظنون أن الخمر لم يأت لها تحريم وإنما جاء الأمر فيها بالاجتناب. ونقول لهم: إن التحريم هو النص بعدم احتسائها، وأما الاجتناب فهو أقوى من التحريم لأنه أمر بعدم الوجود في مكانها. فإذا كان الحق قد قال في قمة العقائد: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] . فقد قال هنا اجتنبوا الرجس الذي يجمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. والحق سبحانه وتعالى واجه العادات التي شاعت قبل الإسلام ليخلع الفاسد منها ولم يجابهها دفعة واحدة وذلك لتعليق النفس بها والإلف لها، وإنما كان التحريم لها بالتدريج. لقد حزم الإسلام الأمر أولاً في مسائل العقائد، أما الأمور التي تترتب على إلف العادة فكان تحريمها على مراحل. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى عن شيء إنه: «رجس» ، فذلك حكم الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ونحن نقبل هذا الحكم حتى ولو لم نفهم نحن معنى الرجس، أو لم نتأكد مادياً من أن الشيء المحرم هو من الرجس، ذلك أنه يكفي في ذلك حكم الله الذي يرضخ له العبد المؤمن الذي قبل التكليف من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3372 ربه؛ لأن ربه مُؤتمن على كل مصالحه. وما دام الحق قد قال عن شيء إنه رجس، فهو رجس ولا جدال في ذلك. أقول ذلك لأن بعضاً يظل متصيداً لأي ثغرة مفتعلة متسائلا: كيف يكون ذلك العمل أو ذلك الشيء من الرجس؟ ونقول: إننا نرضخ لحكم الله تعالى وننفذ ما أمر به، فهو إله مأمون على كل الخلق، وتثبت لنا الأيام دائماً صدق قول الحق في أن الأشياء التي قال عنها سبحانه إنها رجس، هي من الرجس فعلاً، فحين يقول سبحانه لخلقه: افعلوا كذا، لا نسأله: وما علة ذلك التكليف، ولكننا ننفذ أمر الحق، ونكتشف في أعماقنا فائدة ذلك التكليف. أما عندما يكلفنا عبد مساوٍ لنا بشيء فلا بد أن نسأل: لماذا؟ والعبد المساوى لنا عليه أن يقدم لنا العلة لأي فعل يطلب منا القيام به، ولكننا لا نسأل الله عن علة التكليف لنا؛ لأننا نؤمن بأنه إله حكيم، والأيام ستثبت لنا أن قول الله حق. ومثال على ذلك نجد أن الذي لا يشرب الخمر امتثالاً لنهي الله عن ذلك الفعل، هو إنسان مستقيم السلوك، طاهر القصد، ولا يتأتى منه نشاز في الكون. أما الذي يشرب الخمر فهو معوج السلوك، غير طاهر القصد، ويتأتى منه نشاز في الكون. وقد أثبتت التجربة أن شارب الخمر إنما يصاب بأمراض في الكبد ويعاني من ارتباك في إدارة حياته وكلماته. نحن نقرأ قول الله سبحانه: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} [البقرة: 282] . والتقوى - كما علمنا - أن نجعل بيننا وبين غضب الله وقاية؛ لذلك نفعل ما أمرنا به. وحين نفعل أوامر الإله الحق فإننا نتعلم حكم الله في الفعل. ومثال ذلك قوله الحق: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] . ونحن نعرف كيف تنهانا الصلاة عن الفحشاء والمنكر؛ لأننا نسلم وجوهنا وقلوبنا الله فننفذ ما أمر به. وكذلك نجد في الزكاة نماء. ونجد الحج يصفي النفس من أي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3373 كبر ويغسل الذنوب. وكل فعل أمر به الحق نجد له الأثر في نفوسنا بعد أن نقوم به. أما إن فعلت الحكم للعلة فذلك يبعد بك عن مرتبة الإيمان. ونجد أن الطبيب يأتي لشارب الخمر بصورة ملتقطة للكبد بواسطة الموجات الصوتية أو الأشعة فيجد شارب الخمر صورة كبده وقد امتلأت بالتهرؤ وصارت عرضة لأمراض كثيرة ثقيلة وربما تعطلت وظائف الكبد في بعض الأحيان، وهنا يأمر الطبيب شارب الخمر أن يمتنع عن شرب الخمر. فهل امتناع شارب الخمر في مثل هذه الحالة هو امتناع بسبب الإيمان أو بسبب الأمر الطبي؟ إنه امتناع بسبب الأمر الطبي، ويستوي في ذلك المسلم العاصي والكافر. ولكن المؤمن الذي يمتنع عن شرب الخمر ابتداءً، فهو قد امتنع لا لعلة الأمر ولكن لأن الأمر من الله، وهو يتبع أوامر الحق دون سؤال عن العلة. والمؤمن يأخذ الحكم من الله دون طلب تعليل منه ليشرح له أسباب المنع في سلوكه. والحق سبحانه قال: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} والعداوة المسبقة بين الشيطان وأبينا آدم عليه السلام بينها - سبحانه - بقوله للملائكة: {اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} [البقرة: 34] . وكان الشيطان موجوداً مع الملائكة، وكان الأولى أن يسجد هو؛ لأن الأمر إذا كان للجنس الأعلى وهو الملائكة، فيجب أن ينسحب على الأدنى، لكنه عصى وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [البقرة: 61] . إذن فالعداوة مسبقة بين آدم والشيطان، فكيف إذن نقبل نحن أبناء آدم وسوسته؟ وكيف نقبل نزغه؟ وكيف نقبل إغراءه؟ لا بد إذن أن نتجنب ذلك لأنه رجس ومن عمل الشيطان، حتى ننجو من كل سوء، ويأتي لنا كل فلاح. ويقول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3374 {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3375 لم يأت الحق هنا بالأنصاب أو الأزلام؛ لأن المؤمنين لا يعتقدون فيها وانتهوا منا، والخطاب هنا موجه للمؤمنين. إذن لماذا قرن الحق التكليف بالنهي عن الخمر والميسر - من قبل - بالأنصاب والأزلام؟ قال سبحانه ذلك ليبشع لنا الأمر، فوضع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام، ولنفهم أن الحكم بالنهي عن الخمر والميسر جاء ليقرنهما بالأنصاب والأزلام، وما داموا مؤمنين فلا بد أنهم قد انتهوا عن الأنصاب والأزلام. ويقول سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء} . والإرادة هي تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وتتعلق الإرادة بمريد، فهل يقدر على إنقاذ ما يريد أم لا يقدر؟ إن كان يقدر على إنقاذ ما يريد، فالقدرة تكون من بعد الإرادة. وحينما يريد سبحانه وتعالى فالقدرة تبرز المراد، فقدرته لا تتخلف ولا مراده يتخلف؛ لأن كل شيء منفعل له سبحانه وتعالى، وتختلف المسألة عند الإنسان والشيطان، فالإنسان يريد، ولكن أله القدرة على إنفاذ ذلك؟ أحياناً تكون له بعض من القدرة على إنفاذ ما يريد، وأحياناً لا. والشيطان يريد، لكن أيقدر على إنفاذ ما يريد؟ إنه يقدر في حالة إطاعة الإنسان له. وهكذا تكون إرادة الشيطان، وهو يحب أن تحدث المعصية من الإنسان، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3375 ويتمنى الشيطان ذلك، ويخطط لذلك. لكن الفعل لا يأتي إلى الوجود إلا إذا وافق الإنسان على طاعة الشيطان. إذن فالإرادة إن كانت ممن يقدر على الإرغام والإبراز فهي تظهر العمل فوراً، والقادر المطلق هو الله، وهو يحكم ما يريد، ولذلك يأتي قوله الحق: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] . لكن خلقه حين يريدون فالأشياء لا تنفعل لهم انفعالها لخالقها؛ لأن إرادة المخلوقات تقتضي أن ينفذ الإنسان على قدر طاقته، وهي مهما زادت محدودة. وإرادة الشيطان تحتال على الإنسان حتى يفعل ما يتمناه، ولا يستطيع الشيطان أن يُكره الإنسان قهراً على فعل ما، ولكنه يزين له الفعل. فليس للشيطان سلطة الإكراه ليقهر الإنسان على فعل، وليس للشيطان قدرة على الإقناع أو الإتيان بأدلة تجعل الإنسان يفعل مراد الشيطان وهو راضٍ عن عمله. ولذلك يقول الشيطان في الآخرة للمذنبين: إن الذنب ذنبهم. {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] . هكذا يعلن الشيطان أنه غير قادر على البشر، لا بالقهر ولا بالحجة، إنّه فقط زين لهم الأمر، فمن كانت له شهوة فالشيطان يزينها له فيرتكب الذنب. ويعلن الشيطان: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] . ويعترف الشيطان أنه مهما صرخ مستغيثاً - يوم القيامة - فلن يجد من يغيثه، وكذلك أصحاب الذنوب الذين اتبعوه سيصرخون ولن يجدوا من الشيطان عوناً ينجيهم من العذاب. و «أصرخ فلان فلانا» أي ذهب ليزيل صراخه وينجده. إذن فقول الحق: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء} يشرح لنا أن إرادة الشيطان هي إرادة تزيين، لا إرادة قدرة على القهر أو الإقناع. وإذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3376 سمعت كلمة «يوقع» ، فافهم أن هناك شيئين الأصل فيهما الالتحام، وهناك من يريد أن يجعل بينهما يفصل هذا الالتحام. ولذلك يقال: «فلان مشى بالوقعية» أي أنه أراد أن يصنع فجوة وشرخاً بين اثنين الأصل فيهما الالتحام. وكلمة «بينكم» تفيد الانفصال. وهذا الانفصال هو الذي توضع فيه الوقيعة. لماذا؟ لأن المؤمنين إخوة، ولأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، والشيطان يسعى بالخمر والميسر بأن يمشي بالوقيعة بين المؤمنين. ونجد مجالس الخمر فيها هذا؛ فالشاربون معاً كثيراً ما تقوم بينهم المعارك ويدور بينهم السباب. ولاعبو الميسر يأخذ بعضهم مال بعض، وهكذا يتحولون من وحدة كالبنيان إلى فرقة وتحدث بينهما العداوة والبغضاء. وما الفرق بين العداوة والبغضاء؟ العداوة هي انفصال متلاحمين حدثت بينهما عداوة وبغضاء. والبغضاء هي انفعال القلب بشيء مكروه. كأن البغضاء توجد في الصدور بعد حصول العدوان، فكأن العداوة تكون هي المنطقة الوسط التي باعدت بين هذين الشخصين بعد أن استسلما لنزغ الشيطان. وهذان الاثنان كان يجمعهما من قبل الصفاء والمودة والحب والأخوة الإيمانية. والعداوة في هذه الحالة تأخذ من مشاعر كل طرف؛ لأن العداوة إن كانت من طرف واحد فعمرها قصير، ولكنها تطول إن كانت بين طرفين. ولذلك تكون المعركة حامية بين عدوين يستشعر كل منهما العداوة للآخر. وهي تكون عداوة مؤججة وملتهبة إن لم يتدخل طرف ثالث ليحسم بالحق بين الاثنين، فيخزي الذي على الباطل ويأخذ الحق منه ويعطيه لصاحبه، وهنا يحس صاحب الحق أن هناك من ينصره. وبهذا تحسم العداوة وتنقضي. لكن إن لم يجد الطرفان رادَّا ولا رادعاً، تظل العداوة متوهجة. ولذلك حينما عرض الحق أمر موسى عليه السلام وأمر فرعون، قال عن موسى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3377 والتقطوا موسى لماذا؟ {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] . فهل عرفوا هم من البداية أنه عدو؟ لا، لقد التقطوه ليكون قرة عين لهم، ولكن الله أفسد مرادهم. فاللام في قوله: «ليكون» هي لام الغاية والعاقبة وليست لام العلة الفاعلة، وقد أثبت سبحانه بذلك أن فرعون ليس إلهاً، وأن أتباعه كانوا قوماً مغفلين لا فطنة لهم. فلو كان فرعون إلهاً لعرف أن هذا الوليد الذي سيربيه سيكون عدواً له. والعداوة هنا هل هي من ناحية موسى فقط تجاه فرعون؟ لا. إنها عداوة بين الله وموسى كطرف، وفرعون كطرف. لذلك قال: {فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 39] . ولم تنته هذه العداوة إلا بغرق فرعون. والحق ينبهنا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر} و «في» هنا هي للسببية كقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت» . ونقول في حياتنا اليومية: أُخذ فلان إلى الحبس لمدة أعوام في قطعة مخدرات. أي أنه أوقع نفسه في المكروه بسبب شيء ما. وقوله الحق: {فِي الخمر والميسر} دلت على أن العداوة والبغضاء مظروفة في الخمر والميسر. ويقول بعد ذلك: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} . إن ذكر أي أمر يعني أن يكون هذا الأمر في بؤرة الشعور دائماً، فكل معلومة يذكرها الإنسان تكون في بؤرة شعوره، ومن بعد ذلك تتحرك لتحل محلها معلومة أخرى. وعندما يكون بال الإنسان مشغولاً بشيء فهذا الشيء لا يتزحزح من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور إلا بعد أن يأتي أمر آخر يشغل البال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3378 ولذلك نقول: إياكم أن تعتقدوا أن الذهن يفهم أي أمر من مرة واحدة أو من مرتين أو من ثلاث مرات. لا، بل يفهم الذهن من مرة واحدة كآلة التصوير، والمهم أن يكون ساعة التقاط المعلومة خالياً من غيرها؛ ولذلك كنا نعرف أن إخواننا المكفوفين الدارسين معنا أقدر على الاستيعاب الحفظي منا نحن المبصرين؛ لأن المبصر عندما يكون بصدد مسألة قد تنشغل عيناه بشيء، فتكون بؤرة شعوره مشتتة. أما الأعمى فبؤرة شعوره تذكر فقط ما يسمعه. وهكذا نعرف ما هو «الذكر» . والخمر تطمس العقل وتستره فكيف يذكر الله إذن؟ وكذلك الصلاة، وهي الذكر، تسترها الخمر عنا. وكذلك الميسر الذي يلوح فيه الوهم بالكسب كالسراب، فيلهث اللاعب خلف اللعب لعله يكسب، ويفقد القدرة على ذكر الله والصلاة. ولأن العداوة مسبقة بين الإنسان والشيطان، نجد الشيطان قد قال فيما يحكيه الحق عنه: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] . قد عرف الشيطان كيف يقسم؟ أقسم بعزة الله أن يغوي خلقه، فلو أن الله أراد عباده لما أخذهم الشيطان. ويذيل الحق أمر الخمر والميسر بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} . هذا استفهام، وهو طلب فهم الشيء، هذا ما نعرفه عندما يكون الاستفهام من البشر، ولكن عندما يصدر هذا الاستفهام من الله لنا، فهذا أمر الأمر سبحانه وتعالى. كيف؟ إن هناك أمراً من الآمر هو حكم لازم. وهناك أمر يريده الله من المأمور ليأمر به نفسه. وهي ثقة من الآمر الأعلى في الإنسان المؤمن الذي يتلقى مثل هذا الأمر. ومثال ذلك - والله المثل الأعلى - يقول الأب لأحد أبنائه: إن إهمالك لدروسك سيجعلك تنال غضبي واحتقار زملائك لك وتتأخر عن غيرك، فهل ستنتهي من اللعب واللهو أو لا؟ ولم يقل: انته عن اللعب؛ لأن الأب أراد أن يأتي بالحيثيات حتى يحكم الابن بنفسه، وحتى يدير المسألة بمقابلها، ولا يجد إلا أن يقول: لقد انتهيت عن اللعب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3379 وهنا جاءت المسألة أيضا على هذا الشكل، فبدلاً من أن تكون حكماً من الله أصبحت حكماً من العبد المأمور. وهذا أبلغ أنواع الحكم؛ لأن المتكلم يلقي بالأمر في صيغة سؤال، ليدير المسئول كل جواب فلا يجد إلا الجواب الذي يريده السائل. ومثال ذلك عندما فتر الوحي عن حضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال أهل قريش: إن رب محمد قد قلاه وأبغضه وكرهه، ثم نزل الوحي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3] . ويتابع الوحي: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} [الضحى: 6] . وعندما يستقرئ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه المسألة يجيب: نعم يا رب أنت وجدتني يتيماً فآويتني. وهذا يسمونه مشاركة المأمور في علة الأمر. وهذه أبلغ أنواع الأمر. وعندما يقول الحق: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} يعلم المخاطبون ماذا يريده الله، فيقولون: نعم انتهينا يا ربنا. وبالغوا كثيراً في هذا الانتهاء، فالإمام عليّ - كرم الله وجهه - يقول: لو وقعت قطرة منها في بحر ثم جف البحر، ونبت فيه الكلأ واندلع لساني من الجوع ما قربته. ولم يكن هذا أمراً مفروضاً، ولكنها المبالغة في الانتهاء على أقصى صورة. وها هوذا سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول: لو وقعت قطرة منها على يدي لحرمتها على نفسي. وهكذا كان رد فعل قول الحق: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} . وبذلك تم حسم مسألة الخمر. ونعرف أن التكليف في تحريم الخمر جاء متدرجاً، والتكاليف الإيمانية إنما تأتى على لسان رسول، والرسول لا يأتي إلا إذا عم الفساد في المجتمع، وفي ذوات البشر في آن واحد. فلا نجد من يلوم نفسه، أو يتدخل ليرد آخر عن فساده؛ هنا تتدخل السماء بإرسال رسول، ولا تصب السماء كل أحكامها في أول الأمر، ولكنها تدعو خلال الرسول بالإيمان بالله الواحد حتى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3380 يتلقوا منه الحكم. فالأيمان بوحدانية الله هو قمة العقيدة التي لا هوادة فيها. لكن في الأمور التي تتعلق بالأحكام، فالأحكام تُغيِّر أوضاعاً عرفية وأوضاعاً اجتماعية متداولة بين الناس. فإذا أراد الله أن يغير عادة بحكم فهو يأتي بهذه المسألة تدريجا؛ لأنه سبحانه وتعالى يتلطف مع خلقه برحمته. ومثال ذلك: كان الرجل يملك المال فلا يعطي أباه ولا أمه، إنما يعطي المال لأولاده؛ لأنه يعرف أن والده منته وسيموت قريبا، وأن الابن هو الذي يستقبل الحياة، ولذلك فالابن يأخذ كُلَّ المال. هنا قال الحق: لا، إنك أنت يا صاحب المال قد تموت قبل أبيك فاترك له شيئاً. {إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180] . لقد أراد أن يخرجهم من عدم العطاء إلى الوصية التي تكون منهم. وبعد أن استقرت الأحكام، قرر الحق للوالدين نصيباً من الميراث. إذن جاء الأمر أولاً بتلطف في الخروج عن حكم الإلف والعادة والعرف؛ حتى لا يخرجهم إخراجاً قسرياً. والحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يجعل المال دُولة بين الأغنياء فحسب أي يتداولوه دون غيرهم، بل يريد أن يجعل المال دولة بين الناس. لذلك جاء الميراث. إننا عندما نحسب ميراث ألف فدان مثلا نجده قد ذاب وتقلص وتناثر خلال ثلاثة أجيال إلى فدانين وخمسة أفدنة. وهذا تدرج أجيالي لا قسري. حتى يرتب الإنسان حياته وحياة أبنائه، فيترك المالك لأولاده ميراثاً وخيراً ليديروا العمل فيه. أما الذي لا يملك فهو يعطي لأبنائه حرفة أو وظيفة. لذلك يذيب الدِّيُن المسألةَ المالية والعقارية أو الإقطاع كما يقولون، لا بالقسر حتى لا تحدث للمجتمع هزة حقد أو هزة توتر؛ لأن الذي جمع ماله من عرقه ومن اجتهاده ساعة يرى المال قد خرج منه إلى من لم يعرق ومن لم يجد، فهو يحقد، والحق يقول: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36 - 37] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3381 وساعة يحدث الضغن في المجتمع فإن كل استقرار وود ينتهي. وهذا هو منتهى التلطف في رعاية العادات. وكانت الخمر ومجالسها عادة موجودة عند العرب، وكان من الصعب أن يخرجهم منها مرة واحدة. لذلك جاء تحريمها بتدرج وبتلطف والذكي والفطن عندما يسمع الآية التالية يعرف أن الله قد بيت للخمر تبييتاً محكما للقضاء عليها وذلك بتحريمها، يقول الله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] . فسبحانه يقول: «ورزقاً حسناً» ، ولم يصف السكر بأنه حسن. ومعنى هذا أن أخذ الرزق وتخميره واتخاذه سكراً هو إتلاف للحسن. وجاء الحق ب (السكر) أولاً ليخبرنا أنهم كانوا يأخذون منه الرزق أولاً النصيب الذي يجعلونه خمراً. ومن بعد ذلك يطرح الحق الأمر كعظة من الواعظ للموعوظ، والعظة ليست إلزاماً، إنما هي إبداء رأي حكيم لغيره، وهذا أول التبيت للدخول إلى تحريمها، ثم يقول الحق: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] . وهكذا رجح الحق جانب الإثم على جانب المنفعة. ومن بعد ذلك يأتي للصلاة، ولم يكن هناك حكم جازم بعدم شرب الخمر قبل الصلاة إلى أن قام واحد للصلاة وهو سكران، ونعوذ بالله مما قال، قال: قل أيها الكافرون أعبد ما تعبدون. لقد اضطرته الخمر أن يخطيء في القمة العقدية، لذلك جاء الأمر: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] . ونعلم أن المسلم يصلي خمسة فروض في اليوم، وحتى لا يقرب الإنسان الصلاة وهو سكران فهذا يقتضي أن يمر النهار كله تقريبا دون خمر إلى ما بعد العشاء. وبذلك أطال الحق المسافة الزمنية التي يمتنع فيها عن تعاطي الخمر. وفي ذلك حبس للنفس عن المعتاد عليه حتى يألف الشخص المعتادُ تركَ ما اعتادَهُ. ومن بعد ذلك يطلبون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3382 من الرسول رأياً شافياً في الخمر فيأتي قوله الحق: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] . لقد كان هذا هو التدرج الذي يخرجهم من الإلف والعادة في أعمالهم، فيأتي الأمر بالتحريم وكأنه صادر منهم. ويردف الحق سبحانه وتعالى ذلك الحكم الجزئي في الخمر والميسر فكأنه يقول: ما دامت المسألة كما علمتم مني بأن هذا رجس ومن عمل الشيطان فلا تعينوا الشيطان على نفوسكم وأخلصوا في عبادة الحق وحده، ويقول سبحانه - بعد ذلك: {وَأَطِيعُواْ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3383 لقد نقل الله الحكم بعدما انتهى من هذه الجزئية إلى حكم عام هو طاعة الله وطاعة الرسول. وأنت ساعة تستقرئ أمر الله بالطاعة فأنت تجدها في صور متعددة. فمرة يقول: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [المائدة: 92] . فقد كرر الأمر بالطاعة لله وللرسول، فالإطاعة لله في الحكم العام، وإطاعة الرسول في تفصيله، ومرة يقول سبحانه: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} [آل عمران: 32] . إنه هنا لا يكرر أمر الطاعة، فهناك أمر للطاعة، وهناك مطاع، وهناك مطيع والمطيع، هم المخاطبون، فهو هنا يوجد أمر الطاعة، والمطاع هنا هو الله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3383 والرسول يأتي معطوفا على لفظة الجلالة. ومرة يقول الحق سبحانه: {وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 56] . نحن إذن أمام حالات للطاعة: الأولى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، والثانية: أطيعوا الله والرسول، والثالثة: أطيعوا الرسول، ومرة واحدة فقط يعطف على ذلك «أولي الأمر» فيقول جل وعلا: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59] . وحين قال الحق: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [المائدة: 92] . فهو يكرر الأمر بالطاعة عند الله وعند الرسول، لكن عند أولي الأمر لم يأت سبحانه بأمر: «وأطيعوا» ؛ ذلك أن طاعة أولي الأمر تكون من باطن الطاعتين: طاعة الله، وطاعة الرسول؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وإذا قال الحق: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} تكون طاعة الله في الحكم العام، وطاعة الرسول في تفصيل الحكم. والمثال قوله الحق: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] . هنا نطيع الله في الحكم العام، ونطيع الرسول في تفصيل الحج. لأن التفصيل لم يأت في القرآن، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «خذوا عني مناسككم» وعندما يتوحد الأمران: «وأطيعوا الله والرسول» فهذا يعني أن هناك أمراً واحداً قد صدر من الله، وصدور وحصول الفعل من الرسول يكون للقدوة والأسوة وتوكيدا للحكم. وإذا كان لله أمر بالإجمال وللرسول أمر بالتفصيل فسبحانه يقول: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} . وإذا كان الأمر للرسول فقط ولم يرد فيه شيء من الله فهو أمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3384 صدر بتفويض من الله بناء على قوله الحق: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . وهكذا نجد أنه لا تلتبس طاعة بطاعة ولا تتناقض طاعة مع طاعة. والحق هنا يقول: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا} . لماذا هذا التحذير؟ يأتي هذا التحذير ليعلمنا الله أن الشيطان لن يدعنا ندخل في مجال طاعة الله وطاعة الرسول، وسيحاول جاهداً أن يُلبَّس علينا الأمر. فعندما يعرف الشيطان ميلاً في نفس إنسان إلى لون من الشهوات، يدخل إليه من باب المعاصي. وإن كان الإنسان قد أوصد بعض السبل أمام الشيطان فلا يستطيع مثلا إغراءه بالسرقة أو شرب الخمر، لا يتركه بل يدخل إليه من باب الطاعة، فيأتي الشيطان إلى الإنسان لحظة الوضوء وينسيه هل غسل هذه اليد أو تلك، وهل أسبغ الوضوء أم لا؟ أو يأتي الشيطان إلى المؤمن لحظة الصلاة فينسيه عدد الركعات أو عدد السجدات، وهكذا يدخل الشيطان للمؤمن من ناحية الطاعة. ومعنى قوله سبحانه: {واحذروا} أي احذروا أن يحتال الشيطان عليكم؛ لأنه سيحاول أن يدخل لكم من كل مدخل، يدخل على المسرف على نفسه بالمعصية، وأشد أعمال الشيطان على المؤمنين هي أن يدخل عليهم من باب الطاعة. ولذلك قال الحق: {واحذروا} وكثيراً ما نجد الإنسان منا ينسى موضوعاً ما، وحين يأتي إلى الصلاة فهو يتذكر هذا الموضوع. والشيطان لا يترك الإنسان في مثل هذه الحالة، فقد أقسم الشيطان فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] . وقال الحق سبحانه: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] . إنه أقسم أن يقف على الطريق المستقيم لا على الطريق المعوج. ومثال ذلك عندما يتصدق إنسان بصدقة قد يعلنها ويقول: لقد تصدقت أكثر من فلان. وهكذا يضيع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3385 منه الأجر. الشيطان يحاول - إذن - أن يدخل علينا من باب لا تفطن إليه وهو باب الطاعة. وأروي لكم هذه القصة حتى تعرفوا مدى تَدَخُّل الشيطان، وقد حدثت مع الإمام أبي حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. فقد جاء إليه من يسأله الفتوى في أمر غريب؛ قال السائل: ضاعت مني نقودي، فقد دفنتها في مكان من الأرض، ونزل السيل فطمس مكان النقود وأزال الحجر الذي وضعته علامة على مكانها. فقال الإمام أبو حنيفة: اذهب الليلة بعد صلاة العشاء وقف أمام ربك إلى أن يطلع الفجر، وقل لي ماذا سوف يحدث. وعندما جاءت صلاة الفجر جاء الرجل متهللاً إلى أبي حنيفة وقال: وجدت مالي. فسأله أبو حنيفة «كيف؟ قال الرجل: بينما أنا أقف للصلاة تصورت مكان وضع النقود، ومتى نزل السيل، وكيف سار، وهكذا قست المسافة وقدرتها إلى أن عرفت موقع النقود. فضحك الإمام وقال: والله لقد علمت أن الشيطان لن يدعك تتم ليلتك مع ربك. هكذا ترى كيف يدخل الشيطان من باب الطاعة. ولذلك قال الحق: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} [المائدة: 92] . أي فإن أعرضتم عمّا كلفتكم به فاعلموا أنكم بتوليكم وإعراضكم لن تضروا الرسول؛ لأن الرسول ما كلف إلاّ أن يقوم بالبلاغ المبين، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم به. إن الحق يعلم أزلاً أن بعضاً من عباده قد يقول: إن هذا الحكم لم يَرِد في القرآن؛ لذلك جاء بالأمر بطاعة الرسول. وهكذا صارت للرسول طاعة مستقلة، وأرادها الله حتى يَرُدّ مقدماً على الذين يسألون عن نص فيه كل تفصيل. بينما نجد هذه التفاصيل في السنة النبوية الشريفة. ومثال ذلك عدد ركعات كل صلاة، إنها لم تَرِدْ في القرآن، ولكننا عرفناها تفصيلاً من الرسول. وفَوَّض الحق رسوله في التشريع: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3386 فسبحانه قد علم أزلاً أن هناك من سيدَّعي أنه لن يطيع إلا القرآن. ولذلك قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله عزوجل، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله» أي أن الرسول هو المبلغ عن ربه، وأن علينا أن نحذر الشيطان إذا أراد أن يدخل علينا من باب الطاعة. ولكن لماذا قال الحق: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} ؟ وعن أي شيء يكون التولي؟ قال الحق ذلك ليوضح لنا أن الإنسان له الاختيار في أن يذهب إلى الطاعة، وله الاختيار في أن يذهب إلى المعصية، وإن تولى الإنسان عن الطاعة إلى المعصية، وعن الإيمان الذي جاء به الرسول الذي بلغ عن الله إلى البقاء في الكفر، فليعلم ذلك الإنسان أن الرسول قد أوفى مهمته وأداها. فالمطلوب من الرسول أن يبلغ المنهج، وقد بلغ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلاغاً مبيناً، محيطاً، واضحاً ومستوعباً لكل أقضية الحياة. لقد أبلغنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مطلوب الله منا أن نؤمن بإله واحد، قادر، حكيم، له كل صفات الكمال، ذلك هو الأمر الأول في العقيدة. وأبلغنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن نبتعد عما كان عليه العرب من الأنصاب، ومن الأوثان، ومن الأصنام. وبلاغ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطلب منا إيماناً، وعملاً، والعمل ينقسم إلى قسمين: عمل إيجابي، وعمل سلبي. ويتركز العمل الإيجابي في «افعل كذا» ، إذا لم تكن تفعله، أما العمل السلبي فهو أن تكف عما نهاك عنه الله، ونهاك عنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن أول مطلوب الإيمان هو الاعتقاد في الإله الواحد، وأن نكف عن عبادة الأوثان والأصنام، والطلب - كما نعرف - هو أن تنشيء كلاماً تطلب به من مخاطبك أن يفعل شيئاً لم يكن مفعولاً وقت طلبه. فإذا أوضح الحق: لا تعبد الأوثان، فهذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3387 طلب الفعل، وهو أن نكف عن عبادة الأوثان. وحين يأمرنا الحق بالصلاة والصوم والزكاة وحج البيت، فهذا طلب لأفعال. وطلب الفعل يقال له: «أمر» . وطلب الكف عن فعل يقال له: «نَهْي» . وأنت إذا نظرت إلى كل التكاليف في الإسلام، تجدها لم تأت مرة واحدة، وإنما جاءت على مدار ثلاثة وعشرين عاماً. فعندما جاء الإسلام آمن به أناس، ولم يكن قد صدر إليهم تنفيذ أي من الأحكام التي وردت على مدار سنوات الرسالة، وإنما كان المطلوب منهم بعضاً يسيراً منها، وكانوا يؤدونها، منهم من بلغه فقط ضرورة الإيمان بالإله الواحد، وآمن بذلك ثم وافاه الأجل وكانت له الجنة. ومنهم من امتدت حياته، فزادت عليه أحكام جديدة فنفذها، وكان إسلامه بذلك إسلاماً تاماً. إذن، فالتمام في الإسلام هو تنفيذ كل عمل جاء في الأحكام التي أدركها المسلم. فإن لم يكن المسلم قد أدرك إلا حكماً واحداً ونفذه فله كل ما وعد الحق به. ومثال ذلك «مخيريق اليهودي» الذي أسلم وأوصى بماله للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فلما كان يوم أُحُد، وقف في قومه قائلاً: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لَحَقُّ. فلم يجيبوه، فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أُصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء. ثم خرج إلى القتال فقاتل حتى استشهد. ولم يكن قد نفذ أي حكم من أحكام الإسلام، لكنه قاتل فنال شرف الشهادة، وقال عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مُخَيْريق خير يهود» ولا بد لنا أن نفرق دائماً بين «أركان الإسلام» والمطلوب من المسلم. ونعلم جميعاً أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «بني الإسلام على خمس: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3388 هذه هي أركان الإسلام. أما المسلم فقد يختلف المطلوب منه، فالمطلوب من المسلم أن يشهد مرة واحدة في حياته أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ومطلوب منه دائماً أن يقيم الصلاة مهما تكن حالته. لكن فرض الزكاة قد يسقط عنه إن كان لا يملك مالاً. وقد يسقط عنه الصوم إن كان مريضاً مرضا لا يرجى شفاؤه أو كان كبير السن لا يقدر على الصوم وعليه فدية طعام مسكين، أما المريض الذي يرجى شفاؤه وكذلك المسافر فيقضيان الصوم بعد زوال العذر ومثلهما الحائض والنفساء. وقد يسقط عنه الحج لأنه لا يملك المال الكافي. هكذا تختلف أركان الإسلام من مسلم لآخر، وهكذا نعرف أن من عاش في بدايات الإسلام ونفذ القليل من الأحكام التي نزلت حتى مات أو استشهد، فقد أدى مطلوب الإسلام منه. وعندما نزلت مسألة النهي عن الخمر، والميسر، ذهب أناس إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليسألوه عن مصير زملائهم وإخوتهم في الإيمان الذين ماتوا أو استشهدوا قبل أن ينزل تحريم الخمر والميسر. ومجرد السؤال هو دليل على اليقظة الإيمانية، فالإنسان لا يكون مؤمناً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وهنا أنزل الحق سبحانه وتعالى القول الكريم: {لَيْسَ عَلَى الذين ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3389 لقد أنزل الحق هذه الآية ليُطَمْئن المؤمنين السائلين عن الحكم في إخوانهم الذين ماتوا أو استشهدوا وكانوا يشربون الخمر قبل نزول الحكم بتحريمها. {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} و {طعموا} لا تخص الطعام فقط ولكن تشمل وتضم الشراب أيضاً، فالحق يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3389 {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] . وعلى ذلك فالماء طعام، بمعنى أن طعمه يكون في الفم. وهكذا عرف المسلمون السائلون عن إخوانهم الذين ماتوا أو استشهدوا أن إسلامهم كان مقصوراً على الأحكام التي نزلت في أثناء حياتهم، فقد نفذوا المطلوب منهم بعدم عبادة الأصنام. وقد يكون منهم من مات قبل أن تفرض الصلاة، أو مات قبل أن تنزل أحكام الزكاة أو الصوم، ولذلك لم يفعلوها. وعلى ذلك يكون عملهم الصالح هو تنفيذ التعاليم التي نزلت إليهم. لقد اتقوا الله فنفذوا مطلوب الإيمان على قدر ما طلب منهم الحق، آمنوا بالإله المكلِّف وجعلوا بينهم وبين الله وقاية بأن نفذوا مطلوبه سبحانه امراً ونهياً. والإيمان له قمة هي أن يؤمن الإنسان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبعد ذلك بالأحكام التي تنزل من السماء. واختلف العلماء فيما بينهم في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، فمن العلماء من قال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، إنما نظروا إلى الإيمان بالقمة العقدية وهي الإيمان بالله: والذين قالوا بأن الإيمان يزيد وينقص إنما نظروا إلى الإيمان بالأحكام التي ينزلها الله، وأخذوا ذلك من قوله الحق: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] . فكل آية تنزل بأحكام جديدة فهي تزيد الإيمان. فعندما نزل الحكم بالزكاة أمن به المسلمون وطبقوه. ومنهم ممن لم يكن يملك المال فلم يطبق الحكم على الرغم من أنه آمن به. فالمسلم يؤمن بالحكم، وإن كان مستطيعاً فهو يفعله، وإن كان غير مستطيع فهو لا يفعله. ولهذا كانوا يستبشرون بالأحكام التي تنزل بها الآيات. وعلى ذلك يكون خلاف العلماء خلافا على جهة منفكة، ونلحظ أن الحق يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3390 {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ والله يُحِبُّ المحسنين} [المائدة: 93] . إذن، فهنا ثلاث مراحل: هناك من أدرك حكماً فاتقى الله وآمن وعمل صالحاً، وبعد ذلك انتقل وأفضى إلى ربه فلا جناح عليه، وهناك من عاش ليعاصر أحكاماً أخرى فآمن بها وعمل بها، وهناك من عاش ليعاصر أحكاماً قد زادت فعمل بها أيضاً. والإيمان الأول ارتبط بالعمل الصالح، وكذلك الإيمان الثاني الذي جاء في الآية. ثم يأتي الإيمان الثالث مرتبطاً بالإحسان. والإحسان كما نعلم له وجهان: الأول أن يعبد المؤمن الله كأنه يراه، وكلما جاء تكليف، يحسن المؤمن في أدائه، كأنه يرى الله، وإن لم يكن يراه فإنه يحس أنه سبحانه يراه. وإذا ما استوعب المسلم كل أحكام الله التي استوعبت بدورها كل أقضية الحياة، فهو يحسن أداء هذه الأحكام. والوجه الثاني للإحسان أن يزيد المؤمن في أداء هذه التكاليف فوق ما فرض الله، وهي النوافل. وبذلك لا يكتفي المؤمن بتصديق الأحكام التي نزلت، بل يزيد من جنسها. والحق يقول: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15 - 16] . وجاء الحق بالتعليل وهو: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16] . ووجه إحسانهم أن الواحد منهم لا يقف عند ما كلفه الله به، بل يزيد على ما كلفه الله من جنس ما كلفه سبحانه، فالحق قد فرض على المسلم خمسة فروض، والمحسن هو من يزيد ويتقرب إلى الله بالنوافل. وفرض سبحانه على المسلم صوم رمضان، والمحسن هو من يؤدي صيام رمضان بتمامه ويزيد بصوم أيام أخرى من العام. وفرض سبحانه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3391 على المسلم زكاة مال بقدر اثنين ونصف في المائة وهو ربع العشر، والمحسن قد يزيد الزكاة إلى أكثر من ذلك. وفرض سبحانه على المسلم حج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا، والمحسن هو الذي يزيد مرات الحج. إذن، فالمحسن هو من عشق التكليف من الله، وعرف منزلة القرب من الله، فوجد أن الله قد كلفه دون ما يستحق - سبحانه - منا فزاد من العمل الذي يزيده قرباً من الله. ويضيف الحق في وصف المحسنين: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] . ولم يكلفنا سبحانه بألا نهجع إلا قليلاً من الليل. كلفنا فقط بأن نصلي العشاء، وبعد ذلك قد ننام لنصحو لنصلي الصبح، أما المحسن الذي عرف حلاوة الخلوة مع الله فهو لا يهجع إلا قليلاً من الليل. ويضيف الحق سبحانه في وصف المحسنين: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] . ولم يكلف الله المسلم بالاستغفار في السحر، لكن المحسن يفعل ذلك ويضيف الحق سبحانه: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] . ولم يقل سبحانه: إنه حق معلوم، لأن الحق المعلوم هو الزكاة. وهذه المراحل الثلاث هي التي تُدخل المؤمن في مرتبة الإحسان. ولذلك نجد الحق في آخر مرحلة في الآية التي نحن بصددها يتحدث عن الإحسان: {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} أي أن يزيد الإنسانُ المؤمنُ من جنس ما فرض الله. ووقت أن كان التكليف في دور الاستكمال فكل حكم يأتي كان يستقبله المؤمن بإيمان وعمل. أما الذين أدركوا كل التكاليف خلال الثلاثة والعشرين عاماً - المدة التي مكثها وعاشها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولا ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى - فقد استوت عندهم التكاليف، وإذا ما أرادوا الإحسان فلا بد لهم من الزيادة من جنس التكليف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3392 ويقول الحق من بعد ذلك: {ياأيها الذين ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3393 وهذا انتقال لحكم جديد، فبعد أن تكلم الحق فيما أحله لنا وقال سبحانه: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} [المائدة: 1] . وبعد أن تكلم الحق سبحانه فيما حرم علينا من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكى وذبح وحرَّم ما ذبح للأصنام وما استقسم بالأزلام وكذلك الخمر والميسر، أراد أن يعطينا محرمات من نوع خاص، وحتى نعرف هذه المحرمات لا بد لنا أن نعرف أن هناك أشياء محرمة في كل زمان وكل مكان، كالخمر والميسر والزنا وغير ذلك من النواهي الثابتة، سواء أكانت عبادة أصنام أم أزلام أم غير ذلك من أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وهناك محرمات في أزمنة خاصة، أو في أمكنة خاصة. والفعل، أي فعل، لا بد له من زمن ولا بد له من مكان. نحن مأمورون بالصلاة في زمانها في أي مكان طاهر وصالح للصلاة فيه، وكذلك الصوم يتحكم فيه الزمان، أما الحج فالذي يتحكم فيه هو الزمان والمكان. وأما العمرة فالذي يتحكم فيها هو المكان؛ لأن الإنسان يستطيع أن يعتمر في أي زمان - غالباً - ويتكلم سبحانه هنا عن نهي في مكان خاص وفي زمان خاص، فالصيد ليس محرماً إلا في حالة أن يكون الإنسان حُرماً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3393 ونعلم أن كلمة و «حُرُم» هي جمع «حَرَام» ، والحرام إما أن يكون الإنسان في المكان الذي يبدأ فيه بالتحريم. ومثال ذلك منطقة رابغ التي يبدأ عندها الإحرام بالنسبة لسكان مصر، فإن وصلت إلى هذا المكان وبدأت في عمل من أعمال الحج أو العمرة فأول عمل هو الإحرام. ومن لحظة الإحرام حتى ولو أحرمت من بلدك أو بيتك لا يحل لك الصيد. و «الحرم» أيضاً هو وصف للمكان حتى وإن لم يكن الإنسان حاجاً، فالصيد محرم في الحرم، والحرم له حدود بينها الشرع، فالصيد فيه حرام على المُحْرِم وغير المحْرِم. ونعلم أن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جعل الحق لها الأرض كلها مسجداً وطهوراً. وعلى ذلك فأي مكان يصلح للصلاة، ويصلح أن نقرأ فيه العلم، ويصلح أن نقيم عليه مصنعاً ويصلح أن نزرعه. إذن فأي أرض تصلح أن تكون مسجداً لأنها مكان للسجود. ولكن المسجد بالمعنى الاصطلاحي هو المكان المخصص للصلاة. أما المسجد الحرام فمركزه الكعبة وحولها الطواف وحول ذلك جدران الحرم. ويقع المسجد الحرام في دائرة الحرم، والتي تبدأ من التنعيم والجعرانة والحديبية والجحفة وغيرها، هذه حدود الحرم. فالإنسان إذا ما جاء إلى ميقات الحج عند رابغ مثلا فهو لا يصطاد؛ لأنه أصبح في دائرة الحرم، فالصيد محرم عليه حتى ولو لم يكن حاجاً أو معتمرا. والحج - كما نعلم - هو رحلة فرضها الله مرة واحدة في العمر يخرج إليها المسلم الذي يحيا في كل مكان مع نعمة المنعم. وعندما يخرج المسلم إلى الحج فهو يتحلل من كل النعم التي تصنع له التمييز ليستوي مع كل خلق الله. وأول سمة مميزة للإنسان هي الملابس، لذلك يخلع المسلمون ملابسهم ويرتدون لباساً موحداً يتساوون فيه. وحين يترك المسلم النعمة كلها فذلك لأنه ذاهب إلى المُنْعِم. ومن بعد ذلك يريد الحق أن يؤدبنا تأديباً إيمانياً مع الوجود كله. ويصفي الله في الحج هذه المسألة كلها، فالكل سواء في ملابس تكاد تكون واحدة، وكلهم شُعْثٌ غُبْر، وكلهم يقولون: «لبيك اللهم لبيك» . هكذا تتم تصفية التفاوت في الإنسان بالإحرام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3394 ومن بعد ذلك ينظر إلى الجنس الأدنى وهو الحيوان، ويعلمنا الحق الأدب مع هذا الجنس فيأتي بتحريم صيده. ويعلمنا الأدب مع الزرع الذي تحت الحيوان فيمنع المسلم من قطع شجر الحرم. وهكذا تصفي كل هذه المسألة، وتصبح العبودية مستطرقة في الجميع. وتزول في الحج كل الألقاب والمقادير المتباينة من فور اتجاههم إلى الحج، وحول الكعبة يرى الخفيرُ الوزيرَ وهو يبكي، ويشعر الجميع أن الكل سواء، والحق يقول: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] . فالحيوان يأمن وكذلك النبات، هذا ما أمر به الحق في دائرة الحرم؛ لأن ذلك تدريب للإنسان على أن يخرج من النعمة إلى المنعم. ومن بعد ذلك يدخل إلى المسجد ويطوف حول الكعبة. ونجد الإنسان - سيد الوجود - يقف من كل ما يخدمه في الوجود موقفاً مختلفاً، فالحيوان يأخذ كرامته وكذلك النبات، وكذلك الجماد يأخذ أيضاً كرامته، فمن عند الحجر الأسود يبدأ الطواف سبعة أشواط. في الحج ينفض الإنسان أي طغيان عن نفسه ويتساوى مع كل الناس، ينفض طغيانه أمام الجنس الأدنى وهو الحيوان فحرّم عليه صيده - ونعلم أن الحيوان يغذي الإنسان - وينفض أيضا طغيانه مع النبات - والنبات يغذي الإنسان - فحرّم قطعه. وينفض الحق كبرياء الإنسان أمام الجماد - وهو أحط الأجناس - فأمر الحق الإنسان أن يستلم الحجر الأسود أو أن يقبله، وإن لم يستطع من الزحام فعليه الإشارة للحجر، ومن لم يستطع استلام الحجر أو تقبيله فقد يخيل إليه أن حجه لم يقبل وذلك زيادة منه في التعلق بالمناسك والاحتياط في أدائها. كل ذلك حتى يحقق الله سبحانه وتعالى استطراق العبودية، ودائماً نجد من يتساءل: وكيف نقبل الحجر على الرغم من أن الله قد نهانا عن الوثنية وعبادة الأصنام؟ ونقول؟ إن الحجرية ليست لها قيمة في هذا المجال، ولكن رب الإنسان والحيوان والنبات والحجر هو الذي أمرنا بذلك، بدليل أننا نرجم حجراً آخر هو رمز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3395 إبليس، والعبد في أثناء أداء المشاعر - إنما ينتقل من مراد نفسه إلى مراد ربه، فيقبل ويعظم حجراً ويرجم حجراً آخر، وهكذا صفيت العبودية بالنسبة للناس فاستطرقوا، وصُفيت العبودية بالنسبة للحيوان والنبات والجماد. ويلفتنا سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فيقول للحجر الأسود: «أنا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك» . كأن سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يعلمنا حتى لا يقول أحد: إنها وثنية، فالوثنية أن تعبد حجراً بمرادك، أما الحجر الأسود فنحن نعظمه بمراد الله. {ياأيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94] . ما الفرق بين ما تناله الأيدي وما تناله الرماح؟ . ما تناله الأيدي هو صغار الأفراخ والأشياء السهلة اليسيرة، أما ما تناله الرماح فهو ما تصطاده بجهد وبالرمح وحسن تصويبه. وقال الحق: «ولنبلوكم» لأن هناك فارقاً بين أن يلح الإنسان على المعصية فيفعلها، وبين أن يصل إلى منزلة لا يلح فيها على معصية، بل قد تقع عليه المعصية، وإن وقعت عليه المعصية فهو لا يرتكبها. كأن الحق يبتلينا ما دمنا لا نلح على المعصية، ويريد أن يرى ماذا يكون التصرف منا إن جاءت المعصية إلينا فهل نفعلها أو لا؟ . فإن كان الإيمان قوياً فلا أحد يقرب المعصية. ولذلك يبتليكم الله يشيء من الصيد المحرّم عليكم بان يجعله في متناول أيديكم. حدث ذلك في الحديبية لقد كاد الصيد يضع نفسه بين أيدي المؤمنين ولم يقربوه وكان هذا اختباراً. ونعلم أن الابتلاء غير مذموم في ذاته، إنما المذموم فيه الغاية منه؛ لأن الابتلاء اختبار، وقد ينجح إنسان، وقد يفشل إنسان آخر. وكأن الحق قد ابتلى المؤمنين بان جعل الصيد يتكاثر أمامهم حتى يقوي عود الإيمان في قلب المؤمن فلا يتهافت على المعصية وتتكون لديه المناعة وذلك. {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3396 وسبحانه وتعالى العالم بكل شيء قبل أن يحدث. لكن هناك فرق بين علم وعلم، وإن علم الله أزلي لا يتخلف، ولكن هذا العلم ليس حجة على الناس؛ لأن الحجة على الناس هو ما يقع منهم فعلاً، ولذلك كان الابتلاء. وأسوق هذا المثل - ولله المثل الأعلى - إن الوالد قد ينظر إلى أحد أبنائه ويقول: أنه يلعب طول السنة ومن الأفضل ألا ندخله الامتحان؛ لأنه سوف يرسب. ولا يدخل الابن الامتحان، ولكن الوقاحة قد تصل به إلى الحد الذي يقول فيه: لو كنت دخلت الامتحان لكنت من الناجحين. ولو كان والده أدخله الامتحان ورسب، لكان هذا الرسوب حجة عليه. إذن فعلم الحق لا يلزمنا الحجة، إنما العلم الواقعي هو الذي يلزمنا بها. وقد حدثت هذه الابتلاءات في النبوّات كثيراً. ومثال ذلك ابتلاء الحق لليهود بتحريم الصيد يوم السبت، فكان الحيتان تأتي في هذا اليوم مشرعة وكأنها تلح عليهم أن يصطادوها. وفي الأيام الأخرى لا تأتي الحيتان، فيحتالون لعصيان الأمر باختراع نوع من الشباك السلكية تدخل فيها الحيتان، وتطل محبوسة فيها إلى يوم الأحد فيأخذونها. وتكون حيلتهم هي دليل الغباء منهم؛ لأن الصيد قد تم بالنية والعمل والاستعداد المسبق. وكان الابتلاء في الإسلام بشيء من الصيد. {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقد علمنا من قبل قوله الحق: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] . فإن كانت المسائل مأمورات فعلينا أن ننفذها. وإن كانت نواهي فيجب ألا نقربها حتى لا نقع فيها فتكون حجة علينا؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3397 ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3398 أي لا تقتلوا الصيد إن كنتم قد أحرمتم بالحج أو بالعمرة أو بهما معا، وإن لم تحرموا فالصيد محرّم أيضاً في حدود منطقة الحرم. وسبحانه قد جعل الحرم زماناً والحرم مكاناً. وهو فَيْءٌ يلجأ إليه الناس من غرور عزة قوم على حساب ذلة قوم آخرين. وقديماً كان يحارب بعضهم بعضا، ولذلك جعل الحق أربعة أشهر حرماً في الزمان، أي لا قتال فيها، وذلك حتى يستريح المتعب من الحرب، ويستريح من يخاف على عزته، أو يذوق فيها الجميع لذة السلام والأمن، وقد يستمرون في ذلك الاستمتاع بالسلام والأمان. وكذلك جعل الحق الحرم أيضاً مكاناً آمناً، لا يتعرض فيه أحد لأحد. وكان الإنسان يقابل في الحرم قاتل أبيه فلا يتعرض له، كل ذلك ليحمي عزة المسلمين أن تنكسر أمام غيرهم. ومثال ذلك طرفان كلاهما على خلاف مع الآخر، وكل منهما يرغب في الصلح مع الطرف الآخر. وهنا يتدخل أي إنسان من الخارج فينجح؛ لأن الطرفين ميالان للصلح. وكل منهما يريد إنهاء الحرب ولكن تأخذه العزة بالإثم وتستولي عليه الحمية ويأنف أن يبدأ خصمه بطلب الصلح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3398 وقد أراد الحق أن تكون هناك في الأشهر الحرم فرصة للائتلاف والصلح وذلك بأن يلجأ الناس إلى البيت الحرام حتى تنفض البشرية عن نفسها البغضاء وحتى يرتاح البشر من القتال، فتصدر الأحكام في رويّة واتزان وهدوء أعصاب. ويقول الحق جل وعلا: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكعبة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} [المائدة: 95] . ولا يعتبر الشيء صيداً إلا إذا كان مما يؤكل. أما إذا كان الشيء المصاد لا يؤكل كالسبع وغيره فقد قال بعض العلماء: لا يمنع ولا يحرم ولكنا نقول: إن الصيد هو كل ما يصاد سواء ليؤكل أو حتى غير مأكول، وذلك لنعلم أنفسنا وجوارحنا وأعضاءنا الأدب ونحن حرم. ومعنى «حُرُم» هو أن نكون محرمين أو في الحرم، والحرم له حدود معروفة. وداخل الحرم ممنوع على الإنسان أن يصطاد أي شيء من لحظة بلوغه ميقات الحج والعمرة. إذن فحيز الصيد محدود بالنسبة لكل من دخل الحرم المكّي الشريف سواء أكان محرماً أم لا. وحيز الصيد بالنسبة لمن أراد الحج أو العمرة هو أكثر رقعة واتساعا، ذلك أن التحريم يبدأ من حين الاحرام بالحج أو العمرة أو بهما. ولكن ماذا يكون الحكم إن اعتدى إنسان على الحكم واصطاد؟ {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} . لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألحق قتل الخطأ بالعمد، وذلك حتى ينتبه كل مسلم إلى كل فعل وهو محرم، أو وهو في البيت الحرام. هب أنك أردت أن تحك جلد رأسك بأظافرك وأنت محرم، هنا قد يتساقط بعض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3399 شعرك؛ فإن ثبت ذلك فعليك هدي للكعبة أو صوم أو إطعام مساكين؛ لأن الحق يريد لك حين تحرم أن تنتبه بكل جوارحك إلى أن كل حركة من حركاتك محفوظة ومحسوبة عليك، ولتكن في منتهى اليقظة الإيمانية، وأي خطأ مهما يكن يسيراً يوجب الفدية. لذلك من قتل وجب عليه الجزاء لتعديه على شيء حرمه الله. والجزاء محدد بنص القول الحق: {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} وعند المثلية وقف العلماء أيضاً: أتكون المثلية بالقيمة، أو المثلية في الشكل؟ والمثلية في القيمة تعني أن تقوِّم الشيء المقتول بثمنه، وتشتري بالثمن شيئاً من الأنعام وتذبحها. والمثلية في الشكل تعني أن نشبه الشيء المقتول بمثيل له مما يذبح ويكون أقرب إلى شكله. ودليل ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما قتل مسلم ضبعاً أمر المسلم أن يفدي بكبش. والصحابة رضوان الله عليهم: علي، عمر، وعثمان وعبد الله بن عمر أمروا رجلاً قتل نعامة أن يفديها ببدنة ناقة أو بعير لأنها تشابه النعامة في العلو. وحينما قتل إنسان ظبياً فداه بشاة. والظبي أو الغزال هو الذكر، والغزالة هي الأنثى، وعندما قتل غزالاً صدر الحكم بالفداء بعنزة. ومن قتل «يربوعاً» - وهو من الزواحف وأكبر من الفأر قليلاً - صدر الحكم أن تكون الفدية «الجفرة» وهي ولد الماعز بعد أن يستغني عن لبن أمه ويستطيع الأكل. إذن، فالمثلية هنا مثلية الشكل. وقال أبو حنيفة بإباحة أن تكون المثلية بالقيمة إن لم يوجد الشبيه. وعلى ذلك فالذي يصطاد من أجل أن يطعم نفسه يدفع ثمن الخطأ لغيره من المحتاجين. وإن كانت المثلية بالقيمة فالذي يحدد هذه القيمة أناس لهم بصيرة وهما اثنان من ذوي العدل. {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكعبة} وهم الذين لا يميلون عن الحق، ويقيمون الميزان. ويأمرنا الحق أن نحكم بالإنصاف لنكون من ذوي العدل، أي أن الإنسان حين يواجه خصمين فهو يعطي نصفه لخصم ونصفه الآخر للخصم الثاني، فلا يميل بالهوى ناحية أحدهما. ولا يدير الإنسان وجهه إلى الخصم أكثر مما يديره للآخر. وإن سأل أحد: كيف نأتي بذوي العدل؟ ونقول: انظر إلى عدالتهما في نفسيهما ولنر تصرفات الإنسان هل هي مستقيمة أو لا؟ وهل هو مسرف أو معتدل سواء في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3400 الطعام أو الغضب أو في أي لون من ألوان السلوك؟ ومن كان مأموناً على نفسه فهو مأمون على غيره، ويجب كذلك أن يكون من ذوي الخبرة في هذا الأمر، ولذلك يجب أن ينتبه الناس إلى هذه المسائل لأننا نرى أن موجة من النفاق للشباب تسود بعض المجتمعات، فنسمع أصواتاً تقول: إن الشباب يجب أن يتولى القيادة. ونقول لأصحاب هذه الأصوات: تمهلوا ودققوا النظر في مثل هذا القول؛ لأن الشباب عليه أن يزاول عمله الخاص في فترة الشباب، وعلينا ملاحظته وهو يؤدي عمله فإن نجح ورأينا فيه أمانة على حركة نفسه، وعدلاً مع نفسه وعدم إسراف على نفسه فإننا نرشحه من بعد ذلك ليخدم أمته بعد أن يثبت أنه مأمون في عدالة نفسه. ولا يصح أن نجرب في الأمة مَن لا يَستند إلى رصيد من الخبرة السابقة. إنه لا يصح أن نولي الأمر في أي قطاع لمن أطلقوا عليهم: الأطفال المعجزة. ومن يريد أن يجرب فليجرب في نفسه، وفيما يملك، لا في الأمم والشعوب. وعلى الشاب أن يبدأ حياته بنشاط جدي لذاته، ليستخلص النفعية القريبة منه وألا يغش نفسه، فإن نجح في ذلك، نأخذ منه بعض الوقت أو كل الوقت لخدمة أمته بعد أن يثبت لنا أنه قد وصل إلى النضج العقلي الكافي، وقد زادت تجاربه وفقد شهية الطموح الشخصي والمتع الصغيرة، ووصل إلى القدرة على التجرد ليحكم بين الناس. فإذا كان الحق قد أمرنا أن نختار ذوي العدل للحكم في رقبة شاة، فما بالنا برقاب الناس ومصالح الناس؟ نحن - إذن - مطالبون بأن نميز ذوي العدل بين الناس من خلال مراقبة حركة الإنسان مع نفسه وعلى نفسه وعلى أهله، وعندما نكتشف أنه صار مأموناً على نفسه، هنا نستطيع أن نوليه أمور غيره بالخدمة العامة، وذلك حتى لا تخيب الأمة، فالأمم إنما تخيب باختيار غير مدروس لقيادات المواقع المختلفة فيها. ولنا أن نلحظ في عملنا دقة المعاني التي جاءت في القرآن الكريم، فنحن هنا في أمر شاة أو حيوان نستصدر الحكم من ذوي العدل. {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3401 يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكعبة} وما يحكم به ذوا العدل إنما يذهب كله للكعبة؛ ليأكله الموجودون في البيت الحرام لعبادة الرحمن. وقد أراد الله أن يضمن قوت الذين يسكنون وادياً غير ذي زرع حتى من أغلاط الذين يعتدون على ما حرَّمَ الله صيده من الحيوان. ولكن ما الحل إذا ما كان المخطئ لا يملك القدرة على أن يقدم هدياً بالغ الكعبة؟ والحق سبحانه لا يترك مثل هذه الأمور دون بيان أو تفصيل، فهاهوذا يضع الكفارة بإطعام مساكين، يحدد عددهم الاثنان من ذوي العدل. ومن لا يستطيع إطعام مساكين فليصم أياماً بعدد الفقراء الذين كانوا يستحقون الطعام لو أخرجه. {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} والوبال هو الثقل والعاقبة. ولماذا الوبال؟ لأن الإنسان حين يدفع من ماله ثمن شراء المثل لما قتل سيعز عليه ماله، وأيضاً إن أطعم مساكين فهو سيشتري الطعام بمال يعز عليه، وكذلك يسبب له الصيام الإرهاق. إن هذا اللون من الكفارة يذيق الإنسان وبال ما فعل. وأراد الحق بذلك ألا يجعل الإحساس مجرد أمر شكلي، أو أن تظل الإساءة أمراً شكلياً. وشاء سبحانه أن يرتب النفع للإحسان والضر للإساءة، حتى تستقيم الأمور في الكون. ولنا في قصة ذي القرنين المثل الواضح على ذلك: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 83 - 84] . لقد مكن الحق لذي القرنين في الأرض، وأعطاه من كل شيء سببا. ومع ذلك لم يركن ذو القرنين إلى ما أعطى فلم يتقاعس ولم يكسل، بل يخبرنا الحق: {فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 85] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3402 لقد أخذ ذو القرنين من تمكين الله له في الأرض، وأخذ من عطاء الله له بشيء من كل سبب، إنه أخذ طاقة وإحساساً بالمسئولية ليواصل مهمته: {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف: 86] . لقد بلغ مغرب الشمس في نظر عينيه، لأن الإنسان عندما يقف وقت الغروب في خلاء فالشمس تغرب أمامه وكأنها تسقط في آخر الأفق. والحقيقة أن ذلك هو نهاية قدرة البصر. وجاء التفويض لذي القرنين: إما أن يعذب هؤلاء القوم، وإما أن يعاملهم بالحسنى. وليقس عمل كل إنسان منهم، وليجاز كل إنسان منهم حسب عمله. وهو لا يفعل ذلك عن هوى، لأنه ممكن في الأرض من الحق سبحانه وتعالى؛ لذلك قال الحق: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} [الكهف: 87] . وكل إنسان - حتى النفعي - حين يرى أن ارتكاب العمل السيء يأتي له بالمتاعب والخسارة، يرجع عنه ولو لم يكن مؤمناً باليوم الآخر. أما من يؤمن باليوم الآخر ويعمل عملاً صالحاً فماذا تكون نوعية معاملته؟ ها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف: 88] . إنه ينال التكريم والتشجيع، فالتكريم والتشجيع يجب أن ينالهما صاحب الحق فيهما لا المنافق أو المتمسح بالأبواب. هكذا يكون دستور كل متمكن في الأرض. وهكذا تكون رعاية أوامر الله ونواهيه. وحين أمرنا الحق بتحريم الصيد في البيت الحرام أو على المحرم ووضع عقوبة لمن أخطأ، فهو سبحانه وتعالى عادل معنا، فلا عقوبة إلا بنص ولا تجريم إلا بعد النص، ولذلك قال سبحانه: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} . فسبحانه يعفو عما سلف، أما من عاد ليرتكب نواهي الله في هذا المجال فيعاقبه الحق. فلا يقبل منه هدى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3403 ولا إطعام مساكين ولا صوم؛ لأن في تكرار المخالفة إصراراً عليها، لذلك ينتقم منه الله، وهو العزيز الذي لا يُغْلَب. وبعد أن تكلم الحق عن صيد البر وحكمه، أراد أن يوضح لنا أن ذلك الحكم لا ينسحب على كل صيد. فسبحانه حرم صيد البر إن كنا حرماً، أو في دائرة الحرم. ويجيء قول الحق: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3404 وهذا قول دقيق يبين تحليل صيد البحر وطعامه، وتحريم صيد البر على المحرم كما حرّم الصيد في دائرة الحرم على المحرم وغير المحرم؛ لأن المسألة ليست رتابة حِلٍ، ولا رتابة حُرمة، إنما هي خروج عن مراد النفس إلى مراد الله. وصيد البحر هو ما نأخذه بالحيل ونأكله طرياً، وطعام البحر هو ما يعد ليكون طعاماً بأن نملحه ولذلك قال: {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} . ولهذا جاء الحق بطعام البحر معطوفاً على صيد البحر. والشيء لا يعطف على نفسه، فإذا ما جاء العطف فهو عطف شيء على شيء آخر، فالعطف يقتضي المغايرة. إذن فالمقيم يأكل السمك الطري والذي في سيارة ورحلة فليأخذ السمك ويجففه ويملحه طعاماً له، مثلما فعل سيدنا موسى مع الحوت. ولكنْ هناك ألوان من الصيد ليست للأكل، كاللؤلؤ والمرجان والحيوانات التي نستخرجها من البحر لعظامها وأسنانها وخلاف ذلك، فماذا يكون الموقف؟ لقد أباح لنا سبحانه الاستمتاع بكل صيد البحر. وجاء هذا التحليل هنا بأسلوب اللف والنشر، مثلما قال الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3404 {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] . وكلنا يعرف أن الليل للراحة والنهار للتعب. والليل يسلم للنهار، والنهار يسلم لليل. إذن فالمسكن يعود إلى الليل، وابتغاء الفضل بالكد يعود إلى النهار. إذن فقد جاء الحكم على طريق اللف والنشر المرتب، وأوضحت من قبل كيف أن الشاعر العربي قد فعل ذلك فقال: قلبي وجفني واللسان وخالقي ... راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفورُ. فالقلب راض، والجفن باكٍ، واللسان شاكر، والخالق غفور، ولكن الشاعر جاء بالأحكام منشورة بعد أن لف الكلمات الأربع الأولى. أي أنه طوى المحكوم عليه مع بعضه ثم نشر الأحكام من بعد ذلك. وفي حياتنا - في أثناء السفر - نشتري الهدايا للأبناء ونرتبها حسب ورود الأبناء إلى حياتنا، أي أننا نلف الهدايا ثم ننشرها من بعد ذلك. وبعد أن حلل الحق صيد البحر جاء بتحريم صيد البر إن كنا حُرُماً، وذلك تأكيد جديد على تحريم صيد البر في أثناء الإحرام أو الوجود في الحرم. ويذيل الحق الآية بقوله: {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُون} أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية؛ لأنكم لستم بقادرين على تحمل عذاب النار، فالحق - كما قلنا من قبل - له صفات جمال، وهي التي تأتي بما ييسر وينفع كالبسط، والمغفرة والرحمة، وله سبحانه وتعالى صفات القهر مثل: الجبار وشديد العقاب وغيرها. وكل صفة من صفات الحق لها مطلوب. فعندما يذنب الإنسان فالتجلي في صفات الله يكون لصفات الجلال، ومن جنود صفات الجلال النار. إذن فإياكم أن تظنوا أنكم انفلتم من الله، فمساحة الحرية الممنوحة لكل إنسان تقع في المسافة بين قوسين: قوس الميلاد، وقوس الموت، فلا أحد يتحكم في ميلاده أو وفاته. إياك - إذن - أيها الإنسان أن تقع أسير الغرور؛ لأنك مختار فيهم بين القوسين. ومحكوم بقهرين، قهر أنه قد خلقك بدءاً، وقهر أنك ستعود إليه - سبحانه وتعالى - نهاية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3405 ويقول الحق من بعد ذلك: {جَعَلَ الله الكعبة ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3406 «جعل» تعني بَيَّن ووضَّح، فقال: إن الكعبة محرمة ولها كرامة تستحق من المؤمن أن يأمن فيها. أو «جعل» تعني إيجاد صفات للأشياء بعد أن تكون ذات المادة موجودة، مثل قوله الحق سبحانه: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 7] . أي أنه سبحانه خصص جزءا من خلايا الإنسان ليكون عيناً، وجزءا آخر ليكون أذنا، وجزءا ثالثاً ليكون لساناً. والحق هنا يقول: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} . ونعرف أن كل الأسماء للمعنويات مأخوذة من المُحسات. والكعب هو الشيء الناتيء الخارج عن حد المتساوي. ومثال ذلك الكعب في القدم يكون مرتفعاً. وكذلك الفتاة نطلق عليها: «طفلة» وهي دون البلوغ، وعند البلوغ وظهور الثديين نقول إنها «كَعَاب وكاعب» ، أي أن ثدييها قد صارا مرتفعين، والكعبة نتوء، والنتوء ارتفاع، وهذا الارتفاع هو علامة البيت، فالبيت هو مساحة من الأرض، أما الارتفاع فهو يحدد الحجم. ومثال ذلك عندما نريد حساب مساحة الأرض؛ نقيس الطول والعرض؛ ونضرب الطول في العرض حتى نحسب المساحة. أما إذا كان هناك ارتفاع فهذا يعني الانتقال من المساحة إلى الحجم. والحق سبحانه يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3406 {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] . أي أن سيدنا إبراهيم بعمله إنما أراد أن يصنع للبيت ارتفاعاً وحجماً، وهذا البناء يدل على صناعة حجم لمساحة من الأرض. إذن فالكعبة هي البيت بعد أن صار له ارتفاع. وكلمة «بيت» تعني المكان الذي أعد للبيتوتة، فالإنسان يضرب في الأرض طيلة نهاره وعندما يحب أن يستريح يذهب إلى البيت. فالله جعل الكعبة بيتاً للناس حتى يستريحوا فيه من عناء حياتهم ومشقة كدحهم لأنه بيت ربهم باختيار ربهم، لا باختيارهم، فكل مسجد هو بيت الله ولكن باختيار خلق الله، أما الكعبة فهي بيت الله باختيار الله، وهي قبلة لبيوت الله التي قامت باختيار خلق الله. {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} وكلمة {البيت الحرام} تدل على أن له حرمات كثيرة. وجعل الله الكعبة بيتاً حراماً لكل المسلمين قياماً. والقيام هو الوقوف، والوقوف هو القيام على الأمر. والقائم على أمرٍ ما يحفظ له قوام حياته ووجوده. وهكذا نفهم أنه سبحانه أراد أن تكون الكعبة هي البيت الحرام ليحفظ على الناس قوام حياتهم، بالطعام والشراب واستبقاء النسل ودفع الأذى، وفوق ذلك له سيطرة وسيادة وجاه وتمكين، ولذلك يعطي الإيمان الحياة الراقية، فالحياة مسألة يشترك فيها المؤمن والكافر، وتبدأ بوجود الروح في المادة فتنتقل المادة إلى الحالة الحس والحركة، والمؤمن هو من يرتقي بحياته فيعطي لها بالإيمان منافع، ويسلب عنها المضار، فيأخذ السيادة، وبذلك تتصل حياته الدنيا بحياته في الآخرة، فلا تنتهي منه الحياة أبداً. لقد جعل الحق سبحانه وتعالى الكعبة البيت الحرام قياماً للناس. . أي قواماً لحياتهم سواءً الحياة الدنيا او حياة الآخرة، الحياة المادية التي تنتهي بالموت، والحياة التي تبدأ بالآخرة. والحق سبحانه يقول عن ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3407 هكذا يكون الإيمان بالله وصلاً لحياتين: الحياة المادية في الدنيا، وحياة الآخرة. وأراد الحق بذلك دفع الأذى وجلب النفع والجاه والسيطرة للمؤمنين، ونعرف أن البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] . كذلك نعرف أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أقام القواعد من البيت، أما البيت نفسه فقد أقيم من قبل ذلك. وما دام الحق سبحانه قد قال: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] . فمعنى ذلك أن الله لم يحرم الناس من قبل إبراهيم أن يكون لهم بيت. فالناس معناها البشر من آدم إلى أن تقوم الساعة، وأقام إبراهيم خليل الرحمن البُعْد الثالث وهو رفع القواعد للبيت الحرام. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26] . أي أن الحق سبحانه وتعالى أظهر مكان البيت لإبراهيم عليه السلام، ونعرف أن إبراهيم أشرك ابنه إسماعيل في إقامة القواعد من البيت، ونعلم أن إسماعيل قد جاء إلى هذا المكان رضيعاً مع أمه، وقال إبراهيم بعد أن رفع القواعد متوجها إلى ربه بالدعاء: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} [إبراهيم: 37] . لقد عرف إبراهيم مكان البيت وأنه بوادٍ غير ذي زرع، لا ماء فيه ولا نبات. وجاء الحق بهذه الكنابة لنعرف أنه لا حياة بدون زرع، والماء لازم للزرع. وبذلك يكون إبراهيم عليه السلام قد لبى نداء الله بأن يأتي إلى مكان ليس به أي نعمة تقيم الحياة، ولا يوجد فيه إلا المنعم، ولذلك نرى سيدتنا هاجر عليها السلام عندما تتلقى الأمر من إبراهيم بالسكن مع ابنها في ذلك المكان تناديه: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ فيقول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3408 لها: إلى الله تقول: رضيت بالله. هنا تركته سيدتنا هاجر ليمشي كما أراد، فالله لن يضيعها لا هي ولا ابنها؛ لأنها قالت: رضيت بالله. وقص الرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علينا قصتها، والسعي الذي قامت به بين الصفا والمروة، وكيف كانت ثقتها في أن الخالق الأكرم لن يضيعها لا هي ولا ابنها، بل سيرزقهما، فتسعى بين الصفا والمروة لعلها تجد طيراً يدلها على موقع للماء، وتعود إلى المروة لعلها تجد قافلة تسير. إنها تأخذ بالأسباب مع علمها أنها في صحبة المسبب الأعظم. وسعت سبعة أشواط. وهي الأنثى وفي تلك السن، وذلك من لهفتها على توفير شربة ماء لطفلها. السعي - كما نعرفه - عملية شاقة. ولو أن الله أعطاها الماء على الصفا أو على المروة لما أثبت كلمتها: «إن الله لا يضيعنا» . ولكن الحق يعطيها الماء عند قدمي طفلها الرضيع. وبذلك لها يكون سبحانه قد نبهنا وأرشدنا إلى قضيتين: أمّا الأولى فإن الإنسان يلزمه أن يسعى على قدر جهده، وأما الثانية فهي أن السعي لا يعطي بمفرده الثمرة، ولكن الثمرة يعطيها الله. وجعل الله من السعي بين الصفا والمروة تعليماً لنا بدرس عملي تطبيقي أن نأخذ بالأسباب ولا ننسى المسبب؛ لأن فتنة الناس تأتي من الغرور بالأسباب. {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] . إنه لا يصح أبداً أن تعزلك الأسباب عن المسبب، ولا تقل سأبقى مع المسبب إلى أن تأتيني الأسباب؛ لا، كُنْ دائماً مع الأسباب، وتذكر دائماً المسبب. ولذلك نقول: إن الجوارح تعمل، ولكن القلوب تتوكل. وهذا هو المغزى من عطاء الحق سبحانه الماء لهاجر عند قدمي ابنها، وبذلك تستجاب دعوة إبراهيم التي دعا بها الله: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3409 لقد دعا إبراهيم عليه السلام بالرزق من الثمرات، لأن الوادي غير ذي زرع. ولذلك جعل الحق أفئدة الناس تهوي إلى الكعبة وإلى البيت الحرام. يقول - سبحانه -: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} [القصص: 57] . وكلمة «يُجبى» تدلنا على أن الناس لا تأتي بهذه الثمرات اختياراً إلى البيت الحرام الذي جعله الله قياماً لحياة من يوجد فيه، بل يأتون بالثمرات قهراً. وهناك أناس لهم مزارع كبيرة وحدائق وفيرة الثمار في الطائف وفي غيرها من البلاد، وعندما يريد إنسان الشراء من نِتاج مزارعهم يقولون له: إنه مخصص لمكة فإن أردت شراءه فاذهب إلى مكة. لقد استجاب الحق لدعاء إبراهيم: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} . و «تهوي» - بكسر الواو - تدل على السقوط من حالق. . أي من مكان مرتفع شاهق. وكأن الشوق إلى الكعبة يجعل الإنسان مقذوفاً إليها. ولذلك نجد الكَلِف بالحج - المحب له والمتعلق به - تشتاق روحه إلى الحج. وعلينا أن نفرق بين «يَهْوَى» . . أي يحب الذهاب، و «يَهوى» بكسر الواو أي يذهب بالاندفاع، فالإنسان إن سقط من مكان عالٍ لا يستطيع أن يقول: سأتوقف عند نقطةٍ ما في منتصف مسافة السقوط؛ لأن الذي يقع من مكان لا يقدر على أن يمسك نفسه. ولذلك قال الحق: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات} [إبراهيم: 37] . وهذا دليل على أن الهْوُي ليس من صنعة الجسم، ولكنه من صنعة الأفئدة. والأفئدة بيد الله - سبحانه - هو الذي جعلها تهوِي، والكعبة هي البيت الحرام وهي قوام لحياة الناس، وسبحانه القائل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3410 {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] . فالداخل إلى الكعبة آمن حتى ولو كان قاتلاً. وكان الرجل يلتقي بقاتل أبيه في الكعبة فلا يتعرض له، إذن فقد أعطى الحق لهم من مقومات الحياة الشيء النافع وحجب عن الموجود منهم الضر. وأما السيادة والجاه فقد عرفنا ان قريشاً سادت العرب وكان رجالها سدنة وخدماً لبيت الله، والكل يأتي إليهم فلا أحد يتعرض لقوافلهم الذاهبة إلى الشام أو اليمن. وإلا فمن يتعرض لقوافل قريش فإن قريشاً تستطيع الانتقام منه عندما يأتي إليها. وكان ذلك قمة السيادة. إذن فمقوم الحياة إما أن يأتي بنافع كالرزق، وأما أن يمنع الضار؛ وذلك بالأمن الذي يصيب كل داخل إليها، وكذلك بالسيادة التي أخذتها قريش على العرب جميعاً. وأعطى الله المثل لقريش على حمايته للكعبة، عندما جاء أبرهة ليهدم الكعبة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] . ورد سبحانه كيد أصحاب الفيل؛ لأنهم لو هدموا الكعبة لضاعت السيادة من قريش، ولذلك قال الحق وصفاً لذلك: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5] . {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 1 - 2] . جعل الحق أصحاب الفيل كعصف مأكول أي كتبن أو نحوه أكلته الدواب وألقتهُ رَوْثا، فعل - سبحانه - ذلك حتى تألف قريش وتطمئن إلى أن الكعبة لن يمسها سوء، وإلى أن رحلات الشتاء والصيف مصونة بحكم حاجة كل القبائل إلى الحج. وقال سبحانه: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3411 أي أسبغ عليهم النعمة بالطعام وسلبهم المضرة بالخوف، وأبقى لهم السيادة والجاه بخدمة الكعبة التي جعلها الله للناس جميعاً قياما وامناً؛ لأن الذين يذهبون إلى حج البيت يُكفر عنهم سبحانه سيئاتهم ويخرجون من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم، وهذا قيام لحياتهم الأخروية أيضاً. إذن جعل الله البيت الحرام قياماً لكل ألوان الحياة، والبيت الحرام مكان كما نعلم. وجعل الحق الشهر الحرام أيضاً قياماً للحياة، والشهر الحرام هو زمان كما نعلم. والشهر الحرام هو أحد الأشهر الحرم الأربعة: شهر منها فرد أي غير متصل بغيره من الأشهر الحرم وهو رجب - ولذلك يسمى رجب الفرد - وثلاثة سرد أي متتابعة يلي بعضها بعضاً وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. والمراد بالشهر الحرام هو الجنس لكل شهر من الأشهر الحرم. ونعلم أن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى فاعل. والفاعل يحتاج إلى زمن ليفعل فيه الفعل، وإلى مكان يفعل فيه، وإلى سبب يدعو إلى الفعل، وإلى قدرة تبرز هذا الفعل. ولذلك نذكر جميعاً قول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 - 24] . فإياك أن تقول: إني فاعل ذلك غداً إلا بعد أن تتبعها بقولك: «إن شاء الله» . ولا يمنعنا هذا أن نخطط لمستقبلنا. فمادمنا قد استعنا بالمشيئة، فلنا أن نخطط لحياتنا. ونقول: «إن شاء الله» لأن عناصر الفعل: فاعل، ومفعول يقع عليه الفعل، وزمان، ومكان، وسبب، وقدرة تبرز الفعل. ولا أحد منا يملك واحداً من هذه العناصر، فأنت أيها الإنسان لا تملك وجود ذاتك غداً، ولا تملك وجود المفعول غداً، ولا تملك الزمان، ولا تملك المكان، ولا تملك السبب؛ لأنه من الجائز أن يتغير، ولا تملك القدرة على العمل، فقد تسلب منك القدرة قبل أن تفعل الفعل. إذن، فأنت لا تملك من عناصر الفعل شيئاً. فلا تجازف وتقول: أنا أفعل ذلك غداً. بل أسندها إلى من يملك كل العناصر، وقل: «إن شاء الله» ، وبذلك لا تكون كاذباً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3412 وهنا في هذه الآية يوجد عنصران: المكان، والزمان، المكان هو البيت الحرام، والزمان هو الشهر الحرام، والذي يحدث الفعل فيه نسميه: المفعول فيه، وهو إما ظرف مكان وإما ظرف زمان. وأراد الحق سبحانه بذلك أن يؤكد ما فيه قيام الناس زمانا ومكانا، فلو أنه سبحانه لم يفعل ذلك بالنسبة للزمان وهو الأشهر الحرم، والمكان وهو الحرم، لاستمرت الحرب بين قبائل العرب إلى ما لا نهاية. ولذلك أراد بالأشهر الحرم أن يعطي للعقل فرصة للتأمل في أسباب الحرب، ويعطي كل إنسان من العرب الراحة من القتال. وكان كل عربي في ذلك الزمن يهتم بالاستعداد للقتال اهتمامه بالطعام والشراب، فكل منهم تربى على الفروسية والقتال والضرب بالرمح والمبارزة بالسيف. وحينما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لينساح بالدعوة في أرض الله صحب معه الكثير من الرجال الذين لم يكونوا في حاجة إلى التدريب على أعمال الحرب، فقد كان كل الناس تقريباً جاهزين للقتال. وكأن الله سبحانه أراد للإسلام أن ينهي الثأر بين القبائل، وأن يستفيد الإسلام من استعداد كل عربي للقتال. واستفاد الإسلام أيضاً من أن أمة العرب كانت - غالباً - متبدية؛ بيت كل إنسان منهم على ظهر البعير، يشد رحاله، وينصب خيمته وينام؛ لأن الناس إنما ارتبطوا بالأوطان عندما بنوا المنازل، فمن بنى لنفسه بيتاً في مكان ما فهو يشتاق إلى ما بناه. وكأن الحق قد أعدهم للانسياح بكلمة الله في الأرض فلا يحزن لترك مكان إلى مكان آخر، بل إن الشخص منهم كان يذهب إلى البلاد ويتوطن فيها ليؤصل الوجود الإسلامي. فكان كل واحد منهم نواة الخير للأمم التي انساحوا إليها؛ فمن ذهب منهم إلى الشام توطن فيها ولم يصعب عليه فراق الجزيرة. وكذلك من ذهب إلى مصر وغيرها من البلدان. إذن فقد أراد الحق بحرمة الأشهر الحرم والبيت الحرام أن يرتاح العرب من القتال بدلاً من أن تهلك الحربُ الحرثَ والنسلَ، وأراد الحق ذلك قياماً للناس، واستبقاء للنوع. وكذلك حرم الله: {والهدي والقلائد} والهدي هو الذي يُهْدَى للحرم فيأكله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3413 الناس هناك، ذلك لأن الحرم موجود بوادٍ غير ذي زرع. والهدي هو البهيمة التي يتطوع بها أي إنسان ويضع حول عنقها قلادة من لحِاء وقشر الشجر أو غير ذلك، وعندما يرى الناس القلادة يعرفون أن تلك البهيمة مهداة للحرم فلا يقربها أحد حتى صاحبها وإن قرصه وعضه الجوع، وفي ذلك قيام للناس. وتتابع الآية: {ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي أنه مدبر لهم ما يحفظ حياتهم في كل حالٍ من أغيار الحياة؛ فقد رتب سبحانه لهم حفظ الأرواح، وحفظهم من الجوع، وآمنهم، وحفظ لهم السيادة، كل ذلك بتدبيره وهو الحكيم. لقد دبر كل شيء أزلاً، وأتت الأمور على وَفْق ما دبر من خير ومصلحة، فإذا كان كل ذلك قد فعله سبحانه وتعالى فلأنه الأعلم والأحكم. وقد حدث كل ذلك بعلمه وحكمته، ونؤمن أن ما لا نعرفه قد فعله وصنعه - أيضاً - بهذه الحكمة المطلقة وذلك العلم المطلق. {ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لقد رتب حياة الناس في الجزيرة وحول البيت الحرام على الرغم من انهم قبل الرسالة كانوا يعبدون الأصنام، ولكنه هداهم بالرسالة المحمدية. ولذلك قال: {اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فسبحانه جعل البيت أمنا وأماناً، وهذا إخبار شرعي لا إخبار كوني. والفرق بين الإخبار الكوني والإخبار الشرعي أن الإخبار الكوني لا بد أن يحدث لأنه لا دخل للناس به، أما الإخبار الشرعي فهو أمر يجب أن يقوم الناس بتنفيذه، فإن أطاع الناس الخبر القادم من الله جعلوا البيت آمنا، وإن أساءوا جعلوه غير آمن. وفي زماننا القريب عندما اعتدى شاب يدعى جهيمان على الحرم، تساءل الناس: كيف يعتدي إنسان على الحرم وقد أراده الله حرماً آمناً؟ وقلنا: إن أمر الله بجعل البيت حراماً آمنا هو أمر شرعي ينفذه المؤمنون إن أطاعوا، وإن لم ينفذوه فهم غير مؤمنين. والمثال على الأمر الشرعي والكوني قوله الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3414 {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] . إنَّنَا نجد في الحياة خبيثاً يتزوج امرأة طيبة، ونجد طيباً يتزوج خبيثة. وهذا يثبت لنا أن قوله الحق: {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} هو أمر شرعي بأن نزوج الطيب طيبة مثله، وهو واجب التنفيذ إن كنا مؤمنين بالمنهج، أما إن خالفنا المنهج فإننا نزوج الطيب خبيثة والطيبة خبثاً، وبذلك يختل التكافؤ في الأسرة، وتصير حياة المجتمع جحيماً، ومن أجل أن نحفظ للمجتمع توازنه علينا أن نزوج الطيب للطيبة وأن نترك الخبيثة للخبيث، حتى لا تكون حياتنا في فتنة. وينبهنا سبحانه إلى ضرورة مراعاة أوامره الشرعية فيقول لنا سبحانه: {اعلموا أَنَّ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3415 أي تيقظوا لأحكام الله، وكونوا طوع ما يريد، فمن يخالف الله فعليه أن يعرف أنه سبحانه وتعالى شديد العقاب. ومن كان يطيع الله فليعلم أنه سبحانه غفور رحيم. وجاء سبحانه بصفة من صفات الجلال لتتقابل مع صفتين من صفات الجمال، فصفة: {شَدِيدُ العقاب} تتقابل مع صفتي: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ؛ لأن كل الناس ليسوا أخياراً، وكل الناس ليسوا أشراراً؛ لذلك جاء للأخيار بما يناسبهم من المغفرة والرحمة، وجاء للأشرار بما يناسبهم من شدة العقاب، وغلبت رحمته ومغفرته غضبه وعقابه، ونلحظ ذلك من مجيء صفة واحدة من صفات الجلال: {شَدِيدُ العقاب} ويقابلها صفتان من صفات الجمال وهما: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . ويقول الحق من بعد ذلك: {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3415 الرسول هو المبعوث من المرسِل الحق سبحانه إلينا نحن العباد. والحق سبحانه هو الفاعل الأول، المطلق الذي لا فاعل يزاحمه، والمفعول الأول بالرسالة هو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمفعول الثاني هو نحن. وهناك في النحو المفعول معه، وهناك أيضاً المفعول له، والمفعول فيه، والمفعول به، وأيضاً يوجد المفعول إليه والمثال على المفعول إليه قوله تعالى: {تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} [النحل: 63] . وفيه أيضا المفعول منه. والمثال على المفعول منه هو قوله الحق: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] . و «قومه» هي مفعول منه. لأنه اختار من قومه سبعين رجلا ممن لم يعبدوا العجل ليعتذروا عمن عبد العجل ويسألوا الله أن يكشف عنهم البلاء. إن مهمة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي البلاغ (ما على الرسول إلا البلاغ) ، أما تنفيذ البلاغ فهو دور المؤمنين برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإن أدوْها فلهم الجنة، وإن لم يؤدُّوها فعليهم العقاب. وأراد الحق أن يكون البلاغ من رسوله مصحوبا بالأسوة السلوكية منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالرسول يبلغ وينفذ أمامنا ما بلغ به حتى نتبعه، ولذلك قال الحق: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . وهذا ما ينقض ادعاء الألوهية لبشر. فلو كان هناك إله رسول لقال الناس: كيف نتبع هذا الرسول وله من الصفات والخصائص ما يختلف عنا نحن البشر؟ إن الرسول لا يستقيم ولا يصح أن يكون إلها لأنه هو الأسوة والقدوة للمرسل إليهم. إنه يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويفعل غير ذلك من الأفعال، ويأمر من أرسل إليهم أن يتبعوه فيما يفعل، فلو كان إلها فإن المرسَل إليهم - وهم البشر - لا يقدرون على أن يفعلوا مثل ما يفعل؛ لأنه إله وطبيعته تختلف عن طبيعتم ولذلك لا يستطيعون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3416 التأسي والاقتداء به، فالأسوة لا تتأتي إلا إذا كان الرسول من جنس المرسل إليهم. . أي يكون بشراً بكل أغيار البشر. والحق سبحانه قال: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] . أي أن البشر تساءلوا - جهلاً - عما يمنع الله - سبحانه - أن يرسل لهم رسولاً من غير جنس البشر، ولماذا أرسل لهم رسولاً من جنسهم البشري؟ وهنا يأتي الأمر من الله سبحانه: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] . وبهذا يبلغ الحق رسله ضرورة إبلاغ الناس أن الرسول لهم لا بد من أن يكون من جنس البشر؛ لأن الملائكة لا يمشون مطمئنين في الأرض، ولو جاء الرسل من الملائكة لقال البشر: لن نستطيع اتباع ما جاء به الملائكة لأنهم لا يصلحون أسوة لنا؛ لأنهم من جنس آخر غير جنس البشر، ثم إن الملائكة من خلق الغيب، فكيف يبعث الله للبشر هذا الغيب ليكون رسولاً؟ ولو حدث ذلك فلا بد أن يجعله الحق في صورة بشرية. ففي آية أخرى يقول الحق: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] . إنهم طلبوا أن ينزل الله عليهم ملكاً، ولو استجاب الله لهم وأرسل رسوله ملكاً لتجسد المَلَك في صورة بشرية، وهم من بعد ذلك قد يستمرون على الكفر ويعاندون ولا يؤمنون، عندئذ يحق عليهم عذاب الله ويهلكهم. إذن فمهمة الرسول هي البلاغ ولنا فيه الأسوة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3417 وتتابع الآية: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} كأنه سبحانه وتعالى يحذرنا من أن نأخذ شكل الإيمان دون أن نؤمن حقيقة؛ لأن الأمر الشكلي قد يجوز على أجناس البشر أن ينخدعوا فيه، ولكن الله ينظر إلينا بقيوميته، فسبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم. وفي هذا القول تحدّ للمنافقين من أنه سبحانه سيحاسبهم، فإن كتم الإنسان الكفر في قلبه وأظهر الإيمان الشكلي، فسوف ينال عقاب الله، وعلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعه جماعة المؤمنين أن يحكموا على ظاهر الأمر وأن يتركوا السرائر لله. إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينهانا عن أن يحكم بكفر إنسان أعلن الإيمان ولو نفاقاً. وقد أبلغنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه بشر، وعرف أن البشرية محدودة القدرة. ولذلك قال: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار ليأخذها أو ليتركها» . هكذا يحذرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن نظن فيه قدرة فوق قدرة البشر «وعندما قتل صحابي رجلاً أعلن الإيمان قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه «إذن فنحن لنا الظاهر، أما السرائر فأمرها موكول إلى الله. ولذلك يقول الله: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} . ونعلم أن ظاهرة النفاق تعطي للمنافق حقوق المسلم الظاهرة الموقوتة بحياته وزمنه، ولكن الباقي في الحياة الأخرى طويل ينال فيه جزاء ما أبطن من كفر. والكتمان غير الإخفاء. فكتم الشيء يعني أن الشيء ظاهر الوضوح ولكن صاحبه يكتمه، أما الإخفاء فهو ما يدور بالخواطر، ويمكن أن يخفيه الإنسان، ولكنه مع مرور الوقت لا يستطيع ذلك، فالشاعر العربي يقول: ومهْما تكُنْ عندَ امرىء من خليقةٍ ... وإن خالها، تخْفى على الناس تُعْلَم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3418 ويقال: يكاد المريب أن يقول خذوني. ومادام الحق يعلم كُلّ ما يبدي البشر وكل ما يكتمون، وهو شديد العقاب، وغفور ورحيم، ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها، ويجازي على السيئة بمثلها، فماذا علينا أن نفعل؟ يأتينا القول الفصل في أمر الله لرسوله أن يخبرنا: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3419 إذن فالخبيث لا يستوي أبداً مع الطيب، بدليل أن الإنسان منا إذا ما ذهب لشراء سلعة فهو يفرز البضاعة ليختار الطيب ويبتعد عن الخبيث. وهذه قضية كونية مثلها تماماً مثل عدم تساوي الأعمى والبصير، وعدم استواء الظلمات والنور. ويأتي الحق إلى المحسات ليأخذ منها ما يوضح لنا الأمر المعنوي. ولذلك يحذرنا أن نغتر بكميات الأشياء ومقدارها، فإن الطيب القليل هو أربى وأعظم وأفضل من الكثير الخبيث. والأمر الطيب قد يرى الإنسان خيره في الدنيا، ومن المؤكد أن خيره في الآخرة أكثر بكثير مما يتصور أحد؛ لأن عمر الآخرة لا نهاية له، أما عمر الدنيا فهو محدود. وكثير من الناس عندما يحضرون قسمة ما، فكل واحد يرغب في أن يأخذ لنفسه النصيب الأكبر؛ لأن الإنسان تغريه الكثرة. وهذا الطمع يشيع الخبث في جميع ما يأخذه الطامع، فالذي يطمع في حفنة من قمح - على سبيل المثال - تزيد على حقه، فهو يفسد حياته بهذا الشيء الخبيث. وذلك كخلط الماء الطاهر بماء نجس فتغلب النجاسة على الماء. إذن فلا يصح أن نحكم على الأشياء بكميتها وقَدْرِها، ولكن يجب أن نحكم على الأشياء بكيفيتها وصفتها وبعمرها في الخير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3419 والمثال الذي لا أمل من تكراره هو التلميذ الذي يكد لمدة عشرين عاماً فهو يتخرج إنساناً له مكانة لائقة، أما التلميذ الذي يقضي عشرين عاماً في اللعب واللهو فهو يتلقى وينال مستقبلا فاشلا مؤلما. إذن، على كل منا أن يقدر النفعية بديمومتها، ولا يغتر بكثرة الخبيث. والمثال يتكرر في حياتنا ولا بد أن نضعه أمام أعيننا لنرعى الله ولا ننساق كما ينساق كثير من الناس إلى هلاكهم، فبعض الناس لا يرتضون قسمة الله في مواريثهم، فيعطي بعضُهم للذكور ولا يعطي للإناث. أو يقلل من نصيب الإناث. ونقول لمن يفعل ذلك: أنت لا تعلم ماذا تفعل. ولو أن ابنك الذكر يعلم أن يد الله في الأشياء لقال لك: ارحمني ولا تزدني؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء: 11] . ولذلك يجب أن ينتبه الناس إلى أن قسمة الله هي أعدل قسمة، وإياك أن تظلم ابناً لك أو قريباً بزيادة فوق ما قدره الله له؛ لأن هذا عين الظلم. فإن فاتت على المورِّث وهو حي نقول لمن أخذ: احذر ولا تقبل ما هو فوق شرع الله وأَعِدْ ما هو فوق حقك. افعل ذلك برجولة الإيمان. وإياك أن تظن أن الذي سيديم الستر لأولادك هو هذه الزيادة التي ليس لك حق فيها؛ لأنك بهذه الزيادة ستقطع الأرحام وتغرس بذور الكراهية والبغض. ولو نظرت إلى هذه المسألة وأقمتها على ما شرعه الله فستجد أن الرزق سيفيض عليك من كل جانب ما دمت قد راعيت حق الله في إرادته التي حكم بها لينشأ الاستطراق الأسري وتظهر العدالة الربانية؛ لذلك يجب ألا يجتريء أحد على قسمة الله؛ لذلك أقول لكل من يقرأ هذه الكلمات ويفكر في الاجتراء على قسمة الله. تُب إلى الله ولا يصح أن تشوه استقامتك الإيمانية. وإياك أن يظن إنسان أنه كأب يمكنه أن يحتاط لأبنائه. فكثيراً ما رأينا أناساً تركهم أهلهم أغنياء وصاروا في عوز وفاقة وفقر، ورأينا أناساً أهلهم فقراء، وأفاض الله عليهم من رزقه، فسبحانه القائل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3420 {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] . إذن فعلى المؤمن أن يحذر الكثرة إن كان بها شيء خبيث. ولنا العبرة في الحكاية التي حدثت مع أبي جعفر المنصور حينما بويع للخلافة، وذهب الناس يهنئونه بإمارة المؤمنين، ودخل عليه سيدنا مقاتل بن سليمان وكان أحد الواعظين. هنا قال أبو جعفر لنفسه: جاء ليعكر علينا صفو يومنا، سأبدأه قبل أن يبدأني وقال له: عظنا يا مقاتل. قال مقاتل: أعظك بما رأيت أم بما سمعت؟ ذلك أن السمع أكثر من الرؤية، فالرؤية محدودة ومقصورة على ما تدركه العين، لكن السمع متعدد؛ لأن الإنسان قد يسمع أيضاً تجارب غيره من البشر. قال أبو جعفر: تكلم بما رأيت. قال: يا أمير المؤمنين، مات عمر بن عبد العزيز وقد ترك أحد عشر ولداً. وخلف ثمانية عشر ديناراً كُفن منها بخمسة، واشتروا له قبراً بأربعة، ثم وزع الباقي على ورثته. ومات هشام بن عبد الملك، فكان نصيب إحدى زوجاته الأربع ثمانين ألف دينار، غير الضياع والقصور. كان نصيب الزوجات الأربع هو ثلاثمائة وعشرون ألف دينار، وهذا هو ثُمن التركة فقط. والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت بعيني هاتين في يوم واحد ولداً من أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله، وولدا من أولاد هشام بن عبد الملك يسأل الناس في الطريق. إذن فعلى كل منا أن يعرف أنه لم يدخل الدنيا بثروة، وعليه أن يتأدب مع الله ويرعى حق الله، ولا يتدخل في قسمة الله. {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث فاتقوا الله ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3421 على المسلم - إذن - أن يستحضر كل ملكاته العقلية حتى يميز الخبيث من الطيب ويرفض الشيء الخبيث؛ لأننا لو تدبرنا الحكم بعقولنا لوصلنا إلى أن حكم الله هو الحكم الحق العادل. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والفلاح - كما نعلم - مأخوذ من أمر محس وهو فلح الأرض، فالإنسان يأخذ حبة قمح ويزرعها فتعطيه سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. والحق سبحانه يسمي لنا كل عمل الآخرة بالفلاح؛ لأن الكلمة لها وقعها الجميل، فإذا كانت الأرض، وهي مخلوقة من مخلوقات الله بما تحتويه من كل العناصر اللازمة للزرع واللازمة لكل حياة، هذه الأرض تعطينا لقاء حبة قمح سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، فكم يعطيك خالق الأرض؟ فاتق الله أيها المسلم ولا تتدخل في قسمة الله، وضع أمامك هذا التوجيه الحكيم الذي ورد في الأثر: شرّكم من ترك عياله بخير وأقبل على الله بشرِّ. وعلى الأبناء الذي ابتلوا بهذا أن يراجعوا الأمر بنخوة إيمانية؛ لأن الأب حينما أحب ابناً له وزاد له في الميراث كان أحمق الحب، وعلى الابن أن يحترم عاطفة الحب، وأن يجازي الأب عنها ويرحمه، فيعيد الأمر إلى نصابه ويعطي كل ذي حق حقه حتى لا يتعرض أبوه لعذاب النار الذي سيناله نتيجة تدخله لصالحه في قسمة الله. ويقول الحق بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3422 وهذا نهي عن السؤال، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ذروني ما تركتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» . ونعرف أن بني إسرائيل شددوا على أنفسهم عندما أخذوا يماطلون في أمر ذبح البقرة، وتساءلوا عن لونها، وشددوا فشدد الله عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة لكانت مقبولة منهم، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم حتى جاءت البقرة الموصوفة ملكاً ليتيم، كان هذا اليتيم ابناً لرجل صالح وكانت له عِجْلة فأتى بها موضعا كثير الشجر والمرعى وقال: اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر وعندما ساوموا اليتيم على ثمنها باعها لهم بملء جلدها ذهباً. «وقد شدد بعض الناس في سؤال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثل عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي الذي سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من أبي؟ فأجاب رسول الله: أبوك حذافة. ولو فرضنا أن هذا السائل كان ينسب لغير أبيه ألا يكون في ذلك فضيحة لأمه وقد قالت له أمه: ما رأيت أعق منك قط، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رءوس الناس» . لقد أراد الحق أن يخفف من أسئلة الناس في الأمور التي تؤدي بهم إلى المشقة والتعب وتسيء إليهم وتقبل الحق من رسوله أسئلة المؤمنين عن القواعد الشريعة مثل سؤالهم عن الخمر والأهلة والحيض والشهر الحرام وغيرها. أما الأسئلة الأخرى فقد قال الحق في شأنها: {عَفَا الله عَنْهَا والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} . ذلك أن البعض استمرأ السؤال وكأنه يمتحن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولذلك جاء الأمر بألا يتعمد المؤمنون السؤال عما ستره الله عنهم كي لا ينفضح عرضهم. {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ} فإن نزل القرآن وهو يحمل الإجابة كان بها. وإن لم تأت الإجابة فلا يقولن أحد: إن النبي ليس عنده جواب. أو هي سؤال عن الأشياء التي اقترحوها ادعاء منهم أنها تثبت صدق النبوة فقد حكى الله عنهم: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3423 {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 90 - 93] . لقد ظهر من هذا القول سوء النية المبيتة منهم، فالرسول لن يأتي بالآيات، بل تأتيه الآيات بالأمر المكلف به؛ لأن الرسول لا يختار ما يُؤْتى به من آيات، ولكن الحق هو الذي يرسل الآيات المناسبة. ولذلك يقول الحق: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3424 والحق لم يرسل هذه الآيات رحمة بمن سألوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنها فقد سأل قوم عن ناقة وعقروها فأبادهم الله. وقوم عيسى عليه السلام سألوا عن مائدة ونزلت عليهم وتوعدهم الحق بعدها إن لم يؤمنوا. وكانت سنة الله مع خلقه إن اقترحوا هم آية ولم يصدقوها فإن الحق يهلكهم أو يعذبهم. ويعطي سبحانه أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضماناً. {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3424 إذن فالأسئلة التي سألوا عنها لم يجبهم عنها لأنه سبحانه قد عفا عنها. والعفو - كما نعلم - مأخوذ من عفّى الأثر أي أذهب الأثر وعفو الله من مغفرته ورحمته. ويقول الحق بعد ذلك: {مَا جَعَلَ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3425 وهذه الآية جاءت في السورة التي أحل الله فيها بهيمة الأنعام، وحرّم منها ما حرّم. فهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يستبقي حياته من قوت، وما يستبقي نوعه بالتزاوج. وإذا كان الحق هو الذي جعل الإنسان خليفة في الأرض فقد أعدّ له كل هذه المقومات للحياة من قبل آدم عليه السلام، أعدّ سبحانه لخلقه الأرض والسماء والماء والهواء، ومما ذخر وخَبّأ وأوجد في الأرض من أقوات لا تنتهي إلى يوم القيامة. ولنا أن نلتفت إلى فارق مهم بين «الخلق» ، وبين «الجَعْل» . فالخلق شيء، والجعل شيء آخر. والخلق هو إيجاد من عدم. والجَعْل هو توجيه مخلوق لله إلى مهمته في الحياة. فخلق الله لا يخلقون شيئاً، إنما الخلق والإيجاد له سبحانه. وعلينا - نحن الخلق - أن نخصص كل شيء لمهمته في حياته التي أرادها الله، أي أن نترك «الجعل» لله ولا نتدخل فيه، بمعنى أن الخالق سبحانه وتعالى خلق الخنزير - على سبيل المثال - ليأكل من القاذورات وليحمي الإنسان من أمراض وأضرار كثيرة، وعلى الإنسان - إذن - أن يخصص الخنزير لهذه المهمة فلا يحوّله إلى غير مهمته كأن يأكله مثلا؛ لأن تحويل مهمة مخلوق لله إلى غير مهمته هو أمر يضر بالإنسان الذي أراده الله سيداً مستخلفاً في الكون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3425 وأبلغ سبحانه الناس أنه قد أحل أشياء وحرّم أشياء، وعلى الإنسان أن يرضخ لما حلله الله فيقبل عليه، وأن يرضخ بالابتعاد عما حرّم الله. والخالق سبحانه وتعالى هو الذي «خلق» وهو الذي «جعل» وهو القائل: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97] . وهو القائل: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] . والحق سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نجعل له أنداداً: {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22] . فسبحانه وتعالى موجود وواحد أحد، فلا يصح أن تجعلوا له أنداداً؛ لأن ذلك عبث. ويثبت لنا سبحانه أن قضية الفساد في الأرض تنشأ من تعدي الناس إلى الجعل المخلوق لله فيحولونه إلى غير ما خلقه الله له. والخَلْقُ في حياتهم اليومية يحرصون على أن يستخدموا الأشياء فيما هي مخصصة له. ومثال ذلك: أنت تستقبل من صانع الجبن قالباً من جبن. وتستقبل من صانع الصابون قالباً من الصابون، ثم تجيء بالجبن والصابون إلى المنزل، فتخبر أهل البيت بأن الجبن للأكل والصابون للغسيل، ويطيع الجميع هذه التوجيهات. لكن إن استخدم أحد الصابون للأكل والجبن للغسيل يحدث إفساد في صحة أفراد الأسرة. وكذلك جعل الحق سبحانه وتعالى لنا أبناء من أصلابنا، فكيف نأخذ أبناء من غير أصلابنا لنجعلهم أبناء لنا؟ إن هذا خطأ في الجَعْل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3426 ولذلك قال الحق: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} [الأحزاب: 4] . إن الدعيّ هو في حقيقة أمره من غير صلبك، وزوجتك ليست أمّاً له، فكيف تجعله ابناً لك، وتمكنه من أن يجلس في حجر امرأة غير أمه ويشب على ذلك وينظر إلى غير محارمه على أن ذلك حلال ومباح له، إنه بذلك يفقد التمييز بين الحلال والحرام؛ لذلك فالتبني إفساد في الجعل. إن كل فساد ينشأ في الكون حينما نجعل مخلوقاً لله في مهمة غير تلك التي جعلها الله له. والحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يقيته، وما يحفظ نوعه، فعلينا أن نتبع ما يأمر به الحق من اتباع ما هو حلال، والابتعاد عما هو حرام. وإن قال قائل: ولماذا حرّم الله بعض الأشياء التي خلقها؟ ونقول: إن الذي خلقها جعلها لمهمة غير التي يريد الإنسان أن يوجهها له، ومثال ذلك تحريم أكل لحم الخنزير. والإنسان منا إذا ما رأى صورة من معيشة الحيوانات في الغابة. يتعجب، ففضلات حيوان هي غذاء لحيوان آخر. وسم الثعبان هو حماية وعلاج. ونعرف أن الإنسان يستخلص سم الثعبان ليستخرج منه علاجاً لبعض الأمراض ولقتل بعض الجراثيم. ولذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] . كيف إذن نجعل من أنفسنا مشرعين نحلل الحرام ونحرم الحلال؟ إن الله الذي خلق كل شيء لم يمنحنا الإذن بذلك. وعلينا أن نسلم بأن كل شيء مخلوق لمهمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3427 فلا يصح أن نوجه شيئا إلى غير مهمته. وتوجيه أشياء إلى غير ما جعلت له أنتج آثاراً ضارة، ومثال ذلك استخدامنا لمبيدات الحشرات في الحقول، تلك المبيدات أبادت الضار في نظرنا، وأبادت النافع أيضاً. وعلى الإنسان - إذن - أن ينتبه جيداً فلا يساوي بين الحرام والحلال، وأن ينتبه تماماً فلا يتعدى الجعل المخلوق لله. يقول سبحانه: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] . والبحيرة هي الناقة التي تُشق أذنها كعلامة على أنها محرّمة فلا يتعرض لها أحد، ولا تُرد عن مرعى، ولا تُرد عن ماء، ولا يُشرب لبنها، ولا يُركب ظهرها، ولا يُجز صوفها؛ لأنهم قالوا: نُتجت خمسة أبطن آخرها ذكر. و «السائبة» وهي الناقة التي يقدمها الرجل إن برئ من مرضه أو قدم من سفره كنذر سائب. فلا يربطها، وتأكل كما تريد، وتشرب ما تريد، وتنام في أي مكان، ولا أحد يتعرض لها أبداً، وقد سميت «سائبة» بمعنى مأخوذ من الماء السائب. ونعرف أن صفة الماء وطبيعته الأساسية هي الاستطراق، فإن سقط الماء على قمم الجبال فهو يملأ الوديان أولاً، ثم يصعد إلى الأعالي، هكذا يكون استطراق الماء ما لم يتحكم فيه الإنسان بإقامة السدود والمضخات وشبكات توزيع المياه. والوصيلة هي الناقة التي تصل أخاها، فالناقة عندما تحمل وتضع المولود، هنا ينظر أصحاب الناقة إلى جنس المولود، فإن كان ذكراً أكلوه، أما إن كان المولود أنثى فهي لهم يستبقونها لأنها وعاء إنجاب لنتاج جديد ويكفي فحل واحد لإخصاب عشرات الإناث. فإن نتجت الناقة في بطن واحد ذكراً وأنثى فإنهم لا يذبحونهما ويقال: «وصلت الأنثى أخاها» فحرمته علينا. وفي ريفنا المصري نجد الأطفال يتمنون أن يأتي وليد الجاموسة أو البقرة ذكراً حتى يأكلوا من لحمه وحتى يشربوا من لبن الجاموسة أو البقرة كما يهوون. ذلك أن الطفل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3428 ينظر إلى مصلحته المباشرة، أما الكبار فهم يتمنون دائماً أن يكون وليد البهيمة أنثى، لأن الأنثى وعاء لنتاج جديد. وال «حام» هو الفحل الذي يُحمى ظهره من أن يُركب، ويتركونه لينطلق كما يريد. وهو الذي لقح عشرة أجيال من الإناث، أو هو الذي نتجت من صلبه عشرة أبطن. وكان من الضوابط لهذه العملية أن يعرفوا أن حفيد هذا الفحل - ابن ابنه - يمكنه أن يلقح. وكل هذه المسائل: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، هي من اختراعات أهل الكفر الذي يفترون على الله، فالحق سبحانه وتعالى خلق هذه الأنعام ليستمتع الإنسان بأكلها وشرب لبنها وتسخيرها إلى ما يفيده. ومعنى «يفتري الكذب» أي أنه يختلق كذباً ويدعيه ليطرأ به على صدق ليخفيه فالكذب ستر لحقيقة كانت قائمة. والحقيقة القائمة منذ أن خلق الله الخلق أن هذه الأنعام جميعها مسخرة لخدمة الإنسان، وأبلغ سبحانه آدم بمنهجه، وكان من المفروض أن يبلغ كل جيل الجيل الذي يليه، لكن طول الزمن والغفلة هما السببان وراء نسيان الناس لبعض الأحكام؛ لذلك بعث الله الرسل ليذكروا الناس بالمنهج، وليزيلوا الكفر عن وعي الناس، فالكافرون أناس ستروا منهج الله، وستروا البلاغ عن الله، وهم بذلك يفترون الكذب على الله. ومثال ذلك قصة دخول الأصنام إلى الكعبة، فقد سافر رجل اسمه عمرو بن لُحي إلى بلاد الشام، فوجد أوثاناً وأصناماً فنقل منها صنما يقال له «هبل» إلى مكة، وكان هو أول من أدخل الأصنام إلى مكة، وكما فعل عمرو بن لُحَيّ فعل غيره بوضع قوانين وقواعد لم يأت بها الله، كالوصيلة والبحيرة والسائبة والحام. وكان ذلك افتراءً على منهج الله وتغييراً لمنهج الحق، وعلى فرض أنه لا منهج قد وصلهم من الله، ألم يكن من ضرورة التعقل أن ينظروا في أمر هذه البدع والضلالات؟ إن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع العقل من أن يصل إلى حقيقة كونية سليمة. ولكن قد يجهد العقل ويتعب بالتجربة الطويلة حتى يصل إلى حقيقة ما. لذلك أراد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3429 سبحانه حماية الناس من شقاء التجارب القاسية فأنزل منهجه ليحدد الحرام من الحلال. قال سبحانه: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة: 33] . ويقول في موضع آخر من القرآن الكريم: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً} [الفتح: 28] . ولقائل أن يقول: لماذا إذن وُجد في العالم أديان أخرى. كاليهودية والنصرانية، ولماذا إذن هناك ملاحدة ما دام الله قد قرر ألا يوجد مع الإسلام دين آخر؟ ونقول: أنت لم تفهم مراد الآيتين الكريمتين، إن الحق سبحانه يقرر مرة أن الذي الذي سيظهر ولو كره المشركون، ومعنى ذلك أن هناك كافرين ومشركين، وأهل ديانات أخرى وسيظهر الإسلام عليهم، ويجعله الله هو السائد بالحجة والبرهان وبشهادة الكافرين والملحدين والوثنيين أنفسهم؛ لأن أمور الحياة ستتبعهم في كل قضايا حياتهم، ولا يجدون حلولاً لهذه المتاعب إلا بأن يذهبوا إلى قضية الإسلام، لا لأنه إسلام، ولكن لأن أسلوب وقواعد الإسلام هي التي ستخلصهم من مشكلاتهم، ولجوؤهم إلى أقضية تتفق مع الإسلام - مع كفرهم بالإسلام - هو شهادة قوية على أن الإسلام جاء دين الفطرة، ودين العقل، وأن الكل سيحتاج إليه قهراً عنه. ومن لم يأخذ ديناً فيسضطر إلى أن يأخذه نظاماً. وإذا كان الحق سبحانه قد ذيل الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} فلأنه سبحانه ينبهنا إلى أنهم لو تعقلوا الأمر لما جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام من المحرمات عليهم. ولنا أن نتساءل: أجعلتم هذه الأشياء حراماً تكريماً لها أم زهداً فيها؟ . فإن كان هو الزهد، فمعنى ذلك أنهم أخرجوها عما خلق الله؛ لأن الله خلقها لنأكل لحمها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3430 وننتفع بها. وإن كان هو التكريم، فهل من التكريم أن يترك الإنسان الحيوان الذي خدمه دون حماية من ذئب، ودون طعام يعده له ويتركه يلغ في أرض الغير؟ . إن هذا أسلوب يدل على عدم الوفاء للحيوان الذي خدم الإنسان، ومثل هذا السلوك لا يستبقي حياة هذا الحيوان، بل يعرضها للخطر، لهذا يأبى العقل السويِّ هذا الزهد وذلك التكريم. فإن كان عمرو بن لُحَيِّ أو غيره قد جاءوا بأشياء وتقاليد لم يجعلها الله، فعلينا أن نشكر الحق سبحانه لأنه جاء بالإسلام ليعدل من هذه المسائل. والمدقق للنظر في آيات القرآن يجدها تمثل برنامجاً مطمْئِناً لحياة الإنسان على الأرض، وكأنها حاسب آلي يضبط إيقاع حركة الإنسان في الأرض بدقة تتفوق بكل المقاييس على دقة أي حاسب آلي من صنع البشر، ذلك المسمى «كمبيوتر» . إن هناك «كمبيوتر» إلهياً يهدي الإنسان من أن يضل أو يُضل. فالسماء تعدل للإنسان سلوكه إن ذهب بعيداً عن الصراط المستقيم. ولا يقولن إنسان: إنما أنا أتبع ما كان عليه آبائي. لأن الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3431 بل على الإنسان أن يلتفت إلى أن أول تغيير لمنهج الله كان من أحد الآباء الذين أصابتهم الغفلة. وقول الإنسان: إنما أتبع ما كان عليه آبائي، هو قضية منقوضة؛ لأن الذي غيّر أول تغيير لم يقل: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} لأنه لم يقلد أباً له، وأيضاً فمن المحتمل أن الآباء لم يعقلوا ما غيروه من منهج الله ولم يهتدوا إلى الحق. وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول تبارك وتعالى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3431 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] . إن الآية التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ} لم يقل الله فيها اتبعوا ولكن قال: (تعالوا) أي ارتفعوا كأنهم انحطوا وتسفَّلوا بقولهم: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} إنهم بذلك يرفضون وينكرون كل ما يأتي إليهم من غير طريق تقليد الآباء، فقد قفلوا الطريق وسدوه على أنفسهم. أما آية سورة البقرة: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} فيحتمل أن يقولوا: ونتبع كذلك ما جاء به الدين، فالنكير أشد على من قال: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} . وعلى هذا فالاستدراك من الله في كل آية من الآيتين جاء مناسبا لحالهم. كيف ذلك؟ لأن الذي لا يعقل يمكن أن يعلم عن طريق شخص آخر استخرج واستنبط واكتشف، فإنه إن فاته التعقل لم يفته أن يأخذ العلم من غيره، أما الذي لا يعلم فقد باء ورجع بالجهل؛ لأنه لم يصل إلى العلم بنفسه، وكذلك لم يتعلم من غيره. وجاء - سبحانه وتعالى - بهمزة الإنكار لمسألة اتباع الآباء دون منهج الله. ونلحظ أن الحق جاء بعملية الهداية كأمر مشترك في الآيتين، ذلك أن الهداية من السماء، أما التعقل والعلم فهما عمليتان إنسانيتان. ويقول الحق من بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3432 والحق سبحانه قد قال من قبل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} [المائدة: 104] . والقولان يدلان على أن هناك فريقين: فريقا يسير على الضلال، وفريقا يسير على الهداية. وهناك معركة بين الفريقين. فهل تدوم هذه المعركة طويلاً؟ نعم ستظل هذه المعركة طويلاً؛ لأن أهل الضلال لا يحبون أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، وكذلك فهم يستفيدون من فساد الكون. والمؤمن يحب الطاعة ويحاول أن يجعل أخاه المؤمن مُحباً للطاعة، فإن رآه على مُنكر فإنه ينهاه عنه ويدفعه إلى المعروف، فالخير حين يكون من الإنسان ينفع سواه، وقد يتأجل نفعه هو لنفسه إلى الآخرة. وخير المؤمن يفيد المجتمع ويضر أهل الضلال. وصدق المؤمن يفيد المجتمع ويضر أهل الضلال. ونزاهة المؤمن يستفيد منها المجتمع، وتضر أهل الضلال. أما إن كان المجتمع فاسداً فالمؤمن يشقى بفساد هذا المجتمع. إذن فمن مصلحة المؤمن أن يعدي الخير منه إلى سواه، حتى ينتشر الخير ويعود الخير إلى المؤمن من حركة الخير في المجتمع. ولذلك قال الحق سبحانه: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي ألزموا أنفسكم، وكأن نفوس المؤمنين وحدة واحدة. وهو تعبير عن ضرورة شيوع الرتابة الإيمانية المتبادلة. ومثل هذا الأمر جاء في التعامل مع أموال السفهاء؛ لقد قال الحق: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] . لأن السفيه لا حق له في إدارة ماله حتى يرشد؛ لأن المال في الواقع هو مال كل المسلمين، وعليهم إدارته لينتفع به كل المسلمين. وتكون إدارة الأمر أولاً بالنصح، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3433 فإن لم يرتدع السفيه فليرفع عليه أقرب الناس إليه قضية حجر، ذلك لأن أي شر ينتج من سلوك السفيه بماله إنما يعود على المجتمع، وعلى هذا فالمال يظل مال الناس يقومون على إدارته إلى أن يعود السفيه إلى رشده فيعود له حق التصرف في ماله. {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . لم يقل الحق إذن: {فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ذلك أن الرشيد أصبح مأموناً على ماله؛ لذلك يعود المال إلى السفيه من فور عودته إلى الرشد. وكذلك قول الحق: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي أنكم يا جماعة المؤمنين كل منكم مسئول عن نفسه وعن بقية النفوس المؤمنة، ومن الهداية أن نقوّم الذي على فساد. ولا يقولنّ مؤمن: «وأنا مالي» . وتتابع الآية {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} فما دمتم قد حاولتم تقويم الفساد فأنتم قد أديتم ما عليكم في ضوء قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» . ولكن كيف يكون التغيير بالقلب؟ أي أن يكون تصرف الإنسان المؤمن هو المقاطعة لمن يخرج على منهج الله، فإن قاطع كلُّ المؤمنين أيَّ خارج على منهج الله فلا بد أن يرتدع، وعلى المؤمن ألا يقابل منحرفاً أو منحرفة بترحيب أو تعظيم، فالتغيير بالقلب أن يكون التصرف السلوكي الظاهري مطابقاً لما في القلب، فيحس فاعل المنكر أنه مستهجن من غيره. وقد يستسهل الناس أمور الشر أولاً إذا ما صادفهم من ينافقهم بمجاملات في غير محلها، لكن لو استشعر فاعل المنكر أنه مقاطع من جماعة المسلمين وإن لم تضربه على يده، فلا بد أن يرتدع، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] . أي أنك ساعة تعرض عن الذين يخالفون منهج الله، وساعة يعرض غيرك عنه، فإن ذلك يؤذيه، ولا يجعل الناس يستشرون في الشر ويتفاقم ويعظم ضررهم إلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3434 احترام المجتمع لهم. والمثال في القرى نجد أن الذي يمتلك بندقية ينال احتراماً ومجاملات تجعله يتجبر بسلاحه، ولو أن الناس أعرضت عنه لضاعت هيبته ولعاد مرة أخرى يسلك السلوك الملتزم. وما المقياس في أمر التغيير بالقلب ومعاملة فاعل المنكر بعدم مودة ومحبة؟ نقول: علينا أن نستمع إلى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين سئل مرة عن هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متّبعاً ودنيا مُؤثَرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك - بخاصة نفسك - ودع عنك العوامّ فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم» . وأنت حين لا تولي منحرفاً عن منهج الله مودة، ورحمة، ومعروفاً تكون قد ألزمت نفسك الإيجابية. وإذا سأل المؤمن: وكيف يقاوم الإنسان؟ . أجاب العلماء: من فرّ من اثنين، فقد فرّ، ومن فر من ثلاثة لم يفرّ. أي أن الإنسان في القتال إن واجهه شخصان ففِراره هَرب من المواجهة. وأما إن فرّ الإنسان وهو يواجه ثلاثة من الأعداء، فهذه حماية للنفس وليست فِراراً. واستنبط العلماء هذا الحكم من وعد الله بنصر المؤمنين إن كان أعداؤهم مثليهم أي كعددهم مرتين وذلك من قول الحق تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66] . هي إذن نسبة الرجل إلى الرجلين، فإن فرّ مؤمن من أمام اثنين في أثناء القتال فقد خرج عن موعود الله بالنصر له ويسمى فاراً ويبوء ويرجع بغضب الله ويكون مآله جهنم؛ لأن الله قد قال: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} فقد وعد الله المقاتل المؤمن الصابر بالنصر إذا كان يقابل اثنين من الكفار. لكن إذا هرب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3435 من مواجهة ثلاثة فقد فعل ما يحمي حياته؛ لأن الدين لا يدعو إلى الانتحار؛ لذلك نقول لمن يبغون تغيير المنكرات في الدنيا: لا ترموا بأنفسكم إلى التهلكة ولا تقاتلوا عدوّاً يغلبكم بكثرته. واتبعوا قول النبي الصادق الأمين على استمرار أمته ما دامت تتمسك بمنهج الله. وتغيير المنكر بالقلب يتمثل - كما قلنا - في مقاطعة المنحرف مصداقاً لقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} ونلاحظ أن «على» حرف جر، والكاف للخطاب، والميم للجمع، و «أنفسكم» منصوبة. فعليكم هي «اسم فعل» أي هي ليست اسماً على حقيقته وليس حرفاً على حقيقته، بل هي حرف دخل على ضمير فأدى مؤدى اسم الفعل، أو هو اسم فعل منقول من الجار والمجرور. {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} أي ألزموها، وحافظوا عليها، ومن الهداية أن نعرف كيف نواجه القضايا بالعقيدة الإيمانية، فينظر المؤمن إلى الكمية العددية للمهتدين، والكمية العددية للضالين. فإن كانت الكمية العددية مساوية فلتقبل على المواجهة. وإن كانت الكمية الضالة ضعف الكمية المؤمنة فلتُقْبِل الكمية المؤمنة على المواجهة أيضاً. وإن كانت الكمية الضالة أكثر من الضعف فالمؤمن معذور إن حمى نفسه بعدم المواجهة، ولكن عليه أن يقاطع كل منكر أو فاعلَ المنكر. كلنا نعرف تماماً أن كل فرد يحب أن تكون له مكانة في المجتمع. فإن رأى الإنسان أن الصيت والمكانة والذكر الحسن للصادق المستقيم فالإنسان يتجه إلى أن يكون صادقاً مستقيماً. وأن رأى الفرد أن المكانة في المجتمع تكون للكاذب المنحرف فهو يتجه إلى أن يكون كاذباً منحرفاً؛ لذلك فعلى المؤمنين ألا يكرّموا إلا من يسير على المنهج الصالح. فقد روى الإمام أحمد قال: قام أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: «إنّ الناس إذا رأوْا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يعمهم بعقابه» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3436 {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} ويطمْئِن الحق المؤمنين إلى أنهم إن قابلوا الضرر في حياتهم فليعلموا أن هذه الحياة ليست هي كل شيء، بل هناك حياة أخرى نرجع فيها إلى الله، فمن كان في جانب الله أعطاه الله خلوداً أبدياً في النعيم، ومن كان ضد منهج الله أعطاه الله عذاب الجحيم. وقال الحق ذلك لأن المؤمن لا يضمن نفسه في كثير من المواقف، فقد يدخل معركة وفي نيته الإخلاص لكنه قد ينحرف، فيصيبه الضرر على قدر ما انحرف. وعلى الذي يسيرون في ضوء منهج الله دائماً أن يحتفظوا بتلك القضية في بؤرة شعورهم. ولنا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأسوة الحسنة حينما كان في غزوة أحد، وأمر الرماة ألا يبرحوا أماكنهم وإن رأوا المؤمنين في انتصار ورأوا الأعداء في هزيمة. واتجه الرماة إلى الغنائم من فور أن رأوا انتصار المؤمنين، فلم ينصرهم الله وهم على مخالفة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وبذلك تعلم المؤمنون الدرس: أن يطيعوا الله والرسول في كل خطوة. ولو أن الله سبحانه لم يقل: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . فماذا يكون موقف الذين لم يشهدوا نصراً لجند الله، وهم قد دخلوا المعارك الأولى واستشهدوا؟ . لقد علموا من البداية أن المرجع إلى الله وأنه سيعطيهم حياة أخرى. وسينبئهم الله بما فعلوا. والإنباء هنا بمعنى الجزاء والتكريم. وكما ساس الحق حياة المؤمن وهو يتحرك في الحياة الدنيا، فإنه سبحانه يسوس حياة المؤمنين بما يضمن له الحياة الآخرة في نعيم الخلد والجنة، لذلك يقول الحق سبحانه: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3437 الحق - سبحانه - كما ساس ودبر حياة المؤمن الدنيوية، دبر وتولى - جل شأنه - حياته الأخروية ليلفته إلى أنه يجب عليه ألا ينظر إلى حياته العاجلة فقط ولكن عليه أن يدبر أمر نفسه فيما يستقبله من أمر الحياة الآخرة، ففي لحظة مواجهة الموت عليه ألا ينسى الوصية إن كان مديناً لأحد أو كان له دين عند أحد. وكذلك إن سافر الإنسان ضرباً في الأرض فعليه أن يوصي حتى لا يضيِّع على ورثته حقاً لهم. أو يسدد ما عليه من دين ليبرئ ذمته، وأن يُشْهِد على وصيته اثنين من المسلمين، أما إذا كان الإنسان يصاحب في السفر أناساً غير مسلمين فعليه أيضاً أن يُشهدهم على الوصية، ولم يترك الحق لنا في هذا الأمر أي عذر، بل لا بد من شهادة اثنين. والشهادة هي الأمر المشهود في الحاضر، ومثال قوله الحق: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . أي أن الإنسان إذا حضر الشهر وأدركه فليصم، والشهادة تأتي بمعنى الرؤية مثال ذلك قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] . أي أن يحضر مشهد الجلد جماعة من المؤمنين. وتأتي الشهادة أيضاً بمعنى الحكم: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3438 وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26 - 27] . إذن فالشهادة تأتي بمعانٍ متعددة. والأصل فيها المشهد، أي الشيء الذي تشاهده. والوصية - كما نعلم - هي إيصاء بأمر يهم الموصي بالنسبة للموصى إليه. والمؤمن يوصي بالخير. ويسمعه من لا يرث، أي الذي ليس له شرعاً نصيب في التركة، لكن قد يكون لغير الوارث سبب من أسباب المنفعة مع المورِّث. وعلى الرغم من ذلك فالسامع للوصية يبرئ ذمته فيبلغ ما سمع إلى الورثة؛ لأن الوصية هي مسألة في نفس الموصي، وقد لا يكون لها حيثية عند من يسمعها أو يتلقاها ولكنها ذات حيثية في نفس الذي يقولها؛ لذلك جعل الله الوصية قبل الدين في قوله الحق: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . إن ذلك يحدث على الرغم من أن الدَّيْن مقدم على الوصية؛ لأن الدين حق والوصية تبرع. ويريد الحق ذلك؛ لأن الدين له مُطالب سيطالب به، ولكن الموصي إليه قد لا يكون صاحب حق ولكنه يتلقى تبرعاً بالوصية، أو يكون حقه لدى الموصي غير موثق بصك أو شهادة؛ لذلك يقدمه الحق سبحانه وتعالى ليجعلنا نهتم بأمر الوصية. أو يكون الذي وصى بشيء قد عاش في الحياة ويعلم مَنْ مِنَ الناس أثر في حياته علمياً أو أدبياً أو خلقياً أو اجتماعياً؛ لذلك يريد الله سبحانه وتعالى ألا يبارح الإنسان الحياة إلا بعد أن يؤدي المؤمن هذا الحق الأريحي لمن كان له عليه دين في دنياه. وهذه مسألة قد لا تشغل الورثة، بل قد يكرهونها. لكن صاحب الوصية هو الذي يعلم حيثياتها. ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد أمر الوصية حتى في الوقت الذي يعز فيه التأكيد، فأمر الإنسان أن يوصي بها إن كان بين أهله وقومه، ويؤكد الحق أهمية الوصية أيضاً إن كان الإنسان مسافراً، فإن أحس باقتراب الموت فله أن ينادي اثنين من أهل دينه ويوصيهما. وإن لم يجد أحداً من أهل دينه فليُسْمِع وصيته اثنين من غير أهل دينه، ولذلك مناسبة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3439 فقد حدث أن رجلاً مسلماً اسمه بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي، كان على سفر مع غير مسلمين وحضرت له مقدمات الموت فكتب ورقة ووضعها مع كل ما معه من متاع - احتياطياً - ونادى على اثنين من غير المسلمين وهما تميم الداري وعدّي بن بدّاء، وأوصاهما أن يسلما متاعه لأهله، ومات الرجل. لكنَّ الاثنين فتحا المتاع ووجدا فيه إناءً مفضضاً ومُذَهَّبا وله قيمة، فأخذاه وباعاه بألف درهم واقتسما المبلغ، وسلما المتاع لأهل الميت الذين عثروا على الورقة المكتوب فيها كل التفاصيل بما فيها خبر الإناء الثمين. وسأل أهل الميت الشخصين اللذين سلما المتاع عن الإناء فأنكرا أي معرفة به. وأنكرا أيضاً أنها رأيا صاحب الإناء يبيعه. وبعد فترة عثر أهل الميت على الإناء معروضاً للبيع. وعرفوا أن البيع الأول كان من الشخصين اللذين حضرا موت صاحب الإناء. فذهب أهل الميت إلى رسول الله يعرضون عليه مسألة خيانة الأمانة في أمر الوصية، فنزل قوله الحق: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين} [المائدة: 106] . إنه أمر من الله لرسوله أن يحضر هذان الاثنان من بعد أن يؤديا صلوات دينهما وأن يقسما بالله، وأن يأتي أهل الميت ومعهم الورقة وليكشف الرسول الحق من الباطل. وقد أسلم تميم الداري من بعد ذلك وقص القصة وأحضر الخمسمائة درهم التي كانت في ذمته والتي أخذها ثمنا لنصف الإناء وأحضر الخمسمائة درهم الأخرى التي عند عدي ليرد ثمن الإناء كله إلى أهل الميت. ولماذا قال الله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة} ؟ . إنه أمر بأن نحتجزهم من بعد الصلاة؛ لأن الإنسان عادة بعد أن يؤدي الصلاة سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم تصفو نفسه بالاستعداد للصدق بعد أن وقف بين يدي الله، ويكون في هذه الحالة أقل اجتراءً على الكذب؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3440 أي الشهادة التي يختلف فيها الناس وتختلف فيها الأقوال بين طرفين، ذلك أن كلمة «بين» تعني انفصال كائنين فيصير كل منهما طرفاً. إن هذه الشهادة تحتاج إلى الفصل بين وجهتي النظر. والذي يقوم بهذا الفصل هو من يستجوب الاثنين اللذين من ذوي العدل من المسلمين أو من غير المسلمين، ويتم الاستجواب من بعد أداء الصلاة. فإن صار الأمر الذي شهدا فيه واضحاً، كان بها. وإن لم يكن قولهما واضح الصدق وفيه شك وريبة، فعلى الشاهدين أن يقسما بالله أنهما لا يشتريان بآيات الله ثمنا حتى لا يكونا من الآثمين. ويقول الحق من بعد ذلك: {فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3441 فإن ظهر أن الشاهدين قد حرفا وصية الميت أو أخفيا بالكذب بعضاً من تفاصيلها، فلنا أن نستدعي اثنين من أقرب الناس للميت فيقسمان بالله أن الشاهدين السابقين قد كذبا في الشهادة، وأن هذا الاتهام بالكذب ليس افتراءً ولكنه قائم على الحقيقة، ولو ظهر أن شهادتهما فيها كذب فهما المستحقان لعقاب من يظلم غيره. وبذلك يفسح الحق لنا المجال أمام إقامة العدل بأن نستقصي الصدق، فإن ظهر لنا بدليل ما كذب الشاهدين اللذين حضرا موت صاحب الوصية، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3441 فلنأت بشاهدين من أولياء الميت بدلا منهما. وكلمة «عثر» تعني الوقوع على شيء على غير قصد. فإن عرفنا أن الإثم ظاهر من شهادة هذين الشاهدين، فلنا أن نستقصي الصدق في شهادة اثنين غيرهما من أهل الميت. وفي الواقعة التي نزلت فيها الآية، قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهمي فأقسما بالله أن الشاهدين السابقين قد كذبا وأن الشهادة التي يقدمانها هي شهادة الحق لا اعتداء ولا جور فيها على أصحاب الشهادة الأولى. ولماذا كل ذلك؟ لأن الهدف هو أن تأتي الشهادة على الوجه الصحيح لها، فيقول الحق: {ذلك أدنى ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3442 إن الشهود الأُول الذين قدموا الشهادة لأنهم حضروا لحظة الوصية عندما قالها الميت يقدمون شهادتهم بعد أن يؤدوا الصلاة وبعد أن يقسموا أن ما يقولونه هو الحق. ولا بد لهم أن يحرصوا على صدق القول بدلاً من أن يفتضح أمر كذبهم. والشهادة كما نعرف تطلق على أي أمر نحضره. والشهادة - كما نعلم - تُطلق على متلازمات متعددة يجمعها كلها «الحضور» كقوله الحق: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27 - 28] . أي أن نداء الحج يسمعه الناس فيأتون من كل مكان وعلى كل وسائل النقل وقد تكون صعبة حتى يشهدوا منافع لهم. وسبحانه وتعالى يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3442 {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] . وشهادة الله هي حكم من الله. والملائكة أيضاً تشهد، وشهادتهم هي شهادة الإقرار. وكل ذلك ناشئ من أمر حاضر يستقرئه الشاهد. ونحن نرى الشاهد يقف أمام المحكمة، فتسأله النيابة فيقول ما رأى، ويسأله محامي الخصم فيقول ما رأى، ويسأله محامي الدفاع فيقول ما رأى. وما دام الشاهد صادقا فلن يخشى محاورة أي طرف يسأله. والأطراف التي تسأل الشاهد تطلب منه أن يأتي بالواقعة على أساليب مختلفة. وما دامت الواقعة صادقة تظل كما هي مهما تنوعت الأسئلة وتغيرت الأساليب؛ لأن الشاهد الصادق يستوحي واقعاً لا يتغير، أما الشاهد الكاذب فهو يلف ويدور ويغير من أقواله. ولهذا نرى وكيل النيابة اللبق الحاذق يبحث في ذاكرة الشاهد عن أدق الخفايا. وهكذا نعرف أن الشهادة تطلق على الحضور. أما إذا كان الشاهد هو الذي يملك الحكم فشهادته حكم. ومثال ذلك قول الحق سبحانه: {شَهِدَ الله} . إن الله يشهد أي يحكم. وفي قصة سيدنا يوسف عليه السلام نرى كيف أوقع الحق بإخوة يوسف عندما أخذوا أخا يوسف الصغير معهم في الرحلة إلى مصر. وكيف دبر يوسف لهم أمراً ليحتجز أخاه معه. وكيف كان الصراع بين إخوة يوسف خوفاً على أبيهم بعد حجز الأخ الصغير. فيقول لهم شقيقهم الأكبر كما أخبر القرآن الكريم: {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 81 - 82] . ونعرف أن إخوة يوسف كذبوا في المرة الأولى عندما فعلوا فعلتهم الشنعاء ضد يوسف لكنهم صدقوا في المرة الثانية التي احتجز فيها شقيق يوسف. ولذلك طلبوا أن يسأل والدهم إما أهل القرية التي كانوا بها وإما رفاقهم في القافلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3443 لقد أُخبروا أن أخاهم قد استخرج من وعائه بعض من أدوات الملك وهو الصواع الذي يكال به ولهذا جاءت شهادتهم هذه المرة مطابقة للواقع، وهو ما أخبروا به. إذن فالشهادة هي الفيصل في التنازع. ولذلك يوصي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يشهد الرجل على أمرٍ إلا بعد أن يكون قد رآه رأي العين، كما يرى الشمس: «على مثلها فاشهد أو فدعْ» . الحق سبحانه وتعالى يقول: {ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70] . وهكذا نعلم أن الشهادة كلها تدور حول الحضور والشهود. ولهذا تأتي الشهادة في لوازم متعددة، فهي مرة تعني الحضور، وهي مرة تأتي بمعنى الحكم، وثالثة بمعنى الإقرار. وكلها معانٍ ملتقية. والشهادة تتطلب أمرين: الأول هو حضور الشاهد لحظة وقوع المشهود به، والثاني هو أمانة النقل، ولذلك جعل الله في بعض الأحكام شهادة اثنتين من النساء تعدل شهادة رجل واحد. وقد يقول قائل: كيف يساوي الإسلام بين شهادة رجل جاهل أو أمي وشهادة امرأتين قد تكون كل منهما على درجة عالية من الثقافة والعلم؟ ونقول: إن المسألة في الشهادة ليست عمل عقلٍ، ولكنها أمانة نقل، وأمانة النقل لا شأن لها بالثقافة، فالشهادة تحتاج إلى حضور الحادثة، ثم إن المرأة يكون دائماً أمرها مبنياً على الستر وعدم التهجم على الرجال. فقد تقع حادثة وتوجد امرأة بجانب هذه الحادثة، وبطبيعة الحال لن تتجاسر وتتقدم وتسأل لمعرفة كل التفاصيل، على العكس من الرجل الذي يرى الحادثة، فيحاول أن يعرف كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3444 ما جرى. وحين أراد الحق الشهادة من امرأتين، لم يطلب ذلك لضعف الثقة في المرأة أو زيادة الثقة في الرجل، ولكن لأن الشهادة ليست ابتكار عقل ولكنها حضور مشهد وأمانة نقل. إن البعض يحاول أن يروج لمثل هذه القضايا وكأنها وسيلة للتهجم على بعض الداعين لله، ولذلك أقول لهم: يجب أن يفهم الإنسان منكم الفارق بين عداوته مع بعض الداعين إلى الله وأن يتعدى حدوده إلى أن يحاد الله؛ لأن الإنسان منهم لا يرد الحكم على الداعية، وإنما يرد الحكم على الله. وأمر الحق سبحانه في شهادة اثنين من الرجال أن يؤديا الصلاة، ثم يتم حبسهما لفترة، وبعد ذلك يتم استدعاؤهما للشهادة، فإن رد أهل الميت شهادتهما في أمر الوصية فيتم استدعاء اثنين من أولياء الميت لأداء الشهادة في شأن الوصية، كل ذلك لماذا؟ من أجل أن تأتي الشهادة على وجهها الصحيح الذي يُظهر كلَّ الحقيقة. ويذيل الحق القول الكريم: {واتقوا الله واسمعوا والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} وذلك بلاغ للمؤمنين كافة وإلى الناس عامة؛ لأن الله لا يهدي إلا من تطامن إلى منهج الله، أما من يفسق فلن يعينه الله، ذلك أن الله لا يعين كافراً ولا ظالماً ولا فاسقاً. أما من آمن بالله، فالحق سبحانه وتعالى يعينه على هذا المنهج ويهديه إلى الصراط المستقيم. ولماذا أنزل الله هذه الآيات بعد أن أجرى الأحداث التي تتطلبها؟ نعرف أن الحكم إن نزل في ظرف يتطلبه، تكون النفس إليه أشوق وبه أعلق، مثال ذلك: كوب الماء الذي يتناوله العطشان، إنه يتناوله بشوق ولهفة. عكس الإنسان الذي يتناول كوب الماء وهو غير عطشان، فقد يضعه في مكان قريب منه دون أن يشربه، وكذلك الدواء الذي يُؤتى به للمريض لحظة معاناته القصوى من المرض، إنه يقبل عليه بلهفة مهما كان مر الطعم، وهكذا جاءت بعض أحكام القرآن مناسبة لأحداث وقعت لتكون اللهفة على التطبيق موجودة في النفوس المؤمنة. ويقول الحق تعالى بعد ذلك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3445 {يَوْمَ يَجْمَعُ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3446 وينبهنا الحق سبحانه هنا إلى ضرورة أن نستعد لليوم الذي يجمع الله فيه الرسل يوم الحساب، أي أننا علينا أن نراعي الالتزام في تكاليف المكلف الأعلى في كل عمل من أعمال الحياة؛ لأنه سبحانه سوف يسأل الرسل في ذلك اليوم: {مَاذَآ أُجِبْتُمْ} ؟ أي كيف استجاب الناس إلى المنهج الذي دعوتم إليه؟ وفي هذا تقريع لمن خالف الرسل. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] . ونعلم - كذلك - أن يوم المشهد الأعظم سيأتي رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شهيداً على أمته وعلى كل الرسل السابقين عليه، ومثال ذلك في حياتنا - ولله المثل الأعلى - نجد الأهل ينتظرون الابن على باب لجنة الامتحان ويسألونه: كيف أجبت. إن الأهل يطلبون من الابن أن يعطيهم تقدير الموقف إجمالياً. أما إن سألوه بماذا أجبت؟ فمعنى هذا أنهم يطلبون منه أن يحكي لهم ماذا أجاب تفصيلياً عن كل سؤال. وسؤال الحق لرسله: {مَاذَآ أُجِبْتُمْ} في الظاهر هذا سؤال للرسل، وفي الحق إنه للمخالفين، وكأن هذا تقريع لمن لم يؤمنوا برسالات الرسل، ذلك أن مهمة الرسل هي البلاغ عن الله. وبماذا يجيب الرسل يؤمئذ عن الله؟ هم يجيبون الإجابة الدقيقة المتضمنة لكل أدب الإيمان: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} ونجد من يتساءل: كيف - إذن - يقولون: {لاَ عِلْمَ لَنَآ} على الرغم من أن هناك من استجاب لدعوتهم ومن لم يستجب لها؟ ونقول: لأن الآخرة فيها حساب على نوايا القلوب والسرائر، لقد علم الرسل بالأمور العلنية من أقوال وسلوك، ولكن الحق يحاسب على حسب النية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3446 والسلوك، وهو سبحانه الأعلم بالسرائر وما تخفي الضمائر، وأيضاً فالأنبياء قد علموا الذين آمنوا بالمنهج وكانوا معاصرين لهم، ولكن ليس لهم علم بمن كفر أو آمن بعد أزمنتهم، وإجابة الرسل هي قمة الأدب مع الله، ذلك لأن كلا منهم قد علم أن معرفة الله شاملة وعلمه قد وسع كل شيء، ولذلك جاء قولهم: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} . ويقول الحق من بعد ذلك: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3447 لماذا إذن يجمع الله كل الرسل ويسألهم سؤالاً على الإجمال، ثم لماذا يأتي بعيسى ابن مريم ليسأله سؤالاً خاصاً عن حادثة مخصوصة؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3447 أراد الحق بذلك أن يعلمنا أنه سيسأل الرسل سؤالاً يوضح لنا أدب الرسل مع الحق، ويبين لنا تقريع الحق لمن كفروا بالمنهج، أما سؤاله سبحانه وتعالى لعيسى ابن مريم، ذلك السؤال الخاص عن الحادثة المخصوصة، فمرد ذلك إلى أن بعض الذين آمنوا به قد وضعوه في موضع الألوهية أو بنوّة الألوهية، وفي ذلك تعدٍِ على التنزيه المطلق للحق سبحانه وتعالى. ونعلم أن قصارى ما صنعت الأمم السابقة أن بعضهم كفر بالرسل، وبعضهم كذب الرسل، لكن لم يدع أحد من هذه الأمم أن الرسول الذي جاء هو إله، لم يقل ذلك أحد وإن كان بعض فرق اليهود قد قالوا: إن عزيرا هو ابن الله وهذه الفرقة قد انقرضت ولم يبق يهودي يقول ذلك، وسبحانه قد جعل الشرك به قمة الكفر الذي لا غفران له. [النساء: 48] . فكأن عيسى عليه السلام سيواجه السؤال ضمن الرسل، ثم يسأله الحق سؤالاً خاصاً به. ويقدم الحق السؤال لعيسى ابن مريم بعد أن ذكِّره بعدد من النعم التي أنعم بها سبحانه وتعالى عليه وعلى أمه مريم عليه وعليها السلام: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 110] . ونجد هنا أن الحق سبحانه وتعالى يعدد بعضاً من نعمه على سيدنا عيسى وهي: التأييد بروح القدس وهو سيدنا جبريل عليه السلام، والكلام في المهد بما يبرئ أم عيسى السيدة مريم عليها السلام مما ألصقوه بها من اتهامات، وتعليم الحق له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3448 الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. وأنه سبحانه قد أقدره على أن يصنع من الطين كصورة الطير بإذن منه سبحانه وأن ينفخ فيه فيصير طيراً بإذنه سبحانه، وكذلك أقدره الحق سبحانه أن يبرئ الأعمى من العمى. وأن يعيد إلى الأبرص لون جلده الطبيعي ويشفيه، وأجرى على يديه تجربة إعادة الموتى إلى الحياة بإذن منه سبحانه، وكذلك منع الحق عن عيسى ابن مريم كيد اليهود وكف أيدي الذين أرادوا صلبه وقتله على الرغم من أنه جاء لهم بالمعجزات السابقة حتى يؤمنوا فآمن بعض منهم وكفر الذي قال: عن تلك المعجزات: إنها مجرد سحر. وعندما نتأمل بالخواطر أمراً واحداً من تلك الأمور نجد أن قدرة الحق سبحانه وتعالى لها تمام الوضوح الظاهر، فمجرد كلام عيسى في المهد هو معجزة؛ والمهد - كما نعلم - هو الفراش المريح للطفل يعده له الأهل ساعة أن يولد؛ لأن الطفل لا قدرة له على أن يتزحزح من مكانه إن كان هناك شيء بارز في مهده يضايقه؛ لأن الطفل يملك الحس ولكن لا قدرة له على مدافعة ما يتطلبه الحس. إن الطفل المولود لا يستطيع مثلا أن يمد يده ليزيل الحصوة الناتئةمن الأرض تحت المهد لذا يمهدون فراشه ويوطئونه له. إنه مجرد روح في جسد صغير لا حول ولا قوة له إلا استبقاء الحياة بالتعلق بثدي الأم، فإن تكلم طفل في المهد، فمعنى ذلك أنه امتلك إرادة يسيطر بها على كل جسمه إلى الدرجة التي يمكنه أن ينطق بها الكلام، وهذا لا يحدث أبداً. ونجد الأهل يمهدون الفراش للطفل، لأنهم يعلمون أن أقصى تعبير عن الانفعال هو أن يبكي. وإذا ما تمكنت حشرة صغيرة من لدغ الطفل كالبرغوث أو البعوضة فالطفل لا يملك إلا البكاء. وقد تكلم عيسى في المهد بعد أن أقدره الحق على ذلك. ثم جاء الحق بحقيقة هي المقابل للمهد وهي الكلام في الكهولة. فإن كان قد تكلم في المهد إعجازاً ليبرئ أمه البتول فإنه سوف يتكلم كهلاً مبلغاً عن الله. ولم يتكلم عيسى ابن مريم وهو في المهد إلا بما قاله الحق في القرآن الكريم: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3449 والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 30 - 33] . قال عيسى عليه السلام في المهد هذه الكلمات ليبرئ أمه الصدِّيقة، ذلك أنهم اتهموها في أعز شيء لديها، ولذلك لم يكن ليجدي أي كلام منها. وإنقاذاً لها أبلغها الحق عن طريق جبريل أو عيسى عليهما السلام أن تقول: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} [مريم: 26] . وسبحانه وتعالى يعلم أن ميلاد عيسى من أم لم يمسسها رجل هو خرق لناموس الكون في الحمل، وكذلك أراد الحق أن يكون هناك خرق للناموس في الكلام فيتكلم عيسى في المهد بكلام معجز له معنى. وعلمه الحق الكتاب: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} أي علمه الله الكتابة، وعلمه التوراة، وأنزل عليه الإنجيل، وألهمه الحكمة وهي الكلام المحكم الصواب بإلهامات الله ومقابلها في الإسلام أحاديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وجاءت دقة الأداء القرآني لتمنع أي تصور لتدخل من ذات عيسى فيما أجراه الله على يديه وذلك منعاً للفتنة فقال الحق: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} إذن فعيسى لا يخلق الطير ولكن يصنع من الطين مثل هيئة الطير، فالحق وحده هو الذي يخلق الطير؛ فلأنه الإله فهو الذي يخلق خلقاً عاماً، أما البشر فبإمكانهم أن يخلقوا أشياء ويشكلوها كمثل المخلوقات، لكنها ليست مخلوقات. إننا نرى ذلك في التماثيل التي ينحتها المثَّال من الصخر أو يشكلها من الطين كهيئة الجمل أو العصفور، لكنه لا يملك أن ينفخ فيه الروح، وقد يخترع الإنسان أشياء مثل الكوب من الرمل المصهور المنقى، لكننا لم نسمع عن خلق كوب ذكر وكوب أنثى ليتوالد من الاثنين نسل من الأكواب! إننا نرى دائماً أن خلق الإنسان لشيء إنما يظل معقوداً على حاله فلا ينسل ولا ينمو ولا يحس، والخالق الأعظم يخلق من عدم، أما أنت أيها الإنسان فتصنع أشياء مما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3450 وهبك الله من أشياء موجودة مطمورة في الأرض أو ظاهرة. ولم يضن سبحانه عليك بل أطلق عليك بأنك خلقت، ولكن لتنتبه إلى أنه سبحانه وتعالى أحسن الخالقين. إذن فعيسى صَنَع من الطين مثل هيئة الطير، وكان ذلك بإذن من الله، ونفخ فيه فكان طيرا بإذن الله. والفارق بين قدرة الحادث وهو العبد، وقدرة الباقي القدير وهو الرب أمران. الأول: أن الحق سبحانه وتعالى حينما يقدر أمرا فهو يستطيعه بطلاقة قدرته أن يُقدر بعضًا من خلقه على أن يفعل الشيء، لكن العبد لا يستطيع أن يقدر عبدًا آخر أن يصنع شيئاً مثل الذي يصنعه. والمثال على ذلك: نجد الطفل إن أراد أن يحمل كرسياً فهو لا يقدر، ويأتي شاب قوي ليحملَ الكرسي للطفل، هذا الشاب إنما يعدي أثر قوته إلى الطفل ولم يُعَدِّ لَهُ قوته ولم ينقلها له، ويبقى الطفل ضعيفاً كما هو، أما الحق سبحانه وتعالى فهو يُقْدرُ من يريد على ما يريد. فبعظمته سبحانه يعدي من قدرته إلى من لا يقدر ليَقْدر. والعظمة إذن فيما فعل المسيح هي أن الحق سبحانه أراد له أن يحيى فنفخ في الطين فصار طيراً بإذن الله. وقد سبق سيدنا إبراهيم سيدنا عيسى في ذلك عندما سأل الله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260] . فسأله الله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} [البقرة: 260] . فقال إبراهيم: «بلى» أي أنه آمن، وأضاف: {بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . والكلام هنا جهته منفكة، فإبراهيم قد آمن، والإيمان اطمئنان القلب إلى عقيدة ما، وما جرى زاد إبراهيم تيقناً. ولم يسأل إبراهيم ربه: أتحيى الموتى ولكن إبراهيم أقر أولاً بقدرة الحق على الإحياء وتساءل عن الكيفية. وطلب الكيفية لا شأن له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3451 بالإيمان؛ لأن الكيفية تتطلب تجربة. فأمره الحق أن يأتي بأربعة من الطير وضمها إليه ليتعرف عليها جيداً. وأن يقطعها إبراهيم بيديه ويضع كل قطعة على جبل ويناديها، فتأتي القطع بنداء إبراهيم وقد صارت هي الطير نَفْسَهَا التي كانت من قبل. وهكذا أراد الله لعيسى عليه السلام أن يصنع من الطين مثل هيئة الطير بإذن الله وأن ينفخ فيها بإذن الله فيصير الطين طيراً. وأراد الله لعيسى أن يبرئ الأكمه أي الذي ولد أعمى. وقد يقول قائل: إن في عصرنا يتم ترقيع القرنية ويمكن أن يَرَى ويبصر بعض من الذين ولدوا بلا قدرة على الإبصار. ونقول: إن ما يحدث في عصرنا هو سبق وتقدم على بناء على تجارب، أما ما حدث مع عيسى فكان خرقاً للناموس وأراده الله معجزة. وكذلك أراد الله أن يجري على عيسى شفاء الأبرص أي الذي أصابه بياض كالرقع في بشرته. وكذلك كف بني إسرائيل عنه عندما أرادوا إيذاءه وقتله. وعندما رأوا كل ذلك آمن بعضهم، وكفر البعض واتهموا عيسى عليه السلام بأنه ساحر. وكان ذلك منهم كذبا وافتراء عليه؛ لأنه نبي مرسل بمعجزات واضحة. وفي هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق سبحانه وتعالى يسرد نعمه على سيدنا عيسى عليه السلام. وسرد النعمة على الرسول ليس المقصود منه تنبيه الرسول إلى النعمة، فالرسول يعلم النعم جيداً لأنها جرت عليه، ولكنه تقريع لمن رأى هذه الأحداث والنعم ولم يلتزم الإيمان بالله بعدها، وقد أجرى سبحانه كل هذه النعم على عيسى عليه السلام وأيده الله بما يقوي ويزكي رسالته إلى قومه. فكانت نعمة أولا عليه، لأنه مصطفى، مختار، مؤيد. ونلحظ أن هذه الآيات والنعم تنقسم إلى قسمين: قسم يقنع أصحاب العقول والألباب والفكر والمواجيد النفسية. وقسم يقنع القوم الماديين الذين لا يؤمنون بملكوت الله في غيب الله. والقسم الأول الذي يقنع أصحاب العقول والألباب هو تعليم الكتاب والحكمة والتوارة والإنجيل. والقسم الثاني الذي يقنع الماديين هو الأمور المادية الحسية التي يتعرف من يراها على أنها لا يمكن أن تجري على يد بشر، كأن يخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3452 فيكون طيراً. وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص. وهذه الآيات خرق للناموس المادي، ولذلك يتبع الحق كل واحدة منها بذكر كلمة: {بِإِذْنِي} أي أن هذه المعجزات لم تكن لتحدث لو لم يأذن بها الله. ولم يذكر الحق ذلك بالنسبة للآيات الأخرى لأنها أمر ظاهر ومعروف، حتى يكون الأمر واضحاً أمام كل إنسان ممن يحبون عيسى ويرتفعون به إلى مقام أعلى من مقام النبوة المؤيدة ممن أرسله. وحتى لا يخدع قوم عيسى في هذه الآيات ويظنوها مزية مطلقة له، ولكنها مجرد آيات معجزات لإثبات صدق الرسالة عن الله. إن عيسى عليه السلام حينما أخذ كل قطعة من الطين ليصور منها طيراً وينفخ فيها فتكون طيراً لم يفعل ذلك بقدرته وإرادته، وإنما حدث ذلك بإذن من الله، ولم يحترف عيسى تلك المسألة، وكذلك كان إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وكل ذلك خرق لناموس المادة، لذلك كرر الحق القول بأن هذا الخرق كان بإذن منه سبحانه حتى نعرف أن عيسى لم يأخذ من قدرة الله طلاقة له بل انحصر الأمر في هذه المسائل التي أذن الله فيها فقط. إننا نجد أن كل خرق لناموس الغيب عند الأنبياء أو الأولياء، أو من يعطيهم الله هذه الإشراقية، هذا الخرق إنما هو لتكريم النبي أو الولي أو الذي تشرق عليه فيوضات الله، وعلينا أن نعرف أن الله لم يعط إنساناً واحداً القدرة على العلم بالغيب. مطلقاً إنما يطلع الحق بعضاً من خلقه بهبة من تجلياته على شيء جزئي. فالخلق سبحانه وتعالى هو مالك الغيب: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] . ولم نر إنساناً علاماً للغيب ولكن يُعْلِمُهُ الله بغيب من بعض غيبه، حتى نعلم أنها أحداث وقتية يتجلى الله فيها بفضله، ليثبت حالة من الحالات، ثم يظل الإنسان مع الناموس العام في كون الله. والناموس الكوني هو الأمور والقوانين التي أطلقها الله في الكون لتعمل لخدمة المؤمن والكافر والطائع والعاصي. ومثال ذلك شروق الشمس وغروبها، وحركة السحاب حاملاً المطر، ووجود الأرض بعناصرها القابلة للزراعة. وخرق الناموس يكون بإذن من الله للرسل والأنبياء والأولياء؛ إننا نجد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3453 كل ذلك آيات من الحق لإثبات صدق الرسول في البلاغ عنه، وهذا الإثبات مشروط بشروط: أولها أن يكون النبوغ قد بلغ درجة قصوى في هذا المجال الذي تحدث فيه تلك المعجزة، والمثال على ذلك: خرق الحق سبحانه لناموس العصا وهي فرع من شجرة وجعل موسى عليه السلام يلقيها فإذا هي حية تسعى. وما أجراه الله على عصا موسى لم يكن سحراً ولكنه نقلها من جنس إلى جنس في عصر نبغ فيه الناس في السحر، ونعلم أن موسى أنس إلى ربه فقال وأطنب وأسهب وأطال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18] . وعرف موسى من بعد مقام الأنس والانجذاب مقام الخشية فأوجز قائلاً: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] . لقد عرف موسى عليه السلام أنه يخاطب مولاه فأطال الأنس به وعرف أيضاً مراعاة المقامات وانتقل من الانجذاب والأنس إلى مقام الرهبة فقال: (ولي فيها مآرب أخرى) . وجاء الأمر بإلقاء العصا: {أَلْقِهَا ياموسى} [طه: 19] . وهنا خرجت العصا عن ناموسها الذي يعلمه موسى عليه السلام فلم تعد للتوكؤ والهش على الغنم، ولكنها تنتقل من جنس الخشب إلى جنس الحيوان فتصير حيّة: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 20] . ولذلك كان لا بد أن تُدهش المسألة موسى عليه السلام، لذلك أوجس خيفة. ولكن موسى عندما عرف سرّ عصاه لم يوجس خيفة بل تحدى السحرة الذين جاء بهم فرعون في يوم الزينة، وعرف موسى أنه ليس بساحر مثلهم ولكن الله أتاه معجزة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3454 ستبهر حتى السحرة، فالسحرة يعلمون أن عملهم تخييل وليس تغييراً للأشياء، أما الحق فهو يغير الأشياء نفسها. لقد جاء السحرة بناء على امر فرعون إلى يوم الزينة، ويعلمنا القرآن بلمحات جانبية أن نظام السحرة كان موجوداً، ولذلك طالب السحرة بأجرهم إن هم غلبوا موسى: {قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} [الأعراف: 113] . وعلى الرغم من اختلاف مواهب هؤلاء السحرة ورقي كل منهم في فرع من فروع السحر، إلا أنهم جميعاً سجدوا للحقيقة عندما ألقى موسى عصاه وقالوا: {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47 - 48] . وهكذا عرفوا أن ما فعله موسى ليس قدرة بشرية ولكنه قدرة فوق قدرة البشر. إنها المعجزة التي يجريها الله على يد الرسل لإثبات صدقهم في إدعائهم أنهم رسل من الله. وكذلك نبغ قوم عيسى عليه السلام في الطب. ولم يجرؤ أحدهم على أن يشفي بكلمة واحدة الأكمه والأبرص أو أن يخرج الميت من موته إلى الحياة. وعلى الرغم من تقدمهم في الطب لم يستطع أحدهم أن يفعل ذلك. والحق سبحانه يسهل المعجزات على رسله، والمثال في الإسلام هو الإسراء برسولنا ونبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحَدَثَ الإسراء في لمح البصر، ونحن في زماننا نرى التقدم الآلي والفني قد اخترع الصواريخ التي يمكن أن تختصر الوقت لمثل الرحلة من مكة إلى القدس ولكنها تمت بوساطة آلة تعمل وبأجهزة أعدت بنظام دقيق بعد تجارب مضنية، ولكن الحق عندما أراد لم يكن الأمر سوى كلمة منه تصير معجزة في التو واللحظة. ولنحفظ ذلك جيداً. إن المعجزة خرق اقتدار لا سبق ابتكار أي أنها خرق لنواميس الكون حادث من اقتدار المقتدر - سبحانه - ولم يحدث ذلك من ابتكار واختراع واكتشاف مكتشف. ويُسلّي سبحانه عيسى عليه السلام بذكر هذه البيانات، لكنَّ الكافرين من قوم عيسى عليه السلام قالوا إنها سحر: {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} . ونعلم أن الحق خلق الخلق وجعل الإيمان أمراً فطرياً فيهم، ثم تأتي الغفلة فتبهت جزئية من جزئيات الإيمان، وتتلوها غفلة أخرى فتبهت جزئية أخرى، وتأتي غفلة ثالثة فتصير إلى الران وهو ما يعطي القلب فلا تنفذ إليه الهداية، وذلك بسبب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3455 ما كسبوا وفعلوا من الذنوب: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} . ولنستمع إلى حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الذي رواه حذيفة: «حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر. حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوَكْت (أي الأثر اليسير من الشيء) ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْل (أي أكثر العمل في الكف) كَجَمْرٍ دحرجته على رجلك فنَفِط فتراه مُنْتَبِراً (أي متورّماً) وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاةً فدحرجها على رجله، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيَّكم بايعت، لئن كان مسلماً ليردنّه على دينه، ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنّه على ساعيه، وأمَّا اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً» . وها هوذا الحديث الثاني الذي حدثنا به حذيفة عن رفع الأمانة والفتنة. قال حذيفة: «كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره: قالوا أجل. قال: تلك تكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا. قال: أنت لله أبوك. قال حذيفة: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: » تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نُكِت فيه نكتة سوادء، وأي قلب أنكرها نكت. فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3456 الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرْبادّاً كالكور مُجَخِّياً - أي مقلوباً - لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه «. قال حذيفة: وحدثت أن بينك وبينها باباً مغلقاً يوشك أن يكسر. قال عمر:» أكَسْراً لا أبا لك، فلو أنه فُتح لعله كان يُعاد «. هكذا كان حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن رفع الأمانة وضياع المناعة الإيمانية من النفس البشرية. وأراد سبحانه للمناعة الإيمانية أن تبقى في عباده، لذلك تدخل بالرسل حتى تتكون المناعة ويكبح المجتمع جماح كل فرد. تحدثه نفسه بفتنة. وعندما كان يتم الفساد في الأرض. نجد الحق يرسل الرسول ليعيد البريق إلى النفس اللوامة، ويحيي في المجتمع القدرة على أن يتناسق السلوك فيه على ضوء منهج الله. ولذلك نجد أن المقاومة التي تحدث للرسل إنما تحدث من الذين يستمتعون بالفساد وبآثار الفساد. وحين يأتي منهج الهداية فهو يأخذ بأيدي المظلومين ويغضب منه الظالمون الأقوياء الجبابرة، ولذلك يهاجمون الرسل والمنهج القادم من الله؛ لأن هذا المنهج سيقطع عليهم سبل الفساد الذي يدر عليهم عائداً هو في نظرهم كبير. لقد رأينا صناديد قريش وقد تصدوا للدعوة، فمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بالمساواة بين كل البشر. لقد كانوا يعرفون أن مجرد النطق ب «لا إله إلا الله محمد رسول الله» يعني فقدانهم لسلطان إرهاب الناس والقبائل. ولو كانت المسألة مجرد كلمة تقال، ويبقى الأمر على ما كان عليه لقالوها، ولكنها كانت كلمة تغير من الأمر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولا يبقى من جبروت لأحد، فكل الناس سواسية. لذلك تصدى صناديد قريش لدعوة الإسلام. وهكذا نجد أن كل رسول يأتي يبرز له من يعاديه من أصحاب الفساد والجبابرة في الأرض، مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3457 {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112] . والمثال على ذلك هو إرادة الحق في أن يجعل صيحة الإيمان في الجاهلية تأتي أولاً إلى أذن سادة العرب جميعاً وهم قريش الذين لا يجرؤ أحد على التعرض لهم، لكن النصر لا يأتي لمحمد وهو في مكة حيث كانت مقام السيادة؛ لأن النصر لو حدث في أول الدعوة ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحيا بين قومه في مكة لقال قائل: لقد حدث النصر من قوم ألفوا السيادة وأرادوا أن يسودوا العالم كله لا الجزيرة العربية وحدها، وأن قريشاً قد ساندت محمداً لاستبقاء هذه السيادة وبسطها على غيرهم، ولكنه - سبحانه - جعل مقام النصر ينبع من المدينة المنورة. إنّ الصرخة أولاً جاءت في أذن السادة ثم التف حولها المستضعفون في الأرض الذين لا يستطيعون حماية أنفسهم، ثم هاجروا وقوّاهم الله من بعد ذلك على الأقوياء. إننا نجد كل داع إلى الله يأتي إنما يريد استبقاء خير النبوات حتى لا يأتي الران على القلوب، وإن استبقاء هذا الخير يغضب منه الجبابرة والمنحرفون الذين يريدون السيادة على العالم بفكرهم. والداعية إلى الله الذي لا تجد له عدواً يصيبه بالسوء حظه من ميراث النبوة ضعيف، والداعية الذي له أعداء له من ميراث النبوة الشيء الكثير. والكافرون بعيسى عليه السلام عندما رأوا قوة الآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام. قالوا: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} وهذا يعني أن معجزات عيسى عليه السلام قد أحفظتهم وأغضبتهم وأحنقتهم وملأت مشاعرهم بالخيبة. إنه قول من قوم يكرهون منهج الحق، وعلى ذلك يكون كفر الكافر نعمةَ يدعم بها الحق الداعي إليه؛ لأن ذلك يحفزه ويدفعه إلى الدفاع عن دين الله، فمقاومة الإيمان تظهر قوة المؤمن بالعقيدة التي يؤمن بها. ويقول سبحانه وتعالى من بعد ذلك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3458 {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3459 وكلمة الحَوَارِيّ مأخوذة من المحسات. فالحُوَّارَي تطلق على الدقيق النقي الخالص. وأطلقت على كل شيء نقي بصفاء خالص، و «الحَوَاري» هنا تعني المخلص والمحب لمنهج الخير. وسبحانه يقول: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ} والوحي بمعناه العام هو الإعلام بخفاء؛ أي أن الحق ألهمهم أن يؤمنوا برسالة عيسى المبلغ عن الله، أي أعلمهم بخواطر القلب التي أعلم بها أُمَّ موسى ان تلقى ابنها في اليم ليلقيه اليم إلى الساحل، وهو غير الوحي للرسول، فالوحي للرسول هو الوحي الشرعي بواسطة رسول مبلغ عن الله هو سيدنا جبريل عليه السلام، أما وحي الله إلى أم موسى أو إلى الحواريين فهو استقرار خاطر إيماني يلتفت بعده الموحى إليه ليجد الواقع يؤيد ذلك. وعندما لا يصادم إلهام القلب أمراً واقعاً ولا يجد الإلهام ما يصادمه في نفس الإنسان، فهذا لون من الوحي، أي هو إعلام بخفاء، كأن يتوقع الرجل مَقْدَم صديق من سفر، أو لوناً من الطعام يشتهيه فيجده على المائدة. إذن فالإلهام وارد من الله لخلق الله مادام لا يصادم شيئاً في النفس أو في الواقع؛ لأن الإلهام الذي يقابل صداماً ليس من الله. فالشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. إن الله أوحى للحواريين أن يؤمنوا به وبرسالة عيسى عليه السلام. وبمجرد مجيء عيسى وسماعهم أنه رسول من الله أعلنوا الإيمان به وصاروا من خلصائه. وساعة نرى: «إذ» فلنفهم أن معناها تذكر وقت الحدث الذي قال فيه الحواريون: نحن آمنا بعيسى نبياً من عند الله وأشهدوه أنهم مسلمون. ومن بعد ذلك يقول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3459 {إِذْ قَالَ الحواريون ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3460 كان عيسى قال لهم: عليكم بتقوى الله فلا تسألوه هذه الآية، لأنكم مادمتم قد أعلنتم الإيمان فأنتم لا تقترحون على الله آية لإثبات صدق رسوله، وحسبكم ما أعطاه الله لي من آيات لصدق رسالتي. وعليكم ان تلزموا أنفسكم بالمنهج الذي أعلنتم أنكم مؤمنون به. وقد توقف العلماء عند قولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} وتساءل العلماء: كيف كان هذا القول، وخصوصاً أن معناه الظاهري: أيقدر ربك؟ وكيف للحواريين أن يقولوا ذلك بالرغم من أنهم أشهدوا عيسى عليه السلام بأنهم مسلمون؟ وقال العلماء أيضاً: إن من يتكلم في اللغة عليه أن يكون متبصراً باشتقاقات الألفاظ واستعمالات الألفاظ وسمات الألفاظ، وكلمة «يستطيع» بمعنى يطيع كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب، وكأن معنى سؤالهم: أيستجيب الله وينزل علينا مائدة من السماء؟ و «استطاع» تقابل: «استجاب» وسبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء، وهو الذي يطيعه كل شيء، وهو الذي يرضخ لحكمه كل شيء، والحق لا يطلب، إنما يأمر مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] . الله سبحانه وتعالى لا يقول لشيء كن إلا ويعلم أنه يطيع، ولا يأمره الحق أن يطيع إلا ويكون استعداده الانفعالي أنه حين يسمع قول الله: «كن» فلازم أن يكون، والمثال على هذا هو قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1 - 2] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3460 إنها لن تنتظر إلا سماع الأمر فقط. وساعة تسمع الأمر فهي تنفعل، ومعنى تنفعل أي تطيع. وكل الكون مطيع لخالقه سبحانه وتعالى. أو يكون معنى هل يستطيع: هل يفعل. وذلك من باب التعبير عن المسبب بالسبب؛ إذ الاستطاعة من أسباب إيجاد الفعل. وقيل المراد: هل تستطيع سؤال ربِّك من غير صارف ولا مانع يمنعك عن سؤاله؟ فقد قرأ الكسائي وغيره هل تستطيع ربَّك بنصب كلمة (ربَّك) وأصلها هل تستطيع سؤال ربَّك، فحذف المضاف (سؤال) وأقيم المضاف إليه وهو كلمة رب مقامه فنصب. وقال الزمخشري: ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم، وقولهم: (هل يستطيع) كلام لا يتأتَّى مثله من مؤمنين معظمين لربهم. وقال الحواريون ما جاء به القرآن الكريم: {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3461 وكأنهم أرادوا أن يتشبهوا بسيدنا إبراهيم خليل الرحمن عندما سأل الله عن كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه. لقد آمنوا بعلم اليقين، ويريدون الآن الانتقال إلى عين اليقين؛ لذلك سألوا عن المائدة التي صارت بعد ذلك حقيقة واضحة. وهكذا نعرف أن هناك فارقا بين أن يؤمن الإنسان بذاته، وأن يشهد بالإيمان عند غيره. فالذي يشهد بالإيمان عند غيره يحتاج إلى يقين أعمق. ويخبرنا الحق بما قاله عيسى عليه السلام - وهو يختلف عن قولهم في هذه المائدة - قال سبحانه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3461 {قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3462 وقوله الحق: {مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} إنما يعني أن هناك لله موائد منصوبة في الأرض. والكون كلمة مائدة فيها من الخير الكثير إن استطاع الإنسان أن يكد ويكدح. والإنسان منا عندما يكد ويكدح ويستخرج من الأرض الزرع ويرعى الحيوانات فإنه يأتي إلى زوجه بمخزون قد يكفيهم كأسرة لمدة عام من دقيق وأرز وعسل وسكر وزيت، فتأخذ الزوجة طيراً فتذبحه وتطهو معه الخبز والخضراوات. إذن فالكون كله مائدة الله المنصوبة والتي يأخذ منها كل إنسان على قدر عمله. وكلمة «مائدة» لا تطلق إلا على الخوان وعليه طعام. أما إن كانت بغير طعام فنطلق عليها «خواناً» ؛ لأن «المائدة» مأخوذة من مادة «الميم والألف والدال» والمائدة تميد أي تضطرب من كثرة ما عليها من أشياء. أو هي تعطي مما عليها من أشياء. فالمائد هو المُعْطَي. وقول عيسى عليه السلام يمتلئ بكل المعاني القيمة، فهو يطلب أن تكون المائدة مناسبة لعيد يفرح به الأولون والآخرون وآية من الحق سبحانه وتعالى، ويطلب من فضل ربوبية الرازق أن يرزقهم، ويعترف بامتنان أن الحق هو خير الرازقين. والمقارنة بين قول الحواريين وقول عيسى تدلنا على الفارق بين إيمان المبلغ عن الله، وإيمان الذين تلقوا البلاغ عن عيسى. إيمان عيسى هو الإيمان القوي الناضج. أما إيمان الحواريين فهو إيمان ناقص، لقد كانت قوة إيمان عيسى نابعة من أنه يتلقى عن الله مباشرة، أما الحواريون فليسوا كذلك، على الرغم من أنهم آمنوا بالبلاغ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3462 عن الله وتم ذلك بواسطة رسول، ولذلك يعلو الرسول على المؤمنين ببلاغة في سلم الإيمان درجة أعلى. إنه يتلقى عن الله، ولهذا صحح عيسى عليه السلام طلبهم من الله وهو يدعو ربه. إنه رسول مُصطفى مُجتَبَى؛ لذلك يضع الأمور في نصابها اللائق فيقول: «اللهم ربنا» و «اللهم» هي في الأصل «يا الله» ، وعندما كثر النداء بها حذفنا منها حرف النداء وعوضناه بالميم في آخرها، فصارت: «اللهم» . وكأن هذا اللفظ: «اللهم» تتهيأ به نفس الإنسان لمناجاة الله في تقديس وثقة في أنه سبحانه يستجيب، وهو نداء يقوم على عشق العبد لمولاه، فلا يوسط بينه وبين اسم ربه أي حرف من حروف النداء. إننا نلحظ أن عيسى عليه السلام قدم كلامه لله بصفة الألوهية: «اللهم» فهو كنبي مرسل يعلم تجليات صفة الله. وهي تجليات عبادة من معبود إلى عابد. أما تجليات كلمة «رب» فهي تجليات تربية من رب إلى مربوب، والفارق بين عطاء الألوهية للخلق، وعطاء الربوبية، هو أن عطاء الألوهية تكليف من معبود إلى عابد. والعابد يطيع المعبود فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، أما عطاء الربوبية فهو سبحانه المتولي للتربية للأجسام والعقول والمواهب والقلوب، والرب هو رب للمؤمن وللكافر. ويتولى الرب تربية الكافر على الرغم من إنكار الكافر للألوهية. فسبحانه يربي الماديات التي تقيم حياته. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء الكافرين: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25] . والحق سبحانه يبلغ نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يسأل الكفار عمن خلق السموات والأرض، ولن يجدوا إجابة على ذلك إلا قولهم: إن الله هو الخالق. وهي إجابة الفطرة الأولى. ونرى في حياتنا أكثر من مثل على ذلك - ولله المثل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3463 الأعلى - عندما يسأل الأطفال عن شيء من الذي أحضره؟ فإننا نجد الإجابات تتسلسل إلى أن تصل إلى أن معطي كل شيء هو الله، فإن سأل الطفل أمه: ماذا سنأكل؟ وتجيب الأم - على سبيل المثال - سنأكل بامية مثلاً. ويسأل الطفل: من أين؟ تجيب الأم: اشتراها والدك من بائع الخضر. ويسأل الطفل: ومن أين جاء بها بائع الخضر؟ تقول: الأم. من تاجر في السوق. يسأل الطفل: ومن أين جاء بها التاجر؟ تجيب الأم: من الفلاح الذي حرث الأرض وبذر فيها بذور البامية. يقول الطفل: من الذي خلق الأرض وأنبت النبات؟ تقول الأم: إنه الله ربنا خالق كل شيء. لقد وصلت الأم بحوارها مع الطفل إلى عطاء الربوبية الذي يستوفي فيه المؤمن والكافر، والمؤمن هو الذي يأخذ بجانب عطاء الربوبية عطاء الألوهية أيضاً، وهو التكليف. فعطاء الألوهية يعطي المؤمن عطاء الربوبية مضافاً إليه العطاء الذي لا ينفذ، إنه يعطي المؤمن زمانا لا يموت فيه ونعمة لا يتركها ولا تتركه، ويأخذ المؤمن بالمنهج يقين الإشراق والإقبال على العمل في ضوء منهج الله. لقد قال عيسى ابن مريم داعيا الله: {اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} وألزم عيسى نفسه بنداء الألوهية أولاً معترفاً بالعبودية لله ملتزماً بالتكليف القادم منه ثم جاء بنداء الربوبية. فيا من أنزلت علينا التكليف ويا من تتولى تربيتنا نحن ندعوك أن تنزل علينا مائدة من السماء. وأخذ نداءه زاوية القيم ثم زاوية المادية وهي الرزق، لكن الحواريين قدموا بشريتهم فطلبوا من المائدة الأكل والطعام فقالوا: (نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين) ، أما عيسى ابن مريم بصفائية اختياره رسولاً فقد أخر الطعام عن القيم فقال: {اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} . صحيح أن الرزق يمس الأكل، ولكن الرزق ليس كله أكلاً. فالرزق هو كل شيء تحتاج إليه وتنتفع به، فالأكل رزق، والشرب رزق، والملبس رزق، والعلم رزق، والحلم رزق، وكل شيء تنتفع به هو رزق من عند الله، ولذلك جاء عيسى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3464 بالكلمة العامة التي يدخل فيها الأكل وتتسع لغيره. ويجيب الحق على دعاء عيسى ابن مريم: {قَالَ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3465 وساعة يقول الحق: «إني» فهو يستخدم نون الإفراد. ونعلم أن هناك أسلوبين لحديث الحق سبحانه عن نفسه. إنه ساعة يتحدث عن وحدانيته يأتي بنون الإفراد فيقول سبحانه: {إنني أَنَا الله} [طه: 14] . وساعة يتحدث سبحانه وتعالى عن سيال القدرة الشاملة العامة لكل صفات الكمال التي تتطلب إيجاد الشيء يأتي بنون التعظيم فيقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . وهو سبحانه أراد هنا أن يعطينا معنى التوحيد فقال: {قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} . ذلك أن المائدة ستنزل من السماء، ولا يقدر على ذلك إلا الله وحده سبحانه وتعالى. ويتبع الحق ذلك بقوله: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين} . فسبحانه يرسل رسله بعد أن يجتبيهم، وإياك أيها العبد أن تقول: إن فلاناً بذاته من الرسل أفضل من فلان؛ لأن الحق هو الأعلم برسله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} . وعلينا أن نتبع الرسل، وعندما حاول بعض من أهل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3465 الجاهلية التعجب من شأن القرآن الذي نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يخبر القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 31 - 32] . وقال أهل الجاهلية: لماذا لم ينزل القرآن على رجل عظيم من مكة أو من الطائف؟! قالوا ذلك استهزاء بشأن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال الحق سبحانه وتعالى في ذلك القول الفصل، فليس لأحد أن يختار الرسول؛ لأن الرسول مُصطفى من الله، ولا يملك أحد من البشر أن يختار رسولاً من أصحاب السلطان أو الجاه. وسبحانه وتعالى يعد كل رسول الإعداد اللائق لمهمته، ومقام الرسالة النبوية هو الأعلى في الدنيا والآخرة. والحق سبحانه - وهو المنظم لأمور خلقه - قسّم الموّاهب - رحمة منه - فيما بين العباد ليتساندوا ويتآزروا ويحتاج كل منهم إلى عمل الآخر. وحين يرسل سبحانه رسولاً فهو يختار الآية المناسبة له وللعصر الذي جاء فيه، وما اقترح قوم آية وجاء بها الله، ثم لم يؤمن الذين اقترحوا الآية بعد مجيئها إلاّ أنزل الحق سبحانه بهم العذاب الأليم. وحين يطلب اتباع الرسول آيات معينة، إنما يحمل هذا الطلب في طياته التفلّت والتحلل من الالتزام بمنهج الله، كأن الذين يطلبونها يصرون على الكفر بالرسول على الرغم من طلبهم الآية، ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً} [الإسراء: 59] . وكذلك اقترح قوم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يأتيهم بآيات غير آيات القرآن، على الرغم من أن آيات القرآن تقنع كل من له عقل يفكر وقلب يحس، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3466 وسنة الله مع الذين يطلبون الآيات ثم لا يؤمنون بها واضحة وهي العذاب الشديد، ومثال ذلك قوم ثمود الذين طلبوا ناقة للدلالة على صدق رسالة صالح عليه السلام، وعندما حدثت المعجزة كفروا بها فعاقبهم الله شر العقاب. وبعض من قوم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غالوا في طلب آيات غريبة: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 90 - 93] . وكان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رحيماً بآله وعشيرته، لذلك لم يطلب من الحق آيات غير التي أنزلها الله عليه، وعيسى عليه السلام دعا بأدب الرسل أن ينزل المائدة. واختلف العلماء أأنزل الحق سبحانه وتعالى المائدة أم لم ينزلها؟ إن هناك من تمسكوا بقول الحق سبحانه: {قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا} ، وهناك من قالوا: إن الحق سبحانه وضع شروطاً لنزول المائدة، وهو إنزال العذاب بهم إن لم يؤمنوا، فتراجعوا عن طلب إنزالها ومن قالوا بنزول المائدة اختلفوا في مواصفاتها، فمنهم من قال: إن المائدة نزلت وعليها سمكة مشوية من غير فلوس وقشور ولا شوك فيها. ذلك أنها مائدة من السماء ومعها خمسة أرغفة، وعلى كل رغيف شيء مما يعرفون: رغيف عليه عسل، وآخر عليه زيتون، وثالث عليه سمن، ورابع عليه جبن، وخامس عليه قديد من اللحم. ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3467 {وَإِذْ قَالَ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3468 ونعرف أن هذا هو الحوار الذي سوف يدور بين الحق وبين عيسى ابن مريم عليه السلام يوم يجمع الحق سبحانه وتعالى الرسل: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 109] . وقد يقول قائل: ولماذا جاء الحق سبحانه وتعالى بهذا الحوار في صيغة الفعل الماضي؟ : {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] . وكلنا يعرف أن لكل حدث زمناً ومكاناً. وزمان الحدث هو يوم القيامة. ومكان هذا الحدث في ساحة المشهد والحشر، وسبحانه هو خالق كل زمن وكل مكان، وله أن يتحدث عن أي أمر بأي صيغة شاء، سواء أكانت صيغة الماضي أم الحاضر أم المستقبل، فقد أوجد كل شيء من ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، وبيده أمر كل ما خلق ومن خلق. وهو أزلي قيوم، أما نحن بنو الإنسان فأمر الزمن يختلف، الزمن بالنسبة لأفعالنا هو واحد من ثلاثة؛ ماضٍ: أي أن يكون الحدث قد وقع قبل أن أتكلم؛ مثل قولي «قابلني زيد» ، ومعنى ذلك أن الفعل قد تم وصار محققاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3468 وحاضر: أي أن يكون الحدث في حالة وقوعه، أي يحصل الآن مثل قولي: «يقابلني زيد» وأنت تقصد الحال أي أنه يقابلني الآن. إن معنى ذلك أن العين ترى زيداً وليس مع العين أين. ومستقبل: أي أن يكون الحادث سوف يقع مقولي: «سيقابلني زيد» . وهنا لا يملك الإنسان نفسه أن يحدث منه الحدث، ولا يملك ألا يقع على الإنسان الذي سوف يقابله أمرٌ قد يمنعه من إتمام الحدث، ولا يملك الإنسان أن يظل السبب للمقابلة قائماً. إذن فمع المستقبل لا يصح للإنسان أن يحكم بشيء، لأنه لا يملك أي عنصر من عناصر الحدث. والذي يملك هذا هو الحق سبحانه وتعالى وحده. ولذلك يعلمنا القرآن شرف الصدق في الكلمة بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 - 24] . وعلى الإنسان أن يحترم قدرته المحدودة، وان يتذكر دائماً قدرة الحق سبحانه وتعالى عليه. وهذا لا يعني أن الحق سبحانه يمنعنا من التخطيط للمستقبل، لا، بل يطلب منا أن نخطط وأن ندرس كل الاحتمالات، وعلينا أن نقول: «إن شاء الله» ؛ لأننا بذلك نقدم مشيئة من يملك كل أمر وهو الله - سبحانه وتعالى -. وقد حاول بعض المستشرقين من أعداء الإسلام أن ينفذوا بسمومهم إلى عقول المسلمين بالتساؤل عن عدم ترتيب الأفعال على نسق حدوثها في بعض من آيات القرآن، فقال قائل منهم: كيف يقول الحق - سبحانه -: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1] . وهذا خبر عن يوم القيامة فكيف يأتي به الله على صيغة الماضي، ثم يقول بعد ذلك: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} ؟ واستعجال الشيء لا يكون إلاّ إذا لم يكن قد حدث، فكأن في الكلام تناقضاً، ذلك لأنه يقول: أتى، ويقول بعد ذلك: فلا تستعجلوه؟ ونقول: إن الذي يتكلم هو الحق سبحانه وتعالى وليس إنساناً مثلك محكوماً بأزمانه. بل المتكلم هو صاحب كل الأزمان وخالقها. وعندما يقول سبحانه: {أتى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3469 أَمْرُ الله} فمعنى ذلك أن أمر الله آتٍ لا محالة، لأنه لا قدرة تخرج مراده على ألاّ يكون. وأي فعل من الحق سبحانه وتعالى إنما يتجرد عن ملابسات الزمان وعن ملابسات المكان، فإن كنا نقرأ على سبيل المثال قوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 100] . فليس معنى ذلك أن مغفرة الله ورحمته قد مضى زمانها وانقضى وقتها. ولكن لنقل: كان الله غفوراً رحيماً ولا يزال غفوراً رحيماً، فسبحانه وتعالى غفور ورحيم قبل أن يوجد من يغفر له ويرحمه، ومن باب أولى يكون غفورا رحيما بعد أن يوجد من يستحق المغفرة والرحمة. وسبحانه منزه عن أن تعتريه الأحداث فيتغير؛ لأن الزمن مخلوق من الله، فلا تقل متى أو أين؛ لأنهما به وجدا. والحق يأتي بالماضي لأنه متحقق الوقوع، ليثبت حدوث أمر لم يحدث بعد، ذلك لأن الله إذا قال عن شيء إنه سيحدث فلا بد أن يحدث. ويؤكد الحق سبحانه في أي كلام من عيسى ابن مريم على أنه «ابن مريم» وهنا يسأل الحق عيسى - عليه السلام -: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} ونعرف أن السؤال إنما يأتي دائماً على وجهين: إما سؤال يعرف به السائل ما كان يجهله فيريد أن يعلمه من المسئول، كقول القائل: أقابلك فلان أمس؟ وإما أن يأتي السؤال لا ليعلم السائل من المسئول، ولكن ليقرر السائل المسئولَ. ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - يسأل التلميذ أستاذه ليتعلم منه وليخبره الأستاذ بعلم جديد وخبر جديد. وأيضاً يسأل الأستاذ التلميذ ليقرره بالحقيقة ويوافقه عليها لتستقر لدى التلميذ. وسؤال الله عيسى من النوع الأخير؛ ليكون ذلك حجة على من قال بألوهية عيسى أو بنوته لله. وحاول بعض المستشرقين أن يشككوا في القرآن فقالوا: إن هناك تناقضاً في القرآن - والعياذ بالله - واستندوا على ذلك بقول الحق: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] . أي أن الحق يقرر أن كل كائن مسئول عما يفعل ويعتقد، ولكنه سبحانه يقول في موضع آخر من القرآن الكريم: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3470 {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39] . فهل معنى ذلك أنهم لن يُسألوا؟ لا، بل سوف يُسألون ليقرروا ما فعلوا لا ليعلم الله منهم ما فعلوا، فهو سبحانه عليم بكل شيء. وهؤلاء المستشرقون لا يعلمون أن السؤال يرد عند العرب على وجهين، وجه ليعلم السائل، ووجه ليقرر المسئول، وسؤال الحق للناس يوم القيامة ليقرروا ما فعلوا وكان منهم؛ لأن الإقرار سيد الأدلة، وليس سؤال الحق سبحانه هو سؤال من يرغب في أن يعلم فسبحانه عليم بكل شيء، وعلى الإنسان أن يحتفظ بالمقام الذي وضعه فيه ربه، وكذلك كان عيسى ابن مريم. وكذلك يكون سؤال الله لعيسى، إنه لتقريع وتأنيب وتوبيخ من قالوا عن عيسى ما لم يبلغهم إياه. إن عيسى عليه السلام لم يبلغهم ولم يطلب منهم أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله؛ لأن عيسى ابن مريم، إنما يبلغ ما أُوحي إليه من ربه فقط، ولهذا تأتي إجابة عيسى رداً على أي تزَيُّد من الأتباع: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} وساعة نسمع {سُبْحَانَكَ} فلنعرف أنها إجمال التنزيه لله، وهو تنزيه أن يشابهه خلق من خلق الله، فلله وجود، وللإنسان وجود، ولكن إياك أيها الإنسان أن تقول: إن وجودي كوجود الله؛ لأن وجود الله ذاتي، ووجودك غير ذاتي وكل ما فيك موهوب لك من الله؛ لذلك فلا غناك مثل غنى الله، بل غناه ذاتي وغناك موهوب منه سبحانه، ولا أي صفة من صفاتك كصفات الله، فله سبحانه مطلق القدرة والقوة، وعليك أن تأخذ كل شيء يتعلق بالله في نطاق «سبحانه» «وليس كمثله شيء» . وكذلك يكون تنزيه عيسى لربه وخالقه: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} فعيسى ابن مريم يعلم أن الرسول المصطفى من الله ليس له أن يقول إنه إله. ويرد عيسى على ذلك بقضية متفق عليها: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لأن الكل متفق على أن الله يعلم كل ما يبدر من العباد من سلوك وأقوال وأفعال {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور} . والكل يعلم ارتفاع الحق وتنزهه عن أن يوجد له معلوم جديد لم يعلمه من قبل. والكل يعلم - كذلك - أن الله يعلم خفايا الصدور؛ لذلك يقول عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ويقرر أن الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3471 العليم بكل شيء يعلم أن ذلك لم يخطر له على بال، وهذه هي العلة في إيراد ثلاث صور في هذه الآية. الصورة الأولى هي قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} وهذا تنزيه من عيسى لربه، والصورة الثانية هي قول عيسى: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} ، والصورة الثالثة هي: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} . إذن فلا شيء من عند عيسى، وقد يسأل سائل: وماذا يكون في النفس؟ الذي يكون في النفس هو ما أسِرُّ به ولم يظهر؛ لأن النفس تُطلق مرة ويراد بها الذات التي تضم الروح والجسد معا، وعندما تُطلق على ذات الله فنحن ننزهها عن أن تكون أبعاضاً، ولكنها ذاته المأخوذة في نطاق التنزيه. والمثال هو قول الحق: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54] . وهكذا يكون فهمنا لمجيء كلمة «نفس» منسوبة لله، إنه المنزه أن يكون مثلنا، فلله وجه ولنا وجه، ولكن وجه الله نفهمه في نطاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وكذلك يد الله وكذلك كل صفات الله. ونعلم أن لله أسماء أعلمنا ببعضها، وعَلَّم بعضاً من خلقه بعضها، واستأثر ببعضها لذاته. وهناك بعض من الصفات لله تأتي لمجرد المشاكلة، كقول الحق: {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] . ولا نقول أبداً: إن الله مخادع، ولكن الصفة هنا جاءت للمشاكلة لذكرها في مقابلة يخادعون الله. ولذلك لا نأخذ منها اسماً لله، بل إنه جاء للرد على ما يبدو من أعداء الله. ويختم عيسى ابن مريم قوله: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} هي مبالغة في ذات الحدث، ومبالغة في تكرير الحدث، فهو سبحانه يعلم غيب كل واحد من خلقه وغيب كل ما في كونه، وهكذا جاء القرآن برد عيسى عليه السلام وهو رد يستوعب كل مجالات الإنكار على الذين قالوا مثل هذا القول: ويتابع القرآن على لسان سيدنا عيسى عليه السلام ما يناقض ما قاله بعض من أتباعه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3472 فيقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3473 لقد عرض سيدنا عيسى عليه السلام - من خلال قوله لربه تبارك وتعالى - المنهج الذي جاء به على الناس جميعاً وبلغه تمام البلاغ، فقد أبلغ أنه عبد الله وأنه لرسوله، ومادام الحق علاّم الغيوب فهو أعلم بكل شيء حتى بما في النفس، كأنه يثبت أيضاً أن نفسه لم تحدثه بأي خاطر من تلك الخواطر. ويعلن أنه لم يبلغ إلا ما أمر به ربه. {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] . والشهيد هو الرائي الذي لا عمل له في تحريك المشهود إلى غير ما شهده. ويقول عيسى ابن مريم عليه السلام: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْْ} وأمر توفيه الحق لرسالة عيسى ورفعه إليه، قد ذكرناه من قبل في خواطرنا ولكن أضيف الآن بعضاً من اللمحات؛ لأني أرى أنّ من حق كل قارئ أو متلق لهذه الخواطر أن يجد الخلاصة الملائمة التي تغنيه عن الرجوع إلى ما سبق من قول في هذا الأمر، وذلك حتى تتصل المعاني في ذهن القارئ. لقد كان لميلاد عيسى عليه السلام ضجة، وكذلك كان لمسألة توفِّي الله له ضجة. ولقد شبه الله لقتلة عيسى أنهم قتلوه، فعندما أرادوا أن يقتلوه دخل خوخة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3473 والخوخة هي باب في باب، وهذا نظام البيوت القديمة حيث يوجد باب كبير لإدخال الأشياء الكبيرة وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الأفراد. وفي سقف هذا البيت فتحة. وعندما دخل رجل يدعى «تطيانوس» طالباً لعيسى عليه السلام نظر عيسى لأعلى ووجد شيئاً قد رفعه، واستبطأ القوم تطيانوس وخرج عليهم من بعد ذلك، فتساءلوا: إن كان هذا تطيانوس فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين تطيانوس؟ إذن فقد اختلط عليهم الشبه بعد أن ألقى الله شبه عيسى على تطيانوس. أو أن عيسى حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال عيسى للحواريين: أيكم يُلقى شبهي عليه وله الجنة؟ . وكان كل حواري يعلم أنه لا رسالة له مثل عيسى عليه السلام. فماذا إذن يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة؟ . وتقدم «سرخس» فألقي عليه شبه المسيح عليه السلام وقتل اليهود سرخس. أو أن الذين ذهبوا لقتل عيسى وعرفوا أنه رفع فخافوا أن تنتشر حكاية رفع عيسى بين الناس فيؤمنوا به، ولهذا جاء القتلة بشخص وقتلوه، أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا عيسى لليهود وتيقظت في نفسه ملكة التوبة فقدم نفسه بدلاً وفداءً للرسول. ومسألة التوفي - كما نعلم - هي الأخذ كاملاً دون نقض للبنية بالقتل، ونحن - المسلمين - نعرف أن الحق رفع محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالإسراء والمعراج إلى السموات وعاد إلينا مرة أخرة ليكمل رسالته؛ لذلك نصدق أمر رفع عيسى وأن الله توفاه، أي استرده كاملاً دون نقض للبنية، وأنه سيعود مرة أخرى ليصلي خلف مؤمن بالله وبمحمد رسول الله. وإن أمر الرفع في الإسلام مقبول. فقد رفع الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمعراج، ودار بينه وبين إبراهيم عليه السلام حوار، وكذلك دار حوار بينه وبين يحيى عليه السلام، وآدم عليه السلام وغيرهم من الأنبياء، وفرض الحق الصلاة على أمة المسلمين في تلك الرحلة. نحن - إذن - نصدق تماماً مسألة صعود الإنسان بشحمه ولحمه إلى السماء كأمر وارد وحاصل، أما طول المدة أو عدمها فذلك لا ينقض المبدأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3474 أما مسألة ارتباط نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض بقيام الساعة، فالنصوص في هذه المسألة من القرآن الكريم محتملة وغير قطعية الدلالة، وقد وردت في السنة النبوية المطهرة، ولكنها غير معلومة من الدين بالضرورة فلا نكفر من يتأبى عليه فهمها، وقد أراد الحق سبحانه الرحمة بالخلق؛ لذلك فكل شيء يقف فيه العقل ولا يزيد به حكم من الأحكام يأتي به الله في أسلوب لا يسبب الفتنة. فإن صدقنا أن عيسى رفع فلن يزيد ذلك علينا حكماً ولن ينقض حكماً، ولذلك جاء الحق سبحانه بمسألة الإسراء بنص قطعي، أما مسألة المعراج فلم تأت نصاً في القرآن بل جاءت التزاماً لأن الحق سبحانه قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى عِندَ سِدْرَةِ المنتهى عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} [النجم: 13 - 15] . وهكذا فالإسراء آية أرضية، والمعراج آية سماوية. والآية الأرضية يمكن أن يقيم رسول الله الدليل عليها، وقد ذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى بيت المقدس ووصفه لهم بقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] . لقد ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوصاف القوافل التي رآها في طريق العودة، إذن كان الإسراء آية أرضية، أما الآية السماوية وهي المعراج فجاءت التزاماً وكذلك أمر رفع عيسى عليه السلام، فمن يرى أن ذلك جاء من طلاقة قدرة الله فهو يصدق ذلك. ومن يقف عقله نقول له: إن وقوف عقلك لا يخرجك عن الإيمان واليقين. وعندما نتأمل بالدقة اللغوية كلمة «توفيتني» نجد «توفاه» قد تعني أماته، فالحق سبحانه يقول: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] . والحق سبحانه وتعالى يقول أيضاً: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3475 الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [الزمر: 42] . إنه سبحانه يسمي النوم وفاة، وسماه - أيضاً - موتاً. وهو أمر فيه إرسال وفيه قبض. ومعنى الموت في بعض مظاهره غياب حس الحياة، والذي ينام إنما يغيب عن حس الحياة، إذن فمن الممكن أن تكون الوفاة بمعنى النوم. ويقال أيضاً عن الدِّين توفيت دَيني عند فلان أي أخذت دَيني كاملاً غير منقوص. وكذلك أمر قتل المسيح قال فيه الحق جل وعلا القول الفصل: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] . ونعرف أن الموت يقابله القتل أيضاً، فالحق يقول: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] . فالموت خروج الروح مع بقاء الأبعاض سليمة، أما القتل فهو إحداث إتلاف في البنية فتذهب الروح. وقد قال الحق على لسان المسيح: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أي أخذتني كاملاً غير منقوص. وهذه مسألة لا تنقض الرفع. ونعلم أن كل ذلك سيكون مجالاً للحوار بين عيسى ابن مريم والحق سبحانه يوم المشهد الأعظم جاء به القرآن لنا ليخبرنا بالذي يُثَبِّت صدق الإيمان. إن عيسى عليه السلام يقول عن نفسه: إنه مجرد شهيد على قومه في زمن وجوده بينهم، ولكن بعد أن رفعه الله إليه فالرقابة على القوم تكون لله، فالحق سبحانه شهيد دائماً ورقيب دائماً، ولكن عيسى ببشريته يقدر أن يشهد فقط، والله القادر وحده على أن يشهد ويغير ويمنع. ويخبرنا الحق من بعد ذلك بما جاء على لسان عيسى ابن مريم في قوله الكريم: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3476 ولقائل أن يقول: أليس في ذلك الأمر إشكالٌ واضح؟ . لقد ادّعى بعض أتباع عيسى أنهم أبلغوا من عيسى أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله. فكيف يطلب لهم عيسى المغفرة في هذه الآية. ونقول: إن عيسى لم يقل: «يا رب اغفر لهم» ولكنه قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي أن عيسى قد ترك الأمر لطلاقة المشيئة الإلهية، وهو كرسول من عند الله يعلم أن رحمة الله سبقت غضبه، وأن له سبحانه طلاقة القدرة، فلا قدرة تقيده فطلاقة المشيئة موجودة. وهم عباد الله باختيارهم. إننا نعرف أن كل خلق الله هم عبيد الله. ولكن المطيعين لله والمؤمنين به خاصة هم عباد الله. إذن فالخلق نوعان: عباد الله ذهبوا لله إيماناً ومحبة وطاعة، والنوع الثاني هم العبيد الذي يُقهرون لقاهرية سيدهم، وحتى الكافر لم يكفر رغما عن الله. بل كفر بما آتاه الله من قدرة اختيار في أن يفعل أو لا يفعل، وكان الحق قادراً على أن يخلق خلقاً لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يأمرهم به الله. وقد فعل الحق ذلك مع الملائكة. لكن قدرة القهر تثبت لله صفة القهار على المقهور ولا تثبت صفة المحبة، فالمحبة تأتي من أن يكون المخلوق مختاراً أن يؤمن أو أن يكفر، ثم يختار الإيمان. إنه بذلك آمن بالمحبة لا بالقهر. وهكذا يريد الله خلقه المؤمنين به. إن كل الوجود - ما عدا الإنسان - مقهور، ولا يقدر على المعصية: الشمس، والقمر، والمطر، والهواء، والسحاب وكل ما في الكون مقهور لله. إذن لو أراد الله خلقاً مقهورين على الإيمان به ما استطاع أحد من خلقه أن يكفر به، ولكن الحق أراد أن يثبت صفة القهر فيما دون الإنسان، أما في الإنسان فقد خلقه الله مختاراً بين الكفر والإيمان حتى يأتي بعض من العباد ليصنعوا ما يحبه الله ويرضاه ويتبعوا منهج الله، وهم يعلمون أن الله لم يكلفهم ما لا طاقة لهم به. فلا يكلف - سبحانه - أحداً بأن يموت أو يمرض، ولا يكلف فاقد آلة الاختيار وهي العقل، ولا يكلف من لم يبلغ رشد العقل؛ لأن التكليف للإنسان لا يتم إلا بوجود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3477 ثلاثة شروط: الأول: أن يوجد العقل، والثاني: أن يكون العقل في تمام النضج وهو الرشد، والثالث: ألا تكون هناك قوة تهدد حياته وتقهره على فعل ما. وهكذا نعلم أن هناك ثلاثة يخرجون من دائرة التكليف. وهم: المجنون وغير ناضج العقل لأنه لم يبلغ الرشد، والمقهور بفعل فاعل. وقد أعطى الحق مع التكليف الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وبذلك ليس لأحد عند الله حجة، ومن دخل التكليف طائعاً فهو من عباد الله. ومن عصى الله وخرج عن التكليف فهو من العبيد المقهورين في كل شيء فيما عدا التكاليف التي خيرّوا فيها. إذن فالعبادة هم الذين دخلوا العبادية بأن وازنوا بين الإيمان ونقيضه الكفر. . أي بين المراد لله وغير المراد لله. فكيف إذن يقول عيسى ابن مريم على الرغم من علمه بكفرهم: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ؟ . ونقول: إن معنى «العباد» و «العبيد» الذي شرحناه سابقاً هو وضع الإنسان في الدنيا وما يكون عليه فيها، ولكن الحوار الذي نقرؤه في القرآن بين عيسى عليه السلام والحق سبحانه وتعالى يكون في الآخرة، وكلنا في الآخرة عباد طائعون. وعندما نستقرئ كلمة «عباد» في القرآن نجد أن العباد هم الصفوة المختارة التي اختارت مراد الله فوق اختيارهم فاستوت مع المقهور تماماً. ومثال ذلك قول الحق سبحانه: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] . أنه يأتي هنا بالخصال الجميلة لهذه الصفوة من العباد. والشيطان نفسه يعلن عدم استطاعته إغواء العباد المخلصين كما يقرر القرآن الكريم: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83] . أما في الآخرة فكلنا عباد، وها هوذا الحق سبحانه يخاطب الذين أضلوا غيرهم بقوله تعالى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3478 {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} [الفرقان: 17] . إن الكل عباد لله يوم القيامة، والكل ينفذ مراد الله، ولا ولاية لأحد على أي شيء من أبعاضه وجوارحه، فالعين التي كانت مسخرة للعبد في الدنيا تأتمر بأمر العبد فيختار أن يرى الحلال أو يرى الحرام، هذه العين تسترد حريتها من صاحبها فلا ولاية له عليها في اليوم الآخر، وكذلك اليد واللسان والجلد والقدم، وكل الأبعاض. وتكون النفس الإنسانية في الدنيا كقائد لكل الأبعاض والجوارح تنفذ أوامر الإنسان سواء للخير أو للشر، وسواء للطاعة أو للمعصية. لكن هذه الأبعاض والجوارح تنطلق يوم القيامة لتشهد على كل ما فعل الإنسان، فليس لأحد مراد غير مراد الله: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . لقد انتهت مرادات البشر وبقي مراد الله فصار الكل عباداً لله. وعلى هذا فليس هناك إشكال في قول عيسى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} . ونعلم أيضاً أن كلمة «عبيد» تشملنا كلنا فيما نحن غير مخبرين فيه مثل إرادة التنفس أو ميعاد الميلاد أو ميعاد الموت، ولكن المؤمنين يرتقون من «العبيدية» إلى «العبادية» بتنفيذ منهج الله، أما الكافرون والعصاة فهم يعصون الله بما لهم من اختيار ويسيرون في درب العصيان معاندة لمنهج الله. وحتى يثبت الحق لنا جميعاً أن الكافرين مجرد عبيد فهو يصيبهم بالمرض والفاقة والآلام النفسية العميقة ولا يجرؤ واحد منهم أن يصادم مراد الله في هذه الأحداث التي يجريها عليهم. ولذلك فالمؤمن يشكر الحق باختياره لأن الله حماه بأدوات الاختيار وجوداً ونضجاً وعدم إكراه. ولنا أن نلحظ أننا كلنا في يوم القيامة - كما قلنا من قبل - نصير عباداً لله فلا مراد لأحد فينا على أي شيء، وكل المراد يكون لله، وقد أورد الحق سبحانه ما جاء على لسان عيسى عليه السلام فقال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} وهذا التذييل لكلمات عيسى ابن مريم لم يأت باعتذار أو طلب الحنان من الله على الذين كفروا بالله وأشركوا به، فالعزيز الحكيم هو الذي لا يغلب على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3479 أمره ولا تسيطر عليه قوة ولا تحمي هؤلاء الناس قوة من دون الله، فهو القادر العزيز، إن شاء غفر لهم فلا راد لمشيئته. وبعض السطحيين الذين يتلمسون الأخطاء في القرآن قالوا: ألم يكن الأجدر أن يقول عيسى: إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم؟ . ونرد على هؤلاء السطحيين فنقول: إن كل كلمة في القرآن جاذبة لمعناها، وكل معنى في القرآن عاشق لكلمته. ولذلك جاء التذييل في هذه الآية بما يخدم طلاقة المشيئة في تعذيبهم أو في الغفران لهم، فإن عذبهم فليس هناك قوة ثانية تستطيع أن تحميهم من عذابه؛ لأنه - سبحانه - عزيز، وإن غفر لهم فلا توجد قوة أعلى تسأله: كيف غفرت لهم وقد كانوا كافرين؟ إذن فسبحانه لا يسأل عما يفعل لأنه عزيز حكيم. وأيضاً فقولهم: كان الأنسب أن يقول: فإنك أنت الغفور الرحيم. نقول لهم: هي تناسب قوله {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} ولكنها لا تناسب {إِن تُعَذِّبْهُمْ} فكان لا بد أن يأتي تذييل الآية بما يناسب {إِن تُعَذِّبْهُمْ} وبما يناسب قوله تعالى: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} . والحق بعد ذلك يقول: {قَالَ الله هذا يَوْمُ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3480 نعرف أن هناك صدقاً ينفع يوم القيامة وهو الصدق الموصول بصدق الدنيا. وهناك صدق لا ينفع يوم القيامة ومثال ذلك قول إبليس اللعين كما يحكي القرآن الكريم: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3480 {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم: 22] . مثل هذا الصدق لا ينفع أحداً؛ لأن الآخرة ليست دار التكليف. لكن الصدق الموصول بصدق الدنيا هو قول عيسى عليه السلام: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} . ولذلك يقول الله في الصدق الموصول: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} . ذلك أن صدق الصادقين يوم القيامة هو صدق موصول بصدقهم في زمن التكليف وهو الدنيا ويتلقون رضاء الله: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} وإن تساءل إنسان: كيف يرضى العبد عن ربه؟ . نقول: إن العباد المؤمنين عندما يعاينون الجزاء المعد لهم في الآخرة يمتلئون بالحبور ويقولون: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 74] . هذه الآية التي تتحدث عن يوم ينفع الصادقين صدقهم بقوله: {ذلك الفوز العظيم} كأن هناك فوزاً سطحياً، وفوزاً عظيماً، والفوز السطحي: هو ما يعطيه الإنسان لنفسه في دار التكليف من متعة قصيرة العمر والأجل فيبدو ظاهرياً وكأنه قد فاز، وفي الحقيقة ليس هو الفوز العظيم لأن الندم سيعقبه، وأي لذة يعقبها الندم ليست فوزاً؛ لأن الدنيا بكل ما فيها من نعيم هو نعيم على قدر إمكانات الإنسان وتصوره، وهو نعيم مهدد بشيئين؛ أن يزول النعيم عن الإنسان، وكثيراً ما رأينا منعمين زال عنهم النعيم، أو أن يترك الإنسان هذا النعيم بالموت، ونرى ذلك كثيراً. أما النعيم الذي هو الفوز العظيم فهو النعيم الموصول الذي لا يمنعه أحد، ولا يقطعه شيء. ويختم الحق سبحانه سورة المائدة بقوله: {للَّهِ مُلْكُ السماوات ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3481 والسماء والأرض هما ظرفان للوجود وللكائنات كلها من أبراج وكواكب وشمس وقمر ونجوم وهواء وغمام وماء وحيوان وإنسان. فالأرض وهي المُلْك الأسفل الذي نراه وما فيه من أقوات وحيوان وإنسان. والسماء وما تحوي وتضم من الملكوت الأعلى، هما جميعاً لله مِلْكا ومُلْكاً فهو - سبحانه - الذي يملك كل شيء ويملك كذلك المالك للشيء. وقول الحق: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} ينطبق مع قول المسيح ابن مريم: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118] . أي أنه ليس لشيء من خلق الله أن يخرج عن مرادات الله، أما في الدنيا فقد جعل الله أسبابها في أيدي الناس، رزق إنسان في يد إنسان آخر، ومَلَّك بعضنا أمر بعض، فهناك مالك الطعام ومالك الثوب، ولكن ليس كل مالك مَلِكاً؛ لأن المَلِك هو الذي يملك المالك، وهذه سنن الكون. وفي الآخرة هناك مالك واحد هو مالك يوم الدين. فكأن الحق أنهى هذه السورة بالحديث عن نهاية الحياة؛ لأنه سبحانه قد بدأها بالحديث عن أحكام الله فقال: {أَوْفُواْ بالعقود أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } [المائدة: 1] . لقد تكلم سبحانه في الأحكام عن الصيد في البر والصيد في البحر وعن الحلال والحرام من الأنعام وعن النكاح، وعن كل ما يتعلق بمسئوليات الحياة، ومَلَّكَ بعضنا أمر بعض، لكن في اليوم الآخر فالمسألة مختلفة. فبدأ السورة بأمر هو {أَوْفُواْ بالعقود} . إن كل أمر ورد من الأمر الأعلى، فالمأمور يفعل أو لا يفعل. فهناك من الناس من يؤمن ومن يعصي، ومعنى ذلك أن المأمورين لهم حرية الاختيار، فلو كان الأمر لا بد أن يفعل دون اختيار لكان الآمر قد خلق الخلق وهم مفطورون على أن يفعلوا فيكون بذلك قد قهرهم، لكن الآمر الأعلى ترك هذه الأوامر لاختيار البشر، وهم صالحون للطاعة والوفاء بالعقود، وهم صالحون للمعصية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3482 لقد بدأ سبحانه السورة بمنطقة الاختيار في الإنسان التي خلقها الله لينشأ عنها التكليف. وأوضح بعد ذلك أن للاختيار أمداً محدداً سينتهي، ويجمع الله الناس يوم ينفع الصادقين صدقهم ويكون الأمر كله لله. ويختم الحق السورة بقوله سبحانه: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي أنه سبحانه يملك الكون كله، والكون - كما نعلم - مكون من أجناس متعددة. وأول جنس في الكون هو الخادم الذي لا يُخْدَم هو الجماد، والجماد قد يكون ماءً أو جبالاً أو حديداً، أو شمساً، أو قمراً، أو نجوماً، كل هذه جمادات، أي ليس لها حس. وهذه الجمادات تخدم أول ما تخدم النبات. والنبات يخدم الحيوان، والحيوان يخدم الإنسان. هكذا يكون الجماد خادماً لكل ما يعلوه من نبات وحيوان وإنسان. النبات يخدم الحيوان والإنسان. والحيوان يخدم الإنسان. وكل هذه الأشياء التي تخدم الإنسان لا اختيار لها وكلها مقهورة لخدمة الإنسان؛ فالشمس لم تغضب يوماً على البشر فلم تمدهم بحرارتها ولا المطية تأبت على صاحبها. والإنسان فيه قسمان: قسم مقهور للحق فلا يستطيع الإنسان أن يتحكم فيه أو يسيطر عليه مثل المرض أو الموت وهو في ذلك يشترك مع الحيوان والنبات والجماد، وقسم يكون الإنسان فيه مختاراً وهو تطبيق المنهج. إننا إذا نظرنا إلى الجانب الذي قهر فيه الحق الإنسان نجده لمصلحة الإنسان. فالإنسان لا يختار أن يتنفس ولا أن يسري الدم في عروقه ولا أن تعمل كليتاه. إنه مقهور في كل ذلك. ومن رحمة الله بالخلق أن جعلهم مسيّرين ومقهورين في هذه النواحي، فلم يجعل تنفس أحد بيد صاحبه ولا جعل القلب يعمل بإرادة الإنسان. والإنسان - إذن - يُخير في مسائل التكليف فقط. وكأن الحق يذكر الإنسان أن منطقة الاختيار هي عقد بين المؤمن وربه؛ لأن الاختيار سيسلب من العباد يوم القيامة، ويكون كل العباد مقهورين ويصير الكائن البشري مثل الجماد والنبات والحيوان. ولذلك يقول الحق سبحانه: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3483 إنّ الإنسان يوم القيامة سيصير بلا اختيار لأن الحق استعمل «ما» هنا وهي تدل على الأشياء غير العاقلة أي التي لا اختيار لها. كأن العقل له عمل في الدنيا وهو التمييز بين البدائل، أما في الآخرة فالكل متساوٍ أمام خالقه. وعلمنا من قبل الفارق بين «مُلْك» و «ملكوت» وكلنا يقرأ قول الحق: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} [الأنعام: 75] . كأن الحق ينبهنا إلى أن العالم فيه ما يقع تحت الإحساس والإدراك، وفيه ما لا يقع تحت الإحساس والإدراك. فالذي يقع تحت الحس والإدراك هو عالم المُلْك. والذي لا يقع تحت الحس والإدراك هو عالم الملكوت. ولا نعرف عن عالم الملكوت إلا ما أخبرنا به الله. وهناك في عالم الملك ما يخفيه الله عنا، وسبحانه وحده هو القادر على كل شيء، والحق يطلب منا أن نعتبر بما في العالم المشهود من ظواهر. وله سبحانه مطلق العلم بعالم «الملكوت» أي ببواطن هذه الظواهر غير المشهودة. و «الملك» و «الملكوت» موجودان في الدنيا والآخرة، إلا أن المُلْك ظاهر والملكوت خفي. ويوزع الحق سبحانه وتعالى أسباب الملك في الدنيا بين أيدي خلقه، ويملك التصرف فيما بين أيدينا وفيما خفي عنا، ويشاء الحق أن ينهي هذه المسألة من مبررات الخلافة للإنسان على الإنسان وفي الأرض فيقول: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ} فلله الملكوت، ولكم بعض الملك أيها العباد في ظواهر نسبة الأشياء إلى أسبابها وذلك في الدنيا، أما يوم القيامة فكل شيء ينتهي إلى الله. ولكن لماذا قال الحق: {وَمَا فِيهِنَّ} على الرغم من أن الحق استخلف الإنسان في الأرض، والإنسان عاقل وكان من حقه أن يُغلب فيأتي القول: ومن فيهن؛ لأن (مَن) للعاقل، لقد أراد الحق بذلك أن ينبئنا أن الكل أصبح لا اختيار له، وأصبح مقهوراً على المراد منه فقد تساوى الجميع عاقلهم وغير عاقلهم فيقول لنا: {وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وبهذه الآية ختمت سورة المائدة. وهي سورة مدنية، وهي من آخر ما نزل من القرآن الكريم، وفيها التشريع. وفيها التكاليف. وفيها الأحكام. وفيها ما يتعلق بكل السور المدنية من بيان اعوجاج أهل الكتاب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3484 ومن بعد ذلك جاءت سورة الأنعام، وهي مكية. وجاءت المكية بعد المدنية في الترتيب المصحفي حسب ما انتهى إليه آخر عرض للقرآن في آخر رمضان من حياة سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع جبريل عليه السلام. ومن المعلوم أن القرآن له «ترتيب نزولي» و «ترتيب مصحفي» . والترتيب النزولي حسب ما نزلت سورة القرآن في مكة أو المدنية. ورب قائل يقول: إن الحق أنزل هذا القول الكريم فوق عرفات وهو قوله سبحانه: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] . فكيف يقال ذلك؟ نقول: لنفهم معاً معنى الاصطلاح القائل: «مدني» و «مكي» ، هناك آيات من القرآن نزلت بالمدينة، وآيات أخرى نزلت بمكة، وآيات ثالثة فيما بينهما، وآيات رابعة نزلت بين السماء والأرض. وجاء الاصطلاح «مكي» على الآيات التي نزلت قبل الهجرة، وجاء الاصطلاح «المدني» على الآيات التي نزلت من بعد الهجرة، وإن نزلت بمكة. وأراد الحق أن يكون للقرآن ترتيب نزولي وترتيب مصحفي، وقد شاء سبحانه أن يعدل بالقرآن ميزان الكون الإنساني المضطرب، واضطراب الكون الإنساني إنما يكون بواسطة أناس لا يؤمنون بإله، أو بأناس يؤمنون بإله ويشركون معه غيره فيعبدون أوثاناً، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} أو بأناس يعبدون النار، أو بأناس تابعين لمنهج سماوي ولكن حرفوا فيه قليلاً أو كثيراً. إننا نجد أن الأقرب إلى الإيمان بالله هم الأجناس الذين آمنوا بالرسالات السابقة على رسول الله، فقد جاءتهم الرسل ومعهم المعجزات، ومعهم كتب المناهج، والمنطق يقتضي أن يكون هؤلاء هم الأقرب للإيمان من غيرهم، ولذلك كان من المطلوب أن نواجه أولاً الوثنيين ونصفي المعركة مع أهل الكتاب من بعد ذلك؛ لأن أهل الكتاب لهم إلف بنزول منهج السماء إلى الأرض بواسطة الرسل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3485 إذن ففي نزول القرآن كانت الأمور المكية التي تتعلق بالعقيدة الأساسية هي الظاهرة. وهي الاعتراف بألوهية واحدة تحكم الكون. أما في المدينة فد ناقش الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أهل الكتاب في كل أمور الدين بعد أن استتب أمر التوحيد. لقد كان هذا الترتيب منطقياً مع هذه الحقيقة. فقد كان في العالم موجتان اثنتان: موجة إلحاد، وموجة تغيير في منهج الله السماوي. ولذلك كانت قلوب المسلمين مع قلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أهل الكتاب؛ لأنهم على الأقل يؤمنون بإله، وأن الإله يرسل الرسل ومعهم المنهج الإلهي والمعجزات الدالة على صدق رسالتهم، وحتى الذين انحرفوا من أهل الكتاب كانوا يتمسحون في هذا الكتاب المنزل إليهم بالرغم من أنهم حرفوه. لقد وجدنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقف بجانب الروم عندما واجهوا فارس. وعندما هزمت الروم حزن المسلمون وفرح الكفار؛ لأن الروم كانوا أهل كتاب؛ إنهم كانوا نصارى، وكانت هزيمتهم تعني انهزام منطق السماء أمام منطق الإلحاد، لذلك حزن المسلمون، وفرح الكفار. وأراد الله أن يصور لنا الموقف، وأن يوجه قلوبنا إلى الذين يؤمنون أيضاً بأن هناك إلهاً حتى ولو كانوا قد أخطأوا في تصور هذا الإله وفي البلاغ عنه، أو أخطأوا في تأويل ما جاءت به الرسل فقال سبحانه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله} [الروم: 1 - 5] . إنّ المسلمين يفرحون بنصر الروم على فارس؛ لأن الروم لهم علاقة بالسماء، والرسل، والمناهج، والوحي. وجعل الله الأمر واضحاً هكذا لكي يبين موقفنا وليجعلها إعجازاً لكتابه ولرسوله؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان موجوداً بمقر الدعوة وهو الجزيرة العربية، وليس عنده سفارات ولا مخابرات ولا مكتب حربي حتى يأتيه بالأخبار وينبئه عن استعدادات الروم التي تُجري لرد الهزيمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3486 هذا الرسول يتنبأ بخبر معركة قادمة بين الفرس والروم، وينتصر فيها الروم، معركة تحدث بعد سبع أو تسع سنوات. وعندما راهن سيدنا أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه المشركين على ذلك، وجعل بينه وبينهم خمس سنين أجلاً لغلبة الروم وظهورهم على الفرس، ذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال له: «البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل» فكانت مائة بعير إلى تسع سنين. إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتكلم كلام الواثقين، لأنه ينقل الخبر عن الله، وجعله الله قرآناً يتلى ويصلى به، ومحفوظاً أبد الدهر، ولا يمكن أن يكذب هذا القائل إنه - سبحانه - هو الذي يملك ميزان الكون كله، وأي إنسان من رجالات الحرب المعاصرين لا يمكنه أن يتنبأ بمصير معركة قادمة، على الرغم مما قد يُجمع لها ويحشد من معلومات عن القوة والعدة والعتاد. ولكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبلغ عن الله وهو واثق تمام الوثوق مما يبلغ. وقد واجه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخصم الإلحادي، وكان قلبه مع أهل الكتاب، ونرى أيضاً أن أهل الكتاب كانوا يستبشرون بمجيء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألم يقل بعض أهل الكتاب وهم اليهود في المدينة للأوس والخزرج: قد أظل زمان نبي يُبعث وسنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم. ولكنهم كفروا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من بعد ذلك؛ لأنه سيسلب منهم السيادة، والسلطة الزمنية. إذن فنزول القرآن أولاً كان في مكة، ومن بعد ذلك نزل في المدينة. لكن في الترتيب المصحفي - كما قلنا - جاءت المدنيات أولاً، وبعد ذلك جاءت المكيات. وذلك حسب ما أراد الله عندما راجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان الأخير من حياة الرسول الكريم. إنَّ أصل الإيمان واحد، وهو الإيمان بإله، ووحي، ورسل، ومنهج، وكل ذلك له فائدة إقامة نظام يحكم الحياة. وهو نظام ضروري لتنصلح حال الحياة سواء آمن الناس بإله أو كفر بعضهم. وجاء هذا النظام الذي يحكم في السور المدنية أولاً ولم يغفله الحق في بعض السور المكية. إنّ الحق شاء لرسوله أن يوحد القلوب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3487 المؤمنة بإله واحد أولاً ليواجهوا معكسر الإلحاد. ولكن هناك من اختلف وتخلف عن مؤازرة موكب الإيمان. وهكذا تنتهي خواطرنا حول سورة المائدة، ومع أن سورة المائدة مدنية وسورة الأنعام مكية إلا أن السياق بين تذييل المائدة وافتتاح الأنعام فيه اتساق واضح. فالحق يقول في آخر سورة المائدة: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ويقول سبحانه في أول سورة الأنعام: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] فسبحانه وتعالى قدير ويملك كل الكون، ولم يأخذ ذلك الملك افتئاتاً أو ادعاء، ولكنه جل شأنه هو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي جعل الظلمات والنور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3488 ويبدأ سبحانه سورة الأنعام بقوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وساعة تسمع كلمة الحمد، فعليك أن تفهم أنها كلمة المدح والثناء والشكر. فالحمد أمر فطري موجود ونوجهه لله، فقد أخذ - سبحانه - بأيدينا ووضح وبين لنا أن الحمد لله حتى لا نختلف في مجال توجيهه؛ لأنه سبحانه هو الذي أمد كل إنسان بشيء من أسبابه. وحين تسأل أحداً عن شيء فإن سلسلات ما أمدك به منسوبة لله. إذن فكل حمد يجب أن يتوجه إلى الله. وأضرب هذا المثل: هب أن إنساناً وقعت به طائرة في مكان ما موحش، لا يوجد به أي شيء من أسباب الحياة، وأراد ان يأكل ويشرب ويستتر حتى ينام، لكنه لم يجد شيئاً من هذا: وأخذته سنة من النوم ثم استيقظ فجأة فوجد مائدة عليها كل أطايب الطعام والشراب، وبجانب ذلك وجد خيمة فيها فراش وغطاء وصنبور للغسيل. وساعة يرى كل ذلك فهو لا يبدأ في استخدام أي شيء قبل أن يتساءل عن مصدره، لأنه يريد أن يشكر الذي أنعم عليه كل هذه النعم السابغة. فكأنك أيها الإنسان حين واجهت الكون ووجدت أشياء تخدمك ولا عمل لك فيها، ولا للسابقين عليك عمل فيها؛ لأن أحداً لم يدعها لنفسه، فوجدت شمساً تشرق، وهواءً يهب، وماءً يروى، وأرضاً تُزرع، وغير ذلك من كل ما يخدمك، وأخبرك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3491 الحق أنه هو الذي منحك كل هذا ألا تشكره إذن؟ إن البشرية عندما استفادت من المصباح الكهربائي قامت الضجة لتكريم اديسون الذي اخترعه، فما بالنا بخالق الشمس التي تنير الكون كله؟ إن الاختراعات البشرية تخلد أصحابها وتقوم الضجة لتكريمهم. فما بالنا بخالق الكون كله؟ ما بالنا نكرم صانع المصباح الذي ينير مساحات ضيقة مهما اتسعت بالقياس إلى الأرض ويغفل بعضنا عن تنزيه خالق الشمس التي تنير الأرض في النهار وتختفي نصف اليوم حتى يستريح الإنسان؟ ولكنها تسير سيرا دائماً، فإن غابت عنك فقد أشرقت على غيرك فهي في فلكها تسبح. إذن فالحمد لله حينما استقبل الإنسان هذا الوجود. ووجد كل مقومات الحياة التي لا يمكن أن تخضع لقوة بشر، ولا لادعاء بشر. إن الحمد أمر واجب الوجود وإن اختلف الناس حول من يوجه له الحمد. إننا نوجهه إلى الله تعالى لأنه هو واهب النعم. وسور القرآن التي بدأها الخالق بالحمد لله خمس سور هي: الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر، وتتركز حول شيئين: تربية مادية بإقامة البنيان بالقوت أو بقاء النوع بالتزاوج أو بتربيتهم تربية روحية قيمية، فيمدهم بمنهج السماء. فمرة يقول الحق: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} . وكلمة «رب» تعني أنه تولى تربية الخلق إلى غاية ومهمة، والتربية تحتاج إلى مقومات مادية ومقومات معنوية، روحية ومنهجية؛ لذلك يأتي بها الحق شاملة للكون كله كما في فاتحة الكتاب: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] . فهو سيد كل العالمين ومالكهم ومربيهم، وهو الذي ينشئهم التنشئة التي تجعلهم صالحين لأداء مهمتهم في الحياة بقوة البنيان وببقاء النوع بالتزاوج وبقوة القيم. ومرة ثانية يأتي الحق بالمنهج وحده، مثل قوله الحق سبحانه: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3492 ومرة أخرى يأتي الحق بالأشياء المنظورة فقط فيقول: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] . إنه سبحانه يأتي هنا بأشياء تختص بالمادة المنظورة، كالسموات والأرض، والظلمات والنور، وهي أشياء يمكنك أن تراها بوضوح، ومرة يأتي الحق بأشياء غير منظورة مع الأشياء المنظورة كقوله الحق: {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] . ويأتي بالمجموع كله في فاتحة الكتاب، ويأتي بالمنهج فقط كما في سورة الكهف، ويأتي بالكون المادي كما في سورة الأنعام، ويأتي بالكون المادي والمعنوي كما في سورة فاطر. إذن فالحمد مُسْتَحَقٌّ مستحق، ويُوجه الله حتى ولو كانت أسبابه الظاهرة من غير الله؛ لأن كل أسباب الدنيا والكون تنصرف أخيراً إلى الله. وهنا - في سورة الأنعام - خص الحق الحمد لله خالق السموات والأرض بما فيهما من كائنات، وأتى من بعد ذلك بالظلمات والنور. والخلق كما نعلم إيجاد من عدم. والجعل يأتي لشيء مخلوق ويوجه إلى الغاية منه. ولذلك قال الحق: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} والظلمة أمر عدمي، والنور أمر إيجابي، والنور يبدد الظلمة. إذن فالأصل هو وجود الظلمة التي تختلف في ألوانها، مثال ذلك: ظلمة الكهف، وظلمة البحر، وظلمة البر، ولذلك قال الحق سبحانه: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] . إنها يده يعرف اتجاهها ولكنه لا يكاد يراها. إذن فالحق يخصص الحمد هنا لخلق السموات والأرض لأنها ظرف كل الكائنات. وقال العلماء: لا تأخذ الظلمة على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3493 أنها الظلمة المادية التي لا ترى فيها الأشياء لا غير، ولا تأخذ النور على أنه النور الحسي الذي ترى به الأشياء فقط، ولكن لنأخذ الظلمات والنور على الأمر المعنوي والأمر الحسي كذلك - وسبحانه - جعل الظلمات في هذه الآية جمعا وجعل النور مفردا، لأن الظلمات تتعدد أسبابها لكن النور ليس له إلا سبب واحد. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] . والسبل هي جمع، وسبيل الله مفرد لأنه واحد. كأن سبل الشيطان متعددة، وسبل الناس كذلك متعددة حسب أهوائهم، لكن سبيل الله واحد؛ لذلك يجعل الهداية نوراً والضلال ظلمات. {وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ونقول: - ولله المثل الأعلى - إنك إيها الإنسان عندما يفيض الله عليك ويجعل من بين يديك ما تعديه من جميل إلى غيرك فأنت تقول: أنا صنعت لفلان كذا وكذا ثم ينكر من بعد ذلك. كأن «ثم» تأتي هنا للاستبعاد. إن «ثم» تأتي للعطف مثل حرف «الفاء» . ولكن الفاء تكون للجمع بين شيئين ليست بينهما مسافة زمنية، مثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] . ومن يحب إنساناً ومات هذا الإنسان فهو يعجل بدفنه، وذلك حتى لا يرم ويتعفن أمامه. ولذلك يقول الحق سبحانه من بعد الإقبار: {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 22] . كأن فترة زمنية قد تطول حتى تقوم القيامة فينشر الحق خلقه. وقد يكون البعد بُعْدَ رتبة أو منزلة، ولذلك يأتي الحق ب «ثم» هنا كفاصلة بين خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وبين الذين كفروا بربهم، {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3494 بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} إنهم الذين يساوون الله بغيره. ونستطيع أن نجعل «يعدلون» من متعلقات كفرهم. . أي أنه بسبب كفرهم يسوون الله بغيره. أو يكون المراد أنهم يعدلون أي يميلون عن الإله الحق إلى غير الإله، أو يجعلون لله شركاء. وهو قول ينطبق على الملحدين أو المشركين بالله. لقد أوجد سبحانه السموات والأرض من عدم وليس لأحد أن يجترئ ليقول الله: كيف خلقت السموات والأرض؟ لأنه سبحانه يقول في آية أخرى: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] . وأوجد سبحانه السموات والأرض من عدم، فالسماء والأرض ظرف للكون وتم خلقهما قبل الإنسان وقبل سائر الخلق، ولم يشهد خلقهم أحد من الخلق، فلا يصح أن يسأل أحد عن كيفية الخلق، بل عليه أن يأخذ خبر الخلق من خالقهما وهو الله. وقد أتى بعض الناس وقالوا: إن الإرض انفصلت عن الشمس ثم بردت، وهذا مجرد ظنون لا تثبت؛ لأن أحداً منهم لم ير خلق السموات والأرض. وهؤلاء هم أهل الظنون الذين يدخلون في قوله تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] . لقد قال القرآن ذلك من قبل أن يأتي هؤلاء. وكأنه سبحانه يعطينا التنبؤ بمجيء هؤلاء المضلين قبل أن يوجدوا، فهم لم يشهدوا أمر الخلق، بل طرأوا - مثلنا جميعاً - على السموات والأرض، وكان من الواجب ألا يخوضوا في أمر لم يعرفوه ولم يشاهدوه. وكذلك قولهم عن خلق الإنسان كقرد وهم لم يكونوا مع الله لحظة خلق الكون والإنسان، ولا كانوا شركاء له، ولذلك يعلمنا الحق الأدب معه فيقول سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3495 وعلينا أن نأخذ خبر الخلق عن الله القائل: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3496 هو سبحانه يأتي لنا بأمر الخلق فأوضح أنه خلقنا من طين، بعد أن تكلم عن أمر خلق السموات والأرض، وهو - سبحانه - قد أخبرنا من قبل ذلك أنه خلقنا من تراب وحمأ مسنون ومن صلصال كالفخار، وهي متكاملات لا متقابلات، وكذلك أوضح الحق أنه خلق كل شيء من ماء، فاختلط الماء بالتراب فصار طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم صلصالاً كالفخار وكلها حلقات متكاملة. ونحن لم نشهد الخلق ولكنا نتلقى أمر الخلق عنه - سبحانه - ونعلم أن الطين مادة للزرع والخصوبة. وعندما قام العلماء بتحليل الطين وجدوه يحتوي على العديد من العناصر، وأكبر كمية من هذه العناصر الأوكسجين، ثم الكربون، ثم الهيدروجين، ثم الفلور، ثم الكلور، ثم الصوديوم، ثم المغنسيوم، ثم البوتاسيوم، ثم الحديد، ثم السيلوز، ثم المنجيز وغيرها. والعناصر في هذا الكون أكثر من مائة، ولكنها لا تدخل كلها في تركيب الإنسان، إنما تدخل في تركيب ما ينفع الإنسان من بناء وزينة وغير ذلك. مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53] . لقد قام أهل الكفر من العلماء بهذا التحليل وذكروا تلك النتائج التي أخبرنا بها الرسول الكريم في الكتاب المعجز الباقي المحفوظ بأمر الله كحجة مؤكدة. وصان الحق لنا هذه الحجة حتى يأتي عالم غير مؤمن ويتوصل إلى بعضٍ من الحقائق الموجودة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3496 في القرآن. ولم يحضر أحد منا لحظة الخلق، ولكنا نشهد الموت وهو نقض للحياة، ونقض الشيء يكون على عكس بنائه. ونرى من يهدمون بناء يبدأون بهدم آخر ما تم بناؤه وتركيبه، فيخلعون الزجاج أولاً وهو آخر ما تم تركيبه، ثم الأخشاب، ثم الأحجار، كذلك نقض الحياة بالموت. تخرج روح الإنسان أولاً ثم بعد ذلك ييبس ويجف ليصير صلصالاً كالفخار ثم حمأ مسنوناً أي يصيبه النتن والعفن ثم يتبخر منه الماء فيصير تراباً. ولذلك نحن نصدق الذي خلقنا في أمر خلقنا ونصدقه في أمر السموات والأرض، وعندما يقول قائل بغير ذلك، نقول له كما أخبر القرآن الكريم: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] . ويخبرنا الحق هنا بقضية الرجل: {ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} ولا أحد فينا يعلم أجله مهما عرض نفسه على الأطباء، والأجل الأول هو الأجل المحدد لكل منا، والأجل المسمى عنده هو زمن البرزخ ومن بعده نبعث من قبورنا، ولذلك قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] . وقد يعرف الأنسان مجيء مقدمات نهايته واقتراب موته بواسطة ما كشف الله عنه من أسراره بواسطة تقدم العلماء. فليس هذا من الغيب وفي بعض الحالات يصح هذا المريض ويشفى ويبرأ، ويقولون: قد حدثت معجزة، أما الأجل المسمى فلا نستطيع أن نعرفه، وحدد الحق سبحانه ذلك في خمس مسائل: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3497 وقد تكلم الحق عن المكان ولم يتكلم عن الزمان: {ثُمَّ قضى أَجَلاً} أي قضى أجلاً لكل واحد، ثم جعل أجلاً لكل شيء مسمى. والآجال في الآحاد تتوارد إلى أن يأتي أجل الكل وهو يوم القيامة، {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} والدلائل التي أوردها الحق كفيلة بألا تجعل أحداً يشك، ولكن هناك من يماري في ذلك بعد كل هذه المقدمات. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَهُوَ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3498 والله هو علم على واجب الوجود، وهو الاسم الذي اختاره الله لنفسه شاملاً لكل صفات الكمال، والصفات الأخرى نحن نسميها الأسماء الحسنى: مثل القادر، والسميع، والبصير، والحي، والقيوم، والقهار، كلها صفات صارت أسماء لأنها مطلقة بالنسبة لله. وهذه الصفات حين تنصرف على إطلاقها فهي الله، ومن الجائز أن تضاف في نسبتها الحادثة إلى غير الله. أما اسم «الله» فلا يطلق إلا على الحق سبحانه وتعالى. ويتحدى الله الكافرين به أن يسمي أحدهم أي شيء غيره ب «الله» . {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] . وسمع الكافرون ذلك ولم يجرؤ أحدهم أن يسمي أي شيء باسم «الله» . وهو لون من التحدي باقٍ إلى قيام الساعة ولا يجرؤ أحد أن يقول عكسه أو أن يقبله فيسمي شيئاً أو كائناً غير الله ب «الله» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3498 ولا نعرف شيئاً وجد بذاته أزلا وقبل أن يوجد الكون إلا الله، أما أتفه الأشياء في حياتنا والتي نعتبرها من غير الأساسيات فهي لا توجد بذاته بل لا بد من صانع لها. فكوب الماء مثلاً لا يؤدي ضرورة قصوى في الحياة؛ لأن الإنسان يستطيع أن يشرب الماء بكفه أو بفمه مباشرة، هذا الكوب احتاج من الإنسان إلى علم وإمكانات وقدرة وحكمة. وجاء العلم للإنسان بما وهبه الله للإنسان من قدرة بحث عن المادة التي في الكون، فنظر الإنسان إلى الرمل واكتشف وسيلة لصهر الرمال، واكتشف وسيلة لتنقية الزجاج بمواد كيماوية، واكتشف أسلوباً آلياً لإنتاج هذه الأكواب. لقد أخذت رحلة صناعة الكوب من الإنسان رحلات علمية وصناعة كبيرة، وهو غير ضروري كضرورة قصوى في الحياة، إنما هو من الترف، فما بالنا بالضروريات من شمس، وقمر وهواء وماء؟ هذه الأشياء - إذن - لا بد لها من صانع وإذا كان صانع أتفه شيء في حياة الإنسانية يذهب إلى إدارة لتسجيل اختراعه؛ ليستفيد منها، فما بالنا بالذي صنع كل شيء، ولم يصنعها ليستفيد منها ولكن ليستفيد خلقه منها. إن البشرية تعرف من صنع المصباح وتاريخه، وأين ولد، وأين عاش، وأين تعلم. فما بالنا بالذي صنع الشمس والنجوم والأرض والإنسان؟ ورحمنا الحق فدل على نفسه وأخبرنا أنه سبحانه الذي خلق. ولم يأت أحد ليعارضه سبحانه ويدعي صناعة الكون، وما دام لا يوجد شيء له أثر إلا بمؤثر، فلا بد لنا أن نعرف أنه سبحانه ما دام قد قال: إنه هو الذي خلق وأبدع ولم تنشأ معارضة له فإن قوله هو الصدق. وإن كان هناك صانع للكون ولم يعلم أن الله قد أخبرنا أنه سبحانه الذي خلق الكون فذلك الصانع النائم التائه عما صنع لا يصلح أن يكون إلهاً. وإن كان قد علم أن الله أخبرنا أنه سبحانه خلق لنا الكون ولم يجرؤ هذا الصانع على أن يبلغنا بالحقيقة فهذا - الصانع المدعي - ليس له حق في الألوهية. أما الحق سبحانه، فقد أعلمنا وعلمنا بالدليل القطعي أنه الذي خلق الكون، وما دام الأمر كذلك فيجب أن نستمع له، والترجمة العملية لسماع الحق هي عبادته وطاعته فيما أمر وفيما نهى، بل إن عالم الملكوت الذي لا ترونه يعبده سبحانه. وكل شيء في الوجود مؤتمر بأمره ويسبح بحمده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3499 {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء: 44] . وتدل السموات السبع والأرض وكل من فيهن من مخلوقات على دقة الصنعة وعلى ملكية الله لها وتنزهه سبحانه وتقدسه بأنه لا شريك له، وكل شيء له وسيلة للتسبيح والتنزيه، ولكنا لا نرى ذلك ولا نفهمه ولا نفقهه. ويبلغنا الحق هنا أنه المعبود الموجود في كل الوجود. {وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} وما دام معبوداً فينبغي أن يكون مطاعاً في الأوامر والنواهي. ولكن بعضنا يطيع، وبعضنا يعصي. ولذلك رتب الحق على الطاعة جزاء؛: إما نعيماً وإما عقاباً. وهناك فارق بين وجود الشيء وإدراك الشيء، وإياك أن تخلط بين إدراك الوجود، والوجود، فالذي لا تدرك وجوده إياك أن تقول إنه غير موجود. ومثال ذلك ما نراه على مر تاريخ البشرية. لقد ترك الخالق في الوجود أسراراً يستنبطونها فتبرز لهم بالمنافع وكانت قبل أن يعرفها البشر ويقفوا عليها تؤدي مهمتها في الوجود، ومثال ذلك الجاذبية الأرضية؛ لقد كانت موجودة قبل اكتشاف الإنسان لها وتؤدي عملها قبل أن يعرفها الإنسان، وجاء ذكرها في القرآن بشكل لا يثير بلبلة ساعة نزل القرآن: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر: 41] . أوجد الحق قوانين الجاذبية لتمارس السموات والأرض أعمالها ويحفظهما بقدرته من الزوال، وجعل من الجاذبية نظاماً بديعاً يحفظ الكون من الاختلال. إذن فالجاذبية كانت موجودة، ولم يعرفها الإنسان إلا مؤخراً، وهكذا نعرف أن هناك فارقاً بين وجود الشيء وبين إدراك الشيء. فإذا قيل لك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3500 {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] . فأنت أيها المؤمن تصدق ذلك؛ فذات الحق لا تبصرها العيون وهو يعلم كل ما هو خفي عنك ولا تدركه عيونك. وفي الكون أشياء قد لا ندركها على الرغم من أنه سبحانه وتعالى خلقها وعملت في خدمتك، وبعد أن أدركتها ظلت تعمل في خدمتك، فإن حدثك الحق بشيء لا تدركه فلا تقل: ما دام هذا الشيء غير مدرك فهو غير موجود. وعلى سبيل المثال أنت لا تدرك الكهرباء، ولا الجاذبية، ولا قمة أسرار الحياة وهي الروح التي تعطيك سر الحياة، وتنفعل بها كل جوارحك، وإن خرجت الروح صرت جثة هامدة، إن أحداً لا يعرف مكان الروح ولا يدركها، ولا سمعها أحد أو شمها أو ذاقها أو لمسها. إن الروح موجودة في ذاتك ولا تدركها، هأنتذا - إذن - لا تستطيع أن تدرك مخلوقاً لله فكيف تدرك خالقك وهو الله؟ إنك لو أدركته لما صار إلهاً؛ لأنك إن أدركت شيئاً فقد قدرت عليه جوارحك، ويصير مقدوراً عليه لعينك أو ليدك، والقادر المطلق لا ينقلب مقدوراً أبداً، ومن عظمته أنه لا يُدرك. مثال آخر: الرؤيا التي تراها وتتحرك فيها. هل الرؤيا موجودة في جسمك؟ أو ماذا؟ والحِلْم وهو الصبر على غيرك لأن تتحمله وتعطف عليه وتضحك له، هذا الحلم يجعلك تنفعل، فهل تدرك أنت هذا الحلم؟ أنه معنى من بعض المعاني في نفسك التي تحرك جوارحك ولا تدركها، مثله مثل الشجاعة التي تصول بها وتجول ولا تراها محيزة، ولا تعرف شكلها أو لونها أو طعمها، فالأعلى الذي يدير هذا الكون غير مدرَك بالأبصار. والذي يُتعب الناس أنهم يحاولون الجمع بين الإدراك والوجود، ولذلك نقول: ابحث أيها الإنسان في كونك ولسوف تجد فارقاً بين الإدراك والوجود. ونعلم أن اسم الله نفسه وهو لفظ ننطقه لنفهم ونستدل به على أنه الخالق الأعلى وهو متحدًى به. وأنت أيها الإنسان قد اخترعت - على سبيل المثال - التليفزيون وكان من قبل أن يوجد معدوماً لا اسم له، وصار له اسم منذ أن أوجده الإنسان، صالحاً لمهمة معينة، أما اسم الله فهو موجود وقديم من قبلك وأخبرك به الرسل، وهو سبحانه وتعالى له اسم في كل لغة من اللغات، ووجود هذا الاسم في كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3501 اللغات بنطق مختلف هو دليل على أسبقية وجود الذات وهو الله. وبعد ذلك جاء الكفر، وعرفنا أن الكفر كان محاولة لستر الوجود الأول، وبذلك دلت كلمة الكفر على الإيمان. والذي يرهق الإنسان هو محاولته لحصر الموجود الأعلى في شكل طبقاً لإمكانات وحدود البشر. ولا أحد يستطيع أن يحصر وجوده سبحانه في شكل معين؛ لأن من عظمته أننا لا نقدر على تصوره، والإيمان به سبحانه يدل عليه وهو يقول عن نفسه ما شاء. وأحب أن تحفظوا هذا المثل وتضربوه لصغاركم: لنفترض أن إنساناً يجلس مع أسرته في حجرة، ثم طُرق الباب، وكل من يجلس في الحجرة يتيقن أن طارقاً بالباب ولا يختلف أحد منهم في هذه المسألة. فيقول أحد الأبناء: «الطارق محمد» ويقول الثاني: «إنه محمود» ويقول الثالث: «لا، إنه إبراهيم» فتقول الزوجة: «إن الطارق امرأة» ، لكن أحد الأبناء يقول: «لا، إنه رجل» فيقول الأب: «لعله شرطي جاء يسألني عن أمر» ترد الزوجة: «توقع خيراً، إنك تصنع كل خير ولا بد أن يأتي لك كل طارق بخير» . هنا اختلفت الأسرة لا في تعقل الطارق، ولكن في تصور الطارق، يقول الأب: «بدلا من الحيرة لنسألة من أنت؟» ، فيجيب الطارق: «أنا فلان» . وهكذا الكون، طرأ الإنسان عليه وتساءل من الذي خلقه. ذلك أن الإنسان جاءته الغفلة بعد أن عرف آدم ربه وبعد أن أشهد الحق ذرية آدم أنه ربهم. ثم أرسل الحق الرسل ليبلغوا الخلق منهجه واسمه وصفاته. وأراد سبحانه بذلك ألا يرهق خلقه، وأبلغ الناس من خلال الرسل أنه الخالق الأكرم. وآفة الفلاسفة أنهم لم يكتفوا بتعقل الإله، بل أرادوا أن يتصوروه، وهذا أمر غير ممكن. لذلك نقول: علينا أن نستمع إلى الحق يقول ما شاء عن نفسه ولا داعي للخلاف. وسبحانه وتعالى يقول: {وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض} وإياك أيها المسلم أن تفهم أن السماء والأرض هنا ظرفية، لأن الظرفية وعاء وحيز، وإذا كنت لم تعلم مكان روحك في جسدك، فكيف تعلم مكان الله؟ لقد قصد الله بذلك القول أنه معبود في السموات ومعبود في الأرض. ولنلحظ أن بعض آيات القرآن توقف الذهن عندها كي تظل الأذهان دائماً مشغولة بكلمات الله، ولو جاء القرآن بكلمات يسهل على الفهم العادي إدراك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3502 معانيها لما تجددت معاني الكتاب العظيم في كل زمان، وكأن الحق قد قصد ذلك حتى يثبت الناس في كل العصور من إيمانهم. وها هم أولاء بعض من الذين يحاولون الخوض في القرآن تساءلوا عن معنى قوله الحق: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله وَهُوَ الحكيم العليم} [الزخرف: 84] . تساءلوا عن معنى التكرار أنه إله في السموات وإله في الأرض. وظن بعض السطحيين أنه قصد القول بأن هناك إلهاً في السموات وإلهاً آخر في الأرض، ولم يفطنوا إلى أن المعنى المقصود هو: إنه إله يعبد في السماء ويعبد في الأرض، وهو صاحب الحكمة المطلقة في كل أفعاله وهو المحيط بكل كونه. وأن الحق إنما يريد بهذا القول أن يشغل الأذهان به. ونقول أيضاً لهولاء الذين لم يفهموا المعنى: هناك قاعدة في اللغة تحدد النكرة وتحدد المعرفة؛ فعندما نقول: «جاءني الرجل» فهذا الرجل يكون معروفاً للقائل والسامع. ولكن عندما نقول: «جاءني رجل» فهذا غير معروف للسامع وقد يكون معروفاً للقائل. وإذا قلنا: «جاءني رجل وأكرمت رجلاً» فمعنى ذلك أن القائل يتحدث عن رجلين؛ أحدهما جاء، والآخر كان موضع التكريم. أما إن قال القائل: «جاءني رجل فأكرمت الرجل» فالحديث هنا عن رجل واحد. إذن فالنكرة إن أعيدت نكرة تكون مختلفة، والنكرة إن أعيدت معرفة تكون هي بعينها. وعندما قال الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله} [الزخرف: 84] . تصور البعض أن «إله» نكرة، عندما أعيدت صارت غيرها، ولو كان الأمر كذلك لفسدت الدنيا. ولكن القاعدة الغالبة من العلماء عرفوا روح النص. وقال أهل العلم بالتوحيد: لا بد لنا أن نلتفت إلى أنه سبحانه قال: {وَهُوَ الذي} ، وكلمة «الذي» اسم موصول واحد يدلنا على أن الحق صلته بالسماء وبالأرض واحدة، ولهذا نقول لمن وقفوا عند هذه الآية: لا تبحثوا عن النكرة المكررة بمعزل عن الاسم الموصول، لأن الاسم الموصول معرفة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3503 {وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} إنه إله واحد يعلم السر والجهر، ويترتب على هذا أساس الثواب والعقاب. فلا تظن أيها الإنسان أنك تفلت من حساب ربك، وإن كان سبحانه يعلم السر فمن باب أولى أن يعلم الجهر. ولو قال إنه يعلم السر فقط لظن بعض الناس أنه سبحانه لا يعلم إلا المستور لكونه - سبحانه - غيبا، ونقول: لا. هو - جل شأنه - وإن كان غيبا إلا أنه يعلم الغيب ويعلم المشهد، أو أنه - سبحانه - لم ينتظر علمه إلى أن يبرز الشيء جهرا بل هو بكمال علمه وطلاقة إحاطته يعلمه من أول ما كان سراً ويعلمه ويحيط به بعد أن برز وظهر ووجد وكأنه - سبحانه - يؤرخ للعلم في ذات الإنسان الواحد {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} . وهو سبحانه يعلمنا انه لا يقف عند السر فقط: {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] . إنه - سبحانه وتعالى - يعلم السر من قبل أن يكون سراً. وكل أمر قبل أن يصبح جهراً يكون سراً، وقبل أن يكون سراً هو أخفى من السر. ويذيل الحق تلك الآية بقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} والكسب إنما ينشأ من عملية تجارة في رأس مال ما والزائد عليه يكون هو الكسب، وقد يكون الكسب خيراً أو شراً، فالذي يكسب شراً هو الذي يأخذ فوق ما أحل الله له. والكسب كذلك يكون خيراً، فإن قدّم الإنسان حسنة يكسب عشر حسنات. والمتكلم هو الله الذي له الحمد لأنه خالق السموات والأرض والظلمات والنور. ولكن الكافرين يترصدون لكلمة التوحيد، ويأتيهم الخبر بأن الحق خلقنا من طين، ويعلم السر وما هو أخفى من السر، ويعلم ما نكسب من خير أو شر، ولا يؤثر ذلك كله في المنصرفين عن دعوة الحق من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا يميلهم ويعطفهم إلى الصراط المستقيم؛ لذلك يقول سبحانه: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3504 كأن الآيات الدالة على صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صدق البلاغ عن ربه لا تقنعهم، بل يعرضون عنها. مع أن الواجب كان يقتضي أن يرهفوا الآذان لما يحل لهم لغز الحياة. وما زال الإعراض مستمراً حتى زماننا هذا بالرغم من أننا توصلنا إلى معرفة العمر الافتراضي لبعض الأشياء التي من صناعتنا مثل مصباح الكهرباء الذي يتغير بعد كل فترة، وغيره من الأجهزة، ولكنا لا نعرف العمر الافتراضي للشمس ولم تحتج إلى صيانة ذات مرة، ولم نجد من يسأل: (وكيف يحدث كل هذا الإعجاز؟) . وقد أتى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليبين لنا أن الذي خلق الخلق كله يخبرنا بمطلوبه ويفسر لنا الكون، ولكن الإنسان يعرض عن ذلك. إن أول «مطب» يقع فيه الإنسان، أنه تأتيه الآيات التي تدل على لغز هذا الوجود من خالق الوجود، وكيفية تدبير الكون قبل وجود الإنسان، وكيفية جعل ما في الكون من قوت يقيم به حياته ويستبقي نوعه، وبرغم ذلك ينصرف عن سماع كل ذلك. إن الكفار لم يعرضوا فقط، بل انتقلوا إلى المرحلة الثانية وهي التكذيب، فلم يكتفوا بترك خبر الإيمان والإعراض عنه ولكنهم يزيدون في ذلك ما يوضحه الحق بقوله: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3505 فهذا خروج من الإعراض إلى التكذيب، فالإعراض أمر سلبي، والتكذيب هو الوقوف إيجابياً في موقف الضد والصد عن سبيل الله، ثم ينتقلون إلى المرحلة الثالثة وهي الاستهزاء. إننا إذن أمام ثلاث مراحل: إعراض، تكذيب، استهزاء. وكل ذلك لعلهم يصرفون المتِّبع عن الاتباع. ومثال ذلك ما ضربه الحق لنا في أمر نوح: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3505 {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 37 - 38] . فقد أوحى سبحانه إلى نوح البلاغ الحق وأمره أن يصنع الفلك تحت عنايته سبحانه وألا يخاطبه في شأن الكافرين الظالمين الذين لم يستجيبوا لدعوة الله ويَشْرَع نوح في إنشاء الفُلْك، ولكن الكافرين يستهزئون به لجهلهم ولعدم الوثوق من الغرض والهدف. ويسخر نوح من كل من يسخر منه. ومثال آخر وهو انتصار الإسلام بعد أن كان أهل الكفر قوة، ولكن المتكبر الطاغي منهم يأتي بعد صلفه وكبريائه صاغراً. ومنهم من قتل وأسر وذاق مرارة الذل النفسي. وقد كانوا من قبل يستهزئون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومثال على ذلك الوليد بن المغيرة، وهو السيد في قومه، يأتي فيه قول الحق: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 15 - 16] . وكان الوليد صاحب ثراء من المال ومنعة وقوة من البنين، وأعرض عن القرآن وسخر منه. فجعل الحق منه أمثولة للناس، وطبع على أنفه علامة لازمة افتضح بها، وكانت سُبّةً له وعاراً لا يفارقه كلما ذكر. وقد نزل هذا القول في القرآن وقت ضعف المسلمين، ثم يأتي خبر ضربه على أنفه الذي هو محل الأنفة والكبرياء والعنجهية، ثم تأتي بدر ليرى المسلمون تحقيق ذلك، إنه كلام إلهي متحدًى به ومتعبد بتلاوته. وهكذا تصدق كل قضية يأتي بها الله. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3506 {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3507 هذا ما شاهدته قريش في رحلات الشتاء والصيف. رأوا آثار عاد قوم هود وبقايا ثمود قوم صالح. وكانت إمكانات عاد وثمود أكبر من إمكانات قريش. إن قريشاً لا سيادة لها إلا بسبب وجود الكعبة، ولو كان الحق ترك أبرهة يهدم الكعبة لما مكن لهم في الأرض. ها هي ذي حضارات قد سبقت وأبادها الحق سبحانه وتعالى: ويوضح القرآن ذلك: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 6 - 13] . إنها حضارات كبيرة لهم صيت وخبر في آذان الدنيا مثل حضارة الفراعنة. وكل ذلك الصولجان لا يحميه أحد من أمر الله. وزالت الحضارات وأصبحت أثراً بعد عين، وصدق عليها قول الحق: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3507 والحق يجازي كل كافر الجزاء الوافي، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخبر قومه بما حدث لغيرهم من أقوام آخرين {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} والقرن عادة هو الجيل الذي يحكمه زمن محدود أو حال محدود، فإن نظرنا إلى الزمن فالقرن مائة سنة كأقصى ما يمكن، والجيل الذي يعيش هذا القدر يرى حفيده وقد صار رجلاً. ونعلم أن نوحاً عليه السلام عاش تسعمائة وخمسين سنة. يقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] . وحياة نوح على طولها تسمى قرناً. إذن فالقرن هو جيل يجمعه ضابط إما زمني وإما معنوي، والقرن الزمني مدته مائة سنة، أما القرن المعنوي فقد يكون عمر رسالة أو مُلْك. ويخبر الحق أهل الكفر بأنه قد قدر على غيرهم وأبادهم بعد أن مكن لهم في الأرض وذلك بألوان مختلفة من أنواع التمكين: {وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} ، وهذا الخبر يأتي من السماء بما حدث لقوم سابقين مثل قوم سبأ، فقد قال عنهم الحق في موضع آخر من القرآن الكريم: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15] . ومسكن سبأ باليمن آية دالة على قدرة الله؛ حديقتان وارفتان عن يمين وشمال؛ ليأكل أهل سبأ من رزق الله ويشكروا نعمة الله. وكان لهم سد مأرب، ووهبهم الله القدرة لبنائه، فقطعوا من الجبال التي ليس عمل فيها ليحجزوا ماء المطر الساقط من السماء، كل شيء إذن فعلوه وإنما فعلوه لأن الله قد أراده، وهم أعرضوا عن أمرين: عن الرزق الوفير الذي منحهم الله إياه وأرادوا أن يعتمدوا على أنفسهم كما فعل قارون حيث قال: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} . ظنوا أنهم قادرون على رزق أنفسهم وكذلك لم يشكروا الله، ولذلك أرسل الله عليهم سيل العرم، أي أنه عقاب من جنس العمل، وهكذا تكون عاقبة الإعراض والكفر بنعم الله. فقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3508 سلط الله عليهم حيوانا من أضعف الحيوانات وأحقرها وهو الفأر فنقب السد فأغرق أموالهم ودفن بيوتهم. ويخبر الحق رسوله بكل هذه الأخبار ليلفت بها وينبه إليها قوماً رأوا آثار حضارة عاد وثمود، والرؤية سيدة الأدلة، وطالبهم الرسول بها حتى يعرفوا عاقبة الإعراض والتكذيب والاستهزاء، ولم يطلب الحق من رسوله إلا البلاغ فقط، أما إيمان القوم فليس مكلفاً به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إن هؤلاء قد خافوا من سيطرة «لا إله إلا الله» فهم الذين صنعوا من أنفسهم آلهة وتسلط بعضهم على بعض. فتخيل القوي أنه إله على الضعيف. وتخيل الغني أنه إله على الفقير، وتخيل العالم أنه إله على الجاهل، أما «لا إله إلا الله» فهي تساوي بين الناس جميعاً، وهم يرفضون ذلك لأنهم يريدون السيادة. . ومثال ذلك قولهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . فهم لم يجرؤوا على الطعن في القرآن، إنما طلبوا أن تكون السيادة لغني من أغنياء القريتين مكة أو الطائف وتناقض هذا القول مع عملهم وسلوكهم مع الرسول، فقد حفظوا كل نفيس حرصوا عليه عند محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولو كان الواحد منهم يرى شيئاً أو مغمزاً في أمانة رسول الله لما فعلوا ذلك. ولكن الواحد منهم بالرغم من التكذيب بمحمد لم يكن يأتمن إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالإنسان حينما تقع مصلحته أمام تكذيبه فهو يغلب مصلحته على تكذيبه. ويبين الحق سبحانه أن إعراض هؤلاء، وتكذيب هؤلاء واستهزاء هؤلاء، لا يمت إلى حقيقة أمرك يا رسول الله، ولا إلى حقيقة القرآن في شيء، وإنما هو العناد، مثلهم مثل آل فرعون الذين جحدوا آيات الله على الرغم من أن أعماقهم رأت هذه الآيات بيقين لا تكذيب فيه. {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [النمل: 14] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3509 فقد أنكر قوم فرعون رسالة موسى عليه السلام مع أنهم تأكدوا من صدقها، ولكنهم أنكروها بالاستكبار والعلو والظلم، فكانت عاقبتهم من أسوأ العواقب، وهذا هو حال المنكرين دائماً لأيات الله. وها هم أولاء منكرون جدد لرسالة رسول الله. يقول الحق سبحانه وتعالى فيهم: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3510 هذا الكتاب - القرآن - لو نزل إلى هؤلاء المكذبين مكتوباً في ورق من المحس المشاهد فلمسوه بأيديهم لقالوا ما قاله كل مكذب، إنه سحر ظاهر. وقد طالب المكذبون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ليقرأوه كشرط من ضمن شروط أخرى قال عنها الحق مصوراً جحودهم: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 90 - 93] . فبعد أن وضح لهم إعجاز القرآن حاولوا زوراً، واقترحوا من الآيات ليؤمنوا، كان يفجر لهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينبوعاً في أرض مكة لا ينقطع ماؤه، أو يكون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة بستان من نخيل وعنب. تتخلله الأنهار، أو أن يدعو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تُنزل السماء عليهم قطعاً كعذاب شديد، أو أن يتجسد لهم الله والملائكة ليَروْهم رأي العين، أو أن يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3510 لرسول الله بيت من ذهب مزخرف، أو أن يصعد إلى السماء ويأتيهم بكتاب من الله يقرر صدق رسالته، ولكن الله برحمته واتساع حنانه ينزه ذاته أن يتحكم فيه أحد أو أن يشاركه في قدرته فيعلن لهم على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قوله - سبحانه وتعالى -: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 93] . لأن الذي يبعث الآيات هو رب العالمين، ولا أحد يجرؤ أن يفرض على الله آياته. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو مُستَقْبِل لآيات الله لا مقترح للآيات، ذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أن من يقترح على الله آية ثم يأتي فيكذب بها يصيبه ويناله الهلاك، هذه سنة الله، ورسول الله يعلم أنه النبي الخاتم؛ لذلك لن يطلب أي آية من الله حتى لا ينزل عقاب الله من بعدها إن كذبوا بها. ويبلغ الحق رسوله عتو المتجبرين المنكرين واستكبارهم. {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} الحق يعلم أن قلوب بعض المنكرين قد صارت غفلاً لا يدخلها الإيمان ولا يخرج منها الباطل - كما أراد هو لهم - فلو نزَّل إليهم كتاباً في قرطاس ليكون في مجال رؤية العين ولمسوه بأيديهم فلن يؤمنوا. ويأتي أمر لمس الكتاب بالأيدي؛ لأن اللمس هو الحاسة التي يشترك فيها الجميع حتى الأعمى منهم، وبرغم ذلك فسيكذبون قائلين: {إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ومثل هذا الرد لا ينبع عن عقل أو تدبر أو حكمة. ولا يتناسب مع القوم الذين عُرفوا بالبلاغة والفصاحة، وبحسن القول وصياغته؛ لأن السحر إنما يغير من رؤية الناس للواقع، وما دام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متهماً بالسحر منهم فلماذا لم يسحرهم هم، ولماذا استعصموا هم بالذات على السحر؟ والمسحور ليس له عمل ولا إرادة مع الساحر، ولو كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ساحراً لصنع من السحر ما يجعلهم يؤمنون. إن من العجيب وهم أبصر الناس بفن القول، وهم أهل النبوغ في الأداء، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3511 ويعرفون القول الفصل والرأي الصحيح ويميزون بين فنون القول: خطابةً، وكتابةً، ونثراً، وشعراً، والقول المسجوع، والقول المرسل، من العجيب أنهم يقفون أمام معجزة القرآن مبهوتين لا يعرفون من أمرهم رشداً، فمرة يقولون إنه سحر، ومرة يقولون: إنه كلام كهنة، وثالثة يقولون: إنه كلام مجنون. والقرآن ليس بسحر، لأنه يملك من البيان ما يملكون وفوق ما يملكون ويحسنون، ولا يفعل رسول الله معهم ما يجعلهم يؤمنون على الرغم منهم، وليس القرآن كذلك بكلام كهنة؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نشأ بينهم ويعلمون أنه الصادق الأمين الذي لم يتلق علماً من أحد، فضلا عن أن كلام الكهان له سمت خاص وسجع معروف، والقرآن ليس كذلك. ويعلمون أنه كلام رجل عاقل، فكلام المجنون لا ينسجم مع بعضه، وها هوذا الحق يقول في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 2 - 4] . وقد أعد الله رسوله ليستقبل النبوة بقوة الفعل، لا بسفه الرأي، وله في إبلاغ رسالة ربه ثوابٌ لا مقطوع ولا ممنوع، وهو على الخُلق العظيم. والخُلُقُ العظيم - كما نعلم - هو استقبال الأحداث بملكات متساوية وليست متعارضة ولا يملك ذلك إلا عاقل. وقد شهدوا بخُلُق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكيف يأتي هذا الخلق العظيم من مجنون؟ وكيف يصدر السلوك المتصف بالسلامة والصلاح والخير من مجنون؟ كانت - إذن - كل اتهاماتهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تنبع من إصرارهم على الكفر، لا من واقع لمسوه، فكل ما قالوه في رسول الله هم أول الناس الذين شهدوا عكسه ولمسوا نقيضه. وجاءوا - إصراراً على الكفر - يطلبون أية أخرى: {وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3512 ما المَلَك؟ المَلَك جنس جعله الله من الغيب، ونحن لا نؤمن به إلا لأن الله الذي آمنا به قال: إن له ملائكة مثلما قال: إن هناك جنّاً، والملائكة من جنس الغيب، والجن مستور عنا. وهؤلاء المنكرون الجاحدون يطلبون نزول مَلَك حتى يؤمنوا. إذن فهم قد عرفوا أن هناك غيباً وأن فطرتهم الأولى تحمل أثراً من منطق السماء لكنهم ينكرون، وقولهم بالملَك دليل على أن في أعماقهم رواسب من دين إبراهيم ودين إسماعيل، وبقيت تلك الآثار في النفوس لأنها مسألة لا تمس السيادة، ولو أنزل الحق لهم ملَكَاً لما آمنوا أيضاً، فهم مكذبون. ولا يريد الحق أن يطبق عليهم سنته بنزول الآية التي يطلبونها حتى لا ينزل بهم عقابه إن كفروا بها. فلو أنزل الحق عليهم ملَكَاً كما يطلبون ثم كفروا لقضي الأمر وأهلكوا بدون إمهال. إذ لو تجلى الملَك لهم وظهر على طبيعته ما تحملته كياناتهم البشرية. ولقد نزل الملَكُ بآثاره الدامغة وهو غيب أنزله - سبحانه وتعالى - بالوحي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفعل في رسول الله ما فعل، ولم يظهر من عمله مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا أثره فحسب. وها هوذا رسول الله يشرح لنا ذلك لحظة مجيء الملك أول مرة في غار حراء: فقال الملك: اقرأ. «فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ: فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} . ورجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى بيته يرجف فؤاده ودخل على زوجه السيدة خديجة بنت خويلد، فقال: (زملوني زملوني) . فزملوه حتى ذهب عنه الروع. وأخبرها الخبر وقال:» لقد خشيت على نفسي «فقالت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وهي تعدد صفات وخلق رسول الله العظيمة:» كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر «. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3513 هكذا كان الإيمان الأول من خديجة من فور أن عرفت خبر الوحي. ويطمئن الحق رسوله من بعد ذلك قائلاً: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1 - 4] . وشرح الله صدر رسوله فصار هذا الصدر مهبط الأسرار والعلم وحط عن ظهر الرسول الكريم الأعباء الثقال، وارتبط اسم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأصل الإيمان والعقيدة حتى صار اسم رسول الله مقروناً باسمه - جل شأنه - في الشهادة الأولى للإسلام» أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله «. إذن كان هذا حال رسول الله حين تجلَّى له المَلَك لا بالحقيقة الملكية، ذلك أن هناك فارقاً بين البنيان البشري والبنيان الملكي. فالبنيان البشري يستقبل الأشياء المادية التي تناسب تكوينه، فإن جاءت له طاقة أعلى منه فلا يمكنه أن يستقبلها إلا إذا أعد الله المَلَك وصَّوره بصورة تجعله قابلاً للإرسال، وأعد الله الرسول ليكون قابلاً للاستقبال. ونعلم جميعاً قصة موسى لما جاء لميقات ربه، وقال الله في وصف ذلك اللقاء: {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} [الأعراف: 143] . والمانع لرؤية الله هو عدم قدرة الإنسان على الإحاطة البصرية بالله، فعندما تجلى الله للجيل المتماسك الصلب صار الجبل دكاً، أي مفتتاً وخر موسى عليه السلام مصعوقاً من هول ما رأى، ولما أفاق تاب الله وأعلن أنه أول المؤمنين به سبحانه فإذا كان الإنسان قد صعق من تجلي الحق للجبل، فكيف يقدر على أن يتجلى الحق له؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3514 إننا نعلم أن كل تكوين له قدرة استقبال لما يناسبه من أشياء، وضربنا لذلك مثلاً من دنيانا العلمية - ولله المثل الأعلى دائماً وهو منزه عن كل مثال - نجد الإنسان منا عندما يدخل الكهرباء إلى بيته لرغبته في الانتفاع بقانون النور والضوء لمدة أطول وبفوائد الكهرباء المتعددة، ولكنه عندما يريد أن ينام فهو يطلب الانتفاع بقانون الظلمة، فيطفئ المصابيح، ويضع مصباحاً صغيراً لا يتحمل أن يأخذ الطاقة مباشرة من الكهرباء من مصدرها القوي؛ لذلك يأتي الإنسان بمحول للطاقة فيستقبل المحول طاقة الكهرباء العالية من مصدرها ويخفضها بصورة تناسب المصباح الصغير. وهكذا نحتفظ بضوء ضعيف في الليل لنستفيد من قانون الظلمة لننام. وقد امتن الحق علينا أنه خلق النور وخلق الظلام، وكل منهما له مهمة. فإذا كان خَلْقُ النور والضوء والكهرباء قد أتاح للإنسان بناء حضارة، فالظلام أتاح للإنسان أن يرتاح وتسكن نفسه فيقوم ممتلئاً بالنشاط والحيوية. وإذا كنا نحتفظ في الليل ببصيص نور لا يزعج، فنحن نفعل ذلك حتى لا نحطم الأشياء أو نصطدم بها إذا ما قمنا في الليل لقضاء حاجة. وكذلك الإنسان. . إنه لا يستطيع بضعفه أن يأخذ عن الله مباشرة. . ومن رحمة الحق بالخلق أن جعل بينه وبين الخلق وسائط، بتلقي المَلَك عن الله، والملك وسيط، والمَلك ينقل إلى الرسول المصطفى، والرسول المصطفى وسيط، ومن تغفيل أهل الكفر أنهم طالبوا بإنزال ملك رسول. ويرد الله عليهم في موضع آخر من القرآن الكريم: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 94 - 95] . لقد طالبوا - جهلاً - أن ينزل إليهم ملك رسول بالهدى، ويأمر الحق رسوله أن يرد عليهم بأنه لو كان بين البشر ملائكة. . أي لو كان هناك ملائكة يمشون في الأرض لنزل إليهم الملك كرسول. ولما كان هذا غير حاصل، فقد أرسل الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3515 رسولاً من البشر؛ لأن المفروض أن يُبلغ الرسول وأن يكون كذلك أسوة سلوكية للمنهج، بأن يطبق المنهج على نفسه، فلو نزل ملك كرسول وطبق المنهج على نفسه لقال له البشر: إنك مَلَك تقدر على ما لا نقدر عليه وأنت لا تصلح أسوة لنا؛ لذلك كان لا بد أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم أنفسهم حتى يكون أسوة لهم وقدوة. إن هذا هو ما يبطل الادعاء بألوهية عيسى عليه السلام أو بنوته لله؛ لأن عيسى عليه السلام طالبهم أن يفعلوا مثله. وأراد الحق ببشرية الرسل أن يؤكد القدوة والأسوة في الرسل، ولذلك قال: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} ؛ لأن البشر لا يستطيعون استقبال إشعاعات وإشراقات المَلَك لأنهم غير معدِّين لاستقبال تلك الإشعاعات والإشراقات. ولذلك يقول الحق: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3516 إذن فلو أراد الله أن يبعث رسولاً من الملائكة لجعله على هيئة البشر لعدم استطاعتهم معاينة المَلَك على صورته الأصلية، وقد يهلكون عند رؤيته {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} أي ولخلطنا عليهم بتمثيله رجلا ما يخلطون هم على أنفسهم فإنهم سيقولون - حينئذ - إنما أنت بشر ولست بملك، وقد أنزل الله المَلَك على صورة البشر كما حدث مع خليل الله إبراهيم عليه السلام يقول تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 51 - 53] . لقد أنزل الله الضيف من الملائكة على إبراهيم عليه السلام فخاف منهم بعد أن قرَّب العجل ورآهم لا يأكلون إلى أن قالوا له ما يطمئنه من خبر ببشارة من الله، بأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3516 يولد له الغلام إسحاق من زوجته «سارة» بعد أن رزقه الله من قبل إسماعيل من «هاجر» . وكذلك أنزل الحق إلى مريم البتول مَلَكاً وتمثل لها بشراً سوياً لينبئها بحملها بعيسى عليه السلام. إذن فالمَلَك يتجسد في صورة بشرية عندما يرسله الله في مهمة إلى البشر؛ لأن الملك لا يأتي إلى البشر على حقيقته. ومن امتنان الله على رسوله أنه أعطى له الفرصة ليرى جبريل على حقيقته مرة عند سدرة المنتهى، ومرة حين تجسد له على هيئة دحية الكلبي ومرة في صفة رجل مسافر جاء يسأل الرسول عن الإسلام والإيمان، وحدثنا عنه عبد الله بن عمر قائلاً: «حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأسند ركبتيه إلى ركبيته ووضع كفيه على فخذيه. قال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق فلبثت ملياً ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله وأعلم. قال: إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3517 إذن، فنحن ببشريتنا لا نستطيع رؤية الملَك إلا بعد أن يجسده الله بشراً. ولذلك قال الحق: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} إذن فالَّلبس موجود بدليل أن الله أرسل الملائكة في صوة بشر لإبراهيم عليه السلام ومريم ابنة عمران ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو جالس بين قومه. ويسلي الحق سبحانه وتعالى رسوله من بعد ذلك قائلاً: {وَلَقَدِ استهزىء ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3518 هنا يخبر الله رسوله أن أهل الكفر كثيراً ما سخروا من قبلُ بالرسل السابقين وأخزاهم الله بالعذاب الذي أنذر به أهل التكذيب للرسل، فالذين يسخرون بخير السماء يحيطهم سبحانه بالعذاب جزاء لما كانوا يستهزئون. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3518 نعلم أن الحق لم يقل أبداً: سيروا على الأرض؛ لأن الأرض ظرف يسير فيه الإنسان، والإنسان مظروف في الأرض. وقد حدث هذا البلاغ من الله قبل أن نصل بالعلم إلى معرفة أن الأرض كروية ومعلقة في الهواء، والهواء يحيط بها، وأن الهواء هو أقوات الإنسان بما فيه من أوكسجين وبما يغذي النبات من ثاني أوكسيد الكربون، ونعلم أن الإنسان يصبر على الطعام لأسابيع ويصبر على الماء لأيام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3518 ولا يصبر على انقطاع الهواء عنه للحظات. ولذلك لا يملَّك الله الهواء لأحد أبدا، وهكذا عرفنا أن الهواء من جنس الأرض. وعندما يسير الإنسان فالهواء يحيطه، وعلى ذلك فهو يسير في الأرض. وهذا من الإعجاز الأدائي في القرآن ونقرأ قوله الحق: {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} [النحل: 36] . وهنا في سورة الأنعام يقول الحق سبحانه: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} [الأنعام: 11] . ما الفرق بين الاثنتين؟ خصوصاً ونحن نعلم أن الفاء من حروف العطف وكذلك «ثم» هي أيضاً من حروف العطف وكلتاهما حرف يُفيد الترتيب، ولكن الفارق أن الفاء تعني الترتيب مع التعقيب أي من غير تراخٍ ومضى مدة. . مثل قولنا: جاء زيد فعمرو، أي أن عَمْراً جاء من فور مجيء زيدٍ من غير مهلة. ولكن «ثم» تعني طول المسافة الزمنية الفاصلة بين المعطوف والمعطوف عليه، فعندما يقول الحق: {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} [النحل: 36] . فكأن النظر والتدبر هو المراد من السير وبذلك يكون سيرَ الاعتبار. ويقول الحق: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} يعني أن الإنسان قد يسير في الأرض للتجارة أو الزراعة أو لأي عمل، وعليه أن يتفكر في أثناء ذلك وأن يتأمل إذن فهناك سير للاعتبار وسير للمصلحة. والسير للاعتبار يعني أن يأخذ الإنسان العبرة مباشرة، أما السير للمصلحة. والسير للاعتبار يعني أن يأخذ الإنسان العبرة مباشرة، اما السير للمصلحة فهو أن يأخذ الإنسان العبرة ضمن المصلحة. وكان سير قريش بقوافلها إلى الشام واليمن يجعلها قادرة على أن ترى آثار المكذبين سواء من أهل ثمود أو قوم عاد أو غيرهم. وكان عليهم أن يأخذوا العبرة في أثناء سعيهم لتجارتهم. ويقول الحق لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من بعد ذلك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3519 {قُل لِّمَن مَّا فِي ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3520 كأن الحق يعلَّم رسوله السؤال والجواب؛ حتى يتعلم الناس من خلال ذلك أن كُلَّ المُلْك لله؛ لأنهم مهما بحثوا عن مالك الكون فلن يجدوا إلا الله، حتى المكذبين منهم قال الحق عنهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] . وعلى الرغم من شركهم بالله لا يقدرون إلا على الإقرار بأن الله هو خالق كل شيء؛ لأن الإنسان قد يغتر بما لذاته من اختيار، لكن عندما ينظر لما يقع على ذاته من اضطرار فهو يعترف فوراً على الإيمان. وقد يختار الإنسان أشياء لكنَّ هناك أحداثاً تقع عليه لا اختيار له فيها وذلك لينبه الحق خلقه أنه فعال لما يريد وأنه يحكم هذا الكون وأن الاختيار ما كان إلاّ ليختبر الإنسان نفسه باتباع تكاليف الله. والأحداث ثلاثة: حدث يقع عليك، وحدث يقع فيك، وحدث يقع منك. وما يقع عليك ليس لك فيه اختيار، وما يقع فيك لا اختيار لك فيه، ولا يبقى لك إلا ثلث الأحداث وهو ما يقع منك. وأنت محكوم في ذلك بقوسين لا اختيار لك فيهما: قوس الميلاد وقوس الموت، إذن فالأمر كله لله. ويطمئن الحق خلقه قائلاً: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} وهو قول ليُطَمِئَن به الحقُّ عباده حتى لا يظن الناس أن الله يعاقبهم دون حساب؛ لأنه الحليم ذو الفضل وهو القائل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3520 {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] . ويعفو سبحانه عن الكثير، وباب رحمته وفضله مفتوح ويفسح التوبة لكل عاصٍ. ومن فضل الله أنه جعل بعضاً من الكفار يقفون في بداية الإسلام ضد المسلمين ثم يكونون من بعد ذلك سيوفاً للإسلام، وسبحانه الرحيم الذي يجمعنا للحساب يوم القيامة الذي لا ريب فيه ولا شك، ونسير جميعاً مدفوعين إلى ذلك اليوم ويأتي الكافر على رغم أنفه، والمؤمن يتيقن رحمة الله وفضله ويفرح بلقاء ربه. والكافر - والعياذ بالله - قد خسر نفسه بعمله مصداقا لقوله الحق: {الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وخسران النفس مترتب على عدم الإيمان؛ لأننا لو نظرنا إلى الغايات وإلى الوسائل لوجدنا أن الوسيلة تأتي قبل الغاية، ولكن في التحضير العملي الغاية تتضح قبل الوسيلة؛ فالذي يستذكر إنما يستحضر في ذهنه الغاية وهي النجاح، فيبذل الجهد لينجح؛ لأننا نعلم أن كل شرط هو واقع بين أمرين، بين جواب دافع، وجواب واقع؛ فالنجاح دافع للمذاكرة، والمذاكرة تجعل النجاح واقعاً، ويقول ابن الرومي: ألا مَنْ يُرِيني غايتي قَبْلَ مَذْهبي ... ومِنْ أين والغايات بعد المذاهبِ؟ وهذا القول منه غير سديد؛ لأن الإنسان عليه أن يتنبه إلى الغاية وأن يتعرف على الوسيلة التي توصله إلى الغاية، فإذا كانت الغاية أن يذهب الإنسان إلى الله، والوسيلة هي المنهج، فلماذا الحيرة إذن؟ وهكذا نعلم أن الذين لم يؤمنوا قد خسروا أنفسهم لأنهم لم يميزوا الغاية الدافعة وهي الذهاب إلى الله والنزول على حكمه، عن الغاية الواقعة وهي الوسيلة، وسبحانه قد يسرها لعباده إذ قد أتى لهم بالمنهج الذي يسيرون عليه. ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3521 إن من عظمة الموجود الأعلى الواجب الوجود أنه يتكلم عن نفسه بضمير الغيب وهو سبحانه القائل في أول بعض الآيات: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} . و «قل» هي أمر، فكأن الحق حين يقول: «هو» فلا يمكن أن تطلق «هو» إلا على الله ولا تنصرف إلا الله. {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} وكلمة «سكن» هي من مادة السين والكاف والنون، وتأتي لمعان متعددة؛ فتكون من السكنى أي الاستيطان، وتكون من السكون الذي هو ضد الحركة. والمثال على الاستيطان هو قول الله لآدم: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35] . إن الحق سبحانه يقول هنا: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} فكأن الليل والنهار ظرف، وكل الوجود مظروف فيه. وظرفية الليل والنهار تأتي على ظرفية المكان وهو الأرض. وكل مكان في الأرض يأتي عليه الليل والنهار. فإن أردنا الاستيطان في السكن فهي موجودة، وإن أردناها من السكون - وهو ضد الحركة - فهي موجودة؛ ذلك أن كل متحرك يؤول إلى ساكن، والإنسان سيد الحركة ثم يموت أو يسكن في الأرض. وهكذا نرى أن الجنس الأعم الذي يشملهما معًا هو {مَا سَكَنَ} ولذلك قال الحق: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار وَهُوَ السميع العليم} [الأنعام: 13] . وحينما يقول: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} ، فهو يتكلم عن الزمان، واحتوائية الزمان للزمانيات، أي للأشياء التي تحدث في هذا الزمان. والإنسان كما نعلم حدث. وكل ما يطرأ عنه حدث، وكل ما في الكون حدث، وقد أحدثه الحق الواجب الوجود. وما دام الحدث قد وُجد فلا بد له من زمان ولا بد له من مكان. أما مكان الحدث فهو السماء والأرض، وما بينهما. وأما زمان الحدث فهو الليل والنهار. إذن فالحق قد تكلم عن خلق الزمان من بعد أن أعلن لنا أنه خالق المكان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3522 {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ} [الأنعام: 12] . وهكذا نعلم أن الزمان والمكان قد وُجِدا عندما شاء الله أن يحدث هذا الكون. ولا تقل أبداً أيها الإنسان: أين كان الله قبل أن يخلق الكون؟ لأن «أين» هي بحث عن مكان، و «متى» هي بحث عن زمان. و «أين» و «متى» إنما وجدتا بعد وجود الحدث في الكون. والكون هو ظرف قار أي شيء ثابت. والزمان هو ظرف غير قار، لأنه يكون مرة ماضياً، ومرة يكون حاضراً أو مستقبلاً. والحق سبحانه عندما قال: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} أي أن له الظرفين: القار وغير القار. . أي له - سبحانه - الساكن وكذلك له ما يتحرك في الكون؛ لأن كل متحرك يؤول أمره إلى سكون. أو أن قوله الحق: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} أي ما حل في الليل والنهار، أي له سبحانه ما حل في الليل والنهار متحركاً كان أو ساكناً. والحق يذيل هذه الآية بقوله: {وَهُوَ السميع العليم} فالسمع متعلق بالمسموع أي الذي له حركة، والعلم متعلق بالمسموع والمنظور والمشموم وكل شيء من آلات الإدراك؛ لذا جاء قوله - سبحانه -: {وَهُوَ السميع العليم} ليشمل المتحرك والساكن، فسبحانه لا يعزب ولا يغيب عنه شيء. ونعلم أنه إذا أخبر الحق عن نفسه بصفة من صفات يوجد مثلها في البشر فنحن نأخذها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فأنت أيها الإنسان لك سمع فيقال عنك: سميع. ولك علم فيقال: عليم. ولك بصر فيقال: مبصر. ولك قدرة فيقال: قادر. وقد تكون ذا مال وفير فيقال: غني. ولك وجود فيقال: موجود. وأنت حي فيقال حي. لكن أهذه الصفات التي فيك هي عين الصفات التي في الله؟ لا؛ لأن صفات الله إنما نأخذها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ونحن نشاهد ذلك في أنفسنا؛ فالإنسان منا له حال حياة، وحال موت. وفي حال الحياة له حالتان: حالة يقظة، وحالة نوم. وفي حالة اليقظة نحن نرى بقانون البصر، ولهذا البصر حدود؛ فهو محكوم بقانون الضوء، وكذلك السمع محكوم بقانون الصوت والموجة والذبذبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3523 ومع ذلك فالإنسان ينام ويغمض عينيه ويرى رؤيا فيها ألوان حمراء وخضراء وغيرها، فبأي شيء أدركت الألوان وعينك مغمضة؟ إذن فما دام في البشر رؤيا بدون عين فلا تقل عن رؤيا الله لنا إن له عيوناً مثل عيوننا، بل هو يرى في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . إنه سبحانه وتعالى قيوم يحكم عبادَه في الزمان والمكان في حالة يقظتهم وفي حالة نومهم. ومثال من حياتنا اليومية، نحن نجد الرجل وزوجه ينامان في فراش واحد، وقد يرى الرجل في المنام أنه يواجه أعداءه، وترى الزوجة نفسها محاطة بسعادة الأبناء والأحفاد، ويستقيظ كل منهما ليحكي ما رأى في أكثر من ساعة، على الرغم من أن مخ الإنسان لا يعمل في أثناء النوم إلا لسبع ثوان. إذن، ففي النوم تُلغى المعية وكذلك الزمن، والمكان. فإذا كانت تلك هي القوانين التي تحكم الإنسان، فعلينا أن نعرف أن خالق كل القوانين وهو الحق لا يمكن إدراك صفاته، وعلينا أن نأخذها في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ويقول الحق من بعد ذلك: {قُلْ أَغَيْرَ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3524 والهمزة هنا في «أغير» يسمونها همزة الإنكار كقول قائل: أتسب أباك؟ إنها ليست استفهاماً بقدر ما هي توبيخ ولوم. وكذلك: {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} . أي أن الحق يأمر رسوله أن يستنكر اتخاذ ولي غير الله. إن اتخاذ الله كولي هو أمر ضروري؛ لأن الإنسان تطرأ عليه أحداث تؤكد له أنه ضعيف وله أغيار، وساعة ضعف الإنسان لا بد أن يأوي إلى من هو أشد منه قوة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3524 ولا يتغير. إن الولي - وهو الله - قوته لا يمكن أن تصير ضعفاً، وغناه لا يمكن أن ينقلب فقراً، وعلمه لا يمكن أن يئول إلى جهل. إنه مُغيِّر ولا يتغير. ولذلك فمن نعمة الله على خلقه أنه جعل من نفسه وليّاً لهم، فهو صاحب الأغيار. والحق سبحانه وتعالى يعلِّم خلقه أن يكونوا أهل حكمة؛ يضعون الأمور في نصابها ويتوكلون عليه، فهو الحي الذي لا يموت. ونلحظ أن الحق هنا يأمر رسوله بالبلاغ عنه. وتتجلى هنا دقة الأداء القرآني فيأتي البلاغ كما نزل من الحق حرفياً. مثال ذلك قول الحق سبحانه: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . ويبلغنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنص القرآني كما نزل عليه، مبتدئاً بكلمة «قل» ويبلغه الرسول لنا بأمانة البلاغ عن ربه. وهو هنا يقول: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} . وهو الإله الذي جاءت كمالاته في الآيات السابقة؛ الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور وله ما سكن في الليل والنهار، هذا الإله الحق هو الجدير بالعبادة. ويريد الحق لرسوله أن يستخرج من الناس الإجابة، لا أن يقول هو: لا أتخذ ولياً غير الله، وسبحانه يأمر رسوله أن يسألهم: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} . وليكن السؤال مطروحاً منك يا رسول الله تبليغاً عن الله، وتعطى لهم الحرية في الإجابة، وسيكون الجواب كما تريد. وعندما يسمع الإنسان مثل هذا السؤال لا بد أن يسأل نفسه ويدير عقله كي يجد جواباً. ولن يجد الإنسان جواباً سوى أن يقول: ليس لي وَليٌّ غير الله؛ فالولي هو القريب الذي ينصر الإنسان في ضعفه، وإن استصرخه جاء لينقذه. ولا يستصرخ الإنسان أحداً إلا إذا انتابه حادث جلل، فإذا ما جاء القوي ليغيث صاحبه الصرخة فهو يطمئن إلى أن من جاءه سيعينه ويخلصه. واتخاذ الولي أمر فطري في الكون، والأمر المنكر أن يجعل الإنسان لنفسه ولياً غير الله. ونحن - المؤمنين - يتخذ بعضنا بعضاً أولياء في إطار الولاية لله مصداقاً لقوله الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3525 {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] . ويتبادل المؤمنون والمؤمنات المحبة والنصرة طبقاً للتعاقد الإيماني بينهم وبين الحق سبحانه وتعالى، ويأمر بعضهم بعضاً بأوامر المنهج، وينهى بعضهم بعضاً عن المحظورات التي حرمها الله ويتواصلون مع الحق بإقامة الصلاة. ويؤدون حق الله في مالهم بالزكاة، ويطيعون الله ويمتثلون أوامر رسوله، وهم بذلك ينالون وعد الله الحق بالرحمة، وهو سبحانه القادر على رعايتهم، وهو حكيم في صيانتهم، عزيز لا يغلبه أحد. إذن فأنت تطلب الولي لحظة الضعف، ولحظة الشدة، ولا يوجد إنسان استوت له كل زوايا الحياة فيصير قوياً لا يضعف أبداً، أو يصير غنياً لا يفتقر أبداً. ونعلم أن الإنسان من الأغيار، فلم نر قوياً ثبتت له قوته، ولا غنياً ثبت له ثراؤه؛ فالإنسان ابن الأغيار، وتأتي له حالات فوق قدرته؛ لذلك فهو يسأل عمن يعينه ويساعده. والمؤمن يحب أيضاً أن يكون قوياً ليساعد غيره؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد وزع المواهب على خلقه في الكون ليضمن بقاء الولاية واستمراريتها، فأنت في احتياج إلى عمل إنسان آخر؛ لأنك ضعيف في ناحية وغيرك قوي فيها، الطبيب يحتاج إلى المهندس، والمهندس يحتاج إلى الطبيب، والطبيب والمهندس يحتاجان إلى الفلاح، والفلاح يحتاج إلى عمل المهندس والطبيب، والطبيب والمهندس والفلاح يحتاجون إلى عمل المحامي. هكذا وزع الله المواهب في الكون، ولم يجعل من إنسان مجمعاً لكل المواهب. وذلك حتى يتساند المجتمع لا بالتفضيل والتكرم بل بتساند الحاجة. فكل إنسان هو سيد في زاوية ما من زوايا الحياة، وبقية الزوايا يسودها غيره من البشر، ولذلك يقول الحق سبحانه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3526 لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] . هذا هو الإعلان من الله سبحانه وتعالى بأنه وزع المواهب بين البشر ليتسادنوا ويُسخر بعضهم بعضاً في قضاء حوائج بعضهم بعضاً لتنتظم أمور الحياة. وفي هذا التقسيم رحمة من الحق بالخلق. فلو تساوى الناس في الذكاء، وصاروا كلهم من العباقرة، فمن هو الذي سيتولى أمور تنظيم الشوارع؟ ومن الذي سيقوم بأعمال وصيانة المباني ورعاية وإطعام الحيوان والقيام على أمره ونحو ذلك من الأمور التي لا تنتظم الحياة إلا بها؟ وكلنا يرى الرجل الذي ينزح آبار المجاري ويخرج في الصباح قائلاً: يا فتاح يا عليم، يا رزاق كريم. ويطلب بئراً جديداً من المجاري لينزحه حتى يكسب قوت نفسه وعياله. وكل منا مضطر ومحتاج إلى غيره، وهذا هو معنى: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32] . إذن فاتخاذ الولي هو أمر فطري. والإيمان بالله يعطينا ذكاء اختيار الولي. فالإنسان المؤمن عليه أن يختار الولي الذي يجده عندما يحتاج إليه؛ لذلك فعليه أن يختار ولاية الله، ولا يختار ولاية الأغيار. فيسخر الله للمؤمن حتى عدوه ليخدمه. لذلك يبلغنا الحق على لسان رسوله: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} والذين ينكرون علينا أن نتخذ الله ولياً ويريدون أن نتخذ غيره يرون في أنفسهم المثل. . فقد يخيب رجاؤهم، فالإنسان منهم قد يتخذ إنساناً مثله ولياً، وساعة يحتاج إليه يجده مريضاً أو غائباً أو تغير قلبه عليه، لكن المؤمن يختار الله وليه لأنه الذي لا يغيب ولا يتغير، ولا يضعف. ولا ينكر القرآن أن يتخذ الإنسان له ولياً من البشر، ولكن الحق يدلنا على أنه الولي الحق، وأن المؤمن عليه أن يتخذ إخوته المؤمنين أولياء له؛ لأنها ولاية من الله وفى الله. وأنت أيها المسلم حين تختار الحق سبحانه وتعالى ولياً لك فهو الذي يُحْضر لك كل زوايا المواهب ويعدُّها ويهيئها لتكون في خدمتك؛ لأنه سبحانه وتعالى: {فَاطِرِ السماوات والأرض وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} وقد خلق السموات والأرض على غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3527 مثال. وسبحانه قد أبدع هذا الكون دون نموذج مسبق. وحين أراد سيدنا عيسى عليه السلام أن يثبت لقومه معجزته جاء بالطين وجعله كهيئة الطير، إذن فهناك مثال سبقه ووجده واتبعه. وعيسى إنسان من الخلق، أما خالق كل الخلق فقد خلق السموات والأرض على غير مثال. وأنت أيها الإنسان قد لا تلتفت إلى مسألة خلق السموات والأرض لأنك تراهما كل لحظة بصورة رتيبة، وقد تظن أنها مسألة سهلة، ولكن الحق سبحانه يقول: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] . وهو سبحانه يقسم أن خلق السموات والأرض مسألة أكبر وأدق من خلق الناس لكن أكثر الناس لا تعلم ذلك. فسبحانه وتعالى يقول: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] . وفي قوله {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} إشارة إلى خلق هذا الكون المرئي وغير المرئي؛ لأن هناك الكثير من الأجرام والمجموعات الشمسية، وما وراء ذلك من اتساع ذلك الكون ما لا يدركه العقل ولا يمكنه تحديده، وهذه السعة المذهلة هي من قدرة الله سبحانه وتعالى. {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} . ونجد الحق يستخدم كلمة «فاطر» مرة في شيء مُصْلح، وأخرى في شيء مفسد. والمثال للشيء المصلح هو ما يقوله الحق هنا: {فَاطِرِ السماوات والأرض} أي أنه خالق السموات والأرض على غير مثال سابق وباقتدار محكم. ويقول الحق سبحانه في موضع آخر: {إِذَا السمآء انفطرت} [الانفطار: 1] . أي أن الحق ينبه هنا إلى يوم الهول والأعظم الذي تنشق فيه السماء وتتساقط فيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3528 الكواكب فلا يؤدي أي شيء منها مهمته؛ لأن الله - سبحانه - سلبها ما كانت به صالحة. ويقول أيضاً: {الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3] . فالحق لا يعجز عن شيء، وهو الخالق لسبه سموات بإتقان بعضها فوق بعض، فلا يرى الناظر أي خلل في هذا الخلق، وليُعد الإنسان النظر إلى السماء فلن يجد أي خلل من شقوق أو فروق. و «فطور» هنا معناها شقوق. إذن فالحق - بتمام قدرته - يعطي الشيء من الصفات ما يجعله صالحاً لأداء ما خُلِق له فلا يظنن ظان أنه خرج عن قدرة خالقه - سبحانه - وخلق السموات والأرض بتمام إبداع وإحكام، وهو القادر على أن يفطرهما ويجعلهما غير صالحتين في أي وقت شاء، ومثلهما الشمس تُكَوَّر، والنجوم تُطْمَس، والجبال تنسف. وقال عالم من العلماء: ما فهمت كلمة «فاطر» إلا حين جاء أعرابي، وقال فلان ينازعني في بئر أنا فطرته. أي أن الأعرابي هو الذي بدأ حفر البئر. إذن فاطر السموات والأرض. . أي الذي خلقهما على غير مثال. وسبحانه وتعالى القائل: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30] . وهذا القول الحكيم لم يصل إلى فهمه العميق من سبقونا، لكن إنسان هذا العصر الذي نعيشه فهمها بعد أن توصل العلماء إلى أن السموات والأرض كانتا كتلة واحدة وفصلَهُما الحق بإرادته. وجعل من الماء حياة لكل كائن حي. إذن هو سبحانه قادر على كل شيء، ولا يخرج شيء عن نطاق قدرته. وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3529 سبحانه قبل أن يمتن علينا الحياة فهو يحذرنا أن يأخذنا الغرور بهذه الحياة، ولذلك قال: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العزيز الغفور} [الملك: 1 - 2] . وكأنه ينبه الإنسان إلى أن يستقبل الحياة، ليعرف أنه سبحانه أوجد ناقض الحياة وهو الموت، فإياك أن تأخذ الحياة على أنها تعطيك قوة الحركة والإدراك والإرادة برتابة وأبدية؛ لأن هناك ناقض الحياة وهو الموت. وها هو ذا سبحانه يقول في موضع آخر من القرآن الكريم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 58 - 61] . والإنسان لا يرى الحيوانات المنوية المقذوفة منه في رحم زوجه، ولا أحد يقدر على ذلك ويرعاه حتى يصير جنيناً ثم بشراً، ولكن الحق هو المقدر والخالق، إنّه القادر الذي أعطانا الحياو وقدّر علينا الموت ولا غالب له، إنه يبدل صورنا حين يريد، ويخلق غيرنا وينشئنا في صور لا نعرفها، وهو الواهب للحياة، وهو الذي ينزعها بالموت. ويقول لنا: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 63 - 64] . هنا ينبهنا جل وعلا إلى أن الزرع الذي نأكله، والثمار التي نجنيها من الأرض ليس لنا فيها إلا إلقاء البذور، وهو سبحانه الذي أودع في البذرة عجائب مختزنة، ففي البذرة ما يقتيها إلى أن يوجد لها جذير يمتص غذاءها من الأرض، فَتَنمو لها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3530 ساق، ثم تقوى الجذور، وتشتد الساق. ولا عمل للإنسان إلا إلقاء البذرة وحرث الأرض. ومع ذلك احترم الحق عمل الإنسان فقال: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] . وعن الماء يقول الحق: {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 68 - 70] . هذا الماء العذب الذي نشربه إنما أنزله الله من السحاب الممطر، وعملية الإمطار هذه غاية في التعقيد. والماء الساري في الأنهار إنما جاء من المطر الذي تم إنزاله من السماء. فقد أرسل الحق أشعة الشمس لتبخر الماء من البحار، وتتجمع في سحب ثم يجري الله عليها أمره من مرور تيارات هواء باردة فتسقط مطراً. ونحن عندما نقطّر كوب ماء في معمل، نأتي بموقد وإناء ووقود، ونضع الماء المراد تقطيره فيتبخر، ثم نكثف قطرات البخار بواسطة تيار من الهواء البارد. ومثل هذه العملية تكلفنا الكثير من العمل الذهني والمادي لبناء مثل هذا الجهاز حتى نقطر كوباً من الماء، فما بالنا بالمطر الذي ينزل مدراراً وسيولاً. إننا نجد ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من ماء، إنه سبحانه - بسطه على رقعة واسعة، حتى يسهل البخر. وإذا ما نثرنا كوب ماء على سطح متسع في أبرد مكان فلسوف يتبخر. وهذا الانتشار المسطح للمياه هو الذي يسهل عملية البخر. ويصعد البخار من مياه المحيطات والبحر إلى أعالي الجو ثم يتكثف في صورة قطرات صغيرة من الماء تتساقط كمطر يتفاوت من منطقة إلى أخرى. وسبحانه قد أعدّ لكل أمر عدته. وهو أيضاً القادر على أن يذهب صلاح هذا الماء. ويقول لنا الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3531 {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 71 - 73] . ويذكرنا هنا سبحانه بأنه الذي خلق النار التي نشعلها، وقد جاء بالمصدر الأول للوقود، وهي الأخشاب التي كانت أشجاراً خضراء وبعد ذلك جفت وصارت أخشاباً نوقدها ونشعل فيها النار. وفي كل ذلك تتجلّى لنا قدرة الحق سبحانه وتعالى، فنسبح باسمه العظيم: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الواقعة: 74] . وننزهه سبحانه وتعالى عن أن يكون له شريك في أمور الخلق والكون. إذن فعندما يقول الحق سبحانه مبلغاً رسوله: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] . هذا السؤال يجبرنا على أن ندير أمر اختيار الولي في رءوسنا وأن نُعْمِلَ أفكارنا، وأن نعرف أن اتخاذ الولي أمر وارد على النفس البشرية، ولكن من الذي يستحق أن نتخذه ولياً؟ ونجد في تربية الحق لنا ما يعيننا على استنباط الفكرة السليمة والرأي الرشيد حين يقول لنا: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58] . ونعلم أن الإنسان لو اتخذ ولياً من البشر فهذا عرضة للموت، فتحس أيها الإنسان أنك وحيد في هذا الكون، ولكنك عندما تتوكل على الله فهو حيّ لا يموت أبداً، وهو سبحانه: {فَاطِرِ السماوات والأرض وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} وهو الذي خلق السموات والأرض على غير مثال، وهو الذي يطعمنا من مطمور كنوز الأرض التي أرادها قوتاً لنا. ولماذا جاء الحق هنا بمسألة الطعام؟ إن الطعام لون من الرزق، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3532 والرزق - كما نعلم - رزق ينتفع به مباشرة؛ ورزق يأتي لنا بما ننتفع به مباشرة. فلو إن إنساناً في صحراء ومعه جبل من الذهب الخالص ولم يجد كوب من ماء ولا رغيف خبز، فجبل الذهب لا يساوي شيئاً. إن جبل الذهب رزق ولكن لا ينتفع به مباشرة. والرزق الذي ننتفع به مباشرة هو الطعام والشراب والكسوة. ونحن نحتاج إلى الطعام والشراب كل يوم، ونحتاج إلى ملابس جديدة مرة كل ستة أشهر في المتوسط. إذن فالرزق المباشر هو المقوّم الأساسي للحياة. والولي الذي ينصر لا بد أن تتوافر فيه القدرة على الإطعام الذي يمدنا بالقدرة التي هي أساس الحياة إنها طاقة استمرار الإنسان على الأرض. فالأم تطعم طفلها وهي تَطْعَم أيضاً بما يأتيها زوجها من طعام. والحق سبحانه وتعالى وحده هو الذي يُطعم كل الخلق ولا يُطعمه أحد. . وحينما نسلسل كل عطاء في الدنيا نجده يئول إلى الله تعالى. إذن فلا تجعل وليّك في الوسائط، بل اجعله في الغايات؛ لأن الوسائط كلها راجعة في الحقيقة إلى الله، ويأتي الأمر من الحق لرسوله: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} . وهذا الأمر يجيء من الآمر الأعلى وهو الله. فالرسول لم يقل: إن هذا الأمر منه؛ لأنه بشر مثلنا، وسبحانه أبلغ رسولنا أن يكون هو أول من أسلم، وأن ينال شرف الالتزام بمبادئ الإسلام، والمثال على ذلك أن كل قائد مسلم هو القدوة لغيره، فها هو ذا طارق بن زياد الذي فتح الأندلس وهي مُلْك عريض، ونزل من السفن وقال لجنوده: أنا لم آمركم أمراً عنه بنجوةٍ - أي أنا بعيد عنه - بل أنا معكم، واعلموا أني عندما يلتقي الجمعان حامل بنفسي على طاغية القوم «لزريق» فقاتِلُهُ إن شاء الله. إنه لم يأمر بأمر لم يطبقه على نفسه، بل طبقه على نفسه أولاً، وآفة الأوامر أن كل إنسان يأمر أمراً ولا يطبقه على نفسه. ومن قبل ذلك كان سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قد حكم نفسه أولاً فحكم الدنيا، لقد جمع أقاربه أولاً وقال لهم: إني سأشرع للمسلمين، والذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3533 نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء فيه لأجعلنه نكالاً للمسلمين. لقد أراد عمر - رضوان الله عليه - أن يَحْكم أقاربه أولاً ضارباً المثل لولي أي أمر ليحكم أقاربه أولاً، وأن يحذرهم أن يستغلوا اسمه، ليستقيم الأمر بين المسلمين؛ لأن الآفة أننا نجد الكثير من الناس تتكلم في الإسلام، ويريد كل إنسان من غيره أن يكونوا مسلمين بينما هو لا يطبق على نفسه مبادئ الإسلام. والحق سبحانه وتعالى أنزل لرسوله الأمر: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} . ومعنى «أسلم» أي ألقى زمام حياته إلى من يثق في حكمته وعدله وهو الحق سبحانه وتعالى. وعندما كنا صغاراً كنا نلقي زمام أمورنا لمن يتولى تربيتنا، ونرى الآباء والأمهات وهم يتعبون ويشقون، نطيع أوامرهم إلى أن نصل إلى المراهقة فتنمو فينا الذاتية، ونجد المراهق وهو يرفض مثلاً ارتداء البنطلون القصير ويرتدي البنطلون الطويل. ويختار ألوان ملابسه في ضوء الأزياء الحديثة السائدة. وبعد ذلك يبدأ الشاب في إدارة أموره بنفسه. وآفة حياتنا أننا نهمل تربية الأبناء وهم صغار، ثم نأتي لنقول: هيا لنربي الشباب متناسبين أن الشباب مرحلة تمتلئ بطاقة يمكن أن يستغلها المجتمع، والتربية السليمة زمانها الطفولة. {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} . وها هو ذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينقل عن رب العزة، ويخبرنا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أول المسلمين، وأنه تلقى الأمر بعدم الشرك بالله. فإياكم أيها المسلمون أن تتعاظموا عل مثل هذا الأمر؛ لأن المصطفى المختار هو أول من أمره الحق بذلك، وإياك أيها المسلم أن تجد غضاضة في أن تتلقى أمراً من خالقك؛ لأن الغضاضة قد تأتيك عندما يصدر إليك أمرٌ من مساوٍ لك، لكن التوجيه الصادر من الحق لا بد أن يلزمك وترتضيه نَفْسُك ويطمئن به قلبك، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجهد نفسه عندما يقابل حادثة ليس فيها حكم الله، ويأتي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحكم من عنده، فإن كان الحكم صحيحاً فإن الحق ينزل من القرآن ما يؤكده، وإن احتاج الحكم إلى تعديل، فإن الحق سبحانه ينزل التعديل اللازم للحكم، ويبلغنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتعديل الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3534 سبحانه وتعالى له ولا يجد غضاضة في ذلك، بل يبلغنا ببشاشة وصدق وأمانة أنَّه البلاغ عن الله. والحق سبحانه وتعالى قد مَنَّ على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما لم يعدل في الحكم احتراماً لاجتهاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول سبحانه: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} [التوبة: 43] . لقد أذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لبعض المنافقين بالتخلف عن القتال قبل أن يتبين أمرهم ليعلم الصادق منهم - في عذره - من الكاذب. وجاء العفو من الله لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اجتهد ببشريته وأبلغنا الرسول بما أنزله الله. ونحن في حياتنا اليومية - ولله المثل الأعلى - نفتح كراسة الابن فنجد أن فيها شطباً بالقلم الأحمر، فنسأل الابن: من الذي فعل ذلك؟ فيقول الابن: صوب لي المدرس الأول هذا الموضوع. هو لم يتحدث عن تصويب المدرس، ولكن عن تصويب من هو أعلى من المدرس. وهذا شرف للتلميذ. فما بالنا بالمصوِّب الأعلى سبحانه وتعالى. وها هو ذا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتلقى عن الله: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3535 إنه الرسول المصطفى والمجتبى والمعصوم يعلن أنه يخاف الله؛ لأن قدر الله لا يملكه أحد، ولا يغير قدر الله إلا الله سبحانه وتعالى. وقد علق الخوف على شرط هو عصيان الله. لكن ما دام لم يعص ربه فهو لا يخاف. ووجود «إن» يدل على تعليق على شرط ولا يتأتى ذلك من الرسول المعصوم لأنه لا يعصي الله. وقد أراد الحق أن يبين لنا أن المعصوم لا يتأتى منه عصيان الله. لكن هذا القول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3535 يأتي على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لنعلم أن هناك عذاباً عظيماً توعد به الله من يعصيه. وهو عذاب يلح على العاصي حتى يأتي إليه. ولهذا العذاب خاصية أن تكون بينه وبين العاصي جاذبية كجاذبية المغناطيس لغيره من المواد. ونجاة الإنسان من العذاب تحتاج إلى من يصرف عنه هذا اللون القاسي من العذاب، يقول الحق سبحانه عنه: {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3536 فكأن من لا يُصرف عنه هذا العذاب هو من ينجذب إلة قوة العذاب؛ لأن لنار جهنم شهيقاً يجذب ويسحب إليه الذين قُدِّرَ عليهم العذاب ويقول سبحانه: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المصير إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 6 - 7] . والذين يكفرون بالله لهم العذاب الذي يبدأ بسماع شهيق جهنم في أثناء فورانها. والشهيق كما تعلم هو قوة تجذب وتسحب الهواء إلى الأنف والصدر، فما بالنا بقوة شهيق جهنم وهي تسحب وتجذب الذين وقع عليهم الأمر بالعذاب؟ وهذه النار نفسها ترد على سؤال الحق لها عندما تسمع قوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] . إذن فقوة العذاب التي جعلها الله مهمة لجنهم هي التي تلح وتندفع لطلب المزيد من عقاب الكافرين. وسبحانه خلق كل شيء ليؤدي مهمة، والنار مهمتها أن تتمثل لأمر الحق تبارك وتعالى عندما يأمرها بمباشرة مهمتها؛ لذلك فهي تلح في طلب الذين سيتلقون العذاب، ولا تخرج النار أبداً عن أمر الله وقدره، فإن صَرَف الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3536 العذاب عن عبد من العباد فالنار تمتثل لذلك الأمر. {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} وسبحانه فعال لما يريد، وهو إن حاسبنا بالعدل فكل منا يسميه شيء من عذاب جهنم؛ ولكن رحمة الله هي التي تجعل النار لا تمس المؤمنين؛ لأنه سبحانه وتعالى يعفو عن كثير؛ ولأن للنار شهيقاً، فهي تستنشق المكتوب عليهم العذاب، ونعلم أن الشهيق يتم بسرعة أكبر من الزفير. والشهيق في الحياة يكون للهواء. والسبب ازدياد سرعة الشهيق عن الزفير أن في الشهيق مهمة استدامة الحياة الأولى وهي إمداد الجسم بالهواء، والإنسان - كما نعلم - لا يصبر على الهواء إلا لأقل مدة ممكنة. ومن رحمة الله أنه لم يملِّك الهواء لأحد. وهذا الشهيق الذي يعطي الحياة في الأرض يوجد - أيضاً - في الآخرة وهو منسوب إلى النار، إنها تشهق لتبتلع العصاة، وهي بذلك تؤدي مهمتها الموكولة لها. ونعرف أيضاً أن النار تؤدي مهمتها بغيظ طبقاً لما قاله الحق سبحانه: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} [الملك: 8] . فهل تؤدي النار مهمتها وهي غير راضية عنها؟ وهل تختلف النار عن كل كائنات الحق التي تؤدي مهمتها بسعادة وانسجام؟ إن النار تَمَيَّزُ من الغيظ لأن الكافر من هؤلاء لم يعرف قيمة الإيمان، وللنار مشاعر مثل بقية المخلوقات. وللكون كله مشاعر؛ فالكون - على سبيل المثال - قد فرح بميلاد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فالأرض والسماء والنجوم والشجر وكل الكون فرحت بمقدم الرسول الكريم؛ لأن كل هذه الكائنات مسخرة للإنسان وهي مسبحة لله وطائعة بطبيعتها، مثلما يأتي البشير ليهدي الإنسان إلى الصراط المستقيم ليجعله طائعاً، فهي تفرح بمقدم هذا البشير. ونعرف أن المكان يوجد به الإنسان، هذا المكان يفرح إن كان الإنسان فيه طائعاً، وهذا المكان نفسه يحزن إن كان الإنسان عاصياً، ويضج المكان - أي مكان - بوجود أي عاص فيه. ونرى ذلك واضحاً في قول الحق سبحانه وتعالى عن قوم فرعون: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3537 فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} [الدخان: 25 - 29] . والأرض التي كان بها قوم فرعون كان لها مشاعر، والجنات والأنهار والعيون وكل النعم التي ينعم بها الإنسان لها مشاعر وأحاسيس، وهي تغضب وتسخط وتضج بوجود الكافرين بنعمة الله فيها، ولذلك لا تبكي السماء والأرض على الخسف والتنكيل بهؤلاء العصاة الكافرين المشركين. بينما تبكي السماء والأرض إن فارقها مؤمن، ولنا في قول الإمام علي - كرم الله وجهه - إيضاح لهذا؛ فقد قال: إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في السماء، وموضع في الأرض. أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله الطيب، وأما موضعه في الأرض فهو موضع مُصلاَّه. وفي الحديث: «إذا مات أحدكم عُرض عليه مقعد بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» . إذن فموضع صعود عمل الإنسان في السماء يحزن؛ لأن هناك فقداناً لعمل صالح يمر فيه، وموضع صلاة الإنسان يفقد سجود إنسان خشوعاً لله، ولكل الكائنات المخلوقة لله مشاعر، وكل شيء في الكون يؤدي مهمته بقانون التسيير والتسخير لا قانون التخيير، الإنسان - فقط - هو الذي يحيا بقانون التخيير في بعض أحواله؛ لأنه قادر على الطاعة، وقادر على المعصية. ولذلك فعندما نرى السجود لله في القرآن فإننا نسمع قول الحق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [الحج: 18] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3538 إذن فكل الكائنات تسجد له ما عدا كل أفراد الإنسان؛ فكثير منه يسجد لله وكثير منه يحق عليه العذاب لأنه لا يطيع الحق. ومن يعص منهج الله غير مؤمن به يطرده الله من رحمته، ومن يهنه الله بذلك فليس له تكريم أبداً. وقد أجمع الكون على السجود لله، إلا الإنسان فمنه الصالح المنسجم بعمله مع خضوع الكون لله، ويفرح به الكون، ومنه يغضب منه الكون لأنه يعصي الله. إن اللغة العربية توضح لنا ذلك؛ فالعرب يقولون: فلان نَبَتْ به الأرض من النَّبْوَة وهي الجفوة والبعد والإعراض. . أي أن الأرض تكره شخصاً بعينه؛ لأنه لا انسجام للأرض مع كائن عاصٍ. ويقول الحق عن الذين يصرف عنهم العذاب من فرط رحمته بعباده لأنهم أطاعوه وكانت معاصيهم تغلبهم في بعض الأحيان فيتوبون عنها.: رَضِيَ اللَّهُ عَنْR - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - gt; {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الفوز المبين} [الأنعام: 16] . ونعلم أن هذا الفوز هو أرقى درجات الفوز؛ ذلك أن الفوز درجات؛ فالفوز في الدنيا كالنجاح أو المال أو غير ذلك هو فوز مُعرَّض لأن يضيع. وهو عُرضة لأن يترك الإنسان أو يتركه الإنسان، لكن فوز الآخرة هو الفوز الدائم الذي لا ينتهي. وهذا هو الفارق بين نعم الدنيا ونعم الآخرة، والإنسان يتنعم في الدنيا على قدر تصوره للنعيم، فنجد الريفي - مثلاً - يتصور النعيم أن تكون له مِصطبة أمام داره يجلس عليها، وعدد من القلل التي تمتلئ بالماء النقي، فإذا ما انتقل هذا الريفي إلى المدينة فهو يتصور النعيم في منزل متسع فيه أثاث فاخر وأدوات كهربائية من ثلاجة وغير ذلك، إذن فإمكانات النعيم مختلفة على حسب تصور الإنسان، أما نعيم الآخرة فهو نعيم لا يفوته الإنسان ولا يفوت الإنسان؛ لأنه نعيم من صنع الخالق الواسع والعطاء. . إن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولذلك فالفوز بنعيم الآخرة هو الفوز المبين. والحق سبحانه وتعالى هو المحيط بكل شيء عِلْمًا واقتداراً: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3539 {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3540 والضر هو ما يصيب الكائن الحي مما يخرجه عن استقامة حياته وحاله. فعندما يعيش الإنسان بغير شكوى أو مرض ويشعر بتمام العافية فهو يعرف أنه سليم الصحة؛ لأنه لا يشعر بألم في عيونه أو ضيق في تنفسه أو غير ذلك، لكن ساعة يؤلمه عضو من أعضاء جسمه فهو يضع يده عليه ويشكو ويفكر في الذهاب إلى الطبيب. إذن فاستقامة الصحة بالنسبة للإنسان هي رتابة عمل كل عضو فيه بصورة لا تلفته إلى شيء. ويلفت الحق أصحاب النعم عندما يرون إنساناً من حولهم وقد فقد نعمة ما، فساعة تسير في الشارع وترى إنساناً فقد ساقه فأنت تقول: «الحمد لله» لأنك سليم الساقين. كأنك لا تدرك نعمة الله في بعض منك إلا إن رأيتها مفقودة في سواك. وهكذا نعلم أن من الآلام والآفات منبهات للنعم. وأيضاً قد تصيب منغصات الحياة الإنسان ليعلم أنه لم يأخذ نعم الله كلها فيقول العبد لحظتها: يا مفرج الكروب يارب، ولذلك تجد الإنسان يقول: «يارب» حينما تأتيه آفة في نفسه ويفزع إلى الله. وقد قالها الله عن الإنسان: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] . فالإنسان عندما يحس ضعفه إذا ما أصابه مكروه لا يمل دعاء الله، سواء أكان الإنسان مضطجعاً أم قاعداً أم قائماً، وعندما يكشف الحق عنه الضر قد ينصرف عن جانب الله، ويستأنف عصيان الله وكأنه لم يدع الله إلى كشف الضر، وهذا هو سلوك المسرفين على أنفسهم بعصيان الله. والنفس أو الشيطان تزين للعاصي بعد انكشاف الضر أن يغوص أكثر وأكثر في آبار المعاصي وحمأة الرذيلة. وقد ينسب الإنسان كشف الضر لغير الله، فينسب انكشاف الضر إلى مهارة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3540 الطبيب الذي لجأ إليه، ناسياً أن مهارة الطبيب هي من نعم الله. أو ينسب أسباب خروجه من كربه إلى ما آتاه الله من علم أو مال، ناسياً أن الله هو واهب كل شيءٍ، كما فعل قارون الذي ظن أن ماله قد جاءه من تعبه وكده وعلمه ومهارته، ناسياً أن الحق هو مسبب كل الأسباب، ضُرّاً أو نفعا، فسبحانه هو الذي يسبب الضر كما يسبب النفع. ويلفت الضر الإنسان إلى نعم الحق سبحانه وتعالى في هذه الدنيا. وإذا ما رضي الإنسان وصبر فإن الله يرفع عنه الضر؛ لأن الضر لا يستمر على الإنسان إلا إذا قابله بالسخط وعدم الرضا بقدر الله. ولا يرفع الحق قضاء في الخلق إلا أن يرضى خلق الله بما أنزل الله، والذي لا يقبل بالمصائب هو من تستمر معه المصائب، أما الذي يريد أن يرفع الله عنه القضاء فليقبل القضاء. إن الحق سبحانه يعطينا نماذج على مثل هذا الأمر؛ فها هوذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يتلقى الأمر بذبح ابنه الوحيد، ويأتيه هذا الأمر بشكل قد يراه غير المؤمن بقضاء الله شديد القسوة، فقد كان على إبراهيم أن يذبح ابنه بنفسه، وهذا ارتقاء في الابتلاء. ولم يلتمس إبراهيم خليل الرحمن عذراً ليهرب من ابتلاء الله له، ولم يقل: إنها مجرد رؤيا وليست وحياً ولكنها حق، وقد جاءه الأمر بأهون تكليف وهو الرؤيا، وبأشق تكليف وهو ذبح الابن، ونرى عظمة النبوة في استقبال أوامر الحق. ويلهمه الله أن يشرك ابنه اسماعيل في استقبال الثواب بالرضا بالقضاء: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] . لقد بلغ إسماعيل عمر السعي في مطالب الحياة مع أبيه حين جاء الأمر في المنام لإبراهيم بأن يذبح ابنه، وامتلأ قلب إسماعيل بالرضا بقضاء الله ولم ينشغل بالحقد على أبيه. ولم يقاوم، ولم يدخل في معركة، بل قال: {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} [الصافات: 102] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3541 لقد أخذ الاثنان أمر الله بقبولٍ ورضا؛ لذلك يقول الحق عنهما معاً: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 103 - 107] . لقد اشترك الاثنان في قبول قضاء الله، وأسلم كل منهما للأمر؛ أسلم إبراهيم كفاعل، وأسلم إسماعيل كمنفعل، وعلم الله صدقهما في استقبال أمر الله، وهنا نادى الحق إبراهيم عليه السلام: لقد استجبت أنت وإسماعيل إلى القضاء، وحسبكما هذا الامتثال، ولذلك يجيء إليك وإلى ابنك اللطف، وذلك برفع البلاء. وجاء الفداء بِذِبْحٍ عظيم القدر، لأنه ذِبْحٌ جاء بأمر الله. ولم يكتف الحق بذلك ولكنَّ بشرَ إبراهيم بميلاد ابن آخر: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} [الصافات: 112] . لقد رفع الله عن إبراهيم القدَر وأعطاه الخير وهو ولد آخر. إذن فنحن البشر نطيل على أنفسنا أمد القضاء بعدم قبولنا له. لكن لو سقط على الإنسان أمر بدون أن يكون له سبب فيه واستقبله الإنسان من مُجريه وهو ربه بمقام الرضا، فإن الحق سبحانه وتعالى يرفع عنه القضاء. فإذا رأيت إنساناً طال عليه أمد القضاء فاعلم أنه فاقد الرضا. ونلحظ أن الحق هنا يقول: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} الله سبحانه وتعالى يعلم أن أي عبد لا يتحمل أن يضره الحق؛ فقوة الحق لا متناهية ولذلك يكون المس بالضر، وكذلك بالخير؛ فالإنسان في الدنيا لا ينال كل الخير، إنما ينال مس الخير؛ فكل الخير مدخر له في الآخرة. ونعلم أن خير الدنيا إما أن يزول عن الإنسان أو يزول الإنسان عنه، أما كل الخير فهو في الآخرة. ومهما ارتقى الإنسان في الابتكار والاختراع فلن يصل إلى كل الخير الذي يوجد في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3542 الآخرة، ذلك أن خير الدنيا يحتاج إلى تحضير وجهد من البشر، أما الخير في الآخرة فهو على قدر المعطي الأعظم وهو الله سبحانه وتعالى. إذن فكل خير الدنيا هو مجرد مس خير؛ لأن الخير الذي يناسب جمال كمال الله لا يزول ولا يحول ولا يتغير، وهو مدخر للآخرة. ولا كاشف لضر إلا الله؛ فالمريض لا يشفى بمجرد الذهاب إلى الطبيب، لكن الطبيب يعالج الموهوبة له من الله، والذي يَشفي هو الله. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . لأن الحق سبحانه وتعالى قد خلق الداء، وخلق الدواء، وجعل الأطباء مجرد جسور من الداء إلى الدواء ثم إلى الشفاء، والله يوجد الأسباب لِيُسرَّ ويُفْرِح بها عباده، فيجعل المواهب كأسباب، وإلا فالأمر في الحقيقة بيده - سبحانه وتعالى -. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَدَاوَوْا عبادَ الله فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهِرَم» . ونحن نرى أن الطبيب المتميز يعلن دائماً أن الشفاء جاء معه، لا به. ويعترف أن الله أكرمه بأن جعل الشفاء يأتي على ميعاد من علاجه. إذن فالحق هو كاشف الضر، وهو القدير على أن يمنحك ويَمَسَّك بالخير. وقدرته لا حدود لها. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3543 وقد رتب سبحانه وتعالى الكون والخلْق بأسباب ومسببات. وكل شيء موجود هو واسطة بين شيء وشيء، فالأرض واسطة لاستقبال النبات، والإنسان واسطة بين أبيه وابنه، ولنفهم جميعاً أَنَّ الحقَ، فوق عباده، إنه غالب بقدرته، يدير الكون بحكمة وإحاطة علم، وهو خبير بكل ما خفي وعليهم بكل ما ظهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3543 وهو القائل: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] . سبحانه وتعالى له مطلق القدرة على أن يرسل العذاب من السماء أو من بطن الأرض، أو أن يجعل بين العباد العداء ليكونوا متناحرين ليدفع بعضهم بعضا حتى لا تفسد الأرض {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} . فإياك أن تظن أيها الإنسان أن الحق حين يملِّك بعض الخلق أسباباً أنهم مالكو الأسباب فعلاً، لا؛ إن الحق سبحانه أراد بذلك ترتيب الأعمال في الكون. ولذلك ساعة نرى واحداً يظلم في الكون فإننا نجد ظالماً آخر هو الذي يؤدب الظالم الأول. ولا يؤدب الحق الشرير على يد رجل طيب، إنما يؤدبه عن طريق شرير مثله: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] . لأنه سبحانه وتعالى يُجل المظلوم من أهل التقوى أن يكون له دور في تأديب الظالم، إنما ينتقم الله من الظالم بظالم أو أقوى منه. وهذا ما نراه على مدار التاريخ القريب والبعيد، فحين يتمكن العبد الصالح من الذين أساءوا إليه يقول ما قاله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما دخل مكة حيث قال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» . أما إذا أراد الله الانتقام من شرير فهو يرسل عليه شريراً مثله يدق عنقه، أو يجدع أنفه، أو يذله حتى لا ينتشر ويستشري الفساد؛ فسبحانه القاهر فوق عباده، وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3544 قهر بحكمة وبعلم وليس قهر استعلاء وقهر جبروت وسيطرة. وحتى نوضح ذلك قد يجري الله على أحد عباده قَدَرًا بأن ينكسر ذراع ولده فيسوق الرجل ولده إلى طبيب غير مجرب ليقيم جبيرة لذراع الابن، وتلتئم العظام على ضوء هذه الجبيرة في غير مكانها، فيذهب الرجل بابنه إلى طبيب ماهر فيكسر يد الطفل مرة أخرى ليعيد وضع العظام في مكانها الصحيح. إن هذا الكسر كان لحكمة وهي استواء العظام ووضعها الوضع السليم. ولا يغيظ عبد من العباد الخالق أبداً، ولكن الحق ينتصف للمغيظ. ونعلم أن الإنسان مخير بين الإيمان والكفر، فإن كفر وعصى فليس له في الآخرة إلا العذاب، إلا أن الله يجري عليه قَدَر المرض فلا يستطيع أن يتمرد عليه؛ لأنه سبحانه قاهر فوق عباده بدليل أنه متحكم في أشياء لا خيار للعباد فيها. وما دام الإنسان منا محكوماً بقوسين ولا رأي له في ميلاده أو موته فلماذا - إذن - التمرد بالعصيان على أوامر الله؟ ولنعلم أن الحق هو القاهر فوق عباده بقهر الحكمة وسبحانه يضع لكل أمر المجال الذي يناسبه وهو خبير بمواطن الداءات، ويعالج عباده منها على وفق ما يراه. ويقول الحق من بعد ذلك: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3545 لقد اختلف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع القوم المناوئين له. والاختلاف يتطلب حكماً وبينة. والشهود هم إحدى البينات، فما بالنا والشاهد هو الله؟! إنه الشاهد والحكم والمنفذ. وشهادة الله لا تحايل فيها، وحكمه لا ظلم فيه، وإرادته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3545 لا تظلم عبداً مثقال ذرة، ولا شهادة - إذن - أكبر من شهادة الحق لرسوله بأنه رسول من الله. ولو شاء الحق لجعلكم كلكم مؤمنين، لكنه أراد للإنسان الاختيار. وحنان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على البشر هو الذي جعله يتمنى إيمانهم، لكن الحق يقول للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] . أي أن الحق يأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشفق على نفسه وألاّ يقتلها بالحزن عليهم لعنادهم وعدم إيمانهم. ولو أراد الحق لجعلهم جميعاً مؤمنين بآية منه؛ فمهمة الرسول هي البلاغ فقط. ولو شاء الحق لقهر الخلق جميعاً على الإيمان به كما سخّر الكون ليخدم الإنسان وليسبح الكون بحمد الله. لكنه سبحانه ترك للخلق الاختيار حتى يأتي إيمانهم مثبتاً صفة المحبوبية لله؛ لأن إيمان المختار هو الذي يثبت تلك المحبوبية. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما هو نذير وبشير بهذا القرآن المُنزَّل عليه بالوحي. والنذارة تأتي هنا لأن المجال مجال شهادة؛ لأن الشهادة إنما تكون على خلاف، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى الإيمان، والمناوئون له يدعون إلى الكفر وإلى الشرك، وشهادة الله أكبر من كل شهادة أخرى. لذلك يقرر الحق هنا بأن الرسول نذير بالقرآن. وهذا خطاب موجه لتبليغ المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولَمن وصله بعد ذلك أي شيء من القرآن، فكأنه قد رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووصله البلاغ عنه. فقد قال - سبحانه -: {وَمَن بَلَغَ} أي لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من البشر جميعاً. ويوجه الحق على لسان رسوله سؤالاً استنكارياً للمناوئين فيقول: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى} . إنه سؤال من سائل يثق أن من يسمع سؤاله لا بد أن ينفي وجود آلهة أخرى غير الله. إنه سؤال يستنبط الإقرار من سامعه. والمثال على هذا ما عرضه الحق على رسوله من أمر قد حدث في عام ميلاده فيقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3546 {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] . ونعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم ير ما حدث في عام الفيل؛ لأنه عام ميلاده، ولكن حين يخبره الله بذلك فمعنى هذا أنه بلاغ عن الله، والبلاغ عن الله يجعل الخبر القادم منه فوق الرؤية وأوثق وأكد منها. وهنا يأتي السؤال الاستنكاري: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى} . وعندما أعجزهم هذا السؤال في بعض مراحل الدعوة قال بعضهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] . وكأنهم أخيراً يعترفون أن المتقرَّب إليه هو الله، ولكن الحق يحسم أمر الشرك فيقول على لسان رسوله: {قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يشهد بأي آلهة غير الله، وألقى إليهم السؤال الاستنكاري لعلهم يديرون رءوسهم ليهتدوا إلى صحيح الإجابة التي يوجزها الحق في قوله للرسول: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} . إن الكلام هنا موجه إلى فئة من المناوئين لرسول الله من عبدة الأوثان، وهم بعض من الكافرين برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والبعض الآخر هم بعض من أهل الكتاب، هؤلاء الذين تغافلوا عن الكتب المنزلة إليهم، وغابت عنهم الخمائر الإيمانية التي كانت ترد العاصي عن معصيته، فانتشر الفساد في الكون. لذلك أرسل الحق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن العاصي لم يجد من يرده، واختفت من المجتمع في ذلك الوقت النفس اللوامة، وسادت فيه النفس الأمارة بالسوء. إن الحق سبحانه لم يترك أمر الرسول غائباً عن البشر، فقد كان الرسول في كل أمةٍ ينبئ ويخبر عن الرسول الذي يليه حتى يستعد الناس لاستقبال النذير والبشير، ولذلك كانت كل الرسالات تتنبأ بالرسل القادمين حتى لا يظنوا أن مدّعيا اقتحم عليهم قداسة دينهم، ولأن الإسلام جاء ديناً عاماً، فلم يأت الخبر فقط بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الكتب السابقة، ولكن جاءت أوصافه وسماته أيضاً واضحة وبيّنه فيها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3547 إن الذين قرأوا هذه الأوصاف لو أخرجوا أنفسهم عن سلطتهم الزمنية لآمنوا على الفور برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ كما فعل «عبد الله بن سلام» رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حين قال: لقد عرفته حين رأيته وعرفته كابني، ومعرفتي لمحمد أشد ونسي هؤلاء أنهم هم الذين نُصروا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون أن يدروا؛ فقد كانوا يستفتحون به على الأوس والخزرج، وقالوا للأوس والخزرج: قَرُب مجيء نبي منكم سنؤمن به ونتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. وأسرع الأوس والخزرج للإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائلين: لعل هذا هو النبي الذي توعدتنا به يهود، هيا نسبق إليه. إذن فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقتحم العالم بهذا الدين، بل عَرَفَ نبأ مقدمه وبعثه وصورته ونعته كلُّ من له صلة بكتاب من كتب السماء. إنهم يعلمون أنه الرسول الخاتم الذي ختمت به أخبار السماء إلى الأرض. ولذلك يقول الحق سبحانه: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3548 إذن فرسول الله معلوم مقدماً من أهل الكتاب كمعرفتهم لأبنائهم، ولكنّ بعضاً منهم فضل السلطة الزمنية على الإيمان برسول الله فخسروا أنفسهم؛ لأن الخسارة - كما نعرف - هي ضياع لرأس المال أو نقصانه. وهم خسروا أنفسهم لأن تلك النفوس كان يجب أن تحرص على مصلحة الأرواح التي جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لإصلاحها. إنهم بذلك قد منعوا الخير عن أنفسهم بتفضيل سلطان الدنيا الزائل على الإيمان بالله، وفي ذلك خيبة كبرى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3548 الله يعلمنا أن الإيمان إنما هو كسب للنفس، فإياك أيها المؤمن أن تظن أن قولك: «لا إله إلا الله» هو سند لعرش الله. لا، إنها سند لك أنت؛ لأنه لا إله إلا هو خَلَق الكون والخَلْقَ بصفات الكمال والقدرة والعلم والحكمة، واعتراف الخلق بألوهية الله وحده لا تزيد من كمال الله ولكنها تفيد العباد الذين آمنوا فيحسنون استقبال الأمر بعمارة الكون، لتسير حركة الحياة في ضوء منهج الله فينسجموا مع الكون كله المسبح لله. وحين يقول الحق: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20] . فهو يخبر أهل مكة أن الصيحة الإيمانية التي صاح بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في آذانهم لم تكن صيحة مفاجئة للكون، ولكنها صيحة بُشِّر بها على لسان كل رسول، وإذا كان أهل مكة قد بعدت صلتهم بالرسل والأنبياء وكانوا على فترة من الرسل، فهم بجوارهم لأهل كتاب في المدينة يعلمون هذه الحقيقة التي جاء بها رسلهم مؤكدين للعهد الذي أخذه الله عليهم؛ لأننا نعلم أن الحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق واستعمرهم في الأرض أرادهم موهوبين من قدرته سبحانه قُدْرَةً، ومن غناه سبحانه غِنىً، ومن علمه الكامل علماً، ومن حكمته المطلقة حكمةً، ومن رحمته الكاملة رحمةً، ومن قاهرية الله قهراً؛ لأن الكون لا يمكن أن يستقيم إلا إن وُجدت فيه هذه المتكاملات وإن كانت متناقضة؛ لأن لكل صفة مجالها الذي تعمل فيه. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نجد الإنسان منا حين يرحم ولده دائماً يفسد الولد وإن لم يقس عليه مرة فأبوته ناقصة، إذن، فلا يمكن أن يكون المهيمن على الخلق رحيماً فقط، وإنما يجب أن يكون قاهراً أيضاً؛ لأن الموقف قد يتطلب القهر. ولا يريد الحق سبحانه وتعالى أن يطبع خلقه على خلق واحد، ولكنه سبحانه يريد أن يجعلهم ينفعلون للمواقف المختلفة؛ فالموقف الذي يتطلب رحمة، يكونون فيه رحماء، والموقف الذي يتطلب قسوةوشدة يكونون فيه قساة، ولذلك يقول الحق في المؤمنين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3549 {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً} [الفتح: 29] . إن الحق يحدثنا عن خلق المؤمنين. إنه سبحانه لم يطبعهم على الشدة؛ لأن المواقف قد تتطلب رحمة، ولكن الشدة مطلوبة لمواجهة أهل الباطل. ولم يطبعهم الحق على اللين، لكن اللين مطلوب فيما بينهم؛ لأن كلاً منهم يرجو رحمة الله وفضله؛ ففي الموقف الذي يتطلب رحمة؛ هم رحماء. وفي المواقف الذي يتطلب شدة هم أشداء، ولذلك يقول الحق سبحانه أيضاً عن المؤمنين: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] . ولم يجعل الحق المؤمن ذليلاً على إطلاقه، ولا عزيزاً على إطلاقه، ولكنه جعله ذليلاً على أخيه المؤمن، لين الجانب رحب الأخلاق. وجعله عزيزاً على الكافرين المتأبين على الله. إذن، فسبحانه يريد من خَلْقه أن يكونوا على خُلُقِ الحق سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما رواه عمار بن ياسر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «حُسْن الخلق خُلُق الله الأعظم» ورُوِي: «تخلقوا بأخلاق الله» إن لله سبحانه وتعالى قدرة حكيمة، فخذوا أيها المؤمنون قدرته واستعملوها بحكمة، ولله علم فحاولوا أن تكونوا عالمين، ولله رحمة فحاولوا أن تكونوا رحماء، والله جبار فإذا تطلب الموقف منكم أن تكونوا جبارين فافعلوا، لأن سياسة الأرض وسياسة المجتمع قد لا تصلح إلا بهذا. وما دام الحق قد أراد من الخلق أن يعمروا هذا الكون فلا بد أن يضمن لهم منهجاً سليماً يرتكز على «افعل» ولا «تفعل» ، فإن نحن أخذنا منهج الله فنحن نأخذ ما يمكن أن نسميه بالعرف الحاضر: «قانون الصيانة» فلنفعل ما قال الله افعلوا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3550 ولنترك ما قال الله في شأنه لا تفعلوا حتى تؤدي الآلة الإنسانية مهمتها كما يريد الله لها أن تكون. إن الفساد إنما ينشأ من أنك أيها الإنسان تنقل الأعمال من نطاق «افعل» إلى نطاق «لا تفعل» ، والأعمال التي يجعلها الله في نطاق «لا تفعل» تجعلها أنت في نطاق «افعل» . فإن طلب الله أن نقيم الصلاة ب «افعل» فكيف نجعلها في نطاق «لا تفعل» بعدم الصلاة؟ ، وإن طلب الله منا ألا نشرب الخمر فكيف نشربها إذن؟ . إن الخلل الإيماني الذي يحدث في الكون إنما ينشأ من نقل متعلقات «افعل» إلى «لا تفعل» ، ومن نقل متعلقات «لا تفعل» إلى «فعل» ، أما ما لم يَرِد فيه «افعل» و «لا تفعل» فقد ترك الله لاختيارك إباحة أن تفعله أو لا تفعله، لأن الكون لا يفسد بشيء منها. وإذا نظرت إلى منهج الله في «افعل» و «لا تفعل» فأنت تجد أن الحق سبحانه لم يقض على حريتك ولم يقض على اختيارك، وإنما ضبطك ضبطاً محكماً فيما ينشأ فيه فساد الكون، أما الذي لا ينشأ منه فساد فإن شئت فافعله وإن شئت فاتركه. وزود الحق كل البشر بهذا المنهج من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة. وأخذ سبحانه على نفسه الوعد بعدم تعذيب أمة لم يبعث لها رسولاً، ولذلك توالى الموكب الرسالي. لماذا؟ لأن الغفلة تتمكن من الإنسان؛ فقد يتناسى الإنسان مرة الشيء الذي يحد حركته ويتكرر التناسي إلى أن يصير نسياناً، فيشاء الحق أن يرسل رسولاً لكل فترة لينبه إلى قانون صيانة الإنسان، إلى أن جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأمن الله أمةَ محمد أن تكون هي المبلغة بمنهج الله إلى أن تقوم الساعة. ولذلك أخذ سبحانه من النبيين ميثاقاً للبلاغ عن رسالة النبي الخاتم: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3551 إذن فقد أخذ الله العهد على كل نبي أن يبلغ قومه أن يؤمنوا برسالة الرسول الذي توافق دعوته دعوتهم، وأخذ الحق الإقرار من كل نبي على ذلك، وشهد الأنبياء على أنفسهم وشهد الله عليهم، وبلغوا ذلك إلى أقوامهم. إذن فنصرة النبي الخاتم موجودة في كل رسالة سابقة على الإسلام، وكان على كل رسول أن يعطي إيضاحاً بذلك العهد لقومه، وأن يأخذ عليهم العهد بنصرة الرسول القادم إليهم، ويبلغهم أن من تمام الإيمان أن يؤيِّدوا ذلك الرسول إن هم عاصروه. ويخصص الحق هنا أهل الكتاب الذين نزلت إليهم التوارة والإنجيل وهما أصحاب الديانتين العظيمتين اللتين سبقتا الإسلام: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} أي أنهم يعرفون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالبشارة به، وبالإخبار عنه، وبالنعت لشكله وصورته، فإذا كان كفار قريش على فترة من الرسل فليسألوا أهل الكتاب. وقد سمع الأوس والخزرج من أهل الكتاب أن هناك نبياً قادماً سيؤمنون به ويتبعونه ويقتلون به العرب قتل عاد وإرم. إذن فالصيحة الإيمانية على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم تكن مفاجئة للكون، وإن كتمها الذين كفروا من أهل الكتاب، هؤلاء الذين جاء فيهم قول الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89] . لقد انتابت الآفة التي تنكر هذا البلاغ عن الله بعضاً من أهل الكتاب، فقد أخذوا، وهم المبلغون عن الله، السلطة الزمنية ورأوا فيها الحظ والجاه والنعيم، فمنهم القضاة وإليهم يلجأ الناس لمعرفة الحكم في الدماء، وكذلك يأخذون الصدقات. وألفوا حياة السيادة والنعيم. وها هي ذي دعوة جديدة جاءت لتسلب منهم هذه السيادة، وبالرغم من أنهم كانوا المبشرين بها من قبل، إلا أن الدعوة عندما جاءت تزلزت بها سلطتهم الزمنية، ولذلك بدأوا العداء. إذن فالآفة هي أخذ سلطة زمنية من باطن سلطة الله ثم يدعي أنها سلطة الله. وعندما ننظر إلى التاريخ الدياني في العالم نجد أن السلطة الزمنية في الأديان التي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3552 سبقت الإسلام هي التي أرهقت الكون؛ لأن الحق سبحانه حينما خلق الكون طمر فيه أسراراً تعمل في خدمة الإنسان وإن لم يدر بها الإنسان. وطموحات الإنسان العلمية هي التي تجعله يهتدي إلى هذه الأسرار ويكتشف القوانين التي تعمل بها؛ مثال ذلك قانون الجاذبية وقانون السالب والموجب، كل هذه قوانين موجودة في الكون، تماماً كما خلق الله الأرض كروية وكما جعل الشمس هي مصدر الحرارة والدفء والنور والإشراق. ويأخذ العلماء من تلك المقدمات ليصلوا إلى اكتشاف قوانين هذه الأجرام وقوانين هذا الكون. وحين يصل الذكي إلى اكتشاف قانون ما فإنه يقول: لقد اكتشفت كذا، وهذا تعبير فطري دقيق، ولا يقول أبداً: لقد ابتكرت كذا؛ لأنه يعلم أن ما اكتشفه كان موجوداً في الكون ولكن لا يعرفه. وعدم معرفة الإنسان بقانون موجود في الكون لا يمنع الفائدة من الوصول إلى الإنسان، وإن كانت المعرفة بالقانون تزيد من إمكان الإفادة منه. فالإنسان يتمتع بوجود الشمس قبل معرفة ما بها من طاقة، ولكن عندما تخصص العلماء في دراسة الشمس عرفوا أن الإنسان يمكن أن يستفيد بهذه الطاقة أكثر من فائدته التقليدية بها، ولذلك صارت هناك بعض المدن تنير شوارعها بالطاقة الشمسية، وصارت هناك بعض المباني تدفيء حجراتها بالطاقة الشمسية وتسخِّن المياه أيضاً بهذه الطاقة. ولم يمنع هذا الاكتشاف أن يستفيد الأمي أو البدوي في الصحراء من نور الشمس. وكذلك الكهرباء، والأدوات الكهربائية والمنزلية التي يمكن للجاهل الاستفادة منها، مثل استفادة الخبير بها، صحيح أن الأمي لا يعرف كيف تدور المصانع التي تنتج أجهزة التليفزيون ولكنه يستفيد برؤية التليفزيون. والتليفزيون ليس إلا ترجمة مادية لمجموعة من القوانين العلمية اكتشفها الإنسان ووضعها موضع التطبيق لصناعة هذه الآلة التي يستفيد بها الإنسان. ولكل سر ميلاد تماماً كميلاد الإنسان. وإذا جاء ميعاد ميلاد السر ولم يكن هناك من يبحث عنه، فسبحانه يكشفه لأي بشر بالمصادفة، وكثيراً ما نسمع أن عالماً كان يبحث في مجال ولكنه اكتشف سراً غير الذي كان يبحث عنه. ولذلك يقول الحق في آية الكرسي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3553 {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255] . فأنت أيها الإنسان لا تحيط علماً بأسرار الكون إلا إذا أذن الله، وهناك عشرات الآلاف من الأمثلة على ذلك بداية من قاعدة أرشميدس التي تسير عليها البواخر والغواصات، إلى قانون الجاذبية الأرضية الذي اكتشفه نيوتن عندما وقعت تفاحة أمامه بالمصادفة، إلى اكتشاف البنسلين، إلى غير ذلك من أسرار هذا الكون. وإذا كانت هناك علوم لها مقدمات، فهناك أيضاً علوم ليس لها مقدمات؛ إن الحق سبحانه وتعالى يقول: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 26 - 27] . فسبحانه وتعالى عالم الغيب فلا يظهر غيبه لأحد إلا لرسول يختاره الحق ليعلم بعضاً من الغيب، ويحميه الله ويعصمه ويحفظه بالملائكة لتحول بينه وبين وساوس الشياطين وتخليطهم حتى يُبَلِّغ ما أوحىَ به إليه وحين يريد الحق أمراً محكماً لا اختيار لأحد فيه فإنه ينزل به رسولاً إلى الخلق ليهديهم ب «افعل» و «لا تفعل» . وهذه مسألة غير متروكة للبحث فيها، ولكنها تأتي بإذن من الله حتى تتعارض أهؤاونا؛ فسبحانه علم أن الأهواء بين البشر قد تتعارض ولا تتساند فيرسل الرسل من عنده سبحانه بالمنهج ليستقيم أمر البشر. إن النشاطات الذهنية التي يصل بها البشر إلى أسرار فيها رفاهية الحياة، هي أسرار بنت التجربة والمعمل، والمعمل لا يجامل، فلا توجد كيمياء روسية وأخرى أمريكية، إنما كل قوانين المادة تستنبط في المعمل. . ولذلك نرى الدول تتسابق كلٌّ يحاول أن يسرق ما عند الآخر بواسطة الجواسيس. أما في مجال الحركة الاجتماعية فالدول تقيم سدوداً بينها وبين المبادئ؛ فالغرب لا يسمح بدخول نظريات اجتماعية من الشرق، والشرق لا يسمح بذلك أيضاً. ويختلف هذا الأمر في البحث العلمي؛ فقوانين البحث العلمي عن أسرار الكون يحاول كل طرف امتلاكها. وإن لم يستطع حاول أن ينقلها عن غيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3554 ويعلمنا الحق أن نبحث في كل آيات الكون ولا نعرض عنها، فيقول لنا: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] . فسبحانه يلفتنا إلى أن كل آية وكل ظاهرة من الظواهر تتطلب منا أن ننظر فيها بحكمة وإمعان؛ لأننا قد نستنبط منها أشياء تريحنا. ومثال ذلك قوة البخار، اكتشفها رجل وطورها آخر حتى صارت تلك القوة البخارية في خدمة البشرية كلها وكذلك الذي اخترع العجلة أفاد البشرية في نقل عشرات الأوزان عليها واختصار زمن الرحلات، كل ذلك إنما جاء من تأمل آيات الله في الكون بإمعان وتدبر. لقد جعل الحق البحث في آيات الكون مشاعاً للمؤمنين والكفار، وهو حق لمن يبحث في أسراره. وهذه هي قضية العلم. أما قضية الدِّين فأمرها مختلف؛ لأن الخبر في قضية الدين يأتي من الله بواسطة رسول. أما البحث في الكون وأسراره العلمية فالحق يقول فيه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27 - 28] . إن الحق يلفتك أيها الإنسان إلى أنه أنزل من السماء ماء فأنبت وأخرج به من الأرض النباتات التي تحمل ثماراً مختلفة الألوان ومختلفة الطعم. وجعل الجبال مختلفة الأشكال والألوان، وبعضها ضعيف وبعضها قوي. ويختلف لون الجبل عن الآخر بما فيه من مواد مطمورة. وهذه الجبال كلها من أصل واحد ولكن فروعها متباينة لخدمة الإنسان. لقد خلق الحق سبحانه الأنعام مختلفة الألوان والأشكال والأحجام، وكذلك الناس مختلفون في اللون والشكل. والعلماء هم الذين يتدبرون ذلك فيخشون الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3555 الصانع العليم. إذن فأمر الدين محسوم من الحق. والرسل مبلغون عن الله، وكذلك أهل العلم بالدين، وأهل العلم بالدين مبلغون عن الله لا متكلمون بلسان الله؛ لأن بعض البشر قد يخلطون أهواءهم مع كلمات الله ويقولون: إن هذا هو كلام الله، وهذا خطأ فاحش وذنب كبير. إن ما حدث في القرون الوسطى - على سبيل المثال - كان خلطاً بين البحث العلمي وما ينزل الحق من منهج؛ فعندما جاء عالم مثل «جاليليو» ليبحث في طبيعة الكواكب أرادوا أن يحرقوه، وعندما أراد عالم آخر أن يتكلم في طبيعة الأرض حبسوا حريته. وعندما حكمت الكنيسة العالم الغربي بهذا الأسلوب تأخر العالم كله وعاش في عصور من الظلام، وعندما اتصل هؤلاء القوم بالمسلمين تحرروا من خزعبلات تلك القرون الوسطى وتعلموا حرية البحث العلمي من العرب وارتقت أوروبا بذلك الأسلوب العلمي الذي طرحه الإسلام وأثبته علماء المسلمين. إن السبب في تأخر أوروبا وجهلها هم أهل الكهنوت والدين، بل إن نفور الأوروبيين من الدين كان بسبب معرفتهم أن رجال الدين عندهم يمقتون الحياة والتقدم الحضاري - حماية لنفوذهم وسلطتهم الزمنية والروحية - وأراد بعض من أهل أوروبا أن يأخذوا كل الأديان بجريرة رجال الكهنوت عندهم. ونسي الذين حملوا على الدين - كل الدين - أن رجال الكهنوت افتأتوا وادعو ذلك على النصرانية، ونسبوه إليها؛ فالمسيح لم يقل لهم ذلك، ولكنهم كرجال كهنوت أفسدوا الحياة بالسلطة الزمنية التي كانت لهم وكانت النتيجة أن أخذ البعض من فساد سلطة الكنيسة حجة على فساد الدين. ولهؤلاء نقول: إن الدين لا يتدخل في أي أمر من أمور الحياة العلمية ولا يفسدها أبداً، بل نجد أن الحق قد أمرنا بالبحث في آياته وأن نزيد من البحث. وها هو ذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأمرنا بأن نبحث عن شئون الدنيا على ضوء التجربة. وأراد الله أن يفصل بين أمور العلم التجريبي وأمور الدين، وأراد أن يحمي دينه من تدخل أي فئة تدعي أنها تملك كلام الله فتخلط بين أهوائها والبلاغ عن الله سبحانه. مثال ذلك ما قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر تلقيح النخيل. ونعرف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3556 أن تلقيح النخيل يتم حين نأخذ طلع الذكورة ونلقح به الأنوثة من النخيل فيخرج التمر ناضجاً، وإن لم يحدث ذلك فالنخيل تنتج ثماراً غير ناضجة. والسر في إنتاج النخيل لثمار غير ناضجة أن التلقيح قد تم بواسطة الريح التي تنقل القليل من حبوب اللقاح، ولكن التلقيح اليدوي للنخيل هو الذي يزيد من جودة الثمار، وقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرة للصحابة ما يمكن أن يفهم منه ألا يقوموا بتلقيح النخيل وحدث نتيجة ذلك أن النخيل لم يثمر الثمار المرجوة بل أثمر شيصاً أي ثماراً غير مكتملة النضج، واستند الرسول في ذلك إلى قول الحق: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] . وهذا قول صحيح صادق حكيم نجد آثاره في السحاب الذي يتحول إلى مطر نتيجة اتصال الموجب بالسالب، ونجده في معظم النباتات من قمح وفاكهة وذرة وغير ذلك. فطلع الذكر ينتقل بواسطة الريح إلى عناصر الأنوثة في النباتات القريبة فتلقحها وتنقل الرياح كذلك اللقاح الخفيف. واللقاح عندما يكون ثقيل الوزن يحتاج في بعض الأحيان إلى جهد من الإنسان لينقل خلايا الذكورة إلى خلايا الأنوثة، ومثال ذلك النخيل. ولذلك عندما علم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقلة إنتاج النخيل في العام الذي لم يلقح فيه بعض الصحابة نخيلهم. . قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» . وبهذا حسم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأمر ولم يعد لرجال الدين أن يتدخلوا في أي أمر لا تستقيم به الحياة إلا بناء على التجربة المعملية. ولذلك يقال عن الإسلام: إنه دين العلم؛ لأنه أتاح لرجال العلم أن ينطلقوا في تأمل آيات الله في هذا الكون، بل دعاهم وأمرهم أن يستنبطوا أسرار هذا الكون. أما في أمور السلوك البشري وحركة المجتمع فقد أنزل الحق من المنهج ما يكفي لعدم استعلاء أحد على أحد، وأن نضبط السلوك الإنساني بتعاليم المنهج الإيماني. لقد جاء المنهج الإيماني في كل الرسالات، وكانت الرسالة الخاتمة هي رسالة محمد ابن عبد الله، وكانت البشارة به موجودة في التوراة والإنجيل. ويقول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3557 {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} فهل عمل أهل الكتاب بمقتضى هذه المعرفة؟ لا؛ ذلك أن بعضاً منهم خافوا أن تؤخذ منهم سلطتهم الزمنية، وأكبر مثال على ذلك هو عبد الله بن أُبي الذي كان رأس النفاق في الإسلام والذي كان يستعد لتولي مُلْك المدينة قبل مجيء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليها. وكان هناك من أهل الكتاب من عمل بهذه النبوءة، مثال ذلك: عبد الله بن سلام رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. ولم يظلم القرآن أحداً، بل قال عن بعض أهل الكتاب: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [المائدة: 83] . إذن لم يظلم الحق الذين آمنوا من أهل الكتاب عندما وجدوا أن منهج الإسلام مطابق لما جاء إليهم. لكن بعض أهل الكتاب كفر وعادَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خوفاً على السلطة الزمنية التي كانت لهم. وعندما ننظر إلى التاريخ نجد أن السلطة الزمنية كانت في وقت من الأوقات لرجال الدين مثلما حدث في أوروبا، ولكن حدث استغلال من جانب رجال الدين للناس، وأفسد رجال الكهنوت في الأرض، فتمرد عليهم البشر وخرجوا عن طاعتهم ليقننوا لأنفسهم القوانين. ولأنهم كانوا يحكمون بالأهواء لا بالشرع فقد كان الحكم يتذبذب عند رجال الكهنوت في الأمر الواحد حسب شخصية من يرتكب هذا الأمر، فمن يدفع لهم ينال العفو، ومن لم يدفع ينال العقاب! لقد أخذوا متاع الدنيا القليل ولم ينفذوا ما أمرهم به الله فخرج الناس على سلطانهم. ومن هنا لم يعترف بعض من البشر برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي جاءت البشارة به وعرفوه بالإيضاح والنعت ولكنهم أنكروه لأنه يسلبهم ما حصلوا عليه من الانتفاع بالمال والسلطة فخسروا أنفسهم وظلوا على الكفر؛ لقد قال فيهم الحق: {الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} . لقد خسروا أنفسهم؛ لأنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً. وخسارة النفس تفوق خسارة المال؛ لأن خسارة المال مردودة ويمكن أن تتدارك فيكسب الإنسان بعد خسارة، ولكن خسارة النفس أمرها كبير. ونعلم أن الصفقة الإيمانية لا تعزل عمل الدنيا عن حساب الآخرة. والمؤمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3558 الحق هو من يربط الدنيا بالآخرة. لكنَّ بعضاً من أهل الكتاب أحبوا الدنيا على الآخرة وفصلوا بين الاثنتين فأخذوا حظاً قليلاً من الحياة الدنيا وخسروا الآخرة. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3559 إنهم افتروا على الله الكذب عندما فعلوا ذلك: نسوا حظاً مما ذكروا به، وكتموا بعضاً من الكتب المنزلة إليهم، وحرفوا الآيات المنزلة إليهم، وجاءوا بأقوال من عندهم ونسبوها إلى الله. ولذلك نجد الحق سبحانه يقول عنهم: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] . إن الحق يتوعدهم بالعذاب لأنهم باعوا الدين لقاء ثمن قليل في الدنيا، وادعوا على الله الكذب فنسبوا إليه ما لم ينزله، ولذلك فالويل كل الويل لهم؛ لإنهم انحطوا إلى أخس دركات الظلم وكذبوا الكذب المتعمد في كلية ملزمة وهي الإيمان بالله وبالكتب المنزلة والرسل. والافتراء هو الكذب المتعمد بغرض نسبة شيء إلى الله لم يقله، وهم قد فعلوا ذلك، ولهذا لا يفلح الظالمون سواء ظلموا الناس بأخذ أموالهم أو الإساءة إليهم، أو ظلموا أنفسهم بالشرك بالله وهو أعظم الظلم {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . ويقول الحق من بعد ذلك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3559 {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3560 الحق سبحانه يذكرنا بيوم الحشر، يوم يسأل الله الذين أشركوا وكذبوا وافتروا الكذب على الله: أين الذين عبدتموهم وأشركتموهم معي؟ إن الله لن يترك الناس سدى، بل كل عمل يفعله الإنسان في الدنيا محصى عليه وسيسأل عنه يوم القيامة. سيسأل الله المشركين عن الذين عبدوهم من دون الله كذباً: أين هؤلاء الآلهة التي أشركها الكافرون في العبادة مع الله؟ ولماذا لا يتقدمون لإنقاذ عبيدهم من العذاب الذي يصليه الله لهم؟! ويقرع سبحانه المشركين، ويحشرهم مع ما عبدوهم من دون الله من الأصنام والأوثان وفي ذلك قمة الإهانة لهم ولتلك الآلهة. ويقول الحق بعد ذلك: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3560 ونعرف أن الفتنة هي الاختبار. وللفتنة وسائل متعددة؛ فأنت تختبر الشيء لتعرف الرديء من الجيد، والحقيقي من المزيف. ونحن نختبر الذهب ونفتنه على النار وكذلك الفضة. وهكذا نرى أن الفتنة في ذاتها غير مذمومة، لكن المذموم والممدوح هو النتيجة التي نحصل عليها من الفتنة؛ فالامتحانات التي نضعها لأبنائنا هي فتنة، ومن ينجح في هذا الامتحان يفرح ومن يرسب يحزن. إذن فالنتيجة هي التي يفرح بها الإنسان أو التي يحزن من أجلها الإنسان، وبذلك تكون الفتنة أمراً مطلوباً فيمن له اختيار. وأحياناً تطلق الفتنة على الشيء الذي يستولي على الإنسان بباطل. إن الحق يحشر المشركين مع آلهتهم التي أشركوا بها ويسألهم عن هذه الآلهة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3560 فيقولون: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} . وهم في ظاهر الأمر يدافعون عن أنفسهم، وفي باطن الأمر يعرفون الحقيقة الكاملة وهي أن المُلْك كله الله، ففي اليوم الآخر لا شركاء لله؛ ذلك أنه لا اختيار للإنسان في اليوم الآخر. ولكن عندما كان للإنسان اختيار في الدنيا فقد كان أمامه أن يؤمن أو يكفر. وإيمان الدنيا الناتج عن الاختيار هو الذي يقام عليه حساب اليوم الآخر، أما إيمان الاضطرار في اليوم الآخر فلا جزاء عليه إلا جهنم لمن كفر أو أشرك بالله في الدنيا. ولو أراد الله لنا جميعاً إيمان الاضطرار في الدنيا لأرغمنا على طاعته مثلما فعل مع الملائكة ومع سائر خلقه. لقد قهر الحق سبحانه كل أجناس الوجود ما عدا الإنسان، وكان القهر للأجناس لإثبات القدرة، ولكن التكريم للإنسان جاء بالاختيار ليذهب إلى الله بالمحبة. والمشركون بالله يفاجئهم الحق يوم القيامة بأنه لا إله إلا هو، ويحاولون الكذب لمحاولة الإفلات من العقوبة فيقولون: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} . وهم قد كذبوا بالله في الحياة فعلاً ويريدون الكذب على الله في اليوم الآخر قولاً، ولكن الله عليهم بخفايا الصدور وما كان من السلوك في الحياة الدنيا، ويوضح لهم في الآخرة أعمالهم ويعاقبهم العقاب الأليم. وحين يسألهم الحق: {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ} ؟ ففي هذا القول استفهام من الله، والاستفهام من العليم لا يقصد منه العلم، وإنما يقصد به الإقرار مِن المسئول. وفي حياتنا اليومية يمكننا أن نرى السؤال من التلميذ لأستاذه؛ ليعلم التلميذ ما يجهل. ونرى السؤال يرد مرة بعد أخرى من الاستاذ لتلميذه لا ليعلم ما لم يعلم، ولكن ليقرر التلميذ بما يعلمه وبما تعلمه من أستاذه. فإذا سأل الحق خلقه سؤالاً، أيسألهم سبحانه ليعلم؟ حاشا لله أن يكون الأمر كذلك. وإنما يسأل الحق عباده ليكون سؤال إقرار. والإقرار هنا فيه تبكيت أيضاً؛ لأنه سؤال لا جواب له، فمعاذ الله أن يوجد له شركاء. وعندما يقول الحق لهم: {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ} ؟ فمعنى ذلك هو الاستبعاد أن يوجد له سبحانه شركاء. وبذلك يوبخهم ويبكتهم الحق على أنهم أشركوا بالله ما لا وجود له. لقد أشركوا بالله في الدنيا لمجرد التخلص من موجبات الإيمان. وها هم أولاء في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3561 المشهد العظيم يعرفون قدر كذبهم في الدنيا، فلا ملك لأحد إلا الله، ولا معبود سواه، فينطقون بما يشهدون: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} . ولقائل أن يقول: ولكن هناك في موضع آخر من القرآن نجد أن الله يقول في حق مثل هؤلاء: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 34 - 36] . إنهم في يوم الهول الأكبر يعرفون أنهم كذبوا في الدنيا، وهم لا ينطقون بأي قول ينفعهم، ولا يأذن لهم الحق بأن يقدموا أعذاراً أو اعتذاراً. ونقول لمن يظن أن المكذبين لا ينطقون: إنهم بالفعل لا ينطقون قولاً يغيثهم من العذاب الذي ينتظرهم، وهم يقعون في الدهشة البالغة والحيرة، بل إن بعضاً من هؤلاء المكذبين بالله واليوم الآخر يكون قد صنع شيئاً استفادت به البشرية أو تطورت به حياة الناس، فيظن أن ذلك العمل سوف ينجيه، إن هؤلاء قد يأخذون بالفعل حظهم وثوابهم من الناس الذين عملوا من أجلهم ومن تكريم البشرية لهم، ولكنهم يتلقون العذاب في اليوم الآخر لأنهم أشركوا بالله. ولم يكن الحق في بالهم لحظة أن قدموا ما قدموا من اختراعات، ولذلك يقول الحق: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] . وهكذا نعلم أن أعمال الكافرين أو المشركين يجازيهم الحق سبحانه عليها بعدله في الدنيا بالمال أو الشهرة، ولكنها أعمال لا تفيد في الآخرة. وأعمالهم كمثل البريق اللامع الذي يحدث نتيجة سقوط أشعة الشمس على أرض فسيحة من الصحراء، فيظنه العطشان ماء، وما أن يقترب منه حتى يجده غير نافع له، كذلك أعمال الكافرين أو المشركين يجدونها لا تساوي شيئاً يوم القيامة. والمشرك من هؤلاء يعرف حقيقة شركه يوم القيامة. ولا يجد إلا الواحد الأحد القهار أمامه، لذلك يقول كل واحد منهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} . إن المشرك من هؤلاء ينكر شركه. وهذا الإنكار لون من الكذب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3562 إن المشركين يكذبون، ويقول الحق سبحانه عنهم: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} [المجادلة: 18] . وحين يبعثهم الحق يوم القيامة يقسمون له أنهم كانوا مؤمنين كما كانوا يقسمون في الدنيا، لكن الله يصفهم بالكذب، لقد كان بإمكانهم أن يدلسوا على البشر بالحلف الكاذب في الدنيا، ولكن ماذا عن الله الذي لا يمكن أن يدلس عليه أحد. وهكذا نرى أن فتنة هؤلاء هي فتنة كبرى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . ويقول الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد ذلك: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3563 ويلفت الحق نظر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بدقة إلى عملية سوف تحدث يوم القيامة، وساعة يخبر الله بأمر فلنصدق أنه صار واقعاً وكأننا نراه أمامنا حقيقة لا جدال فيها. وسبحانه يقرر أنهم كذبوا على أنفسهم. ونعرف أن كل الأفعال تتجرد من زمانيتها حين تنسب إلى الله سبحانه وتعالى، فليس عند الله فعل ماضٍ أو حاضر أو مستقبل. والمثال على ذلك قوله الحق: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3563 وليس لقائل أن يقول: كيف يقول الحق إن أمره قد أتى وذلك فعل ماضٍ، ثم ينهى العباد عن استعجاله، والإنسان لا يتعجلُ إلا شيئاً لم يحدث، ليس لقائل أن يقول ذلك؛ لأن المتكلم هو القوة الأعلى ولا شيء يعوق الحق أن يفعل ما يريد. أما نحن العباد فلا نجرؤ أن نقول على فعل سوف نفعله غداً إننا فعلناه، ذلك أن غداً قد لا يأتي أبداً، أو قد يأتي الغد ولا نستطيع أن نفعل شيئاً مما وعدنا به، أو قد تتغير بنا الأسباب. وعلى فرض أن كل الظروف قد صارت ميسرة فأي قوة للعبد منا أن يفعل شيئاً دون أن يشاء الله؟ . ونحن - المؤمنون - نعرف ذلك وعلينا أن نقول كما عملنا الله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 - 24] . وهكذا يضمن الإنسان منا أنه قد خرج من دائرة الكذب. وحينما يقول الله لرسول: «انظر» ويكون ذلك على أمر لم يأت زمان النظر فيه؛ فرسول الله يصدق ربه وكأنه قد رأى هذا الأمر. إن الحق يصف هؤلاء الناس بأنهم: {كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} أي أن كذبهم الذي سوف يحدث يوم القيامة هو أمر واقع بالفعل. وقد يكذب الإنسان لصالحه في الدنيا. لكن الكذب أمام الله يكون على حساب الإنسان لا له. ويتابع الحق: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ومعنى هذا أنهم يبحثون في اليوم الآخر عن الشركاء ولكنّهم لا يقدرون على تحديد هؤلاء الشركاء لأنهم قالوا أمام الله: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وغياب الشركاء عنهم أمام الله هو ما يوضحه ويبينّه قول الله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ف «ضل» هنا معناها «غاب» . ألم يقولوا من قبل: {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10] . أنهم كمنكرين للبعث يتساءل باندهاش: أإذا غابوا في الأرض واختلطوا بعناصرها يمكن أن يبعثهم ربهم من جديد؟ . فهم لا يصدقون أن الذي أنشأهم أول مرة بقادر على أن يعيدهم مرة أخرى. ونعرف أن كلمة «ضل» لها معانٍ متعددة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3564 لكن معناها هنا «غاب» ، وحين يسألهم الله: أين شركاؤكم؟ ، ينكرون كذباً أنهم أشركوا، لقد ضل عنهم - أي غاب عنهم - هؤلاء الشركاء. والإنسان يعبد الإله الذي ينفعه يوم الحشر، وعندما يغيب الآلهة عن يوم الحشر فهذا ما يبرز ضلال تلك الآلهة وغيابها وقت الحاجة إليها، ولا يبقى إلا وجه الله الذي يحاسب من أشركوا به. و «ضل» يقابلها «اهتدى» ، و «ضل» أي لم يذهب إلى السبيل الموصلة للغاية، و «اهتدى» أي ذهب إلى السبيل الموصلة إلى الغاية. ومن لا يعرف السبيل الموصلة إلى الغاية، يكون قد ضل أيضا، ولكن هناك من يضل وهو يعلم السبيل الموصلة إلى الغاية وهذا هو الكفر. وعندما يتكلم الحق عن الذين كفروا يصفهم بأنهم ضلوا ضلالاً بعيداً؛ لأن الطريق إلى الهداية كان أمامهم ولم يسلكوه، وهذا هو ضلال القمة. وقد يكون الإنسان مؤمناً لكن مقومات الإيمان ضعيفة في نفسه فيعصي ربه. ويقول الحق عن مثل هذا الإنسان: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36] . إنه ضلال دون ضلال وكفر دون كفر القمة. لكن ماذا عن الذي يضل لأنه لا يعرف طريق الهدى؟ إن ذلك هو ما يظهر لنا من قصة سيدنا موسى عليه السلام، فحين قال الحق لموسى وهارون عليهما السلام: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 16 - 17] . أصدر الحق الأمر إلى موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون ليرسل معهما بني إسرائيل، فماذا عن موقف فرعون؟ . ماذا قال فرعون؟ : {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكافرين} [الشعراء: 18 - 19] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3565 هنا يريد فرعون أن يمتن على موسى عليه السلام، ويذكره بأنه رباه في قصره إلى أن كبر ومع ذلك لم يرع موسى وقتل رجلاً من قوم فرعون، وكان ذلك في نظر فرعون لوناً من الجحود بنعمته، وها هوذا يعتدي مرة أخرى على ألوهية فرعون بدعوته للإيمان بالإله الحق الذي لا يتخيله الفرعون، ويلتقط موسى الخطأ الجوهري في سلوكه في ذلك الوقت. إن الخطأ لم يكن الكفر بفرعون، ولكن الخطأ كان هو القتل فيقول: {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] . وهكذا نعرف أن موسى لحظة قَتْلِه رجلا من عدوه لم يكن عنده طريق الهدى، بل كان ضلاله حاصلا من عدم معرفته أن هناك طريقاً آخر إلى الهدى. وهاهوذا الحق سبحانه وتعالى يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7] . أي لم يكن عندك يا رسول الله طريق واضح إلى الهدى قبل الرسالة، فليس معنى الضلال هنا الانحراف، ولكن معناه أنه قبل نزول الوحي لم يكن يعرف أي طريق يسلك. وقد يكون الضلال نسياناً، وما دام الإنسان قد نسي الحقيقة فهو ضال، والمثال قول الحق: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} [البقرة: 282] . هنا يقرر الحق أن شهادة المرأة تحتاج إلى ضمان وذلك بتأكيدها بشهادة امرأة أخرى؛ لأن المرأة بحكم تكوينها لا تستطيع أن تضع أنفها في كل تفاصيل ما تراه، بل هي تسمع سمعاً سطحياً، ولذلك لا تكتمل الصورة عندها، وعندما تجتمع مع شهادة المرأة شهادة امرأة أخرى، فكل منهما تذكر الأخرى بتفاصيل قد تكون في منطقة النسيان؛ لأن نفسية المرأة وطبيعة تكوينها مبنية على الصيانة والتحرز من أن توجد في مجتمع فيه شقاق. وعندما يصف الحق هؤلاء المشركين في يوم القيامة فهو يقول: {وَضَلَّ عَنْهُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3566 مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي غاب عنهم ما كانوا يكذبون ويدعون أنهم شركاء لله، والمشركون هم المؤاخذون والمحاسبون على اتخاذ الشركاء، فقد يكون بعضهم قد اتخذ شريكاً لله لا ذنب له في تلك المسألة، كاتخاذ بعضهم عيسى عليه السلام شريكاً لله. وعيسى عليه السلام منزه عن أن يشرك بالله أو يشرك نفسه في الألوهية. والحق قد قال: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 116] . بل إن الأصنام نفسها التي اتخذها المشركون أرباباً تقول: عبدونا ونحن أعبد الله من القائمين بالأسحار. إذن فالخطأ يكون ممن أشركوا بالله لا من الأحجار العابدة لله المسبحة له لأنها مسخرة وميسرة لما خلقت له. لقد تخيل أحد الشعراء حواراً دار بين غار ثور وغار حراء، يقول غار ثَوْر: كم حسدنا حراء حين ثوى الرو ... ح أميناً يغزوك بالأنوار وعندما أذن الحق بالهجرة اختبأ النبي بغار ثَوْر، فقالت بقية الأحجار: فحراءٌ وثورُ صَارا سواءً ... بهما أشفع لدولة الأحجار عبدونا ونحن أَعْبَدُ لِلّهِ ... من القائمين بالأسحار تخذوا صمتنا علينا دليلا ... فغدونا لهم وقود النار قد تَجَنّوْا جهلاً كما قد تجنَّ ... وْهُ على ابْنِ مريم والحواري للمُغالِي جزاؤُه والمغالي ... فيه تُنْجيه رحمةً الغفارِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3567 إذن، فها هي ذي الحجارة تقول: إنها بريئة من الشرك بالله وهي أعبد لله من القائمين بالأسحار، وصمت الحجارة الظاهر اتخذه البعض دليلاً على أن الحجارة رضيت بأن يعبدوها، لكن الحجارة تصير هي أحجار جهنم المعدة لمن كفر بالله، وكان التجني من العباد على الأحجار مثل التجني على عيسى ابن مريم. والذين غالوا في عبادة الأحجار أو البشر لهم عقاب، أما الأحجار والبشر الذين لا ذنب لهم في ذلك فهم طامعون في مغفرة الله ورحمته. إذن فالضلال هنا يكون ضلال الذين اتخذوا شريكاً لله. ولكن الشريك المُتَّخَذ لا يقال له: ضل إلا على معنى أنه غاب عنهم في يوم كان أملهم أن يكون معهم ليحميهم من عذاب الله. ويقول الحق بعد ذلك: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3568 إن من هؤلاء من يستمع إلى القرآن لا بهدف التفهم والهداية، ولكن بهدف تلمس أي سبيل للطعن في القرآن، فكأن قلوبهم مغلقة عن القدرة على الفهم وحسن الاستنباط وصولاً إلى الهداية، وهم يجادلون بهدف تأكيد كفرهم لا بنية صافية لاستبانة آفاق آيات الحق والوصول إلى الطريق القويم. ونعلم أن السورة كلها جاءت لتواجه قضية الأصنام والوثنية والشرك بالله، ونعلم أن المعجزة التي جاءت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي القرآن، وهو معجزة كلامية، تختلف عن المعجزات المرئية التي شاهدها المعاصرون لموسى عليه السلام: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3568 كشق البحر أو رؤية العصا وهي تصير حية تلقف كل ما ألقاه السحرة، أو معجزة عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص، فهذه كلها معجزات مرئية ومحددة بوقت، أما معجزة رسول الله فهي معجزة مسموعة ودائمة. إن السمع هو أول أدوات الإدراك للنفس البشرية. إنه أول آلة إدراك تنبه الإنسان، إنه آلة الإدراك الوحيدة التي تُستصحب وقت النوم وتؤدي مهمتها؛ لأن تصميمها يضم إمكانات مواصلة مهمتها وقت النوم. ونعلم أن الحق حينما أراد أن يقيم أهل الكهف مدة ثلاثمائة وتسع سنين ضرب على آذانهم حتى يكون نومهم سباتاً عميقاً، فهم في كهف في جبل، والجبل في صحارى تهب عليها الرياح والزوابع والأعاصير، فلو أن آذانهم على طبيعتها لما استراحوا في النوم الذي أراده الله لهم، ولذلك ضرب الله على آذانهم وقال سبحانه: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11] . ومعجزة رسول الله - إذن - جاءت سمعية وأيضاً يمكن قراءتها. وحين يتلقى الإنسان بلاغاً فهو يتلقاه بسمعه، ويستطيع من بعد ذلك أن يقرأ هذا البلاغ ويتفقه فيه، ولا أحد يعرف القراءة إلا إذا سمع أصوات الحروف أولاً ثم رآها من بعد ذلك، لقد تميزت معجزته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بسيد الأدلة في وسائل الإدراك الإنساني، وهو السمع، والحق يقول: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} . إن هناك فارقا بين «يسمع» و «يستمع» ، فالذي يسمع هو الذي يسمع عرضاً، أما الذي «يستمع» فهو الذي يسمع عمداً. والسامع دون عمد ليس له خياراً ألاّ يسمع، إلا إذا سد أذنيه. أما الذي يستمع فهو الذي يقصد السمع. وهم كانوا يستمعون للقرآن لا بغرض اكتشاف آفاق الهداية ولكن بغرض الإصرار على الكفر وذلك بقصد تصيد المطاعن على القرآن. ويقول الحق سبحانه: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} و «الأكنة» جمع «كنان» وهي الغطاء أو الغلاف. ويتابع الحق: {وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} أي جعلنا في آذانهم صمماً، كأنهم باختيارهم الكفر قد منعهم الله أن يفهموا القرآن، ونعلم أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3569 جميع المعاصرين لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد سمعوا لرسول الله ومنهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر. ونعرف أن لكل فعل مستقبلاً. ويمكن للمستقبل أن يؤمن وبذلك يكون الفعل قد أتى ثمرته، وقد يكون المُستقبل مصراً على موقفه السابق فلا يؤمن، وهنا يكون الفعل لم يؤت ثمرته، والفاعل واحد، لكن القابل مختلف. وكان بعض الكافرين يسمعون القرآن ثم يخرجون دون إيمان: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} [محمد: 16] . إنهم ككفار يستمعون للقرآن، ثم ينصرفون ليقولوا في استهزاء للمؤمنين الذين علموا وآمنوا: أي كلام هذا الذي يقوله محمد؟ هؤلاء المستهزئون هم الذين ختم الله على قلوبهم بالكفر، وانصرفوا عن الهداية إلى الضلال. والمتكلم بكلام الله هو رسول الله مبلغاً عن الله، والسامع مختلف؛ فهناك سامع مؤمن يتأثر بما يسمع، وهناك سامع كافر لا تستطيع أذنه أن تنقل الوعي والإدراك بما سمع. لكن القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء، أما الذين لا يؤمنون به فآذانهم تصم عن الفهم وأعماقهم بلا بصيرة فلذلك لا يفهمون عن الله، وتجد نفس المؤمن تستشرف لأن تعلم ماذا في القرآن. أما الذي يريد أن يكون جباراً في الأرض فهو لا يريد أن يلزم نفسه بالمنهج. وحتى نعرف الفارق بين هذين اللونين من البشر، نجد المؤمن ينظر إلى الكون ويتأمله فيدرك أن له صانعاً حكيماً، أما الكافر فبصيرته في عماء عن رؤية ذلك. وحين يستمع المؤمن إلى بلاغ من خالق الكون فهو يرهف السمع، أما الكافر فهو ينصرف عن ذلك. وكان صناديد قريش أمثال أبي جهل وأبي سفيان، والنضر بن الحارث، والوليد ابن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وحرب بن أمية، كل هؤلاء من صناديد قريس يجتمعون ويسأل الواحد منهم النضر قائلاً: يا نضر ما حكاية الكلام الذي يقوله محمد؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3570 وكان النضر راوية للقصص التي يجمعها من أنحاء البلاد، فهو قد سافر إلى بلاد فارس والروم وجاب الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، فقال: والله ما أدري ما يقول محمد إلا أنه أساطير الأولين. ويتجادل النضر وأبو سفيان وأبو جهل مع رسول الله، وهذا الجدال دليل عدم فهم لما جاء من آيات القرآن. ولم يجعل الله الوقر على آذانهم قهراً عنهم، بل بسبب كفرهم أولاً، فطبع الله على قلوبهم بكفرهم، واستقر مرض الكفر في قلوبهم وفضلوه على الإيمان فزادهم الله مرضاً، وقال فيهم الحق سبحانه: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [الأنعام: 25] . والأساطير هي جمع أسطورة، والأسطورة شيء يسطر ليتحدث به من العجائب والأحداث الوهمية. وكأن الحق سبحانه وتعالى يكشفهم أمام أنفسهم وهو يحاولون أن يجدوا ثغرة في القرآن فلا يجدون. وقال الله عنهم قولاً فصلاً: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . فهم يعلمون عظمة القرآن فكيف يقولون إنه أساطير الأولين؟ لقد كانوا من المعجبين بعظمة أسلوب القرآن الكريم فهم أمة بلاغة، ولكنهم يعلمون أن مطلوبات القرآن صعبة على أنفسهم. كما أنهم أرادوا أن يظلوا في السيادة والجبروت والقهر للغير، والقرآن إنما جاء ليساوي بين البشر جميعاً أمام الحق الواحد الأحد. لقد جاءت حوادث قسرية بإرادة الله لتكون سبباً للإيمان، مثلما حدث مع عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عندما علم أن أخته قد أسلمت فذهب إليها وضربها حتى أسال منها الدم. وإسالة الدم حركت فيه عاطفة الأخوة فأزالت صلف العناد، فأراد أن يقرأ الصحيفة التي بها بعض من آيات القرآن، وتلقى الأمر من أخته بأن يتطهر فتطهر وجلس يستمع، وبزوال صلفه وعناده وبتطهره صار ذهنه مستعداً لفهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3571 ما جاء بالقرآن، وذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأعلن إيمانه بالله ربا وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبرسالته الخاتمة. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3572 والكافر من هؤلاء إنما ينأى عن مطلوب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يريد أن يهتدي، ويمعن في طغيانه فينهى غيره عن الإيمان، فكأنه ارتكب جريمتين: جريمة كفره، وجريمة نهي غيره عن الإيمان. لقد كانت قريش على ثقة من أن الذي يسمع القرآن يهتدي به، لذلك أوصى بعضهم بعضاً ألا يسمعوا القرآن، وإن سمعوه فعليهم أن يحرفوا فيه أو أن يصنعوا ضجيجاً يحول بين السامع للقرآن وتدبره. {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] . إنهم واثقون من أن القرآن يقهرهم بالحجة ويفحمهم بالبينات، وأنهم لو استمعوا إليه لوجدوا فيه حلاوة وطلاوة تستل من قلوبهم الجحود والنكران. وكأنهم بذلك يشهدون أن للقرآن أثراً في الفطرة الطبيعية للإنسان، وهم أصحاب الملكة في البلاغة العربية. ومع ذلك ظل الكافرون على عنادهم بالرغم من عشقهم للأسلوب والبيان والأداء. ولم يكتفوا بضلال أنفسهم، بل أرادوا إضلال غيرهم، فكأنهم يحملون بذلك أوزارهم وأوزار من يضلونهم، ولم يؤثر ذلك على مجرى الدعوة ولا على البلاغ الإيماني من محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ ذلك أن الحق ينصره على الرغم من كل هذا؛ فهو سبحانه وتعالى القائل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3572 لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173] . وحين يقول الحق سبحانه: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26] . نعرف أن المقصود بذلك القول هم المعارضون لدعوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد عارضوها لأنها ستسلبهم سلطتهم الزمنية من علو، وجبروت، واستخدام للضعفاء. وذلك ما جعلهم يقفون من الدعوة موقف النكران لها والكفران بها. وما داموا قد وقفوا من الدعوة هذا الموقف، فلم يكن من حظهم الإيمان، ولأنهم نأوا وبعدوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد خسروا، أما غيرهم فلم ينأى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل إنه أوى إلى الله فآواه الله. إنّ هؤلاء الجاحدين المنكرين لدعوة رسول الله وقفوا أمام دعوته وصدوا الناس عنها ونهوهم عن اتباعها؛ لأن هذه الدعوة ستسلبهم سلطتهم الزمنية من علو وجبروت واستخدام الضعفاء وتسخيرهم في خدمتهم وبسط سلطاتهم عليهم. هذا - أولاً - هو الذي دفعهم إلى منع غيرهم ونهيهم عن اتباع الإسلام، ثم هم - ثانياً - ينأون ويبتعدون عن اتباع الرسول، - إذن - فمن مصلحتهم - أولاً - أن ينهوا غيرهم قبل أن ينأوا هم؛ لأنه لو آمن الناس برسول الله وبقوا هم وحدهم على الكفر أيستفيدون من هذه العملية؟ لا يستفيدون - إذن - فحرصهم - أولاً - كان على ألا يؤمن أحد برسول الله لتبقى لهم سلطتهم. وجاء الأداء القرآني معبراً عن أدق تفاصيل هذه الحالة فقال: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} فالبداية كانت نهي الآخرين عن الإيمان برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم بعد ذلك ابتعادهم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فصار حظهم أن يظلوا على كفرهم فكان الخسران من نصبيهم، بينما آمن غيرهم من الناس. وهكذا نرى أن الأداء القرآني جاء معبراً دائماً عن الحالة النفسية أصدق تعبير، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3573 فقول الحق: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قول منطقي يعبر عن موقف المعارضين لرسول الله أما قوله الحق: {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} فهذا تصوير لما فعلوه في أنفسهم بعد أن منعوا غيرهم من اتباع الدعوة المحمدية والرسالة الخاتمى. فهم بذلك ارتكبوا ذنبين: الأول: إضلال الغير، والثاني: ضلال نفوسهم. وبذلك ينطبق عليهم قول الحق سبحانه: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} [النحل: 25] . ولا يقولن أحد: إن هذه الآية تناقض قول الحق سبحانه: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الإسراء: 15] . ذلك لأن الوزريْن: وزرهم، ووزر إضلالهم لغيرهم من فعلهم. ويتابع الحق: {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} ونرى أن الذي يقف أمام دعوة الحق والخير لينكرها ويبطلها ويعارضها ويحاربها إنما يقصد من ذلك خير نفسه وكسب الدنيا وأخذها لجانبه، ولكنهم أيضاً لن يصلوا إلى ذلك، لماذا؟ لأن الله غالب على أمره: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173] . والحق سبحانه وتعالى لا يهزم جندَه أبداً، ولا بد أن يهلك أعداء دعوته بسبب كفرهم وصدهم عن سبيل الله فهم في الحقيقة هم الذين يهلكون أنفسهم بأنفسهم. وسيظل أمر الدعوة الإيمانية الإسلامية في صعود. وسيرون أرض الكفر تنتقص من حولهم يوماً بعد يوم. ولذلك يقول الحق في آية أخرى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3574 أي أن أرض الكفر تنقص وتنقص والله يحكم لا معقب لحكمه، ولذلك يشرح القرآن في آخر ترتيبه النزولي هذه القضية شرحاً وافياً. ويعلمنا أن نقطع كل علاقة لنا مع الكافرين، فيقول سبحانه: {قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 2 - 5] . وهكذا نرى أن قطع العلاقات أمر مطلوب بين فريقين: فريق يرى أنه على حق، وفريق ثانٍ أنه على باطل، وقد يكون قطع العلاقات أمراً موقوتاً. وقد تضغط الظروف والأحداث إلى أن نعيد العلاقات الدنيوية ثانية، ولكن قطع العلاقات لا بد أن يكون مؤيداً في شأن العقيدة ولا مداهنة في هذا، ولذلك قالها الحق مرتين: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 1 - 5] . فالمؤمن يرى الحاضر والمستقبل، ويعلم استحالة أن يعبد ما يعبده الكافرون، واستحالة أن يعبد الكافرون ما يعبد. وقد يقول قائل: إن القرآن في ترتيبه النزولي لا بد ألا يتعارض مع واقعه، ولكننا نرى في قوله تعالى: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} وكررها مرتين، إنه بذلك يكون قد أغلق الباب أمام الكافرين فلا يؤمنون مع أن بعضهم قد دخل في دين الله. نقول: نعم إنه لا يتعارض؛ لأن الحق لم يغلق الباب أمام الكافرين الذين أراد الله أن يؤمنوا، بدليل أنه قال جل وعلا: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 1 - 3] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3575 إذن فالمسألة لن تجمد عند ذلك؛ فمعسكر الإيمان سيتوسع، وسيواجه معسكر الكافرين وسيدخل الناس في دين الله أفواجاً. ولكن هناك من قضى الله عليهم ألا يؤمنوا ليظلوا على كفرهم ويدخلوا النار، فقال سبحانه من بعد ذلك: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1 - 5] . إذن فأبو لهب ومن على شاكلته سيدخل النار ولن يدخل في دين الله أبداً. ويجيء قول الحق: {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً} [النصر: 2] . هذا القول يفتح باب الأمل، ونرى دخول عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل إلى الإسلام. ومجيء سورة المسد من بعد سورة النصر في الترتيب المصحفي كما أراد الله، يعلمنا أن هناك أناساً لن يدخلوا الجنة لأنهم مثل أبي لهب وزوجه. وتأتي من بعدها سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] . إنه لا إله مع الله ينقض ما حكم به الله، ولن يعقب أحد على حكم الله. إذن فمن كفر وأشرك بالله يكون من الذين خسروا أنفسهم وأهلكوها وما يشعرون. ومن بعد ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3576 {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3577 عندما ننظر إلى قول الحق: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} ، هنا لا نجد جواباً، مثل ما تجده في قولك: لو رأيت فلاناً لرحبت به أو لو رأيت فلاناً لعاقبته. إن في كلٍّ من هاتين الجملتين جواباً، لكن في هذا القول الكريم لا نجد جواباً، وهذا من عظمة الأداء القرآني، فهناك أحداث لا تقوى العبارات على أدائها، ولذلك يحذفها الحق سبحانه وتعالى ليذهب كل سامع في المعنى مذاهبه التي يراها. وفي حياتنا نجد مجرماً في بلد من البلاد يستشري فساده وإجرامه في سكانها تقتيلاً وتعذيباً وسرقة واعتداءات، ولا أحد يقدر عليه أبداً، ثم يمكن الله لرجال الأمن أن يقبضوا عليه، فنرى هذا القاتل المفسد يتحول من بعد الجبروت إلى جبان رعديد يكاد يقبل يد الشرطي حتى لا يضع القيود في يديه. ويرى إنسان ذلك المشهد فيصفه للآخرين قائلاً: آه لو رأيتم لحظة قبضت الشرطة على هذا المجرم، وهذه العبارة تؤدي كل معاني الذلة التي يتخيلها السامع، إذن فحذف الجواب دائماً ترتيب لفائدة الجواب، ليذهب كل سامع في تصور الذلة إلى ما يذهب. لأن المشاهد لو شاء لحكى ما حدث بالتفصيل لحظة القبض على المجرم وبذلك يكون قد حدد الذلة والمهانة في إطار ما رأى هو، ويحجب بذلك تخيّل وتصوّر السامعين. أما اكتفاء المشاهد بقوله: آه لو رأيتم لحظة قبض الشرطي على هذا المجرم. . فهذا القول يعمم ما يُرى حتى يتصور كل سامع من صور الإذلال ما يناسب قدرة خياله على التصور. وهكذا أراد القرآن أن يصور هول الوقوف على النار فأطلق الحق «لو» بلا جواب حين قال: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الأنعام: 27] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3577 وقد أراد البعض أن يتصيد لأساليب القرآن، ومنهم من قال: كيف تقولون إن القرآن عالي البيان، فصيح الأسلوب، معجزة الأداء، وهو يقول ما يقول عن شجرة الزقوم؟ إن القرآن الكريم يقول عن هذه الشجرة: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 62 - 65] . إن كل شجرة تحتاج إلى ماء وهواء، وفيها حياة تظهر باخضرار الأوراق، فكيف تخرج هذه الشجرة من النار، أليس في ذلك شذوذ؟ ثم تتمادى الصورة. . صورة الشجرة، فيصف الحق ثمارها بقوله الحق: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} [الصافات: 65 - 66] . نحن لم نر شجرة الزقوم، ولم نر رأس الشيطان. ويَسْخَرُ الذين يتصيدون للقرآن في أقوالهم: بما أن أحداً من البشر لم يشهد رأس الشيطان، وكذلك شجرة الزقوم، فكيف يشبه الله المجهول بمجهول، وتساءلوا بطنطنة: ماذا يستفيد السامع من تشبيه مجهول بمجهول؟ ونقول رداً عليهم: إن غباء قلوبكم وفقدان طبعكم لملكة اللغة العربية هو الذي يجعلكم لا تفهمون ما في هذا القول من بلاغة. وحين نقرب المثل نقول: هب أن إنساناً أقام مسابقة بين رسامي «الكاريكاتير» في العالم ليرسم كل منهم صورة للشيطان، ويوم تحديد الفائز ستوجد أكثر من صورة للشيطان، وستفوز أكثر الصور بشاعة، ذلك أن الفوز هنا ليس في الجمال، ولكن الفوز هما في مهارة تصوير القبح. وهكذا تتعدد أمامنا صور القبح، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وقد أراد إطلاق الخيال لتصور شجرة الزقوم، وكذلك تصور رأس الشيطان؟ أراد الحق بهذا الأسلوب البليغ إشاعة الفائدة من إظهار بشاعة صورة الشجرة التي يأكل منها أهل الكفر. وكذلك هنا قوله الحق: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} والذي يحدث لهؤلاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3578 الوقوف على النار لا يأتي خبره هنا، بل يكتفي الحق بأن يعبر لنا عن أننا نراهم في مثل هذا الموقف؛ لأن اليوم الاخر هو يوم الجزآء؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار. والجنة - كما نعلم من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ونعلم أن رؤية العين محدودة، ورقعة السمع أكثر اتساعاً، ذلك أن الأذن تسمع ما تراه أنت وما رآه غيرك، لكن عينيك لا تريان إلا ما رأيته أنت بمفردك، ولا يكتفي الحق بذلك بل يخبر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن في الجنة ما لا يخطر على قلب بشر، أي أن في الجنة أشياء لا تستطيع اللغة أن تعبر عنها؛ لأن اللغة تعبر عن متصورات الناس في الأشياء. والمعنى يوجد أولاً ثم يوجد اللفظ المعبر عنه. وهكذا نعلم أن ما في الجنة من نعيم لا توجد ألفاظ تؤدي كل ما تحمله للمؤمن من معان، وكذلك نعلم أيضاً أن في النار عذاباً لم توضع له ألفاظ لتعبر عنه. ولو أن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} لرأينا أمراً مفزعاً مخيفاً مذلاً إلى آخر تلك الألفاظ الدالة على عمق العذاب لما أعطي ذلك الأثر نفسه الذي جاء به حذف الجواب. وعندما نقرأ «وُقِفوا» نعرف أن فيه بناء وكيانا موجوداً، وأن هناك من أوقفهم على النار، وهم كانوا مكذبين في الدنيا بالنار، ثم وجدوا أنفسهم يوم القيامة ضمن من وقفهم الله على النار ليروا العذاب الذي ينتظرهم، ويطلعوا على النار اطلاع الواقف على الشيء، كذلك يوقفهم الحق على النار التي أنكروها في الدنيا؛ فقد جاءهم الخبر في الدنيا، فمن صدق وعلم أن من أخبره صادق، فذلك علم يقين، وإن تجاوز الإنسان مرحلة العلم ورأى صورة محسة للخبر، فهذا عين يقين، والمؤمن بإخبار ربه وصل إلى الأشياء بعلم اليقين من الله، لأنه يصدق ربه، ولذلك فالإمام علي - كرم الله وجهه - يقول: «لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقيناً» ؛ لأنه مصدق بلاغى به. لكن ماذا عن المكذبين؟ إن الإنسان يرى علم اليقين في اليوم الآخر وهو عين يقين، ويشترك في ذلك المؤمن والكافر. ولكن الكافر يرى النار عين اليقين ويدخلها ليحترق بها فيحس بها وهذا هو «حق اليقين» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3579 هكذا نعلم أن النار «عين اليقين» يراها المؤمن والكافر، والنار ك «حق اليقين» يعانيها ويعذب بها الكافر فقط، أما المؤمن في الجنة فيحس «حق اليقين» لأنه يعيش ويسعد بنعيمها. ويصور سبحانه ذلك في قوله: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 5 - 7] . وجاء حق اليقين في قوله تعالى: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 88 - 95] . وماذا يصنعون وهم المكذبون عندما يرون النار عين اليقين؟ لا بد أنهم يخافون أن يعانوا منها عندما تصبح حق اليقين، لذلك يقولون: {ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الأنعام: 27] . إنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ليستأنفوا الإيمان. والتمني في بعض صوره هو طلب المستحيل غير الممكن للإشعار بأن طالبه يحب أن يكون، كقول القائل: ألا ليت الشباب يعود يوماً ... فأخبره بما فعل المشيب أو قول القائل: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدحٍ فما أرضى لكم كلمى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3580 وهم قالوا: {ياليتنا نُرَدُّ} فإن كانوا قالوا هذا تمنياً فهو طلب مستحيل ويتضمن أيضاً وعداً بعد التكذيب بآيات الله، فهل هم قادرون على ذلك؟ لا؛ لأن القرآن الكريم قد قال في الآية التالية: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3581 إنهم يطلبون العودة إلى الدنيا لا لينفذوا الوعد في طلبهم المستحيل؛ لأنهم سيفعلون مثلما فعلوا من قبل، كفراً ونكراناً وجحوداً. إنهم لجأوا إلى هذا القول من فرط الخوف مما أعده الله لهم. بعد أن ظهر لهم كل ما كانوا يفعلونه في الدنيا من كفر وجحود. ويقال عن يوم القيامة «يوم الفاضحة» ؛ لأن كل إنسان سيجد كتابه في عنقه، ويقال له: {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14] . فإذا كنا في الدنيا نسجل الأحداث بالصوت والصورة فما بالنا بتسجيل الحق لنا؟ ويرى الإنسان مَكْرَه يوم القيامة بالصوت والصورة، وكل فعل فعله سيراه بطريقة لا يمكن معها أن ينكره، وكأن الحق يوضح لكل عبد: أنا لن أحاسبك بل سأترك لك أن تحاسب نفسك. ويفاجأ الإنسان أن جوارحه تنطق لتشهد عليه: الأيدي تنطق بما فعل، واللسان ينطق بما قال، والقدم تحكي إلى أين ذهب بها صاحبها، فهذه الجوارح التي كانت تنفعل لمراد صاحبها في الدنيا، يختلف موقفها في الآخرة ولا تنفذ في اليوم الآخر مراد الإنسان بل مراد من أعطى الإنسان المراد. {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . مثال ذلك - ولله المثل الأعلى - نجد السرية أو الكتيبة المقاتلة لها قائد يحكم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3581 الجنود، فإن أعطاهم أوامر خاطئة فهم ينفذونها، وبعد انتهاء المعركة يسألهم القائد الأعلى، فيقولون سلسلة الأوامر الخاطئة التي أصدرها قائدهم المباشر. فإياك أن تظن أيها الإنسان أن أبعاضك مؤتمرة بقدرتك عليها دائما، إن سيطرتك عليها أمر منحك الله إياه، ويسلبه منك متى شاء في الدنيا. ويأتي يوم القيامة لتنتهي سيطرتك على الأبعاض. وأنت ترى في الدنيا بعضاً من صور سلب السيطرة على الأبعاض لتتذكر قدرة الواهب الأعلى؛ فأنت ترى من لا يرى، وترى من فقد السيطرة على جارحة أو أكثر من جوارحه، وذلك تنبيه من الله على أن سيطرة الإنسان على الجوارح إنما هي أمر موهوب من الله. وقول الحق سبحانه عن الكافرين: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} يفضح تدليسهم في الحياة الدنيا، ثم يجيب الله على تمنيهم السابق المليء بالذلة والمسكنة، التمني بالعودة إلى الدنيا، فيقول سبحانه: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . فهم كاذبون في الوعد بأن يؤمنوا لو عادوا إلى الدنيا، يوضح ذلك قول الحق سبحانه: {وقالوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3582 إنهم لم يأخذوا في أثناء حياتهم الإيمان كإيمان استدلال بكوْن منظم مرتب محكم التكوين، إنهم لم يلتفتوا إلى أن هذا النظام أو الإحكام والترتيب موجود في علاقات البشر بعضهم ببعض سواء أكانوا مؤمنين أم ملاحدة، ونعلم أن هناك صفات يشترك في كراهتها كل الناس مؤمنهم وملحدهم؛ فالملحد إن سرق من زميله، ألا يعاقب؟ إنه يتلقى العقاب من مجتمعه، وفي كل المجتمعات هناك ثواب وعقاب، بل هناك جزاء بإحسان. والإيمان لا يمنع أن يصطلح الناس على شيء من الإحسان، والمحرومون من الإيمان تلجئهم الأحداث أن يضعوا القانون لينظموا الثواب والعقاب. إننا نجد أن تجريم المخالف للخير والجمال وإصلاح الكون هو أمر فطري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3582 وضروري للإنسان؛ فهم يجرمون أفعال السوء بعد أن تعضهم الأحداث ولا يلتفتون إلى أن المنهج السماوي جاء بالثواب والعقاب على كل فعل يحمي كرامة الإنسان. ويوم القيامة يقفون في صَغار وفي اضطرار ليروا ما فعلوا: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] . فهم لو رُدُّوا إلى الدنيا بما كان لهم فيها من اختيار فسيفعلون مثلما فعلوا، ولم يقولوا مثل هذا القول في اليوم الآخر إلا أنهم مقهورون. وكانوا من قبل يقولون: {وقالوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29] . ففي دنياهم كانوا لا يؤمنون إلا بحياة واحدة هي الدنيا. ولم يلتفتوا إلى أن الإنسان يحيا في الدنيا على قدر قوته، وويل للضعيف من القوي. والقوي إنما يخاف من قانون يعاقبه، أو يخاف من إله سيعاقبه على الذنب مهما أخفاه، ولذلك نجد القاضي المؤمن يقول دائماً: لئن عمَّيتم على قضاء الأرض، فلا تعمّوا على قضاء السماء. ومن غباء أهل الكفر أنهم يسمون الحياة على الأرض «الحياة الدنيا» وهي في حقيقتها دنيا، وما داموا قد حكموا وعرفوا أنها «دنيا» فلا بد أن يقابلها حياة عليا. إنّ كل ذلك يحدث لهم عندما يقفون على النار، والنار جند من جنود الجبار، فما بالك بهم حين يقفون أمام خالق النار ورب العالمين؟ ويقول الحق سبحانه: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3583 هم - إذن - قد خافوا وارتبكوا وطلبوا العودة للحياة الدنيا؛ لأن ما شاهدوه هول كبير، فما بالك إذا وقفوا على الله؟ إنه موقف مرعب. وإذا كان الحق قد حذف من قبل الجواب عندما أوقفهم على النار؛ فالأولى هنا أن يحذف الجواب، حتى يترك للخيال أن يذهب مذاهب شتى. . إنه ارتقاء في الهول. وهكذا نرى التبكيت لهم في قول الحق: {أَلَيْسَ هذا بالحق} إنهم يفاجأون بوجود إله يقول لهم بعد أن يشهدوا البعث ويقفوا على النار: {أَلَيْسَ هذا بالحق} ؟ وسبحانه وتعالى لا يستفهم منهم ولكنه يقرر، وقد شاء أن يكون الإقرار منهم، فيقولون: «بلى» لأن الأمر لا يحتاج - إذن - إلى مكابرة. و «بلى» حرف يجعل النفي إثباتاً. ويطرح الحق هذه المسألة بالنفي حتى لا يظن ظان أن هناك تلقيناً للجواب. ويصدر حكم الحق: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} وهكذا يذوقون العذاب الذي كانوا به يكذبون. وذوْق العذاب ليس من صفة القهر والجبروت؛ لأن الله لا يظلم مثقال ذرة، ولكن بسبب أنهم قدموا ما يوجب أن يعذبوا عليه. ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3584 إن كل رأس مال يحتاج إلى عمل يزيده، لكن أن يكون العمل قد أضاع المال، فهذا يعني الخسارة مرتين: مرة لأن رأس المال لم يبق عند حده بل إنه قد فنى وذهب وضاع، وثانية لأن هناك جهداً من الإنسان قد ضاع وأضاع معه رأس المال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3584 إذن فقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله؛ لأنهم باعوا الآجل الطويل العمر بالعاجل القصير العمر. وكل إنسان منا يريد أن يثمّر عمله ويحاول أن يعطي قليلاً ليأخذ كثيراً. وعلى سبيل المثال نجد الفلاح يقتطع مقدار كيلتين من أرادب القمح التي في مخزنه ليبذرها في الأرض بعد أن تُحرث. وهذا يعني النقص القليل في مخزن هذا الفلاح، ولكنه نقص لزيادة قادمة؛ فعندما وضع البذور في الأرض المحروثة نجد الحق سبحانه وتعالى ينبتها له أضعافاً مضاعفة. والفلاح بذلك يبيع العاجل القليل من أجل أن يأخذ الآجل الكبير. وهذه أصول حركة العاقل الذي يزن خطواته، فإن أراد أن يزيد الثمار من حركته، فعليه أن يبذل الجهد. أما إن كانت الحركة لا تأتي له إلا بالقليل فلن يتحرك. ولأن العاقل لا يحب الخسارة نجده يوازن دائماً ويقارن بين ما يبذله من جهد والعائد الذي سيأتي إليه. أما الذين كفروا بلقاء الله فهم قد خسروا أنفسهم، لأنهم لم يوازنوا بين حياتين: حياة مظنونة، وحياة متيقنة؛ لأن مدة حياتنا الدنيا مظنونة غير متيقنة. إننا لا نعرف كم ستحيا فيها؛ فمتوسط عمر الإنسان على الأرض هو سبعون عاماً على سبيل المثال، ولكن أحداً لا يعرف كم عمره في الدنيا بالضبط، وله أجل محدود. إنه فان وذاهب وميّت، ولكن حياة الآخرة متيقنة لا أجل لها، إنها دائمة، ونعلم أن نعيم الدنيا بالنسبة للإنسان هو على قدر الأسباب الموجودة لديه، أما نعيم الآخرة فهو على قدر طلاقة قدره المسبب وهو الله، وعلى هذا تكون خسارة الذين كفروا كبيرة وفادحة ودامية؛ لأنهم لم يتاجروا مع الله. {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31] . ونعلم أن «حتى» هي جسر بين أمرين؛ فالأمر الذي نريد أن نصل إليه هو غاية، كقول إنسان ما: «سرت حتى وصلت المنزل» ، والمنزل هنا هو غاية السير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3585 والذين كفروا، كان كفرهم وتكذيبهم موصلاً إلى الخسران، فمجيء الساعة بغتة ليس هو نهاية المطاف، ولكنه وصول إلى أول الخسران؛ لأن خسرانهم لا ينتهي من فور مجيء الساعة، ولكنه يبدأ لحظة مفاجأة الساعة لهم. فهم يفاجأون بوقوع ما كانوا يكذبون به. ويعلمون جيداً أن ما صنعوه في الدنيا لا يستوجب إلا العذاب. وهنا تبدأ الحسرة التي لا يقدرون على كتمانها، ولذلك يقولون: {ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} . . أي على تفريطنا وإسرافنا في أمرنا وذلك في أثناء وجودنا في الدنيا. وبذلك نعرف أن عدم التفريط في الدنيا والأخذ بالأسباب فيها أمر غير مذموم، ولكن التفريط في أثناء الحياة الدنيا هو الأمر المذموم؛ لأنه إضاعة للوقت وإفساد في الأرض. إنني أقول ذلك حتى لا يفهم أحد أن الاستمتاع في الدنيا أمر مذموم في حد ذاته، وحتى لا يفهم أحد أن الآخرة هي موضوع الدين؛ لأن الدنيا هي موضوع الدين أيضاً، والجزاء في الآخرة إنما يكون على ألوان السلوك المختلفة في الدنيا؛ فمن يحسن السلوك في الدنيا ينال ثواب الآخرة ومن يسيء ينال عقاب الآخرة. ولذلك لا يصح على الإطلاق أن نقارن الدين بالدنيا. إن علينا أن نعلم خطأ الذين يقولون: «دين ودنيا» فالدين ليس مقابلاً للدنيا. بل الدنيا هي موضوع الدين. أقول ذلك رداً على من يظنون أن سبب ارتقاء بعض البلاد في زماننا هو أن أصحابها أهملوا الدين وفتنوا بما في الدنيا من لذة ومتعة فعملوا على بناء الحضارات. نقول: إن الإقبال على الدين بروح من الفهم هو الذي يبني الحضارات ويُثاب المصلح في الدنيا يوم الجزاء، ولنا أن نعرف أن المقابل للدنيا هو الآخرة، والدين يشملهما معاً؛ يشمل الدنيا موضوعاً، والآخرة جزاءً. والذين يفتنون بالدنيا ولا يؤمنون بالآخرة هم الذين يقولون يوم القيامة: {ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} . والأوزار المعنوية في الدنيا - وهي الذنوب - ستتجسم بحسيات وذلك حتى تكون الفضيحة علنية؛ فمن سرق غنمه يُبعث يوم القيامة وهو يحملها على ظهره، ومن سرق بقرة يُبعث يوم القيامة وهو يحملها على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3586 كتفه وهي تخور، وكذلك من سرق طنا من حديد عمارة سيُبعث يوم القيامة وهو يحمله على ظهره، وكذلك يفضحه الله يوم القيامة. وهذا يكون موقف أهل النار؛ لذلك يقول: {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} ونعلم أنهم لا يحملون أوزاراً فقط بل يحملون من أوزار الذين اتخذهم قدوة له، فهذا وزر الإضلال ويعرفون - جميعاً أن حمل الوزر يتجسد في الإحساس بعبئه؛ فقد قادتهم هذه الأوزار إلى الجحيم، ونعلم أن نتيجة كل عمل هي الهدف منه، فمن عمل صالحاً سيجد صلاح عمله، ومن أساء فسيجد عمله السيء. إننا نرى الأمثلة العملية لذلك في حياتنا اليومية؛ فهذان شقيقان يعملان بالزراعة، وكل منهما يملك فدانين من الأرض مثلاً: الأول منهما يقوم مع طلوع الفجر ليعتني بأرضه ويحرثها ويحمل إليها السباخ ويعتني بمواقيت الري ويسعى إلى يوم الحصاد بجد واهتمام. والاخر يسهر الليل أمام شاشة التليفزيون، ولا يقوم من النوم إلا في منتصف النهار، ولا يخدم أرضه إلا بأقل القليل من الجهد. ثم يأتي يوم الحصاد فينال الأول ناتج تعبه من محصول وفير، وينال الآخر محصولاً قليلاً بالإضافة إلى الحسرة التي يتجرعها بسبب إهماله وكسله. إذن فالعاقل هو من يدرس ما تعطيه حركته في الحياة. ويختار نوعية الحركة في الحياة بما يضمن له سعادة الدنيا والآخرة، واطمئنان النفس في الدنيا والآخرة. إن من ينام ولا يذهب إلى عمله هو إنسان يحب نفسه، ومن قام في بكرة الفجر إلى عمله يحب نفسه أيضاً، ولكنّ هناك فارقاً بين حب أحمق عقباه الندم، وحب أعمق لمعنى الحياة وعقباه الجزاء الوافر. والحق سبحانه وتعالى يقول لنا: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3587 هكذا تكون الحياة بالنسبة لمن يقف عند وصفها على أساس أنها «الحياة الدنيا» إنها لا تزيد على كونها لهواً ولعباً. واللعب - كما نعلم - هو مزاولة حدث ونقضه في آن واحد، والمثال على ذلك الطفل على شاطئ البحر قد يقيم بيتاً من الرمال ثم يهدمه، إنه لم يقم ببناء بيت من الرمال إلا ليهدمه. واللعب عملية يُقصد بها قتل وقت في عمل قد يُنقض، فالبناء والنقض في هذه الحالة لعب ولا يشغل اللعبُ الإنسان عن الواجب. أما اللهو فهو قتل الوقت في عمل قد ينقض ويشغل الإنسان عن الواجب أيضاً. والطفل الصغير - على سبيل المثال - يتلقى من والديه بعض اللعب ليقضي وقته معها وقد يخربها ويهدمها وقد يعيد بناءها. ولعب الطفل هو لهو في الوقت نفسه؛ لأن الطفل غير مكلف بواجب. وما أن يدخل إلى المدرسة وتصير له بعض من المسئوليات نجد الأسرة تعلمه أن يفرق بين وقت أداء مسئولياته ووقت اللعب؛ لأنه إن لعب في وقت أداء المسئوليات صار لعبه لهواً؛ لأنه شَغَله عن أداء مسئولية مطلوبة منه. وكذلك الحياة الدنيا مجردة من منهج الله الذي خلقها وخلق الإنسان فيها هي لهو ولعب، إما إن أخذ الإنسان الحياة بمواصفات من خلقها فهي حياة منتجة للخير في الدنيا وفي الآخرة. والذي خق الحياة الدنيا جعلها بالنسبة لنا مزرعة للأخرة. والمؤمن - إذن - له حياتان: حياة صلاح في الدنيا، وحياة نعيم في الآخرة؛ لأنه يعيش الحياة الدنيا على مراد من خلقه. ومن العجيب أن من خلقنا لم يكلفنا إلا بعد أن يصل الإنسان منا إلى البلوغ، أي أن يكون الإنسان صالحاً لإنجاب إنسان مثله إن تزوج. ويأتي التكليف متناسباً مع النضج وعند تمام العقل. وسمح الحق لنا أن نلعب في سنوات ما قبل النضج، ولكن لا بد أن يكون مثل هذا اللعب تحت إشراف من الكبار حتى يمكن للعب أن يتحول إلى دُرْبة تفيدنا في مجالات الحياة، ويجلعنا نعرف كيف وصلنا في العصر الحديث إلى درجة من التقدم في صناعة اللعب التي يتعلم منها الطفل، ويمكن أن يقوم بتفكيكها وإعادة تركيبها، وحتى الكبار نجدهم في زماننا يتعلمون قيادة السيارات في حجرات مغلقة وأمامهم شاشة تليفزيون، وكأنهم في طريق حقيقي وفي شارع مزدحم بالسيارات، ومن يتقن هذا التدريب العملي يخرج إلى قيادة السيارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3588 وهكذا نجد أن التدريب مفيد للإنسان، يعلم الصغار اللعب الذي ينفعهم عندما يكبرون، وكذلك يفيد التدريب الكبار أيضاً. وعندما أوصانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن نعلم أبناءنا ركوب الخيل والسباحة والرماية، كانت الخيل - في زمن الرسالة - هي إحدى الأسلحة المهمة ليركبها الداعون إلى الله المجاهدون في سبيله. وحين طلب منا أن نعلم الأبناء السباحة فهذا بناء للجسم والقوة يفيد الشاب ويعلمه مواجهة الصعاب، وحين طلب منا أن نعلم الأبناء الرماية فذلك لأن تحديد الهدف مادياً أو معنوياً ومعرفة الوصول إليه أمر مطلوب من كل شاب. وكل هذه ألعاب ولكنها ليست لهواً، إنها ألعاب ممتعة ويمكن أن تستمر مع الإنسان بعد أن يكلف. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «علموا أبناءكم السباحة والرماية» . فماذا عن ألعاب عصرنا وزماننا؟ إننا نجد أن لعبة كرة القدم قد أخذت اهتمام الرجال والنساء والكبار والصغار، وهي لعبة لا تعلم أحداً شيئاً، لأنها لعبة لذات اللعب، وهي لعبة تعتدي على وقت معظم الناس، وأخذت تلك اللعبة كل قوانين الأمور الجادّة. فهي تبدأ في زمان محدد، ويذهب المشاهدون إليها قبل الموعد بساعتين، وتجند لها الدولة من قوات الأمن أعداداً كافية للمحافظة على النظام مع أنها من اللهو ولا فائدة منها للمشاهد. وقد تمنع وتحول وتُعَطِّل البعض عن عمله والبعض الآخر عن صلاته. يحدث كل ذلك بينما نجد أن بعضاً من ميادين الجد بلا قانون. وأقول ذلك حتى يُفيق الناس ويعرفوا أن هذه اللعبة لن تفيدهم في شيء ما. وأقول هذا الرأي وأطلب من كل رب أسرة أن يُحكم السيطرة على أهله، وينصحهم بهدوء ووعي حتى ينتبه كل فرد في الأسرة إلى مسئولياته ولنعرف أنها لون من اللهو، ونأخذ الكثير من وقت العمل وواجبات ومسئوليات الحياة، حتى لا نشكو ونتعب من قلة الإنتاج. إن على الدولة أن تلتفت إلى مثل هذه المسائل، ولنأخذ كل أمر بقدره، فلا يصح أن ننقل الجد إلى قوانين اللعب، ولكن ليكن للجد قانونه، وللعب وقته وألا ننقل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3589 اللعب إلى دائرة اللهو؛ لأن معنى اللهو هو أن ننصرف إلى عمل لا هدف له ولا فائدة منه. وإن نظرنا إلى الحياة مجردة من منهج الله فهي لعب ولهو. ونلتفت هنا إلى دقة الحق حين جاء باللعب أولاً ثم اللهو من بعد ذلك، ثم يقول: {وَلَلدَّارُ الآخرة} وفي هذا لفت واضح إلى أن الإنسان حين ينعزل عن منهج الحق في الحياة تفاجئه الأحداث بالانتقال المفاجيء إلى جد واضح؛ لذلك فلنأخذ الحياة في ضوء منهج الله؛ لأنه سبحانه حين أبلغنا أنه خلق الإنسان من طين، وصوره ونفخ فيه من روحه فقد أعطاه الحق بذلك حياة أولى، يشترك فيها المؤمن والكافر، والطائع والعاصي وكل إنسان إلى الغاية منها وهي الحياة الثانية وهي الدار الآخرة فإنها الحياة الكاملة الباقية، ونسمع قول الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . إن الحق سبحانه وتعالى يقدم لنا حياة عالية دائمة تخلف الحياة التي تنتهي. والذي يتوقف عن أخذ منهج الله في حياته يكتفي بمثل ما يَأخذ الحيوان من الحياة وهي النفخ في الروح، لكن الذي يأخذ بمنهج الله يأخذ الحياة العالية. . حياة الخير والجمال والإصْلاح والإحسان. ونعلم أن الجمال في الحياة هو الجمال الذي لا يورث قبحاً. والخير الحقيقي هو الذي يعمم خير الله على العباد، فلا يأخذ الإنسان الخير لنفسه ويترك شروره للآخرين؛ لذلك أقول: لا تأخذ أيها المسلم الخير لنفسك على حساب الشر للآخرين؛ لأنك لا تحب أن يحقق الآخرون الخير على حسابك، والذي يحب أن ينطلق بشروره في الناس فليستقبل الشر من غيره. ومن يحب أن يأخذ الخير من الناس فليعطهم من خيره حتى يبقى الوجود جميلاً. إذن فالحياة بدون منهج الله تكون قبيحة؛ لأن القوي يعيث فيها فساداً بقوته وينزوي الضعيف إلى الإحساس بالذلة والضياع. لكن الحق سبحانه أراد الحياة للمؤمنين في ضوء منهجه، وعندما يطبقون تكاليفه ب «افعل» و «لا تفعل» فهم يصونون الحياة من الفساد حسب أوامر الخالق الأعلى للحياة، فهو سبحانه الذي أوجدنا ووضع لنا قوانين صيانة الحياة. وحين منع مؤمنا واحداً من الشر، فهو قد منع وحرم على كل إنسان مؤمن من أن يصنع شراً لأخيه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3590 وبذلك حمى الإنسان من الشر. وإنما خص الله المؤمنين بالنداء والدعاء؛ لأنهم أهل الاستجابة والطاعة؛ أما ما عداهم من أهل الكفر والشرك فقد تأبوا على الله وعصوه ولم يؤمنوا به. وحين يأمر الله المؤمن بالخير، فهو يأمر المؤمنين جميعاً بأن يصنعوا الخير لهم ولغيرهم. وبذلك يكسبون حياة مطمئنة؛ لذلك يقول سبحانه: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} . فالذين لا يستجيبون لله ولا لرسوله حين يدعوهم لما يحييهم يظلون في الحياة الدنيا غارقين في اللهو واللعب، إنهم كالموتى. وحتى نعرف أن الحق سبحانه أراد لنا - نحن المؤمنين - الحياة العالية؛ إنه - سبحانه - قد سمى المنهج الذي يرسم لنا الأوامر والنواهي بالروح: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} . وسمى الحق سبحانه وتعالى بهذا المَلكَ الذي نزل بالوحي: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] . إذن فالحياة التي تعطي الإنسان الحس والحركة هي الحياة الأولى التي يلعب ويلهو من خلالها، وليست هي الحياة المرادة لله؛ لأن الحياة المرادة لله هي الحياة الإيمانية ولذلك سماها الحق سبحانه الحيوان أي الحياة الكاملة وسمى المنهج روحاً. {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32] . إن مجرد التعقل يعطي الإنسان الخير، والتعقل هو محاولة فهم نواميس الكون من الأسباب والمسببات، ونحن نرى نور الشمس يعمّ النهار ويشيع الضوء والدفء، وغياب الشمس وظهور القمر يحقق صفاء السكون ويهدي الناس في ظلمات البر والبحر، وجَريان الماء يروي الإنسان والزرع، وحركة الرياح تحرك السحب وتقود السفن وتساعد في حركة الملاحة في الجو والبحر وتلقح النبات، وكل ذلك أسباب أرادها الله حتى يتحقق التوازن في الكون. والإنسان يأخذ حظه من الحياة بالأسباب التي عمل فيها ولا يأخذ الإنسان من أسباب غيره. صحيح أن هناك أناساً يعيشون بلا أسباب ويأخذون تعب غيرهم، ولكن عليهم أن يحذروا الله، فإياك أيها المسلم أن تبني لحمك ولحم أولادك من استغلالك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3591 لغيرك؛ ذلك أن أغيار الحياة ستمر عليك وقد تصير قوتك إلى ضعف، وتأمين الإنسان لضعفه إنما يكون بإخراج الزكاة للضعيف، ومساعدته ومعاونته في كل ما يحتاج إليه، ونجد غير المؤمنين وقد أخذوا فكرة التأمين من الزكاة، فأنت تدفع للفقير زكاتك لتؤمن نفسك كمؤمن، وهم أخذوا هذه الفكرة ليحولوها إلى تأمين على الحياة، ولذلك تدخلوا في قدر الله. لكن الحق أراد بالزكاة أن يطمئن المجتمع كله لا أن يطمئن من يؤمن على نفسه فقط. ونعلم أن الذي يخيف الإنسان ويجعله يكدس المال ويجمعه ويكنزه هو الخوف من الضعف، لكن لو أعطى الغني بعضاً من المال للفقير لأشاع الاطمئنان في نفسه ونفوس الضعفاء. والذي يجعل الناس تلهث في الحياة للادخار لأبنائها هو عدم اقتناعهم بالتكافل الاجتماعي الذي شرعه الإسلام. وهم يرون اليتيم وهو يضيع في المجتمع، لكن لو آمن الناس في المجتمع بالتكافل الاجتماعي لوجد كل يتيم أبوة المجتمع كله له. والإنسان الذي يلهث وراء الكسب من أجل أن يؤمن مستقبل أولاده قد يحول أولاده إلى يتامى لأنه مشغول عن تربيتهم، ولذلك يقول أمير الشعراء شوقي رحمة الله عليه: ليس اليتيم من انتهى أبواه من ... هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له ... أمَّاً تخلت أو أباً مشغولا إن على المجتمع أن يأخذ قضية الخير من قول الحق سبحانه: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} . فكما أحيا الحق الأجسام بالروح التي نفخها في القالب الطيني فصار لها حس وحركة، فهو قد أنزل المنهج أيضاً روحاً من عنده لترتقي به روح الحس والحركة، حتى لا يصير الإنسان كالأنعام أو أضل سبيلاً: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3592 والدار الآخرة خير؛ لأن الدنيا مهما طالت فهي منتهية، لكن الحياة الآخرة خلود أبداً، ونعيمنا في الدنيا نأخذه بالأسباب، ولكن نعيم الآخرة نأخذه على قدر سعة ورحابة قدرة الله. وآفة الدنيا حتى بالنسبة لأهل النعيم والقوة والثراء هي الخوف من الفقر أو الموت، لكن في الآخرة لا يفوت أهل الجنة النعيم ولا يفوتون النعيم. ويقول سبحانه بعد ذلك: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3593 لقد شرح الحق حال الكفار وموقفهم في الآخرة حين يقفون على النار، ويقفون أمام الله، ومن بعد ذلك يوجه الحديث إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي تقع عليه مشقة البلاغ من الله لهؤلاء الكفار، وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حزيناً لأن قومه لا يذوقون حلاوة الإيمان، وهو الرسول الذي قال عنه الحق سبحانه وتعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] . وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحرص على أن يكون كل الناس مؤمنين، ويتألم لمقاومة بعض الناس دعوة الإيمان، إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان حريصاً على الكافر ليؤمن على الرغم من أن مهمة الرسول هي البلاغ فقط، ولو شاء الحق أن يجعل الناس كلهم مؤمنين لأنزل عليهم آية تجعلهم جميعاً مؤمنين: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3593 لكن الحق سبحانه وتعالى لا يريد خضوع أعناق، وإنما يريد خضوع قلوب. إنه - سبحانه - يريد أن يأتي الناس طواعية واختياراً ليثبتوا الحب للخالق؛ لذلك يقول الحق لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} وساعة نسمع: «قد» فلنعرف أن ما يأتي بعدها هو أمر محقق، ويأتي ذلك إذا دخلت على الفعل الماضي فهي في هذه الحالة تأتي لتسبق أمراً تحقق، ومرة تأتي للتقليل أو للتكثير إذا دخلت على الفعل المضارع الذي يدل على الحال أو الاستقبال، فإذا كان العامل والمعمول بينهما ارتباط سبب. . فهذا للتكثير، وإذا كان ظاهر الأمر غير مرتبط ارتباطاً واضحاً. . فهذا للتقليل. والمثال على الارتباط الذي يدل على التكثير هو قول القائل: قد ينجح المُجدّ؛ لأن المجِدَّ والنجاح مرتبطان ارتباط سببية، ولكن قد يكون هناك حادث مفاجئ لأحد المجدين فلا يستطيع النجاح، كأن يمرض يوم الامتحان، ولكن احتمال الصحة أكثر من احتمال المرض فكانت للتكثير. والمثال على مجيء «قد» للتقليل هو قول القائل: قد ينجح الكسول، أي أن الكسول قد ينجح بالمصادفة وبدون أسباب منطقية، كأن يقرأ عدداً من الدروس ليلة الامتحان فيأتي فيها الامتحان فينجح، إذن ق «قد» إذا دخلت على الماضي تكون للتحقيق، وإن دخلت على المضارع فهي للتكثير إن كانت منطقية الأسباب، وهي للتقليل إن كانت غير منطقية الأسباب. ولكن كلنا يعلم أن علم الله هو علم أزلي، ولا قوة ولا أمر يخرجان عن معلوم الله. إذن ف «قد» هنا للتحقيق وهي داخلة على الفعل المضارع، فالحق أراد أن يبلغنا أنه علم أزلاً بما حدث وجاء ب «قد» لنستحضر صورة الفعل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3594 يَقُولُونَ} . والحزن هو خروج النفس من سياق انبساطها؛ فالإنسان يكون في غاية الاستقامة والسرور عندما يكون كل جهاز من أجهزته يؤدي مهمته، فإن حدث شيء يخل بعمل أحد الأجهزة فذلك يورث الحزن. أو يكون الحزن انفعالا لمجيء وحصول أمر غير مطلوب للنفس. لقد كان مطلب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يؤمن كل الذين استمعوا إلى البلاغ عنه، لكن البعض قاوم الإيمان، والبعض اتهم الرسول بالسحر أو الجنون أو قول الشعر، وها هوذا الحق يسلي رسوله فيقول: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} أي إنك يا محمد لا بد لك أن تعلم أن أقوالهم هذه ليست متعلقة بك؛ لأنك - بإجماع الآراء عندهم - أنت الصادق الأمين. وهم إنما يكذِّبون بآياتي التي أرسلتها معك إليهم؛ لأن ماضيك معهم هو الصدق والأمانة، بدليل أن الكافر منهم كان لا يأمن أحداً على شيء من أمواله ونفائسه إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والإنسان لا يغش نفسه فيما يخصه. فكأن الله يريد أن يتحمل عن رسوله؛ لأن من يوجه إهانة للرسول إنما يوجهها للمرسِل له وهو الله جلت قدرته. ولذلك يقول الحق: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} وسبحانه يبين لنا أن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان حريصاً أشد ما يكون الحرص على أن تستجيب أمته لداعي الحق، حتى يتأكد لدى المؤمنين قول الحق سبحانه وتعالى في رسوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] . ولا معنى للحرص إلا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب إلا يفلت أحد من قومه عن منهجه وعن دينه. ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل أمر الدين اختيارياً حتى يعلم من يجيء له طواعية ويقدر ألا يجيء، ومن لا يجيء وهو قادر أن يجيء. إن الحق سبحانه وتعالى له سنن كونية في الكون يجريها على كل الخلق. وقد يتساءل قائل: وما الذي يجعل الحق سبحانه وتعالى يترك للكفر به مجالاً في دنياه؟ ولماذا يجعل الحق سبحانه وتعالى للشر مجالاً في دنياه ألا يحكمها بهندسة حكيمة؟ ونقول: لو لم يوجد للشر مضار تُفْزِّع الناسَ لما عرفوا للحق حلاوة. إذن فوجود الشر، ووجود الكفر، وآثار الكفر في الناس جبروتاً وقهراً واستذلالاً ينادي في الناس أنه لا بد من الإيمان، وأنه لا بد من وجود الخير. فلو لم يكن للشر مكان في الكون فما الذي يلفت الناس إلى الخير؟ ولذلك تجد أن هبات الإيمان عند المؤمنين لا تأخذ فتوتها إلا حين تجد قوماً من خصوم الإيمان يهيجون المؤمنين ويؤذونهم ويستفزونهم. أما إذا صارت الدنيا إلى رتابة فربما فتر أمر الإسلام في نفوس المسلمين. ولذلك نجد المؤمنين بالله في غيرة دائمة؛ لأن هناك من يكفر بالله. فيقول لرسوله: {قَدْ نَعْلَمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3595 إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} وكأنه سبحانه يبلغنا أنه أراد كونه ليكون فيه المؤمن والكافر. لذلك إن تساءلت - أيها المسلم - كيف يكون في الأرض كافرون؟ فلك أن تعلم أنهم من خلق الله أرادهم الحق أن يختاروا الكفر فلم يختاروا الكفر قهرا عنه - سبحانه - وكان سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يحزن لأن هناك أناساً لم يؤمنوا، فيسليه الحق سبحانه وتعالى، بأنه يعلم أنه يحزنه الذي يقولون من الكفر ومن اتهامات لرسول الله. ألم يقولوا إنه ساحر؟ ألم يقولوا إنه مجنون؟ ألم يقولوا إنه كاذب؟ ألم يقولوا إنه كاهن؟ ألم يقولوا إنه شاعر؟ وسبحانه وتعالى يعلم ما قالوا ويعلم أن هذه الأقوال تحزن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويريد الحق سبحانه أن يرفع ويدفع هذا الحزن عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيبلغه أنهم لا يكذبونك يا رسول الله؛ فأنت تعرف منزلتك عندهم وهي منزلة الصادق الأمين، ولا يجرؤ أحد على تكذيبك ولكنهم يجحدون بآيات الله. وهل هناك تسلية أكثر من ذلك. لا يمكن أن توجد تسلية أكثر من ذلك. ونعلم أن ما قاله أهل الشرك عن رسول الله هو قول مردود، فهم أمة البلاغة والفصاحة والبيان، فكيف يقولون إن القرآن شعر وهم أصحاب الدراية بالأساليب مرسلها، ومسجوعها، ونظمها، ونثرها؟ أمن المعقول أن يلتبس عليهم أسلوب القرآن بالشعر؟ ومن المؤكد أن هذا غير ممكن. ولقد قالوا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنه ساحر، فكيف سحر الذين آمنوا به ولم يسحر الباقين؟ ولو كان ساحراً لسحرهم أيضاً، وبقاؤهم على الكفر ينقض هذا. وقالوا كاذب، فهم بقولهم هذا يكذِّبُون أنفسهم لأنهم يعرفون عنه أنه الصادق الأمين، وها هوذا الحوار بين الأخنس بن شريق وأبي جهل. قال الأخنس: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال أبو جهل: ماذا سمعت {وهنا نسمع قول الغيرة والحسد والبغض، نسمع عن تلك الأمور البعيدة عن موضوع الرسالة النورانية المحمدية فيقول أبو جهل: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوْ افأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3596 ندرك مثل هذا} والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. فقام الأخنس وتركه. إذن هي مسألة غيرة غاضبة على مناصب وسلطة زمنية، ولذلك يرد الله عليهم قائلاً: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] . وها هو ذا الحق يسلي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقول له: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] . إنهم ظالمون، لأن الظلم نقل حق إلى غير مستحقه. وأبشع أنواع الظلم هو الشرك؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو المستحق وحده للعبادة، والظلم الأخف وطأة هو أن ينقل الإنسان حقاً مكتسباً أو موهوباً إلى غير صاحبه وهذا ظلم موجود بين الناس. وقد نقل المشركون حق الذات الإلهية إلى غير مستحقها من أوثان وأصنام، أما المؤمنون فهم الذين اعترفوا بحق الذات الإلهية في العبادة. وهناك نوع آخر من الظلم أريد أن أتحدث عنه، وهو أن يظلم الإنسان اسمه، كأن يكون والده قد سماه «مهدياً» ولكنه يملأ الدنيا فساداً بإيذاء نفسه وبإيذاء الآخرين. نقول لمثل هذا الإنسان: إن الواجب يقتضي منك أن تحترم أمل والدك فيك، فلا تظلم اسمك «مهدياً» ولتكن هناك عدالة بين الاسم والمسمى وذلك بأن يكون سلوكك متوافقاً مع الاسم الذي سماك به أبوك. أما إن كان أبوه قد سماه «مهدياً» ولم يلقنه أي شيء من تعاليم الهدى والدين، ثم خرج الشاب إلى الدنيا ليملأها بالشقاء لنفسه ولغيره ثم اهتدى من بعد ذلك فهذا شاب استطاع أن يتعلم الهداية فصار اسمه على مسماه. وقد كنا في الثلاثينيات من هذا القرن نسمع التحذيرات ونحن نزور القاهرة: « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3597 إياكم أن تطأوا بأقدامكم شارع عماد الدين لأن كل الموبقات في هذا الشارع» . وتعجبت أن يكون اسم الشارع «عماد الدين» ويكون مكاناً للموبقات فقلت في ذلك: وأقبح الظلم بعد الشرك منزلة ... أن يَظْلم اسماً مُسمّىً ضده جُبِلا فشارع كعماد الدين تسميةً ... لكنه لعناد الدين قد جُعلا وفي الحياة كثير من حالات الأسماء يظلمها أصحابها. ولكن أكبر وأقبح درجات الظلم هو الشرك بالله {ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} والجحد هو إباء اللسان وترفعه وعدم رضاه بأن ينطق بكلمة الحق، فلو أن المشركين خلوْا إلى أنفسهم واستعرضوا مسائل محمد ومسائل الرسالة لوجدوا أن قلوبهم مقتنعة بأنه صادق وأنه رسول وأن المنهج إنما جاء للهداية. لكن ألسنتهم غير قادرة على الاعتراف بذلك. ولذلك يأمر المنهج الإيماني أن على الواحد منا إن أراد أن يناقش قضية أهي حق أم باطل فلا يصح أن نناقشها في حشد من الناس، ولكن فلنناقشها أولاً في نفوسنا لنتبين الحق فيها من الضلال، ولذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46] . كأن الحق يهدينا إلى كيفية التمييز، فإما أن نناقش أنفسنا، وإما أن يتناقش اثنان حتى يمكن أن يقتنع أحدهما برأي الآخر دون أن يشهد ثالث هزيمته فيكابر ويجادل. وقد نصح الحق بذلك هؤلاء الذين اتهموا رسول الله أن به - والعياذ بالله - مسَّاً من الجنون؛ فالجنون هو أن تحدث الأفعال بلا مقدمات وبدون تدبر أو نظر في آثارها وتكون خالية من حكمة فاعلها. أما العاقل فهو الذي يرتب الأفعال بحكمة ويوازن ويدرس وينتهي به عقله وحكمته إلى حسن ما يفعل ويعامل الناس بانسجام وسوية خلقية عالية، فهل أحد من المشركين أخذ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3598 سلوك يمكن أن يشير إلى عدم ترتيب الأفعال؟ لا. ولذلك يقول الحق: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 - 4] . إن الخلُق العظيم يتنافى مع الجنون، وكذلك فعل كل قوم مع رسولهم، إنَّهم رمَوْه بالسفه والجنون. فكلما جاء رسول لقومه بمنهج حق ليطمس معالم الباطل قابله قومه بمثل تلك المقابلة. ونعرف أن السماء لا تتدخل بالنبوات والمعجزات إلا حين يطم الفساد وتنطمس النفس المؤمنة. فالمؤمن فيه خميرة الخير فيندفع إلى فعل الخير. وإن حدثته نفسه بفعل معصية وفَعَلَها، فإن نفسه اللوامة تؤنبه على ذلك، لكن إن انطمست نفسه ولم تعد تلوم، صارت نفسه الأمارة بالسوء هي المسيطرة وإن لم يجد من يقول له في المجتمع: لا تفعل ذلك. . فالمجتمع كله يكون قد فسد. {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} . إذن السماء لا تتدخل برسالة أو معجزة أو منهج إلا حين يطم الفساد. وما دام قد طم الفساد فهناك من يستفيد من هذا الفساد. وحين يأتي الرسول من أجل أن يمنع الفساد فهذا الرسول يمنع عن المفسدين استغلال الناس ويحول بينهم وبين الاستفادة من الفساد. ولذلك كان لكل رسول مقاومة من المفسدين وكانوا يقولون: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي} [هود: 27] . وأتباع كل رسول هم المظلومون الذين يحتاجون إلى منقذ. أما الجبابرة فهم يخاصمون الرسول ويقاومونه، ويستقبله هؤلاء الجبابرة بإيذاء يتناسب مع مهمته. فإن كانت مهمته لقبيلة فالإيذاء يأتيه من هذه القبيلة. وإن كانت مهمته أوسع من ذلك فإنه يلقى من صنوف العذاب ألواناً. وما دام محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً إلى الناس كافة فعليه أن يجد المتاعب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3599 الكثيرة ويتحملها. وقد أعده الله وهيأه لذلك، وقد أخذ الرسل السابقون من الإيذاء على قدر دعوتهم. أما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو للناس كافة، ولا رسالة من بعده، لذلك يتجمع ضد هذا الرسول وهذه الرسالة أقوام كثيرون. ولذلك يقول له الحق سبحانه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3600 فإذا كان الرسل الذين سبقوك قد كُذِّبوا وصبروا على ذلك، وهم رسل لقومهم أو لأمة خاصة، ولزمان خاص، فماذا عنك يا خاتم الرسل وأنت للناس كافة وللأزمان عامة؟ إن عليك أن تتحمل هذا؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد اختارك لهذه المهمة وهو العليم أنك أهل لها. والحق كفيل بنصر رسله فلا يتأتى أن يترك الشر أو الباطل ليغلب الرسل، وما دام سبحانه وتعالى قد بعث الرسول فلا بد أن ينصره. فهو القائل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173] . وما دامت قد سبقت كلمة الله للرسل فلا مبدل لكلمات الله، ولا أحد بقادر على أن يعدِّل في المبادئ التي وضعها الله بقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} [الأنعام: 34] . وقد قص الحق سبحانه على رسوله قصص المرسلين، ولم يكتف بالقول لرسوله أن الرسل السابقين عليه قد كذبتهم أقوامهم، ولكن أورد الحق لرسوله ما حدث لكل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3600 رسول ممن جاء ذكرهم بالقرآن الكريم وماذا حدث للرسول - أي رسول - من ثبات أمام الأعداء، ثم بيّن أن كلمة الحق قد انتصرت دائماً. وقد روى الحق بعضاً من قصص الرسل فقال: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] . ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3601 إنك يا محمد رسول من عند الله، ومعك منهج هو معجزتك الدالة على صدق ما جئت به، فإن كبر عليك إعراضهم وعظم عليك أن يتولوا ويعرضوا عنك فإن استطعت أن تصنع لنفسك نفقاً في الأرض لتأتيهم بآية أو أن تبني سلماً لتصعد به إلى السماء طلباً لهذه الآية فافعل، ولكنك لن تستطيع ذلك لأن ذلك فوق حدود قدرتك وسيلقى المشركون والمنافقون العذاب لأنك جئت يا رسول الله تبدد من صولجان سلطتهم الزمنية وتقيم العدل الإيماني. ولذلك حاولوا السخرية منك وإيذاءك. وقد طلب الكافرون من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينزل إلى الأرض ليفجر لهم منها ينبوعاً، وطلبوا إليه أن يصعد إلى السماء وأن يجعلها تسقط عليهم كسفاً وقطعاً لتهلكهم. وهذه أشياء لم تكن في مكنة واستطاعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولذلك يقول له الحق سبحانه وتعالى ما يقفل عليه أبواب الحزن ويقضي على أسباب الأسى والأسف عنده بسبب إعراضهم، وأن يعرف أن السخرية والمقاومة هي مسألة طبيعية بالنسبة لكل رسول من الرسل، وأنت يا رسول الله أولى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3601 بهذا لأن مهمتك أضخم من كل الرسل. ونلحظ أن الحق سبحانه يحذف هنا جواب «إن» فهو يقول: {فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: 35] . ولم يقل الحق: فافعل ذلك، كأن المسألة هي تهدئة للرسول؛ لأن الجواب في مثل هذه الحالة معلوم؛ فالرسول لا يجبر أحداً على الإيمان. وإعراض هؤلاء القوم أمر مقصود لواجب الوجود حتى يختبرهم ولو أراد قهرهم لفعل، فلا أحد يتأبى على الله، فالكون كله مطيع لله، الشمس، والقمر، والنجوم، والهواء، والماء، والجبال، والأرض، وكل ما في الكون مطيع لله بما في ذلك الحيوان المسخر لخدمة الإنسان. ولكنه - سبحانه - أعطى الاختيار للإنسان ليأتي إلى الله محباً. ونعلم أن الحق قد ترك بعضاً من المسخرات غير مذللة ليثبت للإنسان إنه لم يذلل الأشياء بحيلته، ولكنه - جل شأنه - هو الذي خلقها وذللها له؛ لذلك نرى الجمل الضخم يجره طفل صغير، ونرى أي رجل مهما تكن قوته يأخذ الحذر والاحتياط من ثعبان صغير. {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71 - 72] . ولو لم يذللها الله فلن يستطيع أحد أن يقترب منها. وأضرب هذا المثل دائماً، عندما قال قائل: لماذا خلق الله الذباب، فقال رجل من أهل الإشراق: ليذل به الجبابرة؛ فسلطانهم لا يمتد إلى هذه الحشرات. لقد أعطى الحق الإنسان عزَّة السيادة، وعلمه أيضاً أن يتواضع للخالق. ويبلغ الحق سبحانه وتعالى رسوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} [الأنعام: 35] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3602 أي أنه سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم مؤمنين. وقد يقول قائل: كيف يخاطب الله رسوله فيقول له: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} ؟ ونقول: إن الحق حين يقول لرسوله ذلك فهو يقولها لا من مظنة أن يفعلها الرسول؛ فالرسول معصوم من الجهل، ولكن هو قول فيه تنزيه للرسول عن أن يكون في مثل هذا الصنف من الجاهلين. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3603 و «يستجيب» معناها أنهم يطيعون أمر الآمر ونهي الناهي. وهناك فارق بين «الاستجابة» و «الإجابة» ؛ ف «الاستجابة» هي: أن يجيبك من طلبت منه إلى ما طلبت ويحققه لك، و «الإجابة» هي: أن يجيبك من سألت ولو بالرفض لما تقول، وقد يكون الجواب ضد مطلوب ما سألت. ويقول الحق: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} أي أن الذين يستجيبون لنداء الحق هم الذين يسمعون بآذانهم وقلوبهم مصدقة؛ لأن هناك فارقاً بين سماع ظاهره سماع وباطنه انصراف، وبين سماع ظاهره طاعة وباطنه محبة لهذه الطاعة. ونعلم أن استقبال المسموع شيء، وانفعال الإنسان بالمسموع شيء آخر. وعندما يتحد حسن الاستماع مع انفعال الحب لتنفيذ ما سمعه الإنسان فهذا ما يطلبه الإيمان. والمؤمنون هم الذين يستمعون لكلمات الله بانفعال الحب، وهم يختلفون عن هؤلاء الذين يسمعون الكلام من أذن ويخرجونه من الأذن الأخرى، ويتركون الكلمات بلا تطبيق، ولا يبقى في النفس الواعية من آثار الكلام شيء. وهكذا نرى أن الله قد صنع وخلق في الإنسان من الحواس ما تهديه وترشده إلى الإيمان أو إلى الكفر؛ فالأذن عند المؤمن تسمع، والقلب يصدق، والعقل يمحص ويؤمن. أما الكافر فأذنه تسمع وقلبه يعارض، وعقله يبحث في أسباب الكفر رغبة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3603 فيه وسعيًا إليه، ولذلك لا تؤدي حواسه مهامها بانسجام، وكأن الذين يسمعون ولا يستجيبون هم من الموتى. فالأمر - إذن ليس مقصوراً على السمع بل المطلوب أن يكون هناك سماع انفعال بالمسموع وانصياع له، ولا تظن أن الله يعجز عن أن يجعل الذي لا يسمع سماع طاعة يهتدي ويستقيم، فلا شيء ولا كائن يتأبى على الله؛ لأنه سبحانه يحيي الموتى. وما دام هو سبحانه يحيي الموتى فهو لا يتطلب إيمانا جبرياً. إنما يطلب إيمان الاختيار والاقتناع، وهو سبحانه لو شاء لأنزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين، وسبحانه يطلب قلوباً لا قوالب. إذن فالذين يستجيبون لداعي الإيمان هم الأحياء حقاً، أما الذين لا يستجيبون فهم في حكم الأموات، وهم من بعد موتهم وانتهاء حياتهم سيبعثهم الله ليسألهم عن أفعالهم في الحياة الدنيا. وعندما يرجعون إلى الله سوف يجدون الحساب. ونعلم أن المرجع أخيراً ودائماً إلى الله. ومن يرجع إلى الله وعمله طيب يتعجل الجزاء الطيب ويتشوق ويتشوف إليه، أما من يرجعه الله قَهْراً فهو يخشى الجزاء الأليم. ويقول الحق بعد ذلك: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3604 إن الله سبحانه يوضح مواصلتهم للجدل، وطلبهم لآية ما. والآية هي الأمر العجيب الذي يبعثه الله على يد نبي ليثبت صدقه في تبليغه عن الله. وكأنهم لا يريدون أن يعترفوا أن القرآن آيات بينات على الرغم من اعترافهم بعظمة القرآن، فقد قالوا: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3604 ولكنهم لم يعترفوا بالقرآن كآية معجزة؛ لأنهم عرفوا أن الرسل السابقين قد نزل كل منهم بآية معجزة منفصلة عن المنهج الذي جاء به، فموسى عليه السلام معجزته العصا، ويده التي أخرجها من جيبه فكانت بيضاء من غير سوء، وشق البحر، ومنهجه التوارة، وعيسى عليه السلام كانت معجزته التكلم في المهد بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وجاء الإنجيل مكملاً بالروحانيات تلك الماديات التي ملأت نفس اليهود. وبعد أن قالوا عن رسول الله إنه يفتري الكذب تحداهم الحق أن يأتوا بمثل القرآن ثم نزل بهم إلى أن يأتوا بعشر سور من مثله ثم إلى أن يأتوا بمثل سورة واحدة من أقصر سوره. إذن، فالافتراء وارد عليكم أيضا، فكما أن محمداً افترى فيمكن أن تفتروا أنتم كذلك فيما نبغتم وتفوقتم فيه من أساليب البلاغة. إن القرآن قد تحداهم وما دام قد تحداهم فإنه معجزة؛ لأن الأصل في المعجزة التحدي، ويتحداهم الله أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن فلا يستطيعون، إنه يتحداهم في أمر اللغة، وهم سادة اللغة وهم النابغون فيها. جاء القرآن ليتحداهم في مجال نبوغهم، ولكنّ بعضاً من العرب طالب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمعجزة حسية كونية يرونها. وأعماهم الحمق عن معرفة أن المعرفة الحسية موقوتة التأثير، من يراها يقول إنها معجزة، ومن لم يرها قد يصدق وقد يكذب. ونحن - المسلمين - لا نصدق المعجزات الحسية إلا أن القرآن أوردها؛ ولأن القرآن قد جاء للناس كافة؛ لذلك لم يكن من المعقول أن يكون المنهج الخاتم منفصلاً عن معجزة النبي الذي جاء به. جاء القرآن - إذن - معجزة لرسول الله وهو آية معنوية دائمة أبداً بما فيه من أحكام ونظم، وآيات كونية وقضايا علمية، وإذا كان الخلق يختلفون في اللغات فما تضمنه القرآن من معجزات لن تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة. وكل يوم نستنبط من آيات الله معجزات جديدة تُخرس كل مكذب، لأنها معجزات كونية، ومن العجيب أن بعض الذين يستنبطونها ليسوا من المسلمين، ولا هم من المؤمنين بالقرآن. ولكنّ بعضاً من المشركين لم يكتف بالقرآن على أنه آية ومعجزة دالة على صدق الرسول، وطالبوا بمعجزة حسية. فهل كان ذلك الطلب للآية حقيقيا يرجون من ورائه معرفة الحق والإيمان له أو كان مجرد سبب يختفون وراءه حتى لا يؤمنوا؟ إن كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3605 طلب الآية هو أمرًا نابعًا من قلوبهم فإننا نأخذ بأيديهم ونرشدهم ونهديهم ونقول لهم: إن الرسل التي جاءت بمعجزات غير كتاب المنهج كانوا رسلاً إلى أمم مخصوصة وفي زمان محدود، فجاءت معهم آيات كونية تُرَى مرة واحدة وتنتهي، ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء لعموم الزمان، ولعموم المكان، ولذلك لا تصلح أن تكون آيته ومعجزته حسية؛ حتى لا تنحصر في الزمان والمكان المحددين، وشاء الحق أن تكون معجزة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي المنهج الدائم. وكنز القرآن أظهر وكشف من من الآيات الكونية ما تحقق من علم ورآه البشر، وما سيظل يكتشفه البشر إلى أن تقوم الساعة. ولذلك قال الحق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53] . أي أن البشر سيريهم الله وسيكتشف لهم من آياته حتى يظهر ويستبين لهم وجه الحق، وإن كنتم تقترحون آية لمجرد التمحك والتلكؤ في إعلان الإيمان، فلتعلموا أن أقواماً غيركم اقترحت الآيات وأنزل الحق هذه الآيات ومع ذلك كفروا: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإسراء: 59] . مثلما طلب قوم صالح الناقة، فجاءهم بالناقة، فكذبوا بتلك الآية وعقروا الناقة: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا} . إذن فمسألة طلب الآيات قد سبقت في أمم سابقة، وسبحانه قادر على إنزال الآيات، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون. وسيقولون مثلما قال الذين تكلم فيهم الحق سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإسراء: 59] . ولقد أنزل الحق سبحانه القرآن على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفيه آيات كثيرة عظمت وجلت عن أن تحصى وتحصر، ولو أنهم اقترحوا آية وحققها الله لهم ولم يؤمنوا لكان حقاً على الله أن يبيدهم جميعاً. ولقد أعطى الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعداً بألا يهلكهم وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيهم: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3606 إذن فعدم استجابة الله لإنزال آية لهم هو نوع من الحرص عليهم، ذلك أن منهم من سيؤمن، ومنهم من سيكون من نسله مؤمنون يحملون المنهج ويقومون به إلى أن تقوم الساعة لأنهم أتباع وحملة الرسالة الخاتمة. وبعد ذلك يأتي الحق بالبيان الارتقائي: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3607 إنه سبحانه يوضح لنا: أنا أعطي الآيات التي أعلم أن الفطرة السليمة تستقبلها كآية وتؤمن بها. وأنزلت لكم القرآن لتؤمنوا بالرسول الذي يحمله منهجا يُصلح حياتكم. وقد جعلتكم سادة للكون؛ تخدمكم كل الكائنات، لأنكم بنو آدم. وكان الأجدر بكم أن تنتبهوا إلى أن الحيوان في خدمتكم، والنبات في خدمة الحيوان وخدمة الإنسان، وكل كائنات الوجود تصب جهدها المسخر لخدمتكم. فإذا كنتُ قد جئتُ للأجناس كلها وجعلتُها دونكم وأعطيتها ما يصلحها ويقيمها ووضعت لها نظاماً، وأعطيتها من الغرائز ما يكفي لصلاح أمرها حتى تؤدي مهمتها معكم على صورة تريحكم فإذا كان هذا هو شأننا وعملنا مع من يخدمكم فكيف يكون الحال معكم؟ إنني أنزلت المنهج الذي يصلح حياة من استخلفته سيداً في الأرض. {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] . وكل الدواب دون الإنسان أعطاها الإله الإيمان بالفطرة، وهداها إلى الرزق بالغريزة. وميز الإنسان فوق كل الكائنات بالعقل، ولكن الإنسان يستخدم عقله مرة استخداما سليما صحيحا فيصل إلى الإيمان، ويستخدمه مرة استخداما سيئا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3607 فيضل عن الإيمان. وكان على الإنسان أن يعلم أنه تعلم محاكاة ما دونه من الكائنات؛ فقابيل تعلم من الغراب كيف يواري سوأة أخيه. ومصمم الطائرات تعلم صناعة الطيران من دراسة الطيور. إذن كان يجب أن يتعلم الإنسان أن له خالقاً جعل له من الأجناس ما تخدمه ليطور من حياته ومن رعاية كرامته بعد الموت. والمثال ما قالته نملة لبقية النمل: {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18] . إن النمل أمة لها حرس، قالت حارسة منهم هذا القول تحذيراً لبقية النمل. والله سبحانه يقول: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . إذن فكل أمة من تلك الأمم الكثيرة التي خلقها الله في الكون تسبح بحمده، ولكن لا يفهم أحد لغات تلك الأمم. وأعلمنا الله أنه علم سيدنا سليمان لغات كل الأقوام وكل الأمم المخلوقة لله، ولذلك عندما سمع سيدنا سليمان ما قالته النملة: تبسم {ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا} . وهكذا علمنا أن الله قد أعطى إذن سليمان عليه السلام ما جعلها تمتلك حاسية التقاط الذبذبة الصادرة من صوت النملة وتفهم ما تعطيه وتؤديه تلك الذبذبة، لذلك تبسم سليمان عليه السلام من قولها؛ لأن الله علمه منطق تلك الكائنات. ولو علمنا الله منطق هذه الكائنات لفقهنا تسبيحهم لله، ونحن لا نفقه تسبيحهم لأننا لم نتعلم لغتهم. ومثال ذلك - والله المثل الأعلى - قد يسافر إنسان عربي إلى بلاد تتحدث الإنجليزية وهو يجهل تلك اللغة، فلا يفهم مما يقال شيئاً. إذن لو علمك الله منطق الطير، ومنطق الجماد، ومنطق النبات؛ لعلمت لغاتهم. ألم يقل الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3608 {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] . إن الجماد - الجبال - تسبح مع داود. وكذلك الطير؛ فها هوذا الهدهد قد عرف قضية التوحيد، وحز في نفسه أنه رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون الله: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 24] . إذن فالهدهد قد عرف قضية التوحيد، وعرف أن السجود إنما يكون لله سبحانه وتعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25] . إذن كل الكائنات هي أمم أمثالنا. وقد يقول قائل: ولكن هناك كائنات ليست في السماء ولا في الأرض، مثل الأسماك التي في البحار؟ ونقول: إن الماء ثلاثة أرباع الأرض والسمك يسبح في جزء من الماء الذي هو جزء من الأرض. فهو يسبح في جزء من الأرض، فسبحانه الذي خلق الدواب في الأرض، وخلق الطيور، وخلق الأدنى من هذه الأمم وهداها إلى مصلحتها ومصدر حياتها: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} . ونرى العلماء يحاولون الآن اكتشاف لغة الأسماك، واكتشاف كل أسرار مملكة النحل ونظامها، وكيف تصير أعشاش النمل مخازن في الصيف لقوت الشتاء. ودرسوا سلوك النمل مع حبة القمح، وكيف تخلع النملة خلايا الإنبات من بذرة القمح، لأن خلايا الإنبات إن دخلت مع حبة القمح إلى مخزن غذاء النمل قد تنبت وتدمر جحر النمل. وهكذا نرى صدق الحق الأعلى. {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2 - 3] . وقرون الاستشعار في النملة تثير العلماء؛ لأن النملة الواحدة ترى على سبيل المثال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3609 قطعة السكر، فلا تقربها ولكنها تذهب لاستدعاء جيش من النمل قادر على تحريك قطعة السكر، ووجد العلماء أن وزن الشيء الذي يتغذى به النمل إن زاد على قدرة نملة، فهي تستدعي أعداداً من النمل ليؤدوا المهمة. وتساءل العلماء: من أين للنمل إذن هذه القدرة على تحديد الكتلة والحجم والوزن؟ إن تحديد العدد الذي يحمل حجماً محدداً يثير الغرابة والعجب، فكيف يمكن أن نتصور أن النمل يفرق بين شيئين يتحد حجمهما ويختلف وزنهما ككتلة من حديد وأخرى تماثلها في الحجم من الأسفنج؟ إن النمل يستدعي لكتلة الحديد أضعاف ما يستدعيه لحمل كتلة الأسفنج مع اتحادهما في الحجم؛ إنها من قدرة الحق الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى. ثم إنك تلتفت إلى الحيوان فتجد الذكر والأنثى، وتجد أن الجمال كله في ذكور الحيوان، بينما لا يكون الأمر كذلك في إناث الحيوان، والكثرة الغالبة هي من الإناث والقلة من الذكور، ولا يقرب الذكر أنثاه إلا في موسم معين، وإلى أن يأتي موسم التلقيح تنصرف الأنثى إلى إعداد العش وتهيئته لما عساه أن يوجد من نتاج، وهذه العملية لحكمة عالية ربما تكون لبقاء نوع الحيوان حتى يعين الإنسان في إعمار الأرض. وفي عالم الطير نجد الطيور تبني العش بفن جميل لاستقبال الفرخ الذي خرج من البيض وتفرش له العش بأنعم الأشياء، إنها تفعل ذلك بإتقان جيد وبصورة ربما يعجز البشر أن يعمل مثلها. ثم نجد في دنيا الحيوان والطير أن الكائن ما إن يبلغ القدرة على الاعتماد على نفسه فلا تعرف الأم ابنها من ابن غيرها. إذن فكل المخلوقات أمم أمثالنا أرزاقاً وآجالاً، وأعمالاً، فصدق الله إذ يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} . وقد يكون المراد من الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، ولكننا نقول: إنه القرآن، وكل شيء موجود ومذكور أو مطمور في القرآن الكريم. وذكر القرآن أن هذه الأمم تعرف التوحيد، وأنهم يسبحون لله. والعمل المعاصر يكتشف في كل دقيقة حقائق هذا الكون المنظم. ونجد العقل يهدينا إلى أن نوجد أشياء لصالح حياتنا، ولكن عندما نتبع الهوى فإننا نفسد هذا الكون. إن الله - سبحانه - جعل للخادم من دواب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3610 الأرض نطاقًا للعمل والرزق والأجل بحكم الغريزة، وكذلك جعل للطير، ولكل الكائنات: ويقول الحق سبحانه وتعالى في محكم آياته الكريمة: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] . إذن كل شيء يحشر يوم القيامة. ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما رواه أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» . أي أن الحق سبحانه يقتص من الشاة ذات القرون التي نطحت الشاة التي بلا قرون ويعوضها عن الألم الذي أصابها. وبعد أن يأخذ كل كائن من غير الإنس والجن حَقَّه يصير إلى تراب. أما الذين يسمعون ولا يستجيبون فهم المكذبون بالآيات، ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3611 والصمم آفة تصيب الأذن فلا تسمع. والبكم آفة تصيب اللسان فلا ينطق. والبكم مرتبط بالصمم؛ لأن الإنسان لا يتكلم إلا إذا سمع؛ لأن اللغة بنت المحاكاة؛ فالإنسان لا يتكلم إلا إذا سمع. إن البشر ينشأون في بيئات مختلفة اللغة ولا يتكلمون إلا باللغة التي نشأوا في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3611 بيئتها؛ لأن اللغة ليست دماً ولا جنساً. بل اللغة سماع. وما تسمعه الأذن يحكيه اللسان. ولا يقرأ الإنسان إلا إذا سمع وعرف ارتباط ما يسمع بما يرى؛ لذلك نعرف أن السمع هو المنفذ الأول للإدراك، ولهذا كان الصمم قبل البكم. ولكن هل الإدراك مرتبط بالصمم والبكم فقط؟ لا، إن الإنسان يسمع أوَلاً، ثم يرى، ثم يتذوق، ثم يشم، ثم يلمس، ثم تأتي له المعلومات العقلية. والمثال على ذلك أن كل إنسان يعرف أن النار محرقة، وهو لم يعرف هذا إلا لأنه وجدها قد لمست كائناً وأحرقته. ومثال آخر: يتفق الناس على أن صوت العندليب جميل، وهذا الاتفاق جاء من سماع الناس لصوت العندليب. إذن فالمعلومات العقلية تأتي نتيجة للمعلومات الحسية. {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظلمات} إنهم بلا قدرة أيضاً على إبصار الهداية من أي ناحية؛ صم لا يسمعون لكلمة الحق، وبكم لا ينطقون، وفي ظلمات لا يهتدون إلى إدراكات الأشياء ولا إلى الإيمان. وكل ذلك مردود إلى المشيئة: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} لكن هل اقتحمت المشيئة على الناس وقهرتهم؟ لا؛ لأن الحق قال: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28] . وقال سبحانه أيضاً: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} إذن، فبتقديمهم الظلم، والفسق، والكفر، وقد فعلوا ذلك اختياراً فصار المرض واستقر في قلوبهم وزادهم الله مرضاً، وهو سبحانه أغنى الأغنياء عن الشرك به، فمن أشرك مع الله شيئاً فهو له. ويأتي من بعد ذلك أمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3612 و «أرأيتكم» مكونة من استفهام وفعل، ومن ضمير وهو لفظ التاء المفتوح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3612 للمخاطب كقولك: «أرأيت فلاناً» وكأنك تقول له: «إن كنت قد رأيته فأخبرني عنه» ، وعندما تقول للمخاطب ذلك فأنت تستفهم منه عن شيء رآه وأبصره وبعد ذلك تأتي بكاف الخطاب، فكأنك تقول له: أخبرني عنك، فيكون المعنى أخبروني عن أنفسكم، وهكذا تكون: «أرأيتكم» معناها: أخبروني عن حالكم إخبار من يرى. فالأمر إذن لرسول الله ليسأل المشركين أن يخبروه ماذا يفعلون عندما يصيبهم الضر أو أي شيء فوق الأسباب، هل هم يدعون اللات والعزى؟ لا، إنهم لا يستطيعون وقت الخطر الداهم أن يكذبوا على أنفسهم، إنما ينادون الله الذي لا يعلنون الإيمان به. ولو كانوا صادقين مع كفرهم لما نادوا الله، بل كان يجب أن ينادوا آلهتهم؛ لكنّهم في لحظة الخطر يقولون: «يارب» كأنهم يعرفون أنه لا منقذ لهم إلا هو سبحانه. وهكذا ينكشف أمامهم كذب كفرهم وشركهم بالله. ولا أحد يغش نفسه، حتى الدجال الذي يدعي ممارسته شفاء الناس، إن أصابه مرض نجده يلجأ إلى طبيب متخصص متعلم. فلا أحد يغش نفسه، وساعة يمس الخطر ذات الإنسان نجد الحقيقة تنبع من الإنسان نفسه. ويسألهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَنْ يدعونه لحظة الخطر؟ إنهم يدعون الله. وكأنهم لا يثقون في آلهتهم. {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} [يونس: 12] . لكن ماذا يحدث عندما يعود للقلب غلظته؟ {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12] . لماذا إذن يطلب من الله النجدة وقت الخطر، ولا يتبع التكليف؟ يأتي الأمر إلى الرسول ليسألهم من تدعون لحظة الخطر؟ ويأتي الجواب أيضاً من الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3613 {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3614 إنكم - أيها المشركون - لا تدعون إلا الله أن يكشف عنكم الضر، فإن رأى أن من الحكمة أن يجيب دعاءكم أجابه. وإن رأى أن من الحكمة ألا يجيب فهو لا يجيب. وهم يدعون الله وينسون آلهتهم ومن أشركوهم بالعبادة مع الله. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3614 لقد أرسل الحق لأمم سابقة رسلاً بالآيات والمنهج، فكذبتهم أقوامهم، فأخذهم الله بالشدائد والأحداث التي تضر إما في النفس، وإما في المال، بالمرض، بالفقر، لعلهم يتضرعون إلى الله سبحانه وتعالى. إذن فالحق حين يمس الإنسان بالبأساء أي بالشدائد أو بالضراء، أي بالشيء الذي يضر ويؤذي، إنما يريد من الإنسان أن يختبر نفسه، فإن كان مؤمنا بغير الله فليذهب إلى من آمن به، ولن يرفع عنه تلك البأساء أو ذلك الضر إلا عندما يعود إلى الله: وعندما يتضرع إلى الله قد لا يقبل الله منه مثل هذا التضرع ويقول سبحانه: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3614 إنه - سبحانه - يحثهم ويحضهم على أن يتضرعوا ويتذللوا إلى الله ليرفع عنهم ما نزل بهم، ولكن قلوبهم القاسية تمنعهم حتى في لحظة المس بالضر أن يلجأوا إلى الله خوفاً من اتباع التكليف. إن قسوة القلب تكون بالصورة التي لا ينفذ إليها الهدى وكما قال الحق: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] . أي صارت قلوبهم مغلقة ومغطاة بعد أن طبع الله وختم عليها فلا تقبل الخير ولا تميل إليه، فلا يؤمنون. ويتابع الحق القول الكريم: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3615 إنهم عندما نسوا ما جاءهم من تذكير الحق لهم بالمنهج والتوحيد من خلال الرسل إنه - سبحانه - يصيبهم بالعذاب الذي يفاجئهم به فيقعون في حيرة تأخذ عليهم ألبابهم وتشتت قلوبهم وتقطع رجاءهم. والرسل إنما تأتي لتذكر؛ لأن الإيمان موجود بالفطرة. ولكن الغفلة هي التي تخفي الإيمان. والإنسان يحيا في كون مليء بالنعم ولا دخل لأحد بها، ولا بد لأحد فيها، ولم يدعها أحد لنفسه، كان يجب على هذا الإنسان أن يعيش دائماً في رحاب الحمد لله، مولى هذه النعمة. والتذكير من الحق لعباده يكون بالنعم أو الرسل الذين يأتون بالرسالات المتوالية. وهب أن إنساناً قد غفل عن نعمة الله في الطعام، ثم جاءت لحظة الجوع، فجلس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3615 يشتهي الطعام فمنحه الله ذلك الطعام فكيف ينسى لحظة الشبع من وهب له هذا الطعام. {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} إما أن يكون هو الإخبار بواسطة الرسل الذين يذكرون الناس بأن المنعم هو الله، وأن الله أنزل المنهج ليصلح الكون به، وإما أن يكون بواسطة النعم التي تمر على الإنسان في كل لحظة من اللحظات؛ لأنها تنبه الإنسان إلى أن هناك من أعطاها. مثال ذلك ساعة يستر الإنسان عورته وجسده بلباس جميل، ألا يتساءل عن الذي وهب الصانع تلك الموهبة التي صمم بها الزي. إذن كيف يأخذ الإنسان النعمة ولا يتذكر المنعم؟ إن الله سبحانه لا يحرمهم من النعم ساعة أن تركوا شكرها، بل يفتح عليهم أبواب كل شيء، أي يعطيهم من النعم أكثر وأكثر، فيترفون ويعيشون في ألوان من حياة العز والصحة والسعة والجاه والسيطرة والمكانة. ثم ما الذي يحدث؟ {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} . وقلنا من قبل هذا المثل الريفي: لا يقع أحد من فوق الحصير. ولكن الحق يعلي الكافر المشرك في بعض الأحيان ثم يأخذه بغتة فيقع ليكون الألم عظيماً. فإن رأيت إنساناً أسرف على نفسه ووسع الحق عليه في نظام الحياة. إياك أن تفتن وتقول: آه إن الكافر الظالم يركب أفخر السيارات ويعيش في أبهى القصور، لا تقل ذلك لأنك سترى نهاية هذا الظالم البشعة. وانظر إلى دقة التعبير في قول الحق تبارك وتعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} لقد فتح عليهم. . أي سلط عليهم، لا فتح لهم، ويقول الحق سبحانه في موقع آخر من القرآن الكريم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} . وهكذا نعرف أن الفتح لك غير الفتح عليك؛ لأن الفتح على أحد يعني الاستدراج إلى إذلال قسري سوف يحدث له. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] . إن القبض يأتي لحظة الفرح. وكثيراً ما نرى مثل هذه الأحداث في الحياة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3616 نلتفت إلى كارثة تحدث للعريس أو العروس في يوم الزفاف. ويصدق قول الشاعر: مشت الحادثات في غرف الحمراء ... مشي النعي في دار عرس وهذا يشرح القول الكريم: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] . وعندما ندقق في كلمة: {بِمَآ أوتوا} فإننا نجد أن ما حصلوا عليه من نعمة إنما جاءهم كتمهيد إلهي ييسر هذه المسائل، ثم يأخذهم الحق بغتة، أي أن الحادث الضار يأتي بدون مقدمات؛ لأن مجيء المقدمات قد يجعل الإنسان يتيقظ ويحتاط أو يتوقع ذلك. ونعرف أن الحق يقول في موقع آخر من القرآن الكريم: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً} [الأنعام: 47] . أي أن العذاب قد يأتي مرة بغتة، وقد يأتي مرة أخرى جهراً. والعذاب يأتي بغتة عقاباً، ويأتي جهرة حتى لا يقولن أحد: لولا أنّ مجيء العذاب بغتة لكان قد احتاط لذلك الأمر. ويأتيهم العذاب وهم مبلسون أي يائسون لا منجى ولا منقذ ولا خلاص لهم. ويتابع الحق ما يحدث لهؤلاء: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3617 وما دام هؤلاء القوم قد نسوا ما ذكِّروا به، وفتح الله عليهم أبواب كل شيء ثم فرحوا بما أوتوا وأخذهم الحق بغتة، كل ذلك يلفتنا إلى أنه يجب علينا أن نحمد الله لأن يربي الخلق بالنقمة والنعمة ويطهر الكون من المفسدين، وقطع دابر المفسدين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3617 مصيبة لهؤلاء المفسدين، ونعمة من نعم الله على المؤمنين. وقد يتساءل البعض: كيف يأتي القرآن بالنقم وكأنها نعم؟ ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 33 - 36] . إنها نقم يتحدث عنها الحق كإرسال الشواظ من نار ونحاس، وهي نقم بالنسبة للكافرين وعليهم، وهي نعم للمؤمنين. ونعلم أن التهويل في أمر العذاب يجعل الناس ترتدع، وهذا الوعيد نعمة من الله. وحين يتجلى الحق بنعمه على خلقه ويقطع دابر الظالمين، يقول المؤمنون الحمد لله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الأنعام: 45] . ويعود الحق إلى استنطاقهم بالإخبار عن المرئيات: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3618 هنا يأمر الحق نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يستنطقهم: ماذا يفعلون إن سلب الله السمع وغطى قلوبهم بما يجعلها لا تدرك شيئاً، وسلب منهم نعمة البصر، هل هناك إله آخر يستطيع أن يرد لهم ما سلبه الحق سبحانه منهم؟ لقد أخذوا نعمة الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3618 واستعملوها لمحادَّة الله وعداوته، أخذوا السمع ولكنهم صموا عن سماع الهدى، وأخذوا الأبصار ولكنهم عموا عن رؤية آيات الله. ومنحوا القلوب ولكنهم أغلقوها في وجه قضايا الخير. فماذا يفعلون إن أخذ الله منهم هذه النعم؟ هل هناك إله آخر يلجأون إليه ليستردوا ما أخذه الله منهم؟ وترى في الحياة أن الحق قد حرم بعضاً من خلقه من نعم أدامها على خلق آخرين. إن في ذلك وسيلة إيضاح في الكون. وإياك أن تظن أيها الإنسان أن الحق حين سلب إنساناً نعمة، أنَّه يكره هذا الإنسان، إنه سبحانه أراد أن يذكر الناس بأن هناك منعماً أعلى يجب أن يؤمنوا به. فإن أخذ الحق هذه النعم من أي كافر فماذا سيفعل؟ إنه لن يستطيع شيئاً مع فعل الله. وها هوذا النبي يوضح لهم بالبراهين الواضحة، ولكنهم مع ذلك يُعْرِضون عن التدبر والتفكر والإيمان {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} والمؤمن حين يرى إنساناً من أصحاب العاهات فهو يشكر الله على نعمه، إن الحق - سبحانه - بواسع رحمته يعطي صاحب العاهة تفوقاً في مجال آخر. ولنذكر قول الشاعر: عميت جنيناً والذكاء من العمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موئلا وغاض ضياء العين للقلب رافداً ... لعلم إذا ما ضيع الناس حصلا إننا قد نرى أعمى يقود ببصيرته المبصرين إلى الهداية. ونرى أصم كبيتهوفن - على سبيل المثال - قد فتن الناس بموسيقاه وهو أصم. وهكذا نجد من أصيب بعاهة فإن الله يعوضه بجودٍ وفضل منه في نواحٍ ومجالات أخرى من حياته. ولا يوجد إله آخر يمكن أن يعوض كافراً ابتلاه الله؛ لأن الله هو الواحد الأحد. {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} ، أي انظر يا محمد وتعجب كيف نبّين لهم الآيات ونصرفها من أسلوب إلى أسلوب ما بين حجج عقلية وتوجيه إلى آيات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3619 كونية وترغيب وتنبيه وتذكير ومع ذلك فإن هؤلاء الكافرين لا يتفكرون ولا يتدبرون، بل إنهم يعرضون ويتولون عن الحق بعد بيانه وظهوره. ويقول الحق من بعد ذلك: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3620 ونلحظ أن «تاء الضمير» في هذه الآية قد فتحت، بينما الآية السابقة لها جاءت فيها «تاء الضمير» مضمومة، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 46] . ونلحظ أيضاً أن الآية التي نحن بصددها الآن تأتي فيها كاف الخطاب: «أرأيتكم» بينما الآية السابقة لها لا تحمل كاف الخطاب «أرأيتم» ونعرف أن كل لفظة من هذه الألفاظ قد جاءت لتؤدي معنىً لا يؤدي بغيرها، وإن تشابهت الأساليب، فقوله (أرأيتكم) يشمل ويضم ضمير المخاطب وهو التاء المفتوحة ويشمل أيضا كاف الخطاب والجمع بين علامتي الخطاب (التاء) و (الكاف) يدل على أن ذلك تنبيه على شيء ما عليه من مزيد. إنه تنبيه إلى أن هلاكهم سيكون هلاك استئصال وإبادة، ومرة يقول الحق: «أرأيتم» أي أخبروني أنتم وأعلموني إعلاماً يؤكد لي صدق القضية، ويأتي الاستفهام هنا من مادة «أرى» و «رأى» . إن السبب في ذلك أنك حين تستفهم عن شيء إما أن يكون المستفهم منه قد حضر حدوث الشيء، وإما أن يكون المستفهم منه لم يحضر حدوث الشيء. فإن كان قد حضر حدوث الشيء فإنك تقول له: أرأيت ما حدث لفلان وفلان؟ فيقول لك: نعم رأيت كذا وكذا وكذا. وإن كان المستفهَم منه لم يعلم بالأمر ولم يره فهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3620 يجيب بالنفي، وهذا ما يحدث بين البشر، لكن حين يكون الاستفهام من الله، ويكون الحادث المستفهَم عنه قد حدث من قبل وجود المستفهم منه، فالإيمان يقتضي أن يجيب المستفهم منه عن هذا الحادث ب «نعم» . ومثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] . وهذا خطاب من الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنا حدث لأصحاب الفيل في عام ولادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يكن الحدث موضع رؤية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولقائل أن يقول: كيف يخاطب الله ورسوله باستفهام عن حادث لم يره؟ ونقول: إن الحق بهذا الاستفهام يوضح لرسوله: اسمع مني، وسماعك مني فوق رؤية عينيك للحدث، فإذا ما قلت لك: «ألم تر» فمعناها: اعلم علماً يقينياً، وهذا العلم اليقيني يجب أن تثق في صدقه كأنك رأيته رؤية العين وفوق ذلك أيضاً فإن عينك قد تخدعك أو تكذب عليك، ولكن حين يخبرك ربك لا يخدعك ولا يكذب عليك أبداً. إذن فالحق يريد أن يخرج هذه الأساليب مخرج اليقين. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - فحين يحاول إنسان قد أحسنت إليه كثيراً أن يجحد إحسانك، فأنت لا تقول له: أنا أحسنت إليك، ولكنك تقول له: أرأيت ما فعلته معك يوم كذا، ويوم كذا؟ وهنا يبدو كلامك كاستفهام منك، لأنك واثق أنه حين يدير رأسه في الجواب فلم يجد إلا ما يؤيد منطقك من وقوفك إلى جانبه، وإحسانك إليه، ولن يجد إلا أن يقول لك: نعم رأيت أنك وقفت بجانبي في كل المواقف التي تذكرها. وفي مثل هذا القول إلزام لا من موقع المتكلم، ولكن من واقع المخاطب. وبعد أن تكلم الحق عن تعنت الكافرين أمام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعدم اكتفائهم بالآيات التي أنزلها الله مؤيدة لصدق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم تماديهم في اقتراح آيات من عندهم، وقد اقترحوها في شيء من الصفاقة والسماجة، فقالوا: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3621 {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 90 - 93] . وكلها أسئلة مليئة بالتعنت، والحق سبحانه وتعالى هو الذي اختار القرآن معجزة ومنهجاً لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويعلم سبحانه صدق رسوله في البلاغ عنه، لكل ذلك يبين الحق لرسوله أن يبلغ هؤلاء الكافرين أنه سبحانه وتعالى لن يعود عليه أي نفع أو ضر نتيجة إيمانهم به سبحانه، لكن النفع بالإيمان يكون للعباد ويعود خيره إليهم؛ لأنه سبحانه وتعالى له صفات الكمال كلها قبل أن يخلق الخلق. إنها له أزلا وأبداً. فبصفات الكمال - علماَ وقدرة؛ وحكمة؛ وإرادة - خلق الخلق جميعا. فإياكم أيها الناس أن تفهموا أن إيمانكم بالله يزيده صفة من صفات الجلال أو الجمال، وإنما الإيمان عائد إليكم أنتم، فإذا كان منكم متكبرون ومتعنتون، فالحق سبحانه لا يترك من تكبر وتعنت ليقف أمام منهجه الذي يحكم حركة الحياة في الأرض، ولكنه سبحانه يأخذ أهل التكبر والتعنت أخذ عزيز مقتدر. واستقرئوا أيها الناس ما حدث لمن كذبوا رسل الله، وماذا صنع الله بهم؟ إنه بقدرته سبحانه وتعالى يستطيع أن يصنع معكم ما صنعه معهم. وإذا ما استقرأتم قصص الرسل مع المكذبين لله وجدتم العذاب قد جاء للقوم بغتة، فها هوذا الحق يقول عن قوم عاد: {فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3622 الآخرة أخزى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} [فصلت: 15 - 16] . لقد تكبر قوم عاد على سيدنا هود عليه السلام والذين آمنوا معه، وظنوا أنهم أقوى الأقوياء، وغفلوا عن قدرة الخالق الأعلى وهو القوي الأعظم وأنكروا آيات الله، فماذا كان مصيرهم؟ فاجأهم الحق بإرسال ريح ذات صوت شديد في أيام كلها شؤم ليذيقهم عذاب الهوان والخزي والذل في هذه الدنيا، ويقسم الحق بأن عذاب الآخرة أشد خزياً؛ لأنهم في هذا اليوم لا يجدون ناصراً لهم لأنهم كفروا بالذي ينصف وينصر وهو الحق جلت قدرته. وماذا عن قوم ثمود؟ لقد بين لهم الحق طريق الهداية. لكنهم اختاروا الضلال واستحبوا لأنفسهم الكفر على الإيمان، وكذبوا نبي الله صالحاً عليه السلام وعقروا الناقة، فنزلت عليهم الصاعقة لتحرقهم بمهانة بسبب ما فعلوا من تكذيب لرسولهم. {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17] . وماذا فعل الحق بأصحاب الفيل؟ لقد جاء قوم أبرهة لهدم الكعبة، فاستقبلتهم الطير الأبابيل. . أي التي جاءت في جماعات كثيرة متتابعة بعضها في إثر بعض بحجارة من طين متحجر محرق قد كتب وسجل عليهم أن يعذبوا به: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 2 - 5] . وكل حدث من تلك الأحداث أجراه الله بغتة. ومعنى البغتة أن يفاجئ الخطبُ القومَ بدون مقدمات علم به. وهناك أيضاً من الأحداث الجسام أنزلها الله بالكافرين جهرة، فهاهم أولاء قوم فرعون يغرقهم الله علناً. وكذلك قارون أهلكه الله جهرة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3623 {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين} [القصص: 76 - 81] . لقد أخذ قارون نعمة الله ونسبها إلى نفسه، وصار مفتوناً بما امتلك، وغرق في الغرور، فماذا فعل الله به؟ خسف الله به جهرة وأمام أعين الذين تمنوا مكانه. إذن فمن الممكن ان يأتي عذاب الله بغتة للكافرين به أو يأتيهم بالعذاب جهرة. وما السبب في التلوين بين «بغتة» و «جهرة» ؟ البغتة تثبت لمن يعبد غير الله أنه مخدوع في عبادته لغير الله، لأنه لو كان يعبد إلهاً حقاً لما قبل هذه الإله أن يعذب أتباعه من حيث لا يشعر. إذن فالبغتة تثبت عجز المعبودين من أصنام وغيرها، فقد عجزت تلك الأصنام أن تحتاط للعابدين لها. وقد يقول قائل منهم: لقد جاءنا العذاب فجأة، لكن لو جاء لنا مواجهة لكنا قادرين على مواجهته والوقوف أمامه. فيأتي الله أيضاً بالعذاب جهرة فلا يستطيعون مواجهته فتنتقطع حجتهم، وعلى الرغم من ذلك تموت في قلوب هؤلاء المعاندين القدرة على إبصار ضرورة الإيمان. ويعامل سبحانه خصوم رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل هذه المعاملة، فعندما عانده القوم جاءهم الله سبحانه بأمور معجزة لعلهم يتفكرون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3624 فهاهم أولاء قد اتفقوا على قتلة قبل الهجرة، ويقفون على باب بيته، ويخرجه الحق من بينهم وهم لا يبصرون، ولا يفلحون في التآمر على رسول الله، ولا ينجح لهم تبييت ضد رسول الله، ويكون مكر الله فوق كل مكر يريد به أعداء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إيذاءه به. وهم قد ذهبوا إلى الجن ليسحروا له، لكن لا هذا السحر قد نفع، ولا ذاك التبييت أتى بنتيجة. وكانت تكرمة الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوق كل شيء ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} [الأنعام: 47] . ويكون تذييل الآية - أيضاً - على هيئة استفهام، والاستفهام هنا - كما علمنا من قبل - إنما جاء ليؤكد المعنى، وليكون الإقرار من أفواه من يتلقون هذا الاستفهام وعن يقين منهم، وليكون الاعتراف منهم إجابة بالإقرار، والإقرار - كما نعلم - هو سيد الأدلة. وهب أن صاعقة نزلت أو خسفاً حدث فيه عذاب، فكيف ينجي الله المؤمنين به من هذا العذاب أو ذلك الخسف؟ إن الهلاك فقط يكون للقوم الظالمين؛ لأن الهلاك هو إعدام الحياة للحي المتمتع بالحياة، والذي لا يؤمن إلا بهذه الدنيا إذا جاءته مصيبة لتهلكه فهو يشعر بمرارة الخسران؛ لأنه لا يعتقد ولا يؤمن بالحياة الأخرى، لكن المؤمن الذي يتيقن أن له إلهاً وأنه سيعود إليه ليحاسبه ويجزيه عن إيمانه خير الجزاء إن حدثت له محنة في طي محنة كبرى للكافرين فهو يذهب إلى الجنة ويكون ذلك منحة له لا محنة عليه لتستمر حياته إلى خلود. وهكذا نجد أن الهلاك إنما يحدث للقوم الظالمين فقط لأنه يُفْقِدهم كل ما كانوا يتمتعون به في دنياهم وليس لهم في الآخرة إلا البوار والخسران والعذاب الدائم، أما غير الظالمين فالحق سبحانه وتعالى ينقلهم إلى حياة خالدة هي خير من هذه الحياة، إذن فالمؤمنون إنما يتلقون فيوضات الله عليهم في النعماء وفي البلاء أيضاً. ويتكلم الحق سبحانه وتعالى في الآية التالية عن التصور الإيماني الذي يجب أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3625 يرسخ في أذهان المؤمنين برسول مبلغ عن الله، وعندما يسمع العقل الطبيعي الفطري البلاغ عن الرسول فهو يصدقه فوراً؛ لأن الفطرة عندما ترى فساد الكون، وترى أن هناك من جاء بمنهج لإصلاح الكون لا بد أن تتجه إلى الإيمان بالمبلغ عن الله وهو الرسول. وعندما ترى الفطرة أن الكون كله قد تم إعداده لخدمة الإنسان، لا بد لها أن تتساءل عن الخالق لهذا الكون وعن المنهج الذي يجب أن تسير عليه لصيانة هذه النعمة، نعمة الوجود في الكون. ويقتضي الإحساس السليم من الإنسان أن يتعرف إلى حقيقة واضحة، وهي أن الإنسان قد طرأ على الكون، وأن هذا الكون مليء وغني بالخيرات، ولم يدع أحد أبداً أنه خلق السموات أو الأرض أو الماء أو الهواء. ولا بد أن يدور في خلد صاحب الفطرة السليمة تساؤل عن هذا الخالق الأكرم الذي وهب للإنسان حق الاستخلاف في كل هذا الكون. فإذا ما جاء رسول ليقطع هذا القلق وذلك الصمت ويقول: أنا جئتكم لأخبركم بمن خلقكم، وبمن خلق السموات، وبمن خلق الأرض، وبمن رزقكم هذا الرزق. هنا تنصت الفطرة إلى سماع الخبر الذي كانت تستشرف له. وإذا ما جاء هدا الرسول مؤيداً بآية من الله ومعجزة لا يقدر عليها البشر، فالعقل البشري يعترف اعتراف الإقرار على الفور؛ لأنه وجد حاجته عند ذلك الرسول. ولكن على الذين يؤمنون بما جاء به الرسول، وعلى الرسول نفسه، وحتى على الكافرين به، عليهم جميعاً ألا يتعدوا الحدود، وألا يضعوا أي رسول في مكان أعلى من منزلته، لأنه رسول من الله، إنه واحد من البشر تفضل الله عليه بالوحي واصطفاه للمهمة التي جاء بها. ولا بد للجميع أن يفهم أن الرسول مبلغ عن الله فقط، وأنه لا يستطيع أن يأتي بالآيات التي يقترحها بعض من القوم؛ لأن الرسول لا يقترح الآيات ولا يصنعها، الرسول مقصور على أداء الأمانة الموكلة إليه وهي أمانة البلاغ عن الله. ولذلك يقول لنا الحق: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3626 أي أن الحق سبحانه لم يعط الرسل قدرته ليفعلوا ما شاءوا، ولكنهم فقط مبلّغون عن الله، فلا يطلبن منهم أحد آيات؛ لأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بالآيات، وكل رسول يعلم أنه من البشر، وهو يستقبل عن الله فقط، ولذلك فلنأخذ الرسل على أنهم مبشرون ومنذرون {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} . ونعرف أن البشارة هي الإخبار بما يسر قبل أن يقع. والسبب في البشارة هو تهيئة السامع لها ليبادر إلى ما يجعل البشارة واقعاً بأن يمتثل إلى المنهج القادم من الإله الخالق. ونعرف أن الإنذار هو الإخبار بما يسوء قبل أن يقع ليحترز السامع أن يقع في المحاذير التي حرمها الله. والبشارة - كما نعلم - تلهب في الراغب في الفعل والمحب له أن يفعل العمل الطيب، والإنذار يحذر ويخوف من يرغب في العمل الشيء ليزدجر ويرتدع. إذن فمهمة الرسل هي البشارة والإنذار، فلا تخرجوا بهم أيها الناس إلى مرتبة أخرى أو منزلة ليست لهم فتطلبوا منهم آيات أو أشياء؛ لأن الآيات والأشياء كلها من تصريف الحق تبارك وتعالى، ومن سوء الأدب أن نُخطّئ الله في الآيات التي أرسلها مع الرسل ونطلب آيات أخرى. إنكم بهذا تستدركون على الله. ويبيّن الحق لنا حدود مهمة الرسل فيقول: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الأنعام: 48] . هذا هو عمل الرسل، فماذا عن عمل الذين يستمعون للرسل؟ إن الحق يقول: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 48] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3627 فالمطلوب - إذن - من الذين يستمعون إلى الرسل أن يقبلوا على اختيار الإيمان، وأن يستمعوا إلى جوهر المنهج وأن يطبقوه. فمن آمن منهم وأصلح فلا خوف عليه لأنه قد ضمن الفوز العظيم، ولا يصيبه أو يناله حزن، لأن ناتج عمله كله يلقاه في كتابه يوم القيامة. والإيمان هو اطمئنان القلب إلى قضية عقدية لا تطفو إلى الذهن لتناقش من جديد. ولذلك نسمي الإيمان عقيدة، أي شيئاً انعقد عقداً لا ينحل أبداً. إنّ على المؤمن بربه أن يستحضر الأدلة والآيات التي تجعل إيمانه بربه إيماناً قوياً معقوداً؛ وهذا عمل القلب. ويعرف المؤمن أن عمل القلب لا يكفي كتعبير عن الإيمان؛ لأن الكائن الحي ليس قلباً فقط، ولكنه قلب وجوارح وأجهزة متعددة، وكل الكائن الحي المؤمن يجب أن ينقاد إلى منهج ربه، فلا بد من التعبير عن الإيمان بأن يصلح الإنسان كل عمل فيؤديه بجوارحه أداء صحيحا سليما. إنني أقول ذلك حتى يسمع الذي يقول: إن قلبي مؤمن وسليم. لا، فليست المسألة في الإيمان هكذا، صحيح أنك آمنت بقلبك ولكن لماذا عطلت كل جوارحك عن أداء مطلوب الإيمان؟ لماذا لا تعطي عقلك فرصة ليتدبر ويفكر ويخطط ويتذكر، لماذا لا تعطي العين فرصة لتعتبر وتستفيد من معطيات ما ترى؟ وكذلك اليد، واللسان، والأذن، والقدم، وكل الجوارح. والإصلاح هو عمل الجوارح، فيفكر الإنسان بعقله في الفكرة التي تنفع الناس، ويسمع القول فيتبع أحسنه، ويصلح بيديه كل ما يقوم به من أعمال. ويعلم المؤمن أنه حين أقبل على الكون وجده محكماً غاية الإحكام، ويرى الإنسان الأشياء التي لا دخل له فيها في هذا الكون وهي على أعلى درجات الصلاحية الراقية، فالمطر ينزل في مواسمه، والرياح تهب في مواسمها ومساراتها، وحركة الشمس تنتظم مع حركة الأرض، وكل عمل في النواميس العليا هو على الصلاح المطلق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3628 إن الفساد يأتي مما للإنسان دخل فيه، فالهواء يفسد من بناء المنازل المتقاربة، وعدم وجود مساحات من الخضرة الكافية، ويفسد الهواء أيضاً بالآلات التي تعمل ولها من السموم ما تخرجه وتدفعه من أثر عملية احتراق الوقود. وعندما صنع الإنسان الآلات نظر إلى هواه في الراحة، وغابت عنه أشياء كان يجب أن يحتاط لها، ومثال ذلك: «عادم» السيارات الذي يزيد من تلوث البيئة، ورغم اكتشاف بعض من الوسائل التي يمكن أن تمنع هذا التلوث. إلا أن البعض يتراخى في الأخذ بها. ونحن حين نأخذ بقمة الحضارة ونركب السيارات فلماذا ننسى القاعدة التي تقوم عليها الحضارة وهي الدراسة العلمية الدقيقة لنصنع الآلات ونأخذ من الآلات ما يفيد الناس، فنعمل على الأخذ بأسباب تنقية البيئة من التلوث ونمنع الأذى عن حياة الناس. فالعادم الذي من صناعتنا - مثل عادم السيارات والآلات - يفسد علينا الهواء فتفسد الرئة في الإنسان. إن علينا أن نعرف أن من مسئولية الإيمان أن ننظر إلى الشيء الذي نصنعه وكمية الضر الناتجة عنه، وكل إنسان يحيا في مدينة مزدحمة إنما يضار بآثار عادم السيارات على الرغم من أنه ليس في مقدور كل إنسان أن يشتري سيارة ليركبها، فكيف يرتضي راكب السيارة لنفسه ألا يصلح من تلك الآلة التي تسهل له حياته ويصيب بعادمها الضر لنفسه ولغيره من الناس؟ لذلك فعلى المسلم ألا يأخذ الحضارة من مظهرها وشكلها بل على المجتمع المسلم أن يعمل على الأخذ بأسباب الحضارة من قواعدها الأصلية، وأن يدرس كيفية تجنب الأضرار حتى لا نقع في دائرة الأخسرين أعمالاً، هؤلاء الذين قال فيهم الحق سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 104] . ولنا أن نأخذ المثل الأعلى دائماً من الكون الذي خلقه الله لنصونه، إن عادم وأثر وناتج أي شيء مخلوق لله يفيد الإنسان ويفيد الكون حتى فضلات الحيوان يُنتفع بها في تسميد الأرض وزيادة خصوبتها. وهكذا نعرف معنى: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3629 فالإيمان عمل القلب، والإصلاح عمل الجوارح، ولذلك يجب أن نصلح في الكون بما يزيد من صلاحه. ولنعلم أن الكون لم يكن ناقصاً وأننا بعملنا نستكمل ما فيه من نقص، ليس الأمر كذلك، ولكننا أردنا أن نترف في الحياة، وما دمنا نريد الترف فلنزد من عمل العقل المخلوق لله في المواد والعناصر التي أمامنا وهي المخلوقة لله. وأن نتفاعل معها بالطاقات والجوارح المخلوقة لله، ما دمنا نريد أن نتنعم نعيماً فوق ضروريات الحياة. ومثال ذلك أننا قديماً وفي أوائل عهد البشرية بالحياة، كان الإنسان عندما يعاني من العطش، يشرب من النهر، وبعد ذلك وجد الإنسان أنه لا يسعد بالارتواء عندما يمد يده ليأخذ غرفة من ماء النهر، فصنع إناءً من فخار ليشرب منه الماء، ثم صنع إناءً من الصاج، ثم صنع إناء من البلور، فهل هذه الأشياء أثرت في ضرورة الحياة أو هي ترف الحياة؟ إنها من ترف الحياة. فإن أردت أن تترف حياتك فلتُعمل عقلك المخلوق لله في العناصر المخلوقة لله، بالطاقة والجوارح المخلوقة لله، وبذلك يهبك الله من الخواطر ما تستكشف به آيات العلم في الكون. ومثال ذلك: أن أهل الريف قديماً كانوا يعتمدون على نسائهم ليملأن الجرار من الآبار أو الترع ثم تقوم سيدة البيت بترويق المياه. وعندما ارتقينا قليلاً، كان هناك من الرجال من يعمل في مهنة السقاية، ويمر بالقرب المملوءة بالماء على البيوت. وعندما قام أهل العلم بالاستنباط والاعتبار اكتشفوا قانون الاستطراق، فرفعوا المياه إلى خزانٍ عالٍ، وامتدت من الخزان «مواسير» وأنابيب مختلفة الأقطار والأحجام، وصار الماء موجوداً في كل منزل، هذا ما فعله الناس الذين استخدموا العقول المخلوقة لله. وكان الناس من قبل ذلك يكتفون بالضروري من كميات المياه، فالأسرة كانت تكتفي بملء قربة أو قربتين من الماء، ولكن بعد أن صارت في كل منزل، أساء الكثير من الناس استخدام المياه، فأهدروا كميات تزيد عن حاجتهم، وتمثل ضغطاً على «مواسير» الصرف الصحي، فتنفجر ويشكو الناس من طفح المجاري. إن على المسلم أن يرعى حق الله في استخدامه لكل شيء، فالماء الذي يهدره الإنسان قد يحتاج إليه إنسان آخر، وعندما نتوقف عن إهداره، نمنع الضرر عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3630 أنفسنا وعن غيرنا من طفح «مواسير» الصرف الصحي. وليحسب كل منا - على سبيل المثال - كم يستهلك من مياه في أثناء الوضوء. إن الإنسان منا يفتح الصنبور ويغسل يديه ثلاثاً ويتمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، ويغسل وجهه ثلاثاً، ويغسل ذراعيه ثلاثاً، ويمسح برأسه، ويغسل أقدامه. ويترك الإنسان الصنبور مفتوحاً طَوال تلك المدة فيهدر كميات من المياه، ولو فكر في حسن استخدام المياه التي تنزل من الصنبور لما اشتكى غيره من قلة المياه. فلماذا لا يفكر المسلم في أن يأخذ قدراً من المياه يكفي الوضوء ويحسن استخدام الماء؟ وكان الإنسان يتوضأ قديماً من إناء به نصف لتر من الماء، فلماذا لا نحسن استخدام ما استخلفنا الله فيه؟ على الإنسان منا أن يعلم أن الإيمان كما يقتضي أو يوجب ويفرض الصلاة ليصلح الإنسان من نفسه، يقتضي - أيضاً - إصلاح السلوك فلا نبذر ونهدر فيما نملك من إمكانات، وأن ندرس كيفية الارتقاء بالصلاح، فلا نتخلص من متاعب شيء لنقع في متاعب ناتجة من سوء تصرفنا في الشيء السابق، بل علينا أن ندرس كل أمر دراسة محكمة حتى لا يدخل الإنسان منا في مناقضة قوله الحق: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] . أي عليك أن تعرف أيها المسلم أنك مسئول عن السمع والبصر والقلب وستسأل عن ذلك يوم القيامة، لذلك لا يصح أن تتوانى عن الأخذ بأحسن العلم ليحسن قولك وفعلك. وبذلك لا يكون هناك خوف عليك في الدنيا أو الآخرة؛ لأنك آمنت وأصلحت، وأيضاً لا حزن يمسك في الدنيا ولا في الآخرة: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . إنك بذلك تصون نفسك في الآخرة وفي الدنيا أيضاً؛ لأنك تسير في الحياة بإيمان وتصلح في الدنيا متبعاً قوانين الله. وإن رأيت أيها المسلم متعبة في الكون فاعلم أن حكماً من أحكام الله قد عطِّل، إن رأيت فقيراً جائعاً أو عرياناً فاعلم أن حقاً من حقوقه قد أكله أو جحده غيره؛ لأن الذي خلق الكون، خلق ما يعطيه الغني من فائض عنه للفقير ليسد عوزه، لكن الغني قبض يده عن حق الله، وأيضاً جاء قوم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3631 يتسولون بغير حاجة للتسول، والفساد هنا إنما يأتي من ناحيتين: ناحية إنسان استمرأ أن يبني جسمه من عرق غيره، أو من إنسان آخر غني لا يؤدي حق الله في ماله، بذلك يعاني المجتمع من المتاعب. ويقول الحق من بعد ذلك: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3632 والذين كذبوا بآيات الله هم إما من كذب الرسول في الآيات الدالة على صدقه وهو المبلغ عن الله، وهؤلاء دخلوا في دائرة الكفر. وإمّا هم الذين كذبوا بآيات المنهج، فلم يستخدموا المنهج على أصوله وانحرفوا عن الصراط المستقيم والطريق السوي. وهؤلاء وهؤلاء قد فسقوا، أي خرجوا عن الطاعة، ونعلم أن كلمة «الفسق» مأخوذة من خروج «الرطبة» عن قشرتها عندما يصير حجمها أصغر مما كانت عليه لاكتمال نضجها. والذي يفسق عن منهج الله هو الذي يقع في الخسران؛ لأن منهج الله هدفه صيانة الإنسان المخلوق لله ب «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» . إن الإنسان يفسق عندما لا يفعل ما أمره الله أن يفعله، أو يفعل ما نهاه الله عن أن يفعله. ونجد الإنسان منا يخاف على جهاز التسجيل أو جهاز التليفزيون من أن يفسد فيتبع القواعد المرعية لاستخدامه. فلا يمد - مثلاً - جهازاً من الأجهزة الكهربية بنوعية من الطاقة غير التي يحددها الصانع، فإن قال لصانع: استخدم كهرباء مقدارها مائتان وعشرون فولتاً حتى لا تفسد الآلة فالإنسان ينصاع لما قاله الصانع، فما بالنا بالإنسان، إن الله - جلت قدرته - خلق الإنسان ووضع له قوانين صيانته. إذن فمن يفسد في قوانين صيانة نفسه يمسه العذاب، وكلمة يمسهم الذعاب تعطي وتوحي بأن العقوبة تعشق أن تقع على المجرم، كأن العذاب سعى إليه ليناله ويمسه وها هوذا قول الحق عن النار. {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3632 وهو سبحانه القائل عن النار: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] . إذن فالعقوبة نفسها حريصة على أن تنفذ إلى من أساء. ولذلك يلح العذاب في أن يمس الذين فسقوا. ويأتي الحق هنا بكلمة «المس» لحكمة، ذلك أن عقوبة الله لا تقارن بعقوبة البشر. فالإنسان يعاقب إنساناً بمقياس قدرته وقوته، وليس لأحد من الخلق أن يتمثل قدرة الله في العذاب، ولذلك يكفي المس فقط، لأن التعذيب يختلف باختلاف قدرة المعذِّب، فلو نسبنا التعذيب إلى قدرة الله لكان العذاب رهيباً لا طاقة لأحد عليه. ويقول الحق بعد ذلك: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3633 و «قل» - كما نعلم - هي أمر من الله لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والرسول يبلغ ما أمر به الله، وكان يكفي أن يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا أقول لكم عندي خزائن الله. لكنها دقة البلاغ عن الله، إنّ القرآن توقيفي بمعنى أن كل كلمة فيه نزلت من الله كما هي وبلغها الوحي الأمين لسيدنا رسول الله، وبلغها لنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما هي، ويدل ذلك على أن أحداً لا يملك التصرف حتى في اللفظ، بل لا بد من أمانة النقل المطلقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3633 وأبلغنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الحق قد أرسله هادياً ومبشراً ونذيراً بآية دالة على صدق البلاغ عنه وهي القرآن. وكان يجب على مَن يستقبل هذا البلاغ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لنفسه. فليس من حق أحد أن يطلب من الرسول آيات غير التي أنزلها الله؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يدَّع إلا أنه مبلغ عن الله، فيجب أن تكون المقابلة له في إطار هذا الادعاء. وقد تجاوز الكافرون ذلك عندما طلبوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آيات أخرى، كتفجير بعض الأرض ينابيع مياه، أو أن يكون له بيت من زخرف، ولذلك يوضح له الحق سبحانه أن يبلغهم أنه لا يملك مع الله خزائن السموات والأرض، فكيف تطلبون بيوتا وقصورا، وكيف تطلبون معرفة الغيب حتى تقبلوا على النافع وتتجنبوا الضار؟ . ألا يكفيكم المنهج الإلهي الذي يهديكم إلى صناعة كل نافع لكم ويجنبكم كل أمر ضار بكم؟ ثم إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقل لهم إنه يعلم الغيب. وهو بشهادتهم هم يقولون عنه ما جاء بالقرآن الكريم: {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الفرقان: 7 - 8] . لقد سخروا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وطالبوا أن تكون له آيات أخرى، وتساءلوا كيف يمكن أن يزعم أنه رسول وهو يأكل الطعام كما يأكلون، ويغشى الأسواق لكسب العيش كما يفعل البشر، ولو كان رسولاً لكفاه الله مشقة كسب العيش، ولأنزل إليه مَلكاً يساعده في البلاغ عن الله، أو يلقي إليه الله من السماء بكنز ينفق منه، أو تكون له حديقة غناء يأكل من ثمارها. هذا ما قاله كبار المشركين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وأرادوا أن يصدوا الناس عن الإيمان بدعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فمرة يتهمونه بأنه مسحور، ومرة بأنه مجنون، وثالثة بأنه يهذي، ورابعة بأنه كذاب، وخامسة بأنه يتلقى القرآن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3634 من أعاجم، ويدحض الحق كل هذه الأكاذيب وكل تلك الافتراءات التي ضلوا بها وأضلوا بها سواهم. إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول من الرسل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان: 20] . إن الرسل من قبلك يا رسول الله كانت تأكل الطعام، وتكسب العيش من العمل ويترددون على الأسواق، فإذا كان المشركون يعيبون عليك ذلك ويحاولون إضلال الناس بكل الأساليب، فأنت ومن معك يا رسول الله من المؤمنين سيكتب الله لكم النصر ويَجْزِي كُلاً بما عمل. ثم إن الآيات التي يطلبها المشركون من رسول الله كانت كلها تعنتاً؛ فهو لم يقل لهم: إنه ملك. لقد قال لهم: إنه رسول مبلغ عن الله، وكل ما يؤديه هو صدق الأداء عن الله، فكيف يطلبون منه أشياء لا تتعلق إلا بملكية الله لخزائن الأرض؟ وكيف يطلبون منه أن يعلمهم الغيب؟ وكيف ينتقدون أنه رسول وبشر يأكل ويتزوج ويمشي في الأسواق؟ إن كل تلك الأقوال دليل التعنت؛ لأنهم قد طلبوا أشياء تخرج عن مجال ما ادعاه رسول الله لنفسه من أنه رسول مبلغ عن الله؛ إنهم طلبوا الخير النافع والينابيع التي تجري، والجنات والقصور، وأشياء كلها ليست في مقدور رسول مبلغ عن الله، لأن الذي يهبها هو الله سبحانه وتعالى. وكلمة «خزائن» هذه مفردها «خِزانة» وهي الشيء الذي يكنز فيه كل نفيس ليخرج منه وقت الحاجة. ولا تقل: خِزانة إلا لشيء جعلته ظرفاً لشيء نفيس تخاف عليه من أن تخرجه في غير أَوَانِ وزمان إخراجه. وخزائن الأرض كلها يملكها الله، فهو سبحانه وتعالى القائل: {والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 19 - 21] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3635 إذن فالحق جاء بالقضية الكلية، وهي أن أسرار الله ونفائسه في الكون هي بيد الله في خزائنه، وهو سبحانه يجليها ويظهرها ويكشفها لوقتها. كيف؟ إن الحق سبحانه وتعالى تكلم عن بدء الخلق، وتكلم عن خلق السموات والأرض، وتكلم عن هذا الموضوع كلاماً مجملاً تفسره الآيات الأخرى. فالحق سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 9 - 11] . يأمر الحق رسوله أن يبلغ هؤلاء المشركين كيف يكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين وكيف يجعلون له شركاء وهو الخالق للأرض التي هي مناط الحركة لابن آدم. لقد خلق فيها سبحانه ما يقيت ابن آدم وتقوم به حياته وإن أراد الترف فلا بد له من الطموح في الحياة. وهو سبحانه جعل في الأرض رواسي - أي جبالاً - وبارك في الأرض وفي الرواسي. ثم جاء بتقدير الأقوات بعد ذكر الرواسي وهي الجبال، فكأن الجبال في حقيقة أمرها هي مخازن القوت. وقد يقول قائل: كيف ذلك؟ ونقول: إن الواقع قد أثبت هذه الحقيقة؛ فأنت إن نظرت إلى الأنهار التي تجري، لوجدتها تتكون من الماء الذي تساقط من الأمطار على الجبال، فالمياه المكونة من ذرات صغيرة دقيقة تنزل على هذه الجبال لتفتتها، وكأن المياه هي «المبُرَد» الذي يزيل من سطح الجبال هذه الرمال المليئة بالعناصر الغذائية للأرض، وهو ما نسميه نحن «الغرين» ، والغرين - كما نعلم - هو ما ينزل مع المياه من سطوح الجبال إلى مجرى النهر، وباندفاع المياه في مجرى النهر تنتقل المادة الخصبة إلى الأرض، وتتكون تلك الطبقة الخصبة التي تتغذى منها النباتات. ولو شاء الحق سبحانه وتعالى لجعل سطح الأرض كله مستوياً، وفيه الخصوبة التي تنبت النبات. لكن حكمته سبحانه شاءت أن تصنع للنبات غذاءه بهذه الطريقة. فأنت إذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3636 ما نظرت إلى النبات وجدته يختلف من نوع إلى نوع في أسلوب امتصاصه للعناصر الغذائية اللازمة له، فهناك نوع من النبات يمتص غذاءه من عمق نصف المتر، ونوع ثانٍ يأخذ غذاءه من عمق المتر، وهكذا. وإن لم نأت للأرض المزورعة بسماد أو مخصبات أو غرين، فإن الأرض تضعف؛ لأن الحق يريد لعملية الزراعة أن تستمر وتمتد وتتوالى، فجعل الجبال مكونة بشكل صُلب، وتمر على الجبال عوامل التعرية من حرارة وبرودة وتشققات ثم ينزل عليها المطر فيذيب من سطوح الجبال بعضاً من تلك المواد الغذائية اللازمة للأرض، تنتقل هذه المواد الغذائية عبر المياه إلى الأرض، وبهذا يتوالى الإمداد بالخصب من الجبال إلى الأرض. وهكذا نجد أن الجبال في حقيقتها هي مخازن لخيرات الله. وهل مقومات الحياة زرع فقط؟ لا، لأنك إن نظرت إلى نموذج مصغر للكرة الأرضية، ستجده يشبه البطيخة الكبيرة، وإن جئت لتقطع مثلثاً من محيط القشرة إلى مركز البطيخة، وجعلت هذا المثلث يشبه الهرم، ثم أخذت منها مثلثاً آخر من أي ناحية سواء أكان من ناحية الأرض الخصبة، أم من البحار أم من الجبال أم من الوديان، أم من الصحاري، ثم نظرت من بعد كل ذلك إلى الخير المطمور في كل جزء من هذه الأجزاء لوجدته مساوياً للجزء الآخر. لماذا؟ لأن الحياة لا تعتمد على ألوان محصورة من القوت، ولكنها تحتاج في عمارتها إلى أدوات ومواد الحضارة من حديد وبترول ومنجنيز وغير ذلك من كنوز الأرض التي تقوم عليها الحضارة. إننا نجد هذه الخيرات مكنوزة إما في الجبال وإما في الصحاري. ولكن كل خير من هذه الخيرات له ميعاد، وله ميلاد، وانت لو قست ووزنت الخيرات الموجودة في أي مثلث هرمي من الأرض من مركزها إلى محيطها، وقارنتها بوزن قياس الخيرات الموجودة في مثلث هرمي آخر مساوٍ له من الكرة الأرضية نفسها، لوجدت الخيرات متساوية في كل من المثلثين. ولكن لكل لون من هذه الخيرات ميلاد وميعاد. {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] . فما يقال له شيء، فإن له خزانة عند الله يُنْزِلُ منها سبحانه بقَدَر. ونرى ذلك من قمة الوجود، وهو العقل، إن العقل شيء، وله خزائن عند الله، فما كان موجوداً من أفكار من عشرة قرون لدى البشرية جميعا لا يقاس بكمية الأفكار التي يمتلكها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3637 العقل الجمعي للعالم الآن، ذلك أن كل جيل قد استفاد مقدمات من أفكار الجيل السابق له ليصل إلى نتاج جديد. إذن فهناك خزائن للأفكار وللخواطر. وكذلك كل شيء في الوجود له عند الله خزائن لا ينزل منها إلا بِقَدَر معلوم: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} . وساعة يرى الحق أن يظهر ميلاد سر ما، فهو سبحانه يهيء الأسباب لذلك. وعلى سبيل المثال - ولله المثل الأعلى - كنا قديما نقطع الأخشاب من الأشجار لنصنع منها وقوداً، وكنا بعد أن نقطع الأخشاب نخشى عليها من الفساد، لذلك وضع الحق بعضاً من إلهاماته للعقل البشري حتى يستطيع تحويل الخشب إلى فحم ليضمن الإنسان صيانة الخشب، وليضمن وجود مصدر للطاقة هو الفحم النباتي. ومن بعد ذلك اكتشف الإنسان الفحم الحجري. ومن بعد ذلك اكتشفنا البترول، كل ذلك من خيرات الطاقة كان مكنوزاً في الأرض، ولم يكتشفه الإنسان إلا بعد أن أعطاهم الله الاستعداد لاستقبال هذا الخير، وسيظل عطاء الله قائماً إلى أن تقوم الساعة. فمع الفحم دخلنا عصر البخار، ثم دخلنا عصر الكهرباء، ثم دخلنا عصر الذرة. وكل هذه الأشياء كان لكل منها ميلاد، ولكل منها مكان في خزائن الله، وعندما ينزل الله أي خاطر من الخواطر على عبد من عباده فإن العبد يأخذ بالأسباب ويكتشف ميلاد السر المكنوز. وكل لاحق يأخذ من خير السابق ويبني عليه. وهكذا ينمو الخير دائماً. والأشياء في خزائن الله إما أن تكون مطمورة وإما تكون محكمة إحكاماً رقمياً، وعلى سبيل المثال، هذا هو الراديوم الذي اكتشفته «السيدة كوري» أظهره الله على يديها في وقت الحاجة إليه. وكان العلماء قبل اكتشاف الراديوم يعلمون أن هناك عنصراً لم يعرفوه له تركيب ذري معين؛ لأن عناصر الكون مصنوعة بحكمة جليلة كبيرة. وقد ينزل الشيء شائعاً في غيره، ومثال ذلك أن تقطف وردة وتستمتع بأريجها وجمال منظرها إلى أن تذبل، وقد يغيب عنك أن الوردة مكونة من تركيب معين، فالرطوبة هي التي تعطي الوردة نضارة، وكل شيء في الوردة هو من مادة الأرض، وعندما تذبل الوردة فهي تعود إلى عناصر الأرض بعد أن تتبخر منها المياه وتذهب كبخار مع غيرها من المتبخرات إلى السحاب الذي تحركه الرياح فيسقط مطراً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3638 وهكذا نجد أن قطرات المياه التي كانت في الوردة تبخرت وانضمت إلى السحاب، قد عادت مرة أخرى إلى الأرض من خلال المطر، ومادة الماء نفسها لم تزد ولم تنقص منذ أن خلق الله الخلق في هذا الكون، ونحن ننتفع بهذا الماء، وعندما ينتهي انتفاع إنسان بجزء من المياه فالماء يعود من خلال عمليات أرادها الله إلى خزانة الماء في الكون. وليسأل الإنسان منا نفسه: كم طناً من الماء قد شربته في حياتك؟ وستجد أنك قد شربت وانتفعت بمئات أو بآلاف من الأطنان، وخرج منك الماء في شكل عرق أو بول أو مخاط، أو غير ذلك. وكم بقي من الماء في جسمك؟ إنها نسبة قد تزيد على تسعين بالمائة من وزن جسمك أياً كان الوزن، ومن بعد أن يأتي أجلك كما قدره الله. فتتبخر كمية المياه التي في هذا الجسم لتنضم إلى السحاب ثم تنزل مع المطر. إذن فكمية المياه لم تنقص في الكون ولم تزد. وهذا ما نسميه الرزق المخزون بالتحول، تماماً كما تبخرت كمية المياه التي في الوردة، وتبخرت رائحتها في الجو وكذلك مادتها الملونة ذابت في الأرض. وساعة نزرع شجرة ورد تأخذ كل وردة لونها من المواد الملونة المخزونة في الأرض. إذن فكل شيء إما مخزون بذاته في خزائن الله، وإما مخزون بعناصره المحولة إلى غيره. وكل الوجود على هذا الشكل. وحركة الحياة هي بين الاثنين. إن الإنسان - على سبيل المثال - من لحم ومن دم، والبقرة أيضاً من لحم ودم، ويموت الإنسان ليعود إلى الأرض، ويستفيد الإنسان من الحيوان، وتعود كل مادة الحيوان إلى الأرض. وتدخل العناصر في دورة جديدة. إذن هي خزائن للحق، إما محولة، وإما خزائن حافظة؛ فالشيء الذي نستنبطه بحالته هو في خزائن حافظة، والشيء الذي يدور في غيره ويرجع إلى الأصل هو في خزائن محولة. ومن رحمة الحق بالخلق أنه لم يملك خزائن الأرض أو السموات لأحد من البشر حتى لا يستعلي إنسان على آخر. ولم يعط الحق حتى للرسل أي حق للتصرف في هذه الخزائن؛ لأن الرسل بشر، وقد احتفظ الحق لنفسه بخزائن الأرض والسموات ليطمئننا على هذه الخزائن. ولذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3639 {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق وَكَانَ الإنسان قَتُوراً} [الإسراء: 100] . الحق سبحانه يعلم أن الإنسان مطبوع على الحرص الشديد أو البخل، وهو سبحانه الغني الكريم؛ لذلك ينزل ما يشاء من خزائنه لعباده حتى ينتفعوا. ولم يدع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخزائن لنفسه، فكيف يطالبه المشركون بما في خزائن الله، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوضح ذلك ويوضح أيضاً أنه لا يعلم الغيب: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولا أَعْلَمُ الغيب} [الأنعام: 50] . وهو بذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينفي عن نفسه أي صفة من صفات الألوهية؛ لأن الخزائن الكونية هي في يد الله، وكذلك ينفي عن نفسه علم الغيب. ولقائل أن يقول: ولكن ماذا عن الأشياء والأحداث التي كان يخبرنا بها سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهي أحداث مستقبلية؟ ونقول: إن ذلك ليس علماً الغيب، ولكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُعَلَّم غيب، أي أن ربنا سبحانه وتعالى قد علمه، ومثال ذلك قول القرآن الكريم: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . إن الحق سبحانه هو الذي علَّم رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلك الأخبار التي كانت من أنباء الغيب، ويحسم الحق هذه المسألة عندما يقول: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 26 - 27] . فسبحانه وتعالى هو وحده عالم الغيب، ولا يُطْلِع أحداً من خلقه على الغيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3640 إلا الرسول الذي يرتضيه الله ليخبره ببعض من الغيب، ويحفظ الحق رسوله في أثناء ذلك بملائكة حفظة تحميه من تعرض الجن لما يريد إطلاعه عليه لئلا يسترقوه ويهمسوا به إلى الكهنة قبل أن يبلغه الرسول وحتى يصل الوحي إلى الناس خالصا من تخليط الجن وعبثهم. إذن فالرسول مُعَلَّم غيب وليس عالم غيب. والغيب - كما نعلم - هو ما غاب عن الحس، ولم توجد له مقدمات تدل عليه، فهناك أشياء تغيب عنك ولكن لها مقدمات، فإن التزمت بالمقدمات من بدايتها يمكنك أن تصل إلى النتيجة. مثال ذلك: إن أعطيت تلميذاً مسألة حسابية ليقوم بحلها، وعندما يحل التلميذ هذه المسألة فهو لم يعلم الغيب، ولكنه أخذ المقدمات والمعطيات، وبحث عن المطلوب، وأخذ يرتب المعلومات ليستنبط منها النتيجة. وكذلك حال الذين اكتشفوا أسراراً في الوجود، أعلموا غيباً؟ لا، إنهم فقط استخدموا بعضاً من المقدمات التي كانت موجودة أمامهم في الكون، وتوصلوا إلى نتائج جديدة، صحيح أن هذه النتائج كانت غائبة عنا، ولكن مقدماتها كانت موجودة، وكذلك كل النظريات الهندسية، كل نظرية نجدها تعتمد على سابقتها، وكل نظرية - حتى أعقدها وأصعبها - هي ملاحظة لأمر بدهي في الكون. وكل علم من العلوم له مقدمات إن بحث فيها باحث فإنه يصل إلى النتائج الجديدة، وهذا ما نسميه «غيبا إضافيا» ، أي كان غيباً في وقت ما لكنه غير غيب في وقت آخر، ولذلك يُنسب هذا العلم إلى البشر دائماً، ولنقرأ قول الحق سبحانه: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255] . والإحاطة بالعلم كلها لله، وهو سبحانه الذي يأذن لبعض من خلقه بالإحاطة ببعضٍ من هذا العلم، وكل سر من أسرار هذا الكون لا يولد إلا بإذن منه سبحانه وتعالى، وهو سبحانه يوفق العلماء أن يبحثوا في المقدمات ليصلوا إلى النتائج. ولكن ماذا عن العلم الذي لا توجد له مقدمات؟ هذا من الغيب المطلق الذي لا يظهره الحق لأحد إلا لمن ارتضى من رسول. أقول ذلك حتى لا يخطئ أحدنا فيظن أن إخبار إنسان لإنسان بمصير شيء ضاع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3641 منه هو معرفة للغيب، فقد يكون هذا غيباً بالنسبة لصاحب الشيء الضائع، ولكنه ليس غيباً بالنسبة للص الذي سرقه، ولا هو غيب بالنسبة للشخص الذي أخفى المسروقات، ولا هو غيب بالنسبة للجان المحيطين باللص، إذن فهذا ليس غيباً مطلقاً، ولكنه غيب معلوم للغير. إذن فخزائن الحق سبحانه وتعالى ملأى بكل أنواع الخير التي تؤدي للإنسان مهمة البقاء في الأرض سواء من جهة الضرورات أو الأشياء الترفية. {ولا أَعْلَمُ الغيب ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] . إذن فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينفي عن نفسه بقول الحق ثلاثة أشياء: منها شيئان ينفيان الألوهية عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهي ملكية خزائن الكون، وعلم الغيب، وشيء ثالث وهو أنه ليس مَلَكاً، فهل يعني ذلك أن المَلَكَ أرفع من النبي؟ لا، ولكنهم قالوا له: إنما يمشي في الأسواق ويتكسب العيش بالعمل، والمَلَك لا يفعل ذلك. ولكن الرسول بالطبع أرقى منزلة من المَلَك؛ لأنه يقوم بهداية الإنس والجن ويتبع ما يوحيه إليه ملِكُ الملوك، وهو الحق سبحانه وتعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحىإلي} . إنه من فرط ارتفاعه في الصدق المبلغ عن الله يعلن حقيقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه من البشر، والبشر ابن أغيار، ويعلم شيئاً، ويجهل شيئاً، ومن مصلحة المرسل إليهم أن يكون الرسول متبعاً لا مبتدعاً، ذلك أنه ينقل لهم تكاليف الخالق بألفاظها لا أفكار البشر التي قد تتغير أو تتبدل. فلو ابتدع لابتدع في إطار بشريته، وفي ذلك نزول لا ارتقاء، لكنه في الاتباع يأتي بالارتقاء للبشر؛ لأنه يتبع ما أوحى به الإله الذي اصطفاه رسولاً. ولذلك كانت الأمية في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شرفاً له ولنا. أما أُمّيَّة الإنسان العادي فهي عيب، إنما أُمّيَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي الكمال. و «أُمّيّ» - كما نعلم - تعني أنه كما ولدته أمه، لم يأخذ ثقافة ولم يتعلم من أحد من البشر، لكن علمه وثقافته فوقية كلها. إن ذلك وحي من الله، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما يعلن أنه نبي أمي، فهذا معناه أنّ كل ما دخل في ذهنه لم يأخذه عن أحد من خلق الله، وإنما كل ما جاء إلى هذا الذهن قد أخذه رسول الله عن الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3642 وهكذا تكون أميته شرفاً لنا، ولكن الأمية فينا - نحن المسلمين - تختلف يجب أن نعمل جميعاً على القضاء عليها: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} . والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا ينطق عن الهوى بل يبلغ ما جاء به الوحي. ويذيل الحق الآية بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50] . وساعة يأتي الحق بقضية يستخدمها كمثل، فلا بد أن يأتي بقضية متفق عليها حتى من الخصوم المواجهين له؛ فهم يعرفون أن الأعمى لا يستوي مع البصير، تماماً مثلما لا يستوي الظل والحرور أو الظلمات والنور. إن الفطرة لا تقبل الخلاف في هذه الأمور. والعمى - كما نعرف - هو عدم الرؤية لمن مِن شأنه وحاله أن يرى، فلا يقول إنسان عن حجر: إن الحجر أعمى؛ لأن الأحجار لا تبصر. إذن لا نقول العمى إلا كوصف لمن يفترض فيه أن يرى. وماذا تفعل عدم الرؤية في الأمر المحس؟ إن عدم الرؤية يؤذي الإنسان لأنه كائن متحرك. فقد يقع في حفرة أو يصطدم بشيء يؤذيه، وبإقرار الجميع نعرف أن الأعمى تضطرب حركته ويتعرض للمتاعب، والذي يحمي الإنسان من ذلك أن يكون مبصراً أو مستعيناً بمن يبصر حتى يمكن أن يستقبل المرئيات. وكان العلماء قديماً يظنون أن الإبصار هو نتيجة خروج شعاع من العين ليذهب إلى الشيء المرئي ونقض هذه القضية عالم إسلامي هو ابن الهيثم الذي علم العلماء أن الشعاع إنما يخرج من المرئي إلى عين الرائي بدليل أن الشيء المرئي لا يراه الإنسان في الظَّلام. والعمى يمنع العين من استقبال الشعاع، ولا يختلف أحد في أن العمى مهلك وضار ومتعب، والإبصار مريح. وكأن الحق يقول للخلق: إياكم أن تظنوا أن حياتكم كلها تعتمد على المحيط المحس، لا، إن هناك قيماً إن لم يعرفها الإنسان فهو يتعثر ويضطرب ويتخبط. إذن فمنهج السماء قد جاء ليهدي النفس البشرية إلى القيم، كما يهدي النور الحسي الإنسان إلى المحسات. فإذا كان البصر هو وقاية للإنسان لتفادي العقبات، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3643 فكذلك المنهج هو الذي يبين للإنسان ألا يصطدم بالعقبات في الأمور المعنوية. والإنسان يحيا بقيمه، بدليل أن الأعمى قد يجد من يقوده من المبصرين، ولكنه قد لا يجد هدايته في هداية مهتد. إذن فالإنسان قد يستغني عن البصر، ولكنه لا غنى له عن الهدى؛ لأن الضلال سيصيبه، والضلال في القيم أبلغ وأشد قسوة من الضلال في الأمور المحسّة. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} هناك تفكر، وتذكر، وتدبر. التفكر هو شغل العقل ابتداء بأمر ظاهر، يريد أن يستنبط منه شيئاً. وعندما يقول إنسان لآخر: فكر في هذا الأمر. . أي أدر عقلك في كل ما يتعرض لهذا الأمر. والذي يطلب من آخر التفكير في هذا الأمر كأنه واثق من أن الذي يتفكر في أمر لن يصل إلا إلى الرأي الذي قاله من عرض عليه التفكير. وأما التذكر فهو أن يصل الإنسان إلى حكم انتهى إليه بالتفكر ثم نسيه، ويأتي من يلفت الذهن إلى ذلك الحكم الذي انتهى منه فكرياً. إذن فالفكر يأتي بحكم أَوَلِيٍّ ناضج، والتذكر يأتي بحكم كان معلوماً للإنسان ولكنه غفل عنه. أما التدبر فهو ألا يكتفي الإنسان بالنظر إلى واجهة الأمور ولكن إلى ما وراء ذلك أيضاً؛ لأن كل شيء له واجهة، وقد تخفى الواجهة ما خلفها، لذلك يطلب الحق من الإنسان أن ينظر إلى أعقاب الأشياء وأقفائها، أي يدير الأمر على كل جهاته ولا يكتفي بالنظر إلى واجهاتها، مثلما يشتري الإنسان شيئاً من تاجر أمين، ويعرض التاجر على المشتري مواصفات الشيء بأمانة ويطلب منه أن يختبر الشيء حسب مواصفاته، لكن التاجر الغشاش يحاول أن يخفي المواصفات لأنه يريد خداع المشتري. وعندما يطلب الحق منا أن التفكر والتذكر والتدبر إنما يوقظ فينا المقاييس الحقيقية التي نصل بها إلى المطلوب الذي يريده الله. ولذلك يقول الحق: {وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3644 أي أنذر بالوحي - الذي تتبعه - هؤلاء الذين يخشون يوم اللقاء مع الله. والإنذار - كما نعلم - هو إعلام بشيء مخيف قبل وقوعه لنتفادى أن يقع. وما المراد بهؤلاء الذين يطلب الحق من رسوله إنذارهم بالوحي، في أول الإسلام كان إقبال بعض المؤمنين على العمل الإيماني ضعيفاً، وما دام في قلوبهم إيمان، ويخشون لقاء الله فالوحي إنذار لهم بضرورة العمل الإيماني الجاد. كما يجوز أن يكون الإنذار بالوحي لأهل الكتاب؛ لأنهم يعرفون أن هناك يوماً آخر سيلقون فيه الله. وقد يكون الإنذار لإنسان يؤمن بالبعث ولكنه يشك في الأنبياء وشفاعتهم، فهذا الصنف قد يحمله التخويف والإنذار إلى أن يعيد النظر في قضية الإيمان ويتقبل النبأ الصدق الذي جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولنا أن نأخذ الإنذار بالوحي على أي وجه من الوجوه السابقة. ولكن هل يخاف المؤمن أن يحشر إلى الله؟ لا. إن المؤمن إنما يخاف أن يحشر مجرداً من الولي والناصر. إذ في الحقيقة ليس هناك أحد يحمي وينصر من الله، ولا شفيع يخلص من عذاب الله إلا بإذنه {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وهذا ما يعتقده المؤمنون. وقد حدد الحق ذلك في قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51] . إنهم هم المؤمنون الذين آمنوا بالله، وبرسوله ولكنهم قصروا في بعض المطلوبات والتكاليف التي ينطوي عليها قوله الحق: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} هؤلاء المؤمنون عندما يجيئهم الإنذار فهم قد يصلحون من أمورهم خوفاً من الحشر بدون ولي ولا شفيع. المؤمن - إذن - له أمل أن يكون يوم الحشر في ولاية الله ورحمته، وهؤلاء هم من قال عنهم الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3645 {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 102] . وإن كانت الآية الكريمة تتناول وتشمل غيرهم من أهل الكتاب وتشمل وتضم أيضا الذين يؤمنون بالبعث ولكنهم لم يتبعوا أنبياء. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3646 نعرف أن الحق سبحانه وتعالى خلق الإنسان واستعمره في الأرض، وجعله طارئاً على هذا الوجود الذي أودع الله له فيه كل ما يلزمه من مقومات حياته وإسعاده. وأراد الحق من البشر أن يكون فيهم استطراق عبودي بحيث لا يوجد متعال على مستضعف، ولا يوجد طاغ على مظلوم، حتى تستقيم حركة الحياة استقامة يعطي فيها كل فرد على قدر ما هيئ له من مواهب. فإذا ما اختل ميزان الاستطراق البشري ردهم الحق سبحانه وتعالى إلى دليل لا يمكن أن يطرأ عليه شك، والدليل هو أنكم أيها البشر تساويتم في أصل الوجود من تراب، وتساويتم في العودة إلى التراب، وتتساوون في موقفكم يوم القيامة للحساب، فلماذا تختلفون في بقية أموركم؟ إن التساوي يجب أن يوجد. وها هوذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحرص أن تهتدي الأمة وكان يكلف نفسه فوق ما يكلفه به ربه، فيعاتبه ربه لأنه كان يشق على نفسه حرصا على إيمان قومه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3646 وقد يظن بعض الناس أن عتاب الله لنبيه لتقصير، ونرد على هؤلاء: ليفهم الإنسان منكم هذا اللون من العتاب على وجهه الحقيقي، فهناك فرق بين عتاب لمصلحة المعتاب، وعتاب للومه وتوبيخه؛ لأن المعاتَب خالف وعصى، ونضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت في يومك العادي إن نظرت إلى ابنك فوجدته يلعب ولا يذهب إلى المدرسة ولا يستذكر دروسه، فأنت تعاتبه وتؤنبه لأنه خالف المطلوب منه، ولكنك إن وجدت ابنك يضع كل طاقته ويصرف ويقضي أوقات راحته في المذاكرة. فأنت تطلب منه ألاّ يكلف نفسه كل هذا العناء، وتخطف منه الكتاب وتقول له: اذهب لتستريح. أنت في هذه الحالة تلومه لمصلحته هو، فكأن اللوم والعتاب له لا عليه. إذن قد حُلّ هذا الإشكال الذي يقولون فيه: إن الله كثيراً ما عاتب رسوله، ونوضح أن الحق قد عاتب الرسول له لا عليه؛ لأن الرسول وجد طريق الإيمان برسالته يسيرا سيرا سهلاً بين الضعفاء، ولكنه شغل نفسه وأجهدها رجاء أن يتذوق المستكبرون المتجبرون حلاوة الإيمان، وجاء في ذلك قول الحق: {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى أَمَّا مَنِ استغنى فَأَنتَ لَهُ تصدى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى} [عبس: 1 - 7] . إذن فالعتاب هنا لصالح من؟ إنه عتاب لصالح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحين يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التحريم: 1] . إن الآية تشير إلى أمر أغضب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفس البشرية من أمور حللها الله. والعتاب هنا أيضاً لصالح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولشدة حرصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على هداية القوم أجمعين، كان يحب أن يعامل الطغاة بشيء من اللين ليتألف قلوبهم. ولكن الطغاة لا يريدون أن يتساووا مع المستضعفين، فقد مرّ الملأ من قريش ووجدوا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خبّاب بن الأرتّ وصهيباً وبلالاً وعماراً وسلمان الفارسي وهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3647 من المستضعفين، فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعا لهؤلاء؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. وكأنهم يقولون له: إنك قد اكتفيت بهؤلاء الضعفاء وتركتنا نحن الأقوياء ولن نجلس معك إلا أن تبعد هؤلاء عنك لنجلس، فما كان من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببديهية الإيمان إلا أن قال: ما أنا بطارد المؤمنين. إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرف أن هناك من أمثالهم من قالوا لغيره من الأنبياء مثل قولهم. فقد قال قوم نوح عليه السلام له ما حكاه القرآن الكريم: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] . وحاول بعض من أهل الكفر أن يعرضوا موقفاً وسطاً على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: إذا نحن جئنا فأقمهم من عندك لنجلس معك فإذا قمنا من عندك فاجعلهم يجلسون. ووجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذا الرأي حلا وسطاً يمكن أن يقرب بين وجهات النظر، واستشار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال عمر: لو فعلت حتى ننظر ما الذي يريدون. وطالب أهل الكفر من أثرياء قريش أن يكتب لهم رسول الله كتاباً بذلك، وجيء بالدواة والأقلام، وقبل الكتابة نزل قول الله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} [الأنعام: 52] . ورمى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالصحيفة التي جيء بها ليكتبوا عليها كلاماً يفصل بين جلوس سادة قريش إلى مجلس رسول الله وجلوس الضعفاء أتباع رسول الله. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنما مال إلى ذلك من الكتابة طمعا في إسلام هؤلاء المشركين وإسلام قومهم بإسلامهم رحمة بهم وشفقة عليهم، ورأى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئا ولا ينقص لهم قدراً فمال إليه فأنزل الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3648 الآية ونهاه عما همّ به من الطرد، لا لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أوقع ذلك وطردهم وأبعدهم، ثم دعا بعد ذلك بالضعفاء فأتوه. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل ذلك يجلس مع المستضعفين، وإن أحب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يقوم من المجلس قام، ولكن الله أراده أن يكرم هؤلاء القوم المستضعفين بعد أن نهاه عن طردهم، وأن يكرمهم سبحانه بما أُهيجوا فيه، وجاء أمر إلهي آخر بألا يقوم رسول الله من مجلسه مع المستضعفين حتى يقوموا هم، فقال الحق تبارك وتعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28] . وعندما نزلت هذه الآية قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم» . وبهذا القول الكريم أراد الحق سبحانه وتعالى إكرام الضعفاء والمستضعفين. ويقول سلمان الفارسي وخباب بن الأرت فينا نزلت، فكان - رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} فترك القيام عنا إلى أن نقوم فكنا نعرف ذلك ونعجله القيام. أي أنهم هم الذين كانوا يقومون أولاً من مجلس رسول الله، فقول الحق: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} هذا هو قول الله - سبحانه - أمر به رسول الله ومأمور به كذلك كل إنسان من بعد رسول الله، وفي هذا قمة التكريم للدائمين على ذكر الله من المستضعفين؛ لأنهم أهل محبة الإيمان وهم الذين سبقوا إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3649 وها هوذا أحد خلفاء المسلمين وقد جاءه صناديد العرب الذين أسلموا، واستأذنوا في الدخول إليه، فلم يأذن لهم حتى أذن لضعفاء المسلمين. فورم أنف كل واحد من هؤلاء الصناديد وقالوا: - أيأذن لهؤلاء ويتركنا نحن؟ لقد صرنا مسلمين. فقال قائل منهم يفهم ويفقه أمر الدين: أكلكم ورم أنفه أن يؤذن لهؤلاء قبلكم، لقد دعوا فأجابوا، ودعيتم فتباطأتم، فكيف بكم إذا دعوا إلى دخول الجنة وأُبطئ دخولكم. إنّ هؤلاء الضعفاء يريدون بالطاعة وجه الله، وكلمة «وجه الله» تدل على أن الإيمان قد أُشْرِب في قلوبهم، وأنهم جاءوا إلى الإيمان فِراراً بدينهم من ظلم الظالمين وطغيان الطغاة الذين كانوا يريدونهم على الكفر والضلال. إنهم قد حلا لهم الإيمان، وحلا لهم وجه الله، وحلا لهم أن يؤجل لهم كل الثواب إلى الآخرة. وحين نسمع قول الحق: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فهذا وصف لله بأنّه - جل شأنه - له وجه، ونطبق في هذه الحالة ما نطبقه إذا سمعنا وصفاً لله، إننا نأخذ الوصف في إطار قوله الحق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ويطلق الوجه ويراد به الذات، لأن الوجه هو السمة المميزة للذوات. فأنت إن قابلت أناساً قد غطوا وجوههم واستغشوا ثيابهم وستروا بها رءوسهم فلن تستطيع التمييز بينهم. ويقال: فلان قابل وجوه القوم. أي التقى بالكبار في القوم. والحق سبحانه وتعالى يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} ، ويقول الحق سبحانه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} وفي هذا القول حرص على كرامة المستضعفين؛ فقد يقول قائل: لقد استجار هؤلاء الضعفاء بالدين حتى يفروا من ظلم الظالمين وليس حباً في الدين، فيوضح الحق: ليس هذا عملك، وليس لك إلا أن تأخذ ظاهر أعمالهم وأن تكل سرائرهم إلى الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3650 {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} [الأنعام: 52] . وكأن الحق يوضح لرسوله: لو كان عليك من حسابهم شيء لجاز لك أن تطردهم، ولكن أنت يا رسول الله تعلم أن كل واحد مجْزىٌّ بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وقد أنزل الله عليك القول الحق: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} . إذن فلكل إنسان كتابه. قد سطر وسجّل فيه عمله ويجازي بمقتضى هذا، ويقول الحق من بعد ذلك: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3651 نحن هنا أمام «بعضين» : بعض قد استعلى أن يجتمع ببعض آخر مستضعف عند رسول أرسله الله. ويمتحن الله البعض بالفتنة، والفتنة هي الاختبار. إن بعضاً من الناس يظن أن الفتنة أمر مذموم، لا، إن الفتنة لا تذم لذاتها، وإنما تذم لما تؤول إليه. فالاختبار - إذن - لا يذم لذاته، وإنما يذم لما يؤول إليه. وتأتي الفتنة ليُرى صدق اليقين الإيماني، وها هوذا الحق سبحانه وتعالى يقول: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 2 - 3] . إن الحق سبحانه يختبر مدى صدق الإنسان حين يعلن الإيمان، إنه - سبحانه - يختبرهم بالمحن والنعم، وقد اختبر الحق الأمم السابقة بالتكاليف والنعم والمحن ويظهر ويبرز إلى الوجود ما سبق أن علمه سبحانه أزلاً، ويميز أهل الصدق في الإيمان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3651 عن الكاذبين في الإيمان. فمن صبر على الاختبار والفتنة فقد ثبت صدقه ويقينه، ومن لم يصبر فقد دّل بعمله هذا على أنه كان يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ورضي، وإن أصابه شر وفتنة انقلب على وجهه ونكص على عقبيه فخسر الدنيا والآخرة. إذن فالفتنة مجرد اختبار. والوجود الذي نراه مبني كله على المفارقات، وعلى هذه المفارقات نشأت حركة الحياة. ويجب الإيمان بقدر الله في خلقه؛ فهذا طويل، وذاك قصير، هذا أبيض، وذاك أسود، هذا مبصر وذلك أعمى، هذا غني، وذلك فقير، هذا صحيح، وذلك سقيم، وذلك ليكون كل نقيض فتنة للآخر. فالمريض - على سبيل المثال - فتنة للصحيح، والصحيح فتنة للمريض، ويستقبل المريض قدر الله في نفسه ولا ينظر بحقد أو غيظ للصحيح، ولكن له أن ينظر هل يستعلي الصحيح عليه ويستذله، أو يقدم له المساعدة؟ والفقير فتنة للغني، وهو ينظر إلى الغني ليعرف أيحتقره، أيحرجه، أيستغله، والغني فتنة للفقير، يتساءل الغني أينظر إليه الفقير نظرة الحاسد. أم الراضي عن عطاء الله لغيره. وهكذا تكون الفتن. إن من البشر من هو موهوب هبة ما، وهناك من سلب الله منه هذه الهبة، وهذا العطاء وذلك السلب كلاهما فتنة؛ لنؤمن بأن خالق الوجود نثر المواهب على الخلق ولم يجعل من إنسان واحد مجمع مواهب؛ حتى يحتاج كل إنسان إلى مواهب غيره، وليقوم التعاون بين الناس، وينشأ الارتباط الاجتماعي. وعندما يخلق الله الإنسان بعاهة من العاهات فهو سبحانه يعوضه بموهبة ما. هكذا نرى أن العالم كله قد فتن الله بعضه ببعض، وكذلك كانت الجماعة المؤمنة فتنة للجماعة الكافرة، وكانت الجماعة الكافرة فتنة لرسول الله، ورسول الله فتنة لهم فساعة يرى رسول الله الكفار وهم يجترئون عليه ويقولون: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . يعرف أن هؤلاء القوم يستكثرون عليه أن ينزل عليه هذا القرآن العظيم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3652 وفي هذا القول فتنة واخْتبار لرسول الله، وهو يصبر على ذلك ويمضي إلى إتمام البلاغ عن الله ولا يلتفت إلى ما يقولون، بل يأخذ هذا دليلاً على قوة المعجزة الدالة على صدق رسالته. والجماعة التي استكبرت وطلبت طرد المستضعفين هم فتنة للمستضعفين، والمستضعفون فتنة لهم، فلو أن الإيمان قد اختمر في نفوس المستكبرين لما استكبروا أن يسبقهم الضعاف إلى الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن فكلنا يفتن بعضنا بعضًا. وكل إنسان عندما يرى موهوباً بموهبة لا توجد لديه فليعلم أنها فتنة له وعليه أن يقبلها ويرضى بها في غيره. وما عُبِدَ الله بشيء خيرا من أن يحترم خلق الله قدر الله في بعضهم بعضًا، ولذلك يختبرنا الحق جميعاً، فإن كنت مؤمنا بالله فاحترم قدر الله في خلق الله حتى يجعل الله غيرك من الناس يحترمون قدر الله فيك. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} [الأنعام: 53] . ووجه الفتنة هنا أن قومًا طلبوا طرد المستضعفين وقالوا كما حكى الله عنهم: {أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} ؟ كأنهم تساءلوا عن المركز الاجتماعي للمستضعفين من المؤمنين، ويأتيهم الرد من الله: {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} . فسبحانه هو العليم أزلاً بالبشر، ولا يقترح عليه أحد ما يقرره. وقد سبق للذين كفروا أن قالوا: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} . وجاءهم الرد من الحق سبحانه وتعالى فقال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3653 وهكذا نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لم يضع مفاتيح الرسالة في أيدي المشركين أو غيرهم، ليوزعوا هم الأمور ويقوموا بتدبير الأمر. بل هو سبحانه وتعالى الذي يوزع المواهب في البشر رزقاً منه ليعتمد كل إنسان على الآخرين في مواهبهم التي يعجز عنها، ويعتمد عليها الآخرون في موهبته التي يعجزون عنها. ومسألة النبوة هي اصطفاء إلهي يكبر ويسمو على كل مقامات الدنيا. ويدل السياق إذن على أن بعضاًَ من كبار العرب طلبوا أن يطرد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعضاً من المستضعفين، فأراد الله أن يطمئن المستضعفين بشيء عجل لهم به في الدنيا وإن كان قد جعله لبقية المؤمنين في الآخرة. لذلك يقول الحق: {وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3654 لقد كان طلب الطرد لهؤلاء المستضعفين فيه إهاجة لكرامتهم ولمنزلتهم ولأنهم دون الأثرياء ووجهاء القوم، فيطمئنهم الحق بالسلام منه في الدنيا فيأمر رسوله: {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} . ونفهم من السلام أنه الخلو من الآفات النفسية والآفات الجسدية، فكأن الحق سبحانه أراد ان يعوضهم بالسلام القادم من الله {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} ونرى كلمة: «الرحمة» تتردد كثيراً في القرآن الكريم، فها هوذا الحق يقول في موقع آخر: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} [الإسراء: 82] . ما الفارق إذن بين الشفاء والرحمة؟ الرحمة: لا يبتلي الله الإنسان بمرض، إنها الوقاية، أما الشفاء فهو أن يزيل الحق أي مرض أصاب الإنسان. وهذا هو البرء بعد العلاج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3654 إذن ففي القرآن شفاء ورحمة، أي وقاية وعلاج. والذي يلتزم بمنهج القرآن لا تصيبه الداءات الاجتماعية والنفسية أبداً، والذي تغفل نفسه وتشرد منه يصاب بالداء الاجتماعي والنفسي، فإن عاد إلى منهج القرآن فهو يُشفى من أي داء. وحين يأمر سبحانه رسوله أن يقول لهؤلاء الذين أهيجوا بطلب طردهم على الرغم من إيمانهم برسالة رسول الله: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} فهذا يعني أن ما حدث لهم في هذا الأمر هو آخر ابتلاءاتهم، وقد أخذوا بهذه الإهاجة سلاما دائما، وما دام الله قد كتب على نفسه الرحمة فكأنه وقاهم مما يصيب به غيرهم. وإذا سمعت قول الله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} فالكتابة تدل على التسجيل، ولا أحد يوجب على الله شيئاً لأنه خالق الكون، وله في الكون طلاقة المشيئة، فلا أحد يكتب عليه شيئاً ليلزمه به، ولكنه سبحانه هو الذي أوجب على نفسه الرحمة. ونأخذ كلمة «نفسه» في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، ذلك أن النفس عند البشر هي الجسم والدم والحركة والحياة، ولكن ماذا عندما تأتي كلمة «النفس» منسوبة إلى الله؟ المراد - إذن - هو الذات الإلهية. وإن لم تأخذ مراد الكلمة بهذا المعنى فأنت تدخل إلى مخالفات كثيرة وقانا الله وإياك شرورها. وأؤكد هذا المعنى ليستقر في ذهن كل مؤمن، أن النفس بالنسبة للكائن الحي غيرها بالنسبة لله، ولا بد أن نأخذ أي شيء منسوب إلى الله في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ؛ لأن النفس بالنسبة للكائن الحي عبارة عن امتزاج الروح بالمادة، والمادة مكونة من أبعاض. وإن لم تأخذ المراد من نفس الله على ضوء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، فأنت - والعياذ بالله - تنفي عن الحق «الأحدية» . ونعرف أن للحق سبحانه وتعالى «وصفين» يتحدان في المادة وفي الحروف: الأول هو «واحد» . والآخر هو «أحد» . والسطحيون في الفهم يظنون أن «واحداً» معناها «أحد» . ونقول: لا، إن «واحداً» لها مدلول، و «أحدًا» لها مدلول آخر. فعندما نقول: «إن الله واحد» أي لا يوجد فرد ثان من نوعه فليس له مثيل ولا شبيه ولا نظير. وعندما نقول: «إن الله أحد» أي أنه لا يتكون من أبعاض يحتاج بعضها إلى البعض الآخر لتكوين الكل، لأن الشيء قد يكون واحداً وليس أحدًا. ولذلك نؤكد الفارق بين: «واحد» و «أحد» ، وحتى يعرفه كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3655 مؤمن جيداً فهو - سبحانه - واحد لا يوجد فرد ثان يشاركه في وحدانيته، فهو واحد لا شريك له، وهو أحد جل وعلا أي ليس له أبعاض يحتاج بعضها إلى بعض. وسبق أن أوضحنا أن هناك شيئا اسمه: «كل» وشيئاً آخر اسمه «كلي» . والكل هو المكون من أجزاء، كل جزء منها لا يؤدي الحقيقة، وإنما لا يُؤدي الكل إلا بضميمة الأجزاء بعضها إلى بعض. ومثال ذلك الكرسي: إنه مكون من خشب ومسامير وغراء، فلا يقال للخشب كرسي، ولا يقال للمسامير كرسي، ولا يقال للغراء كرسي. ولكن يقال للشيء المصنوع من كل هذه الأشياء على هيئة محددة: إنه كرسي. إذن ف «الكل» له أجزاء تجتمع لتكوّنه. والكلّي يمكن أن تطلق على الإنسان، ولكن في الجنس البشري هناك أفراد كثيرون له. وعلى ذلك فالحق سبحانه وتعالى ليس «كُلاًّ» أي لا أجزاء له لأنه أحد، وليس «كلياً» لأنه لا شيء مثله؛ فسبحانه وتعالى واحد أحد. ولهذا نفهم جميعاً أن كل شيء منسوب إلى الله ينبغي أن يكون في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ونحن لا نفهم مراد كلمة «النفس» بالنسبة لله كما نفهمها بالنسبة للبشر؛ لذلك فنفس الله ليست كنفس البشر؛ لأن الله غني لا يحتاج إلى غيره، وهو - سبحانه - ليس مكوناً من أجزاء، فهو سبحانه له كل الكمال والجلال في وحدانيته وأحديته وفي سائر صفاته وأفعاله. وحين يقول سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ} . قد يتساءل إنسان: وما مدلول الرحمة؟ وتأتي الإجابة في قوله الحق: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . والحق حينما أنزل منهجاً من السماء فالمنهج يضم نصوصاً للتجريم كنصوص عقاب الزاني أو اللص، وغير ذلك، ولا يمكن أن تأتي عقوبة إلا إذا جاءت بعد تجريم، مثال ذلك الرشوة والنميمة وكل مخالفة للمنهج، فلا عقاب إلا بجريمة، ولا جريمة إلا بنص. والحق الذي خلق الخلق يعلم أن بعضا من خلقه يكون من ضعاف النفوس، وقد تغلب إنساناً نفسُه فيرتكب ذنباً أو معصية، والمثال على ذلك قول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3656 {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] . هذا هو عقاب السارق والسارقة. وكذلك يقول الحق عن الزاني والزانية: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] . ما معنى إنزال مثل هذه النصوص؟ معنى إنزال هذه النصوص أن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن الإنسان قد يضعف في بعض مطلوبات الدين فيقع في معصية، ولا بد أن يوجد عقاب عليها. واحترم الحق بذلك تكوين الإنسان عندما منحه الاختيار، فوضع الثواب والعقاب. وكما وضع الحق النص على الجرائم وعقوبتها فهو سبحانه وتعالى قد فتح باب التوبة لخلقه، حتى لا يكون الذي عصى الله مرة واحدة فاقداً للأمل، حتى لا يشقى المجتمع بهؤلاء العصاة. وشرع الحق التوبة للخلق ليرحهم من شرور من ارتكبوا المعاصي، وليرحم أيضاً أصحاب المعاصي ما داموا قد تابوا عنها. وقد يرحم الله بعض خلقه من المعاصي فيحفظهم منها. وهو الحق القائل: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118] . سبحانه - إذن - يهدي إلى التوبة ويعفو، وهو عظيم الرحمة بالعباد التوابين. ومن ظواهر رحمة الله سبحانه: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 54] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3657 والسوء هو الأمر المنهي عنه من الله. هل هناك من يعمل السوء بجهالة؟ . بعضنا يفهم الجهالة فهماً سطحياً على أساس أنها «عدم العلم» ؛ لا. إنَّ الذي لا يعلم هو الأمي الخالي الذهن، والجهالة غير الجهل، فالجهل هو أن يعلم الإنسان حكماً ضد الواقع، كأن يكون مؤمناً بعقيدة تخالف الواقع. ومعالجة الجهل تقتضي أن ننزع منه هذه العقيدة التي هي ضد الواقع ثم نقنعه بالعقيدة المطابقة للواقع. والذي يسبب المتاعب للناس هم الجهلة؛ لأن الجاهل يعتقد في قضية ويؤمن بها وهي تخالف الواقع. وعندما جاء العلماء عند هذا القول الحكيم: {مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ} . قالوا: إن الجهالة هي السفه والطيش، والطيش يكون بعدم تدبر نتائج الفعل. والسفه ألا يقدِّر الإنسان قيمة ما يفوته من ثواب وما يلحقه من عقاب. وقد يكون الإنسان مؤمناً، لكنه يرتكب السوء لأنه لم يستحضر الثواب والعقاب ويرتكب من السوء ما يحقق له شهوة عاجلة دون التمعن في نتائج ذلك مستقبلاً، ولو استحضر الثواب والعقاب لما فعل ذلك السوء. ويمكن أن نفهم أيضاً الجهالة على أنها ارتكاب الأمر السيئ دون أن يبيت له الإنسان أو يخطط، وذلك كأن يخطط إنسان السفر إلى باريس لطلب العلم، وعندما وصل إلى هناك جاءت له امرأة في غرفته في الفندق وهي في كامل فتنتها وزينتها، وألحت عليه لارتكاب الفحشاء، فلم يقدر على نفسه. هذا فعل للسوء بجهالة؛ لأنه لم يخطط لذلك السوء، وهو يندم من بعد ذلك، ولا يحكي عن ذلك الفعل بفخر أبداً. هناك فارق - إذن - بين هذا الإنسان وإنسان آخر بحث في عناوين بيوت اللذة في باريس قبل أن يسافر إليها، إنه بذلك يخطط لفعل المنكر وارتكاب الفحشاء. ويصر على السوء، ويتفاخر به ولا يندم على فعل؛ هذا الصنف من البشر لا يغفر له الله إن استمر على هذا الحال حتى شارف الموت أو أدركه الموت، ولذلك يقول الحق: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3658 لأن الحق سبحانه إنما يقبل توبة من ارتكب الذنب في حالة الحماقة والطيش، ويقبلون على التوبة فوراً، هؤلاء يقبل الحق توبتهم، أما الذين لا يندمون على فعل السوء فيقول الحق عنهم: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 18] . إن الذين لا يُقبلون على التوبة من فور ارتكاب الذنب وينتظر الإنسان منهم مجيء الموت ليتوب قبله أي وهو في حالة الغرغرة - وهي تردد الروح في الحلق عند الموت - هؤلاء لا تقبل لهم توبة، وكذلك الذين يموتون على الكفر - والعياذ بالله - وقد أعد الله لكليهما عذاباً أليماً. والحق سبحانه قد وضح لنا قبل ذلك فقال: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 54] . إذن فالتوبة يجب أن يتبعها إصلاح وصلاح؛ ذلك أن الحسنات يذهبن السيئات، والحق سبحانه غفور لا يعاقب على ذنب تاب عنه العبد، ورحيم لأنه يثيب على الفعل الحسن، بل إنه يثيب الإنسان الذي يكرر ندمه على فعل سيء ويكتب له عن ذلك حسنة. بل إنه - بسعة رحمته - يبدل سيئاته حسنات. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3659 وساعة تسمع قوله الحق: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات} فاعلم أن هناك تفصيلاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3659 سيلي ذلك يشابه تفصيلاً سبق. والآيات السابقة قد فصّل الله فيها أموراً كثيرة؛ فصّل لنا حجة وصحة وحدانية الله سبحانه، وفصّل لنا صحة النبوة، وفصّل لنا صحة القضاء والقدر. ومن بعد ذلك كله يعطينا الحق المقاييس التي تقرر الحقائق التي ينكرها أهل الباطل؛ فيفصّل لنا في العقائد، ويفصّل لنا في حركة الحياة والحركة العبادية التي نؤدي بها تكاليف الإيمان. وكما فصل لنا سبحانه صحة الوحدانية وصحة النبوة، وصحة القضاء والقدر، يفصل لنا الآيات التي تقرر الحقائق: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} [الأنعام: 55] . ونقرأ «سبيل» في بعض القراءات مرفوعة، أي أن سبيل المجرمين يظهر ويستبين ويتضح، وتقرأ في بعض القراءات منصوبة، أي أنك يا محمد تستبين أنت السبيلَ الذي سيسلكه المجرمون. وكلمة «سبيل» وردت في القرآن مؤنثة على الحق: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} [الأعراف: 45] . ووردت أيضاً في بعض الآيات مذكرة: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146] . ويريد الحق بذلك أن يعلمنا أن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين قد استقبلته قبائل من العرب، بعضها لها السيادة كقبيلة قريش لأنها تسكن مكة، والكعبة في مكة وكل القبائل تحج إلى الكعبة. ويريد أن ينهي سبحانه هذه السيادة، ولذلك جاء بالقرآن ببعض الألفاظ التي تنطقها القبائل الأخرى، ومثال ذلك كلمة «سبيل» التي تؤنث في لغة «الحجاز» ، وجاء به مرة كمذكر؛ كما تنطقها «تميم» . ولم يأت الحق بكل ألفاظ القرآن مطابقة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3660 لأسلوب قريش، حتى لا تظن قريش أن سيادتها التي كانت لها في الجاهلية قد انسحبت إلى الإسلام، فقد جاء القرآن للجميع. {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} . أي أن الله سيعامل كل إنسان على مقتضى ما عنده من اليقين الإيماني. والمعاندون لهم المعاملة التي تناسبهم، وكذلك المصرّ على الذنوب، والمقدم على المعاصي، وهي تختلف عن معاملة المؤمن. ولكنها في إطار العدل الإلهي. إذن فلكلٍ المعاملة التي تناسب موقعه من الإيمان. والمقابلون للمجرمين هم المؤمنون. فإذا استبنت سبيلَ المجرمين، أو إذا استبان لك سبيلُ المجرمين ألا تعرف المقابل وهو سبيل المؤمنين؟ . وحين يذكر الحق شيئاً مقابلاً بشيء فهو يأتي بحكم شيء ثم يدع الحكم الآخر لفهم السامع، فإذا كان الحق بين سبيل المجرمين لعناً وطرداً، فسبيل المؤمنين يختلف عن ذلك، إنه الرحمة والتكريم. ومثال على ذلك - والله المثل الأعلى - أنت تقول للتلميذ الذي يواظب على دروسه ويذاكر في وقت فراغه من المدرسة: إن سبيلك هو النجاح. ومن يسمع قولك هذا يعرف أن الذي لا يواظب على دروسه ولا يذاكر في وقت فراغه من المدرسة تكون عاقبة أمره الرسوب والخيبة. وهكذا يترك الحق لفطنة السامع لكلامه أن يأتي بالمقابل ويعرف أحكام هذا المقابل: فإذا كان الحق قد قال: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} فهذه إشارة أيضاً لسبيل المؤمنين من رحمة وتكريم. ونعلم أن القرآن قد جاء على أبلغ الأساليب. وهي أساليب تقتضي أن تعرف معطى كل لفظ وكل حرف حتى نفهم مقتضيات المقامات والحالات التي تطابق كل مقام. ومثال على ذلك قول الحق سبحانه: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] . لقد ترك الحق لفطنة السامع لهذه الآية أن يعرف أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان، وأن الفئة التي تقاتل في سبيل الله هي الفئة المؤمنة، وترك لنا الحق أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3661 المشهد العظيم يعرفون قدر كذبهم في الدنيا، فلا ملك لأحد إلا الله، ولا معبود سواه، فينطقون بما يشهدون: «والله ربنا ما كنا مشركين» . ولقائل أن يقول: ولكن هناك في موضع آخر من القرآن نجد أن الله يقول الحق مثل هؤلاء: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 34 - 36] . إنهم في يوم الهول الأكبر يعرفون أنهم كذبوا في الدنيا، وهم لا ينطقون بأي قول ينفعهم، ولا يأذن لهم الحق بأن يقدموا أعذاراً أو اعتذاراً. ونقول لمن يظن أن المكذبين لا ينطقون: إنهم بالفعل لا ينطقون قولاً يغيثهم من العذاب الذي ينتظرهم، وهم يقعون في الدهشة البالغة والحيرة، بل إن بعضاً من هؤلاء المكذبين بالله واليوم الآخر يكون قد صنع شيئاً استفادت به البشرية أو تطورت به حياة الناس، فيظن أن ذلك العمل سوف ينجيه، إن هؤلاء قد يأخذون بالفعل حظهم وثوابهم من الناس الذين عملوا من أجلهم ومن تكريم البشرية لهم، ولكنهم يتلقون العذاب في اليوم الآخر لأنهم أشركوا بالله. ولم يكن الحق في بالهم لحظة أن قدموا ما قدموا من اختراعات، ولذلك يقول الحق: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] . وهكذا نعلم أن أعمال الكافرين أو المشركين يجازيهم الحق سبحانه عليها بعدله في الدنيا بالمال أو الشهرة، ولكنها أعمال لا تفيد في الآخرة. وأعمالهم كمثل البريق اللامع الذي يحدث نتيجة سقوط أشعة الشمس على أرض فسيحة من الصحراء، فيظنه العطشان ماء، وما إن يقترب منه حتى يجده غير نافع له، كذلك أعمال الكافرين أو المشركين يجدونها لا تساوي شيئاً يوم القيامة. والمشرك من هؤلاء يعرف حقيقة شركه يوم القيامة. ولا يجد إلا الواحد الأحد القهار أمامه، لذلك يقول كل واحد منهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} . إن المشرك من هؤلاء ينكر شركه. وهذا الإنكار لون من الكذب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3662 مشخص يميزه عن الجنس الآخر إما بارتفاع ترق وإما بنزول تدن. وقمة أجناس الوجود هو الإنسان الذي كرمه الحق بالحس والحركة والتفكير. ويلي الإنسان مرتبة جنسُ الحيوان الذي له الحس والحركة دون التفكير. ويلي جنس الحيوان مرتبة النبات، وهو الذي له النمو دون الحركة والتفكير. وعندما تُسلب من النبات غريزة النمو يصير جماداً. إذن ترتيب الأجناس من الأعلى إلى الأدنى هو كالتالي: الإنسان ثم الحيوان، ثم النبات ثم الجماد. وكل جنس من هذه الأجناس له خصائصه، ويأخذ الجنس الأعلى خاصية زائدة. وأدنى الأجناس هو الجماد الذي يخدم النبات، والنبات يخدم الحيوان والإنسان. والحيوان يخدم الإنسان، وهكذا نجد أن أعلى الأجناس هو الإنسان بينما أدناها هو الجماد. فكيف يأخذ أعلى الأجناس وهو الإنسان رباً له من أدنى الأجناس وهو الجماد؟ إن تحكيم الفطرة في ذلك الأمر ينتهي إلى حكم واضح هو سخف هذا اللون من التفكير. وفطرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قبل البعثة هدته إلى رفض ذلك، وجاءت البعثة لتجعل من إلف عادة رسول الله وفطرته أمر عبادة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولكل من اتبعه. {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ} [الأنعام: 56] . إذن فمسألة عبادة المشركين للأصنام لا تنبع من هدي ولكنها خضوع إلى هوى؛ لأن الهدي هو الطريق الموصل للغاية المعتبرة، والهوى هو خواطر النفس التي تحقق شهوة. ولهذا نرى بعضاً من الذين يريدون إضلال البشر قد خرجوا بمذاهب ليست من الدين في شيء، مثل القاديانية والبهائية والبابية، وغير ذلك من تلك المذاهب، هؤلاء الناس يدعون التدين، وعلى الرغم من ذلك يقدمون التنازلات في أمور تمس الأخلاق، ورأينا مثل ذلك في بعض من القضايا التي نظرتها المحاكم أخيراً، كالذي يدعي التدين ويقبِّل كل امرأة، ولا ينظم العلاقة بين الناس بقواعد الدين، ولكن يطلق الغرائز حسب الهوى. وذهب إليه أناس لهم حظ كبير ومرتبة من التعليم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3663 وقد أوهموا أنفسهم بخديعة كبرى، وظنوا أنهم أخذوا بالتدين، بينما هم يأخذون حظ الهوى المناقض للدين. {لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين} [الأنعام: 56] . أي أنك يا رسول الله عليك بإبلاغ هؤلاء المشركين أنك لا تتبع أهواءهم التي تقود إلى الضلالة؛ لأن من يتبع مثل تلك الأهواء ينحرف عن الحق، ولا يكون من المهتدين. ومن بعد ذلك يقول الحق: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3664 هنا يبلغ الحق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تركه لعبادة الأصنام وإن كان أمراً قد اهتدى إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفطرته السليمة، فإنه قد صار الآن من بعد البعثة عبادة؛ لأن اصطفاء الحق له جعله يتبين هدى الله بالشريعة الواضحة في «افعل» ولا «تفعل» ؛ فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الأسوة الحسنة للناس، ويؤدي كل فعل حسب ما شرع الله، ويتبعه المؤمنون برسالته. ومثال على ذلك من حياتنا المعاصرة: لقد نزل القرآن بتحريم الخمر، والمؤمنون لا يشربون الخمر لأن الحق نهى عن ارتكاب هذا الفعل. ونجد الأطباء الآن في كل بلدان العالم يحرمون شرب الخمر لأنها تعتدي على كل أجهزة الإنسان: الكبد، والمخ، والجهاز العصبي، والجهاز الهضمي. ونجد «أفلاماً» تظهر أثر كأس الخمر على صحة الإنسان. وقد يرى إنسان غير مؤمن مثل هذا «الفيلم» فيمتنع عن الخمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3664 امتناع ابتغاء المصلحة لا امتناع الدين. ولكن علينا - نحن المسلمين - أن نقبل على مثل هذا الامتناع لأنه من الإيمان. ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} [فصلت: 33] . هكذا نعرف أنه لا أحد أحسن قولاً ممن يمتثل إلى أوامر الحق لأنه مُقرّ بوحدانية الحق سبحانه، ويعمل كل عمل صالح ويقرّ بأن هذا العمل هو تطبيق لشريعة الله: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} القول يدلنا أننا دون بينة من الله لا نعرف المنهج، ولكن ببينة من الله نعلم أنه إله واحد أنزل منهجاً «افعل» و «لا تفعل» . وجاء الحق هنا بكلمة «ربي» حتى نعرف أنه الخالق الذي يتولى تربيتنا جميعاً. وما دام سبحانه وتعالى قد خلقنا، وتولى تربيتنا فلا بد أن نمتثل لمنهجه. وقد أنزل الإله تكليفاً لأنه معبود، وهو في الوقت نفسه الرب الذي خلق ورزق، ولذلك نمتثل لمنهجه، أما المكذبون فماذا عنهم؟ {وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الحق وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} [الأنعام: 57] . فالذين كذبوا بالله اتخذوا من دونه أنداداً، ولم يمتثلوا لمنهجه، بل تمادى بعضهم في الكفر وقالوا ما رواه الحق عليهم: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . وعندما نناقش ما قالوه، نجد أنهم قالوا: «اللهم» وهذا اعتراف منهم بإله يتوجهون إليه. وما داموا قد اعترفوا بالإله فلماذا ينصرفون عن الامتثال لمنهجه وعبادته؟ . هم يفعلون لأنهم نموذج للصلف والمكابرة المتمثل في قولهم: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3665 {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ألم يكن من الأجدر بهم أن يُعملوا العقل بالتدبر ويقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه. ونجد أيضاً أنهم لم يردوا على رسول الله فلم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عند محمد بل قالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} . إنهم يردُّون أمر الله ويطلبون العذاب، وتلك قمة المكابرة، والتمادي في الكفر وذلك بطلبهم تعجيل العذاب، ولذلك يقول لهم رسول الله: {وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} . والاستعجال هو طلب الإسراع في الأمر، وهو مأخوذ من «العجلة» وهي السرعة إلى الغاية، أي طلب الحدث قبل زمنه. وما داموا قد استعجلوا العذاب فلا بد أن يأتيهم هذا العذاب، ولكن في الميعاد الذي يقرره الحق؛ لأن لكل حدث من أحداث الكون ميلادا حدده الحق سبحانه: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الحق وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} [الأنعام: 57] إن الحكم لله وحده، فإن شاء أن ينزل عذابا ويعجل به في الدنيا كما أنزل على بعض الأقوام من قبل فلا راد له، وإن شاء أن يؤخر العذاب إلى أجل أو إلى الآخرة فلا معقب عليه. ومن حكمة الحق أن يظل بقاء المخالفين للمنهج الإيماني تأييدا للمنهج الإيماني. ويجب أن نفهم أن الشر الذي يحدث في الكون لا يقع بعيدا عن إرادة الله أو على الرغم من إرادة الله، فقد خلق الحق الإنسان وأعطاه الاختيار، وهو سبحانه الذي سمح للإنسان أن يصدر منه ما يختاره سواءً أكان خيراً أم شراً. إذن فلا شيء يحدث في الكون قهراً عنه؛ لأنه سبحانه الذي أوجد الاختيار. ولو أراد الحق ألا يَقْدِر أحد على شر لما فعل أحد شراً. ولكنك أيها المؤمن إن نظرت إلى حقيقة اليقين في فلسفته لوجدت أن بقاء الشر وبقاء الكفر من أسباب تأييد اليقين الإيماني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3666 كيف؟ لأننا لو عشنا في عالم لا يوجد به شر لما كان هناك ضحايا، ولو لم يوجد ضحايا لما كان هناك حثٌّ على الخير وحضّ ودفع إليه. ولذلك تجد روح الإيمان تقوي حين يهاج الإسلام من أي عدو من أعدائه، وتجد الإسلام قد استيقظ في نفوس الناس، فلو لم يوجد في الكون آثاره ضارة للشر، لما اتجه الناس إلى الخير. وكذلك الكفر من أسباب اليقين الإيماني، فعندما يطغى أصحاب الكفر في الأرض فساداً واستبداداً، نجد الناس تتدرع باليقين وتتحصن بالإيمان لأنه يعصم الإنسان من شرور كثيرة. إذن فوجود الشر والكفر هو خدمة لليقين الإيماني. {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الحق وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} [الأنعام: 57] نعم إن الحكم لله لأنه سبحانه يفصل بين الموقف دون هوى لأنه لا ينتفع بشيء مما يفعل، فقد أوجد الحق هذا الكون وهو في غنى عنه؛ لأن لله سبحانه وتعالى كل صفات الكمال ولم يضف له خلق الكون صفة زائدة، وقد خلق سبحانه الكون لمصلحة خلقه فقط. ويبلغنا الرسول: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3667 هذا بلاغ من رسول الله لكل الخلق بأن أحداث الكون إنما يجريها الحق بإرادته وبمواقيت لا يعلمها إلا هو سبحانه، وهو - جل وعلا - الذي يأذن بها. . أي قل لهم أيها النبي: لو كان في قدرتي وإمكاني ما تستعجلون به من العذاب لانتهى الأمر بيني وبينكم ولأهلكتكم بعقاب وعذاب عاجل غضبا لربي وسخطا عليكم من تكذيبكم به - سبحانه - ولتخلصت منكم سريعا، لكن الأمر ليس لي، إنه إلى الله الحكيم الذي يعلم ما يستحقه الظالمون. ويقول - سبحانه - في موضع آخر من القرآن الكريم: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [هود: 8] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3667 وحكمة الله - إذن - هي التي اقتضت تأجيل العذاب إلى وقت يحدده الله، وفي هذا ما يجعل بعضاً من الكافرين يجترئون على الله ويوغلون في الكفر ويقولون ما الذي يمنع عنا العذاب؟ إنهم يقولون ذلك استهزاء وسخرية، ولا يعلمون أن العذاب آت حتماً ولا خلاص لهم منه؛ لأن الله صادق في وعده ووعيده وسيأتيهم العذاب لأنهم استهزأوا وسخروا فلا مناص لهم عنه ولا مهرب لهم منه. وفي موقع آخر يقول الحق: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 53 - 55] . وهكذا نرى تحدي الكفار لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليأتيهم بالعذاب، لكنه تحدٍ مردود عليه بأن الحق هو الذي يقرر ميلاد كل أمر ولسوف يأتيهم العذاب فجأة، وهو واقع لا محالة وإن جهنم ستحيط بهم، وسيغمرهم العذاب من أعلاهم ومن أسفلهم، ويسمعون صوت الملك الموكل بعذابهم: ذوقوا عذاباً أنكرتموه وهو جزاء أعمالكم. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3668 و «مفاتيح» هي إما جمع لمِفْتح أو جمع لَمفْتح. و «المِفْتح» هو آلة الفتح، ومثلها «مِبرد» أي آلة البرد. وآلة الفتح هي المفتاح. و «مَفْتح» هو الشيء الذي يقع عليه الفتح مثل الخِزانة، ونعلم أن بعض الأسماء تأتي على وزن «مِفْعل» أو «مفعال» . فإذا أخذنا «مفاتح» على أساس أنها جمع لِمفتح، فمعنى ذلك أن الحق سبحانه وتعالى يملك المفاتيح التي تفتح على الغيب. وإن اخذنا «مفاتح» على أساس أنها جمع «مَفْتح» أي خِزانة فمعنى ذلك أن الحق عنده خزائن الغيب. وكلا الأمرين لا زمان له. والخزائن لا يوضع فيها إلا كل نفيس وهو مخزون لأوانه ولكل خزانة مفتاح. يقول الحق عن قارون: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة} [القصص: 76] . هكذا نعلم أنه لا يوجد مخزون إلا وهو كنز. وعند الحق مفاتح الغيب، والغيب هو ما غاب عنك، وهو نوعان: أمر غائب عنك ومعلوم لغيرك؛ وهو غيب غير مطلق ولكنه غيب إضافي. ومثال ذلك، عندما يقوم نشال بسرقة حافظة نقودك وأنت في الطريق، أنت لا تعرف أين نقودك، ولكن اللص يعرف تماماً مكان ما سرق منك. هكذا ترى أنه يوجد فارق بين غيب عنك، ولكنه ليس غيباً عن غيرك. ولكن هناك ما يغيب عنك وعن غيرك، ولهذا الغيب مقدمات إن أخذ الإنسان بها فهو يصل إلى معرفة هذا الغيب، وهذا ما نراه في الاكتشافات العلمية التي تولد أسرارها بأخذ العلماء بالأسباب التي وضعها الله في الكون، وهو لون من الغيب الإضافي. وهناك لون ثالث من الغيب هو الغيب المطلق، وهو الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، مثل ميعاد اليوم الآخر، وغير ذلك من الغيب الذي يحتفظ الله به لنفسه. ولذلك نقول: إنه لا يوجد أبداً في هذه الدنيا عالِمُ غيبٍ إلا الله. وعنده سبحانه مفاتح الغيب، هذا الغيب الذي لا نحس به حساً مشهوداً بالمدركات، أو كان غيباً بالمقدمات أي أنه ليس له أسباب يمكن لأحدٍ أن يأخذ بها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3669 ويقول الحق: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] . الحق سبحانه وتعالى - إيناساً لخلقه - حينما يأتي لهم بأمر غير محس لهم، فإنه يوضح ذلك بالمحس. وعالم المشهد المحس إما مسموع وإما مرئي وإما متذوق وإما ملموس. وهناك عالم الغيب، فقد يصطفي الله بعضاً من خلقه ليلقي إليهم هبَّاتٍ من فيضه وعطائه توضح بعض الأمور، ومثال ذلك العبد الصالح الذي سار معه موسى عليه السلام وقال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82] . ومثل هذه الهبَّة تأتي لتثبت لصاحبها أنه على علاقة بربه، ولا يعطي الحق سبحانه هذه الهبات لتصبح عملاً ملازماً للإنسان، وجزءاً من طبيعته بحيث نذهب إليه في كل أمر فيخبرنا بما ينبغي علينا أن نقوم به. إن الأمر ليس كذلك بل هي مجرد هبات صفائية، يمنحها - سبحانه - وينزعها ويمنعها؛ فسبحانه عنده مفاتح كل الغيب، ويأتي لنا بالعالم المحسوس: {وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر} . وأتى الحق بالبر أولاً قبل البحر، والبر مُحس لكل الناس بما فيه من جمادات ونباتات وأشجار وحيوانات وأناس وبلاد وطرق. وهناك من البلاد ما لا تطل على بحار أبداً، ولذلك جاء الحق بالبر أولاً، ثم جاء بالبحر الذي يمكن أن يُشاهد، ولكن عالم البحر أخفى من عالم البر. وعوالم البحر تأخذ من مسطح الكرة الأرضية مساحات كبيرة للغاية وكل يوم نكتشف في عالم البحار جديداً. ومن بعد ذلك يردنا الحق إلى البر مرة أخرى فيقول: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3670 إلى هذه الدرجة يوضح لنا الحق علمه الأزلي؛ فسبحانه يعلم كل ما يتعلق بورقة شجرة بعد أن تؤدي مهمتها من التمثيل الكلورفيلي وتغذية الشجرة وإنضاج الثمار ثم سقوطها على الأرض. والسقوط كما نعرفه هو هبوط شيء مادي إلى أسفل، وفسره العلماء من بعد ذلك بالجاذبية الأرضية. وعندما تسقط الورقة من الشجرة تكون خفيفة الوزن، والحق سبحانه وتعالى هو المتصرف في الأجواء التي تحيط بمجال هبوطها، وحركة الريح التي تحركها. ولماذا جاء الحق بمسألة الورقة هذه؟ جاء لنا الحق بمثل هذا المثل لنعلم أنه عندما ذيل الحق سبحانه الآية السابقة بقوله: {والله أَعْلَمُ بالظالمين} [الأنعام: 58] . إن هذا التذييل قد احتاج إلى أن يشرحه لنا الحق بأن يعلم أوقات تحركات كل ورقة من أية شجرة، وهذا يدل على كمال الإحاطة والعلم، فضلا على أن هذه الأمور لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، فكيف بالأمور التي يترتب عليها الثواب والعقاب؟ لا بد أنه سبحانه وتعالى يعلمها ويفصل فيها. {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض} [الأنعام: 59] . إنه سبحانه أيضاً يعلم بالحبة التي تختفي في باطن الأرض وأحوالها. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] . أي أنه جلت قدرته يعلم أمر كل كائن في هذا العالم؛ لأن كل كائن في هذه الدنيا إما رطب وإمّا يابس، وسبحانه لا يعلم ذلك فقط ولكن كل ذلك معلوم له ومكتوب أيضاً. ويشرف على حركة تلك الكائنات الملائكةُ المدبرات أمرا، وحين تجد الملائكة أن حركة الكون تسير بنظام محكم دقيق على وفق ما في الكتاب، فإنها لا تفتر عن تسبيح الله ليلاً أو نهاراً: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3671 {وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20] . وللحق مُلك السموات والأرض، ومن حقه وحده أن يُعبَد، ولا تتكبر الملائكة عن عبادته والخضوع له ولا يشعرون بالملل من العبادة والتنزيه له سبحانه. وأنت أيها العبد تكون في بعض الأمور مقهوراً ولك في بعض الأمور اختيار، وهو سبحانه عالم بما ستختار. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3672 والقاهر هو المتحكم بقدرة فائقة محيطة مستوعبة. ولقائل أن يقول: ما دام الحق هو القاهر فكيف يكفر الكافر وكيف يعصي العاصي؟ . ونقول: إن الكافر يكفر بما خلق الله فيه من اختيار وكذلك تكون معصية العاصي. ولكن الحق أوجد في الإنسان اضطراريات وقهريات تدلنا على أنه سبحانه فعال لما يريد. ولا أحد من المتمردين على منهج الله يجرؤ أن يسحب هذا التمرد على ما يجريه الله عليه من مرض أو موت. والمتمرد أو الكافر إنما يختار من باطن الاختيار الذي خلقه الله فيه، والله هو الحاكم للميلاد والموت ولا شيء للإنسان فيهما، وكذلك هو سبحانه له تصريف أمور الغنى والفقر ولا يجرؤ متمرد على أن يتمرد على المصائب التي تحدث له وإن تمرد على منهج الله؛ لأن التمرد هو من باطن خلق الله للاختيار الذي أودعه في الإنسان. {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3675 وحين يتكلم الحق سبحانه عن ذاته ونفسه، قد يتكلم بضمير المتكلم. فيقول: {إنني أَنَا الله} [طه: 14] . وقد يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . ومرة يتكلم عن ذاته بما نسميه نحن ضمير الغيبة مثل قوله هنا: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] . لأن ضمير المتكلم معه دليله، إنّ المتكلم يقول: أنا، ويخاطبك فيقول: أنت. لكن الذي يتكلم بضمير الغيبة لا بد أن يعود الضمير على مرجع لهذا الضمير. وحين يتكلم الحق عن ذاته بما يسمى لدينا ضمير الغيبة فإنه - سبحانه - يريد أن يبين لنا أنه في أجلىَ مجال المشاهدة والحضور؛ فكأنه إذا قال «هو» لا تنصرف إلا إلى ذاته العليا؛ فكأنه لا يوجد مرجع ضمير إلا هو، ولذلك يقول: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . وسبحانه يقول: «هو» قبل أن يذكر المرجع، وهو «الله» ؛ مع أن الأصل في المرجع أن يتقدم، ولكنه يقول: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فكأنه إذا أُطلِق هذا الضمير فلا ينصرف إلا إلى ذاته. وحين يتكلم بضمير المتكلم نراه يتكلم عن ذاته بضمير الإفراد فيقول: {إنني أَنَا الله} [طه: 14] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3676 ويقول مرة أخرى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . لماذا؟ . إنه سبحانه إن تكلم عن فعل من أفعاله نجد أن كل فعل من أفعاله يتطلب صفات الكمال كلها فيه، لأنه يتطلب علماً بما يتكلم به، ويتطلب قدرة لإبرازه، ويتطلب حكمة، ويتطلب صفات كثيرة، فإذا قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . فالتنزيل فعل، والفعل يقتضي صفات متعددة. فلا بد أن يأتي بضمير التعظيم وهو الجمع؛ لأن كل صفات الكمال متجلية في التنزيل. ولكن إن تكلم عن الذات في التوحيد لا يأتي بضمير الجمع أبداً؛ لأنه يريد أن تنفي عن ذاته أنه متعدد؛ لأنه هو الواحد الذي لا شريك له، فحين يتكلم عن الذات يقول: {إنني أَنَا الله ... } [طه: 14] . وحين يتكلم عن الذكر يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر ... } [الحجر: 9] . ففي مجال التعظيم والتنزيل الذي يتطلب تجلي كثير من صفاته - جل شأنه - يأتي بضمير الجمع، وفي التوحيد والتفرد ونفي الشريك يأتي بضمير الإفراد. هنا يقول سبحانه: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ ... } [الأنعام: 61] . وكلمة «قاهر» إذا سمعتها تتطلب مقهوراً. وما دام هناك قاهر ومقهور ففي ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3677 ميزانان بين مجالين. وما دام هو قاهراً ففي أي مجال وبأية طريقة سيكون الطرف الثاني مقهوراً له؟ إننا نعلم أن كل شيء في الكون مقهور له، فقد قهر العدم فأوجد، وقهر الوجود فأعدم. وقهر الغنى فأفقر، وقهر الفقر فأغنى. وقهر الصحة فأمرض، وقهر المرض فأصح. إذن فكل شيء في الوجود مقهور لله حتى الروح التي جعلها الله مصدر الحس والحركة للإنسان يقهرها سبحانه. فإذا جاء إنسان وقتل إنساناً آخر بأن ضربه على المكان الذي لا توجد عند عدمه وفقده حياة بأن أذهب صلاحيته للبقاء تنسحب الروح. وهذا يوضح لنا أن الروح في الجسم هي المسيطرة، لكن من ينقض البنية التي تسكنها الروح يُذْهبُ الروح ويخرجها من الجسم. ومرة يقهر المادة بالروح، فيأخذ الروح من غير آفة ومن غير أية إصابة ويتحول الجسم إلى رمّة. إذن فسبحانه يقهر الروح، ويقهر المادة، ولا توجد متقابلات في الوجود عالية ومتأبية ومتمردة عليه - سبحانه -: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] . والقاهر هو المتحكم بقدرة شاملة على المقهور. وانظر أي تقابل في الحياة تجده مديناً وخاضعا لصفة القهر. {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} وكلمة «فوق» تقتضي مكانية. ولكن المكانية تحديد، وما دام القهر يتطلب قدرة فهل يعني ذلك أن القادر لا بد أن يكون في مكان أعلى؟ لأننا نجد - على سبيل المثال ولله المثل الأعلى - من يضع قنبلة تحت العمارة العالية ويقهر من فيها. إذن فالقهر لا يقتضي الفوقية المكانية، إذن فالفوقية المرادة هي فوقية الاستعلاء، ونحن عندما تكلمنا عن الحق سبحانه وتعالى أوضحنا أن نلتزم بإطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فهو ذات لا ككل الذوات. وصفاته ليست ككل الصفات، وكذلك نأتي ونقول في فعله، وعلى سبيل المثال نجد خلق الله يحتاجون إلى زمن ويحتاجون إلى علاج، وكل جزئية من الفعل تحتاج إلى جزئية من الزمن، لكن هو سبحانه إذا فعل أيحتاج فعله إلى زمن؟ لا؛ لأنه لا يفعل بعلاج، ولا يجلس ليباشر العملية، إنما يفعل سبحانه ب «كن» ، إذن القهر في قوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} هو قهر الاستعلاء. ولذلك يقول لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة لآخر رمضان» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3678 ففي آية ليلة ينزل فيها الله؟ ليلتك أم ليلة المقابل لك؟ أم الليلة التي تشرق الشمس فيها في مكان، وتغيب عن مكان آخر؟ إذن، فكل واحد من المليون من الثانية ينشأ ليل وينشأ نهار، وهكذا نعلم أن الله معك ومع غيرك، باسطا لك ولغيرك يده. {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] . لذلك لا تفهم قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» . لا تفهم ذلك بتخصيص ليل معين أو نهار معين؛ لأن يده مبسوطة في كل زمان وفي كل مكان وليس كمثله شيء. {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} . وعباده من مادة العين والباء والدال، ومفردها «عَبْد» ، وجمعها يكون مرة «عبيداً» وأخرى «عِبادا» . و «العباد» هم المقهورون لله فيما لا اختيار لهم فيه، وهم أيضاً المنقادون لحكم الله فيما لهم فيه اختيار؛ لأن الإنسان مقهور في بعض الأمور ولا تصرف له فيها: لا تصرف له في نَفَسه، ولا تصرف له في نبضات قلبه، ولا تصرف له في حركة المعدة، ولا تصرف له في حركة الأمعاء، ولا تصرف له في حركة الحالبين، ولا تصرف له في حركة الكُلْيَة، وكلها مسائل تشمل المؤمن والكافر، والكل مقهور فيها. إن من رحمة الله أننا مقهورون فيها ولا رأى لنا؛ لأنه لو كان لنا رأي في مثل هذه الأمور لكان لنا أن نسأل: كيف ننظم عملية تنفسنا في أثناء النوم؟ . إذن فمن رحمة الله أن منع عنا الاختيار في بعض الأمور التي تمس حياتنا. ومن رحمة الله أن كلاًّ منا مقهور فيها، فمن يستطيع أن يقول لمعدته: اهضمي الطعام؟ ومن يستطيع أن يأمر الكلى بالعمل؟!! . إذن فكل أمر مقهور فيه الإنسان، هو فيه منقاد لله ولا اختيار له. أما الأمر الذي لك فيه اختيار فهو مناط التكليف. ولذلك لا يقول لك المنهج: «افعل» إلا وأنت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3679 صالح ألا تفعل، ولا يقول لك «لا تفعل» إلا وأنت صالح أن تفعل. إذن الأمور الاختيارية هي التي وردت فيها «افعل» و «لا تفعل» . وهي الأمور التي فيها التكليف. ومن يطع ربنا في منهج التكليف يصبح وكأنه مقهور للحكم، ويكون ممن يسميهم الله «عباداً» ، فكأنهم تنازلوا عن اختيارهم في الأحكام التكليفية، وقالوا: يارب لن نفعل إلا ما يريده منهجك. وكل منهم ينفذ حكم الله فيما له اختيار ألا ينفذه. أما العبيد فهم من يتمردون على التكليف، فالمؤمنون بالله هم عباده. ولذلك يقول الحق: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً ... } [الزمر: 53] . ويوضح سبحانه سمات هؤلاء العباد فيقول: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] . هؤلاء هم العباد الذين تنازلوا عن اختيارهم في الفعل، وقبلوا أن يكونوا مأمورين ومطيعين لله فيما كلفَّ به، وهم في الأمور التي لا اختيار لهم فيها يكونون مثل بقية الكائنات، فكل الخلق والكون عبيد الله، فيما لا اختيار لهم فيه أما المؤمنون به فهم عباد الله. ولكن آية واحدَة في القرآن وهي التي تثير بعض الجدل في مثل هذا الموضوع. ساعة يقول الحق سبحانه وتعالى عما يحدث في الآخرة: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ ... } [الفرقان: 17] . وكأن «عبادي» هنا أطلقت على الضالين، ويقول: نعم؛ لأن الكل في الآخرة عباد؛ إذ لا اختيار لأحد هناك. لكن في الدنيا فالمؤمنون فقط هم العباد، والكافرون عبيد لأنهم متمردون في الاختيارات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3680 {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} [الأنعام: 61] . ومع مجيء معنى القهر يرسل الحق حفظة، وإذا كان القهر يعني الغلبة والتملك والسيطرة والقدرة، فهو قهار على عباده وأيضاً يرسل عليهم حفظة. ويقول في موقع آخر: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ} [الرعد: 11] . وهكذا يكون قهر الله لنا، لمصلحتنا نحن؛ لأن الضعيف حين يقهره جبار، يمكنه أن يقول: الله هو القهار الأعلى، وفي هذا تذكير للقوى نسبياً أن هناك قهاراً فوق كل الكائنات، فالله قهار فوق الجميع، وبذلك يرتدع القوي عن قهره، فيمتنع عن الذنب، وتمتنع عنه العقوبة، وفي ذلك رحمة له. {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} [الأنعام: 61] . وجاء معنى «الحفظة» في القرآن في قوله الحق: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] . فكل لفظ له رقيب عتيد، حفظة أي ملائكة يحفظون ويحصون أعمالكم ويسجلونها وهم الكرام الكاتبون، وكلما تقدم العلم أعطانا فهماً للمعاني الغيبية، وإن كانت المعاني الغيبية التي نستقبلها عن الله دليلنا فيها السماع، ففيه رقيب وعتيد يكتبان فقط، هكذا قال ربنا فآمنا بما قال وانتهت المسألة، وهذا هو المطلوب. ولذلك قال الحق: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3681 لأن الإيمان لو كان بالمشهد فما الفرق - إذن - بين الناس؟ إن الإيمان في كماله وقمته هو الإيمان بالغيب، فإذا قال الحق سبحانه وتعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] . فهذا خبر عن الملائكة الذين يكتبون الحسنات، ويكتبون السيئات. وحين ننظر إلى البشر، نجدهم يتفاوتون ويرتفع بعض منهم على بعض في صفات وقدرات، وكلما تقدّم الزمن عرف الإنسان سِراً من أسرار الله يترقى به. وقديماً عندما صنعوا جهاز التسجيل كان حجمه كبيراً ثم تقدم العلم حتى صغر حجم المسجل، إذن كلما تقدمت الصنعة صغرت الآلة، لدرجة أنهم صنعوا مسجلاً يشبه الحبوب، وينثرونها في أي مكان عندما يريدون التقاط أسرار جماعة أو أسرار مجلس، إذن كلما قويت قدرة الصانع دقت الصنعة. فإذا نسبتها لله، فأين دقة الذي صنعته أنت بجانب دقة صنعة الله؟ فإذا كان واحد من البشر قد استطاع أن يأتي بمسجلات غير مرئية مع أن قدرته محدودة، وحكمته في الصنعة محدودة، فإذا قال ربك: إن هناك ملائكة لن تراهم وستحصى عليك أعمالك وهم غيب فقل على العين والرأس، وسبحانه القائل: {كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11] . وهنا يقول الحق: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت} [الأنعام: 61] . وعندما أراد العلماء أن يعرِّفوا الموت قالوا: الموت سهم أرسل، وعمُرك بقدر سفره إليك، هو إذن سهم قد انطلق، لكن عمرك يُقدِّر بمقدار سفره إليك، وحين يقول الحق: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت} فهو ينسب الموت لمن؟ . لقد أبهم الله زمانه، وأبهم مكانه، وأبهم سببه، وأبهم قدره، وهذا الإبهام هو أشد أنواع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3682 البيان؛ لأنه ما دام قد أبهمه في كل هذه الأمور يجب أن نستعد للقائه في كل زمان، وفي كل مكان، وبأي سبب. وإياك أن تتعجب لأنه يحدث في أي سن، فإبهام الحق له هو أكبر بيان؛ لأنه سبحانه لو حدده زماناً أو سنّاً أو سبباً؛ لكان على الإنسان أن ينتظر الموت، لكن شاء هذا الابهام وهو أقوى أنواع البيان، ليلفتك ويحثك على أن تنتظره في أي زمان وفي أي مكان وبأي سبب وفي أي سن، وبهذا يكون الموت واضحاً أمامنا جميعاً، ولذلك تخشى ارتكاب أي ذنب حتى لا تقبض روحك وأنت على الذنب؛ لأنك لا تحب أن تلقى الله وأنت عاصٍ. وعندما يؤذن لصلاة الظهر ولم تصلِّه، قد تقول: إن وقته ممتد، وتجد من يقول لك: اضمن لي انك ستعيش إلى أن ينتهي وقت الظهر. «ولذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: عندما سأله عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قائلا: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أيُّ؟ قال: بّر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال:» الجهاد في سبيل الله «» . إنك لا تضمن من عمرك أن تعيش إلى آخر الوقت. ولذلك عندما نقول: إن الإبهامات من أقوى أنواع البيان فيجب أن نصدق ذلك؛ لأن البعض يقول: لماذا لم يبين الله لنا ذلك؟ ودائماً أقول: لقد أوضح الله ما أبهم، فإن الإبهام هو أقوى بيان، ألم نر إنساناً ذهب لطبيب ليعالجه في مسألة فكان الطبيب سبب موته؟ لقد رأينا ذلك. لقد أخذ هذا الإنسان بالأسباب ولم يمنع ذلك أن قدر الله قد نفذ فيه. ولذلك قال شوقي - رحمة الله عليه -: أسد لعمرك من يموت بظفره عند ... اللقاء كمن يموت بنابه إن نام عنك فكل طب نافع ... أو لم ينم فالطب من أذنابه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3683 فقد يخطئ الطبيب - مثلاً - في إعطاء حقنة - فتنتهي الحياة ويقولون: خطأ الطبيب إصابة الأقدار. مصداقاً لقوله تعالى: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] . وعندما تأتي كلمة «توفّى» تجدها في القرآن دائرة على ثلاثة ألوان: اللون الأول هو قول الحق: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] . وقوله سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] . ومرة يقول الحق سبحانه: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] . سبحانه - إذن - ينسب الموت له ولملك الموت، ولرسله. وهل الرسل يأخذون الأرواح ويقبضونها إلا بإذن من ملك الموت؟ إنهم جنوده، فلا أحد يميت دون إذن من الله، فأخذ الأرواح وقبضها إلى الله أمراً، وإلى ملك الموت وسيلة وواسطة، وإلى الرسل تنفيذاً. {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] من أين يأتي التفريط؟ لقد تقدم في هذه الآية شيئان اثنان: حفظة يحفظون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3684 عليك تصرفاتك وفعالك، وهم يأخذون الروح أيضاً. وهؤلاء الملائكة لا يفرطون في هذه المهمة أو تلك. وحين ننظر في مادة ال «فاء» ، وال «الراء» وال «الطاء» نجدها تأتي مرة «فرّط» ، ومرة «أفرط» . ومن العجيب أنها تأتي للمتقابلين؛ ففرَّط في الشيء أي أهمله، وأفرط في الشيء أي جاوز الحد والقدر في الحدث. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} أي لا يهملون ولا يقصرون. وفي إحدى قراءات القرآن نجد من يقرأ: «لا يفرطون» بالتخفيف، والمقصود أنهم لا يتجاوزون الحد. ولذلك نجد الحق يقول: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] . ويقول الحق من بعد ذلك: {ثُمَّ ردوا إلى الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3685 وكلمة «ردوا» تفيدا أن كان لهم التقاء به أولا، وبعد ذلك سوف يرجعون، كيف؟ لقد كانوا منه إيجاداً ثم ردوا إليه حسابا ثوابا وعقابا؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ... } [طه: 55] . {ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق} وكلمة «مولى» تعني أنه هو الذي يليك، ولا يليك إلا من هو قريب منك. وهذا القريب قد يكون منْجدا لك إن حدث لك ما يفزعك وهو الذي يُعينك، وهكذا أخذت كلمة «مولى» معنى القريب، والناصر والمعين الذي تفزع إليه في شدائدك، وقد يوجد لك مولى في الدنيا وهو من الأغيار. ومن الجائز أن يتغير قلبه عليك، ومن الجائز أن تنالك الأحداث التي هي فوق قدرته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3685 وطاقته، ومن الجائز أن يكون لك مولى تنشده وتطلبه لنصرتك فيرفض؛ لأن خصْمك له بهذا المولى ولاء أقوى وأشد فيقف بجانب خصمك وقد يوهمك أنه معك لكن قلبه ليس معك. لكن هناك في الآخرة مولى حق واحد {ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق} وتطلق كلمة «موْلى» على السيد حين يعتق عبده. وحين يعتقنا ربنا من النار أليس في ذلك أعظم ولاية؟ . إنه المولى الحق، فلا توجد قوة أعلى منه وهو لا يتغير؛ لأن الأغيار من طبيعة الخلق. وحين يطلب منك الحق أن تُعمل عقلك لأنك حين تعتمد على واحد ينفعك في أمورك فأنت تتوكل عليه، وتطلب مساعدته، وهنا يأمرك الحق بأن تتوكل على الحي الذي لا يموت، ولا تتكل على واحد من الأغيار فقد يصبح الصباح فتجده قد خلا بك وتخلىّ عنك. أما إذا كان مولاك هو الحق فلن يخذلك. {ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق أَلاَ لَهُ الحكم} . ولماذا جاء بكلمة «الحكم» هنا؟؛ لأننا في دنيا الأغيار قد يسند سبحانه بعض الأحكام إلى بعض خلقه؛ فهذا يحكم، وذلك يتصرف، وآخر يصدر قراراً بالتعيينات، وكلها أحكام، أما في الآخرة فالحق يقول: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . وأنت في الدنيا تملك، ويكون رزق ابنك - على سبيل المثال - من يدك، وتملك أن تصدر قراراً بترقية من هو أقل منك، وتملك أن تخيط الثوب لغيرك إن كانت تلك مهنتك، ففي الدنيا كل منا يملك بعضاً من أسباب الآخر. لكن في الآخرة لا يوجد شيء من هذا: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . وساعة تسمع «ألا له الحكم» ف «ألا» في اللغة أداة تنبيه لما يأتي بعدها، ولماذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3686 تأتي أداة التنبيه هنا؟ لأن الحكم القادم بعدها حكم مهم. والكلام - كما نعرف - واسطة بين متكلم ومستمع؛ لأن المتكلم ينقل أفكاره وخواطره توجد في خياله نسبة ذهنية، أي أنه يعايش مشروع الكلام ويتدبره قبل أن يتكلم، أما السامع فهو يفاجأ، وعندما تريد أن تقول أمراً مُهمٍّا فأنت تحاول أن تضمن انتباه السامع حتى لا تفلت منه أية جزئية من كلامك، فتقول: «ألا» لتشد انتباه السامع تماما. والحق هنا يقول: «ألا» ليأخذ انتباه السامع، ويأتي بعدها قوله: {لَهُ الحكم} . إذن: ساعة تسمع «ألا» فاعرف أن فيها تنبيهاً لأمر قادم {لَهُ الحكم} . والحكم: هو الفصل بين أمرين، ويختلف الفصل بين أمرين باختلاف الحاكم؛ فإن كان الحاكم له هوى فالحكم يميل، لكن الفصل بين الأمرين يجب أن يكون بلا هوى، فالحكم بالميزان يقتضي أن تكون له كفة هنا وكفة تقابلها، وساعة ما نضبط الميزان نحاول أن نوازن الكفتين لنفصل بين مسألتين ملتحمتين، وما دمنا نريد التساوي فنحن نسمي ذلك: الإنصاف، أي أن نقف في النصف دون ميل أو حيْف. {أَلاَ لَهُ الحكم وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} وساعة يسمع إنسان {أَلاَ لَهُ الحكم} فالواحد منا يعلم أنه سبحانه يحكم بين الخلق بداية من آدم إلى أن تنتهي الدنيا، وكل واحد منا تتشابك مسائله مع غيره، وما دام الله الحكم فليس لغيره معه حكم، ويحكم بين الخلق جميعاً وفعله لا يحتاج إلى زمن، ونتذكر هنا الإمام عليّا - كَرمّ الله وجهه - حين قالوا له: كيف يحاسب ربنا الناس جميعا في وقت واحد، وبمقدار حلب شاة كما قال بعضهم؟ فقال الإمام عليّ: «كما يرزقهم في وقت واحد يحاسبهم في وقت واحد» ، وهذه مسألة سهلة ليس فيها أدنى صعوبة أبداً. وقديماً عندما كانوا ينيرون الطرقات كانوا يشعلون المسارج: هنا مسرجة، وهناك مسرجة، وعلى البعد مسرجة ثالثة، وكان الوقاد يمشي ليشعل المسارج. . إلخ، وارتقى العقل البشري المخلوق لله واستطاع أن ينير الطرقات بالطاقة الكهربائية أو الطاقة الشمسية وفي وقت واحد. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3687 {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3688 المتعب للخلق أن تأتي الظلمة وتكون في مهمة النور، وأن يأتي النور في مهمة الظلمة، فلكل من الظلمات والنور ودور مهمة في الحياة. ولذلك قلنا في أول السورة حين تكلم الحق سبحانه وتعالى قائلاً: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور ... } [الأنعام: 1] . لقد ظن البعض أن المفترض أن يقول سبحانه: وجعل النور والظلمات، ولكن لنتلمس القول الحق، ولنعترف أن مهمة الظلمة تتساوى مع مهمة النور، وعلى الإنسان أن يعي مهمة الظلمة، وكلنا يعرف مهمة النور الذي يعيننا على السعي على أمور حياتنا، ويتطلب السعي طاقة، ولا يمكن أن تأتي الطاقة إلا بعد سكون وهدوء واطمئنان وراحة؛ لذلك فالراحة تحتاج إلى ظلمة لينام الإنسان ويستريح، إذن فالظلمة نعمة من نعم الله، والذي يتعب الإنسان أن يغير ويبدل فيجعل النور مكان الظلمة، ويجعل الظلمة مكان النور، وهذا خروج عن مهمة كل متقابلين. وحين ينشئ الحق المتقابلات لا ينشئها على أنها تتضاد، أو على أنها تتعاند، ولكنه - سبحانه - يريد متكاملا يعين متكاملا، فلا شيء يهدم شيئا مقابلاً له، بل كل متكامل يساعد الآخر. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 1 - 2] . وقد جاء سبحانه بالليل أولاً، والنهار ثانياً، ولكل منهما مهمة، ولا يمكن أن تؤدي مهمة النهار على حقيقتها إلا إن جاءت مهمة الليل فأُدّيَت على حقيقتها. وهات إنساناً لم يأخذ من الليل الراحة والسكون والهدوء، وعانى من قرص ولسْع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3688 الناموس أو البراغيث، أو من ضجيج وخلافه، ولم ينم، ثم في الصبح تجده نصف نائم، نصف مرهق، غير قادر على التركيز أو كما يقولون «مذهول» . إذن فمن أجل حركة الضوء لا بد أن توجد الظلمة: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 1 - 2] الليل والنهار - إذن نعمتان، وكل نعمة تساوي الأخرى، وإياك أن تقول هذه ضد تلك، أو أنها جاءت لتعاندها، لا. لقد جاءت كل منهما لتساند الأخرى. وفي سورة الليل يتابع الحق: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] لقد جاء سبحانه أيضاً بمتقابلين، وإياك أن تظن أنهما متعاندان فقد جعلهما الله متكاملين لتنجح الحياة. وإن تعاندا تفسد الحياة. وما دام الليل له مهمة والنهار له مهمة، إذن فالذكر له مهمة، والأنثى لها مهمة. وإن خَلَطت المهمتين ينتج الفساد. {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 1 - 4] ويقول الحق هنا: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [الأنعام: 63] والظلمة - إذن - هي عدم النور. ولم يقل الحق إن طلب النجاة يكون من ظلمة واحدة، وإنما طلب النجاة من ظلمات متعددة، وهي ظلمات متراكمة؛ لأن الظلمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3689 إذا ما غُشيت بظلمة ثانية، ثم بظلمة ثالثة، حينئذ تصير ظلمات مركبة بعضها فوق بعض. والحق سبحانه قال: {ظُلُمَاتِ البر والبحر} ، وحتى نعرف أهي ظلمات حسّية أم ظلمات معنوية لا بد لنا أن نعرف الظلمة في معناها الحسي، إنها ما يؤدي إلى عدم الاهتداء إلى الحركة المنجية، إذن فكل أمر يؤدي إلى عدم الاهتداء - حسّياً أو معنوياً - هو ظلمة؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يسير في أموره بغير اهتداء، والأحداث والكوارث التي يصعب على الناس أن يعرفوا طريق النجاة منها تُعتبر ظلمة، سواء أكانت ظلمة حسّية أَمْ معنوية. والحق سبحانه وتعالى يقرب لنا المعنويات بالأمور الحسّية، والمراد بالظلمات هنا هي الأحداث والكوراث والنوازل التي تضيق أسباب البشر عن النجاة منها. والإنسان حريص دائماً على نفع نفسه. وتظهر التناقضات في أفعال إنسان عن أفعال إنسان آخر لاختلاف كل منهما في تقييم وتقدير النفعية. والمثال على ذلك واضح ونضربه دائماً هو: مثال التلميذ الذي يذهب صباحاً مبكراً إلى مدرسته، وينتبه إلى أساتذته، ويعود إلى منزله ليؤدي واجبه، ويخرج من لذيذ الكسل ليجد لذة في العمل، إنَّه بذلك يحب نفسه ويريد النفع لها. أما التلميذ الذي ينام يوقظه أهله فلا يستيقظ، وإذا أيقظوه فهو يخرج من البيت ليتسكع في الطريق، مثل هذا التلميذ يحب نفسه حباً أحمق لأنه يريد اللذة العاجلة التي تعقبها سلسلة من الآلام الآجلة. إنه ينتظر مستقبلاً لا كرامة له فيه عكس التلميذ المجد الذي يتبوأ المكانة اللائقة به. والمثال الواضح أيضاً في الريف هو الفلاح الذي يقضي وقته على المقهى ويسهر الليل أمام التلفيزيون ويترك الأرض بلا حرث ولا رى ولا تسميد، ولا يمكن أن تنتج الأرض التي يفلحها محصولاً مساوياً لأرض الفلاح الذي يأخذ بأسباب الله فيحرث الأرض وينتظم في ريها في المواعيد المحددة، ويضع السماد المقرر لها؛ لأن الذي أخذ بأسباب الله وتعب وبذل جهداً لا بد أن يعطيه الحقُّ الرزقَ الوفيرَ. أما الذي يكسل عن أداء عمله فقد أحب نفسه حباً أحمق قصير الأجل، وأما الذي أخذ بأسباب الله وأقبل على عمله بحب وتقدير فقدد أحب نفسه حباً أعمق، فيه نفع له ولغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3690 إن كل حركة يصنعها الإنسان في الحياة إنما يريد بها نفع نفسه، ولكنْ هناك اختلاف في تقدير النفعية بين إنسان وآخر، والعاقل من يرى النفعية الآجلة المجدية ويعمل لها. وهاهوذا المتنبي الشاعر العربي يقول: أرى كلنا يبغى الحياة لنفسه ... حريصا عليها مستهامًا بها صبّاً فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا حب الشجاع لنفسه - إذن - جعله طموحاً إلى الحياة الخالدة كشهيد في سبيل الله، وحب الجبان لنفسه جعله أسير الخوف على الحياة الفانية. فإذا ما صُدم الإنسان بأحداث ونوازل وكوارث نرى نفعيته وهي تحركه إلى البحث عن أسباب للنجاة، ويعتمد على أسبابه أو أسباب من هو قريب منه، أما إذا عزّت أسباب البشر. وكان غافلاً عن الله، فإن الأحداث والمصائب والكوارث تعيده وتذكره بخالقه فيقول: «يارب» ، وبذلك لا يبيع نفسه رخيصاً. لكن إن خدع مثل هذا الإنسان نفسه من البداية وأعرض عن الله تمرد على ربّه ووجد نفسه أمام الكوارث فهو يسلم أمره لله في وقت الشدة، فإن انجاب وانكشف عنه الضر عاد إلى كفره وتمرده. ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} [الإسراء: 67] ونجد الذين يقابلون الأهوال وتنتهي أسبابهم لا يكذبون على أنفسهم. بل يتجهون فطرياً إلى الحق القادر على الأخذ بأيديهم. فلحظة أن تضطرب سفينة وتحيطها عواصف الموج والرياح، وتختل آلاتها لا تجد إلا كلمة: يارب، يارب. يارب على ألسنة كل ركابها بداية من «القبطان» والقائد إلى أصغر راكب بها، وتجد من يتمتم بآيات القرآن توسلاً إلى الله للنجاة. وكذلك لحظة أن تضطرب طائرة في الجو، ولا يعرف قائدها طريقاً للنجاة لا يقفز إلى أذهان الركاب وطاقم الطائرة إلا نداء التضرع إلى الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3691 ولهذا يقول لنا الحق سبحانه: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} ودعوة الإنسان ربّه ومولاه هي الوسيلة الأولى من وسائل اليقين، ونعلم أن أحداث الحياة تتراوح ما بين أمرين؛ أمر يبسط ويسعد الإنسان، وأمر يقبض ويضيق على الإنسان ويشقى به، فأما الذي يبسط ويسعد فهو إدراك الجمال، والنعمة والراحة، والسعادة، والإحساس بالرضى. وأما الذي يضيِّق على الإنسان ويشقيه فهو يريد أن يفلت منه وينجو. ولنا العبرة الكاملة من الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، فالإنسان بفطرته إن رأى ما يسعده، لا يجد تعبيراً أقوى من أن يقول: «الله» . وهي صيحة التقدير والتقديس لله الذي أعطاه موهبة إتقان العمل. وتتجلى العبرة الكاملة أيضاً عندما يدهم الإنسان الخطر فيقول بفطرته: «يارب» . إذن فلا ملجأ إلا إلى الله. {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر} ؟ ويتضمن السؤال الحقيقة التي لا بد أن يقررها السامع لهذا السؤال وهي: إن الله هو المنجي من ظلمات البر والبحر. وحين يأمر الحق رسوله أن يقول هذا التساؤل للكافرين فهو سبحانه عليم بأن إجابة الفطرة هي التي ستغلب على ألسنة الكافرين ويعترفون به سبحانه وحده بأنه هو المنجي من ظلمات البر والبحر. والكون - كما نعلم - إما بر وإمّا بحر. ولقائل أن يقول: ولكن هناك كوارث جديدة في عصرنا هي كوارث الجو. ؟ ونقول: يجب أن تفهم أن كل جو يأخذ حكم مكانه. فجو البر من البر، وجو البحر من البحر، ومثال ذلك ما نراه عند الصلاة في المسجد الحرام؛ فنحن نرى المصلين يؤدون الصلاة حول الكعبة أو في الدور والطابق الأول أو الثاني أو الثالث من المباني المقامة كمسجد حول الكعبة. ونلحظ أن ارتفاع الكعبة لا يزيد على ارتفاع دور واحد من أدوار المباني التي حولها. والمصلون يتجهون في صلواتهم في تلك الأدوار إلى جو الكعبة، ذلك أن جو المكان المقدس هو مقدس أيضاً، وجو الحرم من الحرم. ومثال آخر هو السعي بين الصفا والمروة؛ فالمسلم يسعى بين الصفا والمروة في الدور الأرضي، وهناك الآن دور ثان أقيم للسعي. وهكذا نرى أن جو المسعى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3692 مسعى أيضاً. وقديماً كان محرّماً على الطائرات أن تطير في جو مكة أو المدينة. حدث ذلك أيام أن كان الطيارون من غير المسلمين، وذلك حتى لا يطير غير المسلم في الجو المقدس. أما الآن فقد صار مسموحاً للطيارين المسلمين أن يقودوا طائراتهم في أجواء مكة والمدينة المنورة. فالجو له حكم المكان سواء أكان المكان براً أم بحراً. {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} إن الدعاء بالفطرة يتجه إلى الله، والدعاء هو طلب لشيء. والطلب يقتضي طالباً، ومطلوباً، ومطلوباً منه. والطالب هو من يدعو. والمطلوب منه هو من ندعوه ونسأله. والمطلوب هو الشيء الذي نتضرع بالدعاء رجاء أن يحدث. والطلب لون من الأمر، لكن إذا ما جاء الطلب من الأدنى إلى الأعلى فلا تقل إنه أمر، بل هو دعاء. وفي اللغة عندما نسأل الطالب أن يقوم بإعراب «رب اغفرلي» ، نجد الذي استذكر دروسه دون تفقه يقول: «اغفر فعل أمر» ، أما الطالب المتفقه في فهم دينه مع إجادة لدراسته فيقول بأدب الإيمان: اغفر هي فعل دعاء؛ لأن الطلب إن صدر من الأدنى إلى الأعلى فهو دعاء، وإن صدر من المساوى للمساوى فهو التماس، وإن صدر من الأعلى إلى الأدنى فهو أمر. وحين ننظر إلى الحالة النفسية لمن تحيطه الكوارث والأحداث والنوازل وتضغط عليه الظروف ولا يجد من ينقذه، هل مثل هذا الإنسان يأمر أو يدعو إنه يدعو بطبيعة الحال، ويدعو بتذلل وامتثال وخضوع، وهذا معنى الدعاء ... إنه السؤال بتضرع وخضوع، والتضرع يقتضي قولاً، ويقتضي فعلاً ويكون التضرع بالوجدانيات والسلوكيات. ويخطئ من يظن أن هناك تضرعاً بالقول دون أن يربط ذلك بفعل، فعندما تكون في موقع قوة أو نفوذ ويسألك سائل أن تتفضل عليه بشيء، فهذا منه تضرع بالقول. لكن عندما تكون في موقع قوة أو نفوذ ويسألك سائل أن يفعل لك أمراً، فهذا تضرع بالقول والفعل. وفي لحظة الخطر يدعو الإنسان ربه ولا يمكن أن يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3693 في قلبه ذرة من نفاق؛ لأن الحق يقول: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} . والتضرع خفية يكون بالقلب أيضاً. وليس في ذلك رياء؛ لأن القلب لا اطلاع لأحد عليه إلاّ الخالق البارئ، والمثال على ذلك ما فعلته امرأة أوربية قرأت تاريخ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ووصلت في قراءتها إلى أسباب نزول قوله الحق: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] . ووجدت أن هذا القول الكريم قد نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان نائماً بعد ليلة من السهر، فقالت له عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: ألا من رجل صالح يحرسنا الليلة؟ وبينما هي تقول ذلك حتى سمعت صوت السلاح، وكان ذلك إعلانا عن مقدم سعد وحذيفة وقالا: جئنا نحرسك يا رسول الله. ونام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى سمعت سيدتنا عائشة غطيطه، ثم نزل عليه الوحي بهذا القرآن الكريم: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] . فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من النوم وقال: «انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله» . وعندما قرأت المرأة الأوربية هذه الحكاية في تاريخ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأحسنت الفهم لها أعلنت إسلامها على الفور قائلة: لو كان محمد يخدع الناس جميعاً ما خدع نفسه في حياته. لقد أدركت هذه المرأة بالفطنة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن ليصرف عنه الحرس لو لم يثق تمام الثقة في أن الله يحميه، وأنه سبحانه قادر على أن يحفظه. والإنسان لحظة الخطر إنما يدعو الله تضرعاً وخفية. والدعاء - كما علمنا - يحتاج إلى قول وفعل ووجدان. وهذه الأركان الثلاثة تتوافر في قوله الحق: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [الأنعام: 63] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3694 فكلمة (تدعونه) : قول و (تضرعا) : فعل لأنه خشوع وخضوع - و (خفية) : انكسار القلب وخشيته و «أنجانا» تدل على التعدد؛ لأن الفعل للتجدد والحدوث وأيضاً قوله: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ} يدل على التكثير، أي أنه لا ينجِّي مرة واحدة ولكنه ينجِّي لمرات كثيرة. ويأتي لنا سبحانه بصور كثيرة لقدرته على أن ينجِّينا إما بتكرار النجاة أو بتعدي النجاة من موقف لموقف. وتكرار النجاة هو أن يكون الحدث واحداً وينجي الحق فيه أفراداً كثيرين، أو يكون الحدث واحداً والطالب للنجاة منه فرداً واحداً، ويكرر الله نجاته من هذا الحدث. إن الحق سبحانه ينجِّي الفرد أو الجماعة من الأحداث أو الكوارث المختلفة. وسبحانه القائل: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12] . إن الإنسان إذا ما أصابه الضر في نفسه أو ماله أو نحو ذلك، أحس بضعفه ودعا ربه في أي حالة من حالاته - سواء أكان مضطجعاً أم قاعداً أم قائماً - حتى يكشف الله عنه هذا البلاء، وعندما يستجيب الله لدعاء هذا الإنسان ينسى هذا الإنسان فضل الله عليه كأنه لم يدع الله أن يزيل عنه الضر. والحق سبحانه يقول: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} [الإسراء: 67] . وسبحانه - هنا - يُذكِّر المشركين ومن كان على شاكلتهم أنهم عندما يصيبهم الضر في البحر يغيب عنهم كل من كانوا يدعونه سواء من الأصنام أو غيرها ولا يلجأون إلا الله حتى ينجيهم من الغرق ويخرجهم إلى البر، ومن بعد ذلك يعودون إلى الشرك بالله والجحود بنعمته سبحانه. وكذلك هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3695 {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [الأنعام: 63] . لقد دعوا الله بالتضرع والتذلل أن ينِّجيهم من ظلمات البر والبحر، ووعدوا أن يكونوا من الشاكرين، ولكن ماذا كان موقفهم بعد أن أنجاهم الله؟ يقول الحق سبحانه: {قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3696 إن الحق ينجيهم من الظلمات المادية في البر البحر، وسبحانه بعلمه الأزلي يعلم أنهم بعد النجاة سيعودون إلى ما نهاهم عنه من شرك به؛ لأن الإنسان بطبيعته عندما يجد حياته مكتفية بما يملكه قد يقع فيما قاله الحق تبارك وتعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] . والإنسان قد يتجاوز حدوده ويتكبر على من حوله، بل وعلى ربه إن رأى نفسه صاحب ثراء، ولا يعصم الإنسان من مثل هذا الموقف إلا الإيمان بالله؛ لأن الإنسان بدون منهج الله يسبح في بحر الغرور والتكبر، ولكن من يحيا في ضوء منهج الله فهو يعرف كيف يرعى الله في كل إمكانات أو ثراء يمنحه له الله، وينشر معونته ليستظل بها المحتاج غير الواحد. ولذلك نجد أن كلمة «الإنسان» إذا أُطلقت تقترن بالخسارة. {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3696 أي أن الإنسان على إطلاقه في خُسْر. ولكن الحق يستثني مَن؟ . . {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3] . إذن فالإنسان المعزول عن منهج الله هو الذي يحيا في خسران، لكن من يعيش في رحاب المنهج هو الذي لا يخسر أبداً. والإنسانحين يعيش دون منهج يصدر ويحدث منه ما رواه الحق سبحانه: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49] . لأن الذي يعيش دون منهج يدعو الله إن أصابه الضرّ، فإذا ما أنجاه الله ادعّى أن النجاة إنما كانت بأسباب امتلكها هو، وإذا ما أعطاه الله نعمة من النعم زاد في الادعاء وزعم أن هذه النعمة مصدرها علم من عنده هو ولا ينسب ذلك إلى الموجد الحقيقي وهو الله، إنّه نسي أن كل نعمة هي مجرد اختبار من الله. ويقول الحق من بعد ذلك: {قُلْ هُوَ القادر ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3697 وكلمة «قادر» تعني تمام التمكن وأنه لا قدرة ولا حيلة لأحد حيال قدرة الله؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يملي للقوم الظالمين ويمد لهم الأمر ثم يأخذهم بغتة بالعذاب، وقد يأتي العذاب من فوقهم كما جاء لقوم أبرهة الذين أرادوا هدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3697 الكعبة، فسلط عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، جعلتهم كعصف مأكول، وهناك من أخذهم الحق بالصيحة، وهناك من أهلكتهم بريح صرصر عاتية، وكل ذلك عذاب جاء من فوق تلك الأقوام. أما قارون فقد خسف الله به وبداره الأرض، وكذلك قوم فرعون أغرقتهم المياه، وهذه هي التحتية. فالعذاب قد يأتي من فوق أو من تحت الأرجل حسّياً، وقد يأتي أيضاً من فوقيّة أو تحتيّة معنوية، ومثال ذلك العذاب الذي يسلطه الله على الطغاة الكبار المستبدين، وقد يأتي العذاب من الفئات الفقيرة التي تعيش أسفل السلم الاجتماعي. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] . والمقصود بلبس الأمر أي خلطه بصورة لا يتبينها الرائي. و «شيعاً» هي جمع «شيعة» . والشيعة هم: المتعاونون على أمر ولو كان باطلا، ويجمعهم عليه كلمة واحدة وحركة واحدة وغاية واحدة. والمقصود بقوله الحق: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي أن كل جماعة منكم تتفرق ويكون لكل منهم أمير، وتختلط الأمور بين الاختلافات المذهبية التي تختفي وراء الأهواء، وبذلك يذيق الله الناس بأس بعضهم بعضاً. ولماذا كل ذلك؟ لأن الناس ما دامت فد انفرطت عن منهج الله نجد الحق يترك بعضهم لبعض ويتولى كل قوم إذاقة غيرهم العذاب. ولكن أُغيّر ذلك في ملك الله ونواميسه الثابتة من شيء؟ أبداً، فالسماء هي السماء، والأرض بعناصرها هي الأرض، والشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، والنجوم هي النجوم، والمطر هو المطر. إن الذي يحدث فقط هو أن يذيق الله الناس بعضهم بأس بعض، ويصير كل بعض من الناس ظالماً للبعض الآخر. وعندما نرى الناس تشكو، نعلم أن الناس كلها مذنبة، ومادام الكل قد أذنب وخرج عن منهج الله فلا بد أن يسلط الحق بعضنا على بعض حتى يعرف الجميع أنهم قد انفلتوا عن منهج الله لذلك يلقون المتاعب، ولن يرتاحوا إلا إذا عادوا إلى أحضان منهج الله؛ لأن منهج الله يمنع أن يتكبر إنسان مؤمن على أخيه المؤمن. والكل يسجد لإله واحد. ولهذا وضع الحق لنا العبادات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3698 الجماعية حتى يرى الضعيف في سلطان الدنيا القوي في السلطان وهو يشترك معه في السجود للإله الواحد. مثال ذلك ما نراه من طواف الناس حول الكعبة في ملابس الإحرام، إن من بين الذين يطوفون قوما من وجهاء الناس وأصحاب الرتب العالية والمنازل الرفيعة، ومن بين هؤلاء أيضاً نجد الذين لا يحتلون إلا المكانة الضئيلة، ويرى الضعيف نفسه مساوياً لمن في المركز الاجتماعي القوي. الكل يقف أمام ربّه وهو ذليل ويمسك بأستار الكعبة باكياً. ويريد سبحانه بذلك استطراق الغرور بين المؤمنين ويكون الناس جميعا أمام الله وفي بيته على سواء. {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] . وها نحن أولاء نرى كيف أن الحق يلبس الناس شيعاً، إننا نرى المنسوبين إلى الإسلام يذبح بعضهم بعضاً لسنوات طويلة. وإذا كان هؤلاء وأولئك طائفتين مؤمنتين تتقاتلان فأين الطائفة الثالثة التي تفصل بين الطائفتين مصداقاً لقوله الحق: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] . ها هوذا الدم المنسوب إلى الإسلام يسيل، ويزداد عدد الضحايا، ومن العجيب أن الآخرين يقفون موقف المتفرج، أو يمدون كل طائفة بأدوات الدمار. وذلك يدل على أن المسألة طامة وعامة. والقاعدة التي قلناها من قبل لا تتغير، القاعدة أنه لا يوجد صراع بين حقين؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3699 لأنه لا يوجد في الأمر الواحد إلا حق واحد. ولا يطول أبداً الصراع بين الحق والباطل؛ لأن الباطل زهوق وزائل. ولكن الصراع إنما يطول بين باطلين؛ لأن أحدهما ليس أولى من الآخر بأن ينصره الله. ومثال آخر كنا نراه في بلد كلبنان - إبان الحرب الأهلية - وكان الصراع الدائر هناك يكاد يوضح لنا أن كل فرد صار طائفة بمفرده، وكل إنسان منهم له هواه، وكل إنسان يذيق غيره العذاب ويذوق من غيره العذاب. {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] . وينوع سبحانه الحجج والبراهين ويأتي لهم بالأحداث والنوازل حتى يتبين للجميع أنه لا راحة أبداً في الانفلات عن منهج الله حتى يفقهوا. والفقه هو شدة الفهم. والمقصود أن نأخذ ونتفهم العظة من كل الآيات التي يجريها الحق أمامنا عسانا نرجع إلى مراد الله. ويقول الحق بعد ذلك: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3700 ما الذي كذب به القوم؟ المقصود هو القرآن أو المنهج عامة؛ لأن المنهج الإيماني يشمل القرآن ويشمل ما آتى به الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. فالقرآن معجزة مشتملة على الأصول. وجاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالسنُّة ليبين ويشرِّع. ولذلك نرد على هؤلاء الذين يطلبون كل حكم من الأحكام من القرآن ونقول: إن القرآن جاء معجزة تتكلم عن أصول العقيدة، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بالتشريعات التي تكمل المنهج، ومثال ذلك عدد الصلوات في كل فرض من الفروض الخمسة وعدد ركعات كل فرض من فروض الصلوات الخمس. إن القرآن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3700 لم يذكرها، ولكن أوضحها لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو القائل في حديث شريف: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مفوض بالتشريع بنص القرآن الكريم: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . ونحن نصلي كما صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونزكي بنصاب الزكاة الذي حدده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونحج إلى بيت الله الحرام كما حج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد أنزل سبحانه القرآن، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو أول من طبق القرآن والسنة. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] . أي أن هناك من الأمور العقدية التي أنزلها الحق مجملة في القرآن وفصلها للمؤمنين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتكليف من الحق. وطاعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واجبة بنص القرآن وهي ضمن طاعة الحق سبحانه وتعالى، فالحق يقول مرة: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} [آل عمران: 32] . وهنا طاعة الرسول غير مكررة إنها ضمن طاعة الله. ويقول سبحانه مرة أخرى: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 54] . أي أن هناك أمراً بإطاعة الله وأمراً بإطاعة الرسول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3701 ومرة ثالثة يقول سبحانه: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} . وكل ذلك حتى نستوعب الأحكام التي التقت السنة فيها بكتاب الله. وحين قال الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59] . فهو سبحانه لم يأت بطاعة مستقلة لأولي الأمر ولكنه جعلها طاعة من باطن طاعتين هما: طاعة الله، وطاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونعود إلى معنى الآية التي نحن بصددها: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] . إذن فالذي كذب بوجود الله وكذب بالقرآن هو مكذب للمنهج أيضا. فالمكَذَّب به هنا هو الحق، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، وفي حياتنا اليومية تحدث واقعة ما ويأتي أكثر من شاهد عِيان لها فلا نجدهم يختلفون في رواية الواقعة لأنهم يستوحون واقعاً، لكن إن كان بعض من الشهود لم يروْا الواقعة التي يشهدون عليها الوقائع من أفواه الشهود؛ لأن الحق قد يختفي قليلا وراء بعضٍ من الضباب لكن لا يدوم اختفاؤه طويلاً بل يظهر جلياً ناصعاً. والحق يضرب لنا المثل فيقول سبحانه: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3702 الماء - إذن - ينزل بأمر الله من السماء فتستمر به حياة النبات والحيوان والإنسان، ويأخذ كل وادٍ على قدر حاجته. وعندما ينزل السيل فهو يصحب معه بعضاً من الشوائب التي تطفو على المياه، ومثل تلك الشوائب يَطفو - أيضاً - عندما يُصهر الذهب أو أي معدن ويُسمى الخبث. وهكذا يطفو الباطل كالزَّبَدِ ويذهب جُفاء مطروحا ومرميا به بعيداً أو ينزل على جوانبه، أما الحق الذي ينفع الناس فهو يبقى في الأرض. وتكذيب القوم للحق من الله وللقرآن وللمنهج الإيماني هو البهتان، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس بوكيل على المكذبين ولا يلزمهم أن يصدقوا، فالوكيل هو الله الحق الذي يعاقب كل مكذِّب له، ومهمة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي البلاغ. «وكذّب به قومك» ، وكلمة «قومك» هذه هي تقريع فظيع لهم؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء منهم، وعرفوه صادقاً أميناً مدة أربعين عاماً قبل الرسالة، وما جرّبوا عليه كذباً، ومقتضى مكثه معهم هذا التاريخ الطويل كان يفرض عليهم أن يتساءلوا من فور بلاغهم بالرسالة: إنه لم يكذب علينا قط ونحن من الخلق، أيكذب على الخالق؟ . ولكن الهوى أعمى بصيرتهم، ولذلك يقول الحق عن هذا البلاغ: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] . أي قل لهم يا محمد: لو أراد الله ألا ينزل قرآنا عليّ من لدنه وألاَّ أبلغكم وأعلمكم به ما أنزله وما تلوته عليكم، ولكنه أنزله وأرسلني به إليكم. وعندما يمتن الله على الذين أرسل إليهم رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو يقول سبحانه: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] . وبرغم تكبر وعناد وتكذيب المشركين من قوم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3703 فإنه عندما هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى المدينة ترك علياً بمكة ليسلم للناس أماناتهم. فهل هناك حمق أكثر من حمق هؤلاء الذين كذبوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. أيكون أمينا معهم ولا يكون أمينا مع ربه؟ ويقول الحق من بعد ذلك: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3704 والنبأ هو الخبر المهم، فليس كل خبر نبأ، ذلك أن هناك المثير من الأخبار التافهة التي يتساوى فيها العلم الذي لا ينفع بالجهل الذي لا يضر. ومثال على الخبر المهم هو قوله الحق: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 1 - 3] . إذن فكل نبأ مستقر، والمستقر هو ما طُلب القرار فيه. والنبأ مظروف والمستقر مظروف فيه. والمظروفية تنقسم قسمين: مظروفية زمان، ومظروفية مكان. أي أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل حدث زمانا ومكانا يقع فيهما الخبر. وسوف يعلم الإنسان مستقر كل خبر عندما يأذن الحق بميلاد هذا المستقر الذي يُعلن فيه الخبر. النبأ - إذن - هو الخبر العظيم المدهش. ولا أعظم من تجلي السماء على الأرض بمنهج جديد ينقذها مما هي فيه من ضلال، وهو منهج عام لكل زمان ولكل مكان. إذن هو نبأ عظيم؛ لأنه يخلص دنيا الناس من جبابرة الأرض، ويلفت كل الناس إلى منهج يخرجهم جميعاً من أهوائهم. فلا أضر بالمجتمع من أن يتبع كل إنسان هواه؛ لأن هوى كل نفس يخدم شهواتها، والشهوات متضارية، فإذا حكّم كل إنسان هواه فلن تجد في الأرض قضية متفقاً عليها. ولذلك تكفل الحق سبحانه وتعالى للإنسان بمسألة تنظيم المنهج وهو الأمر الذي تختلف فيه الأهواء. وأما الأمر الذي تلتقي فيه الأهواء وهو استنباط ما في الأرض من كنوز واستكشاف ما في الكون من أسرار فقد تركه الحق للإنسان ليستنبطه بالعقل الذي خلقه الله، من الكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3704 الذي خلقه الله، وليسعد الإنسان بتلك الأسرار التي يستكشفها في الكون. ويؤكد لنا واقع الحياة هذه القضية، ونجد طموح العقل البشري عندما فكر في مادة الكون استنبط منها الأسرار وأنجز الكثير من الاكتشافات العلمية. ولم تختلف الدول والمعسكرات في تلك المجالات، بل التقت كل الأهواء عند هذه الاكتشافات، فلا توجد - كما قلنا - كهرباء روسية وأخرى أمريكية، ولا نجد «كيمياء انجليزية» وأخرى «فرنسية» ، ولذلك تجد الأنظمة السياسية والاجتماعية على اختلافها تلتقي في مجالات العلم وتتفق ولا تختلف حتى إن بعضها قد يسرق من البعض الآخر ما توصل إليه. ولا نجد في عالم المادة والمعمل والتجربة اختلافات بين نظام سياسي ونظام آخر، بل تلتقي الأهواء عند القوانين المكتشفة والمأخوذة من مادة الكون، وهو الأمر الذي تركه الله للناس ليكونوا أحراراً فيه، ويفكرون، وينظرون، ويتأملون، ويبتكرون، ويصلون إلى أسرار في الكون تخفف عنهم تبعات الحياة، وتؤدي لهم غايات السعادة في الوجود بأقل مجهود. ولكننا نجد الصراع العنيف على الجانب الآخر - جانب المبادئ والمنهج - وهو صراع لا يهدأ أبداً؛ لأنه صراع الأهواء فيما لم تحكمه تجربة مادية، وهم يختلفون خلافات عميقة، الرأسمالية تختلف عن الاشتراكية، وتتنوع الخلافات بين كافة المذاهب التي أنتجتها الأهواء: الشيوعية، الوجودية، الاشتراكية، الرأسمالية، وكل هذه المسائل لم تحكمها تجربة أو معمل ذلك كان الخلاف. ومن المؤسف أن البشر قد استغلوا ما اتفقوا فيه من ابتكارات علمية في فرض النظم التي اختلفوا عليها. وقد أوضح الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الأمر؛ إنه جل وعلا قد ترك عقول البشرية حرة في كل ما يخضع للتجربة، ولكنه نظم حياة الإنسان على الأرض في ضوء المنهج الإيماني؛ لأن الإسلام جاء في إثر ديانة حاول القائمون على أمرها من الكهنة أن يفرضوا سيطرة الكهنوت على العقل البشري في أسرار الكون. والمثال على ذلك واضح تماماً في التاريخ البشري، ففي العصر الذي تأخرت فيه أوروبا وسُمي «عصر الظلمات» كان المسلمون في الشرق باتباعهم لمنهج الله يعيشون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3705 في عصر النور؛ لأن الإسلام علمهم مجال استعمال العقل وقدراته على استنباط أسرار الله في الكون، وجاء سبحانه بهذا الدين وهو النبأ العظيم ليوضح لنا في مسيرة هذا الدين كل عبرة، وكأنه يقول لنا: إن هذا الدين قد بدأ ضعيفاً والذين آمنوا به قلة مستضعفة لا يستطيعون حماية أنفسهم بل تلمسوا الحماية وطلبوها عند ملك غريب في الحبشة، وعلى الرغم من ذلك أنتصروا لأنهم أخذوا بهذا الدين. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مقالة ربه: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] . ومعنى «مستقر» أي ميلاد يستقر فيه. أي لا تتعجلوا الأحداث، ولا تجهضوها؛ فإن شاء الله سيكون لهذا الدين انتشار، وهذا الانتشار له ميلاد في زمان وميلاد في مكان، أما زمانه فإلى أن تقوم الساعة، وأما مكانه فالأرض كلها؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء رسولاً للناس كافة، وخاتما للنبيين والمرسلين. ويؤيد الحق سبحانه قضية {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} بأن يشهد الواقع من الحقائق ما يؤكد ذلك. ومثل ما حدث في الزمن القريب المعاصر لميلاد الدعوة الإسلامية. فحينما جاء الإسلام آمن به قلة مستضعفة، ولما نزل قوله سبحانه: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] . قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أي جمع هذا الذي سيهُزم ويولون الدبر ونحن لا نستطيع حماية أنفسنا؟ فلما جاء يوم بدر ورأى مصارع القوم كما قالها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلاغاً عن الله قال عمر بن الخطاب: صدق الله، لقد هُزم الجمع وولَّوْا الدبر. ونجد كل قضية قرآنية محفوظة ومسجلة في السطور، يحفظها الله حتى لا يكون للناس على الله حجة؛ لأنه سبحانه القائل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3706 {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] . فلو لم يكن الواقع يؤيد أن لكل نبأ مستقراً، ولكن حدث ميلاداً زماناً ومكاناً، فماذا يظن الناس الذين يستقبلون القرآن؟ لذلك أتى الحق بكل قضية قرآنية ومعها دليلها، وأعطى الحق بعضاً من الحقائق الموثقة بالأحداث زماناً ومكاناً ليتأكد قوله الحق: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] . وقد علمت الدنيا وانتصر الإسلام. لقد شاء الحق أن يربي حامل الدعوة الأول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ويعلم معه صحابته رضوان الله عليهم، يعلمهم منطقاً ليسايروا به أحداث الكون. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى كان يُنزل الرسل بالأديان على فترات، وعندما يعُم الفساد في الأرض ينزل الحق منهجه على رسول ليهدي الناس إلى الصراط المستقيم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى جعل في كل نفس بشرية تعادلاً ذاتياً، فإذا اشتهى الإنسان شهوة يحرمها الدين، وقضى الإنسان هذه الشهوة، وهدأت شرّة وحدّة المعصية في نفسه، فالإنسان يؤنب نفسه ويوبخها. ولكن النفس قد تستمرئ الشهوات، وينعدم الوازع الذي يردع الإنسان. وإذا انعدم الوازع في فرد واحد فلن ينعدم في المجتمع، ونجد من الناس من يحمل المجتمع على المعروف، ويوجه صاحب النفس التي استمرأت المعصية إلى التوبة والخير. أما إذا عم الفساد في الفرد وفي المجتمع فماذا يكون الموقف؟ لا بد أن تتدخل السماء برسول جديد، ومنهج جديد. ويأتي الرسول الجديد ومعه المنهج اللازم لإصلاح الكون. ولا يتبع الرسول الجديد إلا المستضعفون القلة، وأهل البصيرة من أهل القوة حتى لا يظن ظان أن الضعفاء لاذوا بالدين ومالوا إليه بسبب ضعفهم. ويحذر الحق المؤمنين وكأنه يقول: إنكم تواجهون باطلاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3707 عض الناس وأرهقهم وأعنتهم، وحين يعضّ الباطل المجتمعات فالذي ينتفع من ذلك هم أهل الباطل، والذي يشقى بذلك هم أهل الحق. فلكل فساد طبقة منتفعة به. وحين توجد الطبقة المنتفعة بالفساد. وحين توجد كلمة الحق فإن المنتفعين بالفساد ينظرون إلى نفوذهم الذي سينحسر حتماً عندما تسود كلمة الحق. وحين ينتصر الحق لا بد أن يزول الفساد ومعه كل نفوذ أهل المفاسد. لذلك يقف المنتفعون من الفساد ضد الدين الجديد ليحافظوا على مكانتهم في المجتمع. ويقول الحق تهذيباً للمؤمنين، وتأديباً لغير المؤمنين: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3708 وبهذا القول يوضح الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اعلم أن ما جئت به سيخاض فيه، ويقال مرة إنه سحر، ومرة إنه شعر، وثالثة إنه كهانة، ورابعة يتهمونك بالكذب، ولا يقول ذلك إلا المنتفعون بفساد الكون، فإذا ما جاء مصلح فسيجعلونه عدواً لهم. لذلك لا بد أن تحافظ على أمرين. . الأمر الأول: أن الذين اتبعوك - وهم ضعاف - قد لا يستطيعون مواجهة القوة الظالمة؛ لذلك لا تحملهم ما لا طاقة لهم به ولكن تَرَيَّثْ؛ فإن لكل نبأ مستقراً، والأمر الثاني: أَنك إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم وبيِّن لهم الجفوة فلا تقبل عليهم، ولا توادهم، ولا تستمع إليهم، ولا يسمع إليهم أصحابك، لماذا؟ لأنهم يخوضون في آيات الله. ولكن أيستمر هذا الإعراض عنهم طوال الوقت؟ ، لا، فالإعراض عنهم إنما يكون في أثناء خوضهم وتكذيبهم لآيات الله، أما في غير ذلك من الأوقات فاعلم أن آذانهم في حاجة إلى سماع صيحة من الحق، لذلك انتهز به؛ لأنك إن تركتهم على ضلالهم فإن قضية الإيمان تصير بعيدة عنهم، وأنت مهمتك البلاغ، والله يريد الخير لكل خلقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3708 {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] . وكلمة «الخوض» هذه تشعرنا بمعنى في منتهى الدقة؛ لأن الخوض في أصله هو الدخول في الماء الكثير. والماء الكثير ساتر لما تحت قدمي الذي يخوض فيه، وما دام قد ستر ما تحت قدميه فهو لا يدري إلى أي موقع تقع قدماه، وربما وقعتا في هوّة، لكن الذي يسير في غير ماء فالطريق واضح أمامه، يضع قدميه حيث يرى فيها ثباتاً واستقراراً وعدم إيذاء. وأخذوا من ذلك المعنى وصف الكلام بالباطل، لأنه خوض بدون اهتداء. ولذلك يقول الحق: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] . ولماذا وصف فعلهم هذا بأنه لعب؟ ذلك لأن اللعب هو شغل النفس بشيء غير مطلوب وكان في قالب الجد. ولكن إذا كان هذا الشيء يؤدي إلى نبوغ في مجال من مجالات الحياة فنحن ندرب أبناءنا عليه في فترة ما قبل البلوغ. ومثال ذلك تدريب الأبناء على السباحة والرماية. وركوب الخيل. وما إن يبلغ الإنسان فترة البلوغ حتى تصير له مهمة في الحياة، ويصبح عليه أن يتحمل المسئولية، فلا يضيع وقته في اللعب أو فيما يلهيه عن أداء الواجب. {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] . والنفس البشرية لها أغيار. وهذه الأغيار قد تنسيها بعض التوجهات. لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موعود من ربه بعدم النسيان. {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3709 فإذا كان هذا بالنسبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكيف نفهم قول الحق هنا: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68] . إننا نفهم هذا القول على أساس أنه تعليم لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحينما ينزل أمر من السماء فرسول الله أولى الناس بتطبيقه، فإذا كان الرسول يُخاطَب: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} فإذا ما نسي إنسان لغفلة من الغفلات، فليأخذ علاج الله للنسيان، وهو ألا يقعد مع هؤلاء القوم الذين يخوضون في آيات الله في أثناء خوضهم، ولكن عليه أن يتركهم ويعرض عنهم. إذن فالحق سبحانه وتعالى احترم خلقه؛ لأنه وهو العليم بهم، خلق لكل إنسان ملكة حافظة، وملكة ذاكرة، وملكة مخيلة، وكل ملكة من هذه الملكات تؤدي مهمة: فالملكة الحافظة تحفظ المعلومات، والذاكرة تأتي بالمعلومات المحفوظة القديمة لتجعلها في بؤرة الشعور. ولو لم يكن هناك نسيان لما استطاعت فكرة أن تدخل في ذهن الإنسان؛ لأن العقل لا ينشغل إلا بقضية واحدة في بؤرة الشعور. وحتى تدخل قضية أخرى في بؤرة الشعور، لا بد أن تتزحزح القضية الأولى من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور. لذلك لا بد من نسيان خاطر ما ليحل محله خاطر آخر. ولو ظل الإنسان ذاكراً لقضية من القضايا في نفسه لصار من المحال أن تدخل قضية جديدة أخرى. ولهذا خلق الله النسيان، أي انتقال قضية ما من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور. والإنسان منا يتذكر شيئاً حدث من عشرين عاماً، ثم يمر هذا الحادث بالخاطر فجأة، ويتساءل الإنسان، كيف؟ ويعرف الإنسان أن هذا الحادث كان محفوظاً ومصوناً في دوائر شعورية بعيدة. ولذلك نجد الإنسان عندما يريد استعادة معنى من المعاني فهو يترك لنفسه فرصة لاستعادة هذا الخاطر أو ذلك المعنى، ولذلك يسمون هذه المسألة «تذكر» . {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68] . ولماذا ينسب الحق النسيان للشيطان؟ ، لأن حقائق الحق في دينه هي الصدق، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3710 ولا يصح أن تغيب أبداً عن بال المؤمن، وهي لا تغيب عن بال المؤمن إلا بعمل الشيطان فالشيطان يزين الأمر الذي يحبه الإنسان ويشغله عن أمر آخر، فإذا ما نزغ الشيطان لينسى الإنسان، وتذكر الإنسان أن هذا من نزغ الشيطان فليستعذ بالله من الشيطان ولا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين. وأنت حين تفعل ذلك وتنفر من هؤلاء القوم الظالمين فأنت تلفتهم إلى أن ما عندك من يقين إيماني هو أعز عندك مما في مجالسهم من حديث وما يكون لديهم من نفع. وبذلك تنتفع أنت بهذه التذكرة وهم أيضاً يلتفتون إلى أهمية الإيمان وأفضليته عند المؤمن على ما عداه. وما كان الحق سبحانه وتعالى ليفرض على المؤمنين مقاطعة المشركين في أثناء فترة ضعف المؤمنين في بداية الدعوة. وكان المؤمنون يلتقون في المسجد الحرام، وكان المشركون يذهبون أيضاً إلى الكعبة قبل فتح مكة، فهي مكان حجيجهم، فهل يقاطع المسلمون المسجد الحرام في بداية الدعوة الإسلامية ولا يلتقون؟ قطعاً لا. ولكن كان المسلمون يذهبون للقاء في المسجد الحرام، وإذا جاء الذين يخوضون في آيات الله فهم يعرضون عنهم. ووزر الخائضين على أنفسهم. ولذلك يقول الحق: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3711 أي أنك إذا كنت معهم وخاضوا في الحديث فقمت من مجلسهم أو نسيت وقعدت ثم تذكرت فقمت، فأنت تلفتهم إلى أنّ ما أقامك من مجلسهم هو شيء أكثر أهمية من هذا المجلس، إنه احترام تكليف الله فيما أمرك به ونهاك عنه، وليس عليك ولا على الذين يتقون الله من أوزار هؤلاء الظالمين من شيء، وليس عليكم من حسابهم من شيء، ومجرد قيامكم من مجلسهم هو تذكرة لهم لعلهم يتفكرون في منطق الحق ويخشون الله ويبعدون أنفسهم عن الوقوع في الباطل حتى يكونوا في وقاية من عذاب الله وسخطه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3711 ويقول الحق من بعد ذلك: {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3712 قلنا - من قبل -: إن اللعب هو الاشتغال بما لا يفيد لقتل الوقت. وعرفنا أن اللعب مجاله قبل التكليف أي قبل سن البلوغ. وإذا شغلك اللعب عن شيء مطلوب منك فهو لهو؛ لأنك لهيت عن امر واجب عليك، فاللهو - إذن - هو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة. وقوله الحق: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} هو تصوير لا يوجد أبرع منه؛ لأنهم أصحاب العقول التي تغتر بالحياة الدنيا فهي عقول تائهة؛ فالعقل الناضج يفهم الدنيا على أنها أقل شأناً من أن تكون غاية، ولكنها وسيلة أو مجال وطريق ومزرعة إلى الآخرة. وعلى العقل الناضج أن يعاملها دون نسيان مهمتها، وآفة الناس أنهم جعلوا الوسائل غايات، وغاية وجود الناس على الأرض أن يعمروها بالعمل الصالح وعبادة الحق، فمن انجرف عن ذلك فله عقابه يوم الغاية الكبرى، وهو يوم الحساب. إننا نعلم أن غاية الإنسان من الحياة الدنيا ليست أن يعيش عمراً طويلاً، ولا أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3712 ينال المناصب، ولا أن يحصل على الثراء، ولا أن ينال القوة، فكل ذلك من الأغيار، والأغيار تختلف من إنسان إلى آخر. وما نختلف فيه نحن البشر ليس غاية لوجودنا، والغاية للوجود الإنساني لا بد أن تكون واحدة. وأن نتفق فيها جميعاً، هذه الغاية هي ما نصير إليه بعد الموت. ونجاح كل عمل بمقدار ما يقرب الغاية منه. ولذلك فالمؤمن الحق يرى استقبال البشر لقضية الموت استقبالاً أحمق، فعندما يموت شاب في العشرين نجد من يقول: «إنه لم يستمتع بشبابه» والمؤمن الحق يرد على مثل هذا القول متسائلاً: أين تريد أن يستمتع بشبابه؟ . ويجيب أصحاب الفهم السطحي: لقد مات قبل أن يستمتع بشبابه في هذه الدنيا. ويقول المؤمن الحق: وهل هذه الدنيا هي الغاية؟ . إنها ليست الغاية، بل الغاية هي الحياة الأخرى. ومن مات قبل التكليف فقد أنقذه الله من الحساب وأوطنه الجنة يتلقى نعيمها الدائم. فلماذا - إذن - هذه المبالغة في الحزن على أي ميت؟ والذي يقترب من الغاية يحب هذه الغاية. وهب أن إنساناً غايته أن يذهب إلى الإسكندرية، والوسيلة إليها قد تكون حصاناً أو عربة أو طائرة، فكل شيء يقربه من الغاية يكون هو الأفضل. فإذا كان الله يريد أن يأخذ بعضاً من خلقه وهم في بطون أمهاتهم، فهذه إرادته. والذي ذهب من بطن الأم إلى القبر قرب من الغاية، وخلص من المراحل التي كانت في طياتها الفتنة. ودخل الجنة. وهب أن الوليد عاش إلى عمر المائة وصار شيخاً ومر بكل اختبارات الفتنة واستقام على المنهج، فإلى أين مصيره؟ إنه إلى الجنة. إذن فعلينا أن نستقبل كل قدر الله بحب: قدر الميلاد أو قدر الخروج من الدنيا، ولذلك يقول الحق سبحانه: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 1 - 2] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3713 إنه سبحانه لم يقل إنه خلق الحياة والموت، لا، بل قال: {خَلَقَ الموت والحياة} وذلك حتى يستقبل كل منا الحياة، ويسبقها في الذهن ما ينقض هذه الحياة وهو الموت. إذن فهذه هي الغاية التي يتفق فيها كل الجنس البشري، أما ما عداها فهي أغيار نختلف فيها. لذلك لا تقل إن الغاية من ابنك أن ينجح في القبول للإعدادية ثم يحصل على الشهادة الإعدادية، ثم يحصل على الثانوية العامة، ثم يحصل على ليسانس الكلية أو بالكالوريوس التخرج أو درجة الماجستير أو درجة الدكتوراة، ثم يصير صاحب شأن في الحياة، لا تقل ذلك؛ لأن كل ذلك ليس غاية في الحياة، ولأن الغاية هي ما لا يوجد بعدها بعد، ولكن علينا أن نقوم بإعمار الأرض كما أمرنا الله ولكن لا نجعلها هي الغاية. ولذلك قال الحق سبحانه: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} [الحديد: 20] . هذه هي الحياة الدنيا، ولذلك يجب أن نحيا دائماً على ضوء ما ينجينا من العذاب وهو ذكر الله، إن الحق سبحانه يقول: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام: 70] والذكر هنا مقصود به التذكير بالقرآن وهو المنهج النازل من السماء وطبقه رسول الله، وسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الذكر أيضاً، أو الذكر هنا مقصود به العذاب الذي ينتظر من يخالف المنهج، وقوله الحق: {وَذَكِّرْ بِهِ} ، يدل على أن منطق الفطرة يقتضي أننا نعرف أن الحق لا يمكن أن يعامل المتقين في الدنيا كما يعامل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3714 المنحرفين. ومثال ذلك الإنسان الذي يخوض في أعراض الناس ويظلمهم لا يتصور أبداً - أن يلقى من الحق - سبحانه - المعاملة التي يعامل بها الإنسانَ الملتزم بمنهج الإيمان؛ فالفطرة تقول لنا: إن الحق يجازي كل إنسان بعمله، سواء أكان الجزاء في الدنيا أم في الآخرة. ومن المأثور عن بعض العرب أنه قال: لن يموت ظلوم حتى ينتقم منه الله. ومن بعد ذلك مات رجل ظلوم ولم ير فيه الناس انتقام السماء، فقال الرجل العربي: والله إن وراء هذه الدار داراً يُجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} والبَسْلُ معناه: المنع، والمنع له صورتان: الأولى منع حركة حياة حي. . أي أن تحبسه في مكان محدد يتحرك فيه، والثانية: منع من أصل الحياة. . أي أن تهلكه وتزهق روحه، {تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي تُمنع نفس بما كسبت، والمنع إما بالهلاك أو بالحبس حبساً يديم عليها العذاب. والحبس - في أعراف البشر - وهو وضع إنسان في مكان لكفِّه عن ظلم غيره، أي أننا نمنع شرور إنسان عن المجتمع بوضعه في الحبس. وعندما جاء الإسلام لم يحبس فرداً إنما حبس المجتمع عن فرد، وهذا عقاب أكبر وأشد؛ فقد ترك الإسلام المجرم حرّاً في المجتمع ولكنه حبس المجتمع عنه؛ فالمجرم يمشي فلا يجد من يكلمه أو يضحك له أو يفرح معه أو يشاركه حزنه. وحدث ذلك عندما حبس المؤمنون أنفسهم عن ثلاثة تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى أن إنساناً منهم جاء ليقرب امرأته فرفضت. وحاول ثان أن يسلم على ابن عمه فما رد عليه السلام فجلس يبكي. وقاطع كل الناس هؤلاء الثلاثة، وهذه هي عظمة الإسلام، لقد سجن المجتمع عن المجرم فتعذب المجرم بقطيعة المجتمع له. {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي ذكر بالقرآن أو بالمنهج أو بعاقبة مخالفة الإنسان للمنهج. والعقاب إما حبس وإما هلاك، وذلك بسبب ما تكسب النفس. والكسب في اللغة معناه زيادة على رأس المال. وللكلمة اشتقاق ثان وهو «اكتسب» . ومرة تأتي الكلمتان في معنى واحد، فالكسب يحدث دون افتعال ودون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3715 تعب أو مشقة، أما الاكتساب فهو يحدث بافتعال وبمعالجة وعنت؛ لأن الذي يصنع المحرَّم يأخذ أكثر من قدرة ذاته، فيكون قد اكتسب. أما الذي يأخذ الأمر المشروع له فهو قد كسب. ولكن بعض الناس تأخذ ما اكتسبوه باحتيال ومكر ويظنون أنه كسب وهذا هو الشر؛ لأنه يأخذ غير المشروع له ويحلله لنفسه، ويعتبره كسباً لا اكتساباً. ولذلك يقول الحق سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] . إن «لها» أي لصالح النفس؛ لأنها أخذت ما هو حق لها. و «عليها» أي ضد النفس؛ لأنها افتعلت في أخذ ما ليس حقاً لها. ومثال ذلك: نظرة الرجل إلى زوجته، إنها نظرة طيبة إلى حلال طيب. لكن نظرة الرجل إلى امرأة غريبة قد تحتوي من الافتعال الكثير؛ فهو يتلصص ليراها، ولا يرغب في أن يراه أحد وهو يختلس النظر إليها، وهذه كلها انفعالات مفتعلة. ومثال آخر: سيدة البيت عندما تدخل إلى مطبخها فتتناول شيئاً لتأكله، إنها تأكل من حلال مال زوجها، أما الخادمة فعندما تريد أن تأخذ قطعة من اللحم من المطبخ دون علم أهل البيت فهي تتلصص، وتحاول معرفة عدد قطع اللحم، وقد تتساءل بينها وبين نفسها: ألم تقم ربة البيت بحصر عدد قطع اللحم؟ ولذلك فهي تأخذ من كل قطعة لحم قطعة صغيرة. وهذا افتعال يتعب الجوارح؛ لأن مثل هذه الأمور تتعب ملكات الإنسان، إنّه يحاول أن يرضي ملكة واحدة فيتعب كل ملكاته الأخرى. {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} [الأنعام: 70] . إذن فهي النفس التي تحبس وتسلم نفسها إلى الهلكة والعذاب بسوء كسبها ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يُقبل منها عدل. وهذه مراحل متعددة تبدأ بقوله الحق: {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ} والولي هو الذي ينصرك إن كنت في مأزق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3716 ومأزق الآخرة كبير، فماذا عن الإنسان الذي ليس له ولاية؟ إنه العذاب الحق. والمرحلة الثانية {وَلاَ شَفِيعٌ} أي ليس له من يشفع عند من يملك النصرة وهو الله؛ فالذي يحبك إن لم ينصرك بذاته فإنه قد يشفع لك عند من يستطيع أن ينصرك. وهذا أيضاً لا يوجد لمن لم يتذكر ويتعظ ولم يتبع المنهج الإيماني. والمرحلة الثالثة {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} أي أنه لا تقبل منه فدية. فهذه المنافذ الثلاثة قد سُدّت ولا سبيل للنّجاة لهؤلاء الذين قال فيهم الحق: {أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} أي أهلكوا أو حُبسوا في الجحيم حبساً لا فكاك منه، وليس هذا فقط ولكن الحق يقول أيضاً: {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} . إن كلمة «شراب» إذا سمعناها فإننا نفهم منها الرِّي. ولكن الحق هنا يتبع كلمة «شراب» بتحديد مصدر هذا الشراب، إنه «من حميم» ليحدث ما يُسمى «انبساط» و «انقباض» ؛ فالشيء الذي يسرّ الإنسان تنبسط له النفس. والشيء الذي يحزن الإنسان تنقبض له النفس. ولو أن الأمر المحزن جاء بداية في هذا القول الكريم لانقبضت النفس في المسار الطبيعي، لكن الحق شاء أن يأتي أولاً بكلمة من يسمعها تُسر نفسه وهي «شراب» ثم تبعها بما يقبض النفس «من حميم» ليكون الألم ألمين: ألم زوال السرور، وألم مجيء الحزن. ويصور القرآن في موضع آخر هذه الصورة فيقول: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه ... } [الكهف: 29] . وتنبسط النفس حين تسمع الجزء الأول وهو: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} ولكنها تنقبض فور سماعها {بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} . وصورة أخرى عندما يقول الحق: { ... فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3717 وتنبسط النفس - كما علمنا - حينما تسمع خير البشارة؛ لأن البشارة تأتي للأمر المفرح، وتنقبض عندما تعلم أن البشارة هي بالعذاب الأليم. إذن فقد جاء الحق بالانبساط، وجاء بالانقباض. وهذه سنة من سنن الله في التأديب. ومثال على ذلك: عندما يرتكب إنسان مظالم كثيرة، وتفاقم واستفحل شره ويريد الله أن ينتقم منه، إنه سبحانه لا ينتقم منه وهو على حاله الطبيعي، إنما يرفع الحق - سبحانه - هذا الظالم إلى درجات عالية ثم يخسف به الأرض. ولذلك يقول الحق: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ... } [الأنعام: 44] . وساعة تسمع {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} فأنت تخاف؛ لأن الفتح هنا «عليهم» وليس «لهم» . لكنك ساعة تسمع قوله الحق: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] . فإنك تحس بالانشراح والسرور؛ لأن الفتح هنا لصالح المتلقي وليس عليه هكذا يريد الحق أن يصْلى المتجبرون العذاب المضاعف: { ... لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [الأنعام: 70] . والعذاب هنا نتيجة لما فعلوه وليس فعل جبار متسلط. أما غيرهم من المتساوين معهم في الملكات، واختاروا الخير فآمنوا بالمنهج وطبقوه على أنفسهم فقد نالوا الخير بما فعلوا، والتكوين الإنساني في ذاته صالح لفعل الخير ولفعل الشر، وسنة الحق واضحة جلية: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3718 ويقول الحق من بعد ذلك: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3719 هذه الآية تبدأ بسؤال عن عبادة الأصنام أو غيرها، ما الذي صنعته تلك الأصنام أو غيرها لمن عبدها؟ وماذا صنعت لمن لم يعبدها؟ . وهذا أول منطق في بطلان ألوهية غير الله، فمن عبد الشمس مثلا ماذا أعطته الشمس؟ ومن كفر بها كيف عاقبته الشمس؟ . إنها تشرق لمن عبدها ولمن لم يعبدها. والصنم الذي عبدوه، ماذا صنع لهم؟ لا شيء. وهذا الصنم لم يُنْزِل عقاباً على مَنْ لم يعبده، بل إن الذي انتفع هو من لم يعبد الأصنام؛ لأنه أعمل فكره ليبحث عن خالق لهذا الكون. وهكذا نجد النفع والضر إنما يأتيان من الإله الحق: {وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله} والإنسان دائماً حين يسير فهو يقطع خطوة إلى الأمام فيقصر المسافة أمامه، أما من يُرَدُّ على عقبه فهو من يرجع هذه الخطوة التي خطاها. وهذا حديث المؤمنين الذي يرفضون أن يعودوا إلى عبادة غير الله لأنهم آمنوا وساروا في طريق الهدى، وليس من المنطق أن يرتدوا على أعقابهم وأن ينقلبوا خاسرين. {كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض} كلمة «شيطان» مقصود بها عاصي الجن. والجن جنس مقابل للإنس، وما دام في الإنس طائعون وعاصون فكذلك في الجن طائعون وعاصون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3719 والحق قال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} [الجن: 1 - 2] . إذن فمن الجن من هو مؤمن. ومن الجن من هو عاصٍ. والعاصي من الجن يُسمى شيطاناً. وإياك أن تنكر أيها المسلم وجود الشيطان لأنك لا تراه، لأن الشيطان من المخلوقات التي ذكرها الله من عالم الغيب، وحجة وجودها هو تصديقك لمن قال عنها، وهناك فرق منطقي وفلسفي بين وجود الشيء وبين إدراك وجود الشيء. والذي يتعب الناس أنهم يريدون أن يوحدوا ويربطوا بين وجود شيء وإدراكه. وهناك فارق بين أن يوجد أو يدرك؛ ذلك أن هناك ما يكون موجوداً ولكنه لا يُدرك. {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله} [الأنعام: 71] . جاء هذا التصور في صورة استفهام. إنّ الحق طلب من رسوله أن يقوله، فكأن الصورة: أن قوماً هداهم الله إلى الحق فدُعُوا إلى أن يعبدوا غير الله ويدعوا ما لا ينفع ولا يضر، فيردوا على أعقابهم، أي بعد الهداية، وهذه هي صورة الحيرة والتردد؛ لأنهم كانوا على هدى، ثم دُعُوا إلى أن يعبدوا من دون الله ما لا ينفع ولا يضر. وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة لهذه الحيرة، ولهذا التردد، فقال: {كالذي استهوته الشياطين} . و «استهوته» من مادة «استفعل» وتأتي دائماً للطلب؛ كقولنا «استفهم» . أي طلب الفهم، و «استخرج» . أي طلب الإخراج للشيء، «فاستهوته» طلبت هُوِيَّة. أي جعلته يتقبّل ما تريد واستولت عليه دون أن يكون لديه أي دليل أو حجة على صحة ما تدعوه إليه بأن صار عجينة تشكله الشياطين كما تشاء، وترده مادة «الهاء والواو والياء» لمعانٍ، إن مُدَّت؛ فهي الهواء الذي نتنفسه، وما به أصل الحياة، وإن قُصِرَت، فإنها هي الهَوَى وهو ميل النفس إلى شيء، أو تكون هُويًّا أي سقوطاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3720 إذن فالمادة تأتي إما للهواء إن كانت ممدودة، وإن كانت بالقصر فهي من الهَوَى أو من الهُوِىّ؛ كأن تقول: «هَوَى، يَهْوِي؛ هُوِيّاً» أي سقط من علوٍّ إلى أسفل، وهَوِىَ، يَهْوَى، هَوّى. أي أحبَّ، وهكذا نعرف أن «استهوته» أي طلبت هويَّه أو هواه أي ميل نفسه إلى اتباع الهَوَى، وحين تستهوي الشياطين الإنسان فهي تريد أن تجتذبه إلى ناحية هواه، وتوقظ الهوى في النفس، وبذلك تدعوه ليَهْوِي. والحق يقول: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] . وحين يخرّ عبد من السماء، إما أن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، وحين تأتي إلى الهَوَى والهُوِىّ فاعلم أن الهوى يجذبك إلى ما يضرك، ولذلك لا تسلم منه إلا أن يكون هواك تبعاً لما جاء به الحق، ولكن إن اتبعت هواك فلا بد أن يؤدي بك إلى الهُوِيّ: {كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض حَيْرَانَ} [الأنعام: 71] . وما هي الحَيْرة؟ هي التردد بين أمر ومقابله. وعرفنا من قبل أن الحَيْرة في هذه الآية جاءت لمن اهتدى وسار خطوة للمنهج ثم رُدَّ على أعقابه ورجع، ولكن له أصحاب يدعونه إلى الهدى، فهو بين شيطان يستهويه، وأصحاب يدعونه للمنهج؛ لذلك يكون حيران: بين هاوية ونجاة، والشيء الذي يهوي لا استقرار له، وحين نرى - على سبيل المثال - حجراً يهوي للأرض نجده يدور، ولا اتجاه له. وهذه صورة معبرة، ويأتي له القول الفصل: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} [الأنعام: 71] . فمن يتبع إذن؟ إنه يتبع الذين يدعونه إلى منهج الحق سبحانه وتعالى؛ لأن الهدى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3721 هو المنهج والطريق الموصل للغاية، والصنعة لا تضع غاية لنفسها، بل الذي يضع الغاية هو من صنعها، وسبق أن قلت: إنّ التليفزيون لا يقول لنا غايته، ولا يعرف كيف يصون نفسه، بل يضع ذلك مَنْ صنعه، وكذلك الإنسان عليه أن يأخذ غايته مِمَّن خلقه، والذي يفسد الدنيا أن الله خلق، لكن الناس أرادوا أن يضعوا لأنفسهم قانون الصيانة، لذلك نقول: إن علينا أن نأخذ قانون الصيانة ممن خلقنا، وهدى الله هو هدى الحق. وجاءت «الهدى» هنا لتعطينا يقيناً إيمانياً في إله واحد، وحين توجد عقيدتنا في إله واحد، لا تختلف أهواؤنا أبداً؛ لأنه هو الذي يضع لنا القانون، وساعة يضع لنا القانون ويكون كلٌّ مِنِّا خاضعا لقانونه، لا يذل أحد منا لأحد آخر؛ فأنا وأنت عبيد لإله واحد، ولا غضاضة عليك ولا غضاضة عليّ. وحين يُريد البشر أن يسير الناس على أفكارهم فإن صاحب الفكر يريد أن يُذِل الآخرين له ويأخذهم على منهجه وعلى مبدئه، وهو في الحقيقة ليس أفضل منهم، ولذلك تجد الهداية الحقة حين نخضع جميعاً لإله واحد، ويتساند المجتمع ويتعاضد ولا يتعاند، ويتوجه الهوى إلى محبة منهج الله. {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71] . ولهذا جاء الدين؛ لأن الشرع لا يقرر شيئاً ضد الإنسان. ونذكر جميعاً قصة ملكة سبأ وسيدنا سليمان عليه السلام حينما قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} . ولم تقل: أسلمت لسليمان بل أسلمت مع سليمان لله، فلا غضاضة أن تكون قد أسلمت فهي ليست تابعة لسليمان، بل تابعة لرب سليمان، إذن حين يأتي التشريع من أعلى، لا غضاضة لأحد في أن يؤمن، ولا يظن واحد أنه تبع لآخر بل كلنا عبيد لله. وحين نكون جميعاً عبيداً لواحد نكون جميعاً سادة. ويتمثل الهدى في الإيمان بإله واحد، ونأخذ هذا الإيمان بأدلتنا العقلية. إننا ندخل عليه من باب العقل، ونسلم أمرنا له؛ لأنه هو أعلم بما يصلحنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3722 {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} [الأنعام: 71] . وقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3723 هنا تجد الأمر بثلاثة أشياء: نُسْلِمُ لرب العالمين، ونقيم الصلاة، ونتقيه سبحانه، لماذا؟؛ لأن كل الأعمال الشرعية التي تصدر من الجوارح لا بد أن تكون من ينابيع عقدية في القلب. وكيف نسلم لرب العالمين؟ . أي نفعل ما يريد وننتهي عما ينهى عنه، ثم نقيم الصلاة وهو أمر إيجابي، ونتقي الله أي نتقي الأشياء المحرمة وهو أمر سلبي، وهكذا نجد أن الهدى يتضمن إيماناً عقدياً برب نسلم زماننا له؛ لتأتي حركتنا في الوجود طبقاً لما رسم لنا في ضوء «افعل» و «لا تفعل» ، وحركتنا في الوجود إما فعل وإما ترك. والفعل أن نقوم بسيد الأفعال وهو الصلاة، والترك أن نتقي المحارم، وهذا كله إنما يصدر من الينبوع العقدي الذي يمثله قوله: {لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} . والحق سبحانه وتعالى حينما يأمر بفعل أو ينهى عن شيء هو يعلم أنك صالح للفعل وللترك، فإذا قال لك: افعل كذا، فأنت صالح ألا تفعل، وإذا قال: «لا تفعل كذا» ، فأنت صالح أن تفعل، ولو كنت لا تصلح لأن تفعل لا يقول لك: افعل؛ لأنك مخلوق على هيئة تستطيع أن تفعل وتستطيع ألا تفعل، وهذا هو الاختيار المخلوق في الإنسان، أما بقية الكون كله فليس عنده هذا الاختيار. مثال ذلك: الشمس، إنها ليست حرّة أن تشرق أو لا تشرق، الهواء ليس ليس حراً أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3723 يهب أو لا يهب، والأرض في عناصرها ليست حرّة في أن تكتمها أو لا تكتمها، لكن الإنسان مميز بقدرته على أن يختار بين البدائل؛ لذلك لا بد أن يكون صالحاً للأمرين، والخطأ إنما يأتي من أن تنقل مجال «افعل» في «لا تفعل» . أو مجال «لا تفعل» في «افعل» . والمؤمن يأخذ منطقية «افعل» في مجال «الفعل» ، ومنطقية «لا تفعل» في مجال الترك. وحين تنظر إلى الإنسان تجد أن التكليف الإلهي يناسب التكوين البشري. وأنت تشترك مع الجماد في أشياء، ومع النبات في أشياء، ومع الحيوان في أشياء، وتتفوق على الكل بقدرة الاختيار التي منحك الله إياها. ولتوضيح هذا الأمر أقول: لنفترض أن واحداً أخذك إلى مكان مرتفع ثم تركك في الجو عندئذ تسقط على الأرض، وهكذا تجد أن قانون الجماد ينطبق عليك، فليس لك إرادة أن تقول: «لا أريد أن أقع» وهكذا نرى الجمادية فيك، وانظر إلى «النمو» الذي لا تتحكم فيه ولا تقدر أن تقول: «سأنمو اليوم بزيادة في الطول قدرها نصف الملليمتر» بل أنت لا تعرف كيف تنمو، وأنت لا تعرف كيف ينبض قلبك، ولا سرّ الحركات الدودية للأمعاء، ولا حركة المعدة، أو عمل الكبد، أو حركة التنفس التي بها تقوم الحياة، وكل ذلك أمور قهرية، ومن رحمة الله بنا أنها قهرية، فلو كانت اختيارية لتحكم فيها غيرك. إذن من رحمته بنا سبحانه أن جعلنا مقهورين في هذه المسائل، ومسخرين فيها، وبعد ذلك خلق لنا الاختيار في التكليف، افعل، ولا تفعل، والتكليف من الله سبحانه وتعالى في الأفعال التي تقع من الإنسان لا في الأفعال التي تقع على الإنسان؛ لأن الأفعال التي تقع من الإنسان هي التي فيها اختيار ويبحثها العقل أولاً، لينفذها الإنسان بعد ذلك. ولذلك لا يكلف ربنا إلا العاقل الناضج؛ لأنه لا توجد قوة تقهره على غير ما يختار. أما المجنون فليس عليه تكليف؛ لأنه لم يُدرْ المسألة في رأسه قبل ان يفعل، وكذلك من لم ينضج؛ لأنه لم يصل إلى قوة الفهم الكامل، وكذلك المقهور على فعل بقوة إنسان أو سلطان أقوى منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3724 وهكذا نعلم أن التكليف لا يلزم الإنسان في تلك الحالات حيث لا يوجد عقل أو يكون العقل غير ناضج، أو أن يوجد قهر. ويتابع الحق: {وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ولو أن المسألة - مسألة الإيمان - مجرد مظهر لا جوهر لما ترتب عليها نتيجة، ولكن لننتبه إلى أن هناك غاية. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نجد التلميذ مثلاً إن حضر الدرس أو لم يحضر، استمع إلى المدرس أولاً، ذاكر أو لم يذاكر، ألا يظهر كل ذلك في شهادة نهاية العام؟ . إذن فالحساب قائم على كل فعل؛ لأنك تتمتع أيها الإنسان بخاصية الاختيار، أي أنك صالح لتفعل أو ألاَّ تفعل، ولذلك يرشدك الإيمان إلى العمل الصالح؛ لأن هناك غاية؛ إنَّك ستصير إلى من يحاسبك على أنك نقلت «افعل» في مجال «لا تفعل» ، أو «لا تفعل» في مجال «افعل» . فإن كنت لا تأخذ أمور الإيمان لصلاحية حياتك فخذها خوفاً من الجزاء والحساب. ثم يقول الحق من بعد ذلك: {وَهُوَ الذي خَلَقَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3725 والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، وما دام الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير فلننظر إلى خلق السماء والأرض، يقول سبحانه: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3725 وحين ننظر إلى الأفق نجد السماء من غير عمد، وهذه مسألة عجيبة، ولذلك يقول سبحانه: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] وهنا يقول الحق: {خَلَقَ السماوات والأرض} وذلك حتى نعرف أن خلق السموات والأرض ليست عملية سهلة وهو سبحانه القادر؛ إنّه خلقك أنت بخلق عجيب، وأعجب منه خلق السموات والأرض، فهو القائل: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] وحين ينظر الإنسان في تكوينه يجد أشياء عجيبة، ويتحقق من قول الله: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وحين تتأمل السماء والأرض تجد دقة الخلق، فكأنه سبحانه قد جعل نفسك مقياساً، إنك ستعلم أحوالها تباعاً وأنك سَتُهْدَي مع الأيام، إلى سر جديد في هذه النفس، هذا السر لم يعرفه الأولون، لكنك حين تتقدم في البحث العلمي وآلات السبر وآلات الاختبار تتعرف وتكتشف هذا الجديد. مثال ذلك ما يسمى بالاستطراق، وكلنا رأينا الأواني المستطرقة التي نضع فيها سائلا ينفذ في أنابيب متعرجة وأخرى مستقيمة، فيرتفع السائل فيها بمستوى واحد وهو ما نسميه بظاهرة الاستطراق، وهناك استطراق مائي، ويوجد أيضاً حراري، ويتمثل الاستطراق الحراري حين نأتي بالمدفأة في الشتاء ونجلس في الغرفة، ونشعر بالحرارة التي تشع من المدفأة، وأنت تجد نفسك محتفظاً بدرجة حرارتك العادية وهي سبع وثلاثون درجة. ومن العجيب أنها تتساوى في البشر جميعاحتى في القطب الشمالي والقطب الجنوبي!! فلماذا لم تستطرق درجة حرارتك مع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3726 الجو؟ ولماذا لم يأخذ الجو البارد من حرارتك لتتساوى درجات الحرارة؟ . إن ذلك يثبت أن ذلك ذاتية تجعلك وحدة مستقلة عن الكون الذي تحيا فيه، وتظل درجة حرارتك عند خط الاستواء 37 درجة، وفي القطبين 37 درجة، هذا عجيب، والأعجب من ذلك أن أجزاء جسمك المختلفة تختلف فيها درجة الحرارة، فلو أن درجة حرارة العين 37 درجة لانصهرت؛ لذلك تجد أن درجة حرارة العين تسع درجات فقط، وهناك الكبد الذي تبلغ درجة حرارته أربعين درجة، وكل أعضاء جسمك وهي مجموعة في شكل واحد ومع ذلك لا تستطرق فيها درجة الحرارة. ولذلك قال الحق: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} . ومثال آخر من عملية التنفس، فحين تدخل ذرة من غبار في مجرى النفس نجد السعال قد هاجم الإنسان ليطرد هذه الذرة وتجد أنك قد سعلت قسراً إلى أن تطرد هذه الذرة، فهل أنت سعلت بقرار منك؟ لا، بل هو عمل لا إرادي خاضع لنظام دقيق لا يمكن أن يصممه إلا خالق له مطلق الحكمة، وعلى سبيل المثال نجد الكبد محوطا بتغليفات متتابعة ليحتفظ بحرارته التي تبلغ أربعين درجة؛ لأنه لا يؤدي مهمته إلا عند هذه الدرجة. وكذلك نجد أنّ الأذن هي أطول عضو يشعر بالبرودة؛ لأن درجة حرارتها قليلة، وهكذا أراد الصانع الأعلى. كما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} [الأنعام: 73] لقد خلق الحق السموات والأرض بقوانين ثابتة لا تتغير إلا بمشيئته، فهو القائل: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فيامَنْ تريد النظام دليلاً على حكمة الخالق الموجد خذها في النظام الأعلى. ويا من تريد الشذوذ دليلاً على سيطرة الحق فوق الميكانيكية، خذها في الأفراد؛ لأنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3727 لو حصل شذوذ في الكون الأعلى لفسدت السموات والأرض، لكن عندما يوجد أعمى واحد من ألف إنسان، فلا يحدث خلل في الكون، ولذلك نجد الشذوذ إنما يأتي فيما فيه عوض، والنظام يأتي فيما في تركه فساد، كما يقول سبحانه: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق} [الأنعام: 73] وبذلك نرى الإيجاد الأول بالحق، وأيضاً حين يهدم سبحانه السماء والأرض وينهي الدنيا ويزيلها، فتمور السماء، والكواكب تنتثر وتتساقط؛ فإن ذلك يحدث أيضاً بالحق، فليس الخلق والإيجاد وحده دليلاً على عظمة الخالق بل إنهاء الخلق وإفناؤه وإزالته أيضاً دليل عظمة؛ لأنه سبحانه قال في البدء: «كن» فكان الكون، وفي النهاية يقول: «كن» فيكون إنهاء الخلق ليعطي للمحسن جزاء إحسانه، ويحاسب المسيء؛ لأن المحسن قد يشقى بإحسانه طول عمره، ولا بد له من ثواب، والمسيء لن يأخذ راحته بل يأخذ عقاباً. فمن الخير والعظمة أن تنتهي الحياة ليأتي يوم الحساب لينال كلٌُّ جزاءه. إذن فخلق السموات والأرض حق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق، فالحق في الإيجاد والحق في الإعدام، إنّه حاصل في بدء الخلق، وفي نهايته. {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور عَالِمُ الغيب والشهادة وَهُوَ الحكيم الخبير} [الأنعام: 73] وهل كان الملك يوماً لغير الله؟ في هذا المقام علينا أن ننتبه إلى أن فيه ملْكاً، ويقال لصاحبه مالك، وفيه مُلك ويقال لصاحبه ملك. والملك ما تملكه؛ فقد تملك جلبابك الذي ترتديه. أما المُلْك فهو أن تملك من يَمْلك، فهذا اسمه مُلْك، وربنا سبحانه وتعالى في دنيا الأسباب جعل لكل واحد منا ملكاً، وجعل لبعض علينا مُلكاً فبقوا ملوكاً، لكن في الآخرة لا يوجد شيء من هذا، لذلك يقول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3728 {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] وفي الدنيا قد تملك مثلاً أن توظفني عندك وتعطيني أجراً، وقد تملك أنك تطبخ لي طعامي أو تعطيني طعاماً، أو تملك أنك تخيط جلبابي، لكن في الآخرة لا يملك أحد لأحد سبباً؛ لأننا نحيا في الدنيا بالأسباب التي منحنا الله إياها، وفي الآخرة بالمسبب وحده دون أسباب. {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} ولو سلسلتها قبل أن ينفخ في الصور تجد الملك أيضاً لله ولكن بوسائط؛ لأن الحق سبحانه وتعالى جعل الأرض أرض معاش، وهناك الآخرة إنّها أرض معاد، لذلك قال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] والأرض التي نحيا عليها مخلوقة لنستعمرها، ونحرث جزءاً منها لنزرعه، ونبني بيوتاً على جزء آخر، وهكذا تكون المسألة كلها أسبابا يتوافق بعضها مع بعض؛ فأنا لا أستطيع أن أحرث إلا بمحراث، وكذلك من يرغب في استخراج عنصر الحديد من الأرض يقيم منجماً، ومن يرغب في استخراج البترول يأتي بالآلات التي تستكشف أماكنه، ولا أحد يستطيع أن يملك كل أسباب حياته بل توجد في يده زاوية واحدة، وباقي الزوايا في أيدي بقية الخلق. وحين تسلسل الأسباب التي نحيا بها سنرجع للحق سبحانه وتعالى، فحين تنتهي يد المخلوق وأسبابه تضيق به فإن يد الخالق جلت قدرته مبسوطة إليه دائماً، وإياك أن تغرك الأسباب ولكن سلسل الأسباب إلى أن تنتهي إلى الله. ولو سلسلت كل ظاهرة من ظواهر الكون لوصلت إلى منطق الحق؛ فالطفل الصغير يرقب ظاهرة في البيت، هي زر في الحائط، عندما يضغطون عليه بأصبع واحد يضيء المصباح، فيقلدهم، وحين يراه أخوه الذي يدرس الإعدادية يقول له: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3729 لا تصدق أن الضوء يأتي من هذا الزر بل هناك سلك قادم من خارج المنزل يربط بين صندوق الكهرباء والمنازل، وحين يسمعهما من هو أعلى منهما علماً يشرح لهما أن الكهرباء الموجودة داخل هذا الصندوق قادمة من المولد الكبير الذي في موقع ما من المدينة، وقد صنعته المعامل والعقول حتى ينتهي الشرح فيصل إلى فكرة التيار المكهرب المستخلص من شلالات الأنهار مثلا. إذن فكل ظاهرة تراها أمامك وراءها حلقات غيبية لو سلسلتها لوصلت إلى الحق سبحانه وتعالى، وسبحانه قد احترم دنيانا وجعلنا نفهم أن بعضنا له مُلك، ولكن نقول لكل مَلِك: إن هذا المُلك ليس بذاتك؛ لأنه لو كان بذاتك لما سلبك أحد هذا المُلْك أبداً. وسبحانه القائل: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} [آل عمران: 26] إذن فليس هناك من له المُلْك بذاته إلا الله. والحق يقول هنا: {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور عَالِمُ الغيب والشهادة وَهُوَ الحكيم الخبير} [الأنعام: 73] . ينفخ في الصور تفيد الإيذان بمقدم أمر ما، فبعد النفخة الأولى يموت من كان حيًّا، وبعد النفخة الثانية يصحو الموتى ويقومون. وكلمة {عَالِمُ الغيب والشهادة} تشرح لنا أنه سبحانه ما دام عالم الغيب فمن باب أولى أنه يعلم المشهود. وهذا تعبير دقيق، وإنّه يعلم الغيب ويعلم الشهادة وعلمه يترتب عليه جزاء لا عن تحكم، ولكن عن حكمة. ويذيل الحق الآية بقوله سبحانه: {وَهُوَ الحكيم الخبير} والحكيم هو الذي يضع كل أمر في مكانه، والخبير هو من يعلم كل شيء بإحاطة تامة، وسبحانه ليس بحاجة إلى أن يظلم أحداً، لأن من يظلم إنما يريد أن ينتفع بالشيء الموجود لدى المظلوم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3730 وربنا لا ينتفع بحاجة من هذه، بل ينفعنا جميعاً، ولذلك إذا نظرت إلى الإيمان تجده كله عزّة، وأنت تجد الناس تكره كلمة «عبودية» ، وتقوم حروب من أجل تحرير البشر من عبودية البشر، أما عبودية بشر للحق فأمرها مختلف؛ لأن العبودية للبشر، نجد فيها أن السيد يأخذ خير عبده، ولكن العبودية لله نجد فيها أن العبد يأخذ خير سيده، وهكذا تكون العبودية لله عزّة، أما العبودية للبشر فهي ذلة. ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى قد امتن على نبيه بصفة العبودية فقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] . فقد أخلص صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العبودية لله، فأخذ من فيوضات الحق بما يناسب عبوديته. والحق سبحانه يوضح لكل عبد: نم ملء جفنيك؛ فأنا لا تأخذني سنة ولا نوم، وأنا قيوم، وإن احتجت مني إلى شيء ما فادعني وسأمد لك يد العون بما يناسبك، فهل في هذه العبودية لله شيء غير العزّة؟! ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3731 والحق سبحانه وتعالى يعطي له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يسليه ويصبّره على مشقات الدعوة؛ لأن الدعوة للإسلام في أوله أرهقت رسول الله وأصحاب رسول الله، فيريد سبحانه أن يعطيهم مُثُلاً حدثت للرسل، وهنا يأتي الحق بخبر عن أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3731 {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام: 74] . وساعة أن تسمع «إذ» فافهم أن «إذ» ظرف، أي واذكر جيداً الوقت الذي قال فيه إبراهيم لأبيه آزر «أتتخذ أصناماً آلهة» ؟ وما دمت تذكر هذه، ففي التذكرة تسلية لك عما يصيبك في أمر الدعوة. وهنا وقف العلماء وقفة طويلة، وتساءل بعضهم: هل آزر هو أبو إبراهيم، أو أن والده هو تارخ؟ وقلت من قبل: إن الأبوة تمثل ما هو أصل للفرد؛ فالأب، والجد، وجد الجد أب، وأطلقت الأبوة على المساوي للأب، مثل العم. وجاء مثل هذا في القرآن حين قال الحق سبحانه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} [البقرة: 133] . وآباء هنا جمع، وإذا ما عددنا هؤلاء الآباء نجدهم: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، والكلام من يعقوب، وأبوه إسحاق، وإسحاق بن إبراهيم، وبرغم ذلك جاء سيدنا إسماعيل وسط هؤلاء الآباء، فكأنك إن وزعتها قلت: «إبراهيم أب، ويبقى اثنان: هما إسماعيل وإسحاق. وإسماعيل هو أخ لإسحاق، كأن القرآن نطق بأن العلم يطلق عليه أب» . وأقول ذلك لأضفي مسألة وقع فيها اللغط الكثير؛ فالبعض من العلماء قال: هل كان آزر أباً لإبراهيم؛ والحديث الشريف يقول: «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3732 فكأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبر أنه من سلسلة نسب مُوَحِّد لا يمكن أن يكون للشرك فيه مجال، وآزر كان مشركاً، وما دام الحق يقول في آية أخرى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} . فلو أن آزر الوالد الحقيقي لإبراهيم لكان سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذريته. وأرى أنه عمّه؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» ، وهو قول يدل على أن نسبة الشريف مطهر من الشرك من جهة الآباء ومن جهة الأمهات، إذن فلا يصح أن نعتقد أن أبا إبراهيم هو آزر؛ لأنه كان على هذا الوضع مشركا، لكن كيف نفسر قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} ؟ . نقول: إننا نأخذ اللغة، ونأخذ استعمالات القرآن في معنى الأبوة. والقرآن صريح في أن الأبوة كما تطلق على الوالد الحقيقي الذي ينحدر الولد من صلبه تطلق كذلك على أخي الوالد أو عمه. والدليل على ذلك أن القرآن الذي قال: {لأَبِيهِ آزَرَ} وهو بعينه القرآن الذي قال: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} [البقرة: 133] . إذن آباء هي جمع أب، وأقل الجمع ثلاثة: إبراهيم إذن وكذلك العم إسماعيل يطلق على كل منهما أب، وأيضاً إسحاق وهو والد يعقوب، هؤلاء هم الآباء المذكورون في هذه الآية. وهنا نفهم أن أبوة إسماعيل ليعقوب إنما هي أبوة عمومة؛ لأن يعقوب بن إسحاق، وإسحاق أخو إسماعيل. إذن فقد أطلق الأب وأريد به العم، ويدلنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ذلك حينما أُخِذَ عمه العباس أسيراً فقال: ردوا عليّ أبي؛ وأراد عمّه العباس. وبعد ذلك نأتي لنقول: إننا حين نطلق كلمة الأب في أعرافنا نعلم أن اللغة التي نتكلمها لغة منقولة بالسماع، مركوزة في آذاننا، ينطق بها لساننا، والعامية وإن كانت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3733 تحرف الفصيح إلا أن أصولها منقولة عن أسلافنا وآبائنا، وهم حين يريدون الأب الحقيقي يقولون له أب ولا يأتون باسمه الشخصي؛ فإذا جاء لك إنسان وقال لك: أبوك موجود؟ . ولم ينطق باسم الوالد فهو يقصد والدك فعلاً. لكن افرض أن لك عَمّاً، فيقول لك السائل: أبوك محمد موجود؟ لقد جاء هنا بتحديد الاسم العلم حتى ينصرف الذهن إلى السؤال عن العم؛ لأنه لو أراد الأب الحقيقي لما ذكر اسمه واكتفى بالسؤال عنه بالأبوة فقط، إذن فلو قال الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} . ولم يحدد العلم لقلنا إن آزر هو والد إبراهيم وليس عمّه وبذلك يكون هو جد رسولنا، ولكن القرآن حدد الاسم وقال: {لأَبِيهِ آزَرَ} أي ميّز اسم الشخص ليخرج الأب الحقيقي من كلمة أب، وبذلك تنتهي الخلافية في هذه المسألة. ولماذا يطلب الحق سبحانه من سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يذكر {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ} ؟ لأن رسول الله جاء على فترة من الرسل وجاء في الأزمة التي واجهت الدعوة أول مواجهة وهي أمة العرب وعلى رأسها قريش، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن كان قد جاء على فترة الرسل، إلا أن إبراهيم يعيش في عقائد هؤلاء القوم؛ لأن كل أمور إبراهيم النسكية كانت في هذا المكان، فمثلاً همّه بذبح ابنه وفداء السماء لابنه كانا في هذا المكان، ورفعه للكعبة كان في هذا المكان، والكعبة هي مركز السيادة لقريش، ولولا الكعبة لكانت قريش كسائر القبائل. لقد أراد الحق أن يوضح لقريش أن السيادة التي أخذتموها على العرب كافة جاءت لكم بسبب الكعبة وهذا البيت، فلو لم يوجد هذا البيت وهذه الكعبة، لكنتم قبيلة من القبائل، لا مهابة لكم ولا سلطان، ولا جاه، ولكنكم تعلمون أن تجارتكم تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب، ولا يتعرض لها أحد بسوء أبداً؛ لأن الذين يتعرضون لكم سواء منهم من كان في الشمال أو في الجنوب سيأتون في يوم ما إلى الكعبة هذه ليؤدوا مناسك الحج وستتمكنون منهم في أثناء وجودهم في البيت. ولذلك قلنا حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3734 طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1 - 5] إن الحق أتبعها بالقول: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 1 - 2] إذن لو أن البيت تعرض للهدم من أبرهة الحبشي لسقطت مهابة قريش، وقد نصرهم الله لتظل لقريش رحلة الشتاء والصيف، ولذلك قال: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] إن رب هذا البيت هو الذي أعزهم وحماهم بوجود هذا البيت الذي رفعه إبراهيم. إذن فالقوم وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا أن لهم صلة عقدية بإبراهيم، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يدخل إلى قلوبهم بالحنان الذي يعرفونه لإبراهيم الذي هو سبب هذا العزّ وسبب هذا الجاه والسيادة وأيضاً لأن المواجهة العقدية إنما جاءت أولاً لعبادة الأصنام، والمسألة في سيدنا إبراهيم كانت كذلك في عبادة الأصنام، فهناك - إذن - ارتباطات متعددة فأتى الحق هنا بقصة سيدنا إبراهيم ليرقق بها قلب هؤلاء. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} والأصنام هي شيء من الحجارة يصنع على مثال حي، أما الوثن فهو قطعة من حجر خام لم يشكل أو يعالج أو يصنّع كانوا يقدسونه، وهكذا نعرف الفارق بين الصنم والوثن، وكيف دخلت فكرة الأصنام على عقول الناس؟ ومن أين جاءت؟ . نعلم أن الناس لهم أسباب مباشرة في الحياة؛ فالإنسان حين يتطلب الضوء يرى الشمس قد أشرقت، وفي الليل يرى القمر قد طلع، ويرى الجبال تعطي له الصلابة والقوة، ويقيم فيها بيوتاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3735 إذن فيه أشياء يرى الإنسان فيها السببية الظاهرة، فيعتقد أنها الفاعلة. وحين يرى هذه الأشياء ويظن أنها الفاعلة يظن أن لها قداسة سواء أكانت الشمس أم القمر. إذن فقبل أن توجد أصنام وجدت كواكب وكانوا يعبدونها. بدليل أن الحق يقول: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ... } [الأنعام: 74] وبعد ذلك يأتي في النقاش ولا يأتي بسيرة الأصنام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً ... } [الأنعام: 76] إذن فقد كانت هناك علاقة بين الأصنام وبين الكواكب، والأصل فيها أن الأنسان حينما يرى شيئاً ينفعه، ينسب إليه كل نفع يحصل عليه ويرى له قوة يحترمها فيه، ولم ينتبه الإنسان إلى أن خالق هذه الأشياء غيب، فَعَبَدَ الشيء الظاهر له، وعندما وجد الإنسان أن الكواكب تأفل وتغيب قال بعض الناس: لنقيم أصناماً تذكرنا بها، وصار هناك صنم يمثل الشمس، وصنم يمثل القمر، وآخر يمثل النجم الفلاني، أي أن الأصنام إنما جعلت لتذكر بالأصل من الكواكب، ولذلك أقول دائما: يجب على الناس ألا تغفل عن المسبب لأنه سبحانه - هو وراء الأسباب، وكلما ارتقى العقل يسلسل الأسباب، إلى أن تنتهي إلى مسبب ليس وراءه سبب، وإذا انتهت يد المخلوق وعجزت في الأسباب تبدأ يد الخالق؛ فالذين يفتنون بالأسباب هم الذين ينظرون إليها على أنها الفاعلة بذاتها. ولذلك حينما أغفلت وسترت قضية الدين في أذهان الناس بدأوا ينظرون إلى ما حولهم وما ينفهم، فتوجهوا بالعبادة له، وكانوا قبل الرسالة يحجون إلى الكعبة ويحبون الكعبة، وحين يغتربون في كثير من الرحلات يأخذون قطعة من حجر من نوعية أحجار الكعبة في الرحلة الطويلة، وحين يراها أحد من هؤلاء يطمئن، ولكن بطول الزمن انفردت هذه الأشياء بتقديس خاص يعزلها عن الأسباب. وهكذا عرفنا أن سيدنا إبراهيم خليل الرحمن كانت له عند العرب هذه المكانة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3736 وكذلك عند أهل الكتاب حتى أنهم ادعوا انتسابه لهم فبعضهم قال: إن إبراهيم كان يهودياً، وقال الآخرون: إنه كان نصرانياً، وجاء القرآن وهو يواجه كفار قريش، وكذلك أهل الكتاب فيأتي الله بقصة سيدنا إبراهيم ليعطينا قضية العقائد ويوضحها توضيحاً يؤنسهم بمن له في نفوسهم ذكر. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 74] والضلال أن تريد غاية فتضل الطريق إليها، وكان الناس عندهم غاية في ذلك الزمان أن يقدسوا، ويقدروا من ينعم عليهم بالنعم. إلا أنهم أخطأوا الطريق ووقفوا عند السبب، ولم يذكروا ولم يدركوا ما وراء السبب، ومن هنا جاء الضلال المبين. فكان من طبيعة الإنسان أنه يتقدم بالولاء وبالخضوع وبالشكر لمن يرى نعمة منه عليه، لكنهم ضلوا الطريق؛ لأنهم ساروا في النعمة في حلقات الأسباب، ولم يصلوا بالأسباب إلى المسبب. وهذا ضلال مبين لأنه فتنة خَلْقٍ في خَلْق؛ فالإنسان الأول الذي جاء وأقبل على عالم مخلوق له، وأقبل على أرض وأقبل على شمس، وأقبل على قمر، وأقبل على نجوم، وأقبل على سحاب يمطر له الماء، وأقبل على جبال تمده بالأقوات كان من الواجب عليه أن يلتفت لهذه المسألة؛ لأنه لم يصنعها ولا ادّعى أحد أنه صنعها، أما كان من الواجب أن يفكر تفكيراً يسيرا فيمن خلق له هذه الأشياء؟! إن أتفه الأشياء تحتاج إلى صانع، مثال ذلك الكوب الذي نشرب فيه الماء لا يكون كوباً أمام أي واحد فينا إلا بعد أن انتقل وتقلب في مراحل متعددة ممن اكتشف المادة وممن صهرها كيماوياً وممن أنفق عليها إلى أن وصل إلى الكوب، وكذلك المصباح، إن نظرنا إلى الأجهزة التي خَلْفَه وأسهمت في إيجاده لوجدناها أجهزة كثيرة من إمكانات مالية إلى قدرات علمية، من ماديات موجودة في الأرض إلى أن وصل إلى هذا المصباح الذي يتغير كل فترة، فما بالنا بالشمس التي تنير نصف الكون في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3737 وقت، ونصف الكون الآخر في وقت آخر وليس لها قطع غيار، ولم تقصر يوماً في أداء مهمتها. وكثيراً ما درسنا في المدارس قصة من اخترع المصباح «أديسون» وكانت قصة هذا الاختراع تفيض بإعجاب من يكتبون عنها ولم نجد من يدرس لنا - بإعجاب وإيمان - دقة الشمس التي تنير الكون، فالآفة أننا نقف فقط عند حلقات الأسباب، والوقوف عند حلقات الأسباب هو وقفة عقلية سطحية، ومن أجل أن نزيد من عمق الفهم لا بد أن نسلسل السبب وراء السبب وراء السبب إلى أن نصل إلى مسبب ليس وراءه سبب. وأن نرهف آذاننا لمن يأتي ليحل لنا هذا اللغز ويقول لنا: لقد خلق الله كل الكون من أجلكم وصفاته سبحانه أنه لا مثيل له في قدرته ومطلق حكمته، ومطلوبه هو منهجه. إذن فالرسل قد جاءوا رحمة لينقذونا ويبينوا لنا هذا اللغز. فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى وأوضح: أنا الذي خلقت السموات، وأنا الذي خلقت الأرض، وأنا الذي سخرت لك كل ما في الكون، فهذه دعوة، والدعوة إما أن تكون حقيقية فتعلن الإيمان به وسبحانه، وإما غير حقيقية، فنسأل: من خلق الكون - إذن - غير الله؟ . ولماذا لم يقل لنا صفاته، ولم يرسل لنا بلاغاً عنه؟ . ولأن أحداً لم يفعل ذلك إذن فالألوهية تثبت لمن أبلغنا عن ذاته وصفاته وصنعته عبر الرسل، فلم يوجد معارض له، وحين قال سبحانه: أنا إله واحد، وأنا خلقت الكون، وسخرته لكم فنحن نصدق هذا البلاغ. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا ألا نقف عند الأسباب فقط حتى لا نقع في ضلال مبين، ومن الواجب أن نبحث عما وراء الأسباب إلى أن تنتهي إلى شيء لا شيء بعده ننتهي إلى مسبب السباب ومالك الملك - جلت قدرته. ويقول الحق بعد ذلك: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3738 أي كما اهتدى إبراهيم إلى أن عبادة الأصنام ضلال مبين فسيريه الله ملكوت السموات والأرض ما دام قد اهتدى إلى أن هناك إلهاً حقًّا، فالإله الحق يبين له أسرار الكون: والملكوت صيغة المبالغة في الملك، مثلها مثل «رحموت» . وهي صيغة مبالغة من الرحمة، والملكوت تعطينا فهم الحقائق غير المشهودة، فالذي يمشي وراء الأسباب المشهودة له يأخذ الملك؛ لأن ما يشهده ويحسَّه هو أمامه، والملكوت هو ما يغيب عنه، إذن ففيه «ملك» ، وفيه «ملكوت» ، الملك هو ما تشاهده أمامك، والملكوت هو ما وراء هذا الملك. والمثال هو ما قاله سيدنا إبراهيم حينما تكلم على الشركاء لله قال سبحانه: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 77 - 81] ولنلحظ هنا أن الأساليب مختلفة، فهو يقول: {الذي خَلَقَنِي} ولم يقل «الذي هو خلقني» ، ثم قال {فَهُوَ يَهْدِينِ} لأن أحداً لم يدّع أبداً خلق الإنسان، وهي قضية مسلمة لله ولا تحتاج إلى تأكيد، أما هداية الناس فهناك من يدعي أنه يهدي الناس. وما يَدَّعي من البشر يؤكد ب «هو» وما لا يُدَّعي من البشر كالخلق والإماتة والإحياء لا يؤتى فيه بكلمة هو. ويتابع سيدنا إبراهيم: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} وهنا قفز سيدنا إبراهيم من كل الأسباب والحلقات الظاهرية إلى الحقيقة، وعرف الغيب {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وهو بذلك يميز بين الوسيلة للشفاء وهم الأطباء المعالجون والشافي الأعظم وهو الله - تبارك وتعالى - لأن الناس قد تفتن بالأسباب وتقول: إن الطبيب هو من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3739 يشفي، ولذلك ينتقل سيدنا إبراهيم من ظواهر الأسباب إلى بواطن الأمور، وينتقل من ظواهر الملك إلى باطن الملكوت حتى نعرف أن الطبيب يعالج ولكنه لا يشفي، بدليل أننا كثيراً ما رأينا من يذهب للطبيب ويعطيه الطبيب حقنة فيموت المريض، وبذلك يصير الطبيب في مثل هذا الموقف من وسائل الموت: سبحان من يرث الطبيب وطبه ... ويرى المريض مصارع الآسين إذن، {فَهُوَ يَشْفِينِ} أي أن الشفاء من الله والعلاج من الطبيب. وبذلك جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام في قصة العقيدة نجده قد أخذ سلطاناً كبيراً يعترف به جميع الأنبياء؛ لأن ربنا قال فيه: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} . وكذلك قال سبحانه: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] أي أنك يا إبراهيم مأمون أن تكون إماماً للناس، وببشرية إبراهيم وبظاهر الملك. سأل الله أن تكون الإمامة في ذريته، وقال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} . أي اجعل من ذريتي أئمة، فيقول الحق: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] . لأن مسألة الإمامة ليست وراثة دم، ولا يأخذها إلا من يستحقها. وقلنا: إن سيدنا إبراهيم جاء بهاجر وابنه إسماعيل منها وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند البيت المحرم، ويقول القرآن على لسانه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3740 {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] . أي أن سيدنا إبراهيم عليه السلام وعى مسألة تعليم الحق له لأسرار الملكوت، وظل في ذهن سيدنا إبراهيم، أن الحق سبحانه - لا يعطي الإمامة من ظلم ثم أوضح له أنه يجب أن تفرق بين خلافة النبوة، وعطاء الربوبية في الطعام ويتمثل ذلك في دعاء سيدنا إبراهيم: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 126] فكأن إبراهيم حين طلب الرزق من الثمرات لمن آمن بالله واليوم الآخر لم يفرق في دعائه بين عهد النبوة والإمامة، ومطلوبات الحياة، فيقول له الحق: {وَمَن كَفَرَ ... } . أي أنه سبحانه سيرزق بالطعام من آمن ومن كفر؛ لأن الطعام ومقومات الحياة من عطاءات الربوبية، أما المناهج فهي من عطاءات الألوهية، والله سبحانه وتعالى رب لجميع الناس؛ لأنه هو الذي استدعاهم جميعاً: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وما دام هو الذي استدعاهم إلى الوجود فهو لا يمنعهم الرزق. {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] . وكل من يسير على قدم إبراهيم عليه السلام يرتبط ويتعلق بذات الحق سبحانه وتعالى، وفيه فرق بين الارتباط والتعلق بالذات، والارتباط والتعلق بالصفات؛ والذي يعبد الله لأنه رزّاق، ولأنه مُغْنٍ هو من يرتبط بالصفات. أما من يرتبط بالله لأنه إله فقط وإن أفقره فهو من يرتبط بالذِّاب، وحين صفى سيدنا إبراهيم نفسه من كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3741 العقائد السابقة أوضح له الحق: أنت مأمون على أسرار كوني، وأعطاه الحق الكثير كما يعطي لكل من يخلص في الارتباط بخالقه يعطيه ربنا عطاءات من أسرار كونه. ويضرب الحق سبحانه لنا كثيراً من المُثُل في القرآن فيقول: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} [البقرة: 282] أي أنك ما دمت مأموناً على ما عرفت من أحكام الحق لحركة حياتك وتنفذه فإن الحق يعتبرك أميناً على أسراره، ويعطيك المزيد من الزيادة. ومعنى «تتقي» أي أن تلتحم بمنهج الحق، وإذا التحمت بالمنهج الحق كنت في الفيوضات الدائمة التي لا تنقضي من الحق؛ لأن الذي في معيته لا بد أن يخلع الحق عليه من واردات وعطاءات صفاته ما يجلي صلته بربه ويطمئنه عليه، ومثال ذلك ما حدث في «قصة الهجرة» تجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسيدنا أبا بكر في الغار، ويقول أبو بكر لرسول الله: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، وهذه قضية كونية مؤكدة، ويرد عليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما نقله من القضية الكونية الظاهرة الواضحة إلى عالم الملكوت الخالص، ويقول: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» أي أنه يقول له: اطمئن، لن يرانا أحد؛ لأننا في معية الله، وسبحانه لا تدركه الأبصار. وحين يكون الضعيف في معية القوي فقانون القوى هو الذي يتغلب، فلا يصبح الضعيف ضعيفاً، فحين يكون هناك ولد بين الأطفال الذين في مثل سنّه ويضطهدونه ويؤلمونه ويؤذنه، ثم يرونه في يد أبيه لا يجرؤ أحد منهم أن يأتي إلى ناحيته، والناس لا يقدر بعضهم على بعض إلا إذا انفلتوا من معية الله، ومَن في معية الله لا يجترئ عليه أحد أبداً. ولذلك يرسل لنا ربنا قضايا الملك وقضايا الملكوت، ويمثلها في رسول الله من أول العزم من الرسل مع عبد صالح آتاه الله شيئاً من علمه وفيضه لأنه اتقاه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3742 يقول الحق سبحانه: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] . إن هذا العبد قد أخذ منهج الرسول الذي جاء به واتبعه، فأداه حق الأداء فاتصل بالحق فأعطاه الحق من لدنه علماً. وحين ننظر في هذه القضية نتعجب لأننا نجد سيدنا موسى - ينظر في عالم الملك بينما ينظر من آتاه الله من لدنه رحمة ومن عنده علما ينظر من عالم الملكوت، وموسى معذور؛ لأنه ينظر في دائرة الأسباب، والعبد الصالح معذور هو الآخر لأنه ينظر في دائرة ثانية، ولذلك سيقول العبد الصالح: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} . أي أن المسألة ليست من ذاته، بل هو مأمور بها. وحين ننظر إلى تقدير موقف كل منهما للآخر نجد العبد الصالح يقول: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} . أي أن العبد الصالح يعذر موسى، ويضيف: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68] فيقول القرآن على لسان موسى: {قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} [الكهف: 69] فها هوذا الرسول الذي جاء ليبلغ المنهج يطيع عبداً صالحاً طبق المنهج من رسول سابق ونفذه كما يحب الله، والتحم بالمنهج، وجاء لنا ربنا بهذه القصة مع رسول من أولي العزم. ويتلقى موسى عليه السلام الأمر من العبد الصالح: {قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف: 70] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3743 لماذا؟ لأن العبد الصالح يعلم أن موسى سيتكلم عن عالم الفلك، وهو يتكلم من عالم الملكوت. وحين ركبا السفينة، وخرقها العبد الصالح، والخرق إفساد ظاهري في عالم المُلْك. يوضح سيدنا موسى للعبد الصالح أن هذا الفعل إخلال بالقانون، وكيف يعتدي على السفنية بالإفساد؟ فيرد العبد الصالح: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً، وليست لك طاقة على مثل هذه المسائل، فيتذكر موسى، ثم تأتي حكاية الغلام، وحكاية الجدار. وحين ندقق النظر في هذه الأمور نجد عالم الملكوت يصحح الأمور الشاذّة في عالم الملك؛ فخرق السفينة إفساد ظاهري لكن إذا علم موسى أن هناك مَلِكاً يأخذ السفن السليمة الصالحة ويستولي عليها غصبا وهذه السفينة لمساكين يعملون في البحر، ويريد العبد الصالح أن يحافظ لهم على السفينة فيخرقها حتى لا يأخذها المغتصب؛ وحين يقارن الملك المغتصب بين سفينة سليمة وسفينة مخروقة. فلن يأخذ السفينة غير السليمة، ويمكن لأصحابها إصلاحها. إذن لو علم موسى بهذه المسألة، ألا يجوز أن يكون موسى هو الذي كان يقوم بخرق السفينة؟ إنه كان سيخرقها، إذن لو علم صاحب نظرية الملك ما في نظرية الملكوت من أسرار، لفعل هو الفعل نفسه. وحين نأتي لقتل الغلام، لا بد من التساؤل: وما ذنب الغلام؟ فيفسر العبد الصالح الأمر: {وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف: 80] والأبوان قد يدللان هذا الابن، ويطعمانه من مال حرام، ويكون فتنة لهما، فقتل الغلام ليظلا على الإيمان، وعجلّ ربنا بالولد إلى الجنة مباشرة. وفي مسألة الجدار تجد الخلاف بين رؤية عالم المُلْك، ورؤية عالم الملكوتففي ظاهر الأمر أنهما حين أتيا أهل القرية طلباً للطعام، وطلب الطعام شهادة صدق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3744 على الضرورة، لأنه ليس طلباً للنقود، فقد يطلب أحد النقود ليدخرها، لكن من يقول: «أعطني رغيفاً لآكل» فهذه آية صدق الضرورة في طلب الطعام. ولكن أهل القرية أبوا أن يضيفوهما، إذن هم لئام لا كرام. ويرى العبد الصالح جداراً يريد أن ينقض، وآيلاً للسقوط فأقامه، وغضب سيدنا موسى، سبب غضبه أنه والعبد الصالح استطعما هؤلاء فلم يطعموهما، فكيف تبني جداراً لهم؟! وكان يصح أن تأخذ عليه أجراً، وغضب سيدنا موسى سببه ظاهر، لكن العبد الصالح يشرح المسألة: لقد أقام الجدار لأن أهل القرية لئام ولم يعطونا طعاماً، ولو وقع الجدار وظهر الكنز تحته أمام لئام بهذا الشكل لسرقوه من أصحابه، وهم أطفال، وقد بناه العبد الصالح بهندسة إيمانية ألهمه الله بها بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار. أي أنه بناء موقوت، مثلما نضبط المنبه على وقت محدد، كذلك الجدار بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار ويأخذان الكنز. وهذا يوضح لنا الخلاف بين عالم المُلْك وبين عالم الملكوت؛ فعالم الملكوت هو الذي يغيب عنا وراء الأسباب. وكثير من الناس يقف عند الأسباب، ولا ينتقل من الأسباب إلى السبب المباشر، إلى أن ينتهي إلى مسبب ليس بعده سبب. {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] . فهل تيقن أو لم يتيقن؟ . و «موقنين» جمع «موقن» والجمع أقله ثلاثة، واليقين ينقسم إلى ثلاث مراحل: يقين بعلم من تثق فيه لأنه لا يكذب؛ ويقين بعين ما تخبر به، ويقين بحقيقة المُخْبَر به. وحين عرض الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في سورة التكاثر قال: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} [التكاثر: 1 - 5] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3745 إذا أخبرتكم فهذا الخبر هو الصورة العلمية، وكان يجب أن يكون ما أخبركم به علم اليقين. {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 5 - 7] . لأننا سوف نرى النار في الآخرة، لكن لم تأت حقيقة اليقين، وجاءت حقيقة اليقين في سورة الواقعة: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 90 - 95] وسيدنا إبراهيم عليه السلام كان حقا من الموقنين في كل أدوار حياته؛ لأن الله أعلمه ما وراء مظاهر الملك، ما وراء مظاهر الأشياء؛ وعواقبها. فمثلا عندما أُخذ ليطرح في النار جاء له جبريل ليقول: ألك حاجة؟ قال سيدنا إبراهيم: أمّا إليك فلا. ويقول ذلك وهو يعرف أن النار تحرق، ولكن هذا ظاهر المُلك، وظواهر الأشياء، وسيدنا ابراهيم يعلم أن الذي خلقها جعلها محرقة، ويستطيع ألا يجعلها محرقة، وهو متيقن به، ولذلك لم يطفئ الله النار بظاهر الأسباب ولكن جعلها الله ليّاً لأعناق خصومه، فأوضح الحق: يا نار أنا خلقت فيك قوة الإحراق، وأنا أقول لك الآن: لا تحرقي. {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] إذن فإبراهيم يعرف هذه الحقائق المختفية وراء المُلك الظاهر، وهذا من الابتلاءات الأولى في حياته، ويملك أن يرد على سيدنا جبريل لحظة أن سأله قبل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3746 أن يلقوا به في النار: ألك حاجة؟ فيقول إبراهيم: أمّا إليك فلا. ثم يأتي له الابتلاء في آخر حياته بذبح ولده. ونعلم أن الإنسان تمر عليه أطوار تكوين ذاتيته، وأحياناً تكون الذات هي المسيطرة، وفي طور آخر تبقى ذاتية أولاده فوق ذاتيته، أي أنه يحب أولاده أكثر من نفسه. يتمنى أن يحقق لأولاده كل ما فاته شخصياً. فلما كبر إبراهيم ووهبه الله الولد يأتيه الابتلاء بأن يذبح ابنه إنه ابتلاء شديد قاس، وهو ابتلاء لا يأتي بواسطة وحي بل بواسطة رؤيا. وكلنا نعلم أن رؤيا الأنبياء حق. لكن إبراهيم يعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يطلب من خلقه إلا أن يستسلموا لقضائه، ولذلك إذا رأيت إنساناً طال عليه قضاء ربه في أي شيء؛ في مرض، في مصيبة، في مال، أو غير ذلك فاعلم أنه لم يرض بما وقع له، ولو أنه رضي لانتهى القضاء. فالقضاء لا يُرفع حتى يُرضى به، ولا يستطيع أحد أن يلوي يد خالقه. إذن فالناس هم الذين يطيلون على أنفسهم أمد القضاء. ولذلك عرف سيدنا إبراهيم هذه القضية: قضية فهمه لعالم الملكوت. فلما قيل له: «اذبح ابنك» لم يرد أن يمر ابنه بفترة سخط على تصرف أبيه؛ لأنه إن أخذه من يده وفي يده الأخرى السكين فلا بد أن تكون هذه اللحظة مشحونة بالسخط، فيحرم من الجزاء، فيبين له المسألة. ويقول القرآن حكاية عن إبراهيم: {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] وهذا القول يريد به إبراهيم أن ينال ابنه ثواب الاستسلام وهو دليل محبة إبراهيم لولده، فماذا قال إسماعيل: {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] قال إسماعيل ذلك ليأخذ عبودية الطاعة. ويؤكد القرآن رضا إبراهيم وابنه بالقضاء فيقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3747 {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] وهذا القبول بالقضاء هو ما يرفعه. لذلك يقول القرآن بعدها: {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} [الصافات: 104 - 105] ويفدي الله إسماعيل بذبح عظيم، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يرزق الله إبراهيم بولد آخر؛ لأنه فهم ملكوت السموات والأرض، وعرف نهاية الأشياء. فإذا ما أصيب الإنسان بمصيبة فما عليه إلا أن يرضى ويقول: ما دامت هذه المصيبة لا دخل لحركتي فيها، وأجراها عليّ خالقي فهي اختبار منه - سبحانه - ولا يوجد خالق يفسد ما خلق. ولا صانع يفسد ما صنع، ولا بد أن لذلك حكمة عنده لا أفهمها أنا، لكني واثق في حكمته. إن طريق الخلاص من أي نائبة من النوائب أن يرضى المؤمن بها، فتنتهي. ومن تحدث له مصيبة بأن يموت ولد له، ويظل فاتحاً لباب الحزن في البيت، وتبكي الأم كلما رأت من في مثل سنّه فسيظل باب الحزن مفتوحا، وإن أرادوا أن يزيل الله عنهما هذا الابتلاء فليقفلا باب الحزن بالرضا. وليعلم كل مؤمن أن ما أخذ منه هو معوض عنه بأجر خير منه، والمأخوذ الذي قبضه الله إليه وتوفاه معوض بجزاء خير مما يترك في الدنيا، ولذلك يقال: المصاب ليس من وقعت عليه مصيبة وفارقه الأحباب، بل المصاب من حُرم الثواب، فكأنه باع نكبته بثمن بخس. ويقول الحق بعد ذلك: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3748 و «جن» تفيد الستر والتغطية، ومنها «الجنون» أي ستر العقل، و «جن الليل» أي أظلم وستر عنك، فلا ترى غيرك ولا غيرك يراك. و «الجَّنة» كذلك لأن فيها الأشجار والأشياء التي تستر من يمشي فيها، إذن المادة كلها تفيد الستر. وكلمة «كوكب» تفيد أنه يأخذ ضوءه من غيره، ونفهم من الآية أن إبراهيم كان في ظلمة ثم طلع الكوكب فرآه، ثم غاب الكوكب أي انتقل من بزوغ وطلوع إلى أفول، وقديماً كانوا يعبدون الكواكب والنجوم، فجاء لهم إبراهيم من جنس ما يعبدون، وقال: {لا أُحِبُّ الآفلين} . ويتابع الحق بعد ذلك: {فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3749 وهنا قال إبراهيم عليه السلام: هذا ربي، ووقف العلماء هنا وتساءلوا: كيف يقول إبراهيم هذا ربي، وهي جملة خبرية من إبراهيم، وكيف يجري إبراهيم على نفسه لفظ الشرك، وأراد العلماء أن يخلصوا إبراهيم من هذه المسألة. ونقول لهؤلاء العلماء: جزاكم الله كل خير، وكان يجب أن تؤخذ هذه المسألة من باب قصير جداً؛ لأن الذي قال: إن إبراهيم قال: هذا ربي، هو الذي قال في إبراهيم: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] إذن فقوله {هذا رَبِّي} لا تخدش في وفائه الإيماني، ولا بد أن لها وجهاً. ونعلم أن القوم كانوا يعبدون الكواكب، ويريد إبراهيم أن يلفتهم إلى فساد هذه العقيدة، فلو أن إبراهيم من أول الأمر قال لهم: يا كذابون، يا أهل الضلال، وظل يوجه لهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3749 السباب لما اهتموا به ولا سمعوا له. لكن إبراهيم استخدم ما يسمي في الجدل ب «مجاراة الخصم» ؛ ليستميل آذانهم ويأخذ قلوبهم معه، وليعلموا أنه غير متحامل عليهم من أول الأمر، فيأخذ بأيديهم معه. مثال ذلك في حياتنا، تجد رجلاً له ابنة وجاء لها خطيب، وهذا الخطيب قصير جداً، بينما البنت - ما شاء الله - طويلة، وحين جاء الخطيب ليراها وتراه تقول لأمها: هذا خطيبي؟! وهذا القول يعني أنها تنكر أن يكون هذا القصير عنها هو خطيبها، وحين قال إبراهيم: {هذا رَبِّي} معناه إنكار أن يكون مثل هذا الكوكب أو ذلك القمر أو تلك الشمس هي الرب. ونلحظ أنه يحدد لهم مصير من يعبد تلك الكواكب، فقال: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين} ، وفي هذا معرفة بمن على هدى أو على ضلال، ويكون قوله: {هذا رَبِّي} لونا من التهكم؛ لأنهم قالوا بما جاء به القرآن على لسانهم: {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} . فكأنه قال: سلمنا جدلاً أنه ربكم، لكنه يأفل ويغيب عنكم، وقوله: {لا أُحِبُّ الآفلين} يعني أنه غير متعصب ضدهم. وكذلك حين يقول الحق: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3750 وهكذا يثبت له أن كل كوكب - حتى الشمس - مصيره إلى أفول، فكأنه قد وصل بهم بالمنطق إلى أن عبادة الكواكب لا تصلح، واستخدم المنطق الذي يحقق نيته في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3750 أن ينكر هذه الربوبية، ويستأنس به آذان من يسمعه. وهناك أشياء يجعلها الحق سبباً مبرراً لارتكاب أشياء كثيرة، إلا أننا نعقد مقارنة بين بعضهم البعض مثلما قال الحق: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106] وقد جاءت بعد قوله سبحانه: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] فإذا كان الله قد أباح إجراء كلمة الكفر على لسان المؤمن المطمئن لينجي حياته وهو فرد، أفلا يصح لإبراهيم أن يقول لهم: {هذا رَبِّي} بما تحتمل من أساليب حتى ينجي أمة بأسرها من أن تعبد الأصنام؟ . إذن فيقول إبراهيم {هذا رَبِّي} يؤخذ على محملين: ألم يقل الله سبحانه وتعالى بنفسه عن نفسه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي} [فصلت: 47] وسبحانه يعلم أنّه لا شركاء له، ولكن الشركاء هم مِن زعْم المشركين. «ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما كان ينادي في بعض القوم: يا إله الآلهةلأنه يعلم أن قوماً قد ألهوا ظواهر طبيعية في الكون لما يرون من الخير فيها، فأراد أن ينبههم إلى أن هناك إلهاً حقًّا» . ويوضح القرآن عدم جدوى الشرك حين يقول: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3751 ويقول سبحانه: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] والحق سبحانه وتعالى يقول للكافر الذي كان يعتز بجاهه في دنياه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] فهل هذا القول اعتراف بأن الكفر عزيز كريم أو هو قول تهكمي؟ . إنه تهكم؛ لأن الكافر لو كان عزيزاً كريماً عند نفسه لما كفر ولما استقر في الجحيم. وكان المنطق في اللغة أن يقول: فلما رأى الشمس بازغة قال هذه ربي؛ لأن الشمس مؤنثة، ولكنه قال: {هذا رَبِّي} كما قال في القمر وفي غيره من الكواكب، فجعل الأمر على سياق أو حالة واحدة، أو هو بهذا القول يريد أن ينزه كلمة الرب تنزيها مطلقا عن أن تلحق بها علامة التأنيث؛ لأن علامة التأنيث فرع التذكير، وأيضاً لأن الشمس ليست مؤنثاً حقيقياً، بل هي مؤنث مجازي، ولذلك يفطن العلماء إلى هذه المسألة فيقولون: إنك إذا أعطيت واحداً صفة العلم، وقلت: فلان عالم، أما إذا صار علمه ملكة عنده فنقول: «فلان عليم» ؛ ولذلك يقول الحق: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] وإذا كان العالم متمكناً من علمه بشكل غير مسبوق نقول عنه: «علاَّم» . والحق سبحانه يصف نفسه فيقول: {عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 116] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3752 ولم يقل العلماء في وصف الله علامة، وإن كان هذا الوصف أبلغ احترازا من أن تلحق علامة التأنيث صفة من صفات الله - عَزَّ وَجَلَّ -. وحين تأفل الشمس يقول سيدنا إبراهيم: {فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] وجاء الأمر صريحاً لأنه سبق المسألة بالترقيات الجدلية التي قالها، وحين يسمعها أي عاقل فلا بد أن يعلن اتفاقه في هذا الأمر، ولذلك قال: {إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} . ولأنه كإنسان مؤمن لن يغش نفسه، وبالتالي لن يغش قومه، وهذا ما ينبه العقل حين يعطيه الله هبة الهداية. والبراءة من الشرك تخلية عن المفسد، والتخلية تعني أن تنفك أو تنقطع عن العمل المفسد، وبعد ذلك تدخل في العمل المصلح. . العمل الإيجابي. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3753 والسموات والأرض هما المظهر الأول للكون الذي طرأ عليه الإنسان؛ لأن الكون طرأ عليه الإنسان - الخليفة في الأرض - ووجد كل الخيرات والمسخرات، ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى: إياكم أن تقولوا إني خلقتكم فقط، بل خلقت لكم الكون. {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3753 ويقدم سيدنا إبراهيم برهانه لقومه، إنه يعبد الله وحده الذي خلق السموات والأرض، رافضاً كل فساد في الكون، ويتمثل هذا في قوله: {حَنِيفاً} ، و «الحنف» في اللغة هو ميل القدمين، ونجد القدم مقوسة إلى الخارج. وهذا يعني أنه لا يسير على طريق الفساد الموجود في الكون؛ لأن السماء تتدخل بالرسالات حين يطم الفساد في الأرض، وحين يأتي الرسول مائلاً عن الفساد فهو يسير معتدلاً؛ لأن الميل عن الفساد اعتدال واستقامة. ويقول الحق بعد ذلك: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3754 وحاجّه أي حاججه بإدغام الجيمين في بعضهما. أي أن كل طرف يقول حجة والطرف الآخر يرد عليه بالحجة، فإذا كنت في نقاش وكل واحد يدلي بحجته، فهذا اسمه الحجاج، أو الجدل المبطل، أي أنك تبطل كلامه وهو يبطل كلامك. {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80] وإذا كان إبراهيم قد جادلهم بمجاراة أفكارهم وأثبت بطلانها، فكيف يجادلونه إذن؟ . كأن الغرض من الحِجاج صرف إبراهيم عن دينه الحنيف الذي ارتآه في قوله سبحانه: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 79] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3754 ويرد عليهم: {أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80] . أي أن مسألة الإيمان قد حُسمت. فقد آمن إبراهيم بالله ويعلن للقوم {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} وهذا القول يدل على أنهم قد هددوه؛ لأن كلمة «الخوف» جاءت ونفاها عن نفسه. ويعلنها إبراهيم قوية: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} أي لا أخاف من الكواكب التي تأفل سواء أكانت نجماً أم قمراً أم شمساً أم تلك الأصنام التي تعبدونها فليس لها نفع ولا ضر، والضر والنفع هما من صنع الله فقط. ولذلك تتجلى الدقة في الأداء العقدي فيقول الحق على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80] . فإن شاء الحق أن يُنزل على عبدٍ كوكباً يصعقه أو يحرقه فهذا موضع آخر لا دخل لمن يعبد الكواكب به، ولا دخل للكواكب فيه أيضا؛ لأن النافع والضار هو الله، فحين يشاء الله الضر، يأتي الضر وحين يشاء النفع يأتي النفع. {إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام: 80] أي اذكروا جيداً، وافرقوا بين فعل يقع من فاعل، وفعل يقع من آلة فاعلها غير تلك الآلة، فحين يشاء الله أن يوقع على إنسان كوكباً، أو صخرة فليست الصخرة هي التي صنعت وقوعها، ولا الكوكب هو الذي أسقط نفسه، إنما الفاعل هو الله: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3755 وقوله {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} يدل على أن قضايا العقائد مأخوذة بالفطرة، وإقبال النفس على الشهوات هو ما يطمس آثار هذه الفطرة، فليس المطلوب منك أيها الإنسان إنشاء فكرة عقدية بل المطلوب منك أن تتذكر فقط، والتذكر أمر فطري طبيعي؛ لأن الإنسان الخليفة في الأرض هو الذي تناسل من آدم إلى أن وصل إلينا؛ فقد جاء آدم إلى الأرض ومعه منهج سماوي ينظم به حركة الحياة، ولقن آدم المنهج لأولاده، وكذلك فعل أبناء آدم مع أولادهم، ولكن المناهج تنطمس؛ لأن المناهج تتدخل في أهواء الناس وتثنيهم عن شهواتهم وتصدهم عن المفاسد فيعرضون عنها أو يتجاهلونها، إذن فهي عرضة أن تُنسى، والرسالات إنما تذكر بالمنهج الأصلي الذي أخذناه عن الحق سبحانه وتعالى، لذلك يعلنها إبراهيم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3756 يقول لهم سيدنا إبراهيم: أنا لا أخاف إلا الله، ولا أخاف ما أشركتم أنتم به مما لا يضر ولا ينفع. و «كيف» هنا تأتي للتعجيب؛ لأن المنطق أن نخاف من الله وحده الذي يضر وينفع. وحين تدور مجادلة تستيقظ في كل طرف ذاتية المجادل، وهناك من يستنكفون من الحق، ليس لأنه حق لكن لخوفهم أن ينهزموا أمام واحد مثيل لهم، ومن يريد أن يصل إلى الحقيقة بدون استعلاء لا يعطي الحكم بما يحرك الذاتية في الخصم المجادل؛ لذلك لم يقل سيدنا إبراهيم: أنا أم أنتم أحق بالأمن؟ بل قال: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} مثلما علم ربنا سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3756 {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] . وهذا منتهى الحيدة في الجدل، فلم يصرح بأن منهجهم هو الضلال وأن منهجه هو الصواب المستقيم ثقة منه أنهم حين يستعرضون منهجه ويستعرضون منهجهم سيحكمون بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على هدى وأنهم على ضلال. وهذا هو الجدل الارتقائي، مثلما يعلم الحق رسوله ليقول لخصومه: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] . هل يفعل الرسول جرائم؟ حاشا لله أن يفعل ذلك فهو المعصوم. وكأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لهم: اسألوا عني إن كنت أجرّمت؛ ولم يقل لهم وصفا لأعمالهم: «ولا نسأل عما تجرمون» بل قال « {وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . فلم يأت بمسألة الإجرام بالنسبة لهم؛ وجاء بها بالنسبة له، لأنه واثق أنهم إن أعادوا دراسة القضية فكرياً وعقدياً وعاطفياً فسينتهون إلى الإيمان بمنهجه. وهذامنتهى اللطف في الجدل. ويتجلى اللطف في الجدل في قوله الحق: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81] . والعِلْمُ هو أن تأخذ قضية تعتقدها ولها واقع وتستطيع أن تدلل عليها، وإن اختل شرط فيها فهذا خروج عن العلم، ومثال ذلك ألفاظ اللغة؛ كل لفظ وضع لمعنى، وساعة تسمع اللفظ وأنت تعرف اللغة تفهم المعنى؛ فحين أقول: الشمس. تتصور أنت الشمس في ذهنك، وكذلك الأرض والماء والجبل. فأنت عرفت مدلول هذه الألفاظ بدون أن تكون هناك نسبة. ونعلم أن هناك فرقاً بين معنى اللفظ مفرداً، وما يعطيه ويفيده اللفظ إذا جاء في نسبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3757 فإذا جاء اللفظ في نسبة فلا بد أن توجد قضية، فإذا قلنا الشمس محجوبة بالغيم فهذه قضية، أو قلنا: الشمس تغيب فهذه قضية أخرى وهنا نسبنا شيئاً لشيء، ولكننا قبل أن نأتي بالقضايا النسبية لا بد أن يكون للفظ معنى في ذاته، وهذه اسمها معاني اللغة، وتضم من خلالها لفظا إلى لفظ فتنشأ نسبة أو قضية شريطة أن نعرف معنى مفرداتها، وبعد ذلك نعرف النسب، وهي ما نقول عنه: مبتدأ وخبر، موضوع ومحمول، مسند ومسند إليه، فعل وفاعل أي أمر منسوب إلى أمر. والعلم - كما قلنا - هو قضية واقعية، تعتقدها وتستطيع أن تدلل عليها. وإن اختل أمر من هذا لا يكون علماً، فإن كنت تعتقد في قضية إلا أنها غير واقعية، فهذا كذب. وعندما أقول: إن هناك من يعتقدون أن الأرض كروية فهل الواقع كذلك أولا؟ . وإن كنت تعتقد شيئاً وهو واقع، ولم تستطع أن تدلل عليه فهذا تقليد، وإن لم يكن الشيء متيقنا وقد تساوى فيه الطرفان فهذا هو الشك. وإن كان هناك طرف راجح عن طرف آخر فهو الظن. والطرف المرجوح هو ما يسمّى بالوهم. وكل قضايا نسبية لا تخرج عن هذه. وقول إبراهيم: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تتيقنون من قضية نسبية واقعة معتقدة تستطيعون أن تدللوا عليها. ويقول الحق بعد ذلك: {الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3758 حينما سمع صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية اشفقوا على أنفسهم؛ لأنهم استعرضوا حركة أعمالهم فوجدوها لا تخلو من ظلم، وخافوا أن يكونوا من غير الداخلين في {أولئك لَهُمُ الأمن} . وشق عليهم ذلك، فرفعوا أمرهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3758 إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأوضح لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُطَمْئِناً: إن ذلك الظلم هو الذي قال الله فيه: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . والآية تدل بمعطياتها على أن ذلك الظلم هو المتعلق بالإيمان لا بالعمل؛ لأننا نعلم أن التقاء الإنسان بربه مشروط أولاً بعقيدة القمة، وهي أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن تشهد أن محمداً رسول الله؛ ومعناها؛ لا معبود بحق إلا الله، أولا أمر لأحد في خلق الله إلا لله، ولا فعل لأحد من خلق الله إلا من الله، ولا استمداد لأحد قدرة وعلماً وحكمة وقبضاً وبسطاً إلا من الله، تلك هي دائرة الإيمان العقدية. ويقول الحق: {وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} فكأن هذه المسألة هي منطقة الظلم، أما العمل فسبحانه فصَّل لنا بين إيمان ينفجر عنه العمل وعمل تنفجر عنه الطاقات فقال سبحانه: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ... } [العصر: 1 - 3] والعطف في قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} يقتضي المغايرة، فالإيمان شيء وعمل الصالحات شيء آخر، إذن فالإيمان عمل ينبوعي في القلب، ولكن العمل ناشئ عن الالتزام الذي شرعه الإيمان فيه، وعلى المؤمن أن يتنبه إلى أن الله واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله، لا ندّ له ولا شريك معه، فإن وجدت صفة في الله ووجدت صفة مثلها فيك فاعلم أن الصفة في الله في دائرة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فى قدرة كقدرته، ولا ذات كذاته، ولا فعل كفعله. فإن اختل شئ من ذلك في اليقين فهذا ظلم واقع في الإيمان. فمثلاً: أنت تقبل على الأشياء بالطاقات المخلوقة لك من الحق سبحانه وتعالى، وقبل أن تفعل أي فعل لا بد أن يمر على بالك نسبة ذهنية، قبل أن تكون نسبة قولية أو فعلية. هذا هو العمل المنوط بك والمطلوب منك، أما العمل الذي لا يمر ببالك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3759 فلست مسئولا عنه، مثال ذلك: هب أنك سائر في الطريق، ثم وجدت حفرة تكاد تسقط فيها، فهناك أمر غريزي لحفظ الإنسان فيبعد رجله، وهو لا يستطيع في هذه المسألة أن يمررها بباله. وتلك أعمال نسميها الأعمال الاضطرارية أو الغريزية أو القسرية. ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع» «حديث شريف» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أقطع» «حديث شريف» و «ذي بال» أي كل أمر تفعله بعد أن يمر ببالك أن تفعله يجب أن تذكر فيه اسم الله. ويغفل أناس كثيرون عن هذه المسألة فنقول لهم: منطقياً لا بد أن تضعوا هذا الأمر في بالكم لأن الفعل الذي لا يمر ببالك هو فعل أعطى الله غريزتك - بدون أمر - أن تفعله. ومثال ذلك إذا أكل الإنسان ثم نزل شيء في قصبته الهوائية غير الهواء؛ نجده يسعل بلا شعور حتى يخرج هذا الشيء، لأنها عملية قسرية. أما الأمر ذو البال فهو الذي تمر ببالك نسبته الذهنية ثم يمر بالفعل، إن كان قولاً تقوله، وإن كان فعلاً تفعله؛ فمطلوب منك فيه ابتداء أن تسمّى الله؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يطلب منا ألا تشغلنا الأسباب عن المسبب لها. فأنت مثلاً حين تزرع الأرض تحرثها، ثم تضع البذرة وتغطيها، ثم ترويها وبعد ذلك ينبت الزرع. ألك في ذلك شيء؟ . إنه ليس لك إلاّ تجميع فعل؛ فالبذرة مخلوقة لله، والتربة التي وضعت فيها البذرة مخلوقة لله، والعناصر الموجودة في الأرض لتغذي النبات مخلوقة لله، والخاصية الموجودة في البذرة لتمتص شيئاً ينّمي جذيرها ثم تنفلق الحبة، كل هذه أسباب ليس لك فيها شيء أبداً. ولكن الله احترم فعلك فقط فقال سبحانه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3760 {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] ثم قال سبحانه: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 64] ومن مخصصات الإيمان أنك حين تقبل على أي شيء ذي بال ألا تنسى من سخر لك هذا، فليس في قدرتك أن تفعل لنفسك وبنفسك أي شيء إلا بإرادة الله، وإذا ما فعلت ذلك وتذكرت من سخر لك هذا تكون قد نسبت الأمر كله له سبحانه. ونحن في قوانيننا الوضعية ساعة يجلس القاضي ليحكم بين الناس حُكماً وهناك سلطة تنفذ هذا الحكم فهو يقول: «باسم الشعب» أو «باسم القانون» ، إذن الشعب أو القانون هو الذي أعطاه الصلاحية لأن يحكم هذا الحكم، فما هي القدرة التي جعلتك تحكم على الأشياء أن تنفعل لك؟ لا بد أن تقول إذن: باسم الله الذي سخر لي هذا، فإذا أقبلت على عمل بغير ذلك، تكون مفتاتا ومختلقا ومدعيٍّا أمراً لا تستطيعه؛ لأنه ليس في سلطتك ولا في قدرتك أن تسخر الكائنات لك. إن الحق سبحانه وتعالى هو الذي سخر لك الكائنات، فعليك أن تذكر اسم الحق لتنفعل لك تلك الكائنات، ومن يغفل عن ذلك فقد لبَّس وخلط إيمانه بظلم. وإذا ما رأيت ثمرة من ثمارك إياك أن تقول كما قال قارون: {أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} بل اذكر وقل: «ما شاء الله» ؛ لأنك إن قلت: {أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} فالحق قد قال في شأن قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81] أين ذهب علم قارون الذي جاء به؟ . إذن فكل أمر من الأمور يجب أن تنسبه لله، فإن اختل شيء فيك من هذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3761 المسألة فاعلم أنك لبَّست وخلطت إيمانك بظلم، والحق سبحانه وتعالى منا ذلك حتى تكون النعمة مباركة إقبالاً عليها أو انتفاعاً بها، ولا ينشأ من العمل الذي تعمله مبتدئاً ب «بسم الله» إلا ما يعينك على طاعته، ويعينك على بر، ويعينك على خير، ولا تصرفه إلا في عافية. وبعد ذلك يؤهلك مجموع هذه الأشياء في كل حركاتك وأعمالك إلى أن تأخذ أمناً آخر أجمع وأتم وأكمل من أمن الدنيا؛ إنّك تأخذ أمن الآخرة بأن تدخل الجنة. إذن {أولئك لَهُمُ الأمن} أي الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم، والحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نتصل دائماً بمنهجه؛ لأن إمدادات الله سبحانه وتعالى مستمرة، ورحماته وتجلياته لا تنقطع عن خلقه أبداً؛ لأنه قيوم أي إنه بطلاقة قدرته وشمول قيوميته يقوم سبحانه باقتدار وحكمة على كل أسباب مخلوقاته، فكن دائماً في صحبة القيوم؛ ليتجلى عليك بصفات حفظه، وصفات قدرته، وصفات علمه، وصفات حكمته فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لبلال: «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دفَّ نعليك بين يديّ في الجنة. قال: ما عملت عملا أرجى عندي من أنّي لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلاّ صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي» ويقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجههُ خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليه بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطرة الماء حتى يخرج نقيَّا من الذنوب» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3762 إذن الحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نتصل بمنهجه اتصالاً وثيقا؛ ليعطينا، لا ليأخذ منا؛ لأن الفرق بين عبودية البشر للبشر والعبودية الخالصة لله أن البشر يأخذ خير عبده، ولكن عبوديتنا لله تعطينا خيره من خزائن لا تنفد، نأخذ منه كلما ازددنا له عبودية، إذن الحق دائماً يريد أن يصلنا به. {أولئك لَهُمُ الأمن} الأمن في الدنيا؛ والأمن بمجموع ما كان في الدنيا مع الأمن في الآخرة. ولقائل أن يقول: هناك اناس لا يسمون باسم الله، ولا يخطر الله على بالهم، ويتحركون في طاقات الأرض ومادتها، وينعمون بها ويسعدون، وقد يسعدون بابتكارات سواهم. ونقول: نعم هذا صحيح؛ لأن فيه فرقاً بين عطاء الفعل، والبركة في عطاء الفعل. إذا زرع الكافر فالأرض تعطى له، وإذا قام بأي عمل يأخذ نتيجته، لكن لا يأخذ البركة في العطاء. وما هي البركة في العطاء؟ البركة في العطاء أن يكون ما أخذته من هذا العطاء لا يعينك على معصية، بل دائماً يعينك على طاعة. ونحن نرى كثيراً من الناس يصدق عليهم قوله سبحانه: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا واستمتعتم بِهَا} فإياك أن تغالط وتقول: إنهم لا يقولون: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} ومع ذلك فهم قد أخذوا طيبات الحياة الدنيا، إنك حين تنظر إليهم تجد كل مرتقيات حضارتهم، وطموحات بحوثهم واكتشافاتهم تتجه دائماً إلى الشر، لم يأت لهم ابتكار إلا استعملوه في الشر إلى أن يأذن الله فيشغلهم عن أشيائهم بما يصب عليهم من العذاب والنكبات ولهم في الآخرة العقاب على شركهم وكفرهم. إذن {أولئك لَهُمُ الأمن} أي إنّ هؤلاء الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك لهم الأمن في جزيئات أعمالهم والأمن المتجمع من جزيئات أعمالهم يعطي لهم الأمن في الجنة. {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} والهداية هي الطريق الذي يوصل إلى الغاية. ولا يقال إنك موفق في الحركة إلا إذا أدت بك هذه الحركة إلى غاية مرسومة في ذهنك من نجاح بعد المذاكرة والاجتهاد. ولا مخلوق ولا مصنوع يحدد غايته، فاترك لله تحديد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3763 مهتمك، فسبحانه هو الذي خلقك، وفي عرف البشر، لا توجد صنعة تحدد مهمتها أبداً، بل إن الصانع هو الذي يحدد لها الغاية منها؛ فالغاية توجد أولاً قبل الصنعة، وما دامت الغاية موجودة قبل الصنعة فمن الذي يشقى بالتجارب إذن؟ . في الابتكارات العلمية المعملية المادية التي تنشأ من التفاعل مع المادة نجد أن الذي يشقى بالتجربة أولاً هو العالم، وأنت لا تعلم التجربة إلا بعد ما تظهر نتائجها الطيبة، والمسائل النظرية التي تتعب العالم يأتي التعب منها لأنها ليست مربوطة أولاً بالماديات المقننة وبمعرفة الغاية، ولا بمعرفة الوسيلة لهذه الغاية. فمن المهتدي إذن؟ إن المهتدي هو من يعرف الغاية التي يسعى إليها، والوسيلة التي تؤهله إلى هذه الغاية. وإذا حدث له عطب في ملكات نفسه، يستعين في إصلاح العطب ويلجأ إلى من صنع هذه الملكات، وهو الله سبحانه، كما يرد الإنسان الآلة التي تتعطل لصانعها. ونجد كثيراً من الشعراء يسرحون في خيالهم فيقول الواحد منهم: ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ... ومن أين للغايات بعد المذاهب؟ ونقول له: من خلقك أوضح لك الغاية. ويقول الحق بعد ذلك: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3764 والحجة هي البرهان القائم لإثبات القضية المطلوب إثباتها. وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد منا حين نحاجج أن تكون لنا غاية في الحجاج، ونحن نعلم أن الغاية في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3764 الحجاج إن تعدت موضوع الحجاج نفياً أو إثباتاً فهي تهريج، وينحصر الأمر في أنك تريد الانتصار على خصمك وأن يحاول خصمك الانتصار عليك، لكن عليك إذا ما دخلت الحجاج أن تجعل الغاية الأصلية هي الأساس، وكما يقولون تحديد وبيان محل النزاع؛ لأن الحق لا بد أن يكون أعزّ منك ومن خصمك عندك، ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى يوضح: إياكم أن تتناظروا في قضية تناظراً جماهيرياً، لماذا؟ لأن الصوت الجماهيري يلتبس فيه الحق مع الباطل، والله سبحانه وتعالى يريد من كل صوت أن يكون محسوباً على صاحبه، ومثال ذلك عندما يقوم تظاهر كبير ويهتف فيه بسقوط أحد لا يتعرف أحد على من بدأ الهتاف. والذي جعل العرب يخسرون أنهم حين استقبلوا الدعوة كانوا يعقدون اجتماعات جماهيرية، ينقدون فيها أقوال رسول الله فتاهت منهم القدرة على الحكم الموضوعي. ولذلك يقول ربنا: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46] . أي أن تجتمعوا وفي وجهتكم الله، ومن عنده قوة فليناقش بالحجة أقوال رسول الله موضوعاً، وتاريخاً، ومنطقاً. ولا يمكن أن يجتمع اثنان ليبحثا مسألة وفي بالهما الله فقط - إلا وينتهيان فيها إلى رأي موحد. ولذلك جاء التفاوض السري في العصر الحديث مستمداً من تلك القاعدة الإيمانية. {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] . وأول قوم إبراهيم أبوه آزر، إنه حاجّهم في الكواكب والقمر والشمس والتماثيل، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3765 وبعد ذلك انتصر بالحجة على كبيرهم وهو الملك أو السلطان، وهو النمروذ حين أراد أن يناظره في قوة الإحياء والإماتة. ويريد الحق أن نتعلم من حكمة سيدنا إبراهيم، إنك إذا رأيت خصمك يدخل فيما لا يمكن أن ينتهي فيه الجدل فانقله إلى المستوى الذي لا يستطيع منه خلاصا ولا فكاكا، فلا يغلبك؛ فالملك النمروذ قال له: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] . وكان باستطاعة سيدنا إبراهيم أن يقول: أنت لا تميت بل تقتل، والقتل غير الموت؛ لأنك تنقض البنية، لكنه لم يرد أن يطيل الجدل، وأراد أن يكون الجدل مقتضباً، ويسقطه على الحجة ويلزمه بها من أقصر طريق، فقال الله: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258] . فماذا كانت نتيجة الجدل؟ يقول الله سبحانه: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} [البقرة: 258] . وكل هذه حجج يوضحها قول الله سبحانه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] لقد أعطى الله سبحانه إبراهيم الحجة على قومه، أي كانت له عليهم درجات وسمو وارتفاع؛ لأن إقامة الحجة على الغير انتصار، والانتصار رفع لدرجة موضوعك، ورفع أيضا لموضوع عملك. وسبحانه لا يشاء إلا عن حكمة، ولا يشاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3766 إلا عن علم؛ لأنه إن أطلقنا المشيئة لواحد من البشر فقد يفعل الفعل بدون حكمة وبدون علم، أما الحق فينبئنا بأن مشيئته هي عن حكمة وعلم لصالح الخلق؛ لأن مشيئته مبنية لا على هوى، ولا على نفع من أحد، فالله سبحانه له كل صفات الكمال والجلال والجمال قبل أن يخلق الخلق. إن خَلْق الخلق وإيمانهم لا يزيد في ملك الله، وإن عصوا لا ينقص من ملك الله شيء، ولكن الحكمة قد تفوت عن بعض الخلق فلا يهتدون إليها، وسبحانه حين يجري أمراً على خلقه ثم يقبلونه وإن لم يعلموا علته يريهم جل وعلا الحكمة في الفعل الذي كان غير مقبول لهم؛ لأنه سبحانه خلق الخلق ويعلم أزلاً أن للخلق أهواء ومرادات، ولو أعطى كل مخلوق مراده لأعطاء على حساب غيره، والحق سبحانه عادل فلا ينفع واحداً ويتعب الآخر. والحق بحكمته يعلم ما يصلح أمر خلقه، فلا يستجيب لدعوة حمقاء من عبد، فبسحانه يعلم أنه ليس في صالح العبد أن يلبي له هذا الطلب. ولذلك يقول الحق: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] . إن العبد يقول: يا رب اصنع لي كذا، يسّر لي هذا الأمر، وهو خير في عرفه، وقد يكون هو الشر؛ لأن الإنسان عجول. لذلك يقول سبحانه: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37] . إن الحق جل وعلا يضبط مرادات الخلق؛ فالصالح يجريه عليهم. {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} وكلمة «رب» حينما ترد لا بد أن نفهم منها معنى الخلق والتربية، وساعة تأتي كلمة «الألوهية» فلنعلم أنها للتكليف؛ لأن الله هو المعبود المطاع إن أمر أو نهى، ولكن الرب هو من خلق وربَّى، وتعهد، وأعطاك مقومات حياتك. إذن عطاء الربوبية شيء، وعطاء الألوهية شيء آخر، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3767 وعطاء الربوبية يأخذه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي؛ لأن الله هو الذي استدعاهم للوجود، وجعل الكون مسخراً لهم، لكن عطاء الألوهية يتمثل في «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» ، وهذا يدخل في منطقة الاختيار. فالذي يكفر بالله ويحسن الأخذ بالأسباب يأخذ نتائجها، ومن يؤمن بالله ولا يحسن الأخذ بالأسباب لا يأخذ النتائج؛ لأن الاستنباط في الكون من عطاء الربوبية. ويقول الحق: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3768 إننا نعرف أن إسحاق هو الابن الثاني لسيدنا إبراهيم بعد إسماعيل، ويعقوب ابن إسحاق، وساعة ترى الهِبَة افهم أنها ليست هي الحق، فالهبة شيء، و «الحق» شيء آخر. الهبة. إعطاء معطٍ لمن لا يستحق؛ لأنك حين تعطي إنساناً ما يستحقه فليس ذلك هبة بل حقاً. والحق سبحانه وتعالى يوضح: إياكم أن تعتقدوا أن أحداً من خلقي له حتى عندي إلا ما أجعله أنا حقاً له، ولكن كل شيء هِبة مني. والقمة الأولى في الهبات والعطايا هي قمة السيادة الأولى في الكون للإنسان، ثم التكاثر من نوعية الذكر والأنثى، حيث الذرَّية من البنين والبنات. يقول سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور} [الشورى: 49] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3768 فهبة الأولاد لا تأتي من مجرد أنه خلق الرجل والمرأة، وأنّ اللقاء بينهما يوجد الأولاد بل يقول سبحانه: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} [الشورى: 50] . فلو أن المسألة مجرد إجراء ميكانيكي لجاء الأولاد، لكن الأمر ليس كذلك؛ فمن يفهم في الملكوت تطمئن نفسه أن ذلك حاصل عن حكمة حكيم يعرف أنها هبة من الله، حتى العقم هو هبة أيضاً؛ فالذي يستقبله من الله على أنه هبة ويرضاه، ولم ينظر إلى أبناء الغير بحقد أو بحسد سيجعل الله كل من تراه أبناء لك بدون تعب في حمل أو ولادة، وبدون عناية ورعاية منك طول عمرك. ومن يرض بهبة الله من الإناث سيجد أنهن رزق من الله ويبعث له من الذكور من يتزوج الإناث ويكونون أطوع له من أبنائه؛ لأنه رضي. إذن لا بد أن تأخذ الهبة في العطاء، والهبة في المنع. والحق يوضح: أنا وهبت لإبراهيم إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، والإنسان منا يعرف أن الإنسان بواقع أقضية الكون ميّت لا محالة، وحين يكبر الإنسان يرغب في ولد يصل اسمه في الحياة وكأنه ضمن ذلك، فإن جاء حفيد يكون الجد قد ضمن نفسه جيلاً آخر. ولكن لنعرف قول الحق: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46] . وبقاء الذِّكْرِ في الدنيا لا لزوم له إن كان الله يحط من قدر الإنسان في الآخرة!! ونلحظ أن الحق قال في موقع آخر: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 5 - 6] . وامتن الله على إبراهيم لا بإسحاق فقط بل بيعقوب أيضاً، وفوق ذلك قال: {كُلاًّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3769 هَدَيْنَا} أي أنهما كانا من أهل الهداية. {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} أي أن الهداية لا تبدأ بإسحاق ويعقوب، بل بنوح من قبل: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} . ويتابع الحق: {وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3770 {وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصالحين} ولم يأت الحق بالثمانية عشر نبياً متتابعين بل قسمهم بحكمة، فيقول: {وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين} ولا يقتصر الأمر على هؤلاء بل يقول سبحانه: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ واجتبيناهم وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وأنت إن نظرت إلى هؤلاء الثمانية عشر نبياً المذكورين هنا، ستجد أنهم من الخمسة والعشرين رسولاً الذين أمرنا بالإيمان بهم تفصيلا. وقد جمعوا في قول الناظم: في تلك حجتنا منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3770 إدريس هود شعيب صالح وكذا ... ذو الكفل آدم بالمختار وقد ختموا والحق سبحانه وتعالى لم يجعل من الأنبياء ملوكا إلا اثنين: داود وسليمان حتى يعطينا فكرة أن الله إذا أراد أن يقهر خلقاً على شيء لا يقدر عليه أحد يبعث مَلِكاً رسولاً؛ لأن المَلِك لا يقدر عليه عبد لأنَّ القدرة معه، والمجتمع آنذاك كان في حاجة إلى ملك يدير أمره ويضبط شأنه، وسبحانه لا يريد الإيمان بالقوة والخوف والرهبوت إنما يريده بالاختيار، ولذلك جعل أغلب الأنبياء ليسوا ملوكاً. وفي الحديث «أفملكا نبيا يجعلك أو عبداً رسولاً» فاختار أن يكون عبدا رسولا؛ لأن الملك يأتي بسلطانه وبماله، وقد يطغى. وأراد الحق أن يكون سليمان وداود من الأنبياء وهما ملكان، وتتمثل فيهما القدرة وسعة الملك والسلطان. أمّا أيوب فقد أخذ زاوية أخرى من الزوايا وهي الابتلاء والصبر مع النبوة، وكل نبي فيه قدر مشترك من النبوة، وفيه تميّز شخصي. وكذلك يوسف أخذ الابتلاء أولاً، ثم أخذ الملك والسلطان في النهاية. وموسى وهارون أخذ شهرة الاتْبَاع، ونكاد لا نعرف من الأديان إلا اليهودية والنصرانية، أما زكريا ويحيى وعيسى وإلياس فقد أخذوا ملكة الزهد. وأما إسماعيل واليسع ويونس ولوطاً فقد أخذوا ما زخرت به حياتهم من عظيم الفعال وكريم الخصال والسلوك القويم والقدوة الطيبة وبقي لهم الذكر الحسن. إذن فهناك زوايا متعددة للأنبياء. وعندما وقف العلماء عند «عيسى» هل يدخل في ذريتهم، وجدوا من يستنبط ويقول: من ذريتهم من ناحية الأم. وإنما أمهات القوم أوعية ... مستحدثات وللأحساب آباء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3771 والعنصر البشري في عيسى هو الأم. وبمثل هذا احتج أبو جعفر محمد الباقر أمام الحجاج حين قال له: أنتم تدعون أنكم من آل رسول الله ومن نسله، مع أن رسول الله ليس له ذرية! قال له الإمام الباقر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كأنك لم تقرأ القرآن. قال له: وأي شيء في القرآن؟ قال اقرأ: «ومن ذريته ... . .» إلى أن تقرأ: «وعيسى» فعيسى من ذرية نوح، من أب أَم من أُمّ؟ . قال له: من أُمّ. فقال له: نحن كذلك من ذرية محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق من بعد ذلك: {ذلك هُدَى الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3772 «ذلك» إشارة إلى شيء تقدم، والمقصود به الهدى الذي هدينا به القوم، وهو هدى الله. ونجد كلمة «هدى» تدل على الغاية المرسوم لها طريق قصير يوصل إليها، وربنا هو الذي خلق، وهو الذي يضع الغاية، ويضع ويوضح ويبيِّن الطريق إلى الغاية، وحين يضاف الهدى إلى الله فهو دلالة على المنبع والمصدر أي هدى من الله. وكلمة «هدى» مرة تضاف إلى الواهب وهو الحق، وتضاف إلى الأنبياء. يقول الحق: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} . وذلك إشارة إلى المنهج الذي أنزله الله على الرسل. إذن فالحق سبحانه وتعالى يهدي الناس جميعاً بدلالتهم على الخير، والذي يقبل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3772 على هذه الدلالة احتراماً لإيمانه يعينه الله، ويزيده هدى، وسبحانه يريد أن يثبت للإنسان أنه جعله مختاراً، فإن اخترت أي شيء فأنت لم تختره غصباً عن ربنا، إنما اخترته بمن خلقك مختاراً. ولا يوجد فعل في الكون يحدث على غير مراد الله، ولو أراد الله الناس جميعاً مهديين لما استطاع واحد أن يعصي، إنما أرادهم مختارين، وكل فعل يفعله أي واحد منهم، فهو مراد من الله لكنّه قد يكون مرادًا غير محبوب، ولذلك قال العلماء: إن هناك مراداً كوناً، ومراداً شرعاً. وما دام الشيء في ملك الله فهو مراد الله، والمراد الشرعي هو المأمور به، وما يختلف عن ذلك فهو مراد كوني، جاء من باب أنه خلقك مختاراً. ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - أنت تعطي ابنك جنيهاً، والجنية قوة شرائية. فأخذ الجنيه ونزل السوق وهو حر ليتصرف به، وتقول له: اسمع. إن اشتريت به مصحفاً أو كتاباً جميلاً أو بعضاً من الحلوى وأكلتها أنت وإخوتك فسأكون مسروراً منك وسأكافئك مكافأة طيبة، وإن اشتريت «كوتشينة» ، أو صرفت الجنيه فيما لا أرضى عنه فسوف أغضب منك ولن أعطيك نقوداً. أنت بهذا القول أعطيت ابنك الحرية. وساعة ينزل السوق ويشتري «كوتشينة» فهو لم يفعل ذلك قهراً عنك لأنك أنت الذي أعطيته الاختيار، لكنك قلت له: إنك تطلب منه أن يحسن الاختيار، وسبحانه وتعالى قد جعل الإنسان مختاراً، فإن اختار الهداية أجزل له العطاء، وإن اختار الضلال عاقبه عليه. وبالنسبة للأنبياء جاءت لهم الهداية من الله دلالة لهم وأقبلوا على مرادات الحق فأعطاهم هداية أخرى؛ وذلك بأن يعشّقهم في العمل ويحبب إليهم فعل الخير، وبعد ذلك يوضح سبحانه: إياكم أن تظنوا أن هناك من يفلت مني؛ لأنهم لو أشركوا لأحبطت أعمالهم. إذن فالحق لم يخلق الخلق مرغمين على عمل الطاعة بل خلقهم مختارين في التكاليف، حتى ينالوا لذة اختيار منهج الله ولو أشركوا لحبط عملهم و «لو» حرف امتناع لامتناع، وهذا دليل على أنهم لم يشركوا ولذلك لم يحبط عملهم، و «الحبط» هو الإبطال للعمل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3773 ويقول الحق بعد ذلك: {أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3774 والكتاب هو المنهج، والحكم وهو ما أعطاه الله لبعضهم من السيطرة والغلبة، والنبوة؛ أي أنّه جعلهم نماذج سلوكية للبشر. {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} وسبحانه وتعالى أعطانا نماذج من المهديين في الرسل، والأنبياء؛ وفيمن اجتباهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم؛ فهؤلاء القوم الذي جئت لتأخذ بيدهم من الظلمات إلى النور، فإن امتنع بعض الناس عن الهداية فسيوكل الله قوماً آخرين ليحملوا المناهج ليكونوا عنصر الخير الباقي إلى أن تقوم الساعة. ومَنْ القوم؟ . قال بعضهم المشار إليه هم قريش، والمقصود من قوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} هم أهل المدينة أي الأنصار. أو المقصود من النص الكريم كل ممتنع وكافر وكذلك كل مقبل على الله وطائع له أي إن يكفر بها طائفة يوكل الله من يقوم بها ويدافع عنها ويحميها؛ لأن الله لا ينزل قضية الخير في الخلق وبعد ذلك يطمسها بل لا بد أن يبقيها كحجة على الخلق. {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً} وهذا يدل على أن أهل الخير دائما وكلاء عن الله؛ لأن الذي يمد يده بالمعونة لضعيف من خلق الله؛ هذا الضعيف قد استدعاه الله إلى الوجود، ومن يمد يده بالمعونة فقد جعل من نفسه وكيلاً لربنا؛ لأنه يقوم بالمطلوب له - سبحانه - وجعل من نفسه سبباً له؛ لأن الله رب الجميع، ومربي الجميع، وراعي الجميع، ورزّاق الجميع، وليثق من يقوم بالخير ويجعل من نفسه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3774 وكيلاً عن الله في أن يشيع الخير في خلق الله، ليثق أن الله سيكرمه أضعاف أضعاف ما أعطى. ويقول الحق من بعد ذلك: {أولئك الذين هَدَى ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3775 و «هدى الله» هنا أيضا هو هداية دلالة، وهداية معونة؛ بدليل أنه قال: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} والخطاب لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأن «أولاء» أي المشار إليهم هم المتقدمون، و «الكاف» خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} وحين نقرأ هذا القول الكريم نقول «اقتد» ولا نقول «اقتده» ولا تنطق الهاء إلا في الوقف ويسمونها «هاء السّكت» ، لكن إذا جاءت في الوصل لا ينطق بها، وكل واحد من هؤلاء الرسل السابق ذِكْرهم له خصلة تميز بها، وفيه قدر مشترك بين الجميع وهو إخلاص العبودية لله والإيمان بالله وأنّه واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، وكلهم مشتركون في هذه الأصول، وتميّز كل منهم بخصلة في الخير؛ فسيدنا سليمان وداود أخذا القدرة والسلطان والملك، وأيوب أخذ القدرة في الصبر على البلاء، ويوسف أخذ القدرة في الصبر والتفوق في الحُكم، وسيدنا يونس أخذ القدرة كضارع إلى الله وهو في بطن الحوت، وإسماعيل كان صادق الوعد. والمطلوب إذن من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكون مُقتدياً بهم جميعاً، أي أن يكون كسليمان وكداود وكإسحاق وكيعقوب وكأيوب وكيوسف وكيونس. وأن يأخذ خصلة التميز من كل واحد فيهم وأن يشترك معهم في القضية العامة وهي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3775 التوحيد لله. وبذلك يجتمع كل التميز الذي في جميع الأنبياء في سيدنا محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وإذا أُمِرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمراً من ربه فلا بد أن نعتقد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد نفذ الأمر، وما دام أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد اجتمعت فيه مزايا الأنبياء فحق له أن يكون خاتم النبيين والمرسلين. {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90] . ولماذا يُطْلَب الأجر؟ أنت لا تطلب أجراً ممن فعلت أمامه أو له عملاً إلا إذا كان العمل الذي فعلته يعطيه منفعة تستحق أن تُعطي وتُمنح عليه أجراً، فكأن ما يؤديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الأمة كان يستحق عليه أجراً، لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبلغ عن ربّه: قل لهم: إنك نزلت عن هذا الأجر. وقارنوا بين مَن يقدم لأي واحد منكم منفعة قد لا تأخذ من وقته نصف ساعة في جزئية من جزئيات الحياة، ومن يقوم بعمل ينفعكم في مدًى يتعدى الدنيا إلى أن يصل إلى الآخرة ثم يقول: أنا لا أريد منكم أجراً. وعدم طلب الأجر حصل من كل الرسل إلا رسولين اثنين؛ فلم يرد في القرآن أن قالاها، وإذا ما جئت لسورة الشعراء مثلاً تجد أن الحق تكلم عن موسى، وتكلم عن إبراهيم، ثم تكلم بعد ذلك عن بقية الرسل ولم تأت كلمة الأجر في قصة إبراهيم وكذلك في قصة موسى عليهما السلام. لكن جاء ذكر الأجر في غيرهما، يقول سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 106 - 109] . وقال جل شأنه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3776 {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 177 - 180] . وعندما تستقرئ سورة الشعراء تجد الأنبياء كلهم، وتجد مع قول كل منهم {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} ، إلا سيدنا موسى، وسيدنا إبراهيم. لماذا؟ ونقول: إن من ينزل عن الأجر، هو من يقدم لهم منفعة. وفي موسى عليه السلام نجد أنّه قد وجهت وقدمت وسيقت له المنفعة من فرعون الذي قام بتربيته، كأنه قد أخذ الأجر مقدماً، لذلك لم يقل موسى لفرعون «لا أسألك أجراً؛ لأن القرآن جاء بقول فرعون: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] . وكذلك لم تأت مسألة الأجر في قصة سيدنا إبراهيم لأنه خاطب أباه آزر، ولم يكن من المقبول أن يقول له:» لا أسألك أجرا «. وهكذا انطمست مسألة الأجر في قصة سيدنا إبراهيم وقصة سيدنا موسى، وبقيت فيما عداهما، مما يدل على أن القرآن موضوع بأدق تفاصيله بحكمة؛ لأن من يتكلم هو ربنا. ويمتاز سيدنا رسول الله أيضا ويقول:» لا أسألكم أجراً «إلا آية واحدة استثنى فيها هذا النفي: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] . والمودة هي فعل الخير الناشئ عن محبة قلب، أما فعل الخير الذي لا ينبع من محبة في القلب فهو فعل معروف؛ لأن المعروف يضعه الإنسان مع من يُحب ومن لا يُحب. ولذلك قال ربنا: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3777 المعروف - إذن - هو عمل امتداده خير سطحي. والرسول حين يطلب المودة في القربى فهل هي قُرباه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو المودة في قُرباكم؟ هي القُربى على إطلاقها، وهي القُربى أيضا للمتكلم وهو الرسول الذي يبلغ عن الله. وإن صُنِّفت على أنها» إلا المودة في القُربى «أي القربى للمتكلم وهو سيدنا رسول الله لما استطعنا أن نُوفيه أجراً. أما حين يتحمل كل واحد منا مجالاً من الخير والمعروف في قومه، هنا تتلاحم دوائر الخير في الناس جميعاً. ويذيل الحق الآية بقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ} وهي ما تعطينا اجتماع الدوائر ويصير كل واحد مُهْتَماً بأقاربه ويتنازع الناس ويتنافسون في مودة القُربى، وكل منهم يحرص على أن يوسع دائرة القربى. هنا يعم الخير ويدوم الود ويقول الحق بعد ذلك: {وَمَا قَدَرُواْ الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3778 الكلام عن الذين رفضوا وتأبوا عن الإيمان بالله. فيأتي الأمر للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يوضح لهم بأنهم لم يعطوا الله حق قدره، ومعنى القدْر معرفة المقدار، وحق قدره سبحانه لا نقدر عليه نحن البشر، لذلك نقدره على قدر طاقتنا أو على قدر ما طلب منا، وكما قال رسول الله: « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3778 سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك» والإنسان منا حين يثني على واحد فهذا دليل أنه قد قيّم قدره بقيمة الثناء، وحين نقيّم قدر الله فعلينا أن نعرف أن صفات الكمال كلها فيه وهي لا تتناهى ولا يمكن أن تحصى. ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى أنه تحمَّل عنا صيغة الثناء عليه: كي لا يوقعنا في حرج، فليس لبشر من قُدرة أن يحيط بجمال الله أو بجلاله حتى يثني عليه بما يستحقه، وإن أحاط عبد بذلك - ولن يحيط - فمن أين له العبارة التي تؤدي هذا الثناء؟ ولا يوجد بليغ أو أديب يستطيع أن ينمق العبارات التي تكفي لتقدير هذا الثناء على الله، فأوضح لنا الحق من خلال رسوله: أنا حملت عنكم هذه المسألة حتى تكونوا كلكم سواسية، قال رسول الله: «سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وفي كلمة «الحمد لله» وحدها يتساوى الناس جميعاً. ومن رحمته سبحانه أن سوّى بين الناس في معرفة صيغة الثناء عليه. ويأتي الحق هنا بالزاوية التي نفى فيها أنهم ما قدروا الله حق قدره. لماذا ياربَّ لم يقدروك حق قدرك؟ وتأتي الإجابة: {إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91] . أي أنهم أنكروا أن يكون الله قد اختار من بعض خلقه مَن يجعلهم أهلاً لتلقِّي منهجه لإبلاغه إلى خلقه. ويأتي الرد من الحق لرسوله رداً عليهم: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} [الأنعام: 91] . إذن لا بد أن يكون القائلون هذا يؤمنون بأن موسى نُزَّل عليه كتاب لتكون الحُجَّة في موضعها. وكُفار مكة كانوا غير مؤمنين بأي رسول، لكنهم يعلمون أن هناك من هم أهل كتاب، بدليل أنهم قالوا: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3779 {لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157] . ونقول: لو دققت النظر في السورة فقد ينطبق الأمر على واحد مخصوص من الذين غلبتهم الحُجّة. «وفي تاريخ السيرة نجد واحداً من الأحبار كان دائب الخوض في الإسلام، وكان اسمه» مالك بن الصيف «فلقيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والحَبْر هو عالم اليهود والمفترض فيه أن يكون من الزهاد فيهم منقطعاً للعلم إلا أنه كان سميناً على الرغم من أن من عادة المنقطعين للعبادة وإلى العلم أنهم لا يأخذون من الزاد إلا ما يقيت، ويقُيم الأود لأنه قد جاء في التوراة:» إن الله يبغض الحبْر السّمين «. فلما علم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن مالك بن الصيف - وهو من أحبار اليهود - يخوض كثيراً في الإسلام قال له: أفي توراتكم:» إن الله يبغض الحَبْر السّمين «فبهت الرجل، وقال:» ما أنزل الله على بشر من شيء « يعني ما أنزل الله على بشر من شيء من الذي أنت تقوله، وهكذا نعلم أن مثل هذا القول قد يأتي من أهل كتاب، وحين قال مالك هذه القولة قام عليه رجال من اليهود وقالوا له: كيف تقول: «ما أنزل الله على بشرٍ من شيء» فقال لهم: أغضبني محمد، فرددت على الغضب بباطل. وهنا قال من سمعه من اليهود: إذن أنت لا تصلح أن تكون حبْراً لأنك فضحتنا. وعزلوه، وجاءوا بكعب بن الأشرف وولّوه مكانه. {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] . الكتاب إذن هنا هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى وهو التوراة وقد جعلوه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3780 قراطيس، أو جعلوه أوراقاً منفصلة يظهرون منها ما يُريدون، ويخفون منها ما لا يُريدون مثلما فعلوا في مسألة الرّجم كعقاب للزّنا. إذن فقد سبق لهم كتمان ما أنزل الله عليهم، وبيّن الحق ذلك في آيات متعددة: {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 14] والذي لم ينسوه كَتَموا بعضه وأظهروا بعضه، والذي لم يكتموه حرَّفوا ولووا به ألسنتهم، إذن فهناك نسيان، وكتمان، وتحريف. وليتهم اقتصروا على هذا ووقفوا عنده بل جاءوا بأشياء من عندهم وقالوا هي من عند الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 79] ويتابع الحق سبحانه: {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] . فإن كلام الكلام في كُفار مكة فقد جاءهم القرآن بما لم يعلموا لا هم ولا آبائهم؛ لأن الإسلام جاء على فترة من الرسل. وإن كان في أهل الكتاب فهو قول صدق؛ لأنهم لما كتموا أشياء فضح القرآن ما كتموه وما حرفوه. وجاء القرآن فعدل لهم، فكأنهم عُلِّموا الحق، لينسخوا به الباطل الذي غيّروه وحرفوه، وقوله الحق: {قُلِ الله} أي أن الذي أنزل الكتاب هو الله. وساعة يأتي الحق سبحانه وتعالى بصيغة الاستفهام نعلم أن الاستفهام الحقيقي بالنسبة لله مُحَال، لأنه يعلم كل شيء، وإنما يجيء باستفهام يقال له: «الاستفهام الإنكاري» أو «الاستفهام التقريري» وهو يأتي بهذه الصيغة لأنه يريد جواباً فيه الإقرار من المعاندين، فإن لم يقولوا واحتاروا أو خجلوا أن يقولوا فقل أنت لهم يا محمد: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3781 {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] . و «الخوض» هو الدخول في الماء الكثير، الذي لا تستبين العين فيه موضع القدم، وربما نزل في هوّة، ثم استعمل واستعير للخوض في الباطل. والحق سبحانه وتعالى يقول: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي أن هذا لعب منهم ولن يستطيع الصمود أمام الدعوة، فالدعوة سائرة في طريقها، ولن يتمكنوا منها أبداً، فكل الذي يصنعونه هو خوض في باطل ولعب لا جدوى منه ولا صلة له بالجد. ولكن هل معنى هذا أن يتركهم محمد؟ لا؛ لأنه حين يجد آذانا منهم ينبههم ويذكّرهم، ثم بعد أن ينفتح الأمر للإسلام، فالذي يقيم في جزيرة العرب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف؛ لأن المعجزة جاءت مباشرة بقرآن يعلم الكل إعجازه، وسبحانه قد أنزل التوراة من قبل وأنزل القرآن مباركا، فالحق يقول بعد ذلك: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3782 وكلمة «أنزلنا» الأصل فيها نون وزاي ولام، وتستعمل بالنسبة للقرآن استعمالات متعددة؛ فمرة يقول سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] . ومرة يقول عَزَّ وَجَلَّ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3782 {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106] . ومرة يسند النزول للقرآن: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105] . ومرة يسند إلى من جاء به: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] . هذه إذن تعابير متعددة، وما دواعي هذا الاشتقاق ونحن نعلم أن القرآن لم ينزل جملة واحدة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ ليباشر القرآن مهمته في الوجود الجديد، وكان ينزل كل نجم من النجوم حسب الأحداث. و «أنزل» هنا للتعدية أي نقل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ليباشر مهمته، ولذلك يقول سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} ونعلم أن القرآن نزل في ليلة القدر وفي غير ليلة القدر، ولكنه نزل في ليلة القدر جميعه إلى سماء الدنيا، ثم نزل منجماً ومفصّلا في بقية أيام الثلاث والعشرين سنة التي عاشها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد نزول الوحي، فإذا ما أراد أنه أنزله من اللوح المحفوظ يأتي ب «همزة التعدية» وإذا أراد النزول والموالاة يقول: «نزّل» لأن فيها التتابع، وإذا نسبة لمن نزل به يأتي ب «نَزَل» لأن القرآن لم ينزل وحده بل نَزَل به الروح الأمين، إذن فكلها مُلتقية في أن القرآن نَزَل أو أنزِل، أو نُزِّل. وكلمة «نَزَل» تعطينا لمحة، وهو أنه جاء من أعلى، ويستقبله الأدنى. وساعة يطلب الحق منا أن ننصت لإنزال حكم يقول لنا عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3783 ومعنى «تَعالَوّا» أي ارتفعوا؛ لأننا نعيش على الأرض، وإياكم أن تشرّع الأرض لكم؛ لأن تشريع الأرض إذا لم يكن في ضوء منهج الله فهو حضيض. والله يريد تشريعاً عالياً.، ولا بد لكم من أن تتلقوا من السماء أحكامكم؛ حتى لا تتيهوا ولا تضلوا في باطل تشريعات لا تدور في إطار منهج الله. والحق يقول هنا: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وهو قول صادق يصدق على القرآن فقط برغم أن كل الكتب السماوية السابقة كانت كتب منهج، وكانت المعجزة منفصلة عن المنهج؛ فمعجزة موسى عليه السلام - كما نعرف - هي العصا، ومنهجه التوراة، وعيسى عليه السلام معجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ومنهجه الإنجيل. لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تميّز بأن معجزته عين منهجه، لأن كل دين من الأديان السابقة كان لزمن محدود، في مكان محدود. وجاء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالدين الجامع المانع، لذلك جاءت المعجزة هي المنهج، فلو أن معجزته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت من جنس معجزات الأنبياء السابقين إلا لأن القرآن قالها وصارت خبراً، وكل منها تليق بالزمن المحدود والمكان المحدود. لكن الإسلام جاء ليعم كل الأزمنة وكل الأمكنة، ولذلك لزم أن تكون المعجزة مستصحبة للمنهج؛ حتى يستطيع من يأتي بعد عصر النبوة إلى قيام الساعة أن يقول: مُحمد رسول الله وتلك معجزته. والقرآن مُبارك، ونحن في أعرافنا حين نتكلم بالعامية نأتي بالكلمة التي هي من نفْح ونضح الاستعمالات الفصيحة التي سمعناها، فنجد من يقول: والله هذا الأكل فيه بركة؛ فهو مصنوع لاثنين وأكل منه أربعة وفاض وزاد «. إذن،» البركة «أن يعطي الشيء أكبر من حجمه المنظور. وبركة القرآن غالبة ومهيمنة، ولو قاس كل إنسان حجم القرآن بحجم الكتب الأخرى لوجد حجم القرآن أقل، ومع ذلك فيه من الخير والبر والبركات والتشريعات والمعجزات والأسرار ما تضيق به الكتب، ونجد من يؤلف ويفسر في أجزاء متعددة، ومع ذلك ما استطاع واحد أن يصل إلى حقيقة المراد من الله؛ لأن القرآن لو جاء وأفرغ عطاءه في القرن الذي عاش فيه الرسول فقل لي بالله: كيف تستقبله القرون الأخرى؟ {إنه يكون استقبالا خاليا من العناية به لأنه سيكون كلاماً مكرراً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3784 إذن فقد بيّن فيه كل شيء ومنه أخذ كل إنسان وزمان قدر ذهنه، ولو أن القرآن يراد تفسيره لما فسّره أحد غير من انفعل له نزولاً عليه وهو سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيستطيع واحد بعد ذلك أن يقول شيئا في التفسير؟} إذن لو فسره الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لجمّده لأنه لا يجرؤ أحد أن يأتي بتفسير بعد الرسول. وقد علم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن عطاءات القرآن لا تتناهى، لذلك لم يفسّره. بل أوضح بما تطيقه العقول المعاصرة حتى لا ينصرفوا عنه. ولو كان القرآن قال: إن الأرض كرة وتدور حول الشمس، أكان يصدقه أحد؟ إن هناك حتى الآن من ينكر ذلك. ونجد القرآن يشير ويلمح إليها إلماحا خفيفاً إلى أن تتسع العقول لها. فيقول الحق: {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل} [الزمر: 5] . وما دام الليل يأتي وراء النهار، والنهار يأتي وراء الليل في شبه كرة؛ فالذي يأتي عليه الليل والنهار شكل الكرة. فكأن كلاً من الليل والنهار دائر وراء الآخر حول كرة، إذن فالحق يعطي اللمحة بميزان حتى تتسع العقول للفهم. ويقول القرآن: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب} [البقرة: 142] . وهذا قول واضح؛ لأن كل واحد منا يعرف المشرق والمغرب. لكن حين يقول الحق: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17] . أكان يفهمها المعاصر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ نعم، لأنه ساعة ما يقول: إن الشمس أشرقت من المكان الفلاني، وغابت عن مكان آخر، فساعة شروقها عندك تغرب عندي، وساعة تغرب عندك تشرق عندي، وهكذا يصير كل مشرق معه مغرب، إذن فقد صدق قول الله {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3785 ونعلم أن الشمس لها مشرق كل يوم، ومن زار في الصعيد المعبد الذي توجد به 365 طاقة - فتحة - وتطلع الشمس في كل يوم من طاقة معينة ولا تطلع من الطاقات الأخرى يتأكد من أن الشمس لها في كل يوم مشرق. إذن هناك مشارق ومغارب، وصدق الله القائل: رب المشارق والمغارب. إن القرآن يخاطبنا بأسلوب يحتمله العقل المعاصر، وإذا ما جدّ جديد نجد الأمر مكنوزاً في القرآن، ونجد تأويلا جديداً لا ينسخ التأويل الآخر ولكنه يرتقي به. إذن فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يشأ أن يفسر القرآن التفسير الكامل؛ لأنه كان لا بد أن يفسّره بما تطيقه العقول المعاصرة له، وإن فسّره بما تطيقه العقول المعاصرة له فمعنى ذلك أنه لن يعطي العقول التي تأتي بعد غذاء من القرآن؛ لذلك ترك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القرآن دون تفسير إلا في النزر اليسير. وتجد ذلك في آيات الكون، أما في الأحكام فالأمر محدد. لكن في الأشياء التي يتجدد فيها العلم فقد تركها. ولذلك قال النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن القرآن: «لا تنقضي عجائبه» وكأنه يلفتنا إلى أن عجائبه لا تنقضي ولا تنتهي، وكل يوم يعطي عجائب جديدة. إذن فالقرآن مُبارك بحكم ما هو مكنوز فيه إلى قيام الساعة. وأنت تلتفت إلى الناس فتجدهم يتعبون في اكتشاف أسرار الكون، وتجد القرآن قد مسّ ما يبحثون عنه مسّاً خفيفاً. {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92] . وساعة تقول: «بين يدي الشيء» أي الشيء الذي يسبق، والكتب السابقة هي التي نزلت بين يدي القرآن أي قبله، والمقصود بها الكتب المعروفة المشهورة وهي التوراة والإنجيل إذ هما الكتابان الباقيان إلى الآن. والقرآن يصدق الذي بين يديه ولا يعني ذلك تصديق المحرّف بل تصديق «الأصيل» . ولذلك نجد عبد الله بن سلام وغيره حينما جاءوا للإسلام اعترفوا بذلك، ويقول عبد الله بن سلام لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: انشرح صدري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3786 للإسلام، ولكني أعلم أن اليهود قوم بهت - أي أنهم مكابرون - فأنا أريد أن تسألهم عني قبل أن أسلم، فقال رسول الله لهم: ما تقولون في عبد الله بن سَلاَم؟ قالوا: حِبْرنا وابن حِبْرنا وشيخنا ورئيسنا ... إلخ. فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحمداً رسول الله. هنا بدأوا في كيل السباب لسيدنا عبد الله بن سَلاَم فقال: ألم أقل لك يا رسول الله إنهم قوم بهت؟ وقوله الحق: {مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي أنك إذا ما أردت أن تعرف صدق هذه القضية فهات ما لا حاجة لهم فيه إلى تكذيبه، وستجد القرآن قد جاء موافقاً له. مثال ذلك حين جاء القرآن بالرِّجْم. هم حاولوا أن يخففوا حكم الرَّجْم؛ لأن امرأة زنت وأرادوا أن يجاملوها. فرفعوا أمرها للنبي وقال بعضهم لبعض: إن حَكَم بعدم الرِّجم فهذا خير لنا ولها، ومن العجيب أنهم غير مؤمنين بمحمد بينما يريدون الحُكم منه، فيقول لهم الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: هاتوا الكتاب، ويأتون بالصحف الموجودة عندهم، فوجدوا آية الرَّجْم؛ إذن فالقرآن مُصدق الذي بين يديه من غير المكتوم، ولا المْحرَّف، ولا المُوَّوَّل. وإذا ما نظرت إلى القضايا التي يلتفتون إليها، ولكنها تكر أمامهم خاطفة، تجد أنت هذه القضايا وسيلة يريد الله بها أن يكشف الفساد والكذب والتجبر، حتى لا يطمس أهل الباطل معالم الحق. ومثل هذه القضايا تحتاج إلى المُحقق اللّبق. ونجده سبحانه جاء في التوراة بمثل للأمة المحمدية، ويكرر هذا المثل في القرآن حين يقول سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] . وحين ننظر إلى كلمة «أشدّاء» ، وكلمة «رُحماء» ، نجد في ظاهر الأمر تناقضا في الطباع، أما المدقق المحقق فيعلم من هذا القول أن الإسلام لا يطبع المسلم على لون واحد؛ لأنه يريد منه كل الألوان، فلو خلقه شديداً لفقدته مواطن الرحمة، ولو فطره وخلقه رحيماً لفقدته مواطن الشدة. والإسلام يطلب من المسلم الالتزام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3787 بالقيم الروحية والمادية لتحرس كل منهما الأخرى؛ لأن المسلمين لو راحوا للمادة فقط لصارات حضارتهم شرسة، ولو راحوا للقيم لما استطاعوا أن يقيموا حضارة تبقى وتدوم، والحق يريد حضارة تجمع بين الاثنين؛ الروح والمادة، لذلك يجمع الإسلام بين الاثنين؛ الروح والمادة؛ لأن اليهود في فهمهم لما افتقدت الروح، والنصرانية في فهمهم لها غرقت في الروحانيات وافتقدت المادة، وجاء القرآن مُصدقًا لما بين يديه، وهكذا جاءت الآية بالبلاغ عن أهل الكتاب. ويتابع البلاغ لأهل قريش قاطني مكة فيقول: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى} ، ونعرف أن أم القرى تعني مكة، وقد حاول البعض أن يتخذ من هذه الآية حُجّة ليقول: إن القرآن قد نزل لجماعة العرب فقط، ولهؤلاء نقول: أنتم لم تحسنوا الفهم لمعطيات اللفظ، ولنسأل: ما الحَول أولاً؟ . الحول هو المحيط الذي حول النقطة، أيّ نقطة وكل نقطة، وحول كل نقطة قُطْر وقد يكون القطر 20 كيلومترا، وقد يكون مائة كيلومتر، وكلما بعدت المساحة فهي حول هذه النقطة، إذن فكلمة الحول تشمل كل ما حوله، وحول كل مكان يشمل كل مكان. ولماذا سميت أم القرى؟؛ إما لأن «هاجر» لما نزلت بابنها الرضيع بوادٍ غير ذي زرع، وبعد ذلك تكاثر الناس فصارت هي أم القرى، أو لأن فيها الكعبة، وكل الناس يؤمّونها، أو لأن الحاجّ يأتيها من كل صوب كما يهب ويسرع الأبناء ويلوذون بأمهم: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الأنعام: 92] . من - إذن - الذي يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزل مصدقاً لما بين يديه لينذر به أم القرى ومن حولها، ومن هم الذين يؤمنون بالآخرة؟ ولماذا جاء الربط بين أم القرى وما حولها وبين الذين يؤمنون بالآخرة؟ . لأن أحداً لن يذهب لتعاليم القرآن ليأخذها وينفذها إلا من يؤمن بأن هناك يوماً نذهب فيه جميعاً إلى الآخرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3788 لذلك يخاف فيهرب من المعاصي، ويرغب في الطاعة؛ لأن هناك ثواباً وعقاباً، أما الذي لا يؤمن بالآخرة فلا يسمعك ولا ينصاع ولا ينقاد لك حين تأمره بالعفة؛ لأنه لا يرى ثواباً أو عقاباً ولا ينتهي عن السرقة أو الكبر أو الموبقات جميعاً؛ لأنه لا يخاف من الآخرة؟ . إذا فالذي يملكنا جميعاً هو الآخرة والخوف منها، ومن لا يؤمن بالآخرة يقول أنا غير مُلزم بشيء، ولا شيء يقيّد حريتي. ثم لماذا أقيّد حريتي؟! وهنا نقول: أنت تأخذ الأمر بسطحية، فعلى فرض أن في قوانين السماء ما يقيد حريتك، لكنه لا يقيد حريتك وحدك، إنه يقيد حرية الكل، فإن قيد حريتك بالنسبة للناس، فهذه القوانين السماوية تقيد حرية الناس بالنسبة لك، فحين ينهاك الدين عن السرقة، وعن النظر إلى محارم الغير فهو يقول للناس كلها: لا تسرقوا من فلان ولا تنظروا إلى محارم فلان، وبذلك تأخذ حقك كاملاً، وبهذا تعيش في نظام متساوٍ لا تتعب فيه؛ لأن الجاري والمطبق عليك جارٍ على غيرك مع جريانه عليك. لكن من يؤمنون بالآخرة هم كل واحد يريد أن ينجي نفسه من العقاب، ومن الوعيد. ويدخل نفسه في الوعد وفي الثواب. فمثلاً - ولله المثل الأعلى - حين نقول للولد: اذهب لتلقى العلم، قد يرد: أنا لا أريد شهادة، فيجبره والده في البداية أن يستذكر، ثم نجد الشاب بعد مشوار المذاكرة يخاف من الرسوب وأن عليه أن يجتهد وأن ينجح. أما إن لم يوجد امتحان في آخر العام فالمذاكرة وعدمها سواء لديه. فمن أقرب - إذن - إلى الاستجابة لنداء العدل والخير؟ إنه من يؤمن بالآخرة. {والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92] . ولماذا جاء بالحفاظ على الصلاة هنا؟ . نحن نعلم أن الصلاة، هي عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، وحين نحلل الأمر تحليلاً طبيعياً نجد أن الناس تنفر من الطاعات لأنها تأخذ زمناً يحبون أن يقضوه في اللعب، وحين نقول لواحد مثلاً: اترك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3789 عملك وصل. قد يرد: لا؛ لأني حين أترك عملي يضيع عليّ كذا. ولو كان طبيباً لذكر عددا من مرضى سيكشف عليهم، ولو كان عاملاً لقال: إن توقف الآلة في أثناء الصلاة يجعلني أخسر كثيراً. وهنا نقول: يا أخي تعال إلى الطاعة، والبركة تعوض لك ما تظن أنك تخسره، وإذا نظرت إلى أركان الإسلام تجدها بالنسبة لانشغال الزمن بها لا تأخذ الكثير من الوقت؛ فشهادة أن لا إله إلا الله مُحمد رسول الله لا تحتاج منك إلا إلى أن تقولها مرة واحدة، وهذا ركن لم يستغرق زمناً طويلاً بالنسبة لأدائه، والزكاة لا تأخذ منك إلا ما تعطيه يوم الحصاد، وهذا يستغرق وقتا قليلا، وكذلك زكاة المال آخر العام، والصوم شهر في السنة، وإذا كان زمن الصوم أوسع قليلاً إلا أنه وقت لا يمر إلا كل عام. والحج مرة في العمر إن كنت مستطيعاً. إذن أنت تجد التكاليف الركنية في الإسلام بالنسبة للأزمان وقتها يسير وقليل لمن يحرص عليها، لكن الصلاة تؤدي في كل يوم خمس مرات، ورقعتها بالنسبة للزمن أوسع. وأداؤها يحتاج إلى طهارة من حدث أو جنابة وكذلك طهارة المكان؛ لذلك جاءت الصلاة ركناً أصيلاً في الإسلام. وأنت لا تعرف الإنسان إن كان مسلماً إلا إذا سمع الأذان وقام يصلي. لذلك هي الفارقة بين المسلم وغير المسلم؛ لأن الأركان الأخرى أزمانها محصورة، ومع أنها كذلك إلا أنها أخذت من التشريع حظها من الركنية الأصيلة. إنّ كل تشريعات الإسلام أركاناً وفروعاً جاءت بالوحي إلا الصلاة؛ فقد جاءت بالمباشرة؛ لأن الصلاة دعاء الخالق خلقه لحضرته؛ لذلك كان لا بد أن يكون تشريعها بهذه الصورة الفريدة، تشريعاً جاء بالحضرة الإلهية. وشيء آخر: ما دامت الصلاة هي العمدة في الدين فكأن الصلاة تقول للأركان الأخرى: أنا أجمعكم وأضمكم وأشملكم جميعا؛ فالمسلم في أثناء الصلاة يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. والمسلم يصوم في أثناء الصلاة عن شهوتي البطن والفرج بل وتكون الصلاة صوماً لا عن الأكل والشرب، وشهوة الفرج الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3790 فقط بل هي إمساك عن كل حركة، وفي الصلاة زكاة؛ لأن الزكاة تعني أن تخرج بعضاً من مالك، والمال فرع العمل، والعمل فرع الوقت. وأنت حين تصلي إنما تزكي بالأصل وهو وقت العمل، وأنت في الصلاة تتوجه إلى الكعبة كما يتجه الحاج والمعتمر، إذن ففي الصلاة كل أركان الإسلام مجتمعة. إذن فأهمية الصلاة أنها قد اندمج فيها كل ركان الإسلام، وبها يتحقق الاستطراق الاجتماعي للخلافة في الأرض؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي مواهب متعددة، وطاقات متعددة، ولا يمكن لخليفة واحد في الأرض أن يكون مجمع هذه المواهب بل لا بد أن تتفرق المواهب في المتفرق والشتيت من الناس، فلا يمكن أن يكون الإنسان الواحد مهندساً وطبيباً ومحامياً وصانعاً وحارثاً وزارعاً وتاجراً. ولذلك وزع الله سبحانه وتعالى مقتضيات الخلافة في الأرض على الخلفاء في الأرض توزيعاً يجعل الالتقاء ضرورياً وليس تَفضُّلياً، بحيث تكون أنت في حاجة إلى مواهب ليست عندك فتذهب لصاحبها. وصاحبها أيضا يحتاج إلى مواهب عندك ليست عنده فيأتي إليك. وانظروا إذا شاء واحد أن يستغني في بعض الأشياء التي يقوم بها الغير كم يتعب؟ ، فإذا ما أتعبه السباكون وآلموه في الأجور. وحاول تعلم السباكة، ولا بد له أن يتعلمها من سباك. وكذلك حياكة الملابس. ومعنى ذلك أن الله أبقى المواهب متفرقة مشتتة في الخلق ليحتاج كل خلق إلى كل الخلق. والناس لا تنظر إلى جهة التميّز إلا إلى شيء واحد هو: الغِنى. ونقول الغِنى المالي أو العقاري هو نوع فقط من المواهب؛ لأنك مثلاً إذا نظرت إلى العَالِم الذي يظل عشرين عاماً يستوعب العلم، ثم يقابله من يستفتيه في فتوى فيقولها له مجاناً، ولو علم هذا السائل ماذا تكلف الأستاذ الذي أفتاه طوال عشرين سنة بحثاً في الكتب وسماعاً من الأساتذة واستنباطاً من الأحكام لدفع مكافأة لهذه الفتوى؛ لأن العالِم كان مُسخراً لمدة عشرين عاماً لتأخذ أنت الفتوى في نضجها النهائي في يسر وسهولة وتنتفع بها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3791 وحين نرى من يمسح الحذاء، ونجد صاحب الحذاء وهو يمد وهو يمد رجله والاخر يمسح الحذاء تقول لنفسك: لماذا كل هذا الزهو لصاحب الحذاء، ولماذا هذا الانكسار لماسح الأحذية؟ . وأقول: أنت رأيت صاحب الحذاء وقت راحته، ورأيت ماسح الأحذية وهو في وقت عمله. ولو عرفت كيف جاء صاحب الحذاء بالنقود التي سيدفعها لماسح الأحذية لعلمت أنه كان مسخراً له ساعة كان يعمل ليحصل على النقود ليعطي مها ماسح الأحذية، ولذلك قال الحق: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32] والناس لا تنظر في التسخير إلا للغني والفقير، ونقول: خذوا التسخير على أن كل واحد في الكون مُسخّر في الموهبة التي عنده، ومُسخّر له في المواهب التي ليست عنده. وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يربط الناس بهذا ربطاً قسرياً وليس تفضّلياً؛ لأن من عنده أولاد يريدون أن يأكلوا وامرأة تحتاج إلى أن تَطْعَم ولا يملك نقوداً، وليس أمامه من عمل سوى نزح المجاري، فيأتي بأدوات نزح المجاري، ويؤدي العمل ليعول من يعولهم، ولولا ارتباطه بضرورة الحياة له ولمن يعول لما عمل في مثل هذا العمل، إذن فهو مربوط ربطاً ضرورياً ليؤدي خدمة في الكون. ولو كان كل البشر يعيشون في رغد العيش أكان هناك من يتطوع لينزح المجاري؟ لا يحدث ذلك أبداً، لأنه عمل لا يأتي بالتفضل بل بالاحتياج. وهكذا نرى أن الخلافة في الأرض تقتضي استطراقاً، وهذا الاستطراق لا يدوم كثيراً؛ فمرة تكون القوة لإنسان ثم تذهب منه، ومرة يكون الثراء لإنسان ثم ينحسر عنه هذا الغِنى، ولذلك أخبرنا الحق أنه جعل الأيام دُوَلاً بين الناس ليستقيم العالم بارتباط الضرورة في بعض الأعمال، وإن بدا لنا أن هناك مواهب تميز بين الناس في شكلهم، وفي هندامهم، وفي مطيتهم، تجد الطبيب يعمل في أكثر من مكان، وإن سار على رجليه لتعب، لذلك يشتري سيارة، ويظن من يراها أن السيارة امتياز لا مثيل له، متناسياً أن هذه السيارة تقضي مصالح الرجل ليخدم الآخرين. مثال آخر: أنت إن نظرت إلى كوب الشاي الذي تشربه بمزاج وليس لضرورة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3792 حيوية، وإن جاءك من يقدم لك الشاي ليقول: إن الشاي قد نفد من المقهى، فتعطيه جنيهاً وتقول: هات كيساً من الشاي من عند البقال، ويذهب الغلام ليحضر علبة الشاي فيجد البقال وكأنه قد جهزها له، وأنت لا تعرف أن علبة الشاي هذه قد أخذت وقتا وعملا من اثنين أو ثلاثة لتصل إليك؛ لأن الحق قد كلف أناساً ليزرعوا الشاي في بعض البلاد، وأناساً آخرين يستوردونه، ثم تأتيك علبة الشاي لتصنع منها كوباً لتشربه. إذن فمسألة كلها تسخيرات؛ لذلك توجد الفوارق الاجتماعية التي تقتضيها أعمالنا، ويذيب الحق هذه الفوارق بأن جعل في الصلاة استطراقاً للجميع، وتلتفت ساعة يقول المؤذن: (الله أكبر) أن الكل قد جاء، الغني قبل الفقير، والخفير مع الأمير، ويخلع الجميع أقدارهم خارج المسجد مع نعالهم ليتساوَوْا في الصلاة، ومن له رئيس يتكبر عليه يراه وهو ساجد مثله لله، فتريحه لحظة استطراق العبودية. ولنفرض أن كلاً منا سيصلي بمفرده في الصلاة اليومية، لكن عندما يؤذن المؤذن لصلاة الجمعة، يأمرنا الحق أن نَذَر ونترك كل شيء لنؤدي صلاة الجمعة معاً. ويرى الضعيف عظيماً يتضرع مثله إلى الله، ويرى القوي نفسه بجانب الضعيف، وحين يعود كل منا إلى عمله تسقط أقنعة القوة والزهو؛ لأننا جميعاً نقف أمام خالق واحد وكلنا سواء. إن هذا هو الاستطراق الاجتماعي؛ لأننا حين نرقب بعضنا في أثناء الصلاة نجد أنفسنا في حضرة الرَّب الذي أعد لنا الكون، وسخّره لنا، وأعطانا الطاقات، وأعطانا المواهب، وإذا تأملنا واحداً له وظيفة كبيرة جداً، فأنت حين ترغب في لقائه تكتب التماساً، ويُنْظَر في الالتماس، فإمّا أن يوافقوا وإمّا لا يوافقوا على لقائك به. وإن وافقوا يسألوك: في أي أمر ستتكلم؟ وسيُحدد لك الوقت الذي ستجلس فيه معه وليكن ثلاث دقائق مثلا، وحين تجلس إليه وتنسى نفسك يقوم هو ليدلك على أن المقابلة انتهت، لكن ربنا يقول لنا: تعالوْا لي في أي وقت، وكلموني في أي شيء، وأنا لا أملّ حتى تملُّوا، وأنتم يا عبيدي مَنْ تنهون المقابلة، وهذا عطاء كثير جداً. يغدقه المولى عزوجل على عباده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3793 فهل هناك ربوبية أفضل من هذه؟ . إذن فالصلاة إذا نظرت إليها وجدت أنها: جماع كل فضائل الدين وفيها كل الفضائل للمجتع «؛ لذلك جعلها الله عماد الدين. ويقول الحق بعد ذلك: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3794 ساعة يأتي الحق بأسلوب استفهامي فليس الهدف أن يستفهم. إنه - سبحانه - لا يريد ان يأتي الخبر من عنده، وهو يقدر أن يقول: الذي يفتري ظالم، لكنه هنا يأتي بالاستفهام الذي يؤكد أنه لا يوجد أظلم من الذي يفتري على الله كذباً، ويعرض الله القضية على المؤمنين وكأنه يسأل ليعوض كل مؤمن القضية على ذهنه ويستنبط الجواب. إن الذي يفتري على زميله والمثيل له كذباً نُوقِع به العقاب، فما بالك بمن يفتري على الله؟ وحين تسمع أنت هذا الكلام: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} . وتستعرض الأمر فلا تجد أظلم منه، وهكذا يستخرج الله الحكم من فَم المقابل. وكيف يفتري إنسان الكذب على الله؟ كأن يبلغ الناس ويدَّعي ويقول: أنا نبي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3794 وهو ليس كذلك. هنا تكون الفرية على الله، وإياك ان تظن أنه يكذب على الناس، لا، إنه يكذب على الله؛ لأنه أبلغ أن الله قد بعثه وهو لم يبعثه. و «الافتراء» : كذب مُتعمَّد مقصود، وينطبق ذلك على النبوات التي ادعيت؛ من مثل مسيلمة الكذاب، سجاح، طليحة الأسدي، الأسود العنسي؛ كل هؤلاء ادعوا النبوة، ومع ذلك لم يسألهم أحد عن المعجزة الدالة على نُبوّتهم؛ لأن كل واحد منهم عندما أعلن نبوته جاء بما يُخفّف عن الناس أحكام الدين. فواحد قال: أنا أخفف الصلاة، والزكاة لا داعي لها. لذلك تبعهم كل من أراد أن يتخفف من أوامر الدين ونواهيه، موهما نفسه بأنه مُتدين، دون أن يلتزم بالتزامات التدين، وهذا هو السبب في أن أصحاب النبوات الكاذبة، والادعاءات الباطلة يجدون لهم أنصاراً من المنافقين؛ فالواحد من هؤلاء الأتباع قد يكون مثقفاً ثم يصدق نبياً دجالاً، وتسأل التابع للدجال وتقول له: أسألت مدَّعي النبوة هذا ما معجزتك؟ - وهذا أول شرط في النُبوَّة - ولم نجد أحداً سأل هذا السؤال قط، لماذا؟ لأن التدّين فطرة في النفس، ولكن الذي يصعِّب التدين هو الالتزامات التي يفرضها التدين، وعندما يرى التابع الضعيف النفس أن هناك من يُريحع من الالتزامات الدينية، ويفهمه أنه على دين، ويقلل الالتزامات عليه، لذلك يتبعه ضعاف النفوس، وتصبح المسألة فوضى. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} [الأنعام: 93] هناك من ادعى وقال: أنا نبي، وقال: سأنزل مثل هذا القرآن، فماذا قال هذا المدَّعي وهو «النضر بن الحارث» يقول - في أمة أذنها أذن بلاغية، تتأثر بموسيقى اللفظ -: «والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا» !! ولماذا لم يأت بالمسألة من أولها ويقول: «والزارعات زرعا والحارثات حرثا» ثم يقول مَن ادعى أنه أوحي إليه: «والعاجنات عجنا والخابزات خبزا» ، وكان عليه أن يتبعها أيضاً: « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3795 والآكلات أكلا والهاضمات هضما» . وطبعاً كان هذا الكلام لوناً من هراء فارغ؛ لأن الحق إنما أنزل كلامه موزونا جاذباً لمعانٍ لها قيمتها في الخبر، ولذلك نزل القول الحق: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} ، «وقد جاء واحد هو عبد الله بن سعد بن أي سرح القرشي وكان أخا لسيدنا عثمان من الرضاعة وكان كاتباً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقعد في حضرة النبي. فنزلت الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 12 - 14] . وانبهر بالأطوار التي خلق فيها الحق الإنسان فقال: {تبارك الله أحسن الخالقين} . فقال له رسول الله: اكتبها فقد نزلت. واغْترّ الرجل وقال: إن كان محمدٌ صادقاً لقد أوحى إليّ كما أوحي إليه؛ وإن كاذباً لقد قلت كما قال: فأهدر رسول الله دمه. وقال لصحابته: من رآه فليقتله. وفي عام الفتح جاء به عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وقال: يا رسول الله، اعف عن عبد الله، فسكت رسول الله. قال عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: اعف عنه. فسكت رسول الله. وكررها ثالثا: اعف عنه يا رسول الله. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: نعم. وكان لسيدنا عثمان منزلة خاصة عند رسول الله، وأشار الرسول لسيدنا عثمان بن عفان، فأخذ الرجل وانصرف، فلما انصرف قال الرسول لصحابته: ألم أقل لكم من رآه فليقتله؟ قال سيدنا عباد بن بشر: يا رسول الله لقد جعلتُ إليك بصري - أي وجَّهت عيني لك - لتشير عليّ بقتله، فقال رسول الله لعباد بن بشر:» ما ينبغي لرسول أن تكون له خائنة الأعين «وأسلم ابن أبي سرح وحسن إسلامه» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3796 ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله، ما هي عقوبات هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب، ويحاولون التغرير بالناس مدّعين أن الله أنزل عليهم وحياً؟ يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] . وساعة تسمع «لو» هذه تعرف أنها شرطية، وأنت تقول - مثلا - لو جاءني فلان لأكرمته. وحين تقرأ القرآن نجد كثيراً من «لو» ليس لها جواب، لماذا؟ لأن الإتيان بالجواب يعني حصر الجواب الذي لا يمكن للفظ أن يحصره فأنت تتركه للسامع مثلما تجد شاباً يلعب دور الفتوة في الحارة ويتعب سكانها، ثم وقع في أيدي الشرطة وأخذوه ليعاقبوه، فيقول واحد ممن رأوه من قبل وهو يرهق أهل الحارة: آه لو رأيتم الولد الفتوة وهو في يد الشرطة! أين جواب الشرط هنا؟ إنه لا يأتي؛ لأنه يتسع لأمر عجيب يضيق الأسلوب عن أدائه. والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت} ولم يقل لي: ماذا ترى؟ لأنك سترى عجباً لا يؤديه اللفظ. و «الغمرات» هي الشدة التي لا يستطيع الإنسان منها فكاكاً ولا تخلصاً. ويتابع الحق: {والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ} فهل هم ملائكة الموت الذين يقبضون الروح؟ أو الكلام في ملائكة العذاب؟ إنها تشمل النوعين: ملائكة قبض الروح وملائكة العذاب. {والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ} كأن ملائكة قبض الروح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3797 تقول لهم: إن كنتم متأبّين على الله في كثير من الأحكام لقد تأبّيتم على الله إيماناً، وتأبّيتم على الله أحكاماً، وتأبّيتم على الله في تصديق الرسول، فهاهو ذا الحق قد أمرنا أن نقبض أرواحكم، فهل أنتم قادرون على التمرد على مرادات الحق؟ إن كنتم كذلك فليظهر كل منكم مهارته في التأبّي على قبض روحه، أو أن الملائكة يبالغون في النكاية بهم كأن نقول لواحد: اخنق نفسك وأخرج روحك بيديك أو: أخرجوا أنفسكم من العذاب الذي يحيق بكم. «وعذاب الهون» هو العذاب المؤلم وفيه ذلة. وأساليب العذاب في القرآن متعددة، فيقول مرة: «من العذاب المهين» أو وأعد لهم «عذاباً مهيناً» أو ولهم «عذاب أليم» فمرة يكون العذاب مؤلماً لكن لا ذلة فيه، ومرة يكون العذاب مؤلماً وفيه ذلة. وكما أن النعمة فيها تعظيم فالنقمة فيها ذلة. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى، فالله سبحانه منزّه عن أي تشبيه -: قد نجد حاكماً يعتقل إنساناً ويأمر بأن يجلس المعتقل في قصر فخم وله حديقة، لكن حين يأتيه الطعام، يقول له الحارس: خذ اتسمم، وفي ذلك إهانة كبيرة. ولماذا يذيقهم الحق العذاب المهين؟ تأتي الإجابة من الله: {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} . كأن يقول واحد: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء. وهم أيضاً يستكبرون على الآيات التي يؤمن بها العقل الطبيعي، ويقول الحق: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] . ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3798 وقوله الحق: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} أي أن كلاًّ منكم يأتي إلى الله فرداً عما كان له في دنياه من مال أو ولد أو أتباع، جاء كل منهم لله وليس معه الأصنام التي أدّعى أنها شركاء لله، واتخذهم شفعاء له. و «فرادى» جمع «فرْدَان» أو «فريد» مثل «سكارى» جمع «سكران» و «أسارى» جمع «أسير» ، إنهم يأتون إلى الله زُمرا وجماعات، ولكن كل منهم جاء منفرداً عما كان له في الدنيا من مال وأهل وولد وأتباع، بدليل أنه قال: {وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} . و «خوَّله» أي جعل له خَدَمًا من الأتباع ومن المريدين، ومن المقَّدر والمضيَّق عليهم في الرزق ومن العائشين في نعمته، جاء كل منهم منفردا عما له في الدنيا كما خلقكم الله أول مرة، أي كما دخلتم في الدنيا! {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] . وقوله الحق: «جئتمونا» أي كأن الإنسان الذي أذنب يكاد يقدم نفسه للعذاب معترفاً أنه يستحق هذا العذاب إقراراً منه بالذنب، فكأن الإنسان يبلغ منه الحزن على ما فعله والتوبيخ لنفسه التي انصرفت عن الحق فيقول لنفسه: أنت تستحقين العذاب. {وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3799 أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] . و «البيْن» هو ما يفصل أو ما يصل. فعندما نجد اثنين قاعدين وبينهما «بين» فهذا البين فاصل وواصل. فإن اعتبرته واصلاً، أقول: تقطّع هذا، أي وقع التقطع بينكما، وانفصمت الروابط بينكم وتشتت جمعكم، وإن كان البين فاصلا فقد وصلوا أنفسهم بالأصنام. وماذا كانت صلة هؤلاء بالأصنام التي يشركونها في العبادة؟ كانوا يقدمون لها القرابين، وغير ذلك. وهذه الأصنام وكل من جعلوه شريكا مع الله سيفر منهم يوم القيامة. وهكذا يتحقق قوله الحق: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} . ويواصل سبحانه: {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، و «ضلّ» أي تاه وغاب، ما كنتم تبحثون عنهم فلا تجدونهم مصداقا لقوله الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166] . ويقول الحق من بعد ذلك: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3800 بعد ما تكلم الحق عن التوحيد والنبوات، ومن كانوا يعاكسون ويعارضون ويناوئون تلك النبوات ويكذبونها وقالوا فيها الإفك أراد الله أن يلفت خلقه إلى ما أعده لهم استبقاء لحياتهم، وكيف سخّر لهم كل الكون بما فيه. . جماداً ونباتاً وحيواناً، وكأنه سبحانه يوضح: إن كنت لا ترى أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3800 الخالق يستحق عبادتك فانظر إلى ما انعم عليك به من النعم، ومادام العبد المخلوق له كل نعم الخالق الأعلى فلماذا لا يسمع كلمته سبحانه؟ أيها المخلوق أنت تتربى على مائدة الرحمن وهو خالقك فانظر وتأمل واعرف. {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} وساعة تسمع لفظ الجلالة: أي علم واجب الوجود وهو الله، فعليك أن تأخذ لفظ الجلالة بكل ما يدل عليه من صفات الجلال وصفات الجمال ما عرفته وما لم تعرفه؛ لأنه سبحانه خلق الكون كله وهو قيُّوم عليه، وهذا الخلق وتلك القيّومية فعل يقتضي صفات متعددة تقتضي قدرة، وحكمة، وعلماً واسعاً ورحمة، وبسطاً وقبضاً وغير ذلك، وبدلاً من أن يأتي لك بصفات القدرة، وصفات الجمال ويذكرها ويعددها لك يقول سبحانه عن نفسه: «الله» ؛ لأنه الاسم الجامع لكل صفاته. ونحن نقول في بدء كل عمل: بسم الله، وفي ذلك إيجاز لما يحتاج إليه أي عمل، لأن أي عمل يحتاج إلى قدرة، فتقول: باسم القادر، ويحتاج إلى علم فتقول: «باسم العليم» ويحتاج إلى حكمة فتقول: «باسم الحكيم» ويحتاج عزة فتقول: «باسم العزيز» وقد تحتاج إلى قهر عدوك لأنك قد تدخل معه في حرب فتقول: «باسم القاهر» إذن كل عمل يحتاج إلى حشد من صفات الكمال والجلال يخدم الفعل، فبدلاً من أن يقول باسم القادر وباسم الحليم وباسم العليم وباسم القابض، يوفر عليك سبحانه كل ذلك فتقول: بسم الله، لأن اسم الجلالة وهو «الله» هو الجامع لكل صفات الكمال. {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} ، فالق أي شاقق، جاعل الحب والنوى كل منهما فلقتين. «الحب» ما لا نواة له مثيل الشعير والقمح والأرز. وهناك ما له نوى مثل البلح والخوخ، وتجد في قلب النواة شيئا آخر. وهناك نوع آخر له بذور مثل البطيخ، وفي كل بذرة تجد فيها شيئا، فيوضح لك الحق سبحانه وتعالى: إن عظمتي تتجلّى في أنني أخلق الحب وأخلق النوى، وهناك حبوب مفلوقة جاهزة، مثل حبة الفول مثلاً وحبة العدس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3801 وأنت إذا ما نظرت إلى هذه العملية وجدت شيئا عجباً!! فحين تأتي لنواة البلح أو حبة الشعير، وتضعها في الأرض في بيئة استخراجها، وبقليل من الرطوبة، تجد الفلقتين قد خرج منها نبتة وتكاد النواة أن تنفلق ليخرج منها الزبان الضعيف بين الفلقتين، وإن نزعت هذا الجذير تنتهي الحياة. ولذلك وجدنا من يتعجب حين اقتحم أعشاش النمل ووجد في العش قطعاً صغيرة مفتتة بيضاء بجانب العش، واكتشفوا أن هذه هي زبانات الحب الذي يدخله النمل للعش، فلو أن النمل أدخل الحبوب كاملة فقد تأتي لفحة من رطوبة فتكبر هذه الحبة، وتنمو وتصير شجرة تفتك بالعش، فمن الذي هدى النمل إلى أن تفعل هكذا؟ إنه الله. ونجد النمل يفلق حبة نبات «الكزبرة» إلى أربع قطع لأنه لو قطعها إلى اثنتين قد تنبت، من الذي علمه؟ إنه سبحانه: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2 - 3] . والعجيب أنك حين ترى النبتة الضعيفة ساعة أن تخرج إلى الحياة وهي التي ستكون من بعد ذلك جذراً إنها هشة وضعيفة إن أمسكتها بيدك تسحقها، لكنها تخترق قلب الأرض الصلبة التي لو ضربتها بسكين لانكسرت السكين، لكن الجذير الضعيف يدخل في قلب الصخر والأرض، فأي قوة أعطته ذلك؟ أي قوة تخرق له الأرض؟ وهل الجذير هو الذي خرق الأرض أو خُرِقَت له؟ لقد خرق الحق الأرض للبذرة لتستخرج منها غذاء للزرع، إنّها قدرة الحق سبحانه {فَالِقُ الحب} الذي ادخر في فلقتين اثنتين قوتاً للنبات إذا مسته رطوبة تتغذى عليها الزريعة إلى أن تربى الجذور، ويستمد النبات غذاءه من الفلقتين إلى أن يثبت ويتمكن في الأرض ثم تتحور الفلقتان إلى ورقتين خضراوين. ويتابع الحق سبحانه: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} . وحين تامل العلماء هذا القول وأرادوا أن يوضحوا لنا ما الحي؟ وما الميت؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3802 فات الجميع أن يعرفوا ما هي الحياة؟ الحياة هي قيام الموجود بما يؤدي به مهمته، فحياة الإنسان فيها حركة وحس وجري، ثم هناك حياة ثانية في الحيوان، وحياة ثالثة في النبات، وحياة ذات طابع مختلف في الجماد. مثلما علمونا في المدارس حين كان المدرس يمسك بقضيب ممغنط ليجذب برادة الحديد، حتى الحديد الصلب فيه لون معين من الحياة. وكلنا رأينا في المدارس الأنبوية الزجاجية التي وضعوا فيها برادة الحديد وكيف تتأثر بقضيب المغناطيس. وتعتدل وتصير في مستوى واحد، وهكذا نعرف أن الحياة هي الطاقة الموجودة في كل كائن ليؤدي مهمته حتى الأحجار تختلف فيها أشكال الحياة، فهناك حجر يأخذ شكل الرخام، وآخر المرمر، وكل لون من الأحجار له شكل من أشكال الحياة. ونقرأ في القرآن: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] . وجاء الحق بمقابل الهلاك وهو الحياة؛ فالهلاك ضد الحياة والحياة ضد الهلاك، ويقول سبحانه في آية أخرى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] . إذن ما دام كل شيء هالكاً، فكل شيء فيه حياة، والخطأ أن تظن أن كل حياة تتشابه في الحس والحركة مع الإنسان، لا، إن الحياة في كل شيء بحسبه، إلى أن تقوم القيامة، فكل شيء حي له حياة تناسبه، وحين نسمع: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3803 نقول: نعم كل من يسبح بحمده يقول قولا، وإياك أن تقول إنّه تسبيح دلالة؛ لأن بعضهم يقول: إن هذا تسبيح دلالة على الخالق، ونقول: لو أن الذي يقصده الله تسبيح دلالة على خلق لما قال: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} . إذن: فلا أحد منا يفهم لغة التسبيح، وعرفنا من قبل حين سمع سليمان عليه السلام قول النملة وتبسم لها ضاحكاً، وكذلك ما سمعه من الهدهد، وكذلك تسخير الجبال لتسبح مع داود عليه السلام. {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] . إن كل كلمة لها دلالتها ومعناها. فكلمة العلم تدلنا على إحاطة علمه بكل شيء في الوجود، وكلمة الحكمة تدلنا على أن كل شيء منه يصدر عن حكمة. وكلمة الرزاق تدلنا على أن كل مرزوق في الوجود إنما أخذ من فيضه وخيره، وهكذا إلى ما لا نهاية لكماله من صفات ذاته. وكلمة «الله» تدل على كل صفات الجلال والجمال والكمال، فإذا قال: «الله» فهذا الاسم: يشمل القادر، العالم، الحكيم، القدير، وكل صفات الحق ما علمت منها وما لم تعلم، ما دامت ذاته سبحانه وتعالى متصفة بكل صفات الكمال، فالواجب أن يكون كل فعل يصدر عن ذاته المتصفة بالكمال له مطلق القدرة والجمال والكمال. إذن فحين يقول الحق ذلك فإنما يلفتنا إلى أن كل شيء كائن في الوجود إنما هو من خلق الله، وأن له حياة تناسب مهمته؛ فالإنسان له حياة تناسب مهمته. والحيوان له حياة تناسب مهمته. والنبات له حياة تناسب مهمته. والجماد له حياة تناسب مهمته. وإذا نظرت إلى الأشياء كلها بهذا المعنى وجدت أن كل موجود فيه حياة، ولكن الحياة الكاملة بكل مقوماتها وجدت في الأعلى من المخلوقات وهو الإنسان، والله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان الحياة حساً وحركة، ثم أعطاه حياة أخرى هي التي تُصعّد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3804 حياته وتجعل لحياته قيمة؛ لأن حياتنا الني نعيشها إنما يتمتع بها المؤمن والكافر، وقصارى ما فيها أن تعطينا الحس والحركة قدر عمرنا في الحياة، ولكن حياة الإيمان بما يبعثه الله لنا من منهج على يد الرسول. تعطينا حياة أوسع، وأخلد، وأرغد، وهذه هي الحياة الحقة، ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] . وهذه هي الحياة الحقيقية وقول الحق: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} هو المقدمة الأولى للحياة، ثم تكلم عن الحياة وأنه يخرج حياً من ميت، وهو هنا قد خاطبنا على مقدار أوليات علمنا بالأشياء؛ فالشيء إذا لم يكن له حس وحركة نعتبره ميتاً لكن لو نظرت إلى الحقيقة لوجدت كل شيء في الوجود له حياة. مصداق ذلك قوله جلت قدرته: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} . وما دام كل شيء هَالِكاً فكل شيء قبل أن يهلك كان فيه حياة. والله سبحانه القائل: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26 - 27] . ولماذا جاء في هذه الآية ب «تخرج» وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قوله: «ومخرج الميت من الحي» ؟ إنّ الذين بحثوا هذا البحث نظروا نظرة سطحية في المقابلة الجزئية في الآية، وهي: {يُخْرِجُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3805 الحي مِنَ الميت} وقال: {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} نسوا أنه سبحانه قال: إنه يخرج الحي من الميت؛ لبيان أن الله فالق الحب والنوى ليخرج الحي من الميت أي أن الله فلق وشق الحب والنوى لأجل أن يخرج الحي من الميت. . ثم قال: {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} هو مقابل لفالق فلا تأخذها مقابلة للجزئية في الآية؛ ولأن الاسم يدل على الثبوت، والفعل يدل على الحدوث؛ فالحق سبحانه وتعالى له صفة في ذاته، وصفة في متعلقات هذه الذات؛ فهو سبحانه وتعالى رَزّاق، قبل أن يكون له مخلوق يرزقه. وهو رزاق، وبعد ما خلق من يرزقه هو رازق؛ لأنه هو الخالق، والخالق صفة للذات وإن لم يوجد المتعلق، وهو سبحانه المحيي قبل أن يوجد من يحييه؛ لأن صفته في ذاته أنه يحيي، ومميت قبل أن يميت من يريد أن يميته؛ لأن الصفة موجودة في ذاته. وسبحانه فالق الحب والنوى أي قبل أن يوجد الحب والنوى الذي يفلقه، ومخرج الحي من الميت هو صفة ثابتة في ذاته قبل أن يوجد متعلِّقها. وله صفة - أيضاً - بعد أن يوجد المتعلق، فإن أراد الصفة قبل أن يوجد المتعلَّق جاء بالاسم: «فالق ومخرج» . وإن كان يريد الصفة بعد أن توجد، يقول: «يخرج» ، «يخرج» . ويذيل الحق الآية: {ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] . و «ذا» اسم إشارة لما تقدم، وهو سبحانه فالق الحب والنوى ومن يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي وهو الله. والكاف في قوله: {ذلكم} لمن يخاطبهم وهم نحن، أما اللام من {ذلكم} فهي للبعد والميم للجمع. فحين يريد الحق أن يخاطب رسوله، يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3806 {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] . ولكنه هنا يخاطبنا فيقول: {ذلكم} إشارة إلى قول الحق سبحانه وتعالى: الله، وفالق، ومخرج، والخطاب لجمهرة المخاطبين بالقرآن. فإذا كان الله بهذه الصفات فكيف ينصرفون عن الإيمان به وتوحيده؟ وذكر لنا أول مقوم من مقومات الحياة وهو النبات وهو ما نأكله، فإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الحب وخلق النوى ليخرج الحي من الميت وهو مخرج الميت من الحي فهو أولى بأن يكون إلهاً معبوداً فكيف تصرفون عنه؟ {وإلى من تصرفون؟} إلى من توجد فيه صفات أرقى من هذه الصفات؟!! لا يوجد من فيه صفات مثل هذه، ولا أرقى من هذه الصفات. وإذا سمعت كلمة: «أنَّى» فافهم منها أنها تأتي للتعجيب، تأتي وتطلب أن يدلنا واحد على كيفية انصرافهم عن الله وتوحيده مع وضوح الدلالات والبراهين. ومرة يقول الحق سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] . هو سبحانه يخاطب الناس ويقول لهم: كيف تكفرون بالله فالله في ذاته يستحق ألا يكفر به، لأنه هو الذي خلق من عدم، وأمدّ من عُدْم، ولم يشاركه أحد أو ينازعه في هذا الأمر، وإليه نرجع جميعاً، فكيف تكفرون به؟ وهذا تعجيب كبير؛ لذلك يقول سبحانه هنا: {فأنىتؤفكون} أي فكيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون - مع الله - إلها آخر بعد أن تعلموا أن هذه الصفات له - سبحانه - وليست لغيره؟ وكل تعجيب يأتي في «أنّى» مثل قوله الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3807 {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] . أي كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ ويقول سيدنا زكريا لسيدتنا مريم: {أنى لَكِ هذا} إذن فالتعجب ملازم لكلمة «أنّى» فكأن الصفات التي تقدمت صفات موجبة للإيمان بالله واحداً قهاراً مريداً عالماً حكيماً نرجع إليه جميعاً، فقولوا لنا: كيف تكفرون بهذا الإله؟ وإلى من تذهبون إذا كان هذا الإله يُكفر به؟ أهناك شيء ادّعى أنه خلق وأنه رزق؟ لو أن شيئاً ادّعى أنه خلق أو رزق كنا نعذركم، لكن لم يدّع شيء في الوجود بأنه خلق أو رزق، والدعوة تثبت لصاحبها ما لم يقم لها معارض. {فأنى تُؤْفَكُونَ} وكلمة «أنّى تؤفكون» تعني كيف تُصرفون انصرافاً كذباً؛ لأن «الإفك» . معناه الكذب المتعمّد. ويقول الحق من بعد ذلك: {فَالِقُ الإصباح ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3808 وسبحانه يأتي بآية أخرى من الآيات المعجزة كما جاء بالآية الأولى في أنه هو الذي خلق لنا ما يقيم حياتنا. {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً} . ومعنى «فالق» أي جعل الشيء شقين، وهما نعمتان متقابلتان لا تكفي واحدة عن الأخرى، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3808 إذ لا بد أن يوجد إصباح ويوجد الليل سكناً؛ لأن الإصباح هو زمان وضوح الأشياء أمام رؤية العين؛ لأننا نعلم أن الظلمة تجعل الإنسان يضطرب مع الإشياء، فإن كنت أقوى من هذه الأشياء حطمتها، وإن كانت أقوى منك حطمتك. إن السير في الظلمات التي لا يوجد فيها نور يهدي الإنسان إلى مرائيه قد يؤدي إلى خسارة الأشياء. إننّا في الصباح نعمل ونسعى في الأرض، ونملأ الدنيا حركة. فإذا ما أصابنا الكد والتعب والنَّصب من الحركة فالمنطق الطبيعي للكائن الحي أن يستريح ويهدأ ويسكن لا بحركته فقط ولكن بسكون كل شيء حوله؛ لأنك إن كنت ساكناً ويأتي لك ضوء فهو يؤثر في تكوينك، ولذلك يقولون الآن: إن «الأشعة» التي يكتشفون بها أسرار ما في داخل جسد الإنسان تترك آثاراً. إذن فالإشعاع الصادر عن الشمس يمنعه عنك الله ليلاً حتى يستريح الجسم من كل شيء، من كل حركة ناشئة فيه، ومن حركة وافدة عليه، وهكذا تكون نعمة سكون الليل وظلمته مثل نعمة الصباح، وكلاهما تتمم الأخرى، ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى في أول السورة قدّم الظلمات على النور: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] . لأنك لا تستطيع أن تنتفع بحركتك في النور إلا إذا كنت نشيطاً ومرتاحاً أثناء الليل. فإن لم ترتح كنت مرهقاً ولن تستطيع العمل بدقة في حركة النهار. إذن فالظلمة مقصودة في الوجود. ولذلك فالحضارة الراقية هي التي تنظم حياة الإنسان ليعمل نهارا ويستريح ليلاً، حتى لا يستأنف عمله في الصباح مكدوداً. ومن يزور ريف مصر هذه الأيام يفاجأ بأن أهل الريف قد سهروا طوال الليل مع أجهزة الترفيه، ويقومون إلى العمل في الصباح وهم مكدودون مرهقون. ونقول: لنأخذ الحضارة من قمتها، ولا نأخذ الحضارة من أسفلها؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3809 فحين تذهب إلى أوروبا تجد الناس تخلد وتسكن ليلاً، ومن يسير في الشارع لا يسمع صوتاً ولا يجد من يخرج من بيته، ولا تسمع صوت ميكروفون في الشارع؛ حتى ينال كل إنسان قسطه من الهدوء، ويختلف الأمر في بلادنا: فالشوارع تمتلئ بالضجيج، والمريض لا يستطيع أن يرتاح، ومن يذاكر لا يجد الهدوء اللازم، ومن يتعبد تخرجه الضوضاء من جوّ العبادة، ونجد من يصف ذلك بأنه نقلة حضارية!! ونقول: لتأخذ كل نعمة من نعم الله على قدر معطياتها في الوجود النافع لك، وحين يأتي الليل عليك أن تطفئ المصباح حتى تهجع ولا تتشاغب فيك جزئياتك وتكوينك. وسبحانه يقول: {فَالِقُ الإصباح} و {فَالِقُ} - كما قلنا - تعني شاقق، فهل الإصباح ينفلق؟ . وبماذا؟ . ونقول: إن {فَالِقُ} هي اسم فاعل، مثلما نقول: «قاتل الضربة» أي أن الضربة من يده قاتلة. و {فَالِقُ الإصباح} معناها أن الصباح ينفلق عن الظلمة؛ لأن الظلمة متراكمة وحين يأتي الإصباح فكأنه فلق الظلمة وشقها ليخرج النور، وتعني {فَالِقُ الإصباح} أيضاً أن الفلق واقع على الإصباح فيأتي من بعده الظلام، وهذه من دقة الأداء البياني في القرآن؛ لأن الذي يتكلم إله. وامرؤ القيس قال: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل والصبح والإصباح معناهما واحد. هل الصبح من طلوع الشمس؟ أو الصبح من ظهور الضوء قبل أن تشرق الشمس؟ يأتي الإصباح أولا وهو النور الهادئ، ونجد أطباء العيون بعد إجراء جراحة ما لإنسان في عينيه يقومون بفك الأربطة التي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3810 تساعد الجرح على الالتئام، يفكونها بالتدريج حتى لا يخطف الضوء البصر فوراً، ومن رحمة الله أن خلق فترة الصبح بضوئها الهادئ قبل أن تطلع الشمس بضوئها كله دفعة واحدة. فكأن الصبح جاء ليفلق ظلمة الليل فلقاً هادئاً، ثم جاءت الشمس ففلقت الصبح. إذن الإصباح فالق مرة لأنه شقّ الظلمة وفلقها ومفلوق مرة أخرى؛ لأن الظلمة جاءت بعده. إذن فاسم الفاعل قد أدى مهمتين. . المهمة الأولى: فالق الإصباح. أي دخل بضوء الشمس. وإن قلنا: إصباحه فالق، أي ظلمة الليل الأوى انفلقت. إذن فالإصباح فالق مرة، ومفلوق مرة أخرى. وسبحانه حين يقول: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً} يريد أن يعطي شقين اثنين؛ لأنه هو في ذاته فالق الإصباح. فيأتي بالاسم ليعطي لها صفة الثبوت، ثم جاء ب {وَجَعَلَ الليل سَكَناً} صفة الحدوث بعد وجود المتعلّق. فإذا أراد الصفة اللازمة له قبل أن يوجد المتعلق يأتي بالاسم. وإن أراد الصفة بعد أن وجد المتعلّق يأتي بالفعل. ولذلك نجد القرآن الكريم يصور الثبات في قوله الحق: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18] . الكلب هنا على هذه الصورة الثابتة، وحين يريد القرآن أن يأتي بالصفة التي تتغير، يأتي بالفعل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] . وكان القياس أن يقول: فأصبحت الأرض مخضرة؛ لأنه قال: «أنزل» لكنه يأتي بالتجدد الذي يحدث {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} . ويتابع الحق: {والشمس والقمر حُسْبَاناً} ونحن نعرف الشمس والقمر وجاء بعد ذلك بكلمة {حُسْبَاناً} ، على وزن فُعْلان، وهذا ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3811 يدل عادة على المبالغة مثلما تقول: فلان والعياذ بالله كفر كفراناً. ومثلما تدعو: غفر الله لك غفراناً. فحين تحب أن تبالغ تأتي بصيغة فُعْلان. وجاء القرآن بكلمة «حسبان» في موضعين اثنين فيما يتصل بالشمس والقمر جاء بها هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها {والشمس والقمر حُسْبَاناً} ، وفي سورة الرحمن يقول الحق سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] . وما الفرق بين التعبيرين؟ «حسبان» هنا تعني أن تحسب الأشياء، فنحن نحسب السنة بدورة الشمس ب 365 يوماً وربع اليوم وهي تمر بالبروج فيها خلال هذه المدة، والقمر يبدأ بروجه كل شهر في ثمانية وعشرين يوماً وبعض اليوم، ونحن نحسب بالشمس اليوم، ونحسب بها العام، ولكنا نحسب الشهر بالقمر، وأنت لا تقدر أن تحسب الشهر بالشمس، بل تحسب الشهر بالقمر لأنه يظهر صغيراً ثم بكبر ويكبر ويكبر. ولذلك يثبت رمضان عندنا بالقمر لا بالشمس. واليوم نثبته بالشمس. وهكذا عرفنا أن الشمس والقمر ويعملان في حسابنا للأيام والشهور، والاثنان حسبان: الشمس لها حساب، والقمر له حساب وإذا ما نظرت إلى كلمة «حسبان» تفهم أن الشمس والقمر، كليهما مخلوق ليحسب به شيء آخر؛ لأنهما خلقتا بحسبان، أي أنهما قد أريد بهما الحساب الدقيق، لأن الشمس مخلوقة بحساب، وكذلك القمر. وتعال إلى الساعة التي نستعملها، ألا يوجد بها عقرب للساعات، وآخر للدقائق، وثالث للثواني؟ . وهذا أقل ما قدرنا عليه، وإن كان من الممكن أننا نقسم الثانية إلى أجزاء مثلما عملنا في المساحات؛ فهناك المتر، والسنتيمتر، والملليمتر، ثم بعد ذلك قلنا الميكروملليمتر. إذن، كلما نرتقي في التقدم العلمي نحسب الحساب الأدق. ولم تكن الشمس والقمر حساباً لنا نحسب بهما الأشياء إلا إذا كانت مخلوقة بحساب. إنك حين تنظر إلى ساعتك تدرك قفزة عقرب الثواني ولكنك لا تدرك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3812 حركة عقرب الدقائق، وكذلك لا تدرك حكة عقرب الساعات، وكل من العقارب الثلاثة يدور «بزمبلك» وترس معين. إن اختلت الحركة في زمبلك أو ترس، ينعكس هذا الخلل على بقية العقارب، والثانية محسوبة على الدقيقة، والدقيقة محسوبة على الساعة. وهكذا فإن لم تكن الساعة مصنوعة بهذا الحساب الدقيق فهي لن تعمل جيداً. وهكذا لا نعتبر الساعة معيارا لحساب أزماننا إلا أنها في ذاتها خلقت بحساب. والحق سبحانه يقول: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} أي لنحسب بهما لأنهما مخلوقتان بحسبان. أي بحساب دقيق، ولماذا لم يقل الحق حساباً وجاء بحسبان هنا، وحسبان في آية سورة الرحمن؟ . ذلك لأن الأمر يقتضي مبالغة في الدقة. فهذا ليس مجرد حساب، لكنه حسبان. ويذيل الحق الآية بقوله: {ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم} ، وكلمة «العزيز» تفيد الغلبة والقهر فلا يستطيع أحد أن يعلو عليه؛ فهذه الأجرام التي تراها أقوى منك ولا تتداولها يدك، إنّها تؤدي لك مهمة بدون أن تقرب منها؛ فأنت لا تقترب من الشمس لتضبطها، مثلما تفعل في الساعة التي اخترعها إنسان مثلك، والشمس لها قوة قد أمدها الله خالقها بها ولا شيء في صنعته ولا في خلقه يتأبّى عليه. فهذا هو تقدير العزيز العليم، وهو سبحانه يعطينا حيثيات الثقة في كونها حسبانا لنحسب عليها. فهو جل وعلا خالقها بتقدير عزيز لا يغلب، وهو عزيز يعلم علما مطلقا لا نهاية له ولا حدود. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3813 وبعد أن أوضح سبحانه أنه قد خلق الشمس والقمر بحسبان لتكون حسابا بتقدير منه، وهو العزيز العليم، إنه - سبحانه - يصف لنا مهمة النجوم فقال: {لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر} ، والنجوم هي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3813 الأجرام اللامعة التي نراها في السماء لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر؛ ومن رحمته بنا وعلمه أن بعض خلقه ستضطرهم حركة الحياة إلى الضرب في الأرض؛ والسير ليلا في الأرض أو البحر مثل من يحرسون ويشيعون الأمن في الدنيا ولا يمكن أن يناموا بالليل. بل لا بد أن يسهروا لحراستنا، كل ذلك أراده الله بتقدير عزيز حكيم عليم، ولذلك ترك لنا النجوم ليهتدي بها هؤلاء الذين يسهرون أو يضربون في الأرض أو يمشون في البحر بسفنهم، وهم يحتاجون إلى ضوء قليل ليهديهم، ولذلك كان العرب يهتدون بالنجوم؛ يقول الواحد منهم للآخر: اجعل النجم الفلاني أمام عينيك، وسر فوق الحي الفلاني. واجعل النجم الفلاني عن يسارك وامش تجد كذا، أو اجعل النجم الفلاني خلفك وامش تجد كذا. إذن لو طمّت الظلمة لمنّعت الحركة بالليل، وهي حركة قد يضّطر إليها الكائن الحي، فجعل الحق النجوم هداية لمن تجبرهم الحياة على الحركة في الليل. وعلى ذلك فالنجوم ليست فقط للاهتداء في ظلمات البر والبحر؛ لأنه لو كان القصد منها أن نهتدي بها في ظلمات البر والبحر، لكانت كلها متساوية في الأحجام، لكنا نرى نجماً كبيراً، وآخر صغيراً، وقد يكون النجم الصغير أكبر في الواقع من النجم الكبير لكنه يبعد عنا بمسافة أكبر، وعلى ذلك لا تقتصر الحكمة من النجوم على الهداية بها في حركة الإنسان براً وبحراً، فليست هذه هي كل الحكمة، هذه هي الحكمة التي يدركها العقل الفطري أولا؛ لذلك يأتي الحق في أمر النجوم بقول كريم آخر ليوضح لنا ألا تحصر الحكمة في الهداية بها ليلاً براً وبحراً فيقول: {وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} فلم يقل - سبحانه - يهتدون في ظلمات البر والبحر. إذن - النجوم - لها مهمة أخرى، إنه جلت قدرته يقول: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76] . وكل يوم يتقدم العلم يبين لنا الحق أشياء كثيرة، فها هو ذا المذنب الذي يقولون عنه الكثير، وها هي ذي نجوم جديدة تكتشف تأكيداً لقول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3814 {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] . أي أنه سبحانه قد خلق عالماً كبيراً. وأنت أيها الإنسان قد أخذت منه على قدر إدراكاتك وامتداداتك في النظر الطبيعي الذي لا تستخدم فيه آلة إبصار، وأخذت منه بالنظر المعان الذي تستخدم فيه التليسكوب والميكروسكوب، وغير ذلك من اقمار صناعية ولذلك يقول الحق سبحانه: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} وبعض العلماء يقول: إن كل إنسان يوجد في الوجود له نجم، وترتبط حياته بهذا النجم، وحين يأفل النجم يأفل قرينه على الأرض، وهناك نجوم لامعة ندرك خفقانها، ونجوم أخرى غير لامعة وبعيدة عنا، ويقال إنها تخص أناساً لا يدري بهم أحد لقلة تأثيرهم بأعمالهم في الحياة. ويتقدم العلم كل يوم ويربط لنا أشياء بأشياء وكأن الحق يوضح: إنني خلقت لكم الأشياء مِمّا قَدَرْتم بعقولكم أن تصلوا إلى شيء من الحكمة فيها، ولكن لا تقولوا هذه منتهى الحكمة، بل وراءها حِكَم أعلى، فسبحانه هو الحكيم القادر، إنك قد تدرك جانبا يسيرا من حكم الله، ولكن عليك أن تعلم أن كمال الله غير متناه، ولا يزال في ملك الله ما لا نستطيع إدراك حكمته إلى أن ينهي الله الأرض ومن عليها. ويقول الحق سبحانه في تذييل الآية: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} والآية هي الشيء العجيب، وتطلق على آيات كونية: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37] . وتطلق كلمة «آية» على الطائفة من القرآن التي لها فاصلة. إذن هناك آيات قرآنية، وآيات كونية، والآيات الكونية تعتبر مفسرة للآيات القرآنية؛ فتفصيل الآيات في الكون ما نراه من تعددها أشكالاً وألواناً وحكماً وغايات. وتفصيل الآيات في القرآن هو ما ينبهنا إليه الحق في قرآنه وليلفت النظر إلى أن ذلك التفصيل في آيات الكون وذلك الخلق العجيب الحكيم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3815 الذي لا يمكن أن يكون إلا لإله قادر حكيم يستحق أن يكون إلهاً موحَّداً، ويستحق أن يكون إلهاً معبوداً. ويقول الحق بعد ذلك: {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3816 وقد تكلم سبحانه لنا - أولاً - عن الآيات المحيطة بنا والتي بها قوام حياتنا من فلق الحب والنوى، وبعد ذلك تكلم عن الشمس والقمر، ثم تكلم عن النجوم، كل هذه آيات حولنا، ثم يتكلم عن شيء في ذواتنا ليكون الدليل أقوى، إنه - سبحانه - يأتي لك بالدليل في ذاتك وفي نفسك؛ لأن هذا الدليل لا يحتاج منك إلى أن تمد عينيك إلى ما حولك، بل الدليل في ذاتك ونفسك، يقول سبحانه: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] . أي يكفي أن تجعل من نفسك عَالَماً، هذا العلم موجود فيه كل ما يثبت قدرة الحق، وأحقيته بأن يكون إلهاً واحداً، وإلهاً معبوداً. {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ينطبق على هذا القول أنه إخبار من الله، وأنه - أيضاً - استقراء في الوجود، الذي نسميه التنازل للماضي؛ لأنك لو نظرت إلى عدد العالم في هذا القرن، ثم نظرت إلى عدد العالم في القرن الذي مضى تجده نصف هذا العدد، وإذا نظرت إليه في القرن الذي قبله، تجده ربع تعداد السكان الحاليين. وكلما توغلت في الزمن الماضي وتذهب فيه وتبعد، يقل العدد ويتناهى إلى أن نصل إلى {نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، وهذا ما ذكره الله لنا، ولقائل أن يقول: كيف تكون نفساً واحدة وهو القائل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3816 {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] . ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى خلق النفس الواحدة، وأوضح أيضاً أنه خلق من النفس الواحدة زوجها، ثم بدأ التكاثر. إذن فالاستقراء الإحصائي في الزمن الماضي يدل على صدق القضية. وكذلك كل شيء متكاثر في الوجود من نبات ومن حيوان. تجدها تواصل التكاثر وإن رجعت بالإحصاء إلى الماضي تجد أن الأعداد تقل وتقل إلى أن تنتهي إلى أصل منه التكاثر إنّه يحتاج إلى اثنين: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} [يس: 36] . ولماذا جاء الحق هنا بقوله: {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ولم يقل زوجين؟ أوضح العلماء أن ذلك دليل على الالتحام الشديد؛ لأننا حين نكون من نفس واحدة فكلنا - كل الخلق - فيها أبعاض من النفس الواحدة، وقلنا من قبل: إننا لو أتينا بسنتيمتر مكعب من مادة ملونة حمراء مثلاً ثم وضعناها في قارورة، ثم رججنا القارورة نجد أن السنتيمتر المكعب من المادة الحمراء قد ساح في القارورة وصار في كل قطرة من القارورة جزء من المادة الملونة، وهب أننا أخذنا القارورة ووضعناها في برميل، ثم رججنا البرميل جيداً سنجد أيضاً أن في كل قطرة من البرميل جزءاً من المادة الملونة، فإذا أخذنا البرميل ورميناه في البحر فستنساب المادة الملونة ليصير في كل قطرة من البحر ذرة متناهية من المادة الملونة. إذن ما دام آدم هو الأصل، وما دمنا ناشئين من آدم، وما دام الحق قد أخذ حواء من آدم الحي فصارت حية، إذن فحياتها موصولة بآدم وفيها من آدم، وخرج من آدم وحواء أولاد فيهم جزء حي، وبذلك يردنا الحق سبحانه إلى أصل واحد؛ ليثير ويحرك فينا أصول التراحم والتواد والتعاطف. ويقول سبحانه: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} والمستقر له معان متعددة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3817 يشرحها الحق سبحانه وتعالى في قرآنه. وفي قصة عرش بلقيس نجد سيدنا سليمان يقول: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] . وأجاب على سيدنا سليمان عفريت من الجن، وكذلك أجاب من عنده علم من الكتاب. ويقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} [النمل: 40] . مستقر هنا إذن تعني حاضراً؛ لأن العرش لم يكن موجوداً بالمجلس بل أحضر إليه. وفي مسألة الرؤية التي شاءها الحق لسيدنا موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] . ونعلم أن جبريل كان له استقرار قبل الكلام، إذن ف «استقر» تأتي بمعنى حضر، وتأتي مرة أخرى بمعنى ثبت. والحق يقول: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} [الأعراف: 24] . وذلك بلاغ عن مدة وجودنا في الدنيا، وكذلك يقول الحق: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] . إذن فالجنة أيضاً مستقر، وكذلك النار مستقر للكافرين، يقول عنها الحق: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 66] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3818 إذن فمستقر تأتي بمعنى حاضر، أو ثابت، أو كتعبير عن مدَّة وزمن الحياة في الدنيا، والجنة أيضاً مستقر، وكذلك النار. ولذلك اختلف العلماء ونظر كل واحد منهم إلى معنى، منهم من يقول: «مستقر» في الأصلاب ثم استودعنا الحق في الأرحام. ومنهم من رأى أن «مستقر» مقصود به البقاء في الدنيا ثم نستودع في القبور. ونقول: إن الاستقرار أساسه «قرار» حضور أو ثبات، وكل شيء بحسبه، وفيه استقرار يتلوه استقرار يتلوه استقرار إلى أن يوجد الاستقرار الأخير، وهو ما يطمع فيه المؤمنون. وهذا هو الاستقرار الذي ليس من بعده حركة، أما الاستقرار الأول في الحياة فقد يكون فيه تغير من حال إلى حال، لقد كنا مستقرين في الأصلاب، ثم بعد ذلك استودعنا الحق في الأرحام، وكنا مستقرين في الدنيا ثم استودعنا. في القبور. حتى نستقر في الآخرة. إن كل عالم من العلماء أخذ معنى من هذه المعاني. والشاعر يقول: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوماً أن ترد الودائع ونلحظ أن هناك كلمة «مُسْتَقَرّ» وكلمة «مستودع» ، و «مستودع» هو شيء أوقع غيره عليه أن يودع. ولكن «مُسْتَقَرّ» دليل على أن المسألة ليست خاضعة لإرادة الإنسان. فكل واحد منا «مُسْتَقَرّ» به. ويقول الحق: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} والتفصيل يعني أنه جاء بالآيات مرة مفصلة ومرة مجملة؛ لأن الأفهام مختلفة، وظروف الاستقبال للمعاني مختلفة، فتفصيل الآيات أريد به أن يصادف كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3819 تفصيل حالة من حالات النفس البشرية؛ لذلك لم يترك الحق لأحد مجالاً في ألا يفقه، ولم يترك لأحد مجالاً في ألا يتعلم، ونلحظ أن تذييل الآيتين المتتابعتين مختلف؛ فهناك يقول سبحانه: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98] . و «الفقه» هو أن تفهم، أي أن يكون عندك ملكة فهم تفهم بها ما يقال لك علْماً، فالفهم أول مرحلة والعلم مرحلة تالية. وأراد الحق بالتفصيل الأول في قوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الدعوة للنظر في آيات خارجة عن ذات الإنسان، وهنا أي في قوله سبحانه: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} لفت للنظر والتدبر في آيات داخلة في ذات الإنسان. ويقول الحق بعد ذلك: {وَهُوَ الذي أَنزَلَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3820 كان السياق يقتضي أن يقول سبحانه: أنزل من السماء ماء «فأخرج» . لكنه هنا قال: «فأخرجنا» ؛ لأن كل شيء لا يوجد لله فيه شبهة شريك؛ فهو من عمله فقط، ولا يقولن أحد إنه أنزل المطر وأخرج النبات لأن الأرض أرض الله المخلوقة له والبذور خلقها الله، والإنسان يفكر بعقل خلقه الله وبالطاقة المخلوقة له. وأنت حين تنسب الحاجات كلها إلى صانعها الأول، فهو إذن الذي فعل، لكنه احترم تعبك، وهو يوضح لك: حين قال: «فأخرجنا» أي أنا وأسبابي التي منحتها لك، أنا خلقت الأسباب، والأسباب عملت معك. فإذا نظرت إلى مسبب الأسباب فهو الفاعل لكل شيء. وإن نظرت إلى ظاهرية التجمع والحركة فالأسباب التي باشرها الإنسان موجودة؛ لذلك يقول: «فأخرجنا» . وسبحانه جل وعلا قد يتكلم في بعض المواقف فيثبت للإنسان عملاً لأنه قام به بأسباب الله الممنوحة له، ولكنه ينفي عنه عملاً آخر ليس له فيه دخل بأي صورة من الصور؛ مثل قوله الحق: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 63 - 64] . سبحانه هنا ينسب لنا الحرث لأننا قمنا به ولكن بأسباب منه - سبحانه - فهو الذي أنزل لنا الحديد الذي صنعنا منه المحراث وهدانا إلى تشكيله بعد أن ألانه لنا بالنار التي خلقها لنا، وبالطاقة التي أعطانا إياها، أما الزراعة فليس لأحد منا فيها عمل ولذلك يقول سبحانه: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] . هنا - سبحانه - أتى باللام في قوله تعالى: (لجعلناه) للتأكيد؛ لأن الإنسان له في هذا الأمر عمل، إنه حرث وتعهد ما زرعه بالريّ والكد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3821 حتى نما وأثمر، لكن قد تصيبه آفة تقضي عليه، فالأسباب وإن كانت قد عملت إلا أنها لا تضمن الانتفاع بثمرة الزرع، ذلك لأن الأسباب لا تتمرد، ولا تتأبى على الله ولا تخرج عليه، إنها تؤدي ما يريده منها الله، وقد يعطلها سبحانه. أما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} ، إنه سبحانه لم يقل لجعلناه، لأنه ليس لأحد فيه عمل لذلك لم يؤكده باللام. ويقول سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 71 - 73] . إن كل شيء يذكره الحق يذكر معه أيضاً ما ينقضه، ذلك حتى لا يُفْتَن الإنسان بوجود الأشياء، وعليه أن يستقبل الأشياء مع إمكان إعدامها. وإذا ما كان الإنسان هو الذي يحرث فالحق بطلاقة قدرته قد يجعل النبات حطاماً، ومن قبل قال عن مقومات الحياة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} [الواقعة: 58 - 59] . ثم جاء سبحانه بما ينقضه فقال: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} . أما عن النار فلم يقل - سبحانه - إنه يقضي عليها ويخمدها ويطفئها، إنه - جل شأنه - أبقاها ليعلمنا ويذكرنا بنار الآخرة {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} أي لا بد أن نتركها أمامكم حتى لا يغيب عنكم العذاب الآخروي {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} أي ونتركها - جون نقض لها وذلك لأمر آخر هو المنفعة في الدنيا للذين ينزلون أماكن خالية قفراء أو للذين خلت بطونهم وأوعيتهم ومزاودهم من الطعام لأن النار تنفعهم وتساعدهم على إعداد طعامهم استبقاء لحياتهم: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3822 والشيء هو ما يُخْبَر عنه؛ الهباءة شيء، والذرة شيء وكل حاجة اسمها شيء، ومعنى نبات كل شيء: أن كل حاجة مثل النبات تماماً. رأينا الحجارة التي يقول عنها العلماء هذه جرانيت، وتلك الرخام وتلك مرمر، ولو نظرت إلى أصلها وجدتها أعماراً للحجارة، طال عمر حجر ما فصارا فحماً، وطال عمر آخر فصار جرانيتاً، وهكذا. وكل حاجة لها حياة لتثبت لنا القضية الأولى، وهي: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] أو نبات كل شيء ترون فيه نمواً وحياة، والعقل الفطري يأخذها هكذا، لكن العقل المستوعب يأخذ منها قضايا كثيرة، ويتغلغل في الكون ويجد الآية سابحة معه وهو سابح معها. ويتابع سبحانه: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} وإذا قلت كلمة «خَضِر» فقد تعني اللون المعروف لنا وهو الأخضر، لكن «خضر» فيها وصف زائد قليلاًً عن أخضر؛ لأن «أخضر» يخبر عن لون فقط، واللون متعلقة العين، لكن «خضر» يعطي اللون، ويعطي الغضاضة ونعرفها «بالحس» . وحين تلمسه تجد النعومة. إذن «خضر» فيها أشياء كثيرة؛ «لون» متعلق العين، و «غضاضة» نعرفها بالحس وفيها نعومة نعرفها باللمس. وهذا اللون الأخضر يكون داكناً جداً أي أن خضرته شديدة حتى أنها تضرب إلى السواد؛ لذلك نسمع من يقول: «سواد العرق» أي الأرض الخصبة التي في العراق، ويسمونها سواد العرق لأنها خضراء خضرة شديدة ولذلك تكون مائلة إلى السواد، ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 62 - 64] . و «مدهامة» أي مثل دهمة الليل؛ كأنها من شدة خضرتها صارت كدهمة الليل. ويتابع الحق {خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} والحب هو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3823 ما ليس له نواة مثل حبة الشعير وحبة القمح وحبة العدس وحبة اللوبيا. و «متراكبا» تعني أنه حب مرصوص متساند. {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} والنخل عند العرب له مكانة عالية لأنه يعطي لهم الغذاء الدائم فيذكرهم به {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} . و «الطلع» هو أول شيء يبدو من ثمر النخل، وهو ما نسميه في الريف «الكوز الأخضر» وهو في الذكر من النخل الذي يسمى «الفحل» ويوجد أيضاً في الأنثى، وأول ما يبدو من ثمر النخل يسمى الطلع، ثم ينشق الطلع ويخرج منه القنو أو العزق أو العرجون، وهو الجزء الذي توجد فيه الشماريخ التي يتعلق بها البلح. والطلع إذن هو الثمرة الأولى للنخلة قبل أن تنشق ويطلع منها القنوان وهو «السباطة» كما نسميها في الريف. «قنوان دانية» ويصفها الحق بأنها دانية لأنك حين تنظر طلع النخيل أول ما يطلع تجده ينشق ويحمي نفسه بشوك الجريد حتى لا تأكله الحشرات ثم يثقل وينحني ويكاد ينزل على الأرض فيكون دانياً قريبا، فإن كانت هناك «سباطة» شاذة تجد من يجنيها يُدخل يده بين الشوك ليصل إليها. وسبحانه يترك لنا فلتات لنعرف نعمة الله في أنه جعلها تتدلى لأنها لو كانت كلها دانية. قد لا يلتفت إليها، لذلك يترك واحدة بين الشوك ليتعب الإنسان حتى يحصل عليها لتعرف أنه سبحانه قد دنّى لك الباقي وهذه نعمة من الله. ويُطلق الطلع مرة على الأكمام و «الكِم» هو ما توجد في قلبه الثمار، ومرة يطلق على الثمر نفسه: {والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10] . وأنت ترى البلح نازلاً من «الشماريخ» ، وكل شمروخ به عدد من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3824 البلح، ثم ترى «الشمروخ» متصلاً بالأم، وفي ذلك ترى عظمة الهندسة العجيبة في ترتيب الثمار. وكل شيء محسوب في هذا الأمر بهندسة عجيبة وعندما ننظر إلى ما تعلمناه في حياتنا حين نصمم شبكة توصيل المياه وشبكة الصرف الصحي، إن شبكة المياه التي تعطينا الذي نستخدمه، وشبكة الصرف الصحي التي تأخذ الزائد من المياه والفضلات. عندما تنظر إلى هذه الشبكة أو تلك تجد هندسة كل منها دقيقة؛ لأن أي غفلة في التصميم تسبب المتاعب. فحين تريد توصيل المياع إلى حارة؛ فأنت تستخدم ماسورة قطرها كذا بوصة، وفي الحارة هناك عطفات فتحضر لكل عطفة ماسورة أقل قطراً من الأولى، ثم ماسورة أقل للبيوت، وماسورة أقل بكثير لكل شقة، لقد قام المهندسون بحساب دقيق لهذه المسائل. فإذا كانت هذه هي هندسة البشر، فما بالنا بهندسة الخالق؟ أنت تجد العزق: وهو حامل الرطب يأخذ من النخلة، وكل نخلة فيها كذا «سباطة» وفي كل «سباطة» هناك «الشماريخ» ، ثم هناك البلح وكل بلحة تأخذ شعرة لغذائها. وهكذا نجد كل شيء محسوباً بدقة بالغة. إنها هندسة كونية عجيبة مصنوعة بقول الحق: كن، وصدق الله القائل: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2 - 3] . {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} وكلمة {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} لم نكن نعرف ما وراءها، كنا نعرف فقط أن السماء هي كل ما علاك فأظللك، والماء يأتي من السحاب، وكلنا نرى السماء تمطر. وكلنا نعرف التعبير الفطري الذي يقول: غامت السماء، ثم أمطرت، وهناك من قال: تضحك الأرض من بكاء السماء لأنها تستقبل الماء الذي يروي ما بها من بذور. لكن ما وراء عملية الإنزال هذه؟ إن هناك عملية أخرى تحدث في الكون دون شعور منا، عرفناها فقط حين تقدم العلم وحين قمنا بتقطير المياه، فأحضرنا موقداً ووضعنا فوقه قارورة ماء، وحين وصل إلى نقطة الغليان خرج البخار، وسار البخار في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3825 الأنابيب ومرت الأنابيب في أوساط باردة فتكثفت المياه ونزلت ماء مقطراً، ومثل ذلك يحدث في المطر، وانظر كم يكلفنا كوب واحد من الماء المقطر الذي نشتريه من الصيدلية؟ وقارن ذلك بالسماء التي تنزل بماء منهمر، ولا ندري كيق صُنع. ولذلك يقول الحق: {أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون} [الواقعة: 69] . هكذا ينزل الماء من السماء، ولم نكن نعرف كيف يحدث ذلك وسبحانه يقول هنا: {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِه} [الأنعام: 99] . وحين يقول سبحانه {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِه} نصدق، مثال حبة الخوخ، هناك حبة من نوع نسميه «الخوخ السلطاني» ، حين تمسك بالثمرة الواحدة تنفلق لتخرج البذرة نظيفة، وحبة أخرى نفلقها نحن فتجد البذرة فيها بعض لحم الفاكهة ونجد فيها أيضا بعضاً من الألياف. وهذه لها لون والأخرى لها لون، هذه لها طعم وتلك لها طعم مختلف. {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل} [الرعد: 4] . هذا ليعرف الإنسان أن طلاقة القدرة تحقق ما يريده الخالق، وبعد ذلك تلتفت فتجد الفصائل، فهذا برتقال منه بسرّة، ومنه برتقال بلدي. وبرتقال بدمّه ثم اليوسفي. ولذلك سنجد في الجنة ما يحدثنا عنه سبحانه فيقول: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة: 25] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3826 وحين يأكل منه ساكن الجنة يكتشف أن لفاكهة الجنة طعما مختلفا. ومن طلاقة القدرة أنه بعد التحليلات التي قام بها العلماء المعمليون - جزاهم الله عنا خيراً - ل «حبة العنب» وجدوا أن القشرة التي تغلفها لها طبيعة «البارد» و «اليابس» ، واللحم لحبة العنب طبيعته مختلفة «حار رطب» ثم البذرة «بارد يابس» ، وهذه ثلاث طبائع في الحبة الواحدة، وهذا شيء عجيب التكوين. وكذلك «الأترجة» وهي فاكة كالنارنج تجد القشرة «حارة يابسة» ، واللحم فيها «بارد رطب» ، والسائل الذي في اللحم «بارد يابس» والبذرة «حار يابس» ، طبائع أربعة في الشيء الواحد، كيف؟ وبأية قدرة؟ إن العلماء قد تعبوا حتى عرفوا تكوينها ليظهروا لنا المسألة، وتلتفت لتجد ثمرة تأكل ظاهرها، وباطنها بذرة، وثمرة ثانية تأكل ما في داخلها كالجوز أو اللوز، وتقشر القشرة وتلقيها، والخوخة تأكل لحمها وتترك بذرتها، وذلك لتعرف أن المسألة ليست آلية خلق بل إبداع خالق. وتجد الشيء له اللون، واللون بلا طعم، ثم الرائحة المميزة وكل ذلك دليل على طلاقة القدرة. وهذا هو السبب في أن الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن ثمار الجنة يأتي بثمار مثلها في الدنيا؛ لأنه لو أحضر ثماراً ليس لها مثيل في الدنيا لقال الإنسان: هذه طبيعة الثمار، ولو وجدت في الدنيا لكان لها طعم مماثل. لكن هاهي ذي تتشابه، وطعومها مختلفة. . إنها طلاقة القدرة. ويقول الحق: {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} الحق سبحانه وتعالى لا يعطي الإنسان حتى يملأ بطنه فحسب لا، ولكنه يغذي كل الملكات في النفس الإنسانية حتى ملكات الترف، وملكات الجمال، وملكات الحسن، فيوضح لك قبل أن تأكل: انظر للثمر وشكله! لتغذي عينيك بالمنظر الجميل حين ترى الثمرة طالعة وتتبعها حتى تنضج، إنّها مراحل عجيبة تدل على أن الصانع قيّوم، وكل يوم لها شكل مختلف وحجم مختلف، وإن أكلتها اليوم فستجد طعمها يختلف عما إذا أكلتها بعد ذلك بيوم، وهذا دليل على أن خالقها قيّوم عليها. ما دامت كل لحظة من اللحظات فيها شكل، وفيها لون وفيها طعم وفيها رائحة جديدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3827 {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} ، و «ينعه» أي وصلت إلى النضج وذلك إشاعة للتمتع بنعم الكون لأن النظر إلى الثمر لا يعني أنني أملكه، فقد أراه في حقل جاري وأنظر له وأتمتع بشكله. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يشيع الانتفاع بنعم الله حتى عند غير واجدها، لأن أحداً لن يمنعني من أن أنظر، فأنبسط، فمن ناحية الكمال الإنساني هناك غذاء لملكات النفس؛ لأن النفس ليست ملكات جوع وعطش فقط بل هي ملكات متعددة، وكل ملكة لها غذاؤها. ولذلك فقبل أن يقول لي: إن الخيل والبغال تحمل الأثقال. . قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 6 - 7] . إذن فهو يعطيني فائدة حمل الأثقال؛ لأن حمل الأثقال لمن يملكها، إنما الذي لا يملكها فهو يرى الحصان يسير بجمال، فيسعد برؤيته فيتمتع بما لا يملك، هذه إشاعة لنعم الله على خلق الله. ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي يؤمنون بأن الإله الذي آمنوا به يستحق بصفات الجلال والجمال فيه أن يُؤْمَن به، وكلما رأى الإنسان خلقا جميلاً قال: الله، إذن أنا إيماني صحيح والآيات تؤكد صدق إيماني بالإله الذي خلق كل هذا، وكل يوم تبدو لي حاجة عجيبة تزيدني إيماناً، وعقلي الذي وهبه الله لي هداني إلى الإيمان بهذا الإله. ومن العجيب ان هناك من جعلوا لله شركاء!! إله له كل هذه الصفات من أول فالق الحب والنوى، وفالق الإصباح، وجعل الليل ساكناً، والشمس، والقمر، حسابناً وبحسبان، والنجوم نهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وأنزل لنا من السماء ماء، وأخرج لنا النبات منه خضر، كل هذه المسائل كان يجب أن تكون صارفة للناس إلى أن الله وحده هو الخالق المستحق للعبادة، ولا تتجه أبداً بالعبادة أو بالإيمان بغيره، لكن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3828 هناك من جعلوا لله شركاء، وجاء بها سبحانه بعد كل ذلك حتى يحفظنا ويغضبنا عليهم لنحذرهم ونتقيهم. وإذا أحفظنا عليهم استحمدنا أي استوجب علينا حمد إذْ أنه هدانا إلى الإيمان، فنقول: الحمد لله الذي هدانا إلى الإيمان. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3829 ومادة الجن هي «الجيم» و «النون» وكلها تدل على الستر والتغطية والتغليف، ومنها الجنون، لأن العقل في هذه الحالة يكون مستوراً، ونحن لا نرى الجن، فهم مستورون، والملائكة كذلك، والمادة كلها مادة «الجيم» و «النون» تدل على اللف والتغطية. {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} و «الجن» هو الخفي من كل شيء، والجن - كما تعلمون - هم خلق من خلق الله فسبحانه خلق الإنس وخلق الجن، خلق الجن مستوراً حتى لا نعتقد أن خلق الله لحي كائن، يجب أن يتمثل في هذا القالب المادي، بل سبحانه يخلق ما شاء وكما شاء، فيخلق أشياء مستورة لا تُرى، ولها حياة، ولها تناسل، ويخلق أشياء مستورة، ولا تناسل لها: كل ذلك بطلاقة قدرة الحق سبحانه، ليقرب لنا هذه القضية؛ لأن عقولنا قد تقف في بعض الأشياء التي لا تدرك ولا ترى؛ لأننا لا نعلم وجوداً لشيء إلا إذا أحسسناه. إن الحق سبحانه يوضح ذلك. فإياك أن تظن أنك تستطيع أن تدرك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3829 كل ما خلقه الله، فليس حسك هو الوسيلة الوحيدة للإدراك لأن حسك له قوانين تضبطه، فأنت ترى، ولكنك ترى بقانون، بحيث إذا بعد المرئي عنك امتداداً فوق امتداد بصرك فلا تراه وكذلك أذنك تسمع، فإن بعد الصوت أو مصدر الصوت عنك بحيث لا تصل الذبذبة إليك، فلا تسمع، كذلك عقلك، قد تفهم أشياء ولا تفهم أشياء أخرى، ثم ضرب لنا في وجودنا المادي أمثالاً تقرب لنا ذلك الخلق الخفي من الجن ومن الملائكة. لقد وجدنا العقل البشري قد هداه الله الذي قدر فهدى، إلى أن يكتشف شيئاً اسمه «الميكروب» و «الميكروب» كائن حي دقيق جداً بحيث إن البصر العادي لا يدركه، ولكنه كان موجوداً، وفعل الأفاعيل في الناس ودخل في أجسامهم دون أن يشعروا كيف دخل وعمل فيهم وفي صحتهم ما عمل من الهلاك والموت مثل أمراض الطاعون والكوليرا وغيرها، ومع ذلك فالميكروب كان موجوداً ومن جنس وجودنا، أي هو مادة وله حياة وله فعل، وله نفوذ في الهيكل الذي يدرك وهو الإنسان. وهكذا رأينا أن شيئاً خفياً لا يدرك ويهدد إنساناً ضخماً يدرك، فهل معنى اكتشاف الميكروب أننا أوجدناه؟ لا، إن وجود الميكروب شيء، وإدراك وجوده شيء آخر، وإذا حللنا «الميكروب» نجد أنه مادة الإنسان ولكنه دقيق جداً حتى إن العين المجردة لا تراه، فلما اكتشف المجهر وكبرناه عرفناه، وهذا الكائن الحي إن كنت لا تراه، فعدم رؤيتك له سابقاً لا تعني أنه غير موجود، بل هو موجود ولكنك لم تدركه، ثم اكتشفت - أيها الإنسان - آلة جعلتك تدركه، ولنعرف أن وجود شيء لا يعني أنك من الضروري أن تدركه، فإذا قال الله لك: لي ملائكة من خلقي، ولي جن من خلقي، ولكنكم لا ترونهم وهم يرونكم، نقول: صدقت يا ربي، لأن شيئاً من جنس مادتنا كان موجوداً ولا نراه ثم بعد ذلك رأيناه. إذن فالأشياء التي نكتشفها الآن هي دليل على صدق البلاغ القرآني بما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3830 أخبر به من الأمور الغيبية، الجن مستور، والمادة كلها - كما بينا - تدل على الستر، فالجنون غياب العقل، وجن الليل، أي ستر وغطى، والجنة لأن فيها أشجاراً وغير ذلك بحيث لا يظهر الذي يسير فيها فتكون ساترة لمن يدخلها. إذن المادة كلها تدل على الستر، وهل الذي نتعجب منه أنهم جعلوا الجن شركاء، أو أن التعجيب ليس من جعل الجن شركاء بل من اتخاذ مبدأ الشركاء، سواء أكان جناً أم غير جن، إن التعجيب هنا من المبدأ نفسه، فنحن لا نعترض فقط على أن الجن شركاء، بل نحن نعترض على المبدأ نفسه، أن يكون لله شريك من جن أو من ملائكة أو من غير ذلك، ولهذا قدم المجعول - وهو الشريك - على المجعول منه - وهو الجن - مع أن العادة أن يقدم المجعول منه على المجعول، فتقول جعلت الطين إبريقاً أي: أن الطين كان موجوداً، وأخذت منه الذي لم يكن موجوداً وهو الإبريق. ثم هل كان الشركاء موجودين وطرأ الجن عليهم؟ أو كان الجن موجوداً وطرأ الشركاء عليهم؟ في هذه الحالة كان يجب القول: وجعلوا الجن لله شركاء، إذن فالعجيبة ليس في أن يكون الجن شركاء، العجيبة في المبدأ نفسه، وكيف ترد فكرة الشركاء على أذهانهم سواء أكان الشركاء من الجن أم من غير ذلك، ولهذا قال سبحانه: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} وساعة تسمعها تقول: أعوذ بالله {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} !! ولا يهمك من هم الشركاء؛ لأن مطلق مجيء شريك لله هو الأمر العجيب، سواء كان من الجن أم من الملائكة وكيف جعلوا الجن شركاء؟ ألم يقل الحق في كتابه إن إبراهيم قال: {ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} [مريم: 44] . وما هي العبادة؟ العبادة هي أن يطيع العابد المعبود فيما يأمره به، وما داموا يطيعون الشياطين في وسوستهم فكأنهم عبدوهم، ولذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3831 {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] . فقالت الملائكة: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ: 41] . وكيف كانوا يعبدون الجن؟ إنهم كانوا يطيعونهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه؛ لأن العبادة هي الطاعة، وأنت أيها العباد لا تقترح العبادة بل تنظر فيما طلب منك أن تتقرب به إلى المعبود، إذن «افعل ولا تفعل» هي الأصل. {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} ولماذا جاءوا لله بشركاء؟ لماذا لم يعبدوهم وحدهم ويستبعدوا الله من العبادة؟ لأن وجود شريك دليل على الاعتراف بالله أيضاً فلماذا جعلوا له شركاء؟ ولماذا لم يلحدوا وينكروا ويكفروا بالله وتنتهي المسألة؟ لا. لم يفعلوا ذلك؛ لأنهم رأوا أن الشركاء ليس لهم مطلوبات تعبدية وحين عبدوها - مثلاً - لم تقل لهم «افعلوا» و «لا تفعلوا» وليس هنام منهج لاتباعه، لكن أحداثاً فوق أسبابهم ولا يستطيعون لها دفعاً قد تحدث فلمن يجأرون؟ أللآهة التي يعتقدون كذبها وبهتانها وأنها لا تنفع ولا تضر؟ لذلك احتفظوا باعترافهم بالله ليلجأوا إليه فيما لا يقدرون على دفعه لا هم ولا من اتخذوهم شركاء، ولذلك يقول الحق: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12] . كأنه يريد عبادة الله للمصلحة فقط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3832 {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} . ومن العجيب - إذن - أنهم جعلوا لله شركاء، مع أن الله هو الذي خلق العابد والمعبود، والتعجيب من أمرين اثنين: أن يجعلوا شركاء لله من الجن أو من الملائكة، والعجيبة الأخرى أنه {وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وما معنى خرقوا له؟ معناها أنهم اختلقوا؛ لأن الخرق إيجاد فجوة في الشيء المستوى على قانون السلامة، ولذلك قال في السفينة: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف: 71] . وخرقوا له. أي عملوا خرقاً في الشيء السليم الذي تأبى الفطرة أن يكون. {وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} [الأنعام: 100] . أما القسم الذي ادّعى أن لله البنين فهم أهل الكتاب؛ إنهم قالوا ذلك: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] . أما من جعلوا لله البنات، فهم بعض العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله. {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً} [الإسراء: 40] . وقال سبحانه: {أَصْطَفَى البنات على البنين مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 153 - 154] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3833 وسبحانه القائل: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 21 - 22] . وهناك من العرب من جعل بين الله وبين الجن صلة نسب مصداقاً لقول الحق: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] . لقد افتروا على الحق وادّعو أن اتصالاً تم بين الله وبين الجنَّة فخلقت وولدت الملائكة. {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100] . ولماذا يقول الحق: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} لأن العلم يؤدي إلى النقيض، فالعلم قضية استقرائية معتقدة واقعة يقام عليها الدليل، وهذا شيء لا واقع له، ولا يمكن أن يوجد عليه دليل لذلك فهو قول بغير علم بل هو بجهل. هي إذن جهالة بأن يصدقوا في حاجة وأنها واقعة وهي ليست واقعة، ولا يقام عليها دليل لأنها غير موجودة، ولو استقام الدليل عندهم بفطرتهم المستقبلة لأدلة البيان وأدلة الكون لتبرأوا مما اعتقدوا، ولرفضوا أن يتخذوا لله شركاء. وقد عرض الحق قضية طرأت على الأفكار المشوشة وقالوا: «شركاء» فقال: «سبحانه» ، أي تنزيهاً له عن الشرك في الذات وفي الصفات، وفي الأفعال؛ لأن ذاته ليست ككل الذوات، وأفعاله ليست ككل الأفعال، وصفاته ليست ككل الصفات، ولذلك تأتي «سبحانه» في كل أمر يناقض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3834 نواميس الكون الموجودة. وخذ كل أمر يتعلق بالإله الحق في إطار «سبحانه» . ولذلك حينما جاء بالإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به في ليلة واحدة وكان ذلك أمراً عجيباً، أمرنا الحق أن نتقبلها في إطار قوله الحق: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1] . إن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم يقل: أنا سَرَيت من مكة إلى بيت المقدس، إنما قال: أُسْرِي بي «، وما دام قد أسري به فالقانون في الإسراء هو قانون الحق سبحانه. فخذها في إطار سبحانه، وهو القائل: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} [يس: 36] . ثم يأتي بما هو أوسع من إدراكك فيقول: {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] . كأننا سوف نعلم فيما بعد أشياء فيها زوجية، وقد أزاح الكشف العلمي في القرن العشرين بعضاً من ذلك، فعرفنا الموجب والسالب في الكهرباء والالكترونات، وقوله: {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} يفسح المجال لقضايا الكون التي تحدث بنشاطات العقول المكتشفة. {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3835 ف (سبحانه) تنزيها له وتقديسا عن أن يقاس بالكائن الموجود. تعالى اسمه، وتعالت ذاته، وتعالت صفاته وأفعاله {عَمَّا يَصِفُونَ} بأوصاف لا تليق بذاته. وبعد ذلك يقول الحق: {بَدِيعُ السماوات والأرض ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3836 والحق سبحانه وتعالى قال في آيات أخرى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] . فإن كنت ترى في نفسك عجائب كثيرة، وكل يوم يعطيك العلم التشريحي أو علم وظائف الأعضاء سرا جديدا فلا تتعجب من هذا الأمر؛ لأن السماء والأرض إيجاد من عدم، وسبحانه هنا يقول: «بديع» أي أنه - سبحانه - خلقهما على غير مثال سابق، فمن الناس من يصنع أشياء على ضوء خبرات أو نماذج سابقة، لكن الحق سبحانه بديع السموات والأرض، وقد عرفنا بالعلم أن الأرض التي نعيش عليها وهي كوكب تابع من توابع الشمس، وقديما كانوا يقولون عن توابع الشمس إنها سبعة، ولذلك خدع كثير من العلماء والمفكرين وقالوا: إن السبعة التوابع هي السموات، فأراد الحق أن يبطل هذه المسألة بعد أن قالوا سبعة. فقد اكتشف العلماء تابعا ثامنا للشمس، ثم اكتشفوا التاسع، ثم صارت التوابع عشرة، ثم زاد الأمر إلى توابع لا نعرفها. وأين هذه المجموعة الشمسية من السموات؟ وكلها مجرد زينة للسماء الدنيا، وعندما اكتشفت المجاهر والآلات التي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3836 تقرب البعيد رأينا «الطريق اللبني» أو «سكة التبانة» ووجدناها مجرة وفيها مجموعات شمسية لا حصر لها، وجدنا مليون مجموعة مثل مجموعتنا الشمسية. هذه مجرة واحدة، وعندنا ملايين المجرات، ونجد عالماً في الفلك يقول: لو امتلكنا آلات جديدة فسنكتشف مجرات جديدة. ولنسمع قول الله: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] . إذن يجب أن نأخذ خلْق السموات والأرض في مرتبة أهم من مسألة خلق الناس. {بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] . وما دام سبحانه بديع السموات والأرض، وهو بقدرته الذاتية الفائقة خلق السموات والأرض الأكبر من خلق الناس، إذن فإن أراد ولداً لطرأ عليه هذا الابن بالميلاد، ولا يمكن أن يسمى ولداً إلا إذا وُلد، وسبحانه منزه عن ذلك، ثم لماذا يريد ولداً، وصفات الكمال لن تزيد بالولد، ولم يكن الكون ناقصاً قبل ادّعاء البعض ان للحق سبحانه ولداً، إن الكون مخلوق بذات الحق سبحانه وتعالى، والناس تحتاج إلى الولد لامتداد الذكرى، وسبحانه لا يموت؛ مصداقاً لقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] . والبشر يحتاجون إلى الإنجاب ليعاونهم أولادهم، وسبحانه هو القوي الذي خلق وهو حي لا يموت؛ لذلك فلا معنى لأن يُدّعى عليه ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3837 وما كان يصحّ أن تناقش هذه المسألة عقلا، ولكن الله - لطفا بخلقه - وضّح وبين مثل هذه القضايا. يقول جل وعلا: {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} . وماذا يريد الحق من الصاحبة؟ إنه لا يريد شيئاً، فلماذا هذه اللجاجة في أمر الألوهية؟ . فلا الولد ولا الصاحبة يزيدان له قدرة تخلق، ولا حكمة ترتب، ولا علما يدبر، ولا أي شيء، ومجرد هذا اللون من التصور عبث، فإذا كان الشركاء ممتنعين، والقصد من الشركاء أن يعاونوه في الملك؛ إله يأخذ ملك السماء، وإله آخر يأخذ ملك الأرض. وإله للظلمة، وإله للنور. مثلما قال الاغريق القدامى حين نصّبوا إلهاً للشر. وإلهاً للخير، وغير ذلك. والحق واحد أحد ليس له شركاء يعاونونه فما المقصود بالولد والصاحبة؟ أعوذ بالله! ألا يمتنع ويرتدع هؤلاء من مثل هذا القول: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فسبحانه هو الخالق للكون والعليم بكل ما فيه ولا يحتاج إلى معاونة من أحد. ويقول سبحانه من بعد ذلك: {ذلكم الله ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3838 انظر التقديم بكلمة رب، قبل «لا إله إلا هو» كلمة «رب» هذه هي حيثية «لا إله إلا هو» ؛ لأن إلهاً تعني معبودا، ومعبودا يعني مُطاعا، ومطاعا يعني له أوامر ونواهٍ، ولماذا ولأي سبب؟ . السبب أنه الرب المتولي الإيجاد والتربية. ومن الواجب والمعقول أن نسمع كلامه؛ لأنه هو الرّب والخالق وهو الذي يرزق، بدليل أننا حين نسأل أهل الكُفْر في غفلة شهواتهم: من خلق السموات والأرض؟ تنطق فطرتهم ويقولون: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3838 الله هو الذي خلق السموات والأرض. أما إن كان السؤال موجها في محاجاة مسبقة فأنت تجد المكر والكذب. وحين تريد أن تنزع منهم قضية صدق وتضع وتبطل قضية كذب فلنأخذهم على غفلة ودون تحضير فيقولون إن الذي خلق هو الله. ورأينا الآلات التي صمموها ليكتشفوا الكذب، وليروا العملية العقلية التي تجهد الكذاب، أما صاحب الحق فلا يُجْهد؛ لأن صاحب الحق يستقرئ واقعا ينطق به ولا يصيبه الجهد، لكن الذي يكذب يجهد نفسه ويتردد بين أمور ويضطرب ولا يدري بأيها يأخذ ويجيب بإجابات متناقضة في الشيء الواحد. {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102] . وما دام هو خالق لكل شيء وهو الباقي فهو الأحق بالعبادة؛ لأن العبادة - كما قلنا - معناها طاعة الأمر وطاعة النهي - ومادام سبحانه الذي خلق فهو الذي يضع قانون الصيانة للإنسان والكون، وإن خالفت المنهج يفسد الكون والإنسان، وإذا فسد الكون أو الإنسان فأنت تلجأ إلى منهج الخالق لتعيد لكل منهما صلاحيته؛ لذلك هو الأولى بالعبادة. {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ} . وهذه شهادة شهد بها لذاته قبل أن يخلق كل شيء، وقبل أن يخلق الملائكة، وشهدت بها ملائكته، وشهد بها أولو العلم. {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] . إذن فالله شهد بألوهيته من البداية، ومن أسمائه «المؤمن» ونحن مؤمنين بالله، وربنا المؤمن بأنه إله واحد، وهذا الإيمان منه أنه إله واحد، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3839 يخاطب كل شيء يريده وهو يعلم أن أي شيء لا يقدر أن يخالفه، إنه يخاطبه بقوله: «كن فيكون» ولأنه إله واحد يعلم أن أحداً أو شيئاً لم يخالفه، لذلك يباشر ملكه وهو العليم بأن الغير خاضع لأمره ولا يمكن أن يتخلف عن مراداته، أو نقول: «المؤمن» لما خلق ولمن خلق، أي منحهم الأمن والأمان فهو سبحانه القائل: {الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] . لقد أوضح الحق سبحانه لنا: أنتم خلقي فإن أخذتم منهجي أطعمكم من الجوع وآمنكم من الخوف. {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . إذن فالمنطق يفرض علينا عبادته سبحانه، والأمر المنسجم مع المقدمة، أن لا رب، ولا إله إلا هو، إنه خالق كل شيء؛ لذلك تكون عبادته ضرورة، ويتمثل ذلك أن تطيعه فيما أمر، وفيما نهى. {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102] . وهذه دقة الأداء البياني في القرآن، فنحن في أعرافنا فلان وكيل لفلان أي يقوم لصالحه بالأمور التي يريدها، وسبحانه ليس وكيلاً لك، بل هو وكيل عنك؛ لأن الوكيل لك ينفذ أوامرك، لكن هو وكيل عليك، مثل الوصي على القاصر هو وكيل عليه، ويقول للقاصر: افعل كذا فيفعل، وسبحانه وكيل علينا، ولذلك نحن نطلب منه وهو الذي يستجيب لدعائنا بالخير، فلا ينفذ رغباتنا الطائشة، ونجد الأحمق من يقول: لقد دعوت الله ولم يستجيب لي، ونقول: إنك تفهم الاستجابة أنها تؤدي لك مطلوبك، وسبحانه أعلم بما يناسبك لأنه وكيل عليك ويعدل من تصرفاتك، وساعة تطلب حاجة، إن كان فيها خير يعطيها لك، وإن كنت تظن أنها خير، لكنها ستأتي بالشر لا يعطيها لك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3840 وعلى من يدعو ألا يتعجل الإجابة. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يستجاب لأحدكم مالم يَعْجَل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي» . {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي سواء أكان هذا الشيء مختاراً أم غير مختار؛ لأن المختار قد يختار شراً، ولأن الله وكيل عليه يقول له: لا، وغير المكلف ولا اختيار له، مقهور لإرادة الله مثل النار، فهي مأمورة أن تحرق، لكنه أمرها ألا تحرق سيدنا إبراهيم وتبقيه سليماً. وتأتي الآية التالية لتؤكد دواعي عظمته سبحانه فيقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3841 ولماذا لا تدركه الأبصار؟ لأن البصر آلة إدراك لها قانونها بأن ينعكس الشعاع من المرئي إلى الرائي ويحدده، فلو أن الأبصار تدركه لحددته، وأصبح من يراه قادراً عليه، ولصار مقدوراً لكم؛ لأنه دخل في إدارككم. فلو أنك أدركت الله لكان الله مقدوراً لبصرك، والقادر لا ينقلب مقدوراً ابداً، إذن فمن عظمته انه لا يُدْرَك: أنت قد ترى الشمس، ولكن أتدعي أنك أدركتها؟ {لا، لأن الإدراك معناه الإحاطة، وحين يقال «أدركه» أي لم يفلت منه، ولذلك عندما سار قوم فرعون وراء موسى وقومه قال أصحاب موسى: {اإِنَّا لَمُدْرَكُونَ} . أي لا فائدة؛ لأن البحر أمامنا، إن تقدمنا نغرق، وإن تأخرنا أهلكونا وقتلونا. إذن «مُدرك» يعني محاطا به. فإذا أحاطت الأبصار بالله انقلب البصر قادرا، وصار الله مقدورا عليه. والقادر بذاته - كما قلنا - لا ينقلب مقدورا لخلقه أبدا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3841 {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] . وكل ما عدا الله محتاج إلى الله لبقاء كينونته، وكينونته سبحانه ليست عند أحد؛ لذلك {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} لأنه إن قدر على الأبصار كلها فهو قادر بذاته، والباقي مقدور له؛ لأنه مخلوق له، ومادام مخلوقا له يكون مقدورا عليه ولم يطرأ على المخلوقين شيء جديد يجعلهم قادرين بذواتهم {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} . وقد وقف العلماء وقفة كبيرة واختلفوا: هل الإنسان يرى ربه أو لا يراه سواء في الدنيا أم في الآخرة؟ بعضهم قال: لا أحد يرى الله بنص الآية: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} ونقول: لكن هناك آيات في القرآن تقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] . و «ناظرة» تضمن الرؤية وتفيدها، وأيضاً فالله يعاقب من كفر به بأن يحتجب عنه؛ لأنه القائل: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] . فالكافرون محجوبون عن رؤية الله عقاباً لهم. ولو اشتركنا معهم وحجبنا كما حجبوا فما ميزتنا كمؤمنين؟ ، إذن فالعلماء لم ينتبهوا إلى أن هناك فرقا بين الأداء القرآني وما يقولون؟ وحين يحتج عالم منهم بأن رؤية الله غير ممكنة لأن ربنا سبحانه قال لموسى: {لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] . فلماذا لم يلتفت هذا العالم إلى قول الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3842 {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143] . إذن فالله تجلى لبعض خلقه، أما أن يراه الخلق في الدنيا فلا؛ لأن تكويننا غير مؤهل لأن يرى الحق، بدليل أن الأصلب والأقوى منا وهو الجبل حينما تجلى ربه عليه اندك. فلما اندك الجبل خر موسى صعقا، فإذا كان موسى قد خر صعقا لرؤية المتَجلَّى عليه وهو الجبل فكيف لو رآه؟} إن فهو غير معد له. لقد اختلف العلماء عند هذه الآية، وتجلَّى خلافهم إلى أبعد حد؛ فمنهم مجيز للرؤية، ومنهم منكر لها، وأرى أن خلافهم في غير محل نزاع؛ لأنهم تكلموا عن الرؤية، والكلام هنا عن نفي الإدراك، والإدراك إحاطة؛ والرؤية تكون إجمالاً، إنما الإحاطة ليست ممكنة، وعلى تقدير أن الرؤية والإدراك متحدان في المفهوم نقول: لماذا يكون الخلاف في أمر الآخرة؟ لو أن الخلاف في أمر الرؤية في الدنيا لكان هذا كلاماً جميلاً، ولكن الخلاف جعلتموه في الآخرة. إن آيات القرآن صريحة في أن رؤية الحق سبحانه وتعالى من نعم الله على المؤمنين، وهي زيادة في الحسنى عليهم، وحجبه سبحانه عن الكفار لون من العقوبة لهم ونقول - أيضاً -: لماذا لا تقولون إن الإدراك سيوجد في الآخرة بكيفية ليست موجودة في دنيانا؟ لأننا في هذه الدنيا معدُّون إعداد أسباب - وفي الآخرة سنكون معدين إعداداً لغير أسباب. أنت هنا إذا أحببت أن تشرب تطلب الماء أو تذهب للماء وتشرب، وحين تريد أن تأكل الشيء الفلاني، تقول لأهل البيت: اصنعوا لي كذا أو تشتري ما تريده، إنما هناك في الآخرة بمجرد أن يخطر ببالك ما تشتهيه تجده أمامك، وهذا قانون جديد لا ارتباط له بقانون الدنيا، فلماذا لا يكون في تكويننا في الآخرة أيضاً قانون يمكن به أن نرى الله وفي إطار ليس كمثله شيء؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3843 إن في الآخرة قضايا يتفق الجميع على انها تخالف قوانين الدنيا ونواميس العالم المعاصر لنا الآن في الأكل والشرب، والتخلص من الفضلات، لكن في الآخرة سنأكل ونشرب ولكن لن توجد فضلات؛ لأنك أنت الان تطهى وتهضم، وفي الهضم أنت تأخذ بعض الطعام ويبقى منه فضلات لابد أن تخرج، لكن الطهي والهضم في الآخرة ب «كن» وليس له فضلات، إنه طعام بقدرة القادر، في الجنة كل ما تريده ستناله دون أن ينفد، وفي الدنيا أي شيء يؤخذ منه ينقص، أما في الآخرة فلا شيء ينقص لأن له مدداً من القيومية. ويعقب الحق سبحانه وتعالى بعد القضيتين: {وَهُوَ اللطيف الخبير} ولطيف تناسب {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} و {الخبير} يناسب {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} ولطيف لها معنى خاص، فالشيء اللطيف يستعمل في دقيق التكوين - ولله المثل الأعلى - إن الميكروب لم نعرفه إلا مؤخراً لأنه بلغ من اللطف والدقة بحيث لا تدركه العين، لكن عندما اخترعنا الميكروسكوب رأيناه، وإن دق الميكروب عن ذلك فلن نراه، وقد اكتشفنا «الفيروس» ونحاول معرفة المزيد عن خصائصه، إذن كلما دق الشيء يلطف ولا يمكن أن نراه، فالشيء إذا لطف شرف وعلا ونقول - ولله المثل الأعلى -: فلان لطيف المعشر، والحق سبحانه لطيف في ذاته ويلطف بعباده. إنك ساعة ما تسمع «لاطف» فهذا اسم فاعل، مثلها مثل «آكل» ، وحين نقول: «لطيف فهي مبالغة في اللطف؛ لأنه لاطف بكل إنسان وكل كائن وهذا يحتاج إلى مبالغة، ولذلك نقول: رحيم، وهي صيغة مبالغة؛ لأنه يسبغ رحمته على عباده، وأول مظهر من مظاهر اللطف، هو تدبير أمورهم الدقيقة تدبيراً يحقق مصالحهم في وجودهم. إننا حين ندير كوب ماء لكل إنسان ندبر الكثير فما بالنا بتدبير اللطيف بعباده؟ لقد خلق لنا الأرض ثلاثة أرباعها ماء، والربع يابس، لأنه جل وعلا يريد أن يوسع رقعة الماء لأن المياه كلما اتسعت رقعتها، كان البخر فيها أسهل وأكثر، لكن لو كانت المياه عميقة ومساحتها قليلة فالبخر يكون على مستوى السطح فقط، وهنا لا يأتي السحاب بما يكفي الخلق من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3844 الماء. لقد سمع الله سبحانه رقعة الماء كي يتبخر الماء ثم ينعقد كسحب في السماء، ويصادف منطقة باردة لينزل لنا المياه العذبة لنشرب منها، وتشرب أنعامنا، ونسقي الزرع، وكل ذلك من لطف التدبير. ومن مظاهر اللطف في الحق نجد أموراً لا توصف، ولذلك كل واحد من العلماء انفعل لزاوية من زوايا لطف الله على خلقه. . فواحد قال: هو» سبوغ النعم «وقال الثاني:» دقة التدبير «وقال الثالث: إن من مظاهر لطف الحق أنه يستقل كثير من النعم على خلقه، فالنعم التي منحها خلقه قليلة لأن خزائنه - سبحانه - ملأى وعطاياه لا تنفد ولا يعتريها نقص، ولذلك قال سبحانه: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] . أي أن نعمه الكثيرة على عباده قليلة، وفي المقابل: يستكثر قليل الطاعة من خلقه أي يعتبرها - تفضلاً منه - كثيرة؛ لأنه هو الذي يجزي الحسنة بعشر أمثالها. إذن فمظاهر اللطف لا حصر لها، وعلى قدر دقة اللطف تكون دقة مأتاه وإحصائه، فهو اللطيف الذي إذا ناديته لبّاك، وإذا قصدته آواك، وإذا أحببته أدناك، وإذا أطعته كافاك وإذا أعطيته وأقرضته من فضله وماله الذي منحك عافاك، وإذا أعرضت عنه دعاك فهو القائل:» يابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم، وإن دنوت منّي شبراً دنوت منك ذراعاً، وإن دنوت منّي ذراعاً دنوت منك باعاً، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول «وكلها مظاهر لطف. وهو المنادى:» توبوا إلى الله «والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو القائل:» لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط على بعيره قد أضله بأرض فلاة «وإذا قربت من الله هداك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3845 ويأتي عالم آخر ممن انفعلوا بصفات اللطف، فيقول: الذي يجازيك إن وفيت، ويعفو عنك إن قصرت، وعالم آخر يضيف إلى معاني اللطف فيقول: من افتخر به وأعزه، ومن افتقر إليه أغناه، وعالم ينفعل انفعالاً آخر بمظاهر اللطف فيقول: من عطاؤه خير، ومنعه ذخيرة. . أي أنه لو منع عبده شيئاً فإنه يدخره له في الآخرة، كل هذه مظاهر للطف، وهذا مناسب لقوله الحق: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} إن لطفه سبحانه يتغلغل فيما لا نستطيع أن ندركه، وحين تحلل أنت أي أمر قد لا تصل إلى فهم النعمة، وإن وصلت فأنت لا تقدر أن تؤدي الحمد على تلك النعمة. وقوله الحق: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} مناسب لكلمة «خبير» ، ونحن في حياتنا نسمع كلمة «خبير» فعندما نقابل أي مشكلة من المشكلات نجد من يقول: نريد أن نسمع رأي الخبير فيها، وفي القضاء نجد القاضي يستدعي خبيراً ليكتب تقريراً في أمر يحتاج إلى من هو متخصص فيه وعليم به، إذن فالخبير في مجال ما هو الذي يعرف تفاصيل الأمر، فما بالنا بالخبير الأعلى الذي لا يستعصي عليه شيء في ملكه، وهو الذي يدرك الأبصار، فقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} يناسبها «خبير» ، وهذا ما يسمونه في اللغة «لف ونشر» وهو ان يأتي بأمرين أو ثلاثة ثم يأتي بما يقابلها، مثال ذلك قوله الحق: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار} [القصص: 73] . فمن مظاهر رحمته لنا سبحانه أن جعل لنا الليل والنهار، ثم قال: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] . لنسكن في الليل، ونبتغي فضله في النهار، وهذا اسمه - كما قلنا - «لف ونشر» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3846 ويقول الحق - سبحانه - بعد ذلك: {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3847 وبصائر جمع بصيرة، والبصيرة للمعنويات والإشراقات التي تأبى في القلوب كالبصر بالنسبة للعين، و «الكون» يعطيكم أدلة الإبصار، والقرآن يعطيكم أدلة البصائر، فكما أن الله هدى الإنسان فحذره ونهاه عن المعاصي ومنحه النور الذي يجْلي له الأشياء فيسير على هدى فلا يرتطم ولا يصطدم، كذلك جعل المعنويات نوراً، والنور الأول في البصر يأخذه الكافر والمؤمن، وكلنا شركاء فيه مثله مثل الرزق، لكن النور الثاني في البصائر يأخذه المؤمن فقط، ولذلك يقول ربنا: {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [الحديد: 9] . وهو نور الهداية في بصائر المعنويات، فيوضح: أنا خلقتكم خلقاً ووضعت لكم قوانين لصيانتكم. فقانون الصيانة في ماديات الدنيا للمؤمن والكافر، وقانون الصيانة في معنويات الحياة خاصة للمؤمن. وهو القائل: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40] . ونعلم أن البصائر من المعنويات والمجيء للأمر الحسّي؛ كقولنا: «جاء زيد» أو «جاء عمرو» ولك أن تتصور البصائر وهي تأتي، قال الحق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3847 {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} [المائدة: 15] . إنه سبحانه قد أعطانا نورا صحيحا واضحا وهو يأتي إلينا بمشيئته. {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} أي أنها بلغت من تكوينها أنها أصبحت كانها أشياء محسّة تجيء، ولا يصح أن تقولوا إنها لم تصلكم لأنها تجيء من الرب الذي خلقنا بقدرته وأمدنا في كل شيء بقيّوميته، ومن لوازم الربوبية أن يعطي ما يهدي، وقد حكم الله أن البصائر جاءتنا، وحكم بأن رسوله قد بلّغ؛ فسبحانه أعطى لرسوله، والرسول ناولنا، فالحق قد شرع ورسوله قد بلغ وبقي أن تؤدوا ولا عذر لكم من المشرع الأعلى الذي خلق وهو الرب. ولا من المبلغ المعصوم وهو الرسول. ويقول الحق تبارك وتعالى: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104] . ولله المثل الأعلى، نجد الولد يدخل البيت فيجد أمه ويقول لها: ماذا أعددت لنا من طعام؟ فتقول: لا شيء. فيقول الابن: لقد بعث أبي اللحم والأرز والخضار، فكأنه يقول لها: أين عملك يا أمي؟ وربنا سبحانه يوضح: أنا خلقتكم، وعملت لكم قانون صيانة، وأرسلت لكم رسولاً ولا تعرفون عنه أنه صادق في بلاغه، وأدى هذه الرسالة، لذلك فالباقي من المسألة عندكم أنتم، وكل واحد عليه أن يؤدي ما عليه من عمل، إن أبصر فلنفسه، وإن عمى فعليها. فإياكم أن تفهموا أني كلفتكم بما يعود عليَّ في ذاتي، ولا ما يزيد من سلطاني شيئا؛ لأن خيرها لكم أنتم، ولا آمن على التشريع ممن لا يفيد من التشريع؛ لأن من يستفيد منه قدر يشرّع لمصلحته، أما الحق فهو مأمون على التشريع لأنه غير منتفع به. يقول سبحانه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3848 {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104] . ولأن الرسول عليه البلاغ فقط والحق قد حفظه وعصمه من الكفر وهو يبلغكم المنهج، وقد خلق الله كل إنسان مختارا وهو بهذا الاختيار يُدخل نفسه في الحكم أو يخرج نفسه من الحكم، وسبحانه لم يبعث الرسول جباراً بل بعثه رحيماً؛ لذلك يقول الله في حق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وما أنا عليكم بحفيظ» والحفيظ من أسماء الله، وهو الحفيظ لأنه شرَّع ليحفظ الخلق ويريد أن يجعلهم على مثال حسن واعٍ. والرسول هو المبلغ والحق يقول: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] . إذن فكل واحد حر يدخل نفسه في الحكم أو يخرج نفسه من الحكم. وقد حارب الرسول ليحمي الاختيار بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام تجد بعضاً من سكانها قد ظلوا على كفرهم ولم يرغمهم أحد على الإيمان. ويقول الحق بعد ذلك: {وكذلك نُصَرِّفُ الآيات ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3849 «كذلك نصرف» . أي أن يأتي لنا بالحال بعد الحال ويكرر ويعيد، وتأتي الحادثة من الحوادث وينزل فيها تشريع، ويرقق قلوبهم، ويأتي بنماذج من الرسل، ومواقف أممهم منهم حتى نصادف في كل حال قلباً مستقبلاً لأنه إن قال مرة واحدة وسكت وكان هناك أناس قلوبهم منصرفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3849 فعندما يكرر الأحداث وينزل فيها التشريع والمواعظ فقد ترق قلوبهم للإيمان وتستوعب القلوب الهداية. {وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} ما معنى: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} ؟ إننا نعلم أن السماء تتدخل حين يطم الفساد، لكن إن وجد في الذات الإنسانية نفس لوّامة فهي مَنَاعة للنفس ووقاية لها. فإن فعل الإنسان ذنباً تلومه نفسه فيرجع، وإن اختفت النفس اللوّامة وصارت النفس أمّارة بالسوء، امتنع في المجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمعنى ذلك أن الفساد قد طمّ. وهنا تتدخل السماء وتأتي ببيان جديد ومعجزة جديدة. إن الفساد لا يتأبى إلا من وجود طبقات تطحن في طبقات، والذين يُطحنون بالفساد هم من يستقبلون المنهج بشوق، لكن الطاحن المستفيد من الفساد هو الذي يعارض المنهج. ولذلك فإن كل جماعة حاربت الرسل هم من الطاحنين للناس، لكنَّ المطحونين إنما يريدون من ينقذهم. إذن فكل صاحب دعوة سماوية جعل الله له عدواً من المجرمين؛ لأن السماء لم تتدخل إلى حين صار الإجرام لا مقاوم له. وهكذا يجعل الله لكل نبي ورسول عدواً من المجرمين، وهذا العدو يفتن به الناس، ويميل له ضعاف العقائد. والحق يصرف الآيات حالاً بعد حال حتى لا يثبت مع الداعي الحق إلا المؤمنون الصادقون. ولذلك تجد أن الإسلام قد جاء وغربل الأمور؛ فمثلاً تأتي حادثة الإسراء فمن كان إيمانه مهتزّا ينكر الإسراء، وذلك من أجل أن يذهب الزبد ويبقى من يحمل الدعوة بمنهج الحق. أما من كان إيمانه ضعيفاً أو كان يعبد الله على حرف فالإسلام لا يرغبه. {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] . إذن فالحق سبحانه وتعالى قد صرّف الآيات لينصر المطحونين، وحينما قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك قالوا درست وادعو أنه كان قاعداً في الجبل، وتعلم من أعجمي. ولذلك نجد الحق يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3850 {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] . ويأتي الرد من الحق: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103] . إن سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حينما كان في الطواف جاء عند الحجر الأسود وقال: «والله إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبَّلك ما قبلتُك» . فعل سيدنا عمر ذلك حتى يعلمنا إذا ماجاء بعض الناس وقال: ما سبب علة تقبيل الحجر الأسود؟ فيكون الجواب حاضراً: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعل ذلك وهذا تشريع. ويقول الحق من بعد ذلك: {اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3851 وساعة يتكلم متكلم لمخاطب بأمر هو فيه وقائم عليه مؤدٍ له فلابد أن نفهم حقيقة المراد، مثلما يقول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3851 وبأي شيء نادى الله خلقه المؤمنين هنا؟ لقد قال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} ، فكيف يقول: «آمنوا» ؟ لقد ناداهم لأنهم آمنوا إيمانا استوجب خطابهم بالتكليف، والإنسان ابن أغيار. فيوضح أن الإيمان الذي استقبلتم به التكليف من خطابي داوموا أيضا عليه، وجاء الأمر هنا بدوامه، أي كما آمنتم إيمانا جعلكم أهلا للتكليف في مخاطبتكم وقلت لكم يأيها الذين آمنوا: الزموا هذا وداوموا على إيمانكم. وقوله الحق: {اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ} هو قول لرسول متبه، إذن فهو يحمل الأمر بالمداومة على الاتباع، ولا يحزنك ما يقولون يا محمد؛ لأنك مؤيد من ربك ويتولى الدفاع عنك ويلقنك الحجة. {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33] . ويقول الحق بعد ذلك موجها حديثه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} . أي أنه لا يوجد إله إلا هو سبحانه، ولا يمكن أن تغير أنت بالمنهج النازل إليك منه، وعليك أن تعرض عن المشركين، فلا تجالسهم، ولا تخالطهم، ولا تودهم. إنه إعراض الفطنة والإرشاد والبلاغ. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3852 الحق سبحانه وتعالى يعطينا قضية لابد أن نستصحبها في تاريخنا الإيماني، والقضية هي: أن أيَّ كافر لم يكفر قهرا عن الله، وإنما كفر لأن الله أرخى له الزمام بالاختيار أي خلقه مختارا، ولذلك فالكافر إنما يفعل كل فعل بما آتاه الله من الاختيار لاغصبا عن ربنا أو قهرا، بدليل أن الكون الذي نحيا فيه مقهور بالأمر، لا يمكن أن يختار إلا مراد الله منه، وكل ما في الكون يسير إلى مراد الله. إذن فمن كفر لم يكفر قهرا عن الله؛ لأن طبيعة الاختيار ممنوحة من الله. وحين اختص الله الإنسان بالاختيار وضع المنهج الذي يرتب عليه الثواب والعقاب. ولذلك نزل التكليف ب «افعل» و «لا تفعل» . وسبحانه إن أراد قهرا فقد قهر كل الأجناس في الكون؛ قهرها بطول العمر، وأنها تؤدي مهمتها كما أراد الله منها، إنّه قهر الشمس، وقهر القمر، وقهر النجوم، وقهر الماء، وكل حاجة في الكون مقهورة له حتى الملائكة خلقهم: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] . إذن صفة القهر أخذت متعلقها كاملا. ولكن أيريد الله من خلقه أن يكونوا مقهورين على ما يريد؟ لا، بل يريد سبحانه أن يكونوا فاعلين لما يحبه، وإن كانوا مختارين أن يفعلوا ما لا يحبه، كأن خلق القهر في الأجناس كان لإثبات طلاقة القدرة، وأنه لا يمكن لمخلوق أن يشذ عن مراد الله منه. وبقي الاختيار في الإنسان ليدل على أن أناسا من خلقه سبحانه يذهبون إليه جل وعلا وهم قادرون ألا يذهبوا إليه، وهذه تثبت صفة المحبة. وحين يختار المختار الطاعة، وهو قادر ألا يطيع، ويختار الإيمان وهو قادر أن يكفر فقد جاء إلى الله محبة لا قهرا، ولذلك يقول ربنا لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3853 {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] . أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة وحزنا على عدم إيمان قومك بما جئت به من عند ربك، أتريد يامحمد أن أقهرهم؟ أتريد أعناقاً أو قلوباً؟ إنك يا محمد تعلم أن منهجك النازل إليك من ربك يريد قلوبا، والقلوب تأتي بالاختيار. فلو شئنا إيمانهم لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهرا عليهم. ولذلك إذا خُدِشَ الاختيار بفقد أي عنصر من عناصره يزول التكليف. بدليل أنه لا تكليف على فاقد العقل؛ لأن آلة الاختيار عندنا هي العقل. وكذلك لا تكليف لمن لم ينضج بل يتركه الحق إلى أن ينضج. ويصير قادرا على إنجاب مثله وأن يصل إلى التكوين الكيماوي السليم. ويمنع عنه الإكراه بأي قوة أعلى منه تقهره على أن يفعل شيئا على غير مراده، وهنا يأتي التكليف. إذن فالتكليف يحتاج إلى أمور ثلاثة: وجود عقل، لذلك فلا تكليف لمجنون، وعقل رشيد ناضج، فقبل البلوغ لا تكليف ولا إكراه حتى يسلم الاختيار، لماذا؟ تأتي الإجابة من الحق سبحانه: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] . ويقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3854 وتتضمن هذه الآية الكريمة منهجاً ضرورياً من مناهج الدعوة إلى الله، هذه الدعوة التي حملها الرسل السابقون، وختمهم الحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجعلها سبحانه ختماً لاتصال السماء بالأرض؛ لذلك كان لابد من أن يستوعب الإسلام كل أقضية تتعلق بالدعوة إلى الله يحملها أميناً عليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والأمة المحمدية. التي شرفها الله سبحانه وتعالى بأن جعل فيها من يحملون أمانة دعوة الله إلى الخلق امتداداً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فكل مسلم يعلم حكماً من أحكام الله مطلوب منه أن يبلغه لغيره؛ فرب مُبلَّغ أوعى من سامع. حتى وإن كان الله لم يوفقه للعمل بما جاء فيما بلغ. فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فإذا فاته أن يعمل فالواجب ألا يفوت من يعلم قضية من قضايا دينه ثواب البلاغ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الخلق، ولكن عليه أن يعمل ليكون قدوة سلوكية يتأسى به غيره حتى لا يقع تحت طائلة قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} . وإن كان بعض الشعراء يلحون على هذه المسألة. فيقولون: وخذ بعلمي ولا تركن إلى عملي ... واجن الثمار وخلّ العود للنار إذن فالبلاغ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر ضروري، وهو امتداد لشهادة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أنه بلغ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الحق مراده من الخلق. وبقي أن يشهد الناس الذين اتبعوا هذا الرسول أنهم بلغوا إلى الناس ما جاءهم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3855 إذن فكما أن الرسول سيشهد بأنه بلغنا، فمن صميم المنهج أن يشهد أتباعه أنهم بلغوا الناس، فإن حدث تقصير في البلاغ إلى الناس، فستكون المسئولية على من اتبع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يؤد أمانة الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى الناس أجمعين. ومنهج الدعوة منهج صعب؛ لأن الدعوة إلى الله تتطلب أن يأخذ الداعي يد الذين ينحرفون عن منهج السماء اتباعا لشهوات الأرض، وشهوات الأرض جاذبة دائما للخلق؛ لأنها تحقق العاجل من متع النفس. واتباع منهج الدين - كما يقولون - يحقق نفعا آجله، فهو يحقق - أيضا - المتعة العاجلة؛ لأن الناس إن تمسكوا بمنهج الله في «افعل ولا تفعل» يعيشون حياة طيبة لا حقد فيها، ولا استغلال، ولا ضغن ولا حسد ولا سيطرة، ولا جبروت، فيصبح الناس جميعا في أمان. إذن فلا تقولوا إن الدين ثمرته في الآخرة بل قولوا ليست مهمة الدين هي الآخرة فحسب بل مهمة الدين هي الدنيا أيضا، والآخرة إنما هي ثواب على النجاح في هذه المهمة؛ لأن الله إنما يجازي في الآخرة من أحسن العمل في الدنيا. ومن اتبع منهج الله كما قال الله {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} ومن أعرض عن منهج الله فإن له معيشة ضنكا. ويحدث ذلك قبل الآخرة، ثم يأتي يوم القيامة ليتلقى العقاب من الله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124] . فإذا كان الدين يأخذ بالناس من شهواتهم الهابطة إلى منهج الله العالي، فتكون مهمة الداعي شاقة على النفس، ولذلك قالوا: إن الناصح بالخير يجب أن يكون لبقا؛ لأنه يريد أن يخلع الناس مما أحبوا وألفوا من الشر؛ لذلك يجب على الداعي ألا يجمع عليهم إخراجهم مما ألفوا بأسلوب يكرهونه بل لا بد أن يثير جنانهم ورغبتهم في اتباع المنهج، ولذلك جاءت هذه الآية: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3856 {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108] . لقد قال الحكماء: النصح ثقيل فلا نرسله جبلاً ولا تجعله جدلاً، والحقائق مُرّة، فاستعيروا لها خفة البيان. والخفة في النصح تؤلف قلب المنصوح، وحسبك منه أن تخلعه عما ألف وأحبّ. إلى ما لم يتعود، فلا يكون خلعه مما ألف بأسلوب عنيف. ولذلك يعلمنا الحق هذه القضية حين ندعو الخصوم إلى الإيمان به، وهؤلاء الخصوم يتخذون من دون الله أنداداً؛ أي جعلوا لله ومعه شركاء. إنهم إذن إرادوا المتعة العاجلة بالابتعاد عن المنهج، ثم احتفظوا بالله مع الشركاء؛ لأنه قد تأتي لهم ظروف عصيبة، لا تقدر أسباب الأرض على دفعها، ومن مصلحتهم أن يكون لهم إله قادر على أن ينجيهم مما هم فيه. فهم لا يكذبون أنفسهم. والحق سبحانه هو القائل في مثل هؤلاء إن أصروا على الشرك: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] . حصب جهنم إذن هم المشركون ومعهم الأصنام التي كانوا يعبدونها وستكون وقوداً للنار التي يعذبون بها. وبعض من الناس السطحيين يظن أن هذا عذاب للأحجار، لا، بل هي غيرة ونقمة وغضب من الأحجار على خروج المشركين عن منهج الله في توحيد الله. فتقول الأحجار: لقد كنتم مفتونين بي ولذلك سأكون أنا أداة إحراقكم. إننا نجد المفتونين في الآلهة من البشر أو الآلهة من الأشجار أو الآلهة من الكواكب أو الآلهة يصيبهم الله بالعذاب، والأحجار التي عبدوها تقول كما قال بعضهم فيها شعراً: عبدونا ونحن أعبد ل ... له من القائمين في الأسحار واتخذوا صمتنا علينا دليلا ... وغدونا لهم وقود النار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3857 للمغالي جزاؤه والمغالي فيه ... تنجيه رحمة الغفار ولذلك يأتي الأمر بألا نسبّ ما يعبده الذين أشركوا بالله؛ لأن الأصنام لا ذنب لها، والواقع كان يقتضي أن تتلطفوا بالأحجار فهي لا ذنب لها في المفتونين بها. والحق سبحانه وتعالى يعلمنا ويوضح لنا ألا نظلم المتَّخَذ إلها؛ لأنه مغدور، والسب هو ذكر القبيح، والشتم، والذم، والهجاء، إنك إن سببت وقبحت ما عبدوه من دون الله فإن العابد لها بغباوته سيسب إلهك فتكون أنت قد سببت إلها باطلا، وهم سبّوا الإله الحق، وبذلك لم نكسب شيئا؛ فانتبهوا. ويحذرنا القرآن من الوقوع في ذلك في قول الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] . وهم سيفعلون ذلك عَدْواً وعدوانا وطغيانا بغير علم بقيمة الحق وقدسيته سبحانه وتعالى؛ لذلك يجب أن نصون الألسنة عن سب آلهتهم حتى لا نجرئ الألسنة التي لا تؤمن بالله على سب الله. إن الحق سبحانه يريد أن يعلمنا اللطف في منهج الدعوة؛ لأنك تريد أن تحنن قلوبهم لتستميلهم إلى الإيمان ولن يكون ذلك إلا بالأسلوب الطيب. صحيح أن المؤمنين معذورون في حماسهم حين يدخلون في مناقشة مع المشركين ولكن ليتذكر المؤمن القيمة النهائية وهي الخير للدعوة. وليسأل الله أن يرزقه الصبر على المشركين، ويعلمنا الحق كيف نسير في منهج الدعوة، وعلى سبيل المثال نجد سيدنا نوحاً عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. وظل يدعو ويتحنن في الدعوة، إلى أن قالوا له في آخر المطاف: أنت تفتري هذا الكلام من عندك، فعلمه الله سبحانه وتعالى أن يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3858 {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35] . ويقول الحق سبحانه معلماً رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات والأرض} [سبأ: 24] . أي من الذي يعطيكم قوام الحياة؟ وأنت حين تسألهم سؤالاً يناقض ما هم عليه. فيتلجلجون، فيسعف الله رسوله فيوضح سبحانه ويأمره أن يقول لهم: {قُلِ الله وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] . و «إنا» أي رسول الله ومن معه. «أو إياكم» المقصود بها الكافرون بالله، ولم يقل لهم أنا وحدي على هدى وأنتم على ضلال، بل قال: منهجنا ومنهجكم لا يتفقان، ولا بد أن يكون هناك منهج على هدى ومنهج على ضلال، ولن أقول مَن هو الذي على هدى، ومَنْ هو الذي على ضلال؛ لأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واثق من أنهم لو أداروا المسألة على عقولهم وعلى بصائرهم: فلن يجدوا جواباً إلا أن رسول الله على الهدى وأنهم على الضلال. فتركهم هم ليقولوها. ولنتأمل أيضاً قول الحق سبحانه: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] . لم يقل الحق إنهم هم الذين يجرمون، بل جعل الجرم - إن صح - على المؤمنين، وجعل العمل - وإن فسد - مع الكافرين. وعلى الأقل كانت المساواة تقتضي ولا نسأل عما تجرمون ولكنه لم يقل ذلك. وهذا هو الأدب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3859 العالي واللطف؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد ألا يترك الرسول لغرائزهم مكاناً للإباء عليه، وألا يجدوا وسيلة لينفروا من الدعوة. ولهذا يعلمنا هذا الأسلوب فيقول: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] . وبذلك نحقق لطف الجدل. ويقول سبحانه: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] . وإن كنتم تريدون كشف حقيقة تلك الأصنام فهي أيضاً مخلوقة لله وهي تعبده، واسألوهم ولن يجيبوا، وهم لا أرجل لهم يمشون عليها، ولا لهم أيد يبطشون بها، ولا لهم أعين يبصرون بها، ولا لهم آذان يسمعون بها. وفوق ذلك: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} [الحج: 73] . وهل هناك ما هو أقل من الذباب في عرفكم؟ نعم، يقول الحق: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73] . فإن جاءت ذبابة وحطت على ما تأكل، أتستطيع أن تسترجع منها شيئاً؟ لن تستطيع، وإن كنت جباراً وفتوة فامسك الذبابة وخذ منها الطعام الذي أخذته، لن تستطيع، ولذلك يقول الحق سبحانه: {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} [الحج: 73] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3860 وهذا هو الجدل الذي يجعل المجادل يخجل من نفسه، لكن إذا ثرت في وجهه وتعصبت فأنت تجعل له عذراً في الحفيظة عليك والغضب منك والهجوم عليك، وفي الانصراف عن منهج الله، ونسأل الله أن يعطينا طول البال وسعة الحلم والأناة على الجدل اللطيف. {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] . وحين يعلمنا الحق الجدل اللطيف للدعوة فهذا تزيين للدعوة، والدعوة في ذاتها جميلة؛ لذلك لابد أن يكون عرضها جميلاً. والمثال من حياتنا: أنت تذهب إلى التاجر وعنده بضاعة قد تكون متميزة جداً لكنه لا يرتبها ولايحسن عرضها؛ لذلك قد تنفر منه وتذهب إلى تاجر آخر قد تكون بضاعته أقل جودة لكنه يحسن عرضها، وهذا هو التزيين أي تصعيد الحسن، ولذلك سُمِّي الحلي وما تتجمل به المرأة زينة والمرأة قد تمتلك أنوثة جميلة، وهي مع جمالها تقوم بتزيين نفسها بالحلي، وبالجواهر والملبس الراقي، وكان العربي حين يمتدح امرأة بقمة جمالية يقول: هذه غانية، أي استغنت بجمالها عن أن تتزين؛ لأن ما سوف تداريه بالعقد أجمل من العقد. والتزيين إذن جمال العرض للاستمالة والانجذاب، ونحن حين نزين أمراً فإننا نعطيه وقاراً وحسناً ونزيده جمالاً: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} والأمة: هي الجماعة التي لها انتماء يجمع أفرادها، مثل أمة العرب. . أي أن المنتمين إليها هم العرب والأمة الإنجليزية أي أن المنتمين إليها إنجليز، أما أمة الإسلام فيدخل فيها العرب، والعجم، والأسود والأبيض، والأصفر، وهي أوسع رقعة، فإن كانت الأمم السابقة زينت لتناسب عصراً محدوداً وزمناً محدوداً، ومكاناً محدوداً فنحن نزينكم تزييناً يناسب كل أذواق الدنيا؛ لأنكم ستواجهون كل هذه الأمم، فلابد أن يكون في دعوتكم استمالة لهذا ولهذا ولهذا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3861 وفي بدء الدعوة - وكانت حينئذ ضعيفة نجد - رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يلتفت إلى الأمة، فيكون بلال الحبشي هو من يؤذن، ونجده يقول عن - سليمان وهو فارسي -: سلمان منا آل البيت ويأتي سيدنا عمر يقول عن صهيب - وهو رومي -: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، أي أن عدم عصيانه لله طبيعة فيه حتى وإن لم يكن يخاف عقاب الله. فإذا كنا قد زينا لكل أمة من الأمم الماضية عملهم فتزيين أمتكم يجب أن يكون مناسباً لمهمتها زماناً ومكاناً وأجناساً، وألواناً، ولغات، ولابد أن نزينكم أيضاً بحسن أسلوب العرض لمنهج الدعوة. ويجب أن يتناسب مع جمالها، وأنتم أولى بالتزيين؛ لأنكم مستوعبون لكل حضارات الدنيا، وانتماءات الدنيا، فيجب أن يكون تزيينكم مناسباً لمهمتكم. {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ} [الأنعام: 108] . أي أننا وضحنا لهم منهج نقل الدعوة إلى الغير، وما ينال المحسن والمطيع من ثواب في الآخرة، والمؤمنون حينما ينعمون بنعيم الآخرة فهذا نعيم بغير حدود؛ لأنه على قدر طلاقة قدرة الحق سبحانه وتعالى، وهم حين يتنعمون بكل هذه النعم يستشرقون إلى لقاء المنعم به، ويتجلى الله عليهم. وكما زينا للأمم السابقة أعمالهم قد زيناكم لأنكم أمة الإجابة، وهذا التزيين الخاص يربي الدعاة إلى منهج الله، ولو فطن غيركم إلى ما في منهجكم من زينة لبحثوا في هذا المنهج ولقام كل منهم باستقراء الوجود الذي بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ولوجد أن لكل كائن مهمة، ولانضم إلى المنهج التعبدي. {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3862 و «ليعبدون» تعني أن يطيعوا في «افعل كذا» «ولا تفعل كذا» وإذا قال الحق: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} فمعنى ذلك أنه سبحانه قد بين العمل بفوائده. وأنت حين تتأمل ظواهر الوجود حولك تجد أن من تميز عليك بموهبة إنما أراده الحق على هذا التميز لينفعك أنت، ويتجلى هذا الأمر في كل المهن: فالنجار الحاذق والمتقن تعود صنعته عليك، ومصمم الملابس الذي يتقن عمله سيعود خير صنعته عليك، ومن مصلحة كل إنسان أن يكون غيره متفوقاً؛ وأن يكون هو أيضاً متفوقاً في عمله، وأن يحمد ربنا لأن خيره سيعود على غيره أيضاً، وبذلك نحيا في مجتمع راق يتكون من أمم وطوائف مثالية، إذن فالمتفوق في شيء يجب ألا يحقد على غيره من أبناء المجتمع؛ لأن خير تفوقه سيعود على كل فرد فيه ومن المصلحة أن يصبر الكل إلى التفوق. فإذا قال الله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي جعل الله لكل منا عملاً في الحياة، ولا بد أن ينتفع به في الدنيا، وينتفع به في الآخرة أيضاً ويأخذ كل منا ثواب الله عليه، فالذي يأخذ التزيين يقبل على العمل، والذي لا يأخذ التزيين فعليه الذنب، وكل واحد إنما يزين عمله على مقدار الطموح الذي يطلبه لنفسه، ونحن نرى أمثلة لذلك في الحياة، ونلتفت لنجد إنساناً له دخل محدود، لكنه يفتح على نفسه أبواباً من الترف أكثر من اللازم، ولا يدخر شيئاً ويحقق لنفسه المتعة العاجلة، ونجد إنساناً آخر يعيش على قدر الضروريات ويدخر لنجده من بعد ذلك قد طور من أسلوب حياته بالسكن اللائق ومتع الحياة. إن الأول زين له عمله الترف العاجل، والثاني زين له عمله الترف المقنن، فإياك أن تنظر إلى شهوة العاجلة، ولكن انظر إلى الجدوى التي تأتي منها: {ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108] . وما دام المرجع لمن أوجد العمل منهجاً في «افعل» و «لا تفعل» والمرجع لمن وضع التزيين في العمل لتأخذ المنهج الكريم منه، وعلى مقدار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3863 ما أخذت من منهجه تأخذ من كرامته. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ... } الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3864 {وَأَقْسَمُواْ بالله} ، هنا قَسَمٌ: ومُقْسَمٌ به، ومُقْسِمٌ، ومقْسَمٌ عليه. . فالمقْسَمُ به هو الله: والمقسِم هم الجماعة المخالفون لرسول الله، ولماذا يقسمون؟ لقد أقسموا حينَ أخذهم الجدل بمنطق الحق فغلبهم. . هم أقسموا بالله وقد دعاهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلىعبادته، و {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} تعرف منها الجهد وهو المشقة أي أنهم بالغوا في القسم مبالغة تجهدهم ليبينوا لمن يقسمون لهم أنهم حريصون على أن يبروا بالقسم، فأفرغوا جهدهم ومشقتهم في القسَم، وهذا معناه أنهم أعلنوا أنهم يقسمون قسماً محبوباً لهم، والمحبوب لهم أكثر أن ينفذوا هذا القسم، وهذا يدل في ظاهره على إخلاصهم في القسم. {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ} [الأنعام: 109] . ألم يأت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بآية واضحة؟ لقد جاءهم بأعظم آية وهي القرآن، وعدم عرفانهم بذلك هو أول مصيبة منهم، ألم يقل لكم: إني رسول بعد أن أعلن الآية وهي نزول القرآن وأنتم تعرفون أنه صادق في التبليغ عن الله. . وكان ذلك هو قمة المماحكة منهم، وساروا على ذلك حين اقترحوا هم الآيات على الله، ألم يقولوا: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3864 نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 90 - 92] . وأراد الحق بذلك أن يبين لنا أنّ القسم الذي أقسموه هو قسم مدخول فقد قالوا: «كما زعمت علينا» والزعم - كما نعلم - مطية الكذب وهذا أول خلل في القسم. ويقول الحق: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء} [سبأ: 9] . هم إذن غير مؤمنين بالآية الأصلية وهي القرآن، فيتحدوْنه في أنه ينزل بالوحي، فيحذرنا الحق أن نصدق زعمهم، فهو القائل: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7] . وحتى إن نزلت الآية فلن يصدقوا؛ فالحق هو القائل: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: 14 - 15] ولو أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد سحركم. . فلماذا لم يسحرهم ليؤمنوا بالله؟ وهكذا نرى أن الحق قد ذكرنا لنا في كتابه أن كل ما يقولونه في هذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3865 المسألة هو مروق وهروب من الاستجابة للدعوة؛ لأنه لا توجد آية أعظم من الآية التي نزلت عليهم وهي القرآن، وكل الآيات التي اقترحوها لا تسمو على هذه الآية؛ لأنهم أمة نحو وصرف وبلاغة وبيان وأدب، فجاء لهم بالمعجزة التي تفرقوا فيها. وهم لم يتفوقوا في الأشياء التي ذكروها واقترحوها. إننا نأتي لهم بمعجزة من جنس ما تفوقوا فيه؛ لأن المعجزات دائماً تأتي على هذا الأساس؛ فكل قوم تفوقوا في مجال يأتي الله لهم بشيء يتفوق عليهم في مجال تفوقهم ليثبت صدق الرسول في البلاغ عنه. ولقد قلنا: إن المعجزات تأتي خرقاً لنواميس الكون الثابتة لأن نواميس الكون لها قوانين عرفها البشر، وأصبحت متواترة أمامهم؛ فإذا ما جاء أمر يخرق الناموس السائد المعترف به بينهم يلتفتون متسائلين كيف خرق الناموس وذلك ليعرف كل واحد منهم أن الذي خلق الناموس هو الذي خرق الناموس؛ لكي يثبت صدق هذا البلاغ عنه. وقد جاءتكم المعجزة من جنس ما نبغتم به، والذي يدل على ذلك أنهم لا يتكلمون في المعجزة بل في المنهج وفي شخص من جاء بالمنهج، تجدهم يقولون: {لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] . فيوضح القرآن أن المَلك بطبيعة تكوينه لا يُرى منكم؛ هو يراكم وأنتم لا ترونه، وإذا أرسلنا ملكاً فكيف تعرفونه؟ إذن سيتطلب إرسال ملك أن نخلع عليه وضع البشر، وإن ينزله الحق في صورة بشر، وإن نزل في صورة بشر فستقولون: إنه ليس بشراً ولسنا ملزمين بما جاء به: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] . وكان سيدنا جبريل - على سبيل المثال - ينزل إلى رسول الله أحياناً في صورة رجل قادم من السفر ويقعد ويتكلم مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لم يأت جبريل عليه السلام - إذن - بطبيعة تكوينه بل جاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3866 بطبيعة البشر. وهناك خلق آخر مثل الجن، ونحن لا نقدر أن نرى الجن، ولا نستطيع بقوانيننا وقوانين الجن أن نراه، لكن إذا أراد الجن أن يرينا نفسه فهو يتشكل بشكل مادي يرى؛ يتشكل بشكل حيوان، يتشكل بشكل قطة، يتشكل بشكل جمل، يتشكل بشكل رجل، وهكذا، ولو كانت هذه المسألة غير مقيدة بتقنين يحفظ توازن الأمر بين الجنسين - الإنس والجن - لتعب الناس؛ لأنه ساعة يظهر جن للإنسان ويقف أمامه ثم يختفي يسود الرعب بين البشر على الرغم من أن الجن تخاف من الإنسان اكثر مما نخاف نحن منهم؛ لأن الجن يعرف أن قانونه يسمح له أن يتشكل بشكل إنس أو أي شكل مادي، وحينئذ يحكمه قانون الإنس وإن التقى بشخص معه مسدس - مثلا - فقد يضربه بالرصاص ويقتله، ولذلك يخاف الجن أن يظهر للإنسان مدة طويلة، وإنما يظهر كموضة البرق ويختفي؛ لأنه يخاف كما قلنا - من الإنسان. إذن فالتوازن موجود بين الجن والإنس. ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن عفريتا من الجن جعل يفتك على البارحة ليقطع عليّ الصلاة وإن الله أمكنني منه فَذّعَتّهُ، فلقد هممتُ أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أوكلكم ثم ذكرت قول أخي سليمان:» رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي «فردَّه الله خاسئاً، وفي رواية:» والله لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة «. وهكذا نعلم أن القوم إذا اقترحوا آية، ثم جاء الله بالآية، فإن كذبوا بها أخذهم أخذ عزيز مقتدر ولا يؤجل ذلك للآخرة. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3867 إذن فحتى الكفار به نالهم شيء من رحمته. {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] . هنا يبلغ الحق رسوله أن يقول لهم: أنا لا آتي بالآيات من عندي ولا آتي بقانون قدرتي؛ لأن قانون قدرتي مساو لكم. ولست متفوقا عنكم غير أنه يوحي إليّ وأبلغكم ما أرسلت به إليكم. إنّ الله هو الذي يناولني آيات القرآن، ولا يوجد خلق يقترح على الله الآية؛ لأن ما سبق في الرسالات السابقة يؤكد أن الحق إذا ما استجاب لآية طلبها الخلق ولم يؤمنوا فسبحانه يهلكهم ويستأصلهم أو يغرقهم أو يرسل عليهم ريحا صرصرا أو يخسف بهم الأرض، والحق هو القائل: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإسراء: 59] . إذن فبعض أهل الرسالات السابقة اقترحوا الآيات وحققها الله لهم ثم كذبوا بها. إذن فالتكذيب هو الأصل عندهم. والمفروض أن تأتي الآية كما يريدها الله لا أن يقترحها أحد عليه. ولذلك يأمر الحق رسوله أن يبلغهم: {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} ثم يأتي خطاب جديد لأناس يختلفون عن المشركين هم المؤمنون، فيقول الحق لهم: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فكأنهم حينما قال أهل الشرك ذلك أراد المؤمنون أن يخففوا عنتهم مع رسول الله فقالوا له: يارسول الله، اسأل الله أن ينزل لهم آية حتى نرتاح من لجاجتهم، فيتجه الله بالرد على من قرظ هذا السؤال موضحا: أنتم مؤمنون وظنكم حسن، وفكرتكم طيبة في أنكم تريدون أن تكسروا حدة العنت، لكن ما يشعركم: أي ما يعلمكم أن الآية التي اقترحوها إن جئت بها لا يؤمنون. فكأن المؤمنين أيدوا قول هؤلاء المشركين في طلب الآية منعا للجاج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3868 والنص القرآني جاء بقوله الحق: «لا يؤمنون» وجاء العلماء عند هذه المسألة واختلفوا، وجزى الله الجميع خيرا؛ لأنها أفهام تتصارع لتخدم الإيمان. ونسأل: ما الذي يجعل الأسلوب يجيء بها الشكل؟ ونقول: إنها مقصودات الإِله حتى نعيش في القرآن. لا أن نمر عليه المرور السريع. والأسلوب في قوله: «وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» هو دليل على أنه ليس لكم علم. وقلنا: إن الشعور يحتاج إلى إدراك ومواجيد ونزوع، فعلى أي أساس بنيتم شعوركم هذا؟ أنتم أخذتم ظاهر كلامهم، ولكن الحق يعلم ويحيط بما يخفون ويبطنون. وكأنه سبحانه يوضح أن طلب الآية إنما هو تمحيك. وأنتم تعلمون أن الله إن جاء لهم بالآية فلن يؤمنوا. وبعض من المفسرين قال: إن (لا) زائدة ومنهم من كان أكثر تأدبا فقال: (لا) صلة لأنهم خافوا أن يقولوا: (لا) زائدة وقد يأخذ البعض بمثل هذا القول فيحذفها، لذلك أحسنوا الأدب؛ لأن الذي يتكلم هو الإِله وليس في كلامه حرف زائد بحيث لو حذفته يصح الكلام، لا. إنك إذا حذفت شيئا فالكلام يفسد ولا يؤدي المراد منه؛ لأن لله مرادات في كلامه، وهذه المرادات لابد أن يحققها أسلوبه. والمثال في حياتنا أن يقول لك واحد: «ما عندي مال» أو ما عندي من مال؟ إن «من مال» هنا ابتدائية أي من عندي من بداية ما يقال: إنه مال، أما من يقول: «ما عندي مال» أي ليس عنده ما يعتد به من المال الذي له خطر وقيمة، بل عنده قروش مما لا يثال له: مال. إن في جيبه القليل من القروش. و «لا» في هذه الآية جاءت لأن الحق يريد أن يقول للمؤمنين: ما يعلمكم يا مؤمنون أنني إذا جئت لهم بالآية يؤمنون، فكأنه سبحانه ينكر على المؤمنين تأييد مطلب الكافرين. وقد تلطف الحق مع المؤمنين وكرم حسن ظنهم في التأييد لأنهم لا يؤيدون الطلب حبا في الكافار، بل حبا في النبي والمنهج، وكأن الحق يقول لهم: أنا أعذركم لأنكم تأخذون بظاهر جهد اليمين {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ومبالغتهم فيه. ولا أنكر عليكم تصديقكم لظاهر قولهم؛ لأن هذا هو مدى علمكم، ومكا أدراكم أنني إذا جئت بالآية أنهم أيضا لن يعلنوا الإِيمان. ولو كنتم تعبمون ما أعلم لعرفتم أنهم لن يؤمنوا. إذن حين جاء الأسلوب ب {لاَ يُؤْمِنُونَ} ف «لا» حقيقية وليست زائدة. ومن أجل أن يطمئن الحق المؤمنين أظهر لهم أن علمه الواسع يعلم حقيقة أمرهم يقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3871 {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3872 وحين تقول: أنا أقلب السلعة فهذا يعني أنك تفحصها. والحق يبلغنا هنا: أنا قلبت قلوبهم على كل لون ولن آخذ بظاهر الفؤاد، بل بلطفي وعظيم خبرتي أعلم الباطن منهم فاطمئنوا إلى أن حكمي هو الحكم الحق الناتج من تقليب لطيف خبير. وقد يكون هنا معنى آخر، أي أن يكون التقليب لونا من التغيير؛ فمن الجائز أنهم حينما أقسموا بالله جهد أيمانهم كانوا في هذا الوقت قد اقتربوا من الإيمان ولكن قلوبهم لا تثبت على عقيدة. بل تتقلب دائما. ومادامت قلوبهم لا تثبت فأنَّى لنا بتصديقهم لحظة أن أقسموا بالله جهد أيمانهم على إعلان الإيمان إن جاءت آية؟ وهل فيهم من يملك نفسه بعد مجيء الآية أيظل أمره أم يتغير؟ . لأن ربنا مقلب القلوب وما كنت تستحسنه أولا قد لا تستحسنه ثانيا. حين {ونُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} أي أن الحكم قد جاء عن خبرة وإحاطة علم {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . إن الإيمان يحتاج إلى استقبال آيات كونية بالبصر، وبعد أن تستقبل الآيات الدالة على عظمة الإِله تؤمن به ويستقر الإيمان في فؤادك. وسبحانه يوضح لنا أنه يقلب أفئدتهم وأبصارهم، هل يبصرون باعتبار واقتناع؟ أو هي رؤية سطحية لا فهم لهم فيها ولا قدرة منهم على الاستنباط؟ وهل أفئدتهم قد استقرت على الإيمان أو أن أبصارهم قاصرة وقلوبهم قاصرة؟ {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] إذن فهم لا يؤمنون ويسيرون إلى ضلالهم. فإن جاءت آية فلن يؤمنوا، وفي هذا عذر للمؤمنين في أنهم يرجون ويأملون أن تنزل آية تجعل من أقسموا جهد الإيمان أن يؤمنوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3872 لماذا؟ لأن الحق قال: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، أي أنهم لم يتغيروا ولذلك يصدر ضدهم الحكم {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} والطغيان هو تجاوز الحد، وهم قد تجاوزوا الحد هنا في استقبال الآيات، فقد جاءتهم آيات القرآن وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها، وعجزوا عن أن يأتوا بعشر سور، وعجزوا عن أن يأتوا بسورة، وكان يجب ألا يطغوا، وألا يتجاوزوا الحد في طلب الاقتناع بصدق الرسول. {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} و «العمه» هو التردد والحيرة، وهم في طغيانهم يترددون، لأن فيهم فطرة تستيقظ، وكفرا يلح؛ يقولون لأنفسهم: أنؤمن أو لا نؤمن؟ والفطرة التي تستيقظ فيهم تلمع كومضات البرق، وكان يجب ألا يترددوا: أو {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} في النار؛ لأن البصر لم يؤد مهمته في الاعتبار، والقلب لم يؤد في الفقه عن الله، فيجازيهم الله من جنس ما عملوا بأن يقلب أبصارهم وقلوبهم في النار. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3873 هنا يوسع الحق المسألة. فلم يقل: إنهم سوف يؤمنون، بل قال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} مثلما اقترحوا، أو حتى لو كلمهم الموتى، كما قالوا من قبل: {فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الدخان: 36] ويأتي القول: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} و «الحشر» يدل على سوق بضغط مثلما نضع بعضا من الكتب في صندوق من الورق ونضطر إلى أن نحشر كتابا لا مكان له، إذن: الحشر هو سوق فيه ضغط، وهنا يوضح الحق: لو أنني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3873 أحضرت لهم الآيات يزاحم بعضها بعضا وقدرتي صالحة أن آتي بالآيات التي طلبوها جميعا لوجدت قلوبهم مع هذا الحشر والحشد تضن بالإيمان. {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} و «قبلا» هي جمع «قبيل» ، مثل سرير وسرر. {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} . وهذا يعني أن الحق إن جاء لهم بكل ما طلبوا من آيات، وكأن كل آية تمثل قبيلة والآية الأخرى تمثل قبيلة ثانية، وهكذا. فلن يؤمنوا، أو «قبلا» تعني معاينة أي أنهم يرونها بأعينهم، لأن في كل شيء دبرا وقبلا؛ والقبل هو الذي أمام عينيك، والدبر هو من خلفك. فإن حشرنا عليهم كل شيء مقابلا. ومعاينا لهم فلن يؤمنوا. وإن اخذتها على المعنى الأول أي أنه سبحانه إن حشد الآيات حشدا وصار المعطي أكثر من المطلوب فلن يؤمنوا. وإن أردت أن تجعلها مواجهة، أي أنهم لو رأوا بعيونهم مواجهة من أمامهم فلن يؤمنوا. {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111] وجاء الحق هنا بمشيئته لأن له طلاقة القدرة التي إن رغب أن يرغمهم على الإيمان فلن يستطيعوا رد ذلك، ولكن الإرغام على الإيمان لا يعطي الاختيار في التكليف ولذلك قال سبحانه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] والله لا يريد أعناقا تخضع، وإنما يريد قلوبا تخشع. لذلك يذيل الحق الآية بقوله: {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} . والجهل يختلف عن عدم العلم، بل الجهل هو علم المخالف، أي أن هناك قضية والجاهل يعلم ما يخالفها، أما إن كان لا يعلم القضية فهذه أمية ويكفي أن نقولها حتى يفهمها فورا. لكن مع الجاهل هناك مسألتان: الأولى أن نزيل من ادراكه هذا الجهل الكاذب، والأخرى أن نضع في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3874 إدراكه القضية الصحيحة، وما دام أكثرهم يجهلون. فهذا يعني أنهم قد اتبعوا الضلال. ويقول الحق بعد ذلك: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3875 {وَكَذَلِكَ} إشارة من الحق سبحانه وتعالى إلى الرسل والأنبياء ليعطي الأسوة للرسول بإخوانه السابقين له في موكب الرسالات، فلست بدعا - يا محمد - في أنك رسول يُواجَه بأعداء، فكل رسول من الرسل ووجه وقوبل بهؤلاء الأعداء. وهل فَتّ أعداء الرسل في عضد مَن أرسل إليهم وأضعفوا قوتهم وأوهنوا عزائمهم وأثنوهم عن دعوتهم؟ أو ظل الرسل أيضا صامدين؟ . . إنهم صمدوا وأيدهم الله ونصرهم وإذا كنت أنت خاتم الرسل، وسيد المرسلين، والمعقب على رسالات سبقتك ولا معقب على رسالتك فلابد أن يكون الأعداء الذين يواجهونك مناسبين للمهمة التي تؤديها. وإياك أن تظن أن المقصد في هذه العداوة أننا تركناهم أعداء لمجرد العداء، لا، بل نحن قد أردنا هذه العداوة لصالح الدعوة؛ لأن الإنسان إذا ما كان في منهج خير وأهاجه الشر يتحمس لمزيد من الخير. ولذلك لا تجد الصحوات الإيمانية إلا حين يجد المؤمنون تحديا من خصومهم، هنا تجد الصحوة الإيمانية قد استيقظت لأن هناك خصوما يتحدونها، ولو لم يكن هناك خصوم لبقيت الصحوة فاترة. وهذا ما نراه حين يوجد من خصوم الإسلام من أي لون من ألوانهم مَن يتحدى أي قضية من قضايا الدين. في هذه الحالة نجد حتى غير الملتزم بمنهج الإسلام يغار على الدين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3875 إذن فالعداوة لها فائدة، وإياك أن تظن أن في أي مظهر في الوجود يُغلب الله على مراداته في كونه، والشر له رسالة لأنه لولا أن الشر موجود ويصاب الناس من أذاه لما تحمس الناس للخير، فالذي يجعلنا نتحمس للخير هو وجود الشر، وأوضحنا من قبل أن الباطل جندي من جنود الحق: لأن الباطل حين يعض ويعربد في الناس يتساءل الناس متى يأتي الحق لينقذنا، وأنك ساعة ترى مريضا يتألم إياك أن تظن أن الألم قد جاءه دون سبب، بل الألم جندي من جند الشفاء. وكأن الألم يقول لمن يصيبه: يا إنسان تنبه أن عطبا في هذا المكان فسارع إلى علاجه. ولذلك نجد أعنف الأمراض وأشرسها وأخبثها، هي الأمراض التي تأتي بلا ألم يسبقها، ولا تظهر أعراضها إلا أن يستعصي شفاؤها، وهكذا نرى أن الألم جندي من جنود العافية. وحين يكون لك عدو في الحارة أو في البلدة وعيونه مركزة عليك فأنت تخاف أن تقع منك هَنة وعيب حتى لا يشنّع عليك؛ لذلك تسير على الصراط المستقيم لأنك لا تريد أن تنصره على نفسك. والشاعر القديم، الذي أعجبه الشعر فشطره. يقول لك: عداي لهم فضل عليّ ومنة ... فعندي لهم شكر على نفعهم ليا فهم كدواء والشفاء بمرّه ... فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا همُ بحثوا عن زلَّتي فاجتنبتها ... فأصبحت مِمَّا دنس العرض خاليا وهم أججوا جهدي ولكن ببغضهم ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا لذلك لابد أن تنظر إلى كل شيء بحكمة إيجاد الحكيم له فقد شاء الحق أن يوجد الأعداء للدعوة الإسلامية حتى تنتصر وتقوى. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] وجعل الحق سبحانه وتعالى الأعداء للأنبياء، مهيَّجين ومثيرين للنبي ولأتباعه؛ لأن الأمر إذا حصلت فيه معارضة من مخالف أججت في نفس المقابل قوة حتى لا يهزم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3876 أمامه ولا يغلب أمام منطقه. ولذلك قال الحق: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا} لأي أنهم لم يتطوعوا بالعداوة إنما هو تسخير للعداوة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً} . وكيف يجعل الله لكل نبي عدوا؟ إنه يفعل ذلك بما أودع في الناس من الاختيار، وما داموا مختارين فالذي اختار الهدى يكون نصيراً للنبي، والذي اختار الضلال يكون عدوا للنبي. إذن فهم لم يكونوا أعداء بطبيعتهم، وإنما بما أودع الله فيهم من الاختيار. وإذا كان الله هو الذي أودع الاختيار فقد أراد أن يحقق مشيئته في قوله: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ. .} [الأنفال: 42] ولو شاء الله الا يكون للنبوة أعداء لفعل ذلك؛ لأن له طلاقة القدرة، ولكن ذلك سيكون بالقهر، والله لا يريد قهراً للعقلاء، وإنما يريد أن يذهبوا إليه بمحض اختيارهم؛ اي وهم قادرون على الا يذهبوا. وكلمة «عدو» في ظاهرها أنها مفرد، ولكنها تطلق على الواحد، وتطلق على الاثنين، وتطلق على الجماعة، فتقول: «هذا عدو لي» ؛ و «هذه عدو لي» ؛ ولا تقل «عدوة» ، وتقول: وهذان عدو لي، وهاتان عدو لي، لأن كلمة «عدو» تطلق على الذكر والأنثى وتقال للمفرد وللمثنى، وللجمع. اقرأ قول الحق: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77] واقرأوا قول الحق: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] ولم يقل أعداء، إذن فكلمة «عدو» تطلق على المفرد والمفردة، والمثنى والمثناة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3877 وعلى جمع المذكر والجمع المؤنث. لكن بعض الذين يحبون أن يكونوا مستدركين على كلام الله. يقول الواحد منهم: كيف يقول: «فإنهم عدو لي» ، أو «اهبطو بعضكم لبعض عدو» ؟! ويقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ. .} [الأعراف: 22] والشيطان عدو، وهم عدو. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً. .} [آل عمران: 103] ونقول له: أنت قد فاتك أن الذي يتكلم هو الرب الأعلى. والعداوة نوعان، فإذا تعدد العدو، وجمعته مصلحة واحدة في معاداة المعادي يكونون وحدة في العداوة فهم عدو واحد لاجتماعهم على سبب واحد في العداوة. لكن إذا تعددت أسباب العداوة فالأمر يختلف، فقد يكون لك عدو لأن مظهرك أحسن منه، وعدو آخر لأنك أذكى منه، وعدو ثالث لأنك أغنى منه. فلتعدد الأسباب صار كل واحد منهم عدوًا برأسه وجمع على أعداء لتعدد سبب العداوة. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ. .} [سورة الأنعام: 112] وشياطين الإنس والجن كما يقول النجاة بدل من عدو و «شياطين» جمع شيطان وهو اللعين المطرود، البغيض، سواء أكان من الإنس أم من الجن. {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} والوحي - كما نعرف - هم إعلام بخفاء، ولماذا يوحي بعضهم إلى بعض؟ لن غلبة الحق لا تجعلهم قادرين على أن يتجاهروا؛ لذلك يتآمرون مع بعضهم البعض، لكن الناس المحقين في قضية يتحركون في علانية. ولا يستخفون من الناس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3878 {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} ومن الذي يوحي؟ ومن الذي يوحى إليه؟ ليس لنا دخل بهذا الموضوع، إنما الوحي: هو إعلام بخفاء، إن كان إلهاماً في النفس، أو إن كان بالإشارة أو بالدس، أو إن كان بالوسوسة، أو إن كان بواسطة رسول نحن لا نراه، كل ذلك أساليب الوحي الشامل للخير والشر. وإذا كان الوحي من شياطين الجن فهل يوحون إلا بِشَرً؟ نعم. وكذلك هناك شياطين من الإنس يوحون أيضاً بشرّ. مصداقاً لقوله الحق: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} وزخرف القول، المقصود به أنهم يدخلون على المسائل بالتزيين، فيزينون للناس الشهوة، ولذلك سماها ربنا «وسوسة» ، ونعلم أن المعاني حين يؤخذ لها ألفاظ تؤخذ من الأشياء الحسيّة، والوسوسة هي صوت الحلى، وقد اختار الله لما يفعله الشياطين من الإنس والجن للفظ الموحى بالمعنى المراد لأن وسوسة الحلى تغري بالنفاسة وعظم القيمة، والوسوسة طريقها هو الخفاء. {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} وهم شياطين من الإنس والجن، إنس يوحي لإنس بأن يزين له المعصية والشهوة، وكثيراً ما يقع ذلك. وجنّي يوحي لجنّي؛ لأن الجن مكلَّف أيضاً. وكذلك يوحي الجن للإنس. {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} الزخرف. هو الشيء لمزين ظاهره لكن باطنه فاسد، ولذلك قال عَزَّ وَجَلَّ: {وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا. .} [الزخرف: 35] أي أموراً مزخرفة ظاهراً، لكن ليس لها عمق أو عمر أو نفاسة. {يوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً. .} [الأنعام: 112] وذلك ليغروهم ويخدعوهم ليفعلوا ويقترفوا المعصية، وإن لم يأتوا للمعصية بكلمات تزخرفها وتزينها فلن يستطيعوا أن يدخلوا بها على الناس؛ لذلك يعرضون ويبدون محاسن المعصية في ظاهر الأمر، مثال ذلك أنك لا تجد من يقول لآخر: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3879 اشرب الخمر لتصاب بتليف الكبد مثلا!! ولكن هناك من يقول: احتس الخمر ليذهب همك وتنشط نفسك ويكثر فرحك. {زُخْرُفَ القول غُرُوراً} أي ليغروهم؛ بإظهار فائدة موهومة فيه، ويسترون عن الناس مضرّة هذا الشيء ومهالكه. ويتابع سبحانه: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} إنّ الحق سبحانه وتعالى هو الذي أعطى خلقه اختياراً في أن يكونوا مؤمنين أو أن يكونوا كافرين، مهديين أو ضالين، في نور أو في ظلمة. ويأتي الوقت الذي يثيب فيه سبحانه أو يعاقب؛ لذلك فهو - جل شأنه - لا يرغمهم على فعل ثم يعاقبهم عليه؛ لأنه هو العدل. ولذلك نجد من يقول: لماذا العقاب ولا شيء في الكون يقع على غير مشيئة الله؟ ونقول: نعم كل شيء من فعل الله؛ لأن سبب الاختيار من الله. وسبحانه هو الذي خلق الاختيار. فالكافر لا يقدر أن يؤمن إلا أن شاء الله لكن المطلوب منه أن يؤمن لأن طبيعته صالحة للكفر وصالحة للإيمان. إذن خلق الله الإنسان مختاراً في أن يفعل أو لا يفعل في بعض الأمور، فالذي ينظر إلى أن كل فعل من الله أي ليس بطاقة من عبد، نقول له: صح رأيك. ومن يقول: إن هذا الأمر من العباد نقول له أيضاً: صح موقفك؛ لأن ربنا خلق الإنسان صالحاً لأن يحصل منه كذا. فإن أردت الحقيقة تجد كل فعل يأتي من الله، فأنت - على سبيل المثال - لم تخلق القوة التي لليد لترتفع، ولا خلقت القوة للأصابع لتنقبض. وإذا أردت أن تقبض يدك. فما هي العضلات التي تتحرك لتفعل الانقباض؟ أنت لا تعرف. إنّك تقبض يدك بمجرد إرادة منك أن تقبضها، والذي خلق لك هذه القوة يأمرك ألا تستعملها في قهر الآخرين، ولكن عليك أن تستعملها فيما يفيد الناس. واليد صالحة للضرب وللعمل الطيب وأنت لم تخلق الطاقة التي في اليد، ولا خلقت الانفعال فيها لإرادتك. {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي لو شاء عدم فعله لفعل؛ لأن له طلاقة القدرة فلا يقدر أحد أن يخرج عن مراده أبداً. ونحن نرى السماء والأرض وكل ما دون الإنسان مسخراً، ثم لماذا نأخذ أمثلة من السماء والأرض والنبات والجماد والحيوان؟ خذ المثال من نفسك. أنت فيك أشياء ليس لك سيطرة عليها، واختيار لك عليها، ألك اختيار أن تمرض؟ . لا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3880 ألك اختيار أن يقع عليك حجر وأنت تمشي؟ . لا. ألك اختيار في أن يصيبك سائق سكران؟ . لا. ألك اختيار في أن تموت او لا تموت؟ . لا. لقد جعل الله فيك الأمرين الأثنين: قهرك في أمور. والقهرية تثبت له - سبحانه - القدرة وطلاقتها، وجعلك مختارا في أشياء، والاختيار يثبت صحة التكليف. ويتابع الحق مذيلاً الآية: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} لأن افتراءهم وكذبهم وزعمهم الباطل لن يغير من حقيقة الأمر شيئاً، وهم يرون أن افتراءهم يعوق الدعوة، لا، فقد صار افتراؤهم وكيدهم وعداوتهم للنبي وقوداً مهيّجاً للدعوة؛ لأن يخلص الدعوة من الشوائب ويصهر المؤمنين بها ويخرج منهم خصال الشر ويملأهم بخلال الخير. {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض. .} [الرعد: 17] ولو لم يكن هناك مهيّجات لهذه المسائل لدخل الدعوة العاطل والباطل ولاندس فينا من لا يعرف قيمة الإيمان؛ لذلك يمحص الله بالأعداء وبالقوم الذين يقفون أمامها حتى لا يكون في حملة الدعوة احد من ضعاف العقائد وضعاف الإيمان، وهم الذين يخرجون هرباً من مسئوليات الإيمان ولا يبقى إلا أصحاب الرسالة الذين يخلصون الصدق مع الله وينقيهم الله بواسطة الأعداء. ولذلك قال: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] فمن الحكمة أنه - سبحانه - ثبط عزيمتهم وضعف رغبتهم في الانبعاث والخروج معكم. {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} [التوبة: 46] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3881 وهنا يقول الحق: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} وزخرف القول هو لون من الأداء له سُمَّاع، ومن يسمعونه قد لا يؤثر في قلوبهم ولا في نفوسهم، ومرة أخرى يسمعونه ويكون عندهم ميل وليس عندهم عقيدة ثابتة راسخة إلى هذا القول. وكيف يسلك هؤلاء الناس: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3882 كأن من يؤمن بالآخرة لا يقرب منه الزخرف أبداً ولا يميل إليه. وإن زُينت له معصية فإنه يتساءل: كم ستدوم لذة هذه المعصية؟ دقيقتين، ساعة، شهراً؛ وماذا أفعل يوم القيامة الذي يكون فيه الإنسان إمّا إلى دخول الجنة وإمّا إلى دخول النار. إذن فمن يؤمن بالآخرة لا تتقبل أذنه ولا فؤاده هذا الزخرف من القول، ولا يتقبله إلا من لا يؤمن بالآخرة، وهو لا يعرف إلا الدنيا، فيقول لنفسه: فلتتمتع في الدنيا فقط، ولذلك لو استحضرَ كل مؤمن العقوبة على المعصية ما فعلها، وهو لا يفعلها، وهو لا يفعلها إلا حين يغفل عن العقوبة. وإذا كنا في هذه الدنيا نخاف من عقوبة بعضنا بعضاً، وقدراتنا في العقوبة محدودة، فما بالنا بقدرة الرب القاهرة في العقوبة؟! ولذلك نجد الذين يجعلون الآخرة على ذكر من أنفسهم وبالهم إذا عرضت لهم أي معصية، يقارنونها بالعقاب، فلا يقتربون منها. {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} . والإصغاء هو ميل الأذن إلى المتكلم؛ لأنك قد لا تسمع من يتكلم بغير إصغاء، وحين يسير الإنسان منا في الطريق فهو يسمع الكثير، لكن أذنه لا تتوقف عند كل ما يسمع، بل قد تقف الأذن عندما يظن الإِنسان أنه كلام مهم. ولذلك يسمونه التسمع لا السمع، وهذا هو الإصغاء. ولذلك يقول النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: من تسمع غانية - أي امرأة تغني بخلاعة - ولم يقل: «من سمع» ، والإنسان منا قد يسير ويذهب إلى أي مكان والمذياع يذيع الأغاني، ويسمعها الإنسان، وآلة إدراك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3882 السمع منطقة وليست مفتوحة؛ فهو لا يتصنت، وآلة إدراك الانطباقية أو الانفتاحية مثل العين؛ فالعين لا ترى وهي مغمضة، إنها ترى وهي مفتوحة، والعين تغمض بالجفون أما الأذن فليس لها جفون يقول لها: لا تسمعي هذه، وهذه اسمعيها. إذن فالسمع ليس للإنسان فيه اختيار، لكن التسمع هو الذي له فيه اختيار. {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113] كأن فيه شيئا ينبع طلب السمع فيه من الفؤاد، أي يوافق ما في الأعماق، وشيئا آخر يمر عليه الإنسان مر الكرام غير ملتفت إليه. والأفئدة هي القلوب، صحيح أن الآذان هي التي تصغي، لكن القلوب قد تتسمع ما يقال، وكأن النفس مستعدة لهذه العملية؛ لأنها لا تؤمن بأن هناك آخرة وعندما استعداد لأن تأخذ لذة الدنيا دون التفات للآخرة. ولذلك ينقل الحق سبحانه الإصغاء من الأذن إلى الفؤاد وهذا إدراك. {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة. .} [الأنعام: 113] ثم تأتي المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة: {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113] وقد يصغي إنسان، ثم تتنبه نفسه اللوامة، ويمتنع عن الاستجابة. لكن هناك من يصغي ويرضى وجدانه ويستريح لما يسمع، ثم ينزع للعمل ليقترف الإثم. وهذه ثلاث مراحل: الأولى هي: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} . ثم المرحلة الثانية: {وَلِيَرْضَوْهُ} ، ثم المرحلة الأخيرة: {وَلِيَقْتَرِفُواْ} أي يرتكبوا الإثم، وهذه المسألة حددت لنا المظاهر الشعورية التي درسها علماء النفس فالإدراك؛ «لتصغى» ، والوجدان؛ «ليرضوه» ، والنزوع؛ «ليقترفوا» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3883 وقبل أن يولد علم النفس جاء القرآن بوصف الطبيعة البشرية بمراحلها المختلفة من إدراك ووجدان، ونزوع والشرع لا يتدخل عند أي مظهر من مظاهر شعور المرء إلا عند النزوع إلا في حالة واحدة حيث لا يمكن فصل النزوع عن الوجدان وعن الإدراك؛ لذلك يتدخل الشرع من أول الأمر، وهو ما يكون في عملية نظر الرجل إلى المرأة؛ لأنك حين تنظر تجد نفسك: تحبها وتعشقها تفتن بها، ومحرم عليك النزوع، فحين تتقدم ناحيتها يقول لك الشرع: لا. ولأن هذا أمر شاق على النفس البشرية، ولا يمكن فصل هذه العمليات؛ لأنه إن أدرك وَجِد، وإن وَجِد نزع، فأمر الحق بالامتناع من أول الأمر: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ. .} [النور: 30] {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ. .} [النور: 31] إذن فقد منع الإدراك من بدايته ولم ينتظر حتى النزوع، لماذا؟ لأن الإدراك الجمالي في كل شيء يختلف عن الإدراك الجمالي في المرأة. الإدراك الجمالي في المرأة يُحدث عملية كيماوية في الجسم تسبب النزوع، ولا يمكن فصلها أبداً. {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} . وساعة ما نقول: «ما» ويأتي الإبهام فهذا دليل على أن هناك أموراً كثيرة جدًا. ولذلك يقول الحق: {. . فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] أي أنه أمر لا يمكن أن تحدده الألفاظ، مثله مثل قوله: {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} . أي أن كل واحد يقترف ويكتسب ويعمل ويرتكب ما يميل إليه؛ فهناك من يغتاب أو يحسد أو يسرق وغير ذلك من شهوات النفس التي لا تحدد؛ لذلك جاء لها باللفظ الذي يعطي على العموم. وما دامت المسألة في نبوّة واتباع نبوّة، وفي أعداء شياطين من الإنس والجن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3884 ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً إذن فهذه معركة، وحتى يتم الفصل فيها لابد من حاكم يحكم. فأوضح الحق: يا محمد أنا أرسلتك، ولك أعداء وسيكيدون لك بكذا وكذا ويبذلون قصارى جهدهم في إيذائك ومن اتبعك، فإياك أن تبتغي حكما غيري؛ لأني أنا المشرع وأنا من أحكم، وأنا الذي سوف أجازي. لماذا؟ لأن الخلاف على ما شرع الله، ولا يستقيم ولا يصح أن يأتي من يقول مراد المقنن كذا، أو المفسر الفرنسي قال كذا، والمفسر الإِنجليزي قال كذا، لا، إن الذي يحكم هو من وضع القانون، ومراداته هو أعلم بها، والحق الواضح هو أعلم به، وسبحانه هو من يحكم، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها.» أي إياك أن يقول واحد: إن النبي قد حكم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد حكم بظاهر الحجة، وقد يكون واحد من المختصمين قوي الحجة، والآخر لا يجيد التعبير عن نفسه. إذن فالحكم هو الله لأنه هو الذي قنن، ومادام هو الذي قنن وهو الذي يحكم بينكم، فليطمئن كل إنسان يتخاصم مع غيره؛ لأن القضية يفصل فيها أعدل العادلين وأحكم الحاكمين. ولذلك يقول الحق سبحانه: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3885 فسبحانه هو من يحكم وهو من قنن، وهو من يعلم القانون ويعلم من يتبع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3885 القانون، ومن يخالف القانون. وساعة تقول: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} . فهذا دليل على أنك واثق أن مجيبك لن يقول لك إلا: لا تبتغي حكما إلا الله، ولذلك يطرح المسألة في صيغة استفهام، ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مبلغا عن ربه: {وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً} ، ولم يقل رسول الله: وهو الذي أنزل عليّ الكتاب، بل قال مبلغاًَ عن رب العزة: {وهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} كأن العداوة ليست لمحمد وحده، لكنها العداوة لأمة الإيمان كلها، والحكم لأمة الإيمان كلها. ومع أن القرآن نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولاً، ولكن مهمته البلاغ إلى الناس والغاية منه للمؤمنين كلهم، وهكذا تكون العداوة للنبي عداوة للمؤمنين كلهم، ولذلك أنزل عليه الحق هذا التساؤل: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} كما أنزل عليه من قبل القول الحق: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112] إذن فعدو النبي هو عدو المؤمنين به والمتبعين له، لكن قمة العداوة تكون للنبي المرسل من الحق: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114] وكلمة {مِّن رَّبِّكَ بالحق} فيها إغراء للمؤمنين بأن كل الأمر يعود عليكم أنتم بالفائدة؛ لأن غاية إنزال الكتاب لكم أنتم، والكتاب جاء بهذا المنهج لصالحكم ولن يزيد في صفات الله صفة، ولن يزيد في ملك الله ملكا. بل الغاية أنتم. {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} [الأنعام: 114] وسبحانه لم ينزل الكتاب إلا بتفصيل لا تلتبس فيه مسألة بأخرى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3886 {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114] والمقصود هنا بالذين آتيناهم الكتاب اليهود والنصارى؛ لأنهم يعلمون صفاتك يا رسول الله ويعلمون نعتك ويعلمون الكثير من كتابك فكل ما يتعلق بك موجود عندهم لكن الآفة أنهم اعتنقوا دينين: دينا يعلن يبدونه ويظهرونه، ودينا يُسَرّ به، فما يسر به لا يعلنونه ويُحرِّمون السؤال فيه، ولا يقبلون فيه نقاشاً، وعندما تصل إلى الحقيقة وتعرضها عليهم لا يقبلونها، وما الذي جعلهم يلتوون هكذا؟ لأن لهم حالين اثنتين: حال أيام أن كانوا يعاديهم من لا يؤمن بالسماء ومنهج السماء كعبدة الأوثان والمشركين. وقال فيه الحق: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 89] لقد كانوا من قبل أعداء للذين كفروا وأشركوا فكان همهم وشغلهم الشاغل أن ينتصروا على هؤلاء الكافرين، وقالوا: (أظل زمان نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم) وحينما جاءهم ما عرفوا كفروا به لأنهم: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً ... } [التوبة: 9] وكان الثمن هو بقاء السلطة في أيديهم، وعندما تأتي النبوة تنزع منهم السلطة، فليس في الإِسلام سيطرة لرجال الدين ولا كهنوت. وكانوا يريدون أن تستمر سيادتهم، فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3887 وهم يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، وهم يعلمون أن الذي يشيعونه هو باطل. إذن فهناك علم بينهم وبين نفوسهم؛ وعلم آخر يقولونه للآخرين. وقوله الحق: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند ربك بالحق. هذا خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونعلم أنه إذا طلب المتكلم من المخاطب أمرا هو فيه فالمراد المداومة عليه والزيادة؛ لأن هناك أموراً قد تزلزل الإيمان؛ لذلك يأتي الأمر بالثبات، أو هو إهاجة له، أو هو تسلية للمؤمنين إذ قال لهم لا تمتروا ولا تشكوا. ويقول الحق بعد ذلك: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3888 وكلمة «تمت» تدل على أن المسألة لها بداية ولها خاتمة، فما المراد بالكلمة التي تمت؟ . أهي كلمة الله العليا بنصر الإسلام وانتهاء الأمر إليه؟ أو هو تمام أمر الرسالة حيث قال الحق: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً. .} [المائدة: 3] أو «كلمة ربك» المقصود بها قرآنه؟ . ونرى أن معنى «تمت» استوعبت كل أقضية الحياة إلى أن تقوم الساعة، فليس لأحد أن يستدرك على ما جاء في كتاب الله حكماً من الأحكام؛ لأن الأحكام غطت كل الأقضية. ولفظ «كلمة» مفردة لكنها تعطي معنى الجمع. وأنت تسمع في الحياة اليومية من يقول: وألقى فلان كلمة طيبة قوبلت بالاستحسان والتصفيق. هو قال كلمات لكن التعبير عنها جاء ب «كلمة» إذن {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} المقصود بها المنهج الذي يشمل كل الحياة، واقرأ قوله الحق: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ. .} [الكهف: 5] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3888 أهي كلمة أو كلمات؟ أنها كلمة ولكن فيها كلمات. إذن لفظ «كلمة» تطلق ويراد بها اللفظ المفرد، وتطلق ويراد بها الكلام. والكلمة في الأصل لفظ مفرد، أي لا يكون معها لفظ آخر، ولكنها تدل على معنى، فإذا كان المعنى غير مستقل بالفهم؛ ويحتاج إلى ضميمة شيء إليه لنفهمه فهذا حرف، وأنت تقول: «في» وهو لفظ يدل على الظرفية، إلا أنه غير مستقل بالفهم؛ لأن الظرف يقتضي مظروفاً ومظروفاً فيه، فتقول: «الماء في الكوب» لتؤدي المعنى المستقل بالفهم. وكذلك ساعة تسمع كلمة «من» تفهم أن هناك ابتداء، وساعة تسمع كلمة «إلى» تعلم أن هناك انتهاء. وإن كان يدل على معنى في نفسه وهو غير مرتبط بزمن فهو الاسم. وإن كان الزمن جزءاً منه فهو «الفعل» . أما «الكلام» فهو الألفاظ المفيدة. وحين تسمع «سماء» تفهم المعنى، وكذلك حين تسمع كلمة «أرض» وهو معنى مستقل بالفهم. وحين تسمع كلمة «كتب» فهي تدل على معنى مستقل بالفهم، والزمن جزء من الفعل، فكتب تدل على الزمن الماضي و «يكتب» تدل على الحاضر و «سيكتب» تدل على الكتابة في المستقبل. إذن ف «الكلمة» لفظ يدل على معنى فإن كان غير مستقل بالفهم فهو حرف. و «الكلمة» قد يقصد بها الكلام. وقوله الحق: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} تعني الكثير. فإن أردت بها القرآن فالمقصود هو كلمة الله. وكلام الله نسميه «كلمة» لأن مدلوله كلمة واحدة. انتهت وليس فيها تضارب، هذا إن أردنا بها القرآن، ولتفهم أن القرآن قد استوعب كل شيء، وكل قضية في الوجود وأيضاً لم ينس أو بدّل فيه حرف؛ بل بقى وسيبقى كما أنزل؛ لأن الآفة في الكتب التي نزلت أنهم كتموا بعضها ونسوا بعضها، وحرفوا بعضها، وكان حفظها موكولاً إلى المكلفين، ومن طبيعة الأمر التكليفي أنه يطاع مرة، ويعصى مرة أخرى. وإن أطاعوا حافظوا على الكتب، وإن عصوا حرفوها بدليل قوله تعالى الحق: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله. .} [المائدة: 44] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3889 و «استحفظوا» : أي طلب منهم أن يحافظوا عليه، وهذا أمر تكليفي عرضة أن يطاع، وعرضة أن يعصى، لكن الأمر اختلف بالنسبة للقرآن فقد قال الحق: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فسبحانه هو من يحافظ على القرآن، وليس ذلك للبشر لأن القرآن معجزة، والمعجزة لا يكون للمكلَّف عمل فيها أبداً. إذن فقوله الحق: {وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} المقصود بها أن تَطْمَئِن على أن القرآن الذي بين يديك إلى أن تقوم الساعة هو هو لن تتغير فيه كلمة، بدليل أنك تتعجب في بعض نصوص القرآن، فتجد نصًا مساويا لنص، ثم يختلف السياق، فيقول الحق: {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 54 - 55] ومرة أخرى يقول سبحانه: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 11 - 12] ومرة أخرى يقول: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29] فهذا لون ونوع من المتشابه من الآيات ليقول لنا الحق: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] والحق يقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3890 {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 1 - 9] وفي آية أخرى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34] وكل ذلك يدلك على أن كل كلمة وصلتك كما أنزلت، وبذلك تكون كلمة ربك قد تمت. أو قول الله: {وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} ليدل على أن كلمة الله هي العليا، ولذلك تلاحظ أن «كلمة الله هي العليا» لم يجعلها الحق جعلاً، وإنما جاءت ثبوتاً، وسبحانه القائل: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى. .} [التوبة: 40] هذا السياق الإعرابي حصل فيه كسر مقصود، والسياق في غير القرآن أن يقول: وجعل كلمة الله هي العليا، ولكنه سبحانه يقول: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} وسبحانه أراد بذلك أن نفهم أن كلمة الله هي العليا دائماَ وليست جعلاً. وهذا دليل على أن كلمته قد تمت. ونلحظ أن قول الحق: {وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} تأتي بعد {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} ، واستقرىء موكب الرسالات من لدن آدم، وانظر إلى حكم الله بين المبطلين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3891 والمحقين، وبين المهتدين والضالين: إنه الحق القائل: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} [العنكبوت: 40] والحاصب هو الريح التي تهب محملة بالحصى وكانت عقوبة لقوم عاد. {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة} [العنكبوت: 40] وهم قوم ثمود، يسميها مرة الصيحة، وأخرى يسميها الطاغية: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5] ومرة يخسف بهم الأرض مثلما فعل مع قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} وكذلك: {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} . وقد أغرق الله قوم فرعون وكذلك أغرق - من قبلهم - المكذبين لنوح. إذن كل قوم أخذوا حكم الله عليهم، لكنك يا محمد مختلف عنهم وكذلك أمة محمد التي أصبحت مأمونة على الوصية، وعلى المنهج، ولذلك قال الحق: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وبعد أن بعث الحق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] إذن {تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} ، وهي الفصل النهائي: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3892 لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173] وأنتم المنصورون لأنكم منسوبون إلى منهج غالب، والنصر للمنهج الغالب يقتضي الإخلاص، فإن تنصروا المنهج باتباعه ينصركم من أنزل المنهج، فهو القائل: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي. .} [المجادلة: 21] وما قاله كان هو الواقع وما جاء به الواقع كان مطابقاً للكلام. {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً. .} [الأنعام: 115] أي وافق الواقع الكوني ما قال الله به وكيف كان الواقع صادقاً وعادلاً في آن واحد؟ لنفرض أنك أحضرت مدرساً خصوصيًّا لولدك، وصادف أنه هو الذي يدرس في المدرسة وهو الذي يدرس لابنك ثم قلت له: أريد أن ينجح الولد في الامتحان. ووعد المدرس بذلك ثم جاء الامتحان ونجح الولد، فتكون كلمة المدرس قد صدقت. لكن هل هذا عدل؟ قد يكون المدرس هو واضع الأسئلة ولّمح للولد بالأسئلة، ويكون النجاح حينئذٍ غير عادل، لكن كلمة الله تجيء مطابقة لما قال، موقعها مطابق لما قال، وهي كذلك عدل؛ لأنه سبحانه أوضح الثواب والعقاب: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} . لأنه لا مبدل لكلمات الله، ولا يوجد إله آخر يعارضه فله سبحانه طلاقة القدرة. أما بالنسبة للبشر فقد علَّم الله عباده احتياط الصدق في كلامهم؛ فأوصاهم: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله. .} [الكهف: 23 - 24] لأن فعل ذلك غداً والإتيان به وإحداثه هو أمر يتعلق بالمستقبل الذي لا نتحكم فيه، فاحم نفسك وقل: «إن شاء الله» ، فإن لم يحدث يمكنك أن تقول: لم يشأ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3893 ربنا حدوث ما وعدت به، وبذلك يحمي الإنسان نفسه من أن يكون كاذباًَ ويجعل نفسه صادقاً فلا يتكلم إلاَّ على وفق ما عنده من قوانين الفعل وعدم الفعل؛ لأنه عندما تقول: «أفعل ذلك غداً» . ماذا ستفعل غداً وأنت لا تضمن نفسك وحياتك وظروفك؟! لكن الله إذا قال: «سأفعل» فله طلاقة القدرة. {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السميع العليم} [الأنعام: 115] ومادامت الكلمات ستتحقق والحكم سيصدر فهذا دليل على أنه سبحانه سميع لما قالوه في عدواتهم، وعليهم بما دبروه من مكائدهم، وهو القائل من قبل: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ. .} [الأنعام: 121] أي ليعلموهم بخفاء، فإن كان كلامهم ظاهراً فهو مسموع، وإن كان بخفاء فهو معلوم. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3894 و {مَن فِي الأرض} المقصود بهم المكلفون؛ لأنهم هم من يتميزون بالاختيار ولهم أوامر ونواه، فما دون الإنسان لا أمر له، و «أكثر» لا يقابلها بالضرورة كلمة «قليل» أو «أقل» ، وما دام القول هو: «أكثر» . فقد يكون الباقون كثيراً أيضاً، وأمّا كثير فإنها، تعطي له كميته في ذاته وليست منسوبة إلى غيره، ولذلك كنا نسمع من يقول: مكتوب على محطة مصر أو على «المطار» أو على «الميناء» ، يا داخل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3894 مصر منك كثير، أي إن كنت رجلاً طيباً فستجد مثلك الكثير، وإن كنت شريراً فستجد مثلك الكثير أيضاً. ويقول الحق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب. .} [الحج: 18] فكل الكائنات مقهورة مسخرة، وعند الناس انقسم الأمر؛ لأن لهم اختياراً، فراح أناس للطاعة وذهب أناس للمعصية، فلم يقل الحق: والناس. بل قال «وكثير من الناس» ، ولم يقل الحق: وقليل حق عليه العذاب، لكنه قال: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} فهؤلاء كثير وهؤلاء كثير، وإن نظرت إليهم في ذاتهم فهم كثير، والآخرون أيضاً إذا نظرت إليهم تجدهم كثيراً. ولماذا يقول الحق: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} ؟ «الطاعة» - كما نعرف - استجابة للأمر في «افعل» ، والنهي في «لا تفعل» إذا قال الحق للإنسان افعل كذا؛ فالإنسان صالح لأن يفعل، وأن لا يفعل، وإن كان هناك شيء لا تقدر عليه فلن يقول لك: افعله. والإنسان عادة حين يؤمر أو يُنهي إنما يؤمر وينهي لمصلحته، فإن لم يوجد أمام مصلحةٍ معارض من منهج إلهي فهذا من مصلحته أيضاً؛ لأن الله أجاز له حرية الفعل والتّرك. ويوضح الحق: من رحمتي أن جعلت لكم تشريعاً؛ لأننا لو تركنا الناس إلى أهوائهم فسيأمر كل واحد من الذين لهم السيطرة على الناس بما يوافق هواه، وسينهي كل واحد من الناس بما يخالف هواه؛ لذلك نعصم هذا الأمر بالمنهج. حتى لا يتضارب الخلق ولا يتعاكس هواك مع هوى أخيك. ومن المصلحة أن يوجد مطاع واحد لا هوى له، ويوجد منهج يقول للجميع «افعلوا كذا» و «لا تفعلوا كذا» وبذلك يأتي الاستطراق لنفعهم جميعاً. ولذلك يقول الحق: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله. .} [الأنعام: 116] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3895 فهناك أناس مؤمنون وهم أصحاب الفطرة السليمة بطبيعتهم؛ لأن الخير هو الفطرة في الإنسان، وقد جاء التشريع لينمي في صاحب الفطرة السليمة فطرته أو يؤكدها له، ويعدل في صاحب النزعة السيئة ليعود به إلى الفطرة الحسنة. والذين يضلون عن سبيل الله ماذا يتبعون؟ يقول الحق: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} . كل واحد منهم يظن أن هذا الضلال ينفعه الآن، ويغيب عنه ما يجر عليه من الوبال فيما بعد ذلك. و «الظن» - كما نعلم - هو إدراك الطرف الراجح ويقابله الوهم وهو إدراك الطرف المرجوح والظن هنا، هو ما يرجحه الهوي: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَْ} [الأنعام: 116] و «إن» - كما نعرف - تأتي مرة جازمة: إن تفعلْ كذا تجدْ كذا، وتأتي مرة نافية، مثل قوله الحق: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ. .} [المجادلة: 2] أي: ما أماتهم؛ ف «إن» هنا نافية. وقوله الحق: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي ما يتبعون إلا الظن. هم إما أن يتبعوا الظن وإمّا أن يخرصوا. (فالخارص) هو من يتكلم بغير الحقيقة، بل يخمن تخميناً، كأن ينظر إنسان إلى آخر في سوق الغلال ويسأله: كم يبلغ مقدار هذا الكوم من القمح؟ . فيرد: حوالي عشرة أرداب أو اثنى عشر أردباً، وهو يخمن تخميناً بلا دليل يقيني أو بلا مقاييس ثابتة، أو يقول كلاماً ليس له معنى دقيق. فإذا اتبعت الناس فسوف يضلونك. لأنهم لا يملكون دليلاً علمياً، ولاحقًا يقينيًا، بل يتبعون الظن إن كان الأمر راجحاً، ويخرصون ويخمنون حتى ولو كان الأمر مرجوحاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3896 ويقول سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3897 وساعة ترى «هو» هذه فاعرف أنها تَرُدّ وتجيب على ما يمكن أن يقال، فهناك من يقول: أنا سوف أرى تصرفات فلان، ولأنك من البشر فمهما علمت عنه فأنت محدود الإداراك؛ لأنك سترى تصرفات فقط، ولن ترى انفعالات قلبه وتقلبات عقله، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو الأعلم؛ لأن الميزان كله عنده، إنه يدرك الظاهر والباطن، وهو سبحانه يقول هنا: «أعلم» وهناك «عليم» ، و «العليم» هو من يرى ظاهر الأمر ويحيط به، لا الخافي منه، أما الذي يرى الظاهر والخفي فهو أعلم. ولذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مسائل كثيرة يعامل الناس بعلانيتهم، ويترك سرائرهم إلى الله. «وعندما قتل مسلم رجلاً أعلن الإسلام، سأله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لماذا؟ ، قال: لأنه أعلن الإسلام نفاقاً. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أشققت عن قلبه؟ {» وسبحانه وتعالى «أعلم» ؛ لأنه يعلم الظاهر والباطن، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ويقول الحق: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3897 وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين} ما الذي أدخل هذه المسألة في هذا السياق؟ لقد تكلم الحق عن أن هناك أعداء لكل نبي يلتمسون ثغرة في منهجه ليتكلموا فيها، وهذه هي مهمتهم التي هيأها الله لهم، فحين يقولون الاعتراضات نجد المنهج يرد عليهم وبذلك تنتفع الدعوة إلى أن تقوم الساعة. مثال ذلك نجد الجماعة الذين عارضوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الإسراء والمعراج، فحين قال لهم: أنني أسرى بي إلى المسجد الأقصى وعرج بي إلى السماء في ليلة واحدة، التمسوا له ثغرة لينفذوا منها ويضللوا غيرهم وقالوا له: أتدّعي أنك أتيتنا في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟} {لكنْ أبو بكر الصديق قال: إن كان قال فقد صدق، وهذا هو الإيمان الذي يحسن استقبال الأمر المخالف للنواميس. ويجادلون أبا بكر، فيقول: أنا صدقته في خبر السماء فكيف أكذبه في ذلك، مادام قال فقد صدق، وهذا كلام منطقي. لكنَّ المعارضين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: أتدّعي أنك أتيتها في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً} فأعطى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم الأمارات ووصف لهم العير التي في الطريق، وغير ذلك من العلامات التي تجعل من الأمر حجة إلى يوم القيامة، ولو مرّت مسألة الإسراء والمعراج من غير أن يعترض أحد من الأعداء، لما وجدنا الحرارة في تصديقها. إننا نجد حالياً من يقول: وهل من المعقول أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ راح إلى بيت المقدس وجاء في ليلة؟ لابد أن ذلك كان حلماً. لو لم يقولوا هم هذا ما كنا عرفنا الرد؛ إنما هم قالوها حتى نعرف الرد ويظل الرد رادعاً إلى أن تقوم الساعة، وهذه هي المهمة التي جعلها الله للأعداء؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو قال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3898 لهم: إنني حلمت أني رحت بيت المقدس. أكان هناك من يعترض على أن يحلم النبي حتى ولو قال: إنه ذهب إلى آخر المعمورة إنه لا يجرؤ واحد أن يكذبه، لكنهم ما داموا قد كذبوه، ورفضوا تصديق الإسراء فهذا دليل على أنهم فهموا من الذهاب أنه ليس ذهاب رؤيا وإنما ذهاب قالب، لقد فهموا عنه أنه انتقل بجسده من مكة إلى بيت المقدس، ولذلك كذبوه، وهذا التكذيب منهم ينفعنا الآن، لنردَّ به على المكذبين المعاصرين. إذن فوجد الأعداء يهيج القرائح التي يمكن أن نرد على أية شُبَهٍ يثيرها أي إنسان سواء أكان ماضياً أم معاصراً. والحق هنا يقول: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام 118] هذه الآية لها قصة توضح كيف يحاول الأعداء اصطياد الثغرات لينفذوا منها، وقالوا: يقول النبي لكم: إن الميتة لا يحل أن تأكلوا منها، وما تذبحونه بأيديكم كلوا منه، والذبح لون من الموت، هذه هي الشبهة التي قالوها، وهي أولاً مغالطة في الأساليب؛ لأن الميتة غير المذبوحة وغير المقتولة. فالمذبوحة إنما ذبحناها لنطهرها من الدم؛ لذلك فالمناقشة الفقهية أو العلمية تهزم قولهم؛ لأن هناك فرقاً بين الموت والقتل. فالموت هو أخذ للحياة بدون سلب للبنية، إنما القتل هو سلب للبنية أولاً فتزهق الروح ويبقى الدم في الجسم. ثم هل يأخذ المشرع وهو الرب الأعلى الحكمة منّا أو أن الحكمة عنده هو وحده؟ . وقد تبين لنا في عصرنا أن غير المؤمنين بدأوا في الاهتداء إلى أن الميتة فيها كل الفضلات الضارة، واهتدوا إلى إزالة كل الفضلات الضارة من الحيوانات التي يريدون أكلها؛ لأن تكوين جسم الحيوان يتشابه مع تكوين جسم الإنسان، فهو يأكل ويهضم ويمتص العناصر الغذائية ليتكون الدم والطاقة، وفي الجسد أجهزة تصفي وتنقي الجسم من السموم الضارة، فَالكُلْية مثلاً تصفّي الدم من البولينا وغيرها، ويسير الدم ليمر على الرئة ليأخذ الأوكسيجين، وكل ذلك لتخليص الجسد من الفضلات الضارة، وأوعية الدم في الإنسان والحيوان فيها الدم الصالح والدم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3899 الفاسد، والدم الفاسد هو الذي لم تتم تنقيته، وعندما نذبح الذبيحة ينزل منها الدم الفاسد وغيره، أي أننا ضحينا بالدم الصالح في سبيل وقايتنا من الدم الفاسد. لكنها إن ماتت دون ذبح؛ فآثار الدمين الاثنين موجودة. وكذلك آثار الفضلات التي كان يجب أن يتخلص منها، وهذا ما نفعله في هذا الأمر، لكن هل لنا مع الحق سبحانه وتعالى تعقل في شيء إلا في توثيق الحكم والاطمئنان إلى مجيئه منه جلت قدرته؟ كان جدلهم انهم قالوا: أنتم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله، فأنتم تظنون أنفسكم أحسن من الله، وهذا افتراء منهم. ثم إن الحيوان حين يموت لم يذكر عليه اسم الله، لكن الذبيحة التي نذبحها نذكر عليها اسم الله، فكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه. أي غير الميتة وغير ما يذبح للأصنام. {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام 118] إنَّ تلقي أي حكم من الحق، لا يصح أبداً أن نبحث عن علته أولاً ثم نؤمن به، بل علينا بعد أن نثق بأنه من الله الذي آمنا به. علينا إذن أن نأخذ الحكم الذي أمر به الله. {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين} [الأنعام: 119] وللآيتين - كما علمنا - سبب نزلتا من أجله وهو أن بعض المعارضين لرسول الله الذين يقفون من الدعوة موقف التكذيب والعمل على إبطالها والقضاء عليها كانوا يُشيعون عند المؤمنين إشاعات قد تفت في عضدهم العقدي فعرضوا هذه المسألة وهي في ظاهرها تشكيك. وهم قد عرضوا القضية بهذا الشكل غير المتسق؛ لأن من الذي قتل؟ لقد قالوا: إن الميتة قتلها الله، فهل الله هو الذي قطع رقبتها؟ وهل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3900 ضربها الله على رأسها فأمات أصل إدارة الحياة وهو المخ؟ هل صوّب شيئاً إلى قلبها؟ سبحانه جل وعلا منزه عن مثل هذه الأفعال البشرية، فكيف يسمون الموت قتلاً؟ إن تسمية الموت قتلاَ هو الخطأ، فقولهم: كيف تبيحون لأنفسكم ما قتلتموه أي بالذبح. ولا تبيحون ما قتله الله أي أماته، فيه مغالطة في عرض القضية، ويريد الله سبحانه وتعالى أن يضع عند المؤمنين مناعة من هذه الهواجس التي يثيرونها؛ فقال: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام 118] وما معنى الذكر؟ إنّ عدم تحديد العلماء المعنى المقصود بالذكر، هو الذي أوجد بينهم خلافاً كبيراً. فسيدنا الإمام مالك يرى أنك إذا ذبحت ولم تذكر اسم الله سواء أكنت ناسياً أم عامداً فلا يصح لك ان تأكل من الذبيحة. ويرى الإمام أبو حنيفة: إذا كنت لم تسم ناسياً فكل مما ذبحت، لكن إن كنت عامداً فلا تأكل، والإمام الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يرى: ما دمت مؤمناً ومقبلاً على الذبح وأنت مؤمن فَكُلْ مما لم تذكر اسم الله ناسياً أو عامداً لأن إيمانك ذكر لله. ونقول: ما هو الذكر؟ هل الذكر أن تقول باللسان؟ أو الذكر أن يمر الشيء بالخاطر؟ إن كنتم تقولون إنّ الذكر باللسان فلنبحث في الحديث القدسي الذي قاله الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم.» إذن فقد سمّي ربنا الخاطر في النفس ذكراً وبذلك يصبح من حق الإمام الشافعي أن يقول ما قال. لذلك أقول: يجب أن نحدد معنى الذكر أولاً حتى ننهي الخلاف حول هذه المسألة، فليس من المقبول أن نقيم معركة حول معنى «الذكر» ؛ لأن الذكر وهو خطور الأمر على البال قد يصحبه أن يخطر الأمر على اللسان مع الخطور على البال، وقد يظل خطوراً على البال فقط، بدليل ما جاء في الحديث السابق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3901 والمؤمن حين يجد أمامه أشياء كثيرة، قد يوجد شيء جميل وآخر ليس له من الجمال شيء؛ فالجاموسة أقل في الجمال من بعض الحيوانات التي حرم الله أكلها، وأقبل المؤمنون على ذبح الجاموسة ليأكلوا منها. ولم نسمع عن مسلم تقدم إلى حيوان حرم الله أكله ليذبحه، لماذا؟ لأن المؤمن يقبل على ما أحل الله، وهذا الإقبال دليل على أنه ذكر في نفسه المحلل والمحرم وهو الله، إذن اختياره حيواناً للذبح دليل على أنه ذكر الله في النفس أو في القول، وبهذا نتفق على أن ذكر المؤمن يكون في قلبه قال أو لم يقل، وينتهي الخلاف في هذه المسألة. إذن الإمام الشافعي أخذ بهذه المسألة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما سئل عن أكل المسلم من ذبيحة لا يعرف من ذبحها وهل سمّى أو لم يسمّ، أوضح لمن سأله: سمّ وَكُلْ. فالإنسان منا لا يحضر وقت الذبح دائماً، ويكفيه أن يستحضر المحلل والمحرم ساعة الأكل. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: اذكروا اسم الله، وسبحانه يعلم أنك تقبل على أشياء لتفعلها. وهذه الأشياء تنقسم إلى قسمين: قسم يمر على بالك قبل أن تفعله، وقسم لا يمر على بالك، بل تفعله تلقائياً بدون ما يمر على البال، ومثال ذلك الأفعال العكسية كلها التي يفعلها الإنسان إنها لا تمر على باله. فلو حدث أن حاول واحد أن يضع إصبعه في عين آخر، فهذا الآخر يغمض عينيه تلقائياً. ويختلف ذلك عن الفعل الذي تفكر فيه قبل أن تفعله. فالذي يفعل الفعل بعد أن يمر بخاطره هو فعل ذو بال. ولذلك أراد الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ألا يكلفنا عناء أو مشقة؛ فقال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع.» والأمر ذو بال هو الأمر الذي يكون قد خطر على بالك أن تفعله أو لا تفعله. إذن فالله سبحانه وتعالى لا يكلفنا إلا عند الأمر الذي يمر على الخاطر؛ لأنك حين تقبل على أي فعل فينفعل لك كما تريد، إن هذا من عطاء الله لك، وأنت حين تذبح عجلاً، أو خروفاً، وتتأمل أنت كيف يُقدرك الله على هذا الكائن الحي. وإنك لم تفعل ذلك إلا لتسخير الله كٌلَّ الكائنات لك. فباسم الله تذبحه. إذن هناك أمور كثيرة وأفعال ذات بال تمر عليك ومن حسن الأدب والإيمان أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3902 تقبل عليها باسم الله. ولذلك يخطئ بعض الناس حين يظنون أن الإنسان عندما يذبح حيواناً فهو يؤذيه. لا، بل ذبح هذا الحيوان هو تكملة لمهمته في الحياة؛ لأنه مخلوق لهذا الهدف ومذلل له. لقد قلنا سابقاً: إن هناك عجيبة من عجائب المزاولات الفعلية، هذه العجيبة أنك حين تأتي إلى الحيوانات التي لم يحلها الله للإِنسان، كالحمار مثلا إذا ما تعرضت هذه الحيوانات إلى ما يميتها، كأن التف حول عنقه حبل، واختنق فهو يموت دون أن يمد رقبته إلى الأمام، لكن الحيوان الذي أحله الله للأكل؛ مثل الجاموسة أو الخروف أو العجل، نجد الحيوان من هذه الحيوانات إن اختنق يمد رأسه إلى الإمام، فيقول أهل الريف في مصر: إنه يطلب الحلال، أي الذبح. فلا يسمى ذبح الحيوان اعتداء عليه؛ لأن الحيوان مخلوق لهذه المهمة. إذن فمعنى كلمة «باسم الله» أي أنني لم أجترئ على هذا العمل إلا في إطار اسم الله الذي أحل لي هذا. بعد ذلك يقول الحق للمؤمنين: لا تسمعوا كلام الكافرين، ويأتي السؤال الاستنكاري: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} والمعنى: أي سبب يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟ وقد فصل لكم ما حرم عليكم، فما ذكر اسم الله عليه ليس من ضمن المحرمات التي نص الله عليها، فربنا سبحانه هو من حلل وحرم. وإن قيل: ما دام قد حرم علينا بعض الأشياء فلماذا خلقت هذه الأشياء؟ ونقول: إن من يفكر بمثل هذا الأسلوب يتناسى أن كل مخلوق من الحيوانات ليس مخلوقاً للأكل، بل لكلٍ حيوان مهمة. وإن ذبحت محرماً، فقد يناقص هذا الفعل مهمته فالخنزير - مثلاً - حرّمه ربنا؛ إن ذبحته فستذهب به بعيداً عن مهمته؛ لأنه مخلوق كي يلم جراثيم الأشياء التي لا تراها العين، فأنت حين تذبحه تخرجه عن مهمته. والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإِنسان، ويعلم ما يناسبه من غذاء يولد الطاقة ولا يهدر الصحة؛ لذلك حرم وحلل له، وإياك أن تقول: إن الله سبحانه وتعالى لم يحرم إلا الشيء الضار؛ فقد حرم شيئاً غير ضار لأنه يريد بذلك الأدب في: «افعل هذا» و «لا تفعل هذا» . ولذلك قال الحق سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3903 وفي حياتنا اليومية هل تقول: إن الذين يربون أبناءنا في الجيش بالشدة، يقسون على الأبناء؟ لا، بل إنهم يعدّونهم لمواجهة المهام الشاقة. وأن يتعوّدوا التزام الأدب والطاعة والانضباط، فكذلك حلل الحق ما أراد وحرم ما شاء ليجعل الكون منضبطاً بقدرة الحكيم القادر، فسبحانه يحرم أشياء مثل المخدرات، ونحن في بعض الأحيان نتناولها لنداوي بها الأمراض، فلو أخذها الإِنسان من غير مرض أو داعٍ فإنّها تسرق الصحة من بنية الإِنسان، وإن أخذها من بعد ذلك للعلاج لا تأتي بالمفعول المطلوب منها. ولذلك نجد من الأطباء من يسأل الإِنسان قبل إجراء الجراحات الدقيقة إن كان المريض قد تناول المخدرات أو لا، وذلك حتى يتعرف الأطباء على حقيقة ما يصلح له من ألوان التخدير. وسبحانه وتعالى قد منع عنا تلك الألوان من مغيبات العقول، لعلنا نحتاج إليها في لحظة الشدة والمرض. إذن فالحق سبحانه وتعالى قد ربط كل حكم من الأحكام التحليلية والتحريمية ب «إن كنتم مؤمنين» ، ومعنى «إن كنتم مؤمنين» أي يا من آمنتم بالإِله الحكيم الذي لا يأمر إلا بما فيه مصلحتكم، امتنعوا عن مثل تلك الأفعال، وإذا أقبلت على أي شيء مما أحله الله لك فأقبل عليه باسم الله، وسبحانه وتعالى له أسماء علمها لنا، وأنزلها في كتابه، وأسماء علمها لأحد من خلقه، وأسماء استأثر بها في علم الغيب عنده، وهذه الأسماء هي صفات الكمال لله، التي لا توجد في غيره. وحين نستحضر الاسم الجامع لكل صفات الكمال نقول: باسم الله. وتنهي المسألة. وحين ناقش العلماء مسألة التحريم والتحليل، قال بعضهم: إن الحق سبحانه وتعالى قال في أول سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] وهنا في سورة الأنعام يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] والمتنبهون من العلماء قالوا: إن سورة المائدة مدنية، ومعنى كونها مدنية أنها نزلت بعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3904 السورة المكية، وسورة الأنعام مكية، وهل يقول الحق في السورة المكية {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} في السورة المدنية؟ وبعض العلماء الذين أعطاهم ربنا نور بصيرة قال: لقد فصل لكم في سورة المائدة وجاء أيضاً في سورة الأنعام فقال: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 145] أي فصل لك في هذه السورة المكية. وقد يأتي واحد من المولعين بالاعتراض أو من خصوم الإسلام ويقول: لم تذكر الآية كل الأشياء المحرمة لماذا؟ ونقول: القرآن هو الخطوط الأساسية في المنهج، وتأتي السنة بالتفصيل في إطار: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا. .} [الحشر: 7] والحق يقول هنا: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ. .} [الأنعام: 119] واضطرار هو أمر ملجئ إلى شيء غير الأسباب الكونية المشروعة. ومعنى كونه مضطراً أنه يلجأ إلى شيء فقد أسبابه المشروعة كالذي يريد أن يأكل ليستبقي الحياة، فإذا لم يجد من الحل ما يستبقي به الحياة فهو مضطر. ونقول له: خذ من غير ما أحل الله بالقدر الذي يدفع عنك الضرورة فكل من الميتة بقدر الضرورة ولا تشبع. والحق يقول: {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ. .} [المائدة: 3] والمخمصة هي المجاعة. إذن فالاضطرار هو شيء فوق الأسباب المشروعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3905 للعمل. والله سبحانه وتعالى يعطي الإنسان الرخصة في أن يتناول ما حرمه إذا كان مضطراً. {إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ. .} [الأنعام: 119] والذين يضلون بأهوائهم بغير علم هم من أرادوا زراعة الشك في نفوس المسلمين ومعنى الضلال بالهوى أي أن تكون عالما بالقضية، ولكن هواك يعدل بك عن مراد الحق من القضية. ولذلك يصف الحق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] وحين يقول الحق: {وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِ} فمعنى ذلك أنه يوجد ضلال بغير هوى، وهو عدم وصول الإنسان إلى الحقيقة؛ لأنه لا يعرف الطريق إليها، والضلال بالهوى أي أن تكون عندك الحقيقة وأنت عارف بدورها ولكنك تعدل عنها: {وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ. .} [الأنعام: 119] وساعة ترى مجيء متعلق بعد «يضلون» وهو قوله: {بِأَهْوَائِهِم} تقول كأن هناك ضلالاً بغير علم، وهو غير مذموم؛ لأن صاحبه لا يعرف الحكم في القضية، وهذا يختلف عن الذي يضل وهو يعرف الحكم، فهذا ضلال بالهوى، وهذا الفهم يحل لنا إشكالات كثيرة أيضاً. و {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي ليس عندهم علم بالقضية وأحكامها. ويذيل الحق الآية بقوله: {. . إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين} [الأنعام: 119] وقد أفسح الله في النص القرآني لبعض خلقه الذين يعرفون المهتدى من غير المهتدى، والكثير من الناس لا يعلمون المهتدى من غير المهتدى ولكن إن علموا فالله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3906 ويقول الحق بعد ذلك: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3907 هذه تقنينات السماء التي تحمي المجتمع من بعضه وذلك في ألا تقع عين أحد على مخالفة من أحد، وإذا وقعت عينك على مخالفة من غيرك تكون المخالفة مما يدرك لكنها ليست كل الفساد في المجتمع؛ ففساد المجتمع يأتي من أشياء كثيرة لا تقع تحت دائرة الإِدراكات. وهناك أشياء تكون في منابع النفس البشرية التي تصدر عنها عوامل النزوع؛ فقبل أن يوجد إثم ظاهر يوجد إثم باطن، والإِِثم الباطن سابق على الإِثم الظاهر. والتقنينات البشرية كلها تحمينا من ظاهر الإِثم، ولكن منهج السماء يحمينا من فساد ظاهر الإِثم وباطن الإثِم. ويوضح لنا الحق الفرق بين تقنين البشر للبشر وتقنين الإِله، فسبحانه رقيب على مواجيدكم ووجداناتكم وسرائركم، فإياكم أن تفعلوا باطن الإِثم، ولا يكفي أن تحمي نفسك من أن يراك القانون؛ لأن قصارى ما يعمل القانون أن يمنع الناس من أن يتظاهروا بالجريمة ويقترفوها علانية، والفرق بين تشريع السماء وتشريع الأرض أن تشريع الأرض يحمي الناس من ظاهر الإِثم، ولكن تشريع السماء يحمي الناس من ظاهر الإِثم وباطن الإِثم، وباطن الإِثم هو أعنف أنواع الإِثم في الأرض. وبعض أهل الاكتساب في الشر برياضتهم على الشر يسهل عليهم فعل الشر وكأنهم يفعلون أمراً قد تعودوا عليه بلا افتعال. و «كسب» - كما نعلم - تأتي بالاستعمال العام للخير، و «اكتسب» تأتي للشّر لأن الخير يكون فيه الفعل العملي رتيباً مع كل الملكات، ولا افتعال فيها، فمن يريد - مثلاً - أن يشتري من محل ما فهو يذهب إلى المحل في وضح النهار ويشتري. لكن من يريد أن يسرق فهو يرتب للسرقة ترتيباً آخر، وهذا افتعال، لكن الافتعال قد يصبح بكثرة المران والدربة عليه لا يتطلب انفعالاً، لأنه قد أضحى لوناً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3907 من الكسب. و «يكسبون» تدل على الربح؛ لأن «كسب» تدل على أنك أخذت الأصل والزيادة على الأصل، والإنسان حين يصنع الخير إنما يعطي لنفسه مقومات الحياة ويأخذ أجر الآخرة زائداً، وهذا هو قمة الكسب. ويريد الحق سبحانه وتعالى من العبد في حركته أن يحقق لذاته نفعاً هو بصدد الحاجة إليه، ولكن الإنسان قد يحقق ما ينفعه وهو بصدد الحاجة إليه، ثم ينشأ من ذلك الفعل ضرر بعد ذلك؛ لذلك يحمي الله الإنسان المؤمن بالمنهج حتى يمييز بين ما يحقق له الغرض الحالي ويحقق نفعاً ممتداً ولا يأتي له بالشر وما يحقق له نفعاً عاجلاً ولكن عاقبته وخيمة ونهايته أليمة، إننا نجد الذين يصنعون السيئات ويميلون للشهوات - مثلاً - يحققون لأنفسهم نفعاً مؤقتاً، مثل التلميذ الذي لا يلتقفت إلى دروسه، والذي ينام ولا يستيقظ، والذي إن أيقظوه وأخرجوه من البيت ذهب ليتسكع في الشوارع، هي في ظاهر الأمر يحقق لنفسه راحة، لكن مآله إلى الفشل. بينما نجد أن من اجتهد وجدَّ وتعب قد حقق لنفسه النفع المستمر الذي لا تعقبه ندامة. {إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120] ففي الدنيا نجد أن الجزاء من بشر لبشر، ولكن ماذا عن لحظة العرض أمام الله وهو العليم بظاهر الإثم وباطن الإثم؟ فالذي يصون المجتمع - إذن - هو التقنين السماوي، فالمنهج لا يحمي الإنسان ممن حوله فحسب ولكنه يقنن لحركة الإنسان لتكون صحيحة. ويعود الحق بعد ذلك إلى قضية الطعام فيقول: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3908 وهنا يسمى الحق ما لم يذكر اسم الله عليه ب «الفسق» وهو ما تشرحه الآية الأخرى وتبرزه باسم مخصوص: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 145] إذن ف «فسقاً» معطوفة على الميتة والدم المسفوح ولحم خنزير، لكنه سبحانه فصل بين المعطوف وهو «فسقاً» ؛ والمعطوف عليه بحكم يختص بالمعطوف عليه، وهذا الحكم هو الرجس وهكذا أخذت الثلاثة المحرمات حكم الرجس. وعطف عليها ما ذبح عليه اسم غير الله كالأصنام وهو قد جمع بين الرجس والفسق. ويقول الحق: {وإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ} وسبحانه يريد أن يبين لنا أن الفطرة السليمة التي لا يميلها هوى تصل إلى حقائق الخير، ولذلك نجد أن الذين يحثون ويحض بعضهم بعضا على الشر ويعلم بعضهم بخفاء إنما يأخذون مقام الشيطان بالوسوسة والتحريض على العصيان والكفر؛ لأن المسألة الفطرية تأبى هذا، وحين يرتكب إنسان موبقة من الموبقات، إنما يلف لها وبتحايل ليصل إلى ارتكاب الموبقة، وقد يوحي بذلك إلى غيره، فيدله على الفساد. ويكون بذلك في مقام الشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم بإعلام خفي؛ لأن الفطرة السليمة تأبى الأشياء الشريرة وتقف أيضاً فيها، ولا يجعلها تتقدم إلى الشر إلى الهوى، فإذا ما أراد شيطان من الإنس أو شيطان من الجن أن يزيّن للناس فعلاً فهو لا يعلن ذلك مباشرة. إنما يلف ويدور بكلام ملفوف مزين. {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وفي ذلك إشارة إلى قول المشركين: تأكلون ما قتلتم أنتم ولا تأكلون ما قتل الله وأنتم أولى أن تأكلوا مما قتل الله. {. . وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3909 وكأن مجرد الطاعة لهؤلاء المشركين لون من الشرك؛ لأن معنى العبادة امتثال وائتمار عابد لمعبود أمراً ونهياً، فإذا أخذت أمراً من غير الله فإنه يخرج بك عن صلب وقلب منهجه سبحانه وبذلك تكون قد أشركت به. ويقول الحق بعد ذلك: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3910 والحق سبحانه وتعالى - كما عرفنا - يعرض بعض القضايا لا عرضاً إخبارياً منه، ولكن يعرضها باستفهام؛ لأنه - جل وعلا - عليم بأنه حين يأتي لك الاستفهام، ثم تدير ذهنك لتجيب فلن تجد إلا جواباً واحداً هو ما يريده الحق. إذن فالأسلوب أحياناً يكون أسلوباً خبرياً أو يكون استفهاماً بالإثبات أو استفهاماً بالنفي. وأقواها الاستفهام بالنفي. وحين يعرض سبحانه القضية التي نحن بصددها يوضح وهو العليم أنك إن أحببت أن تجيب فلن تجد إلا الجواب الذي يريده الحق. إننا نجد في الآية الكريمة موتاً وحياة، وظلاماً ونوراً. وما هي الحياة؟ . الحياة هي وجود الكائن على حالة تمكنه من أداء مهمته المطلوبة منه، وما دام الشيء يكون على حالة يؤدي بها مهمته ففيه حياة، وأرقى مستوى للحياة هو ما تجتمع فيه الحركة والحس والفكر، وهذه الأمور توجد كلها في الإنسان. أمّا الحيوان ففيه حس وحركة وليس عنده فكر. غير أن الحيوان له غريزة أقوى من فكر الإنسان، فهو محكوم بالغريزة في أشياء وبالاختيار في أشياء، وليس لك في الغريزة عمل. لكن في مجال الاختيار لك عمل، تستطيع أن تعمله وتستطيع ألا تعمله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3910 إذن فالحياة هي أن يكون الكائن على حال يؤدي به مهمته المطلوبة منه. وعلى هذا الاعتبار ففي الإنسان حياة، وفي الحياة حياة، وفي النبات حياة، وفي الجماد حياة، وكلما تقدم العلم يثبت لنا حيوات أشياء كثيرة جداً كنا نظن ألا حياة فيها، وإن ظهر لنا في التفاعلات أن بعض الأشياء تتحول إلى أشياء أخرى، فعلى سبيل المثال الحيوان فيه حياة فإذا ذبحناه وأكلناه، ورمينا عظامه، كانت فيها حياة من نوع ثم صارت أجزاؤه إلى جمادية لها حياة من نوعها، بدليل أنه حين يمر بعض من الزمن يتفتت العظم. وكنا قديماً في الريف نحلب اللبن في أوعية من الفخار وتوضع في مراقد، ويستمر اللبن أسبوعاً في المرقد، ويكون أحلى في يومه عن أمسه. ويزداد اللبن حلاوة كل يوم، ثم تأخذ زوجة الفلاح قطعة القشطة الأخيرة وتصنع منها الجبن الجميل الطعم. أو الزُّبد لكن بعد أن غلينا اللبن نجده يفسد بعد عدة ساعات؛ لأنك حين وضعته في المرقد، أخذته بالحياة فيه فظلت فيه حيوية حياته، لكن حين غليته فقد قتلت ما فيه من الحياة، فإن لم تضعه في ثلاجة لابد من أن يتعفن، ومعنى التعفن أنه لم يعد يؤدي مهمته كلبن، وإنما انتقل إلى حياة أخرى بفعل البكتريا وغيرها، ولا يُذهب الحياة إلا الهلاك وهو ما قاله الحق: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ. .} [القصص: 88] إذن، لا تأخذ الميت على أنه شيء ليس فيه حياة، ولكنه انتقل إلى حياة ثانية. {أوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس. .} [الأنعام: 122] كأن للإنسان حياة في ذاته، ثم جعل الحق له نوراً يمشي به. كأن الحياة متنقلة في أشياء، ويحتاج الإنسان إلى حياة، ويحتاج إلى نور تتضح به مرائي الأشياء. وكانوا قديماً يعتقدون أن الإنسان يرى حين ينتقل شعاع من عينه إلى المرئي فيراه، إلى أن جاء العربي المسلم ابن الهيثم. وقال هذا رأي جانبه الصواب في قانون الضوء، وقال: إن الإنسان يرى؛ لأن شعاعاً من المرئي يصل إلى عين الرائي. بدليل أن المرئي إن كان في ضوء يدركه الإنسان، وإن كان في ظلمة لا يدركه الإنسان، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3911 ولو كانت الأشعة تخرج من عين الإنسان لرأى الأشياء سواء أكانت في نور أم في ظلمة، وتعدلت كل النظريات في الضوء على يد العالم المسلم، وجاءت من بعد ذلك الصور الفوتوغرافية والسينما. إذن فالنور وسيلة إلى المرئيات. ويترك الحق سبحانه وتعالى في أقضية الكون الحسية أدلة على الأقضية المعنوية؛ فالنور الحسيب الذي نراه إما ضوء الشمس وإما ضوء القمر، وإما ضوء المصباح، وإما غير ذلك، وهذا ما يجعل الإنسان يرى الأشياء، ومعنى رؤية الإنسان للأشياء أن يتعامل معها تعاملاً نفعياً غير ضار. ونحن نضيء المصباح بالكهرباء حين يغيب النور الطبيعي - نور الشمس - وعندما نضيء مصابيحنا نرى الأشياء ونتفاعل معها ولا نحطمها ولا تحطمنا، وكل واحد منا يأخذ من النور على قدر إمكاناته. إذن كل واحد يضيء المكان المظلم الذي اضطر إليه بغيبة المنير الطبيعي على حسب استطاعته، فإذا ظهرت الشمس أطفأنا جميعاً مصابيحنا؛ هذا دليل من أدلة الكون الحسيّة الملموسة لنأخذ منها دليلاً على أن الله إن فعل لقيمنا نورا فلا نأتي بقيم من عندنا، مادامت قيمُهُ موجودة. ويوضح الله أن الإنسان بدون قيم هو ميت متحرك، ويأتيه المنهج ليحيا حياة راقية. ويوضح سبحانه لكل إنسان: احرص على الحياة الثانية الخالدة التي لا تنتهي وذلك لا يتأتى الا اتباع المنهج، وإياك أن تظن أن الحياة فقط هي ما تراه في هذا الوجود لأنه إن كانت هذه هي غاية الحياة لما أحس الإنسان بالسعادة؛ لأنه لو كانت الدنيا هي غايتنا للزم أن يكون حظنا من الدنيا جميعاً واحداً وأعمارنا واحدة، وحالاتنا واحدة، والاختلاف فيها طولاً وقصراً وحالاً دليل على أنها ليست الغاية؛ لأن غاية المتساوي لا بد أن تكون متساوية. إذن فقول الله هو القول الفصل: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان. .} [العنكبوت: 64] فهذه هي الحياة التي لا تضيع منك ولا تضيع منها، ولا يفوتك خيرها ولا تفوته. إذن فالذي يحيا الحياة الحسية الأولى وهي الحركة بالنفخ في الروح هو ميت متحرك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3912 {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ} [الأنعام: 122] أي أنه سبحانه قد أعطى لمثل هذا العبد حياة خالدة ونوراً يمشي به، ولا يحطِّم ولا يتحطم. أما من يقول: إن الحياة بمعناها الدنيوي، لا تختلف عن الحياة في ضوء الإِيمان، لمثل هذا نقول: لا، ليس بينهما تساوٍ فهما مختلفان بدليل ان الحق يقول: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال 24] فسبحانه يخاطبهم، وما دام يخاطبهم فهم أحياء بالقانون العادي، لكنه سبحانه أنزل لرسوله المنهج الذي يحيا به المؤمن حياة راقية، وافطنوا إلى أن الحق سبحانه وتعالى أعطى ومنح الروح الأولى التي ينفخها في المادة فتتحرك وتحس بالحياة الدنيا، إنّه أعطاها المؤمن والكافر. ثم يأتي بروح ثانية تعطي حياة أبدية. ولذلك سمّي منهج الله لخلقه روحاً: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] فالمنهج يعطي حياة خالدة. إذن فقوله الحق: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} أي أَوَ من كان ضالاً فهديناه، أو من كان كافراً فجعلناه مؤمناً. ولنلحظ أن فيه «ميْتاً» بالتخفيف، وفيه ميّت بالتشديد. والميّت هو من يكون مآله الموت وإن كان حيًّا، فكل منا ميّت وإن كان حيَّا. ولكن الميْت هو من مات بالفعل وسلبت وأزهقت روحه. ولذلك يخاطب الحق نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول له: (إنك ميّت) . أي تؤول إلى الموت وإن كنت حيًّا الآن. لأن كٌلاًّ من مستمر في الحياة إلى أن يتلبس بصفة الفناء، ويقول الحق: «فأحييناه» أي بالمنهج الذي يعطيه حياة ثانية، ولذلك سمّي القرآن روحاً، وسمّي من نزل بالقرآن روحاً أيضاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3913 {وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس} ولماذا يمشي به في الناس فقط، وليس بين كل الأشياء؟؛ لأن الأشياء الأخرى من الممكن أن تحتاط أنت منها، ولكن كلمة الناس تعبر عن التفاعل الصعب لأنهم أصحاب أغيار. ويتابع الحق: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} وهذا تساؤل جوابه: لا، أي ليس كل منهما مساويا للآخر، مثلما نقول: هل يستوي الأعمى والبصير؟ . والفطرة هنا تقول: لا، مثلما تؤكد الفطرة عدم استواء الظلمات والنور، أو الظل والحرور، وهنا يَأْمَنُنَا الله على الجواب؛ لأنه سبحانه - يعلم الأمر إذا طرح السؤال كسؤال وكاستفهام فلن نجد إلا جواباً واحداً هو ما يريد الحق أن يقوله خبراً. ويذيل الحق الآية: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] والمعنى هنا أي تركناهم عرضة لأن ينفعلوا للتزيين، ولم يحمهم الحق بالعصمة في اختيارهم؛ لأنه سبحانه قد ترك الاختيار حرًّا للإنسان: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ويقول الحق من بعد ذلك: {وكذلك جَعَلْنَا فِي. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3914 وقول الحق سبحانه: {وكذلك} تدل على أن شيئاً شبِّه بشيء، فكما وُجد في مكة من يناصبك العداء ويناهضك ويقاومك في أمر الدعوة إلى الله، ويصدّ عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3914 سبيل الحق؛ إن تلك قضية لست فيها بدعاً من الرسل؛ لأن هذه المسألة قضية سائدة مع كل رسول في موكب الإيمان، و «كذلك» أي كما جعلنا في مكة مجرمين يمكرون جعلنا في كل قرية سبقت مع رسول سبق هذه المسألة، فلم تكن بدعاً من الرسل. وحيث إنك لم تكن بدعاً من الرسل فلتصبر على ذلك كما صبر أولو العزم من الرسل. وأنت أولى منهم بالصبر؛ لأن مشقاتك على قدر مهمتك الرسالية في الكون كله، فكل رسول إنما جاء لأمة محدودة ليعالج داءً محدوداً في زمان محدود. وأنت قد جئت للأمر العام زماناً ومكاناً إلى أن تقوم الساعة، فلابد أن تتناسب المشقات التي تواجهك مع عموم رسالتك التي خصك الله بها. {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} [الأنعام: 123] والإجرام هو مأخوذ من مادة «الجيم» و «الراء» و «الميم» ، الجرْم والجُرْم والجريمة. فيها معنى القطع. و «مجرميها» جمع مجرم، ومجرم من أجرم، وأجرم أي ارتكب الجُرم والجريمة، ومعنى ذلك أنه قطع نفسه بالجريمة عن مجتمعه الذي يعايشه، فهو يعزل نفسه لا لمصلحة لأحد إلا لمصلحته هو، فكأنه قام بعملية انعزال اجتماعي، وجعل كل شيء لنفسه، ولم يجعل نفسه لأحد؛ لأنه يريد أن يحقق مرادات نفسه غير مهتم بالنتائج التي تترتب على ذلك. إذن فالإجرام هو الإقدام على القبائح اقداماً يجعل الإنسان عازلاً نفسه عن خير مجتمعه؛ لأنه يريد كل شيء لنفسه. ومادام كل شيء لنفسه فعامل التسلط موجود فيه، ويرتكب الرذائل. ولأنه يرتكب الرذائل فهو يريد من كل المجتمع أن تنتشر فيه مثل هذه الرذائل؛ لكي لا يشعر أن هناك واحداً أحسن منه. {. . لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123] والمكر - كما نعرف - مأخوذ من التفاف الأغصان بعضها على بعض التفافاً بحيث لا تستطيع إذا أمسكت ورقة من أعلى أن تقول هذه الورقة من هذا الفرع؛ لأن الأغصان والفروع ملفوفة ومتشابكة ومجدولة بعضها مع بعض. والماكر يصنع ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3915 لأنه يريد أن يلف تبييته حتى لا يُكشف عنه، ومادام يفعل ذلك فاعلم من أول الأمر أنه ضعيف التكوين؛ لأنه لو لم يعلم ضعف تكوينه لما مكر لأن القوي لا يمكر أبداً، بل يواجه، ولذلك يقول الشاعر: وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت كذلك قدرة الضعفاء والضعيف عندما يملك فهو يحدث لنفسه بأن هذه الفرصة لن تتكرر، فيجهز على خصمه خوفاً من الا تأتي له فرصة أخرى، لكن القوي حين يأتي لخصمه فيمسكه ثم يحدث نفسه بأن يتركه، وعندما يرتكب هذا الخصم حماقة جديدة فيعاقبه. إذن فلا يمكر الا الضعيف. والحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة يتكلم عن المجرمين من أكابر الناس، أي الذين يتحكمون في مصائر الناس، ويفسدون فيها ولا يقدر أحد أن يقف في مواجهتهم. وهناك كثير من الآيات تتعلق بهذه المسألة، وبعضها وقع فيه الجدل والخلاف، ومن العجيب أن الخلاف لم يُصفَّ، وكل جماعة من العلماء يتمسكون برأيهم. وهذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تلتقي مع القول الحق: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16] وهذه الآية فيها اشكال، وقامت بسببها معركة بين العلماء؛ فنجد منهم من يقول: وكيف يأمر الله أناساً بالفسق؟ . وحاولوا أن يجدوا تأويلا لذلك فقالوا: إن الحق قد قسر وأجبر أكابر هؤلاء الناس على الفسق. والجانب الثاني من العلماء قالوا: لا، إن الحق لا يقسر البشر على الفسق، بل على الإنسان حين يقرأ كلمة أمر الله في المنهج فلابد أن يعرف أن هذا الأمر عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى؛ لأن المأمور - وهو المكلف - صالح أن يفعل، وصالح الا يفعل، وأن الآمر قد أمر بشيء، والمأمور له حق الاختيار؛ وبذلك تجد أكابر القوم إنما استقبلوا أمر الله بالعصيان؛ لأن الحق هو القائل: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله. .} [البينة: 5] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3916 والفسق - إذن - مترتب على اختيار المأمور. وحين نتأمل نحن بالخواطر معنى: «أمر الله» نجد أن أمر الله يتمثل في التكوينات الطبيعية الكونية ولا يوجد لأحد قدرة على مخالفة الله في ذلك، فهو القائل: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} . ويتمثل أيضاً أمر الله في التشريعات، وللبشر الذين نزلت لهم هذه التشريعات أن يختاروا بين الطاعة أو العصيان، وسبحانه القائل عن الأمر بالتشريع: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} . وحين يقول الحق: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} . فسبحانه لا يهلك هذه القرية ظلماً، وإنما يرسل إليها المنهج، فإن أطاعوا فأهلاً وسهلاً، وإن عصوا فلابد لهم من العقاب بالدمار. وهكذا نرى أن العلماء الذين ظنوا أن الفسق مترتب على الأمر من الله لم يلتفتوا إلى أن ورود الأمر في القرآن الكريم جاء على لونين: أولا: أمر التكوين بالقهريات فلا يستطيع المأمور أن يتخلف عنه، ويمثل الأمر القهري قوله الحق: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] فالأمر جاهز في عالم الأزل ليبرز حين يشاء الحق. والأمر الثاني: هو الأمر التشريعي وهو صالح لأن يختار المكلف بين أن يطيع أو يعصي، وفي هذا الإِطار نفهم قوله الحق: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16] فلا تقل: إن الله يأمر بالفسق؛ فالحق قد أمر المؤمنين بالمنهج لأنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء. بل جاء الأمر لكل البشر أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، لكن كبار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3917 أهل هذه القرية أخذوا البديل للطاعة وهو الفسق والمعصية، فلما أمرهم ففسقوا ماذا يصنع بهم؟ ، هو سبحانه يدمرهم تدميرا فإن كان في الكونيات فلا أحد من خلق الله مكلف في الكونيات، إنما أمره الثاني في اتباع المنهج فلنا أن نفهم أنه الاختيار. وهكذا نعلم ونفهم معنى هذه الآية لتلتقي مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: أي وإذا أردنا أن نهلك قرية أنزلنا منهجاً فأكابرها كانوا أسوة سيئة ففسقوا فيها بعدم إطاعة منهج الله فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. وكذلك - أيضاً - نفهم قوله الحق: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} لأن المكر إنما يريد به الماكر أن يحقق شيئاً من طريق ملتوٍ لأنه ضعيف لا يمكن أن يواجه الحقائق، وهذه الحقائق تستقبلها الفطرة السليمة، وهو يريد تزييف المسألة على هذه الفطرة لذلك يلتوي. ولمثل هذا الماكر نقول: أنت تريد أن تحقق لنفسك خيراً عاجلاً وشهوة موقوتة، ولكنك إن استحضرت العقوبة التي تنشأ من هذا الأمر بالنسبة لك. وكذلك عقوبتك على أنك أضللت الآخرين لرأيت كيف يأتي الشر. {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123] أي لا يعلمون، لأنهم لا يوازنون الأمور بدقة تؤدي إلى النفع الحقيقي. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3918 وكأن الآية التي أرسلها الله مع رسوله وهي القرآن لتثبت لهم صدقه في البلاغ عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3918 الله لم تقنعهم، ولم يكتفوا بها، بل طالبوا بآيات أخرى، فهم قد قالوا: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 90 - 92] هم لا يريدون أن يؤمنوا بل إنهم يدخلون في اللجاج، والتماس سبل الفرار من الإيمان؛ لذلك تجد أن كل الحجج التي وقفوا بها أمام دعوة الرسول هي أكاذيب؛ فقالوا إنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، وبين الولد وأبيه، ويدخل بما جاء به - ويزعم أنه من عند الله - الفتنة في الأسرة الواحدة. لكن لماذا لم يتساءلوا: مادام قد سحر غيرنا فلماذا لم يسحرنا؟ . وهل تأبوا هم على السحر؟ . وهل للمسحور رغبة أو خيار مع الساحر؟ . إنهم في ذلك كاذبون. ثم قالوا: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاعر. ولو أن أحداً غيرهم قال مثل هذا الكلام لكان مقبولاً لأنه يجهل رسول الله، ولأنه ليس من قوم هم أهل فصاحة وأهل بلاغة وأهل بيان، إنهم يعرفون الشعر، والنثر، والخطابة والكتابة. فلو كان هذا الأمر من غيرهم لكان القول مقبولاً، ولذلك نجد منهم من تصفو نفسه يقول: والله ما هو بقول كاهن ولا بقول شاعر. ويطلب الحق منهم ألا يقولوا رأيا جماهيريا؛ ففي الرأي الجماهيري يختلط ويلتبس الحق بالباطل. بل كان يطلب منهم أن يكون الكلام محدداً بحيث تنسب كل كلمة إلى قائلها فيقول الحق: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ. .} [سبأ: 46] أي لا تأتوا في أثناء هياج الناس وتتهموا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالجنون؛ لأن قولكم في الهياج الجماهيري غير محسوب على أحد لكن المطلوب أن تقوموا لله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3919 مثنى أي اثنين اثنين، وكل اثنين يقولان: هيا بنا نستعرض أمر هذا الرسول ونرى قضاياه: أهو كاهن؟ . أهو ساحر؟ . أهوشاعر؟ فبين الاثنين لا يضيع الحق أبداً لأن كلاًّ منهما يناقش الآخر، وحين يجلس اثنان للنقاش، إذا انهزم منهما واحد أمام الآخر لا يُفضح أمام الغير، لكن حين يتناقش ثلاثة أو أربعة فكل منهم يخاف أن ينهزم أمام غيره، ونجد كل واحد يدافع عن نفسه. ولذلك حين يجلس اثنان معاً ليتناقشا، ويبحثا أي أمر لا يخشى أحدهما الهزيمة؛ لذلك يأتي الأمر من الله أن يقوموا لله مثنى أو فرادى، ويتذكر كل واحد منهم أمر هذا الرسول: أهو مجنون؟ . إن أفعال المجنون وأعماله تكون متقطعة غير مستقيمة. ومحمد على خلق عظيم، وهل يقال للمجنون: إنه على خلق عظيم؟؛ لأن الإِنسان منا لا يعرف كيف سيقابله المجنون، أيضربه، أيشتمه، أيقطع له ملابسه؟ . أمّا الخلق العظيم فمعناه الخلق المضبوط بالقيم، وخلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مضبوط بالقيم حتى صار ملكة وليس أمرًا افتعاليًّا. وحين يقول الناس عن إنسان إن خلقه الكرم أي تأصلت فيه صفة الكرم تأصلاً بحيث أصبحت تصدر عنه أفعال البذل بيسر وسهولة، وفي أعمال المعاني نسميها خلقاً، وفي أعمال المادة نسميها آلية. وكلنا يعرف أن الإِنسان إن أراد أن يتعلم قيادة سيارة فهو يتعلم قيادة الأفعال التي تؤدي إلى سير السيارة حتى يكتسب المهارة ويؤديها بيسر وبدون صعوبة، وكذلك الشأن في الخلق حين تصدر وعنه الأفعال بدُربة ومهارة، ونجد - على سبيل المثال - من يتعلم الفقه، فيسأله إنسان عن الحكم في الأمر المعين، فيستعرض الأمر من أوجهه في وقت طويل، لكن من يتدرب يصبح الفقه بالنسبة إليه ملكة، فلا يتعب في استنباط الحكم. كذلك الخلق. ويوضح لهم الحق: أنتم تقولون عن الرسول: إنه مجنون، فاجلسوا مثنى مثنى أو فرادى وادرسوا تصرفاته ستجدون أنها تصرفات منطقية مبنية على خلق كامل مكتمل، وهو سلوك يختلف بالتأكيد عن سلوك المجنون؛ لأن المجنون لا ضابط له في حركاته ولا في سكناته ولا فيما يدع. وكذلك لا يمكن أن يكون شاعراً؛ لأنكم أنتم أهل شعر، وكذلك ليس بكاهن؛ فالكهنة قد يستبدلون بآيات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3920 الله ثمنا قليلا، وهو الذي أعلن لكم رفض الملك والثروة والجاه. لكنهم قالوا: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله. .} [الأنعام: 124] وقد حدث الوليد بن المغيرة نفسه بذلك، وكان من ناحية السن أسنّ من رسول الله، ومن ناحية المال كان غنّيا، ومن ناحية الأولاد عنده العزوة والولد، وقال: لو كانت الرسالة بكل هذه الأمور لكنت أنا أولى بهذا لأنني أسنّ ولأنني أكثر مالاً ولأنني أكثر ولداً. وهو قد قاسها بمقاييس البشر، وكأن الوليد لم يكن يعلم أن الرسالة ليست رئاسة، فإذا كنت أنت دون غيرك عندك المال وعندك الأولاد وعندك الزروع وغير ذلك لكنك لست على خلق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الذي فطره الله عليه وأعده واصطفاه ليكون رسولا، ولكن مع هذا قال بعضهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] ولنسمع رد القرآن: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ. .} [الزخرف: 32] ويوضح لهم الحق: نحن قسمنا بينهم الأمور الحياتية، لكنكم تريدون تقسيم رحمة الله، وفرق بين الرحمة في الرسالات وبين امتداد الحياة بالأقوات والمال؛ لأن هذه عطاءات ربوبية. لكن الرحمة هي عطاءات ألوهية، انكم تميزتهم في دنياكم بالمال والبنين والبساتين لا لخصوصية فيكم ولكن لأن نظام الكون كله إنما يحتاج إلى مواهب متكاملة لا إلى مواهب متكررة، ولو امتلك كل الناس مثل ما عندك يا وليد من أرض ومال لما وجدت من يفلح لك الأرض، ولما كان عندك من يسرج لك الفرس. ولهذا جعل الحق مسألة الثروة دولاً، أي يقلب سبحانه هذه الأمور لتكون متداولة بين الناس؛ تكون لهذا في زمن ولآخر في وقت وزمن آخر ولا تدوم لأحد. وحين جاء الناس إلى أبي جهل يحدثونه في الرسالة قال: زاحمنا بني عبد مناف في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3921 الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، كسوا فكسونا، ذبحوا فذبحنا. حتى صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً الا أن يأتينا بوحي كما يأتيه، ومعنى كفرسي رهان، أي فحين تنطلق الخيل في السباق في وقت واحد كانوا يدقون عوداً في الأرض عند نهاية السباق ومن يجذبه من الأرض يقال له: حاز قصب السبق، وعود القصبة هو غاية المشوار، حتى لا يقولن أحد لقد سبقني بخطوة أو غير ذلك. وهنا يقول الحق: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} . وانظر إلى كلمة {جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} ، فمرة يقول: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [طه: 47] ، ومرة يقول: {جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} ، فكأن الآية بلغت من وضوحها ومن استقلالها ومن ذاتيتها وخصوصيتها أنها تجيء. {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله. .} [الأنعام: 124] ويقول الله لهم رداً عليهم: لا تقترحوا ذلك على الله؛ لأن {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ؛ لأن الرسالة إنما تجيء لتنشر خيراً في الجميع، ولكنها تعف نفسها عن آثار الانتفاع من ذلك الخير. والغير يريد أن تأتي له الخير ثم يترك بعضاً من الخير للناس. والرسول قد جاء لينشر خيره للآخرين، وهو نفسه لا ينال من هذا الخير إلا البلاغ به. ويأمر سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يموت ألا يأخذ أهله الزكاة، أمّا ما تركه فقد صار صدقة للناس، أي أنه لم ينتفع به في الدنيا؛ لذلك هو مأمون على الرسالة، ولم يردُ أن يأخذ الدنيا ليرثها أهله من بعده. وقد أراده الله كذلك ليكون خيره لكل الناس. فالرسالة تكليف، والنبوة ليس جزاؤها هنا، بل من عظمة الجزاء أنه في الآخرة، «ولذلك حينما جاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بيعة العقبة وقالوا: اشترط لنفسك. قال: تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وتعملون كذا وتعملون كذا.» قالوا له: فما لنا؟ أنت اشترطت لنفسك، فما لنا إن نحن وفينا؟ . ماذا قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ . قال: لكم الجنة. هذا هو الثمن الذي عنده، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3922 فمن يريد الجنة يأتي إلى الإيمان، ومن يريد ما هو دون الجنة فليس مكانه مع أهل الإيمان. مع أنه قال لهم فيما بعد ستركبون السفن وتفرشون الزرابي والوسائد وتجلسون عليها، وبشرهم بالكثير، لكنه لم يقل لهم ذلك من البداية لأن من هؤلاء من لا يدرك خيراً في الدنيا مع الإسلام؛ بل يموت والإسلام ضعيف واتباعه في قلة، لذلك أعطاهم الجزاء المضمون لهم جميعاً حين قالوا له: ماذا إن نحن وَفَّيْنا؟ . قال: لكم الجنة. وكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلمهم أن الدنيا أهون من أن تكون جزاءً على العمل الصالح، فجزاء العمل الصالح خالد لا يفوتك ولا تفوته. {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ. .} [الأنعام: 124] وحين نتأمل قولهم: {لَن نُّؤْمِنَ} نجد أن في هذا القول إصراراً على عدم الإيمان، أي لن نؤمن حتى في المستقبل إنهم تحكموا في المستقبل. ثم يفضحهم الله فيموت بعضهم على الكفر، ومن بقي منهم يأتون مؤمنين بعد الفتح. ومن العجيب أن العبارة التي ينطقون بها هي عبارة مهزوزة لا تستقيم مع منطق الكفر منهم، قالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله، كأنهم قد عرفوا أن هناك رسلا من الله، والأصل في الآية أن يؤمنوا برسل الله ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاتم الرسل، وهذا القول يدل على مجرد المعارضة المقترنة بالغباء، فما دمتم تعرفون أن لله رسلاً يصطفيهم، فكيف تحاولون أنتم تحديد إرادة الله في الاختيار؟ . إن رسل الله كانت لهم آيات كونية، حسية مرئية، وهي وإن كانت فيها قوة المشهد الملزم، إلا إنه لا ديمومة لها، فمن رأى سيدنا موسى وهو يضرب البحر فينفلق لن يكذب هذه الآية الكونية، إلا أنها أصبحت خبراً والخبر مناسب لمحدودية رسالة موسى، كذلك رسالة عيسى عليه السلام حيث أبرأ الأكمة والأبرص بإذن الله. وهذه الرسالات لزمن محدود وفي قوم محدودين، لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء ومعه المنهج المعجزة الباقي إلى قيام الساعة، فإن كانت المعجزة حسيّة فلن يراها إلى أن تقوم الساعة. فلا بد له من آية باقية إلى قيام الساعة؛ لذلك كانت الآية في المعنويات والعقليات التي لا تختلف فيها الأمم ولا تختلف فيها الأزمان، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3923 لكنهم أرادوا معجزة حسية، وأخرى عقلية، حتى إذا جاءت واحدة فقط أنكروا الثانية، فحسم الحق الأمر وقال: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} . ولو نظروا إلى كلمة {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، فكلمة {أَعْلَمُ} تدل على أنه قد يمكّن الله بعضاً من خلقه ليعلموا لماذا اختار الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الذين واجههم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمر الدعوة، هل انتظروا منه أن تكون له آية أو معجزة، أو آمنوا به بمجرد الإخبار؟ . لقد آمنوا بمجرد الإخبار؛ لأن تجربتهم معه أكدت أنه صادق وأمين على خبر الأرض، ولابد أن يكون مأموناً على خبر السماء؛ لأنه لم يكذب عليهم في أمر الأرض، فكيف يكذب في أمر السماء؟ إننا نجد أن سيدنا أبا بكر، بمجرد أن علم بأمر الرسالة قال: صدقت، وسيدتنا خديجة صدقته من فور أن قال، وأخذت صدق بلاغه من مقدمات حياته، وقالت أول استنباط فقهي في الإسلام. وكذا ذلك لسيدتنا أم المؤمنين خديجة قبل أن يعرف الفقه بمعناه الإصطلاحي الحديث، مما يدل على أن الاستنباطات للأدلة هي استنباطات للعقل الفطري السليم البعيد عن الأهواء. إنه يقدر أن يستقرئ الأمر ولابد أن يهتدي، فحين أعلن لها أنه خائف أن يكون الذي أصابه مرض أو مسٌ من الجن رفضت ذلك لأنه يصل الرحم، ويحمل الكلّ، ويعين على نوائب الدهر، وقال له: والله لا يخزيك الله أبداً. إذن فقد جاءت بالمقدمات التي ترشح أن ربنا لا يمكن أن يخذله، وكل المقدمات مفاخر، كلها خلق عظيم، وكلها التقاءات إنسانية قبل أن يأتي منهج السماء، التقاءات إنسانية بالفطرة دون تقدير أو تدبير، وكان هذا أول استنباط فقهي في الإسلام. ولذلك نعرف السر لماذا جعل الله لرسوله أم المؤمنين خديجة أو زوجة له؟ لأنه ستمر به فترة لا يحتاج فيها إلى زوجة فقط. بل إلى ناضجة، ذلك النضج الكامل الذي تستقبل به مسائل النبوة، ولذلك حين يخرج إلى الغار تأتي له حكمة خديجة في الاستنباط قبل أن يوجد فقه الإسلام؟ {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} ؟ ، وهم قد أصروا على ألا يعلموا على الرغم من أنهم وجدوا منه خصالاً وأشياءً حكموا بوجودها فيه وأنها صفات رسول. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3924 {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله} [الأنعام: 124] هنا نجد فجوة انتقالية في الأداء، فمن قبل يتحدث سبحانه عمن يظنون أنهم كبار، فيأتي ليقول: إن الصِّغار سيصيبهم، وليس معنى الصغار الذل والهوان لدى الناس، لا، بل صغار وذل وهوان عند نفس كل منهم ذاتيًّا، فكل منهم سيشعر بالذل أمام نفسه ويستصغر نفسه. كأن الصغار منسوباً إلى عندية الله فهو لا يزول أبداً؛ لأنه لا توجد قوة ثانية تقول لله إن قدرك لن يتحقق. فالصغار والذل والهوان سينزل بهم هم مع كونهم أكابر المجرمين فلن يستطيعوا دفعه عن أنفسهم، وسيصيبهم مع ذلك عذاب شديد. لماذا العذاب الشديد؟ لقد قلنا من قبل: إن العذاب يوصف مرة بأنه أليم، ويوصف مرة أخرى بأنه مهين، ويوصف هنا بأنه شديد. والعذاب المهين الذي تكون فيه ذلة النفس. والعذاب الأليم الذي يكون في البنية؛ لأن الإِنسان له بنية وله معنويات قيمية، فمن ناحية البنية يصيبه العذاب، ومن ناحية المعاني النفسية تصيبه الإِهانة، فهناك من يتعذب لكنك لا تملك أن تهينه ويتحمل المشقة برجولة، ومهما تلقى من الإِهانة فلا تزال نفسه كريمة عليه، مصدقاً لقول الشاعر: وتجلدي للشامتين أريهمو ... أني لريب الدهر لا أتضعضعُ لذلك ينزل قدر الله بالعذاب على نوعين: عذاب بنية وعذاب قيم، وهذا هو الصغار، والعذاب الشديد، وهو الذي لا يقوى الإِنسان على تحمله، ولم يُنزل الحق العذاب بهؤلاء جزافاً، لكنه بسبب ما كانوا يمكرون، فسبحانه هو القائل: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] والحق سبحانه وتعالى حينما عرض هذه القضية عرضها ليبين لنا أنه لم يرغم بقدره خلقاً من خلقه على مسائل الاختيار في التكليف بل أوجد ذلك في إطار: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3925 {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ. .} [الكهف: 29] ولكن الإرغام من الحق جاء للأمور القهرية القدرية الكونية الخارجة عن نطاق التكليف، أما أمر التكليف فالله سبحانه وتعالى قال فيمن يرفضون الطاعة: {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} وسبحانه قد أوضح لنا: نحن لم نجعل ذلك قهراً منا لهم دون عمل عملوه باختياره بل إن العذاب والصغار كانا جزاءً لمكرهم. ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى لنا بقضية يقع فيها الجدل التبريري لبعض الناس الذين أسرفوا على أنفسهم، ويريدون أن يجعلوا إسرافهم على أنفسهم في الذنوب خاضعا لأن الله أراد منهم ذلك؛ فيقول سبحانه: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3926 نجد من يقول إن ربنا حين يريد لإنسان أن يشرح صدره للإسلام فذلك من إرادة الله وما ذنب المكلف إذن؟ . وللرد على هذا نقول: لقد عرفنا من قبل أن الهداية لها معنيان: المعنى الأول: الدلالة وهي أمر وارد وواجب حتى للكافر. فإن هُدى الله للكافر أن يدلّه إلى طريق الخير، ولكن هناك هداية من نوع آخر وهي للذي آمن، ويصبح أهلاً لمعونة الله بأن يخفف عنه أعباء التكاليف وييسرها له ويجعله يعشق كل الأوامر ويعشق البغض والتجافي عن كل النواهي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3926 يقول بعض الصالحين: «اللهم إني أخاف ألا تثيبني على طاعة، لأني أصبحت أشتهيها» كأنه عشق الطاعة بحيث لم يعد فيها مشقة أو تكليقاً، لذلك فهو خائف، وكأنه قد فهم أنه لابد ان توجد مشقة، ولمثل هذا لإنسان الصالح نقول: لقد فقدت الإحساس بمشقة التكليف لأنك عشقته فألفت العبادة كما ألفتك وعشقتك، وحدث الانجذاب بينك وبين الطاعة، وجعلت رسول الله مثلاً لك وقدوة، فقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرى أنه إذا نودي إلى الصلاة يقوم الناس إليها كسالى لكنه «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لبلال حينما يأتي وقت الصلاة: أرحنا بها يا بلال» . وهذا غير ما يقوله بعض ممن يؤدون الصلاة الآن حيث يقول الواحد منهم: هيا نصل لنزيحها من على ظهورنا، وهؤلاء يؤدونها بالتكليف لا بالمحبة والعشق. أما الذين ألفوا الراحة بالصلاة حينما يحزبهم ويشتد عليهم أمر خارج عن نطاق أسبابهم، ويقول الواحد منهم: مادامت الصلاة تريح القلب، فلأذهب إليها وألقى ربي زائداً على أمر تكليفه لى متقربا إليه بالنوافل، ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة. ومعنى حزبه أن الأسباب البشرية لا تنهض به. فيقوم إلى الصلاة، وهذا أمر منطقي، لله المثل الأعلى. كان الإنسان منا وهو طفل إذا ما ضايقه أمر يذهب إلى أبيه، فما بالنا إذا ما ضايقنا أمر فوق الأسباب المعطاة لنا من الله فلمن نروح؟ إننا نلجأ لربنا ولقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة. إذن فعشق التكليف شيء يدل على أنك ذقت حلاوة الطاعة، وقد يجوز أنه شاق عليك؛ لأنه يخرجك أولاً عما ألفت من الاعتياد. فعندما يأتيك أمر فيه مشقة تقول: إن هذه المشقة إنما يريد بها لي حسن الجزاء، فإذا ما عشقت الصلاة صارت حبًا لك، وكان واحد من الصالحين - كما قلت - يخاف ألا يثاب على الصلاة لأنها أصبحت شهوة نفس، والإنسان مطالب بأن يحارب نفسه في شهواتها لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وضع لنا المثل فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يصبح هواه تبعاً لما جئت به» أي يصبح ما يشتهيه موافقاً لمنهج الله، فإذا وصل وانتهى المؤمن إلى هذه المنزلة فهو نعم العبد السوي. وهكذا عرفنا أن الهداية قسمان: هداية بمعنى الدلالة، وهداية بمعنى المعونة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3927 فإذا ما اقتعنت بهداية الدلالة وآمنت بالحق فسبحانه يخفف عليك أمور التكليف ويجعلك عاشقاً لها، ولذلك يقول أهل الصلاح: ربنا قد فرض علينا خمس صلوات، وسبحانه يستحق منا الوقوف بين يديه أكثر من خمس مرات، وفرض علينا ربنا نصاب الزكاة وهو اثنان ونصف بالمائة، وسبحانه يستحق منا أكثر من ذلك لأنه واهب كل شيء، وهذا عشق التكليف، وهذا هو معنى قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} . {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} أي يدلّه سبحانه كما دل كل العباد إلى المنهج، لكن الذي اقتنع بالدلالة وآمن يسهل عليه تبعات التكليف مصداقاً لقوله الحق: {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} [مريم: 76] فهذه هداية المعونة، وفيه فرق هنا بين الإِسلام والإِيمان لأن الإِيمان لا يحتاج فقط إلى الاعتقاد؛ إنما هو حمل النفس على مطلوبات الإِيمان. ولذلك نجد أن كبار رجال قريش رفضوا أن يقولوا: «لا إله إلا الله» ؛ لأنهم علموا أنها ليست مجرد كلمة تقال، ولكن لها مطلوبات تتعب في التكاليف الناتجة عنها ب «افعل» و «لا تفعل» . فالتكليف يقول لك: «افعل» لشيء هو صعب عليك، ويقول لك: «لا تفعل» في شيء من الصعب أن تتركه، لذلك يقول سبحانه: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125] وسبحانه يشرح صدره للإِسلام بعد أن علم أنه قد اعتقد شريعة التوحيد ورضيها واطمأن بها، فيأتي إلى فهم التكاليف؛ لأن صحيح الإِسلام يقتضي الانقياد لأمور التكاليف، فمن أخذ الهداية الأولى وآمن بربه، يوضح له سبحانه: آمنت بي وجئتني؛ لذلك أخفف عنك تبعات العمل، ويشرح صدره للإِسلام، وشرح الصدر قد يكون جزاءً. فسبحانه هو القائل: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3928 {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] فقد جازاه ربنا بذلك؛ لأنه أدّى ما عليه وصمد. كأن الله يريد بالإِيمان من المؤمن أن يقبل على الحق، وحينما يقبل على الحق، يبحث العبد ليتعرف على المراد والمطلوب منه فيعلم أنها التكاليف، فإذا رأى الله منك الاستعداد المتميز لقبول التكاليف، فإنّه يخففها عنك لا بالتقليل منها، ولكن بأن يجعلك تشتهيها، وقد تلزم نفسك بأشياء فوق ما كلفك الله؛ لتكون من أهل المودة ومن أهل التجليات ومن الذين يدخلون مع الله في ود، وتلتفت لنفسك وأنت تقول: لقد كلفني الله بالقليل وسبحانه يستحق الكثير. فتزيد من طاعتك وتجد أمامك دائماً الحديث القدسي. «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.» أي بالأمور التي تزيد على ما كلفه في الصلاة والزكاة والصيام والحج. إذن فمعنى {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} أي يجعل الأمور التي يظن بعض من الناس أنها متعبة فإنه بإقباله عليها وعشقه لها يجدها مريحة ويقبل عليها بشوق وخشوع. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يترك في خلقه مُثُلاً للناس. فنجد المال عزيزاً على النفس حريصة عليه لأنه إن كان المال قد جاء بطريق شرعه الله وأحله فهو يأتي بتعب وبكدّ؛ لذلك يحرص عليه الإِنسان، فيحنن الله العبد من أجل البذل والعطاء. إننا نجد المؤمن يعطي للسائل لأن السائل هو الجسر الذي يسير عليه المسلم إلى الثواب من الله، فيقول العبد المؤمن للسائل: مرحباً بمن جاء ليحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة، ولذلك عندما جاء مسلم إلى الإِمام عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرّم الله وجهه -، قال المسلم: أنا أريد أن أعرف أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3929 واختار الإمام عليّ مقياساً للإِيمان في نفس كل مؤمن، وقال له: إن جاءك من يطلب منك، وجاء من يعطيك، فإن كنت تهش لمن يعطيك فأنت من أهل الدنيا، وإن كنت تهش لمن يأخذ منك فأنت من أهل الآخرة؛ لأن الإنسان يحب من يعمر له ما يحب. إذن ف «يشرح صدره للإسلام» أي يخفف عنه متاعب التكليف بحيث لا توجد مشقة، ثم يرتقي بعد ذلك ارتقاءًَ آخر بأن يعشقه في التكليف. ويهديه الله إلى طريق الجنة، لأن هناك هداية إلى المنهج وهداية إلى الجزاء على المنهج، ولذلك نجد القرآن يقول؛ عمن ضلوا: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} [النساء: 168 - 169] كأن هناك هداية إلى العمل وهداية إلى الجزاء، ونجد الحق يقول: {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 - 6] وقد يتساءل إنسان: كيف يهدي الله من قتل، وهل هناك تكليف بعد القتل؟ . نقول: انظر إلى الهداية، إنها هداية الجزاء «سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم» . وهكذا نعرف أن هناك هداية الجزاء، من يحسن العمل يُجزِه الله الجنة، أما من يسيء فله عذاب في الدنيا والآخرة. {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3930 وهل هذا تجن من الله على خلقه؟ لا، لأنه مادام دعاهم للإيمان فآمن بعضهم وصاروا أهلاً للتجليات، وكفر بعضهم فلم يؤمنوا، فصاروا أهلاً للحرج وضيق الصدر. ومعنى الضيق أن الشيء يكون حجمه أقل مما يؤدي به مهمته، فحين يقال: ضاق البيت بي وبعيالي، فهذا يعني أن الرجل وزوجه في البداية عاشا في غرفتين، وكان البيت متسعاً. ثم انجبا عيالاً كثيرة فضاق بهم البيت. وهكذا نعلم أنه لم يطرأ شيء على الجدران ومساحة البيت، لكن حين زاد عدد الأفراد شعر رب الأسرة بضيق المنزل. ويقال: صدره ضيّق أوضيْق فقد ورد في القرآن لفظ ضيق على لغتين: فالحق يقول: {. . وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] وهناك في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجد كلمة ضَيّق، والحق يقول: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ. .} [هود: 12] فما المراد من «ضائق» ، و «ضيَق» ، و «ضيْق» ؟ . نعرف أن الصدر هو مكان الجارحتين الأساسيتين في التكوين: القلب والرئة، والرئة هي الجارحة التي لا تستمر الحياة الا بعملها؛ فقد تبطئ الأمعاء مثلا، أو تتوقف قليلا عن عملها، ويتغذى الإنسان على خزينته من الدهن أو اللحم ولذلك يصبر الإنسان على الجوع مدة طويلة، ويصبر على الماء مدة أقل، لكنه لا يصبر على افتقاد الهواء لدقائق، ولا صبر لأحد على ترك الشهيق والزفير. ولقد قلنا من قبل: إن الحق سبحانه وتعالى قد يملكّ بعضاً قوت بعض. وأقل منه أن يملِّك بعضا ماء بعض، لكن أيملّك أحداً هواء أحد؟ لا؛ لأن الرضا والغضب أغيار في النفس البشرية. فإذا غضب إنسان على إنسان، وكان يملك الهواء وحبسه عنه فالإنسان يموت قبل أن يرضى عنه هذا الآخر، ولذلك لم يملّك الله الهواء لأحد من خلقه أبداً. إذن كل المسألة المتعلقة بقوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} نعلم عنها أن الصدر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3931 هو محل التنفس، والرئة تأخذ الأوكسجين وتطرد ثاني أوكسيد الكربون، وعندما يصاب الإنسان بنوبة برد نراه وهو يجد صعوبة في التنفس، كأن حيّز الصدر صار ضيقاً، فلا يدخل الهواء الكافي لتشغيل الرئتين، ويحاول الإنسان أن يعوض بالحركة ما فاته فينهج. ويشخص الأطباء ذلك بأن المريض يريد أن يأخذ ما يحتاجه إليه من الهواء فينهج؛ لأن الحيّز قد ضاق، وكذلك عندما يصعد الإنسان سلماً، ينهج أيضاً؛ لأن الصعود يحتاج إلى مجهود، لمعاندة جاذبية الأرض، فالأرض لها جاذبية تشد الإنسان، ومن يصعد إنما يحتاج إلى قوة ليتحرك إلى أعلى ويقاوم الجاذبية. إننا نجد نزول السلم مريحاً؛ لأن في النزول مساعدة للجاذبية، لكن الصعود يحتاج إلى جهد أكثر، فإذا ضاق الصدر فمعنى ذلك أن حيز الصدر لم يعد قادراً على أن يأخذ الهواء بالتنفس بطريقة تريح الجسم، ولذلك يقال: «فلان صدره ضيق» أي أن التنفس يجهده إجهاداً بحيث يحتاج إلى هواء أكثر من الحجم الذي يسعه صدره. {ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} والحرج معناه الحجز عن الفعل، كأن نقول حرًَّجت على فلان أن يفعل كذا، أي ضيقت عليه ومنعته من أن يؤدي هذا العمل. «كأنما يصعّد في السماء» . وعلمنا أن الصعود لأعلى هو امتداد لفعل الجسم إلى جهة من جهاته. فالجهات التي تحيط بأي شيء ست: هي فوق وتحت، ويمين، شمال، وأمام، وخلف، وعرفنا أن الهبوط سهل؛ لأن الجاذبية تساعد عليه، والمشي ماذا يعني؟ المشي إلى يمين أو إلى شمال أو إلى أمام أو إلى خلف، فهو فعل في الاستواء العادي الظاهر، والذي يتعب هو أن يصعد الإنسان، لأنه سيعاند الجاذبية، وهو بذلك يحتاج إلى قوتين: قوة للفعل في ذاته، والقوة الثانية لمعاندة الجاذبية. {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء} وذلك بسبب مشقات التكليف؛ لأنه لم يدخلها بعشق، فلا يدخل إلى مشقات التكليف بعشق إلا المؤمن فهو الذي يستقبل هذه التكاليف بشرح صدر وانبساط نفس وتذكر بما يكون له من الجزاء على هذا العمل، والذي يسهل مشقة الأعمال حلاوة تصور الجزاء عليها؛ فالذي يجتهد في دروسه إنما يستحضر في ذهنه لذة النجاح وآثار هذا النجاح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3932 في نفسه مستقبلاً وفي أهله. أما الذي لا يستحضر نتائج ما يفعل فيكون العمل شاقاً عليه. {ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء. .} [الأنعام: 125] والسماء هي كل ما علاك فأظلك، فالجو الذي يعلوك هو سماء، وكذلك السحابة، وأوضح لنا ربنا أنه أقام السموات السبع، وهنا أراد بعض العلماء الذين يحبون أن يظهروا آيات القرآن كمعجزات كونية إلى أن تقوم الساعة، أرادوا أن يأخذوا من هذا القول دليلاً جديداً على صدق القرآن، وتساءلوا: من الذي كان يدرك أن الذي يصعد في الجو يتعب ويحتاج إلى مجهودين: الأول للعمل والثاني لمناهضة الجاذبية ولذلك يضيق صدره لأنه لا يجد الهواء الكافي لإمداده بطاقة تولد وقوداً. ونقول لهؤلاء العلماء: لا يوجد ما يمنع استنباط ما يتفق في القضية الكونية مع القضية القرآنية بصدق، ولكن لنحبس شهوتنا في أن نربط القرآن بكل أحداث الكون حتى لا نتهافت فنجعل من تفسيرنا لآية من آيات القرآن دليلاً على تصديق نظرية قائمة، وقد نجد من بعد ذلك من يثبت خطأ النظرية. إنه يجب على المخلصين الذي يريدون أن يربطوا بين القرآن لما فيه من معجزات قرأنية مع معجزات الكون أن يمتلكوا اليقظة فلا يربطوا آيات القرآن إلا بالحقائق العلمية، وهناك فرق بين النظرية وبين الحقيقة؛ فالنظرية افتراضية وقد تخيب. لذلك نقول: أنبعد القرآن عن هذه حتى لا تعرضه للذبذبة. ولا تربطوا القرآن إلا بالحقائق العلمية التي أثبتت التجارب صدقها. وقائل القرآن هو خالق الكون، لذلك لا تتناقض الحقيقة القرآنية مع الحقيقة الكونية؛ لذلك لا تحدد أنت الحقيقة القرآنية وتحصرها في شيء وهي غير محصورة فيه. وتنبه جيداً إلى أن تكون الحقيقة القرآنية حقيقة قرآنية صافية، وكذلك الحقيقة الكونية. {. . كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3933 والرجس وهو العذاب، إنما يأتيهم بسبب كفرهم وعدم إقبالهم على التكليف. ويقول الحق بعد ذلك: {وهذا صِرَاطُ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3934 و «هذا» مقصود به ما تقدم من آيات. من كتاب الإِسلام وهو القرآن، وذلك ما يشرح الصدر القابل للإِيمان، والقرآن هو الحامل لمنهج الإِسلام؛ فمرة تعود الإِشارة إلى القرآن أو إلى الإِسلام. وليس هناك خلاف بين القرآن والإِسلام. {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} . و «الصراط» هو الطريق السَّوي، والطريق السَّوي قد يكون مع استوائه معوجاً لكن هذا الطريق مستوٍ ومستقيم، ونعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للغاية. وعلى هذا فصراط لا تغني عن مستقيم، ومستقيم لا يغني عن صراط، بل لابد من صراط معبد ومستقيم ليكون أقصر طريق إلى الغاية وبلا متاعب، إننا - نحن البشر - نرى المهندسين وهم يقيسون الأبعاد والمسافات والغايات والبدايات والنهايات، وبعد ذلك يربطون البدايات بالغايات. إنهم يحضرون آلات معينة ليرصدوا استقامة الطريق وكيفية تمهيده. وقد يعترض استقامة الطريق عقبات صبعة شديدة كَأْدَاء كجبل مثلاً، فيقوم المهندسون إما بنحت نفق في الجبل ليضمنوا له الاستقامة، وإما بأن يحني الطريق ليضمنوا جودة تعبيد الطريق. فإن جاء المهندسون وقالوا نمشي من هنا لنضمن استقامة الطريق فإننا نفعل ذلك. وإلاّ جعلوا الطريق متعرجاً أو حلزونيًّا؛ وذلك ليتفادى السائر العقبات التي ليس له قدرة عليها. لكن إذا كان الصراط قد مهده رب، أتوجد له عقبة؟ طبعاً لا، إذن فهو طريق مستقيم. ولنلحظ أنه سبحانه قال: «صراط ربك» أي أنه جاء بها من ناحية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3934 الربوبية، والربوبية عطاء الرب، إنه سيد، ومربٍ، وخالق الخلق ويضمن لهم ما يعينهم على مهمتهم في الوجود معونة ميسرة سهلةً. وهكذا نعرف أن طريق الحق هو الصراط المعبد المستقيم، أي الذي يصل بين البداية والنهاية. فإن كان الطريق الذي نتبعه مستقيماً ومعبداً، وسهلاً، فلماذا لا نتبعه؟ «هذا صراط ربك» . ونلحظ أنه سبحانه قد أسند الرب لمحمد، أي من أجل خاطره جعل الصراط مستقيماً؛ لأنه سبحانه هو المتولي لربوبيتك يا محمد، وسبحانه رب الكون كله، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عين أعيان الكون. {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام: 126] «فصّلنا» أي أنّ كل شيء في هذا الكون مخلوق لما يناسبه، وكل قضية من قضايا الكون خلقها ربنا لتحقق الفائدة منها بدون مشقة، وبدون عنت. والمنهج الذي أنزله الله إنما يصلح الكون ويجعل كل شيء فيه مناسباً لمهمته؛ لأن الله إله كل الناس وهم بالنسبة إليه سواء لأنه لم يتخذ لا صاحبة ولا ولداً. ولا يعطي سبحانه الحياة لمخلوق ويوجده في الكون، ثم يعرّيه من أسلحة الحركة في الحياة، ولكل إنسان سلاح من موهبة أو قدرة وبذلك تتعدد الأسلحة والمواهب والقدرات، فمن يريد أن يبني بيتاً، أنقول له: اذهب إلى كلية الهندسة لتتعلم كيف ترسم البيت وتخططه؟ أنقول له: تعلم كيف تكون فنيًّا وكهربيًّا ونقاشاً؟ إن الفرد الواحد لا يمكن أن يتعلم كل هذه التخصصات، لذلك وزّع الله المواهب على خلقه؛ هذا عنده موهبة ليعمل لنفسه، ويعمل لغيره. وبعد ذلك يأتي غيره ليؤدي له عملاً ليس له فيه موهبة بحيث يتكامل المجتمع كله ولا يتكرر أفراده. ولو كنا تخرجنا جميعاً كأطباء أو مهندسين لما نفعت الدنيا، ومن نقول عليهم: إنهم فشلوا في التعليم يقومون بأعمال في الحياة ما كنا نستطيع الحياة بدونها؛ فقد خلقهم الله بقدرات عقلية محدودة ليهبهم قدرات أخرى تصلح في مهمات أخرى. وإن تعلم المجتمع كله تعليماً عالياً لصار الهرم مقلوباً. وإن انقلب الهرم فمعنى هذا أن أجراءً منه ستكون بغير دعائم في الأرض. لذلك نجد أن هناك إعداداً عقليا أراده الحق لكل واحد من الخلق، ولا نستطيع أن نقول لكل إنسان: تعلم وتخرج في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3935 الجامعة ثم اكنس الشارع. وكن في الغد حداداً. لذلك ربط الحق كل عمل بالحاجة إليه، ومن يحسن استقبال قدر الله في نفسه يُعطِ الله له من العمل كل الخير. ونلحظ الآن أن من يعمل موظفاً في الدولة يحيا في راتب محدود، بينما تجد السباك يقدر عمله بأجر يحدده هو، ويبقى الويل والتعب لمن كان تقدير عمله في يد غيره {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} . وانظر كل قضية في الكون، لم يُدخل ابن آدم فيها أنفه تجدها مستقيمة، ولا يأتي الفساد إلا في القضايا التي أدخل ابن آدم أنفه فيها بدون منهج الله. فإن دخلت في كل مسألة بمنهج الله يستقيم الكون تماماً. ولذلك يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى النظام الأعلى في كونه والذي لا تدخل لنا فيه. ولا سيطرة عليه؛ السموات، والكواكب، والشمس، والقمر، وحركة الأرض، كل تلك الكائنات نجد أمورها تسير بانتظام، ولذلك يقول لنا الحق سبحانه: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 7 - 8] فإن أردتم أن تستقيم أموركم في شئونكم وأحوالكم الاختيارية فادخلوا فيها بمنهج الله؛ لأن الأشياء التي تدار بمنهج الله بدون أن يتدخل فيها البشر تؤدي مهمتها كما ينبغي. فعلى الإِنسان - إذن - أن يتذكر كيف يأخذ من المقدمات التي أمامه ما يوصل إلى النتائج، ولابد أن يأخذ المقدمات السليمة ليصل إلى الغايات الفطرية. وأقصر الأمور أن تسأل نفسك: أنت صنعة من؟ صنعة نفسك؟ لا، هل أنت من صنعة واحد مثلك؟ لا. وهل ادّعى واحد في كون الله - وما أكثر ما يُدَّعى - أنه خلقك أو خلق نفسه؟ لا. بل أنت وهو وكل الكون من صنعة الله، فدعوا الله يقرر قانون صيانتكم، وسيظل الناس متعبين إلى أن يسلموا الصنعة إلى خالقها. {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} . ولم يقل فصلنا الآيات لواحد، بل قال «لقوم» حتى إذا ما مال أو غفل واحد في الفكر بعدله غيره. وكلنا متكافلون في التذكير، وهذا التكافل في التذكير يعصم كل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3936 مؤمن من نفسه؛ فإن حصل عندي قصور من سهو أو من غفلة أو من هوى يعدله غيري. وهذه قضية كونية لو استقرأت الوجود كله وجدتها لا تتخلف أبدا، ولا بد من تذكر الغاية التي جاء بها قوله الحق: {لَهُمْ دَارُ السلام. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3937 أي أن لهؤلاء المتقدمين الذين صبروا وصابروا ورابطوا، لهم دار السلام، وهو أسلوب مكون - كما يقال - من مبتدأ وخبر، الا أن المبتدأ أُخرِّ هنا، والخبر تقدّم، وكان المنطق أن يقال: «دار السلام لهؤلاء» ولكن الأسلوب القرآني جاء ليقدم الخبر المكون من الجار والمجرور ومتعلقه، ويؤخر المبتدأ وذلك لخصوصية أرادها الحق، وهي أن هذه الدار لهم وحدهم دون غيرهم فهي خالصة لهم يوم القيامة و «دار السلام» مكونة من كلمتين، «دار» ومعناها ما يستقر فيه الإنسان، ويجمع هذا المكان كل ما تتطلبه حياة الإنسان، وهي أوسع قليلاً من كلمة «بيت» ؛ لأن البيت مكان يعد للبيتوتة، لكن كلمة «دار» تعد للحياة ولما يتعلق بالحياة من مقوماتها. و «دار» هنا مضافة إلى السلام، وهو - كما نعلم - اسم من أسماء الله، إذن فالحق هنا يوضح: لهم دار منسوبة للسلام وهو الله، وهم مستحقون لها جزاءً منه، فإذا كانت الدار التي وعدها الله هي دار السلام وهو الله، فلابد أن فيها متعاً وامكانات على قدر فضل المضاف إليه وهو الله، ولماذا لم يقل الله: «دار الله» ؛ لأن الله أراد أن يأتي بوصف آخر من أوصافه؛ ليعطيهم السلام والأمن والاطمئنان. وهناك فرق بين دور الدنيا، وهذه الدار؛ فدور الدنيا فيها متع، ولكنك فيها بين أمرين: إما أن تفوت أنت ما هي فيه، وإما أن يفوتك ما فيها، ولذلك لا يوجد في الدنيا أمن؛ لأن غيرك قد يناوئك فيها ويعاديك، وقد تأتي لك مكدرات المرض، وقد تأتي لك معكرات الأعداء، كل ذلك ينغص عليك الأمن والسلام في الدنيا. ولذلك أراد الحق ان تكون لك الآخرة دار السلام مادمت قد آمنت، وأن تأمن فيها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3937 من كل الآفات التي كانت في دار الدنيا. {لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127] وكأن دار السلام ليست وعداً من الله بأن تكون، ولكنها جاهزة معدة عند الله ومحفوظة لديه تنتظر المؤمنين، وسبحانه قد خلق جناناً تتسع لكل خلقه على فرض أنهم آمنوا، وجعل من النار مثل ذلك على قدر خلقه، على فرض وتقدير أنهم كفروا. وسيأخذ المؤمنون ما أعد لهم من دور الإيمان ويرثون ما أعد للكافرين من دور الإيمان على فرض أنهم آمنوا في الدنيا. {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11] فلم يخلق الحق جناناً محدودة، لا، بل أعد وهيأ من الجنان ما يتسع لكل الخلق إن امنوا، ومن النيران ما يتسع لكل الخلق إن كفروا. ومادامت العندية منسوبة إلى الله فهي عندية مأمونة. وبعد ذلك أيتخلّى الله عنهم ويكلهم إلى ما أعدّه لهم؟ . لا، بل قال: {. . وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127] فهناك إعداد، ثم قيومة ولاية الله، وهذه القيومة لله، هي للمؤمنين في الدنيا، لكن فلنلاحظ أن الولاية في الدنيا قد تكون فيها أسباب مخلوقة لله، لكن في الآخرة هناك الجزاء الذي لا يكله الله للأسباب، فتكون الولاية مباشرة له؛ لأنه سيعطيك فوراً، وإذا خطر أي شيء بباللك تجده حاضراً: فهي متعة على غير ما ألف الناس؛ لأن الناس يتمتعون في الدنيا بواسطة الأسباب المخلوقة لله. ولكن في الآخرة فلا ملكية لأحد حتى في الأسباب، لذلك يقول سبحانه: {لِّمَنِ الملك اليوم. .} [غافر: 16] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3938 وستجد الإِجابة هي قوله - سبحانه -: {لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] والحق هو الولي الذي يليك، قرباً تنتفع به، فلا تضطر حتى أن تنادي عليه ليأتي لك بالمنافع ويدفع عنك المضار كما عمل لك في الدنيا ووفقك للعمل وهو وليك في الآخرة بحسن الجزاء لك بسبب ما كنت تعمل؛ فالعمل في الدنيا هو الزرع وهو الحرث لثمرة الآخرة. ولكن أيعطينا الله على قدر أعمالنا؟ لا، بل يعطينا على قدر صبرنا؛ لأنه إن كان العطاء على قدر الأعمال، إننا لو حسبناها لما أدينا ثمن عشر معشار نعم الله علينا في الدنيا. فكأننا نعمل في الدنيا لنؤدي شكر ما أفاء علينا وأعطانا من النعم، فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى وأعطانا بعد ذلك ثواباً فهو الفضل منه، ولذلك يوضح الحق لنا: إياكم حين توفقون في العمل أن تفتتنوا بأعمالكم، بل عليكم أن تتذكروا ان ذلك فضل من الله: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فبذلك فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] وقد شرح النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هذا الأمر وقال: «لن يُدْخِل أحداً منكم عملُه الجنة، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة.» إذن المسألة كلها بالفضل من الله، ولكن فضل الله شرطه العمل الصالح؛ فأنت تعمل العمل الصالح، ويعطيك ربنا أضعافه، وبطبيعة الحال فعملك لن ينفع جلاله أو جماله أو كماله أو يزيده صفة أو يزيده ملكاً، لكنه يعطيك على ما عملته لنفعك ولنفع بني جنسك. ولذلك نجد الإِمام الرازي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول: إن العمل في ذاته يورث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3939 الذات شيئا من الصفاء الذي ترتاح له وتسعد به، حتى تجد الجزاء في الراحة، والراحة النفسية هي الأمر المعنوي الذي يوجد في بنية مادية هي قالبك. فساعة يوجد شيء في النفس فهو يؤثر في القالب أغياراً، فإذا غضب الإنسان فهذا الغضب يظهر أثره في البينة نفسها فيحمر الوجه، ويرتعش الإِنسان للانفعال بالغضب، والغضب أمر معنوي لكنه أثّر في البينة، وكذلك إذا ما حدث ما يسرّك، يظهر ذلك في البينة أيضاً؛ فتشرق وتهلل أساريرك. إذن فالعمل يؤثر في البينة، والبينة تؤثر في العمل. ويقول الحق بعد ذلك: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3940 وساعة تسمع «يوم» اعرف أنها «ظرف زمان» ، أي أن هناك حدثاً، وقوله الحق: «ويوم يحشرهم جميعاً» أي اليوم الذي يقف فيه الجميع ويحشدون، وحين ننظر إلى ما بعدها نجد أن الحدث لم يأت، ولكن جاء «يا معشر الجن» وهذا «نداء» . فكأن الحدث هو النداء نفسه، والنداء يقتضي مناديًّا، وهو الحق سبحانه، ومنادى وهو معشر الجن والإِنس، وقولاً يبرز صورة النداء. فكأن العبارة هي: يوم يحشرهم جميعاً فيقول يا معشر الجن والإِنس، و «الحشر» هو الجمع، و «المعشر» هم الجماعة المختلطة اختلاط تعايش، بمعنى أن يكون فيهم كل عناصر ومقومات الحياة، وقد يضاف المعشر إلى أهل حرفة بخصوصها؛ يا معشر التجار، يا معشر العلماء، يا معشر الوزراء. لكن إن قلت: يا معشر المصريين فهي جماعة مختلطة اختلاط تعايش ومعاشرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3940 {يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس [الأنعام: 128] و «استكثر» أي أخذ منه كثيراً، كمن استكثر من جمع المال، أو استكثر من الأصدقاء؛ فمادة «استكثر» تدل على أنه أخذ كثرة. وماذا يعني استكثارهم من الإنس؟ . نحن نعلم أن من الجن طائعين، ومنهم عاصون، والأصل في العصيان في الجن «إبليس» الذي أقسم: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] فكأن الحق يوضح: أنكم معشر الجن قد حاولتم جاهدين أن تأخذوا الإنس إلى جانبكم واستكثرتم بهم، فبعد أن كان العاصون فقط من شياطين الجن وجد عصاة من الإنس أيضاً، واستكثرتم منهم، بأن ظننتم ان لكم غلبة وكثرة وعزاً، لأنهم إذا أطاعوكم في الوسوسة أصبحت لكم السيادة، وذلك ما كان يحدث، فكان الإنسان إذا ما نزل وادياً مثلاً قال: أعوذ بسيد هذا الوادي - من الجن - ويطلب أن يحفظه ويحفظ متاعه، وحينما يوسوس له شيء يسارع إلى تنفيذه، وهذا استكثار. {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128] وكذلك لم يستمتع الجن والإنس فقط، بل استمتع أيضاً بالجن، وهكذا نجد تبادل استمتاع من خلف منهج الله، لهؤلاء إغواءٍ وسيادة، يأمرونهم بعمل الأشياء المخالفة لمنهج الله، وهؤلاء يستمتعون بهم يحققون لهم شهواتهم في صور تدين، فيقولون لهم: اعبدوا الأصنام، واعبدوا الشمس، واعبدوا القمر، فيفعلون. وذلك يرضي فيهم غريزة الانقياد التديني؛ لأن كل نفس مفطورة على أن ترتبط بقوة أعلى منها؛ لأن الإنسان إذا نظر لنفسه وإلى أقرنائه وجدهم أبناء أغيار؛ الواحد منهم يكون اليوم صحيحاً وغداً مريضاً، ويكون اليوم غنياً وغداً فقيراً، فمال الذي يضمن للنفس البشرية حماية من هذه الأغيار؟ . إن الإنسان يحبّ أن يلجأ ويرتبط بقَويّ؛ حتى إذا جاءت هذه الأغيار كانت سنداً له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3941 إلا أن هناك من يصعدهُا في التدين وهؤلاء هم الذين يركنون إلى الإيمانية لله ويعتمدون عليه سبحانه ويقبلون على الإيمان بالله بمطلوبات هذا الإيمان في «افعل» و «ولا تفعل» . لكن الأشياء التي يعبدونها من دون الله ليس لها مطلوبات أو تكاليف إلا أن تكون موافقة لأهواء النفس، وهذا الإِكذاب للنفس أي حمل النفس على الكذب لا يدوم طويلاً؛ لأن الإنسان لا يغش نفسه؛ فالإيمان يحمي النفس إذا جاء أمر فوق أسبابك، وليس هناك من يقول: يا شمس أو يا قمر، يا شيطان أو يا صخر! لا يمكن؛ لأنك لن تكذب على نفسك أبداً. ومثال ذلك قول الحق: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ. .} [يونس: 12] وهنا يقول الحق عن الإنس: {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا. .} [الأنعام: 128] أي أن هذا الاستمتاع أمداً، هو أمد الأجل أي ساعة تنقضي وتنتهي الحياة، ثم يبدأ الحساب فيسمعون قول الحق: {. . قَالَ النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} [الأنعام: 128] و «الثواء» هو الإقامة، و «مثواكم» أي إقامتكم، «إلا ما شاء الله» وهذا الاستثناء كان محل نقاش بين العلماء، دار فيه كلام طويل؛ فهناك من قال: إن الحق سبحانه وتعالى قال: «إلا ما شاء الله» أي أن له طلاقة القدرة والمشيئة؛ فيفعل ما يريد لكنه حسم الأمر وحدد هو «ما شاء» فقال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ. .} [النساء: 48] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3942 وهنا حدد «ما شاء» ، أي أن ما شاء يكون في غير الشرك به فإن الشرك لا يكون محل غفران منه سبحانه. أو يجوز «إلا ما شاء الله» أن بعضاً يفهم أنه بمجرد البعث والحشر ستكون النار مثواهم، ولكن المثوى في النار لن يكون إلا بعد الحساب، وهذا استثناء من الزمن الخلودي، فلن يحدث دخول للجنة أو للنار إلا بعد الحساب. فزمن الحساب والحشر مستثنى وخارج عن زمن الخلود في الجنة أو النار. ونحن نجد أيضاً {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} في سورة هود حيث يقول الحق: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 106 - 108] إذن فهناك الاستثناء في النار والاستثناء في الجنة، فقول الحق: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} فمجيء الاستثناء بعد الوصف بالخلود، يدل على أن الخلود ينقطع مع أنه قد ثبت خلود أهل الجنة في الجنة وخلود أهل النار في النار للأبد من غير استثناء فكيف ذلك؟ والرد على هذا أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار، وحده بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار بما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم ولعنهم وطردهم وإهانته إياهم. وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما أكبر منها واجل موقعا، وهو رضوان الله كما قال: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} فلهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهذا هو المراد بالاستثناء، والدليل عليه قوله: «عطاء غير مجذوذ» ومعنى قوله في مقابلته {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} أن ربك يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطي اهل الجنة الذي لا انقطاع له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3943 ويذيل الحق الآية بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} . حكيم في أن يعذب، عليم بمن يستحق أن يعذّب، ومقدار عذابه، وعليم بمن يستحق ان يثاب وينعم، وبمقدار ثوابه ونعيمه، وحكيم في أن يرحم. ويقول الحق بعد ذلك: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3944 و «كذلك تشير إلى ما حدث من الجن والإنس من الجدل، فقال الحق على ألسنة الإنس: {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ... } [الأنعام: 128] ولم يأت بكلام الجن؛ لأن كلامهم جاء في آيات أخرى؛ فالحق هو القائل: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ. .} [إبراهيم: 22] وكذلك أورد الله ما يجيء عل لسان الشيطان في سورة أخرى: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ ... } [الحشر: 16] وكذلك جاء الحق في آيات أخرى بأقوال الإنس الذين ضلوا: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3944 {رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} [فصلت: 29] وقوله الحق هنا في سورة الأنعام: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضا} [الأنعام: 129] أي كما صنعنا مع الجن والإِنس، باستكثار الجن من الإِنس واستمتاع بعضهم ببعض إضلالا وإغواء، وطاعة وانقيادا، نجعل من بينهم ولاية ظالم على ظالم، ولا نولى عليهم واحداً من أهل الخير؛ لأن أهل الخير قلوبهم مملوءة بالرحمة، لا يقوون على أن يؤدبوا الظالم؛ فهم قد ورثوا النبوة المحمدية في قوله يوم فتح مكة:» اذهبوا فأنتم الطلقاء «، ولذلك إذا أراد الله أن يؤدب ظالماً لا يأتي له بواحد من أهل الخير ليؤدبه، إنه - سبحانه - بتكريمه لأهل الخير لم يجعل منهم من يكون في مقام من يؤدب الظالم. إنه - سبحانه - يجعل أهل الخير في موقف المتفرج على تأديب الظالمين بعضهم بعضا. والتاريخ أرانا ذلك. فقد صنع الظالمون بعضهم في بعض الكثير، بينما لو تمكن منهم أعداؤهم الحقيقيون لرحموهم؛ لأن قلوبهم مملوءة بالرحمة. ولذلك بلغنا عن سيدنا مالك بن دينار وهو من أهل الخير. يقول: قرأت في بعض الآثار حديثاً قدسيا يقول فيه الحق:» أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي. « فإياكم أن يظن الطاغية أو الحاكم أو المستبد أنه أخذ الحكم بذكائه أو بقوته، بل جاء به الحق ليؤدب به الظلمة، بدليل أنه ساعة يريد الله أن تنتهي هذه المسألة فهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3945 بجلاله ينزع المهابة من قلوب حرّاسه وبدلاً من أن يدفع عنه البندقية، يصوّب البندقية إليه. فإياكم أن تظنوا أن ملكا يأخذ الملك قهراً عن الله، ولكن إذا العباد ظلموا وطغوا يسلط الحق عليهم من يظلمهم، ولذلك يقال:» الظالم سيف الله في الأرض ينتقم به وينتقم منه «. {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] فكأن ما سلّط على الناس من شرّ عاتٍ هو نتيجة لأعمالهم؛ ولذلك كان أحد الصالحين يقول: أنا اعرف منزلتي من ربي من خُلُق دابتي؛ إن جمحت بي أقول ماذا صَنَعْتُ حتى جمحت بي الدابة؟! وكأن المسألة محسوبة. وهذه معاملة للأخيار، عندما يرتكب ذنباً يؤاخذ به على الفور حتى تصير صفحته نظيفة دائماً. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كَفّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكها.» فإذا فعل العبد من أهل الخير بعضاً من السيئات، يوفيّه الحق جزاءه من مرض في جسمه أو خسارة في ماله، كذلك المسيء الذي لا يريد له الله النكال في الآخرة. يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا حط الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.» {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} هم اعتقدوا أنهم أخذوا شيئاً من وراء الله وخلصوا به. نقول: لا، فربك سيحاسبك ثواباً أو عقاباً وذلك بما قدمت يداك من سيئات أو حسنات. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3946 {يَامَعْشَرَ الجن والإنس. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3947 ونلاحظ أنه قال هنا: {يَامَعْشَرَ الجن والإنس} لأنه يريد أن يقيم عليهم الحُجة بأنه سبحانه لم يجرم أعمالهم ولم يضع لهم العقوبات إلا بعد بلغهم بواسطة الرسل؛ فقد أعطاهم بلاغاً بواسطة الرسل عما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك. فلم يأخذهم - سبحانه - ظلماً. وهنا وقفة؛ فالخطاب للجن والإنس {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} فقال بعض العلماء: إن الجن لهم رسل، والإنس لهم رسل، وقال آخرون: الرسل من الإنس خاصة؛ لأن القرآن جاء فيه على لسانهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} . إذن فقد احتج الجن بكتاب أنزل من بعد موسى عليه السلام وعندهم خبر عن الكتاب الذي جاء بعده، كأن الجن يأخذون رسالتهم من الإنس؛ فكأن الله قد ارسل رسلاً من الإنس فقط وبلغ الجن ما قاله الرسول، وهو هنا يقول سبحانه: {يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ. .} [الأنعام: 130] وأنت حين تأتي إلى اثنين: أولهما معه مائه جنيه، والثاني يسير معه وليس معه شيء وتقول: «هذان معهما مائه جنيه» فهذا قول صحيح. فقوله سبحانه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} أي من مجموعكم. أو أن الرسل تأتي للإنس، وبعد ذلك من الجن من يأخذ عن الرسول ليكون رسولاً مبلغاً إلى أخوانه من الجن: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3947 {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] فكأن المنذرين من الجن يأخذون من الرسل من الأنس وبعد ذلك يتوجهون إلى الجن. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي. .} [الأنعام: 130] والآيات تطلق على المعجزات التي تثبت صدق الرسل، وما يكون من شرح الأدلة الكونية الدالة على صدق الرسل. وكلمة {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} أي يروون لهم الموكب الرسالي من أول «آدم» إلى أن انتهى إلى «محمد» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. و {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} قول يدل على دقة الأداء التاريخي؛ لأن «قص» مأخوذ من قص الأثر، ومعناها تتبع القدم بدون انحراف عن كذا وكذا، وهكذا نجد أن المفروض في القصة أن تكون مستلهمة واقع التاريخ. {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا. .} [الأنعام: 130] وهو اليوم المخزي حيث سيقفون أمام الله ويذكرهم الحق أنه قد نبههم وقد أعذر من أنذر. { ... قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] وقولهم: {شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا} إقرار منهم على أنفسهم؛ فقد شهدوا على أنفسهم، ولكن ما الذي منعهم أن ينضموا إلى الإيمان بمواكب النبوة؟ . تأتي الإجابة من الحق: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3948 والذي يغرّ هو الشيء الذي يكون له تأثير، وهو موصوف بأنه «دنيا» !! لذلك فالغرور الذي يأتي بالدنيا هو قلة تبصّر. {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} . ومن يستقرئ آيات القرآن يجد آية تقول: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فمرة ينفون عن أنفسهم أنهم كفروا، ومرة يثبتون أنهم كافرون، وهذا لاضظراب المواقف أو اختلافها. أو أنهم {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ} ؛ بمعنى أن أبعاضهم شهدت عليهم؛ لأن الإنسان في الدنيا له إرادة، وهذه الإِرادة مسيطرة على ما له من جوارح وطاقات مخلوقة لله؛ لأن الله جعل للإِرادة في الإِنسان ولاية على الأبعاض التي تقوم بالأعمال الاختيارية. لكن الأعمال الاضطرارية القهرية ليس للإِنسان إرادة فيها؛ فلا أحد يملك أن يقول للقلب انبض كذا دقة في الساعة، ولا أن يقول للأمعاء: تحركي الحركة الدّودية هكذا. لكنه يقدر أن يمشي برجليه إلى المسجد، أو يمشي إلى الخّمارة. ويستطيع أن يقرأ القرآن أو يقرأ في كتاب يضر ولا يفيد. إذن فإرادة الإِنسان مسيطرة على الأبعاض لتحقق الاختيار المصحح للتكليف. لكن يوم القيامة تسلب الإِرداة التي للإِنسان على أبعاضه، وتبقى الأبعاض كلها حُرّة، وحين تصير الأبعاض جُرّة فالأشياء التي كانت تقبلها في الدنيا بقانون تسخيرها لإِرادتك قد زالت وانتهت، فهي في الآخرة تشهد على صاحبها؛ تشهد الجلود والأيدي والأرجل: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ... } [فصلت: 21] وحين يقولون لربنا: ما كنا مشركين، فهذا كلامهم هم، لكن جوارحهم تقول لهم: يا كذابون، أنتم عملتم كذا. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3949 {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3950 {ذلك} إشارة إلى ما تقدم، وهو إرسال الرسل مبلغين عن الله؛ حتى لا يكون لأحد حُجة بعد الرسل، وقد أقروا بأن الله أرسل إليهم رسلاً، وشهدوا على أنفسهم، وماداموا قد أقرّوا على أنفسهم بأن الله أرسل لهم رسلاً وشهدوا على أنفسهم بذلك، إذن فهذا إقرار جديد بأن الله لم يكن مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعاقب على جُُرم، وقبل أن يجرّم ينزل النص بواسطة الرسل. أي أن الله لا يهلكهم بسبب ظلم وقع منهم إلا بعد ذلك البلاغ. {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} ، و «الغفلة» ضد اليقظة، فاليقظة، هي تنبّه الذهن الدائم، و «الغفلة» أن تغيب بعض الحقائق عن الذهن، ومعنى أن ربنا لا يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون أي غير يقظين؛ فلو أنهم كانوا يقظين ومتنبهين لما احتاجوا إلى الرسل؛ لأن الله عندما خلق الخلق أرسل آدم إلى ذريته، وكان المفروض كما يلقن الآباء الأبناء وسائل حياتهم أن يلقنوهم مع ذلك قيم دينهم. فكما أن الآباء يعلمون ذريتهم وسائل حياتهم، ثم ينقلونها ويزيدون عليها بابتكاراتهم، كان من الواجب على الآباء أن يقوموا بهذا العمل بالنسبة للقيم فتعيش القيم في الناس كما عاشت وسائل حياتهم. ولماذا - إذن - عاشت وسائل حياتهم وتوارثوها وزادوا عليها أشياء؟ {لأن زاوية الدين هي التي يغفل الناس عنها، بسبب أنها تقيد حركتهم في «افعل» و «لا تفعل» ، ولكنهم يريدون الترف في وسائل حياتهم. لماذا إذن أيها الإِنسان تحرص على الترقي في ترف الحياة ولا تحرص على الترقي في القيم؟ . لقد كنت - على سبيل المثال - تشرب من الماء أو النبع بيدك ثم صنعت كوباً لتشرب منه، ونقيت الماء من الشوائب ونقلته من المنابع في صهاريج. أنت ترفه حياتك المادية والمعيشية فأين إذن الاهتمام بقيم الدين؟} ! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3950 ولو كانوا متيقظين لكان كل أب قد علم ابنه ما ورثه من آبائه من القيم، وعلى الرغم من ذلك رحم الحق سبحانه وتعالى هذه الغفلة، وكرّر التنبيه بواسطة الرسل. وكلما انطمست معالم القيم التي يحملها المنهج فهو - جل وعلا - يرسل رسولاً رحمة منه وفضلاً وعدالة، ولم يكن يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، والغفلة ضد اليقظة. إذن لو كانوا متيقظين لما كانت هناك ضرورة للرسل؛ لأن الآباء كانوا سينقلون لأبنائهم القيم كما ينقلون إليهم وسائل حياتهم، وهذا الأمر مستمر معنا حتى الآن؛ إن الأب - مثلاً - إن غاب ابنه عن المدرسة يوماً يلوم الابن، وإن أهمل في دروسه أو رسب فهو يعاقب الابن، وهذه هي الغيرة على المستقبل المادي للابن، ولا غيرة على أدائه لفروض الدين، لماذا؟ . إن الناس لو عنوا بمسائل قيمهم كما يعنون دائماً بمسائل حياتهم لاستقام منهج الخير في الناس وأصبح أمراً رتيباً. وعرفنا أن الغفلة ضدها اليقظة، كما أن السهو ضده التذكر، والغروب ضده الشروق، والغياب ضده الحضور. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3951 {وَلِكُلٍّ} ، وجاءت بالتنوين أي لكلٍّ من الإِنس والجن درجات مما عملوا، فكأن الأعمال تتفاوت؛ فقد تكون في ظاهرها قوالب متحدة، لكن التفاوت إنما ينشأ بكثرة العمل، أو بإخلاص المقارف للعمل والمكتسب والفاعل له، فهناك من يخلص بكل طاقته، وهناك من يؤدي عمله بنصف إخلاص، ومسألة الإِخلاص هذه لا تحددها لوائح ولا قوانين إنما يحددها الحق سبحانه وتعالى، ولذلك يقول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبلغاً عن رب العزة هذا الحديث القدسي: « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3951 الإِخلاصُ سر من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي.» إذن فمقاييس الإِخلاص لا يعرفها إلا ربنا سبحانه وتعالى، وعلى مقدار ذلك تكون الدرجات. وتكون الدرجات على مقدار ما يزيده العبد من جنس ما فرضه الله عليه؛ فالحق قد فرض صلوات خمساً، فيزيد العبد عشر ركعات في الليلة مثلاً. والله قد فرض الصيام شهراً، فيصوم العبد يومي الاثنين والخميس. والذي يقف عند ما فرض الله يجازيه الله على إخلاصه في أداء ما عليه، وحينما سأل أعرابي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن موقف الذي لا يؤدي إلا الفروض فقط، قال له: «أفلح إن صدق،» فالذي يزيد عما فرض الله من جنس ما فرض الله أشد فلاحاً. ولا يصل الإِنسان إلى المرتبة التي هي أشد فلاحاً إلا إذا كان في درجة أعلى، وكلمة {دَرَجَاتٌ} تفيد العُلّو، وكلمة «دركات» تفيد الهبوط، والحق لا يغفل عن ظاهر وباطن كل عمل لأي عبد. ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3952 وهنا يحنننا الله سبحانه وتعالى إلى عبادته، وإلى تكاليفه؛ يحنننا إلى فضيلة الطاعة، وكل ذلك لمصلحتنا وهذا مطلق الربوبية الرحيمة، فيحسن لنا الجزاء، ويفخم لنا فيه لنعمل لصالحنا نحن؛ لأن كل أعمالنا - كما قلنا - لا تزيد في ملك الله قدر جناح بعوضة، وكل معصياتنا لا تنتقص من ملك الله قدر جناح بعوضة؛ لأن الله بكل صفات الكمال خلقنا، ولم نزده نحن شيئاً. لقد أوجد الدنيا من عدم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3952 وفرق بين الصفة القائمة بذات الله، وإيجاد متعلق الصفة. فالله خالق؛ والله رحمن، والله رحيم، والله قهار، وسبحانه رحمن ورحيم وقهار وخالق حتى قبل أن يبرز ويظهر ما يخلقه؛ لأنه بصفة الخالق فيه خلق، وهو رزاق قبل أن يخلق المرزوق، فالصفة موجودة فيه قائمة به، وبهذه الصفة رزق، وبوجود هذه الصفات فيه يقول للشيء كن فيكون، وله هذا الكون كله، وهو غني عن العباد وله كل الملك، وكذلك خلق التوبة، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لَلَّهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة.» {وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133] إذن فالخلق مستمر الإيجاد من العدميات وهو دليل على أن صفة الخالقية موجودة. وما آدم في منطق العقل واحد ... ولكنه عند القياس أو ادم فالكون كله من أول آدم موجود، وكل الكون المسخر لآدم كخليفة في الأرض خاضع لله، فإن شاء اذهب الخلق وأتى بخلق جديد. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3953 والحق سبحانه وتعالى لأنه لا إله إلا هو، إذا وعد فلابد أن يتحقق وعده، وإذا أوعد فلابد أن يأتي وعبده. والوعد إذا أطلق فهو في الخير، والوعيد يكون في الشر. والذي يخلف الوعد أو الوعيد من الخلق فهذا أمر متوقع لأنه من الأغيار، فيتغير رأيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3953 فلم يعد أهلاً لهذا الوعد؛ لأنه ربما يكون قد وعد بشيء كان يظن أنه في مكنته، وبعد ذلك خرج عن مكنته، فليس له سيطرة على الأشياء، لكن إذا كان من وعد قادراً، ولا يوجد إله آخر يناقضه فيما وعد أو أوعد به فلابد أن يتحقق الوعد أو يأتي الوعيد. . ولذلك حينما يحكم الله حكماً فالمؤمن يأخذ هذا الحكم قضية مسلمة؛ لأنه لا إله مع الله سيغير الحكم، وسبحانه ليس من الأغيار، والمثال أنه قال: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1 - 5] وهذا وعيد في أمر لهم فيه اختيار، ومع ذلك لم يسلموا. وجاء بعدها ما يؤكد لكل مسلم: إياك أن تأخذ هذه القضية مأخذ الشك، وتقول: قد يتوب أبو لهب هذا وزوجه ويسلمان، ألم تتب هند؟ {ألم يسلم أبو سفيان؟} . لكنه سبحانه عالم بما يصير إليه اختيار أبي لهب واختيار زوجه، وإن كان كل منهما مختاراً، ولا يوجد إله سواه ليغير الأمر عما قال. {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ ... } [الإخلاص: 1] أي لا يوجد إله أخر ليعدل هذا الأمر. {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134] قد يظن بعض الناس أن الله قد يأتي بما وعد به لكنهم قد يهربون منه، ولكن ليس الأمر كما يظنون؛ فالوعد آت وأنتم لا تستطيعون الهرب منه، ولا أحد بقادر على أن يمنع الله عن تحقيق ما وعد أو أوعد، ولن تفروا من وعده أو وعيده، ولن تغلبوا الله أو تفوتوه وتعجزوه؛ فالله غالب على أمره. ويقول سبحانه من بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3954 {قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3955 والقوم هم الجماعة، وعادة يطلق على الرجال لأنهم أهل القيام للمهمات؛ لأن الشأن والأصل في المرأة الستر والبيتوتة والاستقرار في البيت للقيام على أمره ورعايته. وحين تقرأ القرآن تجد كلمة «قوم» وتفهم أن المقصود منها الجماعة التي تجمعهم رابطة، وأنها للرجال خاصة، والمثال هو قول الحق: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ... } [الحجرات: 11] وما دام قد جاء بمقابل {قَوْمٌ} : {وَلاَ نِسَآءٌ} ، ف {قَوْمٌ} هذه للرجال ومأخوذ منها «القيام للمهمات» ، ومأخوذ منها «القيامة» . ولذلك الشاعر يقول: ولا أدري ولست أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء يعني أرجال أم نساء. {قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135] و «المكان» هو الحيز الذي يأخذه جسم الإِنسان؛ فكل كائن له مكان، إن وقف له مكان، إن قعد له مكان، والمكان هو المملوك والمخصص لك من الأرض، فحين تقف في مكان لا يقدر آخر أن يقف فيه وأنت واقف، بل يجب أن يزحزحك عنه، وحين تزحزح من هو واقف، فهو يروح إلى مكان ثانٍ، ويمتنع التداخل بين اثنين في حيز لا يسع إلا واحداً، وهذا أمر فطري؛ فتجد الولد الصغير الذي لم يدرك أي شيء ويقدر أن يقف فقط، ثم يريد أن يقعد على الكرسي الذي تجلس عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3955 أخته أو أخوه، فقبل أن يقعد على الكرسي يشد من يجلس عليه؛ لأنه يعرف بالفطرة أن اثنين لا يوجدان في حيز واحد. وترى ذلك أيضاً في غير الجرم المرئي، فأنت حين تأتي قارورة وتضعها في ماء لتمتلئ تسمع صوت الهواء الخارج منها في بقبقة؛ لأن الماء لا يمكن أن يدخل إلا أن خرج الهواء، ولأن المياه أكثف فهي تضغط ليخرج الهواء، وهذا ما يؤكد عدم التداخل. أي لا يوجد شيئان اثنان في حيز واحد. ومكانتك هي الموقع الذي تستولي عليه، ولذلك حتى في الجيوش وفي الحرب توضع الخطط من أسلحة مختلفة، لتستولي على الأماكن. و {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} هو قول موجه إلى الجماعة الذين عارضوا النبوة ووقفوا منها هذه المواقف، فيقول لهم الحق تهديدا لهم وتيئيسا من أنهم لن يصلوا إلى النيل من رسول الله: اعملوا على قدر استطاعتكم من التمكن، أو أثبتوا على ما أنتم عليه من الخلاف والمناهضة، لماذا؟؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عامل أيضاً: فلن يكون ثباتكم مانعاً لي من العمل؛ أنتم تعملون وأنا أعمل، أنتم تعملون على طاقاتكم، وأنا أعمل على طاقاتي الإِيمانية ومدد ربي الأعلى من الطاقة. {قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [الأنعام: 135] {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} و «له» تعطي دلالة إلى أن الإِيمان ستكون عاقبة الدار لصالحه؛ لأن الآخرين لن تكون لهم بل عليهم، وساعة ترى «اللام» اعرف أن الأمر لهم لا عليهم. فكأن الظالمين إن تنلهم عاقبة فهي ليست لهم، وإنما عاقبتهم عليهم، ولن يفلح الظالمون. ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3956 وهنا رجوع إلى كلام عن الذين يناهضون منهج الله. و «ذرأ» أي خلق، وبث، وبشر، والحرث يراد به الزرع، وسمى الزرع حرثاً؛ لأنه يأتي بالحرث، و «الأنعام» وهي تتمثل في ثمانية أزواج في آية تأتي بعد ذلك، وهي الأبل، والبقر، والضأن والمعز. {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً} أي مما خلق، وهم قد حرثوا فقط؛ لأن الذي يزرع هو الله، فسبحانه الذي أعطى للبذرة قوتها لتربي لها جذراً، وتمتص عناصر الغذاء من الأرض، وهو الذي جاء بعناصر الأرض كلها، وهو الذي جعل البذرة تتوجه إلى العناصر الصالحة لها، وتترك غير صالح بقانون {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} . والذي صنعه الله الحرث وفي الأنعام تتخيلون أنكم تتصرفون فيه على رغم أنه هو الذي ذرأ وخلق. إنه - سبحانه - هو المتصرف. هم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا: هذا لله «بزعمهم» وهذا لشركائنا، أي جاءوا بالحرث وقسموه قسمين. وقالوا: هذا لله، وهذا للأصنام. وكذلك قسموا الأنعام وجعلوا منها قسماً لله، وقسماً لهم، ألم يكن من العدل أن يقسم الذي خلق بدلاً من هذا الزعم منكم لأنكم أخذتم غير حقكم، وياليتكم أنصفتم فنرضى بقسمتكم فيذهب القسم الذي لله للصدقات على الفقراء، والذي للشركاء يذهب للأصنام وللسدنة الحجاب عليها والخادمين والذين يضربون لكم الأقداح، ويا ليتكم عرفتم العدل في القسمة بل أن ما صنعتموه هي قسمة ضيزى جائرة وظالمة، لماذا؟ . تأتي الإجابة من الحق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3957 {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ. .} [الأنعام: 136] أنتم قسمتم وقلتم: هذا لله وهذا لشركائنا. فاصدقوا مع أنفسكم في هذه النسبة، لكنهم كانوا يسرقون حق الله، وكان لهم في الهلاك تقسيم معين، وفي الزيادة لهم تقسيم آخر. فإذا ما جاءت آفة للزرع وأهلكته أخذوا ما خصصوه لله وأعطوه للشركاء وقالوا: إن ربنا غني! وبرغم أنكم قسمتم ولكنكم لم توفوا بالقسمة التي فرضتموها ورضيتم بها. وكذلك في الأنعام يقدرون عدداً من الأنعام ويقولون: هذه لله، وتلك للشركاء، فإن ماتت بهيمة من النذور لله لم يعوضوها، وإن ماتت بهيمة منذورة للأصنام يعوضونها ويأخذوا بدلاً منها من القسم الذي نذروه لله. وأيضاًَ لنفترض أن عيناً جارية ساحت فيها المياه لتروي الزرع المقسوم لله، فيأخذوا منها للأرض المزروعة للأصنام. إذن هي قسمة ضيزى من البداية، وليتهم وفوا بهذه القسمة، وهكذا ساء حكمهم وفسد. ويقول الحق بعد ذلك: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3958 وأيضاً نقلوا تلك القسمة الضيزى إلى ما يتعلق بذواتهم في الإنجاب والإنسال؛ فشركاؤهم زينوا لهم قتل أولادهم، و «التزيين» هو إدخال عنصر التحسين على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3958 التزيين أمراً عرضياً طارئاً، ووجه التزيين أنهم كانوا إما أغنياء، وإما فقراء، فإن كانوا فقراء يقل الواحد منهم لماذا أجلب لنفسي هِّما على همّ، وإن كانوا أغنياء يقل الواحد منهم: إن الأبناء سيأخذون منك ويفقرونك. إذن ففيه أمران: إما فقر موجود بالفعل، وإما فقر مخوَّف منه، ولذلك تجد الآيات التي تعرضت لهذا المعنى، تأتي على أسلوبين اثنين؛ فالعَجُز مختلف باختلاف الصدر، والذين يحبون أن يستدركوا على أساليب القرآن لأنه مرة يقول: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ... } [الإسراء: 31] ومرة ثانية يقول: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ... } [الأنعام: 151] فما الفرق بين العبارتين؟ ونقول لمثل هذا القائل: أنت تقارن بين التذييل {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، و {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} . هذا تذييل لآية، وهذه تذييل لآية ثانية. هات ذيل الآية مع صدرها نجد أن ذيل كل آية مناسب لصدرها. ومادام قد اختلف في الصدر فلابد أن يختلف في الختام، ففي الآية الأولى يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فالإملاق وهو الفقر واقع موجود. إذن فشغل الإنسان برزقه أولى من شغله برزق من يعوله من الأولاد، فيقول الحق لهؤلاء: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ... } [الأنعام: 151] فالإملاق موجود، وشغلهم برزق أنفسهم يملأ نفوسهم. لذلك يقول لهم: {نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} فيطمئنهم سبحانه نحن نرزقكم ثم نرزقهم. أما إن كان الإملاق غير موجود فالحق يقول: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ... } [الإسراء: 31] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3959 أي لا تقتلوا أولادكم خوفاً من فقر، فأنتم تملكون رزقكم، وحين يأتي الأولاد نرزقهم ونرزقكم معهم. وهكذا نرى أن الصدر مختلف في الآيتين، وكذلك العجز، والشركاء كانوا يزينون قتل الأولاد، وهذه مسألة تحتاج إلى تزيين قاس؛ لأن حب الأبناء غريزة في النفس البشرية، والنفس تحب أن يكون لها ذرية؛ لأن الإنسان يفهم أنه مهما طال عمره فسوف يموت فيحب أن يظل اسمه في الأجيال المتتابعة. ونجد الإنسان وهو ممتلئ بالسعادة حين يأتيه حفيد، ويقول: لقد ضمنت ذكري لجيلين قادمين، وينسى أن الذكر الحقيقي هو الذي يقدمه الإنسان من عمل، لا ذكرى الأبناء وحب امتداد الذات. وقتل الأبناء يحتاج إلى تزيين شديد، كأن يقال: إن أنجبت أبناء فسيفقرونك ويذلونك، فأنتم أمة غارات وأمة حروب وكل يوم يدخلك أبناؤك في قتال ونزال فتكون بين فقد لأبنائك أو انتهاب لمالك، وإن كانوا بنات فسيتم سبيهن من بعدك، وهكذا تكون المبالغة في الإغراء لعملية تناقض الفطرة السليمة في امتداد النسل. {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ. .} [الأنعام: 137] و {لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين} تفيد أن بعضهم كان يرفض قتل الأولاد، و «يردوهم» من الردى، وهو الهلاك، والموت. {ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ. .} [الأنعام: 137] أي يخلطوا عليهم الدين، فهل كان عندهم دين؟ لقد ورث هؤلاء من أمر قيم الدين ما كان سابقاً وهو ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى مالوا وزالوا عنه إلى الشرك، إنهم زينوا لهم أعمالا ليوردوهم موارد الهلكة. وحاولوا أن يخلطوا عليهم ما بقي لهم من دين. { ... وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137] لأن وأد الأولاد وقتلهم إنما ينافي فكرة خلق الله، فهل يخلق الله لتقتل أنت؟! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3960 كأنهم يصادمون إرادة الإِيجاد من الحق سبحانه وتعالى، لكنّه - سبحانه - لو شاء ما فعلوا ذلك، فهو قد أعطاهم الاختيار، ومن باب الاختيار ينفذون إلى كل مراد لهم، ولو لم يخلق الله فيهم اختياراً ما فعلوا ذلك؛ لأنه لو أراد ألا يضلوا لما فعلوا، وقد أراد الله أن يوجد خلقاً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم الملائكة. إذن فهذه المسألة ليست عزيزة على الله، وسبحانه ساعة يقهر على مراد له، إنما يكون ذلك لمصلحة المخلوق، وساعة يتركه مختاراً فمن إمداد الخالق له بالاختيار ولا يفعل المختار شيئاً غصباً عن الله؛ لأن الألوهية تقتضي أمرين اثنين: تقتضي قدرة تتجلى في الأشياء القهرية التي لا يستطيع العباد أن يقفوا أمامها، والإِنسان هو الكائن الوحيد الذي له حق الاختيار بين البديلات في مراداته، أما بقية الكون فسائر بقانون التسخير وليس له اختيار. والكائنات المسخرة أثبتت لله طلاقة القدرة، ولكنها لا تثبت لله محبوبية المخلوق؛ لأن المحبوبية تنشأ من أنك تكون حرًّا في أن تفعل، ولكنك تؤثر فعلاً مراد لله على مرادك. {وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} . و «الافتراء» هو الاختلاق والكذب المتعمد، وهم مفترون، لأنهم أرادوا أن يغيروا صدق الواقع في الإِنجاب، فقد خلق الله الزوجين - الذكر والأنثى - من أجل الإِنجاب. ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَقَالُواْ هذه أَنْعَامٌ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3961 وهذا تمادٍ في الشرك؛ لأنهم قسموا الحيوانات والحرث وحجزوا قسماً للأصنام، وهذه الأنعام المرصودة للأصنام لا يتصرف فيها أحد، فلا يؤخذ لبنها ولا يستخدمها أحد كمطايا، ولا يتعدى نفعها للناس. ولم يتنبهوا إلى أن هذه الأنعام نعمة من الله، ولابد من الانتفاع بها، وليس من حسن التعقل أن تترك حيواناً تستطيع أن تستفيد من تسخيره لك ولا تفعل، هم قد فعلوا ذلك وحكى الحق عنهم فقال: {وَقَالُواْ هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ. .} [الأنعام: 138] أي هي أنعام محرم استخدامها، وحرموا أيضاً ركوبها. {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا. .} [الأنعام: 138] وتمادوا في الكفر فذكروا أسماء الأصنام عليها: {وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا افترآء عَلَيْهِ. .} [الأنعام: 138] وهذا لون من الافتراءات قد فعلوه ونسبوه إلى أنه متلقَّى من الله، ومأمور به منه - سبحانه - ولو قالوا: إن هذه الأمور من عندهم لكان وقع الافتراء أقل حدة، لكنه افتراء شديد لأنهم جاءوا بهذه الأشياء ونسبوها إلى الله، وهم قد انحلوا عن الدين وقالوا على بعض من سلوكهم إنه من الدين، ولذلك يجازيهم الله بما افتروا مصداقاً لقوله: {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138] ويقول الحق بعد ذلك: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3962 ويقودهم الباطل إلى باطل آخر فادعوا أن ما في بطون هذه الأنعام من اللبن ومن الأجنة إذا نزلت حيّة فهي للذكور منهم فقط، ولا تأكل النساء من ذلك شيئاً، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء وهذا يدل على التشقيق في القسمة. ويذيل الحق الآية بالقول الكريم: {. . سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] أي سيجزيهم على كذبهم وافترائهم بما يليق عقاباً للكاذبين؛ لأنه - سبحانه - (حكيم) في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره (عليم) بما يفعلونه من خير وشر، وإنه سيجازيهم على ما فعلوه أتم الجزاء وأكمله. ويقول الحق من بعد ذلك: {قَدْ خَسِرَ الذين ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3963 وجْه الخسران أنهم لم يلتفتوا إلى أن الله يرزقهم ويرزق أبناءهم أيضاً، ولعلك أيها الأب قتلت ولداً، كنت ستعيش أنت في رحاب رزقه، وكثيراً ما يكون البعض من الأولاد صاحب رزق وفير، ويقال عن مثل هذا الابن: إن وجهه وجه الخير والسعد والبركة، فمن يوم أن وُلد ولد معه الخير، وذلك حتى لا يتأبى الإنسان على عطاء الله؛ لأنك حين تتأبى على عطاء الله تحرم نفسك العطاء فيما تظنه غير عطاء، وهذا خسران كبير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3963 إننا نلحظ أن العرب كانوا في بيئة تستجيب وتلبي الصريخ، فساعد يصرخ من في شدة نزلت به واستنجد، يجد من ينقذه، والأولى بالنجدة أهل الرجل وأولاده. والمثال على ذلك ما حدث من جد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما ذهب ليحفر البئر، وجاءت قريش ووقفت له حتى لا يحفر. فقال: لو أن لي عشرة أبناء سأضحي بواحد منهم. إذن فكثرة الأولاد في هذه المسائل تعطي العزوة وتكثر الصريخ، ولا يفعل ذلك إلا المفطور على النجدة. وإن قتلت ابناً خوفاً من الفقر فقد تخسر رزقاً قد يكون في طي من تقتل من الذرية، وفوق ذلك تفقد مباهج الشأن أو العزوة أو الآل. أو على الأقل أنهم قد خسروا الا أنهم عاكسوا مرادات الله في الإيجاد بالإنجاب. {قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ. .} [الأنعام: 140] و {سَفَهاً} تعني طيشاً، وحمقاً، وجهلاً. {. . وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله افترآء عَلَى الله قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140] وهم حين يحرمون على أنفسهم ما رزقهم الله من الأنعام، فهم أهل حمق وضلال وخسران فلو تركوها لانتفعوا منها في حمل أثقالهم أو فيما تدره من لبن، أو في أكل لحمها. إنهم بحمقهم وجهلهم قد خسروا كثيراً، وهم مع ذلك فعلوا ما فعلوا بكذب متعمد على الله، وهم قد ضلوا ولم يكونوا أهلاً للهداية، وكان يكفي أن يصفهم بقوله: {قَدْ ضَلُّواْ} ؛ لكنه أضاف: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} لأن الضلال هو عدم الذهاب إلى المقصد الموصل للغاية، وقد يكون ذلك عن جهل بالطريق، لكن الحق سبحانه رسم لهم طريق الحق فآثروا الذهاب إلى الضلال مع وجود طريق الحق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3964 ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَهُوَ الذي أَنشَأَ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3965 وقول الحق: {أَنشَأَ} أي أوجد على إبداع لم يسبق له مثيل فلم يكن هناك نماذج توضيحية تدل الله سبحانه، وإنما ابتدأها على غير مثال سابق؛ لأنه لا يوجد خالق سواه. والخالق إذا لم يكن هناك سواه من شريك أو ندٍ فإنه حين يخلق إنما ينشىء خلقاً على غير نظام أو مثالٍ كان قد سبقه. وكلمة {جَنَّاتٍ} تؤدي ما نعرفه من المكان المحدد الذي يجمع صنوف الزروع والثمار مما نقتات، ومما نتفكه به، وتسمى جَنَّة وتسمى جَنَّات؛ لأن المادة كلها تدل على الستر وعلى التغطية، ومنه الجُنون لأن فيه ستراً للعقل، ومنها الجنِّ لأنهم مستورون عن رؤية العين، وكذلك «المِجَنّ» لأنه الذي يستر عن الإِنسان طعنات الخصم. والجَنَّة هي المكان الممتلئ بالزرع والثمار وتعلو الأشجار فيه وتكثف وتلتف أغصانها وفروعها بحيث تستر من يكون بداخلها وتستره أيضاً عن بقية الأمكنة؛ لأنه لا حاجة له إلى الأمكنة الأخرى؛ ففي الجنة كل مقومات الحياة من غذاء وفاكهة ومرعى، وماء وخضرة ومتعة، وفيها كل شيء. كما تسمى البيت العظيم المكتمل الذي يضم ويشتمل على كل المرافق «قصراً» لأنَّه قَصَرَك على أي مكان سواه؛ لأن فيه الأشياء التي تحتاج إليها كلها، فلا تحتاج إلى شيء بعده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3965 {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ. .} [الأنعام: 141] ومادة العرش تدل على العلو، ومنه قيل للسقف «عرش» ويطلق العرش أيضاًَ على السرير؛ مثل قوله الحق « {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} . ويطلق العرش على الملك مثل قوله الحق: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} . كل ذلك يدل على» العلو «وقوله الحق هنا: {مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} ، أي أن الزرع من نوع العنب، حين نعني به نجعل له القوائم والقواعد التي يقوم عليها؛ لأن امتداد أغصانه اللينة لا تنهض أن تقوم وحدها، ولكن هناك نوع أيضاً يقوم وحده نسميه العنب الأرضي، وكأن الكلام فيما يختص بالكَرْم. أي: أنك إذا ما نظرت إلى الزرع الذي لا ساق له كالبطيخ، والشمام، وكالكوسة، وكل الزروع التي ليس لها ساق تجدها مفروشة في الأرض أي غير قائمة على قواعد وقوائم وعروش. وإن كنا الآن نحاول أن نرفعها لنعطي لها قوة الإنتاج. والكلام جاء على ما كان موجوداً عند العرب أيام بعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ والنخل والزرع} . والزرع يطلق ويراد به ما نقتات به من الحبوب. {مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ والزيتون والرمان مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ. .} [الأنعام: 141} وحين ننظر إلى هذه الآية نجد أنه قد سبقتها آية فيها كل هذه المعاني يقول سبحانه: {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3966 وبعض الناس يحاولون نقد القرآن فيقولون: إنه يكرر المعاني الواحدة؛ لأنهم لا يمتلكون فطنة أن المتكلم هو الله، وسبحانه يتكلم في كل شيء لأمر حكيم، فهو هنا يتكلم عن هذه الأشياء كدليل على الخالق ووحدانيته بدليل أنه ذيل الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، ولكن الكلام في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد جاء بقصد الحديث عن الانتفاع بها فيقول: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ... } [الأنعام: 141] ولا شك أن استقامة العقيدة بالإيمان بالإِله الواحد تحتاج إلى الدليل أولاً؛ لأن فائدتها أشمل، وأعم، وأعمق، وأخلد من الأكل، لأن الأكل قصارى ما فيه أنه يقوتنا هذه الحياة، ولكن الأدلة الأولى تعطينا الثواب الباقي والنعيم المقيم؛ لذلك فالآية الأولى متعلقة بالدليل، وهذه الآية متعلقة بالانتفاع، وهنا نلاحظ أنه قال: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} ، وفي هذه إباحة لتناول الأشياء منه قبل أن تنضج دون أن يترتب على ذلك لون من الضرر وإلا عالجناها بما يزيل وينفي عنا الضرر، فإذا ما وجدت ثماراً لم تنضج لك أن تأكل منها، ولم يجعل الحق لنا حرجاً فيما نحرث ونبذر ونروي ولكن الله سبحانه هو الذي يزرع ونحن نأكل منه، ونجد أهل الريف يشوون الذرة قبل أن تنضج ويقول سبحانه: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} . لقد قالوا إن الآية مختصة بما يُحصَد وهي الزروع، أما الأشياء التي لا يقال فيها: حصد فهي خارجة عن ذلك مثل الفواكه، لكن الإِمام أبا حنيفة يرفض ذلك ويرى: أن كل ما تنبته الأرض ينطبق عليه هذا النص؛ لأنه لا يصح أن تأخذ معنى الحصاد على العرف، ولكن بفهم اللغة. ما معنى الحصاد في اللغة؟ . الحصاد في اللغة القطع، فحينما تفصل الثمرة المطلوبة فهذا هو الحصاد. ولكن يوم الحصاد للحبوب؛ تكون الغلال في السنابل، ويرى الإِمام أبو حنيفة أن تعطي من البداية لمن حضر القسمة، وكذلك حينما تدرسه وتذريه تعطي، وعندما تغربل الحبوب أعط أيضاً، ويبتدئ الحصاد من ساعة أن تُكيل، وما تقدم غير محسوب، ما تأتيه من الحق يوم حصاده هو غير المفروض؛ لأنه لم يقل الحق المعلوم، وفي هذا اتساع لدائرة امتداد الخير إلى غير الزارعين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3967 { ... وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأنعام: 141] والإسراف هو مجاوزة الحد، والبعض قد فسّر الإِسراف بالزيادة فقط، ولكن الحقيقة أن أي تجاوز للحد زيادة أو نقصاً يسمى إسرافا؛ لأنه مأخوذ من «سرف الماء» ، وهو أن يُطلق الماء ويذهب في غير نفعٍ، وسيدنا مجاهد يقول: لو أن للإِنسان مثل جبل أبي قبيس ذهباً ثم أنفقه في حلّ ما عُدَّ سرفاً، ولو صرف درهماً واحداً في معصية يعد سرفاً. إذن فمعنى: «ولا تسرفوا» أمران اثنان بمعنى لا تتجاوزوا الحدود التي شرعها الحق فتستعملوا هذا في معصية، أو لا تسوفوا في أن تعطوا للفقير أقل مما يستحق. وكان حاتم الطائي كريماً جداً، وقعدوا يلومونه على هذا الكرم، فقال واحد له: لا خير في السرف. رد عليه فقال له: ولا سرف في الخير. أي أنه مادام في الخير فلا يكون سرفاً. وإذا كنا سنأخذ الأمر على المعنيين الاثنين: النقص والزيادة، فما المانع أن نعطي للفقير أكثر؟ . ويحكي الأثر أن أناساً قد تأخذهم الأريحية والنشاط للبذل والعطاء ساعة يرون كثرة غلتهم، وما أفاء الله عليهم من ريع أرضهم. إنهم يعطون الكثير مثلما عمل ثابت بن قيس، وكان عنده خمسون نخلة وجزها وأعطاها كلها للفقراء، ولم يترك لأولاده شيئاً. فلما رُفِع الأمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له: أعط ولا تسرف، لماذا؟ مخافة أن تحتاج بعد ذلك إلى ما أعطيت فتندم على أنك أعطيت. ويقول الحق بعد ذلك: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3968 وبعد أن تكلم سبحانه عن نعمه علينا في الزراعة ونعمه علينا في الماشية قال: {وَمِنَ الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم، {حَمُولَةً} والحمولة هي التي تحمل، فيقال: «فلان حَمول» أي يتحمل كثيراً. والحق يقول: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس ... } [النحل: 7] والذي تحمله فوق ظهرها يسمى «حُمُولة» . ولذلك نقول عن السيارة التي تنتقل «حمولة كذا طن» . «ومن الأنعام حمولة وفرشاً» . والإبل نحمل عليها الرحال، وكل متطلباتنا، و «فرشا» معناها: مقابل الحمولة. فالحمولة هي المشتدة التي تقوى على أن تحمل. وكل ما لا يستطيع الحمل لصغره، أو لأنه لم يعد لذلك، إذا ما نظرت إليه نظرة سطحية تجده وكأنه فارش للأرض. أو «ومن الأنعام حمولة» ؛ وهي التي تحمل متاعكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. «وفرشا» أي ومن ما تتخذون منه فرشاً بأن ننسج من وبره وصوفه وشعره ما نفرشه. {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأنعام: 142] وفي الحديث عن الأنعام، جاء بالحمولة والفرش ويأتي أيضاً بسيرة الأكل؛ لأننا نأكل لحمها وألبانها ومشتقات الألبان كلها، وهكذا تتعدد المنافع، فهي تحملنا ونأخذ من أصوافها وأوبارها وشعورها الفرش، والوبر وهو شعر الجمال، والصوف وهو شعر الغنم، وشعر الماعز يتميز بلمعة وانفصالية بين شعيراته. ونلحظ أنه سبحانه قال في الآية الأولى: «كلوا» وفي الثانية: «كلوا» ؛ لأن ذلك جاء بعد الكلام عما حرموه على أنفسهم من أرزاق الله في الأرض. فكان ولابد أن يؤكد هذا المعنى، ويوضح: إن الذي خلق هو الله، والذي كلف هو الله، فلا تأخذوا تحليلاً لشيء ولا تحريماً لشيء إلا ممن خلق وممن كلف. { ... كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3969 الشيطان هو الذي يوسوس لهم بالمخالفة لمنهج الله، وعداوة الشيطان ظاهرة. فإذا ماكنت العداوة سابقة، فقد أنزل آدم وحواء من رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية وجرأهما على المخالفة فخرجا من الجنة، كان من الواجب أن نحتاطُ في قبول هذه الوسوسة. ثم يفصل الحق لنا الأنعام التي نتخذها حمولة، أو نأخذ منها فرشاً فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3970 وكلمة {أَزْوَاجٍ} ، جمع زوج، و «الزوج» يطلق على الشيء معه ما يقارنه مثل «زوج النعل» ، ونحن في أعرافنا نأخذها على الاثنين، لكنها في الأصل تطلق على الواحد ومعه ما يقارنه، إلا أنه إذا لم يكن هناك فارق بين الاثنين بحيث لا يتم الانتفاع بأحدهما إلا مع الآخر ولكن لا تميز لأحدهما على الآخر كالجورب مثلا، ففي مثل هذا نستسمح اللغة في أن نسمي الاثنين زوجا، لكن إذا كان هناك خلاف بين الاثنين لا نقول على الاثنين: زوج. والذكر والأنثى من البشر، صحيح أنهما يقترنان في أن كل واحد منهما إنسان، لكن للذكر مهمة وللأنثى مهمة مختلفة. أما الجوارب فكل «فردة» منها نضعها في أي قدم لأنه فارق بينهما، إذن كلمة «زوج» تطلق ويراد بها الشيء الواحد الذي معه ما يقارنه. والحق يقول: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة ... } [البقرة: 35] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3970 وكلمة «زوج» هنا أطلقت على حواء؛ فآدم زوج وحواء زوج، والحق هو القائل: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45] ولم يقل عن الاثنين: إنهما «زوج» وإلا لقال: خلق الزوج الذكر والأنثى. إذن فكلمة «زوج» تطلق على واحد معه ما يقارنه، مثلها كمثل كلمة «توأم» وهي لا تقال للاثنين، بل تقال لواحد معه آخر. لكن الاثنين يقال لهما: توأمان. {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} [الأنعام: 143] و «من الضأن اثنين» أي ذكرها وأنثاها فتسمى الذكر كبشا والأنثى «نعجة» . ومن المعز اثنين، والذكر نسميه «تيساً» ، والأنثى نسميها «عنزة» ، وبذلك يكون معنا أربعة، ومن هنا نفهم أن الزوج مدلوله فرد ومعه ما يقارنه. { ... قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143] ومادمتم أنتم تحرمون وتحللون، وتقولون: إن هذا من عند الله فقولوا لنا أحرّم الذكرين أم حرّم الأنثيين؟ ولا يجدون جواباً؛ لأنه سبحانه لا حرّم هذا ولا حرّم ذاك، ولذلك أبرزت المسألة إبراز الاستفهام، والشيء إذا أبرز الاستفهام فمعناه أنه أمر مقرر بحيث إذا سألت الخصم لا يقول إلا ما تتوقعه، واسمه السؤال أو الاستفهام التقريري. ويقول الحق: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي أخبروني بعلم ذلك في التحريم إن كنتم أهل صدق؛ لأنكم لستم أهلاً للتحريم، إنما يحرم ويحلل من خلق وشرع. فإن كان عندكم علم قولوا لنا هذا العلم. ثم يأتي الحق بخبر الأربعة الباقية من الأنعام فيقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3971 {وَمِنَ الإبل اثنين ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3972 ومن البقر اثنين: ذكر وأنثى أيضاً، والذكر من البقر نسميه ثوراً، ويخطئ بعض الناس في تسمية الأنثى من البقر «بقرة» ، إن البقرة اسم لكل واحد منهما: للذكر والأنثى، والتاء في بقرة للواحدة، واسم الأنثى «ثورة» {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين} أنتم تقولون: إنكم لم تتبعوا رسولاً، وكنتم على فترةٍ من الرُّسل، ولم يأت لكم رسول، إذن فلا تحريم إلا من الله، ولا يبلغكم تحريم الله إلا عن طريق رسول. بل أكنتم شهداء مسألة التحريم، أي أشاهدتم ربكم ورأيتموه حين أمركم بهذا التحريم، أم أنتم الأنبياء؟ . إنكم تتعمدون الكذب على الله لإِضلال الناس. إذن، فالحق لا يهدي من يظلم نفسه ويظلم الناس. ويقول سبحانه بعد ذلك: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3972 والحق سبحانه وتعالى قد تكلم عن التحريم في آيات كثيرة؛ فهناك الآية التي قال فيها: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب ... } [المائدة: 3] وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحصر في أربعة فقط، فيقول سبحانه: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ. .} [الأنعام: 145] فكيف يتفق هذا النص مع النص الآخر؟! من يقول ذلك نقول له: أنت لا تفرق بين إيجاز وإطناب، ولا تفرق بين إجمال وتفصيل؛ فالذي تُرِك في هذه الآية داخل في الميتة؛ لأن المنخقة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، والذي ذُبح على النصب وما أهلّ به لغير الله موجود وداخل في كلمة «الميتة» . ثم: من قال: إن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع؟ التشريع أيضاً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بتفويض من الله في قوله تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3973 {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا ... } [الحشر: 7] فلا تقل إن المحرمات فقط محصورة في هذه الآية لأن فيه محرمات كثيرة، بدليل أن الله مرّة يُجْملها، فيحرّم علينا الخبائث؛ فكل خبيث مُحرّم. وقلنا من قبل: إن الدم المسفوح مُحرّم، والدم المسفوح هو السائل الذي ينهال ويجري وينصب ساعة الذبح، وهل هناك دم غير مسفوح؟ نعم، وهو الدم الذي بلغ من قوة تماسكه أن كون عضواً في الجسم كالكبد أو الطحال. ولذلك يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» وفي رواية أخرى: السمك والجراد. وعلى منطق التحريم للميتة والدم كان لابد ألا نأكل الميتة من السمك. ولا الكبد والطحال، ولكن الله أحل السمك والجراد والكبد والطحال لأنها لا تضر الجسم، فالسمك والجراد ليس لهما نفسٌ سائلة أي دم يجري؛ فإذا ما ذبحنا أحدهما لا يسيل له دم، أما الكبد والطحال فهما من دم وصل من الصلاحية أنه يكوّن عضواً في الجسم، ولا يتكوّن عضو في الجسم يؤدي مهمة من دم فاسد، بل لا بد أن يكون من دمٍ نقي. والحق الذي شرّع يقدر الظروف المواتية للمكلَّفين، وقد تمر بهم ظروف وحالات لا يجدون فيها إلا الميتة، وهنا يأكلون أكل ضرورة على قدر دفع الضر والجوع. لكن على المسلم ألا يملأ بطنه من تلك الأشياء. {. . فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 145] وأنواع الإضطرار: ألا تجد ما يؤكل من الحلال، أو أن يكون ما يؤكل من الحلال موجوداً إلا أن هناك من يكرهك على أن تأكل هذا المحرم، فالإكراه داخل في الاضطرار، والاضطرار يحملك ويدفعك إلى أن تمنع عن نفسك الهلاك؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3974 فتأخذ من طعام حتى تقتات فلا تموت من الجوع، فإذا كان الله قد أباح لك أن تأكل من الميتة في حال مظنة أن تموت من الجوع فمالك من الإِكراه بالموت العاجل؛ إنه أولى بذلك؛ لأنه سبحانه هو الذي رخّص، وهو الذي شرع الرخصة، ومعنى ذلك أنها دخلت التكليف؛ لأن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه، ومادامت قد دخلت في دائرة التكليف فهنا يكون الغفران والرحمة. ويقول الحق بعد ذلك: {وَعَلَى الذين هَادُواْ. .} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3975 هنا يأتي الحق بالتحريم الثاني، وهو التحريم للتهذيب والتأديب، مثلما قال من قبل: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ... } [النساء: 160] ف «الظُفُر» هو ما يظهر عندما ننظر إلى أقدام بعض الحيوانات أو الطيور، فهناك حيوانات نجد تشقق إصبعها ظاهراً والأصابع مفصلة ومنفرجة بعضها عن بعض، فهذه ليست حراما عليهم، ونوع آخر نجد أصابعها غير مفصولة وغير منفرجة مثل الإبل، والنعام، والبط، والأوز وهي ذو الظفر. فكل ذي ظُفُر حرم على اليهود، وقد حرم عليهم لا لخبث وضرر في المأكول، ولكن تأديبا لهم لأنهم ظلموا في أخذ غير حقوقهم؛ لذلك يحرمهم الله من بعض ما كان حلالا لهم؛ فالأب يعاقب ابنه الذي أخذ حاجة أخيه اعتداء؛ فيمنع عنه المصروف، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3975 والمصروف في ذاته ليس حراماً، ولكن المنع هنا للتأديب. والحق هو القائل: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل ... } [النساء: 160 - 161] ولأنهم فعلوا كل ذلك يأتي لهم التحريم عقاباً وتأديباً {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146] وأنت حينما تذبح الذبيحة تجد بعضاً من الدهن على الكلى، ونجد في داخلها ما يسمونه «منديل الدهن» وكذلك «ألية الخروف» ، وحين تقطع الرأس تجد فيها نوعاً من الدهون، وقد حرّم الحق عليهم في البقر والغنم شحومهما. وكذلك {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} محرم كله. وهناك استثناء في البقر والغنم هو: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ} . أي أحل لهم ما هو فوق الظهر من الشحم، وأحل لهم ما حملته الحوايا من الشحوم و «الحوايا» جمع حوية أو حاوية أو حاوياء أو حاوياء وهي ما تحوّي من الأمعاء أي تجمع واستدار، وفي الريف تقول المرأة عن قطعة القماش التي تبرمها وتلفها وتصنع منها دائرة مستديرة تضعها على رأسها لتحميه عندما تحمل فوقه الأشياء؛ تقول: صنعت «حواية» والحواية هنا هي الأمعاء الغليظة، وطولها كذا متر، ومن حكمة تكوينها الربانية نجدها تلتف على بعضها، ولذلك اسمها «الحوايا» ، وهي ما نسميه «الممبار» . وكذلك حلل لهم ما اختلط بعظم في القوائم والجنب والرأس والعين، وكذلك أحل لهم شحما اختلط بعظم منه الألية، لأن الألية تمسك بعَجْب الذنب. أي أصله، وهو الجُزَيْء في أصل الذّنب عند رأس العُصْعُص. ولأنه رحيم فهو ينزل عقوبة فيها الرحمة فيبيح له شيئا ويحرم شيئا آخر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3976 ويذيل الحق الآية بقوله: {ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} . وليس هذا التحريم تعدًّيا عليهم، أو تعنتاً في معاملتهم، بل لأنهم بَغَوْا، والباغي يجب أن يأخذ حظه من الجزاء؛ حتى يفكر ماذا يحقق له البغي من النفع، وماذا يمنع عنه من النفع أيضاً، وحين يقارن بين الاثنين قد يعدل عن بغيه، وهم قد صدّوا عن سبيل الله، وأخذوا ربا لينمّوا أموالهم وأكلوا أموال الناس بالباطل، لذلك حرّم عليهم الحق بعض الحلال. وسبحانه صادق في كل بلاغ عنه، ونعرف بذلك أن علة التحريم لبعض الحلال كانت بسبب ظلمهم وما بدر منهم من المعاصي فكان التحريم عقوبة لهم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3977 وكان مقتضى أنهم يكذبونك فيما أخبرت به عن الله، أن يجعل الله لهم بالعذاب؛ لكن الحق لم يعجل لهم بالعذاب لأنه ذو رحمة واسعة. {فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147] ولكن إياكم أن تطمعوا في الرحمة الدائمة؛ إنها تأجيل فقط. ولن يفوتكم عذابه، وهنا يحننهم ايضاً فيقول سبحانه: {رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} وكأنه يقول لهم: راجعوا أنفسكم واستحوا من الله ولا يغرنّكم انه ربّ، خلق من عَدَم وأمدَّ من عُدْم، وتولّى التربية، لكنه لن يرد ويمنع بأسه وعذابه عن القوم المجرمين منكم. ويقول سبحانه من بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3977 {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3978 وكلمة تقرأ آية فيها «سيقول» فاعلم أنها تنطوي على سرّ إعجازي للقرآن، والذي يعطي هذا السرّ هو الخصم حتى تعرف كيف يؤدي عدوّ الله الدليل على صدق الله، مما يدل على أنه في غفلة. ومن قبل قال الحق سبحانه: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} [البقرة: 142] و «سيقول» معناها أنهم لم يقولوا الآن، ويخبر القرآن أنهم سيقولون، ولم يخبئ ويستر القرآن هذه الآية، بل قالها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرآناً يُقرأ ويُصلى به. ولو أن عندهم شيئاً من الفكر لكانوا يسترون القول حتى يُظهروا المتكلم بالقرآن بمظهر أنه لا يقول الكلام الصحيح، أو على الأقل يقولون إنه يقول: «سيقول السفهاء» ، ونحن لسنا بسفهاء فلا نقول هذا القول. لكنهم يقولون القول السفيه برغم أن الآية قد سبقتهم بالتنبؤ بما سوف يقولون؛ لأن الذي أخبر هو الله، ولا يمكن أن يجيء احتياط من خلق الله ليستدرك به على صدق الله. هم سمعوا الكلمة، ومع ذلك لم يسكتوا بل سبقتهم ألسنتهم إليها ليؤيدوا القرآن. وكل مسرف على نفسه في عدم اتباع منهج الله يقول: إن ربنا هو الذي يهدي وهو الذي يضلّ، ويقول ذلك بتبجح ووقاحة لتبرير ما يفعل من سفه. وسيظل المسرفون على أنفسهم وكذلك المشركون يقولون ذلك وسيحاولون تحليل ما حرّم الله. وقد جاء المشركون بقضيتين: قضية في العقيدة، وقضية في التكليف؛ قالوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3978 في قضية العقيدة: {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا} ، وكأنهم أشركوا بمشيئة الله. وجاءوا إلى ما حرموا من حلال الله وقالوا إنهم قد فعلوا ذلك بمشيئة الله أيضاً؛ ليوجدوا لأنفسهم مبرراً، وهذا القول ليس قضية عقلية؛ لأنها لو كانت وقفة عقلية لكانت في الملحظين: الخير والشر، فالواحد منهم يقول: كتب ربنا علينا - والعياذ بالله - الشر، لماذا يعذبني إذن؟! ولا يقول هذ الإنسان «وكتب الله لي الخير» . هذا ما كان يفرضه ويقتضيه المنطق لكنهم تحدثوا عن الشر وسكتوا عمَّا يعطى لهم من خير. وقولهم {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا} صحيح المعنى؛ لأنه سبحانه لو شاء أن يجعل الناس كلهم مهديين لفعل، لكنه شاء أن يوجد لنا اختياراً، وفي إطار هذا الاختيار لا يخرج أمر عن مشيئته الكونية. بل يخرج الكفر والشر عن مراده الشرعي. وعلمنا من قبل أن هناك فرقاً بين الكونية والشرعية؛ فكفر الكافر ليس غصباً عن الله أو قهراً عنه سبحانه، إنما حصل وحدث بما أعطاه الله لكل إنسان من اختيار، فالإنسان صالح للاختيار بين البديلات: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ... } [الكهف: 29] فالإنسان قادر على توجيه الطاقة الموهوبة له من الله الصالحة للخير أو الشر. إذن فأختيار الإنسان إما ان يدخله إلى الإيمان وإما أن يتجه به إلى الكفر، لذلك يقول الحق عن الذين يدعون أن كفرهم كان بمشيئة الله: {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا. .} [الأنعام: 148] والسابقون لهم قالوا ذلك وفعلوا مثل ما يفعل هؤلاء من التكذيب؛ وجاءهم بأس وعذاب من الله شديد، ولذلك يأمر الحق محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: { ... قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3979 ويسألهم محمدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن علم يؤكدون به صحة ما يدعونه. . ويزعمونه أي هل عندكم بلاغ من الله، والحق أنهم لا علم لديهم ولا دليل، إنهم يتبعون الظن، ويخرصون، أي ان كلامهم غير واضح الدلالة على المراد منه، إنه تخمين وظن وكذب. لذلك يقول سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3980 نعم فلو شاء سبحانه لقسرهم على الهداية وما استطاع واحد منهم أن يخرج عن الهداية، ولكنه لم يشأ ذلك، بل أراد أن يكون الإقبال على الإيمان به، واتباع التكاليف أمراً داخلاً في اختيارهم. ألم يخلق سبحانه خلقاً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟ ألم يخلق الكون كله مؤتمراً بأمره؟! {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة. .} [الأنعام: 149] و «الحجة» هي الدليل الذي تقيمه لتأييد قولك في الجدل، ولذلك نسمى عقودنا حجة على الملكية. أو «الحجة البالغة» أي التي لا ينفذ منها شيء أبداً يعطل المراد منها. ويقول الحق بعد ذلك: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3980 ومادمتم لا تملكون العلم فمن المحتمل انكم تملكون شهوداً على ما تقولون. والخطاب: {هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ} هو خطاب للجماعة، و «هلم» يستوي فيها المفرد والمفردة والمثنى مذكراً كان أم مؤنثاً. والجمع مذكراً أو مؤنثاً، فتقول: هلم يا زيد إليّ، وهلم يا هند إليّ، وهلم أيضاً لجماعة الذكور ولجماعة الإناث، وهذه لغة الحجازيين. وتختلف عن لغة بني تميم التي يزيدون علها فيقال: «هلم يا رجل» ، و «هلمي يا امرأة» ، و «هلما، وهلموا، وهلممن» . والقرآن نزل بلغة قريش «الحجازيين» ، والحق يقول: {هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ} . أي هاتوا وأحضروا شهداءكم أن الله حرّم هذا، لإنكم بلا علم، وكذلك لا شهود عندكم على المدعي؛ فإن كان عندكم شهود هاتوا هؤلاء الشهود. وماذا إن أحضروا شهود زور؟ إنه - سبحانه - يحذر رسوله ويوضح له أنهم حتى ولو أحضروا شهداء إياك أن تصدقهم فهم كذابون: وكأن الله يريد أن يفضح الشهود أيضاً أمام المشهود أمامهم، ويعطي أيضاً قضيتين اثنتين؛ فسبحانه يدحض ويبطل حجتهم، ويفضح الشهود الذين جاءوا بهم. فكأنه قال: هاتوا هؤلاء الذين قالوا لكم هذا الكلام، وفي ذلك فضيحة لمن لقنهم هذه الأوامر. ويأمر الحق رسوله ألا يتبع الذين كذبوا بآياته سبحانه. وكلمة «أهواء» ، جمع هوى، وهو ما يختمر في الذهن ليلوي الإِنسان عن الحق؛ فهو شهوة ترد على الذهن فتجعله يعدل عن الحق: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} [الأنعام: 150] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3981 وهم لا يكذبون بآيات الله فقط بل لا يؤمنون بالآخرة أيضاً؛ لأنهم لو كانوا يؤمنون بالآخرة لعلموا أنهم مجازون على هذا جزاء يناسب جرائمهم، ولو أنهم قدروا هذه المسألة لامتنعوا عن اتباع أهوائهم. ويذيل الحق الآية بقوله الكريم: { ... وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 150] ونفهم من كلمة «يعدل» أنها من العدل بمعنى القِسط؛ إذا قيل: عدل في كذا، أو عدل بين فلان وفلان؛ أو عدل في الحكم، أما عدل بكذا فيكون المراد منها أنه جعله عديلا ومساويًّا. وجاءت بهذا المعنى في آية أخرى هي قوله الحق: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] أي يجعلون ما لا يصح أن يكون مساويًّا لله؛ ومساويًّا وعدلا لله. وهذا فعل من جعلوا لله شركاء، وكذلك من لا يؤمنون بالله؛ فالواحد منهم يعدل عن ربه عدولاً ويميل ويعرض عنه ويشرك به ويسوِّي به غيره. ويجب أن نلحظ عند النطق بكلمة «التوحيد» وهي: (لا إله إلا الله) ألا نقف عند قول: (لا إله) لأن ذلك يعني إنكار ونفي وجود إله وهذا والعياذ بالله كفر. إذن يجب علينا أن نصلها بما بعدها فنقول: (لا إله إلا الله) أو نكون عند نطقنا بلفظ (لا إله) قد انعقدت قلوبنا على وحدانيته وما يجب له - تعالت عظمته - من صفات الجلال والكمال، ومعنى (لا إله إلا الله) أنه لا معبود بحق إلا الله، لأن المعبودين بباطل كثيرون كالأصنام والنجوم والجن وبعض الإِنس والملائكة وغير ذلك. وكلمة {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} تفيد أنهم أهل شرك، وكذلك من ينكر وجود الله إنه عن ربنا يعدل ويميل ويحيد عن الاعتراف به إلها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3982 ويقول الحق بعد ذلك: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3983 ننظر في هذه الآية فلا نجد شيئاً من المحرمات من الأطعمة التي بها قوام الحياة، ولكن نجد فيها محرمات التي إن اتبعناها نهدر القيم المعنوية التي هي مقومات الحياة الروحية، إنها مقومات الحياة من القيم {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} . والأداء القرآني هنا يأخذ لفظ «تعال» بفهم أعمق من مجرد الإِقبال، فكأن الحق يقول: أقبل عليّ إقبال من يريد التعالي في تلقي الأوامر. فأنت تقبل على أوامر الله لتعلوا وترتفع عن حضيض تشريع البشرية؛ فلا تأخذ قوانينك من حضيض تشريع البشر؛ لأن الشرط الواجب في المشرع ألاّ يكون مساويًّا لمن شرَّع له، وألاّ يكون منتفعاً ببعض ما شرَّع، وأن يكون مستوعباً فلا تغيب عنه قضية ولا يغفل عن شيء والمشرع من الخلق لا يشرع إلا بعد اكتمال عقله ونضجه. ولا يقدر أن يمنع نفسه من الانتفاع بالتشريع. الرأسمالي - مثلاً - يشرع ليستفيد، والماركسي يشرِّع ليستفيد. وكل واحد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3983 يشرع وفي نفسه هوى، ومن بعد ذلك تعدّل التشريعات عندما نستبين أنها أصبحت لا تفي ولا تغطي أمور الحياة، فكأن المشرع الأول لقصور علمه غابت عنه حقائق فضحها المجتمع حين برزت القضايا، فنظر في قانونه فلم يجد شيئاً يغطي هذه القضايا، فيقول: نعدل القانون، ونستدرك. ومعنى استدراك القانون اي أن هناك ما جهله ساعة قنن. إذن يشترط في المقنن ألاّ يكون مساويًّا للمُقَنن له، وألاّ تغيب عنه قضية من القضايا حتى لا يُسْتَدّرَك عليه، وألاّ يكون منتفعاً بالتشريع، ولا يوجد ذلك في بشر أبداً، فأوضح الحق: اتركوا حضيض التشريع البشري وارتفعوا إلى السماء لتأخذوا تقنينكم منها؛ فحين ينادي الله «تعالوْا» فمعناها ارتفعوا عن حضيض تقنين بشريتكم إلى الأعلى لتأخذوا منه تقنيانكم التي تحكم حركة حياتكم، فهو لا ينتفع بما شرع، بل أنتم الذين تنتفعون، ولأنه لا يغيب عنه شيء سبحانه، وهو خالق، هو أولى ان يشرع لكم. {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] «أتل» من التلاوة وهي القراءة {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} اي ما جعله حراما. . أي يمتنع عليهم فعله، وسأقول لكم كل البلاغات بلاغاً بعد بلاغ. {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [الأنعام: 151] لقد جاء سبحانه بتحريم الشرك من خلال تركيب لغوي يؤكد علينا ألا نشرك به؛ فأنت ساعة تأتي لتلقى أوامر لمن ترأسه تقول له: استمع إلى ما أمنعك منه فاتبعه. ثم تبدأ في التفصيل، والحق هنا جاء بأول بند من المحرمات والمحظورات هو ألا نشرك به شيئاً. أي أتلو عليكم تحريم الشرك، فأول المحرمات الشرك، وعلينا أن نوحد الله، فكل نهى عن شيء أمر بمقابله وكل أمر بشيء نهى عن مقابله. وعلى ذلك فكل أمر يستلزم نهيًّا، وكل نهي يستلزم أمراً. فلا تلتبس عليكم الأوامر والنواهي. أو تكون «عليكم» منطقعة عما قبلها، أي عليكم ترك الشرك، وعليكم إحسانا بالوالدين، وألا تقتلوا أولادكم، وألاّ تقربوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3984 الفواحش. . أي ألزموا ذلك. ثم يقول سبحانه: {وبالوالدين إِحْسَاناً} وسبحانه يأمر هنا بتأكيد الإحسان إلى الوالدين؛ فهو أمر بإيجاب ويستلزم نهيا عن مقابله وهو عقوق الوالدين، أي لا تعقوهم. فعدم الإحسان إلى الوالدين يدخل فيما حرم الله. ثم يقول سبحانه: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. .} [الأنعام: 151] أي استبقوا حياة أولادكم، فإن أدرتها من قبيل النهي فقل هو نهي عن قتل الأولاد، وإن أردتها من قبيل الإيجاب فقل: استبقوا الحياة. وقول: {مِّنْ إمْلاَقٍ} أي من فقر، فكأنهم كانوا فقراء، ومادام الإملاق موجوداً فشغل الإنسان برزق نفسه يسبق الانشغال برزق من يأتي بعده؛ في أهل الإملاق تذكروا أن الله يرزقكم ويرزق من سيأتي زيادة وهم الأولاد. ويقول سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. .} [الأنعام: 151] وهذا نهي عن القرب، أي نهي عن الملابسات التي قد تؤدي إلى الفعل لا نهي عن الفعل فقط؛ فحينما أراد الله يحرم على آدم وعلى زوجه الشجرة قال: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة ... } [الأعراف: 19] لأن القرب قد يغري بالأكل، وكذلك: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش} أي لا تأتي إلى مقدمات الفواحش بأن تلقي نظرة أو تحدق النظر إلى محرمات غيرك، وكذلك المرأة التي تتبرج؛ إنها تقوم بالإقبال على مقدمات الفواحش، فإذا امتنعت عن المقدمات أمنت الفتنة والزلل؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3985 وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» . ويمنعك الحق: ألاّ تقرب، أي أبعد نفسك عن مظنة أن تستهويك الأشياء، مثلها مثل «اجتنب» تماماً، وسبحانه وتعالى يقول: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان. .} [الحج: 30] ويقول: { ... واجتنبوا قَوْلَ الزور} [الحج: 30] وهنا يقول تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . وكل ما ظهر من الفواحش هو من أفعال الجوارح التي ترتكب الموبقات و {وَمَا بَطَنَ} هو من أفعال السرائر مثل الحقد، والغل، والحسد. ويتابع سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق. .} [الأنعام: 151] وكلمة «النفس» يختلف الناس في معناها، ولا تطلق النفس إلا على التقاء الروح بالمادة، والروح في ذاتها خيّرة، والمادة في ذاتها خيرة مسبحة عابدة. {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ... } [الإسراء: 44] وإذا التقت الروح بالمادة تقوم الحياة، فمعنى قتل النفس أن نفصل الروح عن المادة بهدم البنية وهذا غير الموت؛ لأن الله هو الذي يميت النفس، أما الإنسان به في الآية فستجد التعقل يعطيك التوازن في القرار، وقد ختم الحق الخمسة الأشياء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3986 فهو يقتل النفس إن هدم بنيتها. والذي وهب الحياة هو الله، فلا يسلب الحياة إلا هو. وبعد ذلك يشرع الله لنا أن نسلب الحياة قصاصاً، أو للزنا من الثيب المحصن رجلا أو امرأة، أو للردّة، فهذا قتل بحق، لكن سبحانه وتعالى يلعن من يهدم بنيان الله بغير الحق، والإِنسان بنيان الله فلا تعتدي عليه. ولذلك أمرنا الله بالقصاص من إنسان قتل إنساناً؛ حتى يحافظ كل واحد على حياة نفسه، وحين يحفظ الإِنسان كل نفس، فإنّه ينجو بنفسه ويسلم. هكذا يأمر الحق بأن نقتل الثّيب، والثيب الزاني يطلق على الذكر والأنثى وهو من تزوج ودخل على زوجه وذاق كل منهما عسيلة الآخر وأفضى إليه، وكذلك المرتد، فنحن نحرص عى حرية الاعتقاد؛ بدليل أننا لا نقتل الكافر الأصلي لكفره، ولكن يجب على الإِنسان أن يفهم أن الدخول إلى الإيمان بالإسلام يقتضي أن يدرسه دراسة مستوفية مقنعة، وأن يعلم أن حياته رهن بأن يرجع عن هذا الدين فإذا علم أن حياته رهن بأن يرجع عن هذا الدين، فلن يدخله إلا وهو مقتنع تمام الاقتناع. ونحن نحمي بالاختيار، فنعلن لكل من يقبل على الإِسلام ونحذره: إياك أن تدخل بظاهر القول دون فهم لمعنى الإِسلام لأنك لو دخلت ثم بعد ذلك ارتددت فسوف تقتل، ومادام الشيء ثمنه الحياة، فالواجب أن يحتاط الإِنسان الاحتياط الشديد. وفي ذلك أيضاً ثقة من أن الإِنسان إذا ما بحث في الأدلة فسيقتنع بأن له إلهاً حقا، ولكننا لا نقتل الكافر الأصلي. إذن فقتل المرتد حماية لحزم الاختيار، فإِياك أن تدخل بدون روية؛ لأنك لو دخلت ثم ارتددت فسوف تقتل، وبذلك يصفي الحق المسألة تصفية لازمة بأن يعرض من يقبل على الإِسلام جميع الحجج على نفسه، ولا يدخل إلا بنية على هذا، ففي أي عقد يحاول الإِنسان أن يعرف التزاماته وأن تتضح أمامه هذه الالتزامات. ولا يدخل إلى الدين الدخول الأهوج، أو الدخول الأرعن، أو الدخول المتعجل. بل يلزمه أن يدخل بتؤدة وروية. وفي الزواج يدخل الإِنسان بكلمة ويخرج بكلمة أيضا هي: «أنت طالق» ، ولذلك تحتاط المرأة، فمادامت قد عرفت أن بقاء زواجها رهن بكلمة فعليها أن تحرص ألا تضع هذا الحق إلا في يد أمينة عليه. وساعة أن يقول لها أبوها: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3987 اسمعي، إن لك أن تختاري الزوج الذي إن أحبك أكرمك، وإن كرهك لا يظلمك؛ لأن بكلمة منه تنتهي الحياة الزوجية. إذن فعلى المرأة أن تفكر في الإِنسان الأمين على هذه الكلمة. ومع ذلك فهناك احتياط للغفلة؛ فالرجل يتزوج بكلمة واحدة، من مرة واحدة لكن في الطلاق هناك ثلاث مراحل؛ كرصيد للغفلة. فالرجل يتزوج المرأة بكلمة «زوّجتك نفسي أو يزوجها وليها ويكون القبول من الزوج وبهذا يتم الزواج» . لكن في الطلاق أباح الله لغفلة الرجل ولرعونته أن يطلق مرة، ثم يراجع هو من غير دخول أحد بينهما، ثم يطلق ثانية، ويراجعها، ولكن بعد الطلاق الثالث يجد التنبيه من الحق: لقد احتطنا لك برصيد من غفلتك. ولكن عندما تريدها زوجاً لك فلا يتم ذلك إلاّ أن تتزوج غيرك، وبعدها قد تعود أو تبقى مع من تزوجها. فاحتط جيداً للأمر الذي تدخل عليه، وللتعاقد الذي التزمت به. فإذا كان هذا هو الشأن في تعاقد الزواج، فما بالنا بالردّة؟ إنّنا نقتل المرتد، ولا نفعل به ذلك قبل أن يؤمن وقبل أن يعلن إيمانه وقبل الدخول في حيز المؤمنين، ليعلم أنه إن رجع عن الإِسلام فسيقتل وهكذا يصعِّب الإِسلام الدخول إليه، ويحمي الاختيار في الوقت نفسه. ويتابع سبحانه: {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] و «الوصية» لا تكون إلا للأمور المهمة التي لا تستقيم كالحياة إلا بالقيام بها، إنها في أمهات المسائل التي لا يصح أن نغفلها. ولذلك حين تنظر إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لقد ظل ثلاثة وعشرين عاماً يستقبل من السماء ويناول أهل الأرض، ثم جاء في حجة الوداع وركّز كل مبادئ الدين في قوله تعالى: {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . و «وصاكم» غير شرّع؛ فشرّع تأتي بكل التشريعات وما فيها من تفاصيل صغيرة، والوصية تضم أمهات المسائل في التشريع. والعقل يجب أن يسع المسألة من أولها إلى آخرها؛ فلو استعملت عقلك في كل منهي عنه، أو في كل مأمور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3988 به في الآية فستجد التعقيل يعطيك التوازن في القرار، وقد ختم الحق الخمسة الأشياء التي ذكرها في هذه الآية ب {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . وهذه الأوامر متفق عليها في جميع الرسالات وفي جميع الأديان، ويسمونها: «الوصايا العشر» . والأشياء الخمسة التي أوصى بها سبحانه هي: ألا تشركوا به شيئاً. وبالوالدين إحساناً. ولا تقتلوا أولادكم من إملاق. ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق. فكان يجب أن يقول: ذلكم وصاكم بها، لكنه قال: {وَصَّاكُمْ بِهِ} ، فكأن أوامر الله ونواهيه أمر واحد متلازم تتمثل كلها في: التزام ما أمر الله به، واجتنب ما نهى الله عنه. وقوله سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فكأن العقل لو خُليِّ ليبحث هذه الأشياء بحثاً مستقلاً عن منهج السماء لوجد أن ضرورة العيش على الأرض تتطلب وجود هذه الأشياء. إذن، كيف نُعْصم من أهوائنا المتضاربة بعضها مع بعض؟ . لابد أن يكون الإله واحداً حتى لا يتبع كل واحد منا هواه. إننا نعرف أن الأصل في الإنسان هو الأب والأم. لذلك وصى بالأصل في {وبالوالدين إِحْسَاناً} ، ووصى أننا لا نقتل الأولاد خشية الفقر؛ لأن الحياة تستمر بهم، وبعد ذلك لابد أن تكون الحياة نظيفة، طاهرة لجميع الأفراد، ولا تشوبها شائبة الدنس أبداً، ولا يتأتى ذلك إلا إذا تركنا الفواحش: ما ظهر منها وما بطن؛ لأننا نلاحظ أن كل الأولاد غير الشرعيين يُهْمَلون؛ فالحق سبحانه وتعالى يريد طهارة الأنسال في الحياة؛ حتى يتحمل كل واحد مسئولية نسله. ويكون محسوباً عليه أمام المجتمع، ويحذرنا سبحانه من أن نقتل النفس إلا بالحق؛ لأن النفس أصل استبقاء الحياة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3989 ثم يجيء الحق بعد ذلك في الآية التالية ليكمل الوصايا فيقول: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3990 ونعلم أن اليتيم هو من فقد أباه، ولم يبلغ مبلغ الرجال، هذا في الإنسان، أما اليتيم في الحيوان فهو من فقد أمه. وقوله الحق: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. .} [الأنعام: 152] هنا يفرض سبحانه أن اليتيم له مال، فلم يقل: لا تأكل مال اليتيم. بل أمرك ألا تقترب منه ولو بالخاطر، ولو بالتفكير، وعليك أن تبتعد عن هذه المسألة. وإذا كان قد قال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} فهل هذا الأمر على إطلاقه؟ . لا؛ لأنه اضاف وقال بعد ذلك: {إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي بأن نُثَمِّرَ له ماله تثمراً يسع عيشه، ويبقى له الأصل وزيادة، ولذلك قال في موضع آخر: {وارزقوهم فِيهَا ... } [النساء: 5] فلا يأخذ أحد مال اليتيم ويدخره، ثم يعطيه منه كل شهر جزءاً حتى إذا بلغ الرشد يجد المال قد نقص أو ضاع، لذلك لم يقل: ارزقوهم منها، بل قال: {وارزقوهم فِيهَا} أي ارزقوهم رزقاً ناشئاً منها. فَمَالُهم ظرفية للرزق، ولا يتأتىّ هذا إلا بأن نثموها لليتيم، ولا نحرم الوصاية على اليتيم لرعاية ماله من أصحاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3990 الكفاءات في إدارة الأعمال والأمناء، وقد يوجد الكفء في إدارة العمل، والأمين فيه لكن حاله لا ينهض بأن يتحمل تبعات ومؤنة حياته وقيامة بإدارة أموال اليتيم؛ فقال - سبحانه - في ذلك: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ... } [النساء: 6] أي أن يهب الوصيّ تلك الرعاية الله، وحين يهب تلك الرعاية لله ولا يأخذ نظير القيام بها أجراً؛ يضمن أنه إن وُجِدَ في ذريته إلى يوم القيامة يتيم فسيجد من يعوله حسبة لله وتطوعاً منه مدخرا أجره عند الله. والحق هو القائل: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] وحينما يجد اليتيم من يرعاه، وحين يتعاطف المجتمع مع كل يتيم فيه، ويتولى أمور اليتامى أناس أمناء قادرون على إدارة أمورهم فسوف يقل جزع الإنسان من أن يموت ويترك صغاره؛ لأنه سيجد كرامة ورعاية لليتيم، فالناس تخاف من الموت لأن لهم عيالاً صغارا، ويرون أن المجتمع لا يقوم برعاية اليتامى، لكن الإنسان إن وجد اليتيم مكرما، ووجده آباء من الأمة الإسلامية متعددين، فإن جاءه الموت فسوف يطمئن على أولاده لأنهم في رعاية المجتمع، ولكن لا تنتظر حتى يصلح شأن المجتمع بل أصلح من نفسك وعملك تجاه أي يتيم، ويمكنك بذلك أن تطمئن على أولادك فستجد من يرعاهم بعد مماتك، وحين يرعى المجتمع الإيماني كل يتيم ستجد الناس لا تضيق ذرعا بقدر الله في خلقه بأن يموت الواحد منهم ويترك أولادا. والمثل واضح في سورة الكهف بين العبد الصالح وسيدنا موسى حينما مرّا على قرية: {حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا ... } [الكهف: 77] فلم طلبا نقوداً ليدخراها، ولكنهما طلبا طعاماً لسد الجوع، وهذه حاجة مُلحّة. ومع أنهما استطعما أهل القرية أبى أهل القرية أن يضيفوهما. ومعنى ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3991 أنها قرية لئيمة الأهل. وعلى الرغم من العبد الصالح وجد ردّهم علية وامتناعهم عن إطعامهما، ولكنه عندما وجد جداًر، وبفراسته علم أن الجدار يريد أن ينقض، وكأن الجدار له إدارة، فأقام الجدار، ولأمه سيدنا موسى عليه السلام، وكان سيدنا موسى منطقيا مع نفسه، فقد طلب هو وشيخه من أهل القرية مجرد الطعام فرفضوا، فكيف ترد عليهم بأن تبنى لهم الجدار، وكان يجب أن تأخذ على البناء أجرة، فهم قوم لئام، هذا كلام موسى. لكن العبد الصالح جازاهم بما يستحقون؛ لأنه ببنائه الجدار قد حال بينهم وبين أخذ الكنز، لأنه لو ترك الجدار ينهار لظهر الكنز الذي تحته وهو ليتمين، وهكذا عرف العبد الصالح كيف يربيهم. وبعد ذلك أراد الله أن يشرح لنا أن الجدار لغلامين يتمين في المدينة. {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ... } [الكهف: 82] فكأن استخراج الكنز مقارن ببلوغ الرشد، وكأن العبد الصالح قد بنى الجدار بناء مؤقوتا، بحيث لا ينهار إلا حين يبلغ الغلامان مبلغ الرشد، لقد بنى العبد الصالح البناء وكأنه يضبط الميقات فلا يتماسك الجدار إلا لساعة بلوغ الغلامين أشدهما، وعندئذ يستخرج الغلامان كنزهما. وبعد ذلك جاء لنا بالحثيثة لكل ذلك، فقال سبحانه: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ... } [الكهف: 82] فكأن صلاح الأب هو الذي أراد به الحق أن يظهر لنا كيف حمى كنز الأبناء، فيأتي العبد الصالح وموسى لأهل القرية اللئام، ويطلبان طعاماً، فلا يطعمونهما، فيبي العبد الصالح الجدار الموقوت الذي يصون الكنز من اللئام. والحق يقول هنا: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ. .} [الأنعام: 152] من لا يقدر على قرب مال اليتيم بالتي هي أحسن فليبتعد عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3992 وحتى لا يتحرز ويتوقى الناس من رعايتهم مال اليتيم، قال سبحانه: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} [النساء: 6] وكلمة {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} أي لا يكنز ولا يدخر منه أبداً، بل يأكل بما يدفع الجوع فقط ويكتسي ما يستر جسمه. ونعرف أن اليتيم لم ينضج عقله بعد، وكذلك الكبير السفيه هو أيضاً لا يقدر على التصرف؛ لذلك قال الحق في أدائه البياني حيث يؤدي اللفظ ما يوحي بالمعاني الواسعة: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] وجعل الحق مال السفيه في مرتبة مال الولي؛ لأن السفيه لا يحترم ملكيته وقد يبددها. ولكن المال يعود لهذا الإِنسان حين يذهب عنه السفه فيقول الحق: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] إنه أداء قرآني عجيب، يشجع الناس ألا يتركوا السفيه يبدد ماله فتكون خسارة للمجتمع كله، فمادام هو في سفه فانظر إلى المال كأنه مالك، ولتكن أميناً عليه أمانتك على مالك. وعندما ترى وتجد رشده وتطمئن على ذلك، فإن الحق يأمرك أن تعيد له ماله. ونعود إلى اليتيم، هنا يقول الحق: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} . هذا إن كان له مال، فماذا عن اليتيم الذي لا مال له؟ . هنا تكون الوصية أقوى، عن سهل بن سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» «وأشار بالسّبابة والوسطى وفرّج بينهما» . وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3993 الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل» . وخذوا بالكم واجعلوا مسح رأس اليتيم لله، فمن الجائز أن تكون لليتيم أم جميلة، ويريد الولي أن يتقرب منها عن طريق الولد، احذروا ذلك، فإنه فضلا على أنه يسخط الله ويغضبه فهو خسة ولؤم ونذالة. {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] لم يقل الله - سبحانه - بالتي هي حسنة ولكنه قال: {بالتي هِيَ أَحْسَنُ} لتشديد الحرص على مال اليتيم حتى يبلغ أشده لأن بلوغ الأشد، يعني أن اليتيم صارت له ذاتية مستقلة، وما المعيار في الذاتية المستقلة؟؛ أن يصبح قادراً على إنجاب مثله، وهذا معيار النضج، مثله مثل الثمرة حين تنضج؛ أي صارت البذرة التي فيها صالحة لأن نضعها في الأرض لتكون شجرة. وأنت إن قطفت الثمرة قبل أن تنضج لا تجد طعمها حلوا، ولا تستسيغ مذاقها إلا حين تستوي البذرة وتنضج. و «الأشد» أي أن الإِنسان يصير قادراً على إنجاب مثله وهو ما نسميه البلوغ، ويصبح أيضاً قادراً على حسن التصرف في المال وفي كل شيء. ويتابع سبحانه: {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} [الأنعام: 152] والكيل هي المعايير لما يكال حجماً، والموازين هي المعايير لما يُقَدِّر كثافة، فهناك معيار للحجم ومعيار للكثافة. معيار الحجم الكيل، ومعيار الكثافة هو الوزن، وهناك أيضاً التقديرات العادلة في القياس، للأقمشة مثلاً، المقياس فيها هو المتر، إذن كل شيء بحسبه، وإذا أردت الموزون فلابد أن يكن بالقسط، أي بالعدل. وهذه المسألة من الصعب تحقيقها، ولذلك تختلف الموازين باختلاف نفاسة الأشياء، فحين نزن الفول أو العدس أو البطاطس أو القلقاس، فنحن نزنه بميزان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3994 كبير؛ لأن فرق الميزان يكون حول الكيلو جرام، فالأمر حينئذ يكون مقبولاً. وحين نزن أشياء أثمن قليلاً، نأتي بالميزان الدقيق. فإن كان الشيء الموزون ذهباً نحيط الميزان بجدران زجاجية لأن لفحة الهواء قد تقلل أو تزيد الوزن. إننا نحاول أن نمنع تأثير تيارات الهواء عليها. وحين نزن المواد الكيماوية نأتي بميزان يعمل بالذرة. إذن موزون يأخذ درجة ميزانه بمقدار نفاسته وتأثيره؛ لأن تحقيق العدالة في الميزان مسألة صعبة، وكذلك الأمر في الكيل. فحين يكيل الإنسان كيلاً يمسك إناء الكيلة ويهزه؛ حتى يأتي الميكال دقيقاً محرراً، وإن أراد أن يلغي ضميره ويأخذ أكثر من حقه فهو يملأ المكيال بأكثر مما يحتمل ويسند الزيادة بيده حتى لاتقع. وربنا يقول: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1 - 3] فحين يكتال يستوفى ويطفف أي يزيد ما سوف يأخذه شراء، وحين يبيع يقلل الكيل أو الوزن ليأخذ ثمناً أكثر من ثمن ما يزن أو يكيل. وأصل المبادلات غالباً بين طرفين، وبعض المتنطعين يقول: كيف يقول الحق: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} والتطفيف في أي مسألة يكون بالزيادة، لا بالنقص. ونقول: انتبه إلى أن المتحدث هو الله، والتطفيف يزيد طرفاً وينقص من طرف، وكل صفقة بين اثنين فيها بيع وشراء. فإن أراد واحد أن يجعل الخسران على طرف وأن يستوفي لنفسه فهو مطفف. ولذلك تأتي دقة الأداء القرآني من ربنا: {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا. .} [الأنعام: 152] وقال الحق ذلك لأنه يعلم أن الكيل والميزان بالعدل أمر متعذر؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لواسع رحمته في التشريع لنا لم يجعل مجتال الاستطاعة أمراً يمكن أن تتحكم فيه أشياء لا تدخل في الاستطاعة؛ ففي ضبط المكيال والميزان قال: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} لأن المكيال والميزان أداتان تتحكم فيهما ظروف لا تدخل في نطاق الإنسان. ولذلك قلنا: إن وزن الأشياء التي نعلمها إن كانت من الأشياء التي ليست فيها نفاسة فوزنها له آلة. وإن كانت في المتوسط فوزنها له آلة، وإن كان في الأشياء النفيسة الدقيقة التي للقدر الصغير فيها قيمة مؤثرة، فإن لها آلة مضبوطة مصونة من عوامل الجو حتى لا تتأثر بهبّة الهواء، فقول الحق: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3995 إِلاَّ وُسْعَهَا} إباحة للأشياء الزائدة او الناقصة التي لا تدخل في الاستطاعة، ثم قال سبحانه: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى. .} [الأنعام: 152] نعلم أن القول نسبة كلامية ينطق بها المتكلم ليسمعها مخاطب، ينفعل للمطلوب فيها خبراً أو إنشاءً، والقول مقابله الفعل، وكلاهما عمل، فالقول عمل والفعل عمل؛ قل أو افعل، فافهم أن القول متعلق بجارحة اللسان، والفعل متعلق بكل الجوارح ما عدا اللسان، فإذا رأيت، وإذا سمعت، وإذا شممت، وإذا لمست كل ذلك يطلق عليه أنه فعل، ولكن إذا ما تحرك اللسان فذلك قول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} . وهل العدل مقصور على القول؟ أو العدل أيضاً يكون في الفعل؟ إن العدل قد يكون في خلاف بين اثنين، وهذا لا يتأتى بفعلك، وإنما يتأتى الحكم والفصل فيه بقولك، وإذا ما تعودت العدل في قولك، ألفته وأنست به وأحببته حتى في أعمالك الخاصة الأخرى. والقول منه الإقرار، وإن تقر على شيء في نفسك فقله بالعدل وبالحق، والشهادة. قلها بالحق، والحكم. قله بالحق. والوصية. قلها بالحق. والفتوى. قلها بالحق. إذن فالحق في القول أمر دائر في كثير من التصرفات؛ لأنك إذا قلت بالحق أمكنك أن تعدل ميزان حركة الحياة؛ فميزان حركة الحياة لا يختل إلا إن رجح باطل على حق؛ لأنك إذا حكمت لواحد بشيء لا يستحقه فقد أعطيته ما ليس له، وإنك بعملك هذا تجعل المتحرك في الحياة يزهد في الحركة لكن إذا ما حافظت على حركة كل متحرك، وأخذ كل واحد حظه من الحياة بقدر ما يعمل اتزنت كل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3996 الأمور، ولم يعد هناك قوم يعيشون على جهد غيرهم وعرق سواهم، إذن فقول العدل هو مناط حركة الحياة الثابتة المستقيمة الرتيبة الرشيدة: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} . والذي يؤثر في العدل هو الهوى، وحين يوجد الهوى فهو يحاول أن أن يميلك إلى ناحية ليس فيها الحق، وأولى النواحي أن يكون الأمر متعلقاً بك أو بقرابة لك، وقد تريد إن حكمت - والعياذ بالله - باطلاً، أن تسعد ذا قرباك، وأنت بذلك لم تؤد حق القرابة؛ لأن حق القرابة كان يقتضي أن تمنع عنه كل شيء محرّم وتحمي عرضه، وتحمي دينه قبل أن تحمي مصلحته في النفعية الزائلة. ولذلك يأمرك الحق بأن تقول الكلمة بالعدل ولو كان المحكوم له أو عليه ذا قربى؛ لأنك حين تحكم بالباطل فأنت في الواقع حكمت عليه لا له. {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} [الأنعام: 152] ونحن نعلم أن عهد الله هو ما عاهدنا الله عليه، وأول عهد وقمة العهود هو الإيمان به سبحانه، وترتب على ذلك أن نتلقى منه التكليف، فكل تكليف من تكاليف الله لخلقه يُعتبر عهداً داخلاً في إطار الإِيمان؛ لأن الله لا يحكم حكماً أو يبينه لمكلَّف إلا بعد أن يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } [المائدة: 1] أي يا من آمنت بالعهد الأصيل في القيم وهو العقيدة، وآمنت بي إلهاً: خذ التكليف مني؛ لأنك قد دخلت معي في عهد هو الإِيمان. ولذلك لا يكلف الله بالأحكام كافراً به، إنما يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} ولذلك يجب أن نأخذ كل حكم بدليله من الإِيمان بمن حكم به، فلا تبحث عن في كل حكم، وإنما علة كل حكم أن تؤمن بالذي أمرك ان تفعل كذا، فَعِلَّة كل هي الحكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3997 ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله تعالى: {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] و «ذلكم» إشارة إلى ما تقدم، من أول قوله سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى أن انتهينا إلى قوله سبحانه: {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} [الأنعام: 152] والتوصية تخصيص للتشريع؛ لأن التشريع يعم احكاماً كثيرة جدَّا، ولكن الوصية التي يوصي الله بها تكون هي عيون التشريع. ولذلك قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن هذه الآيات: «إنها محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، وقيل إنهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار» . ولم يوجد شرع جاء لينسخ واحدة من هذه الوصايا، ولذلك يقول اليهودي الذي أسلم وهو كعب الأحبار: «والذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأول شيء في التوراة: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} . ثم نجد أن هذه الوصية الأخيرة هي جامعة لكل شيء؛ نجد تسع وصايا قد مرّت؛ خمسا منها قال فيها: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وأربعاً قال فيها: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، والعاشرة يقول: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وهذه الوصية العاشرة هي الجامعة لكل أنواع الفضائل التكليفية إنّها قوله الحق: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3998 أي أنه ختم الوصايا التسع بهذا القول؛ لأن الصراط المستقيم يشمل الوصايا التسع السابقة ويشمل كل ما لم يذكر هنا. وقلت: إننا نلاحظ أن الخمس الأول ذيلها الحق بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، والأربع التي بعدها ذيلها الحق بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} والواحدة الجامعة لكل شيء قال تذييلاً لها: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . فما الفرق بين التعقل والتذكر والتقوى؟ إن الأشياء الخمسة الأولى التي قال الحق فيها: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] هذه الأشياء كانت موجودة في بيئة نزول القرآن، إنهم كانوا يشركون بالله ويعقون والديهم ويقتلون الأولاد ويقارفون الفواحش ويقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، فأوضح لهم: تَعَقَّلُوها، فإذا ما تعقلتموها تجدون أن تكليف الله بمنعكم من هذه الأفعال، إنه أمر يقتضيه العقل السليم الذي يبحث عن الأشياء بمقدمات سليمة ونتائج سليمة، لكن «الأربع» الأخرى، هم كانوا يفعلونها ويتفاخرون بها. ففي التي كانوا يعملونها من القيام على أمر مال اليتيم والوفاء في الكيل والميزان والعدل في القول والوفاء بالعهد قال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي إياكم أن تغفلوها؛ فإذا كنتم تفعلونها وأنتم على جاهلية؛ فافعلوها من باب أولى وأنتم على إسلامية. ثم جاء بالوصية الجامعة: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3999 {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] ونظراً لأن هذه الوصية تستوعب كل الأحكام إيجابًّا وسلبًّا، نهيًّا وأمراً، فوضح لهم أنه يجب عليكم أن تتبعوا الصراط المستقيم: لتقوا أنفسكم آثار صفات القهر من الحق سبحانه وتعالى، وأول جنودها النار. والصراط: هو الطريق المعبّد، ويأخذون منه صراط الآخرة، وهو - كما يقال - «أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف» ، ما معنى هذا الكلام؟ . معناه أن يُمشى عليه بيقظة تامة واعتدال؛ لأنه لو راح يمنة يهوي في النار، ولو راح يسرة يسقط فيها، فهو صراط معمول بدقة وليس طريقاً واسعاً، بل - كما قلنا - «أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف» فلتمش على صراط الله ومنهجه معتدلاً، فلا تنحرف يمنة أو يسرة؛ لأن الميل - كما قلنا - يبعدك عن الغاية، إنك إذا بدأت من مكان ثم اختل توازنك فيه قدر ملليمتر فكلما سرت يتسع الخلل، وأي انحراف قليل في نقطة البداية يؤدي إلى زيادة الهوة والمسافة. كذلك الدين، كلما نلتقي فيه ويقرب بعضنا من بعض، نسير في الطريق المستقيم، وكلما ابتعدنا عن التشريع تتفرق بنا السبل. {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] «ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ جلِّي بالحركة الفعلية منطوق النسبة الكلامية، حينما جلس بين أصحابه وخطّ خطًّا. وقال: هذا سبيل الله . ثم خط خطوطاً عن يمينه وخطوطاً عن يساره، ثم قال: هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان؛ يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ... } .» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4000 ولذلك فكل أهل الحق، وأهل الخير كلما اقتربوا من المركز كان الالتقاء، وهذا الالتقاء يظل يقرب ويقرب إلى أن يتلاشى ويصير الكل إلى نقطة واحدة. وانظر إلى جلال الحق حينما يجعل الصراط المستقيم إليه في دينه، منسوباً إلى رسوله: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} فالرسول يسير على هذا الصراط وهو لا يغش نفسه، والذي يفعله ويمشي فيه يأمركم بأن تمشوا فيه، وهو لم يأمركم أمراً وهو بنجوة وبعدٍ عنه، ولو غشكم جميعاً لا يغش نفسه، وهذا هو صراطه الذي يسير فيه. والسبيل هنا معروف أنّه إلى الله فكأن سبيل الله هو طريق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونسب الفعل والحدث لله وحده؛ ففي البداية قال: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} ، ثم قال: «سبيله» فالصراط لم يعمله محمد لنفسه، ولكن أراده الله للمؤمنين جميعاً، ورسول الله هو الذي يأخذ بأيديهم إليه. وحين ننظر إلى كل الخلافات التي تأتي بين الديانات بعضها مع بعض، بين اليهودية والنصرانية على سبيل المثال: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ ... } [البقرة: 113] والمشركون قالوا: لا هؤلاء على شيء، ولا هؤلاء على شيء: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ... } [البقرة: 113] أي أننا أمام ثلاثة أقوال: اليهود قالوا: ليست النصارى على شيء، والنصارى قالوا: ليست اليهود على شيء، وقال الذين لا يعلمون - وهم أهل مكة - مثل قولهم، ثم نجد الدين الواحد منهما ينقسم إلى طوائف متعددة، وكل طائفة لها شيء تتعصب له، وترى أن الذي تقول له هو الحق، والذي يقول به غيرها هو الباطل، وكيف ينشأ هذا مع أن المصدر واحد، والتنزيلات الإلهية على الرسل واحدة؟! إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4001 آفة كل هذا تنشأ من شهوة السلطة الزمنية، وكل إنسان يريد أن يكون له مكانة ونفوذ وخلافة. وهذا يريد أن يتزعم فريقاً، وذاك يريد أن يتزعم فريقاً، ولو أنهم جُمعوا على الطريق الواحد لما كانوا فرقاء. ونجده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» . وفي رواية: «كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» والجماعة: هم أهل السنة والجماعة، وفي رواية: «ما أنا عليه وأصحابي» . ونلاحظ دقة هذا القول في عدد المذاهب والفرق، وإن كنتم لا تسمعون عن بعضها لأنها ماتت بموت الذين كانوا يتعصبون لها، والذين كانوا يريدون أن يعيشوا في جلالها. إذن الآفة تأتي خير ننظر حين إلى حكم من الأحكام، يرى فيه واحد رأيا، ويأتي الآخر فيرى فيه رأيا آخر، لا لشيء إلا للاختلاف. ونقول لهم: انتبهوا إلى الفرق بين حكم مُحْكَم، وحكم تركه الله مناطاً للاجتهاد فيه، فالحكم الذي أراده الله محكماً جاء فيه بنص لا يحتمل الخلاف، وهذا النص يحسم كل خلاف. والحكم الذي يحبه الله من المكلَّفين تخفيفاً عنهم على وجه من الوجوه يأتي بالنص فيه محتملاً للاجتهاد، ومجيء النص من المشرع في حكم محتمل للاجتهاد، هو إذن بالاجتهاد فيه؛ لأنه لو أراده حُكما لا نختلف فيه لجاء به محكماً. والمثال المستمر ما تركه لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سنته الشريفة، فحينما أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يضع السلاح قبل أن يؤدب بني قريظة، وهم من شايعوا مشركي مكة في الحرب. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يُصَلَّيَنَّ أحد العصر إلا في بني قريظة» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4002 فذهب الصحابة في طريقهم إلى بني قريظة، وآذنت الشمس بالمغيب وهم في الطريق فانقسم صحابة رسول الله إلى قسمين: قسم قال: نصلي العصر قبل أن تغيب الشمس، وقال قسم آخر: قال رسول الله لا نصلين العصر إلا في بني قريظة. فصلى قوم العصر قبل مغيب الشمس، ولم يصل الآخرون حتى وصلوا إلى بني قريظة، ورفعوا أمرهم إلى المشرع وهو رسول الله، فأقرّ هذا، وأقرّ هذا، لأن النص محتمل. لماذا؟ . لأن كل حدث من الأحداث يتطلب ظرفاً له زمان ومكان؛ فالذين قالوا إن الشمس كادت تغرب ولابد أن نصلي العصر قبل مغيبها نظروا إلى الزمان. والذين قالوا لا نصلي إلاّ في بني قريظة نظروا إلى المكان. وحينما رُفِعَ الأمر إلى المشرع الأعلم أقرّ هؤلاء وأقرّ هؤلاء. إذن فالحكم إن كان فيه نص محكم فلا احتمال للخلاف فيه وإن كان الله قد تركه موضعاً للاجتهاد فيه فهو يأتي لنا بالنص غير المحكم. ومَن ذهب إليه لا يصح أن نخطِّئه، ولذلك بقي لنا من أدب الأئمة الذين بقيت مذاهبهم إلى الآن بعضهم مع بعض. نجد الواحد منهم يقول: الذي ذهبت إليه صواب يحتمل الخطأ، والذي ذهب إليه مقابلي خطأ يحتمل الصواب، وجميل أدبهم هو الذي أبقى مذاهبهم إلى الآن، وعدم أدب الآخرين جعل مذاهبهم تندثر وتختفي ولا تدرون بها، الحمد لله أنكم لا تدرون بها. ثم يقول الحق بعد ذلك: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4003 ونحن إذا سمعنا بكلمة «ثم» نعلم انها من حروف العطف، وحروف العطف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4003 كثيرة، وكل حرف له معنى يؤديه، وهنا {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} ، وإيتاء موسى الكتاب كان قبل أن يأتي قوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فالتوارة جاءت ثم الإِنجيل، ثم جاء القرآن ككتاب خاتم. فكيف جاءت العبارة هنا ب «ثم» ؟ . مع أن إتيان موسى الكتاب جاء قبل مجيء قوله الحق: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ؟ ونقول لأصحاب هذا الفهم: أنت أخذت «ثم» لترتيب أفعال وأحداث، ونسيت أن «ثم» قد تأتي لترتيب أخبار. فقد يأتي مَن يقول لك: لماذا لا تسأل عن فلان ولا تؤدي الحق الواجب عليك له؛ كحق القرابة مثلا، فتقول: كيف، لقد فعلت معه كذا، ثم أنا فعلت مع أبيه كذا، ثم أنا فعلت مع جدّه كذا. إذن، فأنت تقوم بترتيب أخبار. وتتصاعد فيها، وتترقى، ولذلك قال الشاعر العربي: إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جدّه فالسيادة جاءت أولاً للجد، ثم جاءت للأب، ثم انتقلت للابن. و «ثم» في هذه الحالة ليست لترتيب الأحداث وإنما جاءت للترتيب الإِخباري أي يكون وقوع المعطوف بها بعد المعطوف عليه بحسب التحدث عنهما لا بحسب زمان وقوع الحدث على أحدهما فالمراد الترقي في الإِخبار بالأحداث. وانظر إلى القرآن بكمال أدائه يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ ... } [الأعراف: 11] ونعلم أن الأمر من الله للملائكة بالسجود لآدم كان من البداية. فسبحانه في هذا القول الكريم يريد أن يرتب حالنا، إنه - سبحانه - خلقنا بعد أن صورنا، وصورنا، بعد أن قال للملائكة اسجدوا لآدم. ولله المثل الأعلى، تجد من يقول لابنه: لقد اعتنيت بك في التعليم العالي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4004 ثم لا تنس أني قد اعتنيت بك في التعليم العالي، ثم لا تنس أنني قد اعتنيت بك في التعليم الثانوي، ثم لا تنسى أنني قد اعتنيت بك في التعليم الإعدادية؛ ثم لا تنسى أنني قد اعتنيت بك من قبل كل ذلك التعليم الابتدائي. وأنت بذلك ترتقي إخبارياً لا أحداثياً. فقد يكون الحدث بعد ولكن ترتيب الخبر فيه يكون قبل. {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب ... } [الأنعام: 154] طبعاً مادام جاء بسيرة موسى فالكتاب هو التوارة وإذا أطلق الكتاب من غير تحديد؛ فإنه ينصرف إلى القرآن، لأنه هو الكتاب الجامع لكل ما في الكتب، والمهيمن على كل ما في الكتب. أما لو قيل مثلاً: أنزلنا على موسى الكتاب، فيكون الكتاب هو التوارة، أو أنزلنا على عيسى الكتاب، فيكون الكتاب هو الإنجيل. {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154] والتمام هو استيعاب صفات الخير، ولذلك يقول الحق: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ... } [المائدة: 3] و «أكملت» فلا نقصان، وأتممتها فلا استدراك. ولماذا جاء بالتمام على الذي أحسن في أمر موسى عليه السلام؟ . جاء ذلك لأن الذين تصدوا للجاج والجدل معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هم اليهود. وأنتم تعلمون أنهم صوروا في مصر هنا فيلماً سينمائياً اسمه «الوصايا العشر» عن قصة سيدنا موسى عليه السلام. والوصايا العشر هي التي أقر «كعب الأحبار» أنها موجودة في التوراة وجاءت في الآيات السابقة التي تناولناها وشرحناها. فمن المناسب أن يأتي هنا ذكر موسى عليه السلام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4005 وحينما جاء موسى عليه السلام بالتوراة كما أنزلها الله عليه عاصره أناس آمنوا بما في التوراة، وكانوا من الناجين، وقد ماتوا. أما الذين استمرت حياتهم إلى أن جاء رسول الله، فكان من المطلوب منهم أن يؤمنوا به؛ لأن الحق أوضح لهم في التوراة أن هناك رسولاً قادماً، ولابد أن تؤمنوا حتى تتم نعمة الإحسان عليكم، لأنكم وإن كنتم مؤمنين بموسى، وعاملين بمنهجيه فلابد من الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والسابقون لكم أحسنوا في زمن بعثة رسالة موسى عليه السلام، وجاء محمد بالرسالة الخاتمة فإن أردتم أن يتم الله عليكم الحسن والكرامة والنعمة، فلابد أن تعلنوا الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، منكم من أحسن الاقتداء بموسى عليه السلام وآمنوا بمحمد فتم لهم الحسن: {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} . {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} أي أنّه مناسب لزمنه، ولله المثل الأعلى، عندما يكون لك ولد صغير السن فتقول: أنا فصلت له ملابسه، أي فصلت له الملابس التي تناسبه. وحين يكبر لن تظل ملابسه القديمة صالحة لأن يرتديها. {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} أي القيم التي تناسب الوقت الذي يعيشونه، فإذا ما جئنا بتفصيل جديد في القرآن فهو مناسب لوقته، ولقائل أن يقول: هنا تفصيل، وهنا تفصيل، فما الفرق بين تفصيل وتفصيل؟ . نقول: إن كل تفصيل مناسب لزمنه، وآيات القرآن مفصلة جاهزة ومعدة لكل زمن وللناس جميعا إلى أن تقوم الساعة. والآفة - دائماً - في القائمين على أمر التشريع، فحينما تأتيهم حالة لذي جاه وسلطان يحاولون إعداد وتفصيل حكم يناسبه، فنقول لمثل هذا الرجل: أنت تفصل الحكم برغم أن الأحكام جاهزة ومعدة ظاهرة، إننا نجد القوالب البدنية تختلف فيها التفصيلات للملابس بينما القوالب المعنوية نجد فيها التساوي بين الناس كلها، فالصدق عند الطفل مثل الصدق عند اليافع، مثل الصدق عند الرجل، مثل الصدق عند المرأة، مثل الصدق عند العالم، مثل الصدق عند التاجر. وليس لكل منهم صدق خاص، وكذلك الأمانة. ورحمنا الإسلام بالقضية العقدية وكذلك بالقضية الحكيمة الجاهزة. المناسبة لكل بشر، وليست هناك آية على مقاس واحد تطبق عليه وحده، لا، فالآيات تسع الجميع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4006 {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ... } [الأنعام: 154] . والهُدَى هو ما يدل على الغايات، لأن دين الفطرة قد انطمس بعدم تبليغ الآباء إلى الأولاد منهج السماء في أمور الحياة ومتعلقاتها والقيم التي يجب أن تسود. والآفة أن الأب يعلم ولده كيف يأكل ويشرب، وينسى أن يعلمه أمور القيم، لكن الحق سبحانه وتعالى رحم غفلتنا، ورحم نسياننا؛ فشرع وأرسل لكل زمان رسولاً جديداً، وهدْيا جديداً ليذكرنا. { ... لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154] إن كل آفة تنبع من العزوف عن تشريعات الله، وهم ينسون أن يضعوا في أذهانهم لقاء الله، لكن لو أن لقاء الله متضح في أذهانهم لاستعدوا لذلك؛ لأن الغايات هي التي تجعل الإنسان يقبل على الوسائل. والشاعر يقول: ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ... ومن أين والغايات هي بعد المذاهب ونقول لهذا الشاعر: قولك: ألا من يريني غايتي قبل مذهبي كلام صحيح، أما قولك: ومن أين والغايات بعد المذاهب، هذا كلام غير دقيق، فالغاية هي التي تحدد المذهب، وكذلك شرع الله الغاية أولاً، بعد ذلك جعل لهذا السبيل. وقد شرع الله لكل شيء ما تقضيه ظروف البشر الحياتية، ولذلك لا استدراك عليه لأن فيه تفصيلا لكل شيء. ويقول الحق بعد ذلك: {وهذا كِتَابٌ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4007 {وهذا} إشارة وعادة ما تأتي وترد على متقدم، ولكن إذا لم يكن لاسم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4007 الإشارة متقدم أو حاضرة يشار إليه فهذا دليل على أنك إن أشرت لا ينصرف إلا إليه لأنه متعين ينصرف إليه الذهن بدون تفكير لوضوحه. وكلمة {كِتَابٌ} تدل على أنه بلغ من نفاسته أنه يجب أن يُكتَب ويسجل؛ لأن الإنسان لا يُسجل ولا يكتب إلا الشيء النافع، إنما اللغو لا يسأل عنه، وقال ربنا عن القرآن: إنه «كتاب» ، ومرة قال فيه: «قرآن» فهو «قرآن» يتلى من الصدور، و «كتاب» يحفظ في السطور. ولذلك حينما جاءوا ليجمعوه اتوا بالمسطور ليطابقوه على ما في الصدور. {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ... } [الأنعام: 155] و «أنزلناه» أي أمَرْنا بإنزاله، ونزل به الروح الأمين، وكلمة مبارك مأخوذة من «البركة: أي أنه يعطي من الخير والثمرة فوق ما يُظَنّ فيه، وقد تقول: فلان راتبه مائتا جنيه، ويربي أولاده جيداً ويشعر بالرضا، وتجد من يقول لك: هذه هي البركة. كأن الراتب لا يؤدي هذه المسئوليات أبداً. وكلمة» البركة «تدل على أن يد الله ممدودة في الأسباب، ونعلم أن الناس ينظرون دائماً إلى رزق الإيجاب، ولا ينظرون إلى الرزق الأوسع من الإيجاب وهو رزق السلب، فرزق الإيجاب يأتي لك بمائتي جنيه، ورزق السلب يسلب عنك مصارف لا تعرف قدرها. فنجد من يبلغ مرتبه ألفاً من الجنيهات، لكن بعض والده يمرض، ويحتاج ولد آخر إلى دروس خصوصية فتتبدد الألف جنيه ويحتاج إلى ما فوقها. إذن فحين يسلب الحق المصارف وإنفاق المال في المعصية أو المرض فهذه هي بركة الرزق، ونجد الرجل الذي يأتي ماله من حلال ويعرق فيه يوفقه الله إلى شراء كل شيء يحتاج إليه، ويخلع الله على المال القليل صفة القبول، ونجد آخر يأتي ماله حرام فيخلع الله على ماله صفة الغضب فينفقه في المصائب والبلايا ويحتاج إلى ما هو أكثر منه. وأنت حين تقارن القرآن بالتوراة في الحجم تجده أصغر منها ولكن لو رأيت البركة التي فيه فستجدها بركة لا تنتهي؛ فكل يوم يعطي القرآن عطاءه الجديد ولا تنقضي عجائبه، ويقرأه واحد فيفهم منه معنى، ويقرأه آخر فيفهم منه معنى جديداً. وهذا دليل على أن قائله حكيم، وضع في الشيء القليل الفائدة الكثيرة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4008 وهذا هو معنى {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} ؛ فكل كتاب له زمن محدود وعصر محدود وأمة محدودة، أما القرآن فهو يواجه من يوم أن أنزله الله إلى أن تقوم الساعة قضايا متجددة يضع لها حلولاً. والمهم أن القرآن قد جاء على ميعاد مع طموح البشريات، وحضارتها وارتقاءاتها في العقول؛ لذلك كان لابد أن يواجه كل هذه المسائل مواجهة تجعل له السبق دائماً ولا يكون ذلك إلا إذا كانت فيه البركة. وكلنا يعلم أن القرآن قد نزل على رجل أمّي، وفي أمة أميّة، ولذلك حكمة بالغة لأن معنى «أمّي» أي أنه لم يأخذ علماً من البشر، بل هو كما والدته أمه، وجاءت ثقافته وعلمه من السماء. إذن فالأمية فيه شرف وارتقاء بمصادر العلم له. ونزل القرآن في أمة أمية؛ لأن هذا الدين وتلك التشريعات، إنما نزلت في هذ الأمة المتبديّة المتنقلة من مكان إلى آخر وليس لها قانون بل يتحكم فيها رب القبيلة فقط، وحين تنزل إليها هذه القيم الروحية والأحكام التشريعية ففي ذلك الدليل على أن الكتاب الذي يحمل هذه القيم والأحكام قادم من السماء. فلو نزل القرآن على أمة متحضرة لقيل نقلة حضارية، لكنه نزل على أمة لا تملك قوانين مثل التي كانت تُحكم بها الفرس أو الروم. ومادام الكتاب له هذه الأوصاف التي تريح الخلق من عناء التشريع لأنفسهم ويضم كل الخير، لذلك يأتي الأمر من الله: {فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155] وساعة تأتي ب «لعل» فاعلم أن فيها رجاء، وقد ترجو أنت من واحد وتقول: لعل فلاناً يعطيك كذا، والرجاء هنا من واحد، ومَن يفعل العمل المرجو إنسان آخر، وقد يفعل الآخر هذا العمل، وقد يغضب فلا يفعله؛ لأن الإنسان ابن أغيار، بل ومن يدري أنه ساعة يريد أن يفعل فلا يقدر. وإذا قلت: «لعلي أفعل لك كذا» ، وهنا تكون أنت الراجي والمرجوّ في آن واحد، ولكنك أيضاً ابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4009 للأغيار، فأنت تتوقع قدرتك على الفعل وعند إرادتك الفعل قد لا تتيسر لك مثل هذه القدرة. ولماذا أنزل الحق هذا الكتاب؟ . يأتي الحق هنا بالتمييز للأمة التي أراد لها أن ينزل فيها القرآن فيقول: {أَن تقولوا إِنَّمَآ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4010 فالكتاب يصفي العقائد السابقة التي نزلت على الطائفتين من اليهود والنصارى، وإذا كنتم قد غفلتم عن دراسة التوراة والإِنجيل؛ لأنكم أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة؛ لذلك أنزلنا إليكم الكتاب الكامل مخافة أن تصطادوا عذراً وتقولوا: إن أميتنا منعتنا من دراسة الكتاب الذي أنزل على طائفتين من قبلنا من اليهود والنصارى. وكأن الله أنزل ذلك الكتاب قطعاً لاعتذارهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4010 قد يحتج المشركون من أن التوراة والإِنجيل لو نزلت عليهم لكانوا أهدى من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4010 اليهود والنصارى، وفي هذا القول ما يعني أن أذهانهم مستعدة لتقبل الإيمان، وقد قطع الله عليهم كل عذر فجاء لهم بالقرآن، ويقول الحق: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا ... } [الأنعام: 157] و «صدف» من الأفعال التي تُستعمل متعدية وتُستعمل لازمة، ومعنى «لازمة» أنها تكتفي بالفاعل ولا تتطلب مفعولاً، فمثلاً إذا قيل لك: جلس فلان. تفهم أن فلاناً قد جلس ويتم لك المعنى ولا تتطلب شيئاً آخر. لكنك إن قيل لك: ضَربَ زيد، فلا بد أنك تنتظر من محدثك أن يبين لك من الذي ضُرَب، أي أنك جئت بفعل يطلب شئياً بعد الفاعل ليقع عليه الفعل. وهذا اسمه فعل «متعد» أي يتعدى به الفاعل إلى مفعول به. و «صدف» فيها الخاصتان. وجاء الحق بهذه الصيغة المحتملة لأن تكون لازمة وأن تكون متعدية ليصيب الأسلوب غرضين؛ الغرض الأول: أن تكون «صدف» بمعنى انصرف وأعرض فكانت لازمة أي ضل في ذاته، والأمر الثاني: أن تكون صدف متعدية فهي تدل على أنه يصرف غيره عن الإيمان، أي يضل غيره، ويقع عليه الوزر؛ لضلال نفسه أولاً ثم عليه وزر من أضل ثانياً، ولذلك جاء سبحانه باللفظ الذي يصلح للاثنتين «صدف عنها» أي انصرف، ضلالاً لنفسه، وصدف غيره أي جعل غيره يصدف ويعرض فأضل غيره، وبذلك يعذبه الله عذابين، فيقول سبحانه: { ... سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سواء العذاب بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 157] فكأن المسألة يرتكبها: الذين صدفوا أنفسهم، وصرفوها عن الإيمان ويصدفون كل من يحاول أن يؤمن. وهؤلاء هم القوم الذين أعرضوا وانصرفوا عن منهج الهدى، أو تغالوا في ذلك فصرفوا غيرهم عن منهج الهدى، ولو أنهم استقرأوا الوجود الذي يعايشونه لوجدوا الموت يختطف كل يوم قوماً على غير طريقة رتيبة، فلا السن يحكم ويحدد وقت وزمن انقضاء الأجل، ولا الأسباب تحكمه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4011 ولا المرض أو العافية تحكمه، فالموت أمر شائع في الوجود، ومعنى ذلك أن على كل إنسان أن يترقب نهايته، فكأنه يتساءل: لماذا إذن يصدفون؟ . وماذا ينتظرون من الكون؟ . أرأوا خلوداً في الكون لموجود معهم؟ . ويقول سبحانه من بعد ذلك: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4012 فهل ينتظرون من عطاءات الوجود المحيط بهم إلا أن تأتيهم الملائكة التي تقبض الروح؟ والملائكة تأتي هنا مجملة. وفي آيات أخرى يقول: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السلم ... } [النحل: 28] ولن يتأبى أحد على الملائكة؛ لذلك يلقون لهم السلم وتنتهي المسألة. ويتابع سبحانه: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام: 158] ووقف العلماء عند هذا القول الكريم لأنهم أرادوا أن يفسروا الإتيان من الرب على ضوء الأتيان منا، والأتيان منا يقتضي انخلاعاً من مكان كان الإنسان فيه إلى مكان يكون فيه، وهذا الأمر لا يصلح مع الله ونقول: أفسرت كل مجيء على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4012 ضوء المجيء بالنسبة لك؟ بالله قل لي: ما رأيك في قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ... } [ق: 19] كيف جاءت سكرة الموت وهي المخلوقة لله؟ إننا لا نعرف كيف يجيء الموت وهو مخلوق؟ فكيف تريدون أن نعرف كيف يجيء الله؟ . عليكم أن تفسروا كل شيء بالنسبة لله بما يليق بذات الله في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ولنتأذب ونعط العقول مقدارها من الفهم، ولنجعل كل شيء منسوباً لله بما يناسب ذات الله؛ لأن المجيء يختلف بأقدار الجائين، فمجيء الطفل غير مجيء الشاب، غير مجيء الرجل العجوز، غير مجيء الفارس، فما بالنا بمجيء الله سبحانه؟!! إياك - إذن - أن تفهم المجيء على ضوء مجيء البشر. وأكررها دائماً: عليك أن تأخذ كل شيء بالنسبة له سبحانه لا بقانونك أنت، ولكن بقانون الذات الأعلى، واجعل كل ما يخصه في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، ولذلك قل: له سمْع ليس كسمعنا، وبصر ليس كبصرنا، ويد ليست كايدينا، في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وإياكم أن تسمعوا مناقشة في قوله: {يَأْتِيَ رَبُّكَ} . وقل إن إتيان الله ومجيئه ليس كفعل البشر، بل سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . و {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} ، هي العلامات، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بَادِرُوا بالأعمال سِتًّا: طلوعَ الشمس من مغربها، والدُّخَان، ودابَّةَ الأرض، والدَّجَّالَ، وخُوَيْصَةً أحَدِكُمْ وأمْرَ العامّة» . و «خُويْصَةُ أحدكم» تصغير: خاصة، والمراد حادثة الموت التي تخص الإنسان، وصغّرت لاستصغارها في جنب سائر العظائم من بعث وحساب وغيرهما وقيل: هي ما يخص الإِنسان من الشواغل المقلقة من نفسه وماله وما يهتم به. و «أمر العامّة» : أي القيامة؛ لأنها تعم الخلائق، أو الفتنة التي تعمي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4013 وتصم، أو الأمر الذي يستبد به العوام ويكون من قبلهم دون الخواص. {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} [الأنعام: 158] لأن الإيمان لا يكون إلا بأمر غيبي؛ فكل أمر مشهدي مدرك بالحواس لا يسمى إيماناً؛ فأنت لا تقول: انا أؤمن بأني أقرأ الآن في كتاب خواطر الشيخ الشعراوي حول آيات القرآن الكريم؛ لأنك بالفعل تقرأ هذه الخواطر الآن. وأنت لا تقول: أنا أؤمن بأن النور يضيء الحجرة؛ لأن هذا أمر مشهدي، وليس أمراً غيبيًّا. والإِيمان يكون دائماً بأمر غيبي، ولكن إذا جاءت الآيات فإننا ننتقل من الإِيمان بالأمر الغيبي إلى الإِيمان بالأمر الحسي، وحينئذ لا ينفع الإِيمان من الكافر، ولا تقبل الطاعة من صدقة أو غيرها من أنواع البر والخير بعد أن تبلغ الروح الحلقوم وتقول: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان. هذا لا ينفع؛ لأن المال لم يعد مَالَك، بل صار مال الورثة، كذلك الذي لم يؤمن وبعد ذلك رأى الآيات الستة التي قال الشارع عنها: إنها ستحدث بين يدي الساعة أو قبل مجيء الساعة. وساعة ترى هذه الآيات لن يُقبل منك أن تقول: آمنت؛ لأن الإِيمان إنما يكون بالأمر الغيبي، وظهور الآيات هو أمر مشهدي فلن يُقبل بعده إعلان الإِيمان. والحق هو القائل: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام: 158] أي أن الإِيمان يجب أن يكون سابقاً لظهور هذه الآيات، وألا يكون المانع له من العمل القصور، كأن يكون الإِنسان - والعياذ بالله - مجنوناً ولم يفق إلا بعد مجيء العلامة، أو لم يَبْلُغ إلا بعد وجود العلامة فهذا هو من ينفعه الإِيمان. وقد عرض الحق لنا من هذه الصور ما حدث في التاريخ السابق، فهو القائل: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4014 {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] وماذا كان رد الله عليه؟ لقد قال سبحانه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ... } [يونس: 91] إذن: إذا بلغت الروح الحلقوم، وهذه مقدمات الموت فلا ينفع حينئذ إعلانك الإيمان. ويذيل الحق الآية بقوله: { ... انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام: 158] هم منتظرون الخيبة ونحن منتظرون الفلاح. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4015 هذه الآية تشرح الآية التي سبقت خواطرنا عنها، وهي قوله الحق: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4015 والذين فرقوا دينهم نسوا أن الدين إنما جاء ليجمع لا ليفرق، والدين جاء ليوحد مصدر الأمر والنهي في الأفعال الأساسية فلا يحدث بيننا وبين بعضنا أي خلاف، بل الخلاف يكون في المباحات فقط؛ إن فعلتها فأهلاً وسهلاً، وإن لم تفعلها فأهلاً وسهلاً، ومالم يرد فيه أفعل ولا تفعل؛ فهو مباح. إذن الذين يفرقون في الدين إنما يناقضون منهج السماء الذي جاء ليجمع الناس على شيء واحد؛ لتتساند حركات الحياة في الناس ولا تتعاند، وإذا كان لك هوى، وهذا له هوى، وذلك له هوى فسوف تتعاند الطاقات، والمطلوب والمفروض أن الطاقات تتساند وتتعاضد. والشيع هم الجماعة التي تتبع أمراً، هذا الأمر يجمعهم ولو كان ضلالا. وهناك تشيع لمعنى نافع وخير، وهناك تشيع لعكس ذلك، والتشيع على إطلاقه هو أن تجنمع جماعة على أمر، سواء أكان هذا الأمر خيراً أم شرا. {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ... } [الأنعام: 159] إذن هم بعيدون عن منهجك يا محمد، ولا يصح أن ينسبوا إلى دينك؛ لأن الإسلام جاء لإثبات القيم للوجود مثل الماء لإثبات حياة الوجود. ونعرف أن الماء لا يأخذ لوناً ولا طعماً ولا رائحة، فإن أخذ لوناً أو طعماً أو رائحة فهو يفقد قيمته كماء صاف. وكذلك الإسلام إن أخذ لوناً، وصار المسلمون طوائف؛ فهذا أمر يضر الدين، وعلينا أن نعلم أن الإسلام لون واحد. { ... إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] إن شاء سبحانه عاجلهم بالهزيمة أو بالعذاب، وإن شاء آجلهم إلى يوم القيامة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4016 ويقول الحق بعد ذلك: {مَن جَآءَ بالحسنة ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4017 هناك «حسن» ، و «حسنة» ولا تقل: إن حسنة هي مؤنث حسن، لأن فيها تاء. كأنها تاء التأنيث، ولكن اسمها «تاء المبالغة» تأتي على اللفظ الذي للذكر، مثلما تقول: «فلان علاّمة» ، «فلان راوية للشعر» وفلان نسَّابة. هذه هي تاء المبالغة. والحسنة هي الخير الذي يورث ثواباً، وكلما كان الثواب أخلد وأعمق كانت الحسنة كذلك. وإذا قال الحق سبحانه وتعالى: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} . ف «أمثالها» جمع «مثل» ، والمثل مذكر، والقاعدة تقول: حين يكون المعدود مذكراً نأتي له بالتاء، وحين يكون مؤنثاً نحذف التاء لأن أصل الأعداد مبني على التاء، لأنك عندما تعد تقول واحد، اثنان ثلاثة إلى عشرة فأصل الأعداد مبنيٌّ على التاء، وإذا استعملته مع المؤنث تخالف بحذف التاء فيه، وإن استعملت العدد مع الأصل وهو المذكر، تستعمله على طبيعته فتقول: «ثلاثة رجال» . وإذا أردت أن تتكلم عن الأنثى، تقول: «ثلاثة نسوة» ، والحق هنا يقول: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، و «مثل» - كما قلنا - مذكر. والحق لم يجعل الأصل في العطاء هو «المثل» ، بل جعل الأصل هو الحسنة: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا ... } [الأنعام: 160] وهذا هو مطلق الرحمة والفضل، ولذلك ورد الحديث القدسي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4017 عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال - فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى - «إن ربكم عَزَّ وَجَلَّ رحيم. من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة او يمحوها الله عَزَّ وَجَلَّ ولا يهلك على الله إلا هالك» . ونعرف أن الحق يجزي الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف، لأن كل فعل تلازمه طاقة من الإِخلاص في نفاذه، فكأن الحق قد وضع نظاماً بأن الحسنة بعشر أمثالها، ثم بالنية المخلصة تبلغ الأضعاف إلى ما شاء الله. وقد وضع الحق هذا النظام؛ لأنه جل وعلا يريد للحسنة أن تُفعل، وينتفع الغير بها، فإن كان فاعلها حريصاً على الأجر الزائد فهو يقدمها بنية مخلصة، ويقول الحق لنا: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] ويقول أيضاً: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ... } [البقرة: 245] ويحدد هنا جزاء الحسنة بأن ثوابها عشر أمثالها، ونية معطي الحسنة هي التي يمكنها أن تضاعفها إلى سبعمائة أو أزيد. والحق سبحانه وتعالى يعطي مثلاً لذلك في قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ ... } [البقرة: 261] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4018 وإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعطيها أنت حبة فتعطيك سبعمائة فماذا يعطي خالق الأرض؟ إن عطاءه غير محدود ولا ينفد، ولذلك يقول سبحانه: {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 261] ويتابع الحق سبحانه: { ... وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] مادام لا يجزي إلا مثلها فهم لا يظلمون أبداً. ويقول الحق بعد ذلك: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4019 و «ديناً قيماً» أي تقوم عليه مسائل الحياة، وهو قائم بها، و «قيماً» مأخوذة من «القيمة» أو من «القيام» على الأمر، وقام على الأمر أي باشره مباشرة من يصلحه، كذلك جاء الدين ليصلح للناس حركة حياتهم بأن أعطاهم القيم، وهو قائم عليهم أيضاً: {دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} . وفي كل أمر مهم له خطره ومنزلته يأتي لنا الحق بلمحة من سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام، لأنه صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه فيه القدر المشترك الذي يجمع كفار مكة، وأهل الكتاب الذين يتمحكون فيه. فقالت اليهود: إبراهيم كان يهوديًّا، وقالت النصارى: إن إبراهيم كان نصرانيًّا، وربنا يقول لهم ولنا: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ... } [آل عمران: 67] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4019 واليهودية والنصرانية جاءتا من بعده. أما بالنسبة للجماعة الأخرى ففي بيئتهم، وكل حركات حياتهم، وتجاربهم ونفعهم من آثار إبراهيم عليه السلام ما هو ظاهر وواضح. يقول الحق: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ ... } [إبراهيم: 37] فسيدنا إبراهيم هو الذي رفع القواعد من البيت الحرام، وهو الذي عمل لهم مهابة جعلت تجاربهم تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب ولا يتعرض لها أحد، وجاءت لهم بالرزق الوفير. وحين يقول الحق: {دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [الأنعام: 161] المقصود هو الدين الذي تعيشون في كنف خيرات آثاره، و «الحنف» هو اعوجاج في القدم. وبطبيعة الحال لم يكن دين إبراهيم مائلاً عن الحق والصواب بل هو مائل عن الانحراف دائم الاستقامة. ونعرف أن الرسل إنما يجيئون عند طغيان الانحراف، فإذا جاء إبراهيم مائلاً عن المنحرف؛ فهو معتدل. ويقول الحق بعد ذلك: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4020 و «صلاتي» مقصود بها العبادة والركن الثاني في الإِسلام الذي يتكرر كل يوم خمس مرات، وهي الركن الذي لا يسقط أبداً؛ لأن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله - كما قلنا سابقاً - يكفي أن تقولها مرة في العمر، وقد يسقط عنك الصوم إن كنت لا تستطيع، وقد لا تزكي لأنه ليس لك مال، وقد لا تستطيع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4020 الحج، وتبقى الصلاة التي لا تسقط أبداً عن العبد. وهي - كما نعلم - قد أخذت من التكليف حظها من الركينة. إن كل تكليف من التكاليف جاء بواسطة الوحي إلا الصلاة فإنها جاءت بالمباشرة، وتلقاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ربه دون واسطة. وحين يقول الحق: {إِنَّ صَلاَتِي} ، فهو يذكر لنا عمدة الأركان والتي اشتملت على كل الأركان كما أوضحنا سابقاً. حتى إن الإِنسان إذا كان راقداً في مرض ولا يستطيع القيام فعليه أن يحرك رأسه بالصلاة أو يخطر أعمال الصلاة على قلبه. ويقول الحق {وَنُسُكِي} . و «النسك» يطلق ويراد به كل عبادة، والحق يقول: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ ... } [الحج: 67] «النسك» إذن هو عبادة ويطلق بالأخص على أفعال كثيرة في الحج، مثل نسك الطواف ونسك السعي، ونسك الوقوف بعرفة، ونسك الرمي، ونسك الجمار، وكل هذه اسمها مناسك، والأصل فيها أنها مأخوذة من مادة «النسيكة» وهي السبيكة من الفضة التي تصهر صهراً يُخرج منها كل المعادن المختلطة بها حتى تصير غاية في النقاء. فسميت العبادة نسكاً لهذا، أي يجب أن تصفى العبادة لله كما تصفى سبيكة الفضة من كل المعادن التي تخالطها: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} . وهنا أمران اختياريان، وأمران لا اختيار للإِِنسان فيهما، الصلاة والمناسك كلاهما داخل في قانون الاختيار، لكن المحيا والممات لا يدخل أي منهما في قانون الاختيار؛ إنهما في يد الله، والصلاة والنسك أيضاً لله، ولكن باختيارك، وأنت لا تصلي إلا لأنك آمنت بالآمر بالصلاة، أو أن الجوارح ما فعلت كذا إلا لله. إذن فأنت لم تفعل شيئاً من عندك أنت، بل وجهت الطاقات المخلوقة لله لتأدية المنهج الذي أنزله الله إذن إن أردت نسبة كل فعل فانسبه إلى الله. ولماذا جاء بالصلاة والنسك وكلاهما أمر اختياري؟؛ لأنه إن كان في ظاهر الأمر لكم اختيار، فكل هذا اختيار، فكل هذا الاختيار نابع من إيجاد الله لكم مختارين. وهو الذي وضع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4021 المنهج فجعلكم تصلون، أو: إن صلاتي لله ونسكي لله، أي أن تخلص فيها، ولا تشرك فيها، ولا تصلي مرائياً، ولا تصنع نسكاً مرائياً، ولا تذهب إلى الحج من أجل أن يقولوا لك: «الحاج فلان» أبداً، بل اجعلها كلها لله؛ لأنك إن جعلتها لغيره فليس لغيره من القدرة على الجزاء ما يجازيك الله به؛ إن جعلتها لغيره فقد اخترت الخيبة في الصفقة؛ لذلك اجعل الصلاة والنسك للذي يعطيك الأجر. {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين} [الأنعام: 162] والحياة هبة الله، وإياك أن تصرف قدرة الحياة ومظاهر الحياة في غير ما يرضي الله. فينبغي أن يكون حياتك لله لا لشهوتك، ومماتك لله لا لورثتك، وتذكر جيداً لأن الحق يقول بعد ذلك: {لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4022 وهذا القول يدل على أن بعض الخلق قد يجعل لله شريكاً في العبادة فيجعل صلاته ظاهرية رياء، ومناسكه ظاهرية رياء، وحياته يجعلها لغير واهب الحياة. ويعمل حركاته لغير واهب الحياة، ويجعل مماته للورثة وللذرية؛ لذلك عليك أن تتذكر أن الله لا شريك له. { ... وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} [الأنعام: 163] وهذا أمر من الله لرسوله، وكل أمر للرسول هو أمر لكل مؤمن برسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والأوامر التي صدرت عن الرب هي لصالحك أنت. فسبحانه أهل لأن يُحب، وكل عبادة له فيها الخير والنفع لنا، وأنا لا أدعيه لنفسي بل هو عطاء من ربكم وربي الذي أمر. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى حينما رأى أن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مشغول بأمر أمته أبلغنا: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4022 {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] وفي كل شيء كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: أمّتي أمتي أمتي أمتي، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يطمئن رسوله على محبوبية أمته فقال له: «إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤوك» . والحديث بتمامه كالآتي: «عن عبد الله بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قول الله عَزَّ وَجَلَّ في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ... } الآية. وقال عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} . فرفع يديه وقال:» اللهم أمتي أمتي «وبكى، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسلْه ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فسأله وأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما قال وهو اعلم، فقال عَزَّ وَجَلَّ: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سَنُرضيك في أمتك ولا نسوؤك» . ونزل قوله الحق: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] روي عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4023 ويذيل الحق الآية بقوله: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} وحين يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وأنا أول المسلمين في أمته فهذا قول صحيح صادق لأنه قبل أن يأمر غيره بالإسلام آمن هو بالإسلام، وكل رسول أول المسلمين في أمته، لكن هناك أناس يقولون: لنأخذ العبارة هكذا، ونقول: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له منزلة بين رسل الله أجمعين تتجلى في أنه أخذ العهد على غيره له، ولم يؤخذ العهد علية لأحد. فإن أول المسلمين في أمته، فهو أول المسلمين بين الرسل أيضآ، وإن لم تأخذها حدثاً خذها للمكانة. وأضرب هذا المثل: هب أن كلية الحقوق أنشئت مثلا سنة كذا وعشرين، لكل سنة لها أول من التلاميذ ثم جاء واحد وحصل على 100 ... هذا العام فنقول عنة: إنة الأول على كلية الحقوق من يوم أن أنشئت. ويقول الحق بعد ذلك: {قُلْ أَغَيْرَ الله ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4024 معنى الرب هو الذي تولى التربية، وله السيادة، وكل شيء في الوجود مربوب لله، فكيف أخذ شيئا من الأشياء التي هو ربها ليكون شريكا له؟!! إن ذلك لا يصح أبدآ. {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً ... } وهذا إنكار يأتي في صورة استفهام من كل سامع. وكأن الحق يقول لكل منا: أعرض هذا على ذهنك عرضاً غير متحيّز، وأنا سأئتمنك على الجواب. ولا تقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4024 ذلك إلا وقد تأكد أن الجواب يكون: لا، فلو كان الجواب يحتمل هذه أو تلك لما آمنك على الجواب. وكأنه يقول: إن أي عاقل يجيب على هذا السؤال سيوافقني في أنه لا ينبغي أن يتخذ غير الله ربًّا. {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ... } [الأنعام: 164] و «أبغى» أي أطلب، و «تكسب» مأخوذة من مادة «كسب» و «اكتسب» ، و «كسب» دائماً تأتي في الخير - كما علمنا من قبل -، و «اكتسب» تأتي في الشر. لكنْ هناك أناس يعتادون على فعل السيئات ولم تعد تكلفهم شيئاً، فكأنها لسهولة ذلك عليهم تعتبر كسباً. ومن الحمق أن تقول هذا كسب، وهو عليك وليس لك؛ لأنك حين تنظر إلى التسمية نفسها تفهم أنها ليست رصيداً لك بل عليك. {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ... } [الأنعام: 164] والوزر هو الحمل الشاق، وإن اشتق منه شيء فإن المشقة والصعوبة تلازمه؛ ككلمة «وزير» ، والحق هو القائل: {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي} [طه: 29 - 31] كأن موسى عليه السلام عرف أن حمل الرسالة إلى اليهود عملية شاقة فقال لله: أعطني أخي يساعدني في هذه المشقة. والحق هو القائل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 1 - 3] وكان النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في أول استقباله للوحي قد عانى من وقع هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4025 العملية وكان أمرها شاقاً عليه؛ لأن المسألة تقتضي التقاءات مَلَكية ببشرية، ولابد أن يحدث تفاعل، وهذا التفاعل الذي كان يظهر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيحمر وجهه، ويتصبب منه العرق، وبعد ذلك يقول: زملوني زملوني ودثروني، وإن كان قاعداً وركبته على ركبة أحد بجانبه فيشعر جاره بالثقل، وإن كان على دابة تئط وتئن تعباً، لأن التقاء الوحي برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحتاج إلى أمرين: إما أن يتحول الوحي وهو حامل الرسالة إلى بشرية مماثلة لبشرية الرسول، وإما أن الرسول ينتقل إلى ملائكية تتناسب مع استقباله للملك. وهكذا كان التقاؤه بالملكية يتطلب انفعالاً وتفاعلاً. لكن لما أنس صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالوحي عرف حلاوة استقباله نسي المتاعب، ولذلك عندما فتر الوحي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اشتاق إليه. وكان الوحي من قبل ذلك يتعبه، ويجهده، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبقى في نفسه حلاوة ما أوحي به إليه، وتهدأ نفسه وترتاح ويشتاق إلى الوحي، فإذا ما استقبل الوحي بشوق فلن يتذكر المتاعب. { ... وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام: 164] إذن مادة الوزر هي الثقل بمشقة، أي لا يحمل إنسان مشقة ثقيلة عن آخر؛ فالمسئولية لا تتعدى إلا إذا تعدى الفعل، وعرفنا من قبل الفارق بين من ضل في ذاته، ومن أضل غيره ليحمل أوزاره مع أوزارهم لتعديه بإضلالهم. وسنعود جميعاً إلى ربنا لينبئنا بما كنا فيه نختلف. ويقول جل وعلا بعد ذلك: {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4026 وهناك قول كريم في آية أخرى: {هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض ... } [فاطر: 39] وهنا يقول الحق: {جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ} . ومعنى «خليفة» أي الذي يخلف غيره؛ فإما أن يخلفه زماناً، وإما أن يخلفه مكاناً. وخلفه الزمان أن يأتي عصره بعد عصره، ويومه بعد يومه، وخلفة المكان أي أن يكون جالساً ثم يرحل ليأتي آخر ليستقر مكانه، وانظر إلى كل قواعد الحياة بالنسبة للإِنسان تجده في شبابه قويًّا، ثم يرحل عنه الشباب ليأخذه آخره، ويذهب إلى الشيخوخة. وكذلك نجد إنساناً يملك مكاناً ثم يتركه ويأتي واحد آخر يملكه. أو أن الحق سبحانه وتعالى أراد من الخلافة، لا خلافة بعضنا لبعض ولكن خلافة الإِنسان لرب الإِنسان في الأرض؛ لأن كل شيء منفعل لله قهراً، والحق سبحانه وتعالى منح بسعة عطائه؛ فجعل بعض الأشياء تنفعل لبعضها هبةً منه سبحانه، فإذا أوقدت النار - على سبيل المثال - تنفعل لك، وإذا حرثت في الأرض ووضعت فيها البذور تنفعل لك، وإذا شربت ترتوي، وإذا أكلت تشبع. من أين أخذت كل ذلك؟ . إنك قد أخذته من أن الحق الذي سخّر لك ما في الكون، وجعل أسباباً ومسببات، فكأنك أنت خليفة إرادات؛ لكي يثبت لنا سبحانه أنه يفعل ما يريد، فعلينا أن نأخذ هذه القضية قضية مسلمة، وإن أردت أن تختبر ذلك فانظر إلى أي إنسان ولو كان كافراً ويريد أن يقوم من مكانه، وتنفعل له جوارحه فيقوم، فأي جارحة أمرها أن تفعل ذلك؟ . إنه لا يعرف إلا أنه بمجرد أنه أراد أن يقوم قد قام. وحتى لا تفهم أنك أخذت كل ذلك بشطارتك فهو يجعل بعضاً من الأمور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4027 مشاعاً عالمياً، مثل الموت والحياة إنهما أمران، لا يختلف فيهما الإنجليزي عن الفرنسي، عن العربي، وكذلك الضحك والبكاء، وهل هناك فرق بين ضحكة إنجليزية، أو ضحكة شيوعية أو ضحكة رأسمالية؟ . طبعاً لا، فكلها ضحك وهو لغة عالمية، ولذلك قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] وسبحانه جاء بأمر مشترك موجود في الناس كلها، فأنت تتكلم وتعمل على الصورة والكيفية التي تريدها، لكنك ساعة تضحك فهو سبحانه الذي يضحك. وأنت حين تود مجاملة أحد وتضحك له فتفاجأ بأن ضحكتك صناعية. والحق يوضح لك: إن زمام كوني في يدي، أجعل القوم مختارين في أشياء، وأجعلهم مرغمين ومتحدين على رغم أنوفهم في أشياء؛ فأنا الذي أضحك وأبكي. ولا يوجد بكاء إنجليزي أو بكاء فرنساوي أو بكاء ألماني، وكل البشر شركاء في مثل هذه الأمور. {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض ... } [الأنعام: 165] إن إرادتك على أبعاضك، وعلى جوارحك - أيها الإنسان - موهوبة لك من الواهب الأعلى والمريد الأعلى، وسبحانه يسلب ذلك من بعض الأفراد، فيأمر المخ: إياك أن ترسل إشارة لتلك الجارحة لتنفعل. فيصاب هذا الإنسان بالشلل. ولو كان الأمر شطارة من الإنسان لقاوم ذلك. أنتم - إذن - خلائف الأرض؛ تنفعل لكم الأشياء بقدر ما أراد الله أن تنفعل لكم، فإذا سلب انفعلها عنكم فلكي يثبت أنكم لم تسخروها بقدراتكم، بل به هو، إن شاء أطلق الخلافة، وإن شاء قيد الخلافة، وإن شاء قيد الخلافة. {رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4028 كأن من الخلافة أننا لا نكون متماثلين متطابقين، بل أراد سبحانه أن نكون متكاملين في المواهب، وفي الكماليات؛ لأن الناس لو كانوا صورة مكررة في المواهب، لفسدت الحياة، فلابد أن تختلف مواهبنا، لأن مطلوبات الحياة متعددة، فلو أصبحنا كلنا أطباء فالأمر لا يصلح، ولو كنا قضاة لفسد الأمر، وكذلك لو كنا مهندسين أو فلاحين. إذن فلابد من أن تتحقق إرادة الله في قوله سبحانه: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ... } [الأنعام: 165] أي أن البعض قد رُفِعَ، والبعض الآخر رُفِعَ عليه، فمن هو البعض المرفوع؟ ومن هو البعض المرفوع عليه؟ . إن كل واحد فيكم مرفوع في جهة مواهبه، ومرفوع عليه فيما لا مواهب له فيه؛ لأن الحق يريد أن يتكاتف المخلوقون، ولا ينشأ التكاتف تفضلاً، وإنما ينشأ لحاجة، فلابد أن تكون إدارة المصالح في الكون اضطراراً، وهذه هي هندسة المكون الأعلى سبحانه التي تتجلى في أنك وضعت خريطة لمن دخلوا معك في مرحلة التعليم الابتدائي. ومن ترك منهم الدراسة ومن استمر ليدخل الدراسة الإعدادية. إنك تجدهم أقل، ومن درس في المرحلة الثانوية أقل، ومن تعلم التعليم العالي أقل، ومن نال الدكتوراه أقل. وهكذا نجد أن البعض يتساقط من التعليم لأن هناك أكثر من مهمة في الكون لا تحتاج إلا إلى حامل الابتدائية فقط، أو حامل الإعدادية، أو إلى حامل شهادة إتمام الدراسة الثانوية، ولو ظل كل واحد منهم في التعليم العالي، فلن نجد لتلك المهام أحداً. لذلك جعل الله التكاتف في الكون احتياجاً لا تفضلاً. والحظوا جيداً: أن الإنسان إذا عضّه جوع بطنه أو جوع عياله فهو يقبل أي عمل، وإن رضي بقدر الله فيما وضعه فيه، ولم يحقد على سواه فسيتقن هذا العمل، وسيتفوق فيه وسيرزقه الله الرزق الحلال الطيب. ولذلك قال الإمام علي: قيمة كل امرئ ما يحسنه، فإن أحسن الإنسان عمله، فهو إنسان ناجح في الوجود. وهكذا أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يجلنا أشخاصاً مكررين، ولكن جعلنا متفاضلين متفاوتين، فرفع بعضاً على بعض، وكل منا مرفوع فيما يجيد، ومرفوع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4029 عليه فيما لا يجيد، حتى يحتاج الإنسان منا إلى غيره ليؤدي له العمل الذي لا يجيده وبذلك يرتبط العالم ارتباط مصلحة وحاجة لا ارتباط تفضل. {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ. . .} [الأنعام: 165] كأن هذا الرفع هو اختبار للبشر فيما أعطاهم الله من الواهب. ليعلم علم الإلزام للعبد؛ فسبحانه يعلم أزلاً كل ما يصدر عن العبد، ولكنه يترك للعبد فرصة أن يؤدي العمل ليكون ملتزماً بم فعل. وتكون حجة على العبد. وحينما يقول الحق: {لِّيَبْلُوَكُمْ} فالمقصود ليختبركم اختبار إقرار على نفوسكم، لا إخباراً له. { ... لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 165] وسبحانه «سريع العقاب» ، وإياك أن تستبطئ الآخرة، فالثواب والعقاب سيأتي بعد أن ننتهي ونموت. وليس الموت سبب؛ فكل إنسان عرضة لأن يموت، وبذلك تكون قيامته قد قامت، وإن قامت قيامة الإنسان فلن يقوم بأي عمل آخر. إذن فسبحانه سريع العقاب. ولكن البعض من القوم يغريهم حلم الله ويستبطئون الآخرة. لذلك يقول أحد العارفين: اجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه. إذن فكل صفة من صفات الحق يتجلى ويظهر أثرها في المخلوق هبة من الله له، فأنت إذا أردت أن تقف، مثلاً، لا تعرف ما هي العضلات التي تحركها لتقف، ولكنك بمجرد إرادتك ان تقف تقف، وذلك مظهر لإرادة الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. وما دمنا خلائف فلابد أن نتكامل ولا نتكرر، بمعنى أن كل واحد فيه موهبة تنقص من الآخر، وفي الأخر موهبة تنقص في غيره، ليضطر كل مخلوق في الأرض أن يتعاون مع آخر، ليأخذ ثمرة مواهب غيره، ويعطي هو ثمرة مواهبه. ولا يريد الحق منا أن نعطي ثمرات المواهب تفضلاً، وإنما يريد أن يجعلها حاجة. فأنت تحتاج إلى موهبة من لا موهبة لك فيه، إنك تحتاج إلى الغير، وهو كذلك أيضاً يحتاج إلى عملك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4030 وحين يستخلفنا الله تبارك وتعالى بهذه الصورة فبعضنا في ظاهر الأمر يكون أعلى من بعض، لذلك يوضح سبحانه: أنا فضلت بعضكم على بعض، لكني لم أفضل طائفة لأجعل طائفة مفضولاً عليها، ولكن كلْ مفضل في شيء لأن له فيه مواهب، ويكون مفضلا عليه في شيء آخر لا مواهب له فيه، وهكذا يتساوى الناس جميعا. إننا جميعاً عيال الله، وليس أحد منا أولى بالله من أحد؛ لأنه سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً؛ ولذلك إن حاولنا إحصاء المواهب في البشر وتوزيعها على الخلق جميعاً لوجدنا أن مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان آخر، ولكن أنت تأخذ في موهبة ما تفوقاً، وفي الموهبة الأخرى لا تجد نفسك قادراً عليها، وفي موهبة ثالثة قد تقدر عليها لكنك لا تحبها، واجمع الدرجات كلها في جميع المواهب ستجد أن كل إنسان يساوي الآخر، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب ... } [الأنعام: 165] إذن فكل واحد منا يقدر أن يقول: أنا مرفوع، ولكن عليه ألاّ يغتر؛ لأنه مرفوع عليه أيضاً. والتوازن يأتي من هذه الناحية، فلا غرور برفعتك في درجة، ولا مذلة بانخفاضك في درجة؛ لأن هذا مراد الله وذلك مراد له - سبحانه - والذي يحترم قدر الله في توزيع مواهبه على الخلق يعطيه الله خير موهبته، فلا يتميز ذو موهبة أخرى عليه أبداً. ولكن أينجح الناس جميعاً في هذا؟ . لا، فهناك أناس يتساقطون، وهناك من يرى واحداً أغنى منه وهو فقير، فيبدأ في الغل والحقد والحسد، ونقول له: انظر إلى قوتك فقد تكون أقوى منه، وقد تكون أسعد منه في أمور كثيرة. خذ الموهبة التي أعطاها الله لك، والموهبة التي أعطاها لغيرك وستجد مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان، فالذي ينجح في هذه المعادلات التفاضلية يكون له من الله ثواب. فيتجاوز له سبحانه عن بعض سيئاته، ويغفر له. والذي لا يحترم قدر الله في خلق الله يعاقبه الله؛ لذلك أوضح سبحانه: أنا أبلوكم وأختبركم، فمن ينجح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4031 فله غفران ورحمة، ومن لا ينجح فله عقاب، ولا تظنوا أن عقابي بعيد؛ لأن ما بين الإنسان والعقاب أن يموت، وليس هناك سبب معروف للموت؛ فمن الممكن أن يموت الإنسان لوقته، فيبدأ عقابه. { ... إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الانعام: 165] وبذلك ختمت سورة الأنعام، التي استهلها الله بقوله سبحانه: {الحمد للَّهِ} . وختمها بقوله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} . فالحمد لله في الأولى. والحمد لله في الآخرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4032 قبل أن نبدأ خواطرنا في سورة الأعراف لابد أن نلاحظ ملاحظة دقيقة في كتاب الله، الله يقول: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الانعام: 165] ونقرأ الكلمة الأخيرة في سورة الأنعام {رَّحيِمٌ} ، ونجدها مبنية على الوصل؛ لأن آيات القرآن كلها موصولة، وإن كانت توجد فواصل آيات، إلا أنها مبنية على الوصل، ولذلك تجد {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعليها الضمة وبجوارها ميم صغيرة؛ لأن التنوين إذا جاء بعده باء، يقلب التنوين ميماً، فالميم الصغيرة موجودة على رحيم، قبل أن تقرأ {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} ، وتصبح القراءة: «غفور رحيم» «بسم الله» . وكل آيات القرآن تجدها مبنية على الوصل، فكأن القرآن ليس أبعاضاً. وكان من الممكن أن يجعلها سكوناً، وأن يجعل كل آية لها وقف، لا، إنّه سبحانه أراد القرآن موصولاً، وإن كان في بعض الآيات إقلاب، وفي بعضها إدغام، وهذا بغُنَّة، وهذا بغير غُنَّة، ويقول الحق: بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ {المص} وفي هذه الآية فصل بين كل حرف، فنقرأها: «ألف» ثم نسكت لنقرأ «لام» ثم نسكت لنقرأ «ميم» ثم نسكت لنقرأ «صاد» . وهنا حروف خرقت القاعدة لحكمة؛ لأن هذه حروف مقطعة، مثل «الم، حم، طه، يس، ص، ق، وكلها مبنية على السكون مما يدل على أن هذه الحروف وإن الحروف وإن خيل لك أنها كلمة واحدة، لكن لكل حرف منها معنى مستقل عند الله، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4035 من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن أَلِفٌ حرف، ولامٌ حرف، وَمِيمٌ حرف «. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشار إلى أن هذه الحروف بها أمور استقلالية، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت لها فائدة يحسن السكوت والوقوف عليها، فهمها من فهمها، وتعبد بها من تعبد بها، وكل قارئ للقرآن يأخذ ثوابه بكل حرف، فلو أن قارئاً قال:» أعوذ بالله من الشيطان الرجيم «ونطق بعد ذلك بحرف أو بأكثر، فهو قد أخذ بكل حرف حسنة، وحين نقرأ بعضاً من فواتح السور، نجد أن سورة البقرة تبدأ بقوله الحق: {الم} [البقرة: 1] ونقرأ هنا في أول سورة الأعراف: {المص} [الأعراف: 1] وهي حروف مقطعة. نطقت بالإِسكان، وبالفصل بين كل حرف وحرف. ويلاحظ فيها أيضاً أنها لم تقرأ مسميات، وإنما قُرئت أسماء، ما معنى مسميات؟ وما معنى أسماء؟ . أنت حين تقول: كتب، لا تقول» كاف «» تاء «» باء «، بل تنطق مسمى الكاف كَ، واسمها كاف مفتوحة، أما مسماها فهو» كَ «. إذن فكل حرف له مسمى، أي الصوت الذي يقوله الإِنسان، وله اسم، والأمي ينطق المسميات، وإن لم يعرف أسماءها. أما المتعلم فهو وحده الذي يفهم أنه حين يقول: «كتب» أنها مكونة من كاف مفتوحة، وتاء مفتوحة، وباء مفتوحة، أما الأمي فهو لا يعرف هذا التفصيل. وإذا كان رسول الله قد تلقى ذلك وقال: ألف لام ميم، وهو أمي لم يتعلم. فمن قال له انطق مسميات الحروف بهذه الأسماء؟ . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4036 لابد أنه قد عُلَّمَهَا وتلقاها، والحق هو القائل: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] فالذي سوف تسمعه يا محمد ستقرأه، ولذلك تجد عجائب؛ فأنت تجد «ألم» في أول البقرة، وفي أول سورة آل عمران، ولكنك تقرأ الآية الأولى من سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] ما الفرق بين الألف واللام والميم في أول سورة البقرة، وسورة آل عمران وغيرهما، والحروف نفسها في أول سورة الفيل وغيرها كسورة الشَّرْح؟ أنت تقرأها في أول سورة البقرة وآل عمران أسماء. وتقرأها في أول سورة الفيل مسميات. والذي جعلك تفرق بين هذه وتلك أنك سمعتها تقرأ في أول البقرة وآل عمران هكذا، وسمعتها تقرأ في أول سورة الفيل هكذا. إذن فالقراءة توقيف، وليس لأحد أن يجترئ ليقرأ القرآن دون سماع من معلم. لا، لابد أن يسمعه أولاً حتى يعرف كيف يقرأ. ونقرأ {المص} في أول سورة الأعراف، وهي حروف مقطعة، ونعرف أن الحروف المقطعة ثمانية وعشرون حرفاً، ونجد نصفها أربعة عشر حرفاً في فواتح السور، وقد يوجد منها في أول السورة حرف واحد مثل: {ق والقرآن المجيد} [ق: 1] وكذلك قوله الحق: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] وكذلك قوله الحق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4037 {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] ومرة يأتي من الحروف المقطعة اثنان، مثل قوله الحق: {حم} [الأحقاف: 1] ومرة تأتي ثلاثة حروف مقطعة مثل: {الم} [البقرة: 1] ومرة يأتي الحق بأربعة حروف مقطعة مثل قوله الحق: {المص} [الأعراف: 1] ومرة يأتي بخمسة حروف مقطعة مثل قوله الحق: {كهيعص} [مريم: 1] وإذا نظرت إلى الأربعة عشر حرفاً وجدتها تمثل نصف الحروف الأبجدية، وهذا النصف فيه نصف أحكام الحروف، فبعضها منشور، أو مهموس، أو مخفي، أو مستعلٍ، ومن كل نوع تجد النصف، مما يدل على أنها موضوعة بحساب دقيق، ومع أن توصيف الحروف، من مستعل، أو مفخم، أو مرقق، أو منشور، أو مهموس، هذا التوصيف جاء متأخراً عن نزول القرآن، ولكن الذي قاله يعلم ما ينتهي إليه خلقه في هذه الحروف المقطعة وله في ذلك حكمة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أميَّا، ولم يجلس إلى معلم، فكيف نطق بأسماء الحروف، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا من تعلم؟! فهو إذن قد تلقنها، وإننا نعلم أن القرآن جاء متحديَّا العرب؛ ليكون معجزة لسيد الخلق، ولا يُتَحَدَّى إلا من كان بارعاً في هذه الصنعة. وكان العرب مشهورين بالبلاغة، والخطابة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4038 والشعر، والسجع وبالأمثال؛ فهم أمة كلام، وفصاحة، وبلاغة، فجاء لهم القرآن من جنس نبوغهم، وحين يتحدى الله العرب بأنه أرسل قرآناً لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فالمادة الخام - وهي اللغة - واحدة، ومن حروف اللغة نفسها التي برع العرب فيها. وبالكلمات نفسها التي يستعملونها، لكنهم عجزوا أن يأتوا بمثله؛ لأنه جاء من رب قادر، وكلام العرب وبلاغتهم هي من صنعة الإنسان المخلوق العاجز. وهكذا نعلم سر الحروف المقطعة التي جاءت لتثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلقى القرآن من الملأ الأعلى لأنه أمي لم يتعلم شيئاً، لكنه عرف أسماء الحروف، ومعرفة أسماء الحروف لا يعرفها - كما قلت - إلا المتعلم، وقد علمه الذي علم بالقلم وعلم الإنسان ما لم يعلم، ويمكن للعقل البشري أن يحوم حول هذه الآيات، وفي هذه الحروف معان كثيرة، ونجد أن الكثير من المفكرين والمتدبرين لكلام الله وجدوا في مجال جلال وجمال القرآن الكثير، فتجد متصوفاً يقول إن «المص» جاءت هنا لحكمة، فأنت تنطق أو كلمة ألف وهي الهمزة من الحلق، واللام تنطقها من اللسان، والميم تنطقها من الشفة، وبذلك تستوعب مخارج الحروف من الحلق واللسان والشفة. قال المتصوف ذلك ليدلك على أن هذه السورة تتكلم في أمور الحياة بدءاً للخلق من آدم. إشارة إلى أولية خلق الإنسان، ووسطاً وهو المعاش، ونهاية وهو الموت والحساب ثم الحياة في الدار الأخرة، وجاءت «الصاد» لأن في هذه السورة قصص أغلب الأنبياء. هكذا جال هذا المتصوف جولة وطلع بها، أنردها عليه؟ لا نردها بطبيعة الحال، ولكن نقول له: أذلك هو كل علم الله فيها؟ . لا؛ لأن علينا أن نتعرف على المعاني التي فيها وأن نأخذها على قدر بشريتنا، ولكن إذا قرأناها على قدر مراد الله فيها فلن نستوعب كل آفاق مرادات الله؛ لأن أفهامنا قاصرة. ونحن البشر نضع كلمات لا معنى لها لكي تدل على أشياء تخدم الحياة، فمثلا نجد في الجيوش من يضع «كلمة سر» لكل معسكر فلا يدخل إلا من يعرف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4039 الكلمة. من يعرف «كلمة السر» يمكنه أن يدخل. وكل كلمة سر لها معنى عند واضعها، وقد يكون ثمنها الحياة عند من يقترب من معسكر الجيش ولا يعرفها. {المص} [الأعراف: 1] ونجد بعد هذه الحروف المقطعة حديثاً عن الكتاب، فيقول سبحانه: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4040 وساعة تسمع «أنزل» فافهم أنه جاء من جهة العلو أي أن التشريع من أعلى. وقال بعض العلماء: وهل يوجد في صدر رسول الله حرج؟ . لننتبه أنه ساعة يأتي أمر من ربنا ويوضح فيه {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} ، فالنهي ليس لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما النهي للحرج أو الضيق أن يدخل لرسول الله، وكأنه سبحانه يقول: يا حرج لا تنزل قلب محمد. لكن بعض العلماء قال: لقد جاء الحق بقوله سبحانه: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} ؛ لأن الحق يعلم أم محمداً قد يضيق صدره ببشريته، ويحزن؛ لأنهم يقولون عليه ساحر، وكذاب، ومجنون وإذا ما جاء خصمك وقال فيك أوصافاً أنت أعلم منه بعدم وجودها فيك فهو الكاذب؛ لأنك لم تكذب ولم تسحر، وتريد هداية القوم، وقوله سبحانه: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} قد جاء لأمر من اثنين: إما أن يكون الأمر للحرج ألا يسكن صدر رسول الله، وإما أن يكون الأمر للرسول طمأنة له وتسكينا، أي لا تتضايق لأنه أنزل إليك من إله، وهل ينزل الله عليك قرآناً ليصبح منهج خلقه وصراطاً مستقيماً لهم، ثم يسلمك إلى سفاهة هؤلاء؟ لا، لا يمكن، فاطمئن تماماً. { ... فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4040 والإِنذار لا يكون إلا لمخالف؛ لأن الإِنذار يكون إخباراً بشر ينتظر من تخاطبه. وهو أيضاً تذكير للمؤمنين مثلما قال من قبل في سورة البقرة: { ... هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} وهنا نلاحظ ان الرسالات تقتضي مُرْسِلاً أعلى وهو الله، ومُرَسَلاً وهو الرسول، ومُرْسَلاً إليه وهم الأمة، والمرسَل إليه إما أن يستمع ويهتدي وإما لا، وجاءت الآية لتقول: {كِتَابٌ أُنزِلَ} من الله وهو المرسِل، و «إليك» لأنك رسول والمرسَل إليهم هم الأمة، إما أن تنذرهم إن خالفوا وإما أن تذكرهم وتهديهم وتعينهم أو تبشرهم إن كانوا مؤمنين. ويقول الحق بعد ذلك: {اتبعوا مَآ أُنزِلَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4041 وما دام العباد سينقسمون أمام صاحب الرسالة والكتاب الذي جاء به إلى من يقبل الهداية، ومن يحتاج إلى النذارة لذلك يقول لهم: {اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 3] وينهاهم عن الشرك وعدم الاستهداء أي طلب الهداية فيقول: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وحينما يأتي الحق سبحانه في مثل هذه الآيات ويقول: «وذكرى» . أو «وذكِّر» إنما يلفتنا إلى أن الفطرة المطبوع عليها الإِنسان مؤمنة، والرسالات كلها لم تأت لتنشئ إيماناً جديداً، وإنما جاءت لتذكر بالعهد الذي أخذ علينا أيام كنا في عالم الذر، وقبل أن يكون لنا شهوة اختيار: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4041 {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ ... } [الأعراف: 172] هذا هو الإقرار في عالم الذر، إذن فحين يقول الحق: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} فنحن نلتفت إلى ما نسي الآباء أن يبلغوه للأبناء؛ فالآباء يعلمون الأبناء متطلبات حياتهم، وكان من الواجب أن يعلموهم مع ذلك قيم هذه الحياة التي تلقوها؛ لأن آدم وحواء ما نزلا إلى الأرض قال لهما الحق: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ ... } [طه: 123] وهكذا نعلم أن هناك «هدى» قد نزل على آدم، وكان من الواجب على آدم أن يعلمه للأبناء، ويعلمه الأبناء للأحفاد، وكان يجب أن يظل هذا «الهدى» منقولاً في سلسلة الحياة كما وصلت كل أقضية الحياة. ويأتي سبحانه لنا بحيثيات الاتباع. {اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ ... } [الأعراف: 3] فالمنهج الذي يأتي من الرب الأعلى هو الذي يصلح الحياة، ولا غضاضة على أحد منكم في أن يتبع ما أنزل إليه من الإله المربي القادر. الذي ربّى، وخلق من عدم، وأمد من عدم، وهو المتولي للتربية، ولا يمكن أن يربي أجسادنا بالطعام والشراب والهواء ولا يربي قيمنا بالأخلاق. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} . ومادام قد أوضح: اتبعوا ما أنزل إليكم من أعلى، فلا يصح أن تأتي لمن دونه وتأخذ منه، مثلما يفعل العالم الآن حين يأخذ قوانينه من دون الله ومن هوى البشر. فها يحب الرأسمالية فيفرضها بالسيف، وآخر يحب الاشتراكية فيفرضها البشر. بالسيف. وكل واحد يفرض بسيفه القوانين التي تلائمه. وكلها دون منهج الله لأنها أفكار بشر، وتتصادم بأفكار بشر، والأولى من هذا وذاك أن نأخذ مما لا نستنكف أن نكون عبيداً له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4042 { ... وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وتذكر أيها المؤمن أن عزتك في اتباع منهج الله تتجلّى في أنك لا تخضع لمساوٍ لك، وهذه ميزة الدين الذي يجعل الإنسان يحيا في الكون وكرامته محفوظةً، وإن جاءته مسألة فوق أسبابه يقابلها بالمتاح له من الأسباب مؤمناً بأن رب الأسباب سيقدم له العون، ويقدم الحق له العون فعلاً فيسجد لله شاكراً، أما الذي ليس له رب فساعة أن تأتي له مسألة فوق أسبابه تضيق حياته عليه وقد ينتحر. ثم بعد ذلك يبين الحق أن موكب الرسالات سائر من لدن آدم، وكلما طرأت الغفلة على البشر أرسل الله رسولاً ينبههم. ويوقظ القيم والمناعة الدينية التي توجد في الذات، بحيث إذا مالت الذات إلى شيء انحرافي تنبه الذات نفسها وتقول: لماذا فعلت هكذا؟ . وهذه هي النفس اللوامة. فإذا ما سكتت النفس اللوامة واستمرأ الإنسان الخطأ، وصارت نفسه أمارة بالسوء طوال الوقت؛ فالمجتمع الذي حوله يعدله. وهذه فائدة التواصي بالحق والصبر، فكل واحد يوصَّى في ظرف، ويوصِّي في ظرف آخر؛ فحين تضعف نفسه أمام شهوة يأتي شخص آخر لم يضعف في هذه الشهوة وينصح الإنسان، ويتبادل الإنسان النصح مع غيره، هذا هو معنى التواصي؛ فالوصية لا تأتي من جماعة تحترف توصية الناس، بل يكون كل إنسان موصياً فيما هو فيه قوي، ويوصي فيما هو فيه ضعيف، فإذا فسد المجتمع، تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة، ومنهج جديد، لكن الله أمن أمة محمد على هذا الأمر فلم يجيء رسول بعده لأننا خير أمة أخرجت للناس. والخيرية تتجلى في أننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فالتواصي باقٍ إلى أن تقوم الساعة. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر ... } [آل عمران: 110] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4043 وهذه خاصية لن تنتهي أبداً، فإن رأيت منكراً فلابد من خلية خير تنكره وتقول: لا، وإذا كان الحق قد جعل محمداً خاتم الرسل، فذلك شهادة لأمته أنها أصبحت مأمونة، وأن المناعة الذاتية فيها لا تمتنع وتنقطع، وكذلك لا تمتنع منها أبداً المناعة الاجتماعية فلن يأتي رسول بعد سيد الخلق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق بعد ذلك: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4044 وساعة تسمع «كم» فاعرف أن المسألة خرجت عن العد بحيث تستوجب أن تستفهم عنها، وهذا يدل على أمر كثير فوق العدد، لكن عندما يكون العدد قليلاً فلا يستفهم عنه، بل يعرف. والقرية اسم للمكان المعد إعداداً خاصاً لمعيشة الناس فيه. وهل القرى هي التي تهلك أم يهلك من فيها؟ . أوضح الحق أنها تأتي مرة ويراد منها المكان والمكين: أو يكون المراد بالقرية أهلها، مثال ذلك قوله الحق في سورة يوسف: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير ... } [يوسف: 82] وبطبيعة الحال لن يسأل إنسان المكان أو المباني، بل يسأل أهل القرية، ولم يقل الحق: اسأل أهل القرية؛ لأن المسئول عنه هو أمر بلغ من الصدق أن المكان يشهد مع المكين، ومرة أخرى يوضح الحق أنه يدمر القرية بسكانها ومبانيها. {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا} . وأيهما يأتي أولاً: الإهلاك أم يأتي البأس أولاً فيهلك؟ . الذي يأتي أولاً هو البأس فيهلك، فمظاهر الكونيات في الأحداث لا يأتي أمرها ارتجالاً، وإنما أمرها مسبق أزلاً، وكأن الحق يقول هنا: وكم من قرية حكمنا أن نهلكها فجاءها بأسنا ليتحقق ما قلناه أزلاً، أي أن تأتي الأحداث على وفق المرادات؛ حتى ولو كان هناك اختيار للذي يتكلم عنه الحق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4044 ونعلم أن القرية هي المكان، وعلى ذلك فليس لها اختيار. وإن كان لمن يتحدث عنه الله حق الاختيار، فسبحانه يعلم أزلاً أنه سيفعل ما يتحدث عنه سبحانه. ويأتي به في قرآن يتلى؛ ليأتي السلوك موافقاً ما أخبر به الله. {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] والبأس هو القوة التي ترد ولا تقهر، و «بيتاً» أي بالليل، {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} أي في القيلولة. ولماذا يأتي البأس في البيات أو في القيلولة؟ . ونجد في خبر عمّن أَهْلِكُوا مثل قوم لوط أنّه حدث لهم الهلاك بالليل، وقوم شعيب حدث لهم الهلاك في القيلولة، والبيات والقيلولة هما وقت الاسترخاء ووقت الراحة وتفاجئهم الأحداث فلا يستطيعون أن يستعدوا. {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين} [الصافات: 177] أي يأتيهم الدمار في وقت هم نائمون فيه، ولا قوة لهم لمواجهة البأس. { ... فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] وإذا قال سبحانه: {بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} فيصح أن لهذه القرية امتدادات، ووقت القيلولة عند جماعة يختلف عن وقت من يسكن امتداد القرية، فيكون الوقت عندهم ليلاً، والقيلولة هي الوقت الذي ينامون فيه ظهراً للاسترخاء والراحة. ولكن كيف استقبلوا ساعة مجيء البأس الذي سيهلكهم؟ . ويقول الحق سبحانه: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4045 بهذا القول اتضحت المسألة، ومن قوله {دَعْوَاهُمْ} نفهم أن المسألة ادعاء. ونحن نقول: فلان ادّعى دعوى على فلان، فإما أن يقيم بينة ليثبت دعواه، وإما ألاّ يقيم. والدعوى تطلق أيضاً على الدعاء: { ... وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 5] ويشرح ربنا هذا الأمر في آيات كثيرة، إنه اعتراف منهم باقترافهم الظلم وقيامهم عليه، فسبحانه القائل: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير فاعترفوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} [الملك: 10 - 11] ويقول الحق بعد ذلك: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4046 والحق يسأل الرسل بعد أن يجمعهم عن مدى تصديق أقوامهم لهم، والسؤال إنما يأتي للإِِقرار، ومسألة السؤال وردت في القرآن بأساليب ظاهر أمرها أنها متعارضة، والحقيقة أن جهاتها منفكة، وهذا ما جعل خصوم القرآن يدعون أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4046 القرآن فيه تضارب. فالحق سبحانه يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101] ويقول سبحانه أيضاً {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10] ويقول جل وعلا: { ... وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [القصص: 78] ويقول سبحانه وتعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39] ثم يقول هنا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6] وهذا ما يجعل بعض المستشرقين يندفعون إلى محاولة إظهار أن بالقرآن - والعياذ بالله - متناقضات. ونقول لكل منهم: أنت تأخذ القرآن بغير ملكة البيان في اللغة، ولو أنك نظرت إلى أن القرآن قد استقبله قوم لسانهم عربي، وهم باقون على كفرهم فلا يمكن أن يقال إنهم كانوا يجاملون، ولو أنهم وجدوا هذا التناقض، أما كانوا يستطيعون أن يردوا دعوى محمد فيقولوا: أيكون القرآن معجزا وهو متعارض؟! لكن الكفار لم يقولوها، مما يدل على أن ملكاتهم استقبلت القرآن بما يريده قائل القرآن. وفي أعرافنا نورد السؤال مرتين؛ فمرة يسأل التلميذ أستاذه ليعلم، ومرة يسأل الأستاذ تلميذه ليقرر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4047 إذن فالسؤال يأتي لشيئين اثنين: إما أن تسأل لتتعلم، وهذا هو الاستفهام، وإما أن تسأل لتقرر حتى تصبح الحجة ألزم للمسئول، فإذا كان الله سيسأله، أي يسأله سؤال إقرار ليكون أبلغ في الاحتجاج عليه، وبعد ذلك يقولون: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير فاعترفوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} [الملك: 10 - 11] وهذا اعتراف وإقرار منهم وهما سيدا الأدلة؛ لأن كلام المقابل إنما يكون شهادة، ولكن كلام المقر هو إقرار اعتراف. إذن إذا ورد إثبات السؤال فإنه سؤال التقرير من الله لتكون شهادة منهم على أنفسهم، وهذا دليل أبلغ للحجة وقطع للسبل على الإِنكار. فإما أن يقر الإِنسان، وإن لم يقر فستقول أبعاضه؛ لأن الإِرادة انفكت عنها، ولم يعد للإِنسان قهر عليها، مصداقاً لقوله الحق: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ... } [فصلت: 21] والحق هنا يقول: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} . وهو سؤال للإِقرار. قال الله عنه: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ... } [المائدة: 109] وحين يسأل الحق المرسلين، وهم قد أدوا رسالتهم فيكون ذلك تقريعاً للمرسَل إليهم. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4048 {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4049 أي سيخبرهم بكل ما عملوا في لحظة الحساب؛ لأنه سبحانه لم يغب يوماً عن أي من خلقه؛ لذلك قال: {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} ، ونعلم أن الخلق متكرر الذوات، متكرر الأحداث، متكرر المواقع، هم ذوات كثيرة، وكل ذات لها حدث، وكل ذات لها مكان. فإذا قال الحق للجميع: {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} أي أنه مع الجميع، ومادام ليس بغائب عن حدث، ولا عن فاعل حدث، ولا عن مكان حدث، وهؤلاء متعددون. إذن هو في كل زمان وفي كل مكان. وإن قلت كيف يكون هنا وهناك؟ أقول: خذ ذلك في إطار قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، ومثل هذه المعاني في الغيبيات لا يمكن أن تحكمها هذه الصور. والأمر سبق أن قلناه حين تحدثنا عن مجيء الله؛ فله طلاقة القدرة وليس كمثله شيء، وما كان غائباً في حدث أو مكان. ويقول الحق بعد ذلك: {والوزن يَوْمَئِذٍ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4049 في هذه الآيات نجد الحديث عن الوزن للأعمال، وهذا كله تأكيد للحجة عليهم؛ فالله لا يظلم أحداً، وفي وزن الأعمال إبطال للحجة من الذين يخافون النار، ولم يؤدوا حقوق الله في الدنيا، وكل ذلك ليؤكد الحجة، ويظهر الإنصاف ويقطع العذر، وهنا قول كريم يقول فيه الحق سبحانه: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة ... } [الأنبياء: 47] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4049 هذه الموازين هي عين العدل، وليست مجرد موازين عادلة، بل تبلغ دقة موازين اليوم الآخر أنها هي عدل في ذاتها. وهنا يقول الحق: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} . نعم، الميزان في هذا اليوم حق ودقيق، لنذكر انه قال من قبل: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] والميزان الحق هو الذي قامت عليه عدالة الكون كله، وكل شيء فيه موزون، وسبحانه هو الذي يضع المقادير على قدر الحكمة والإِتقان والدقة التي يؤدي بها كل كائن المطلوبَ منه، ولذلك يقوله سبحانه: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7] ولم نر السماء قذفت وألقت علينا أحداثاً غير متوقعة منها، فالكون له نظام دقيق. والوزن في يوم القيامة هو مطلق الحق، ففي هذا اليوم تبطل موازين الأرض التي كانت تعاني إما خللاً في الآلة التي يوزن بها، وإمّا خللاً في الوزن، وإمّا أن تتأثر بأحداث الكون، وما يجري فيه من تفاعلات، أما ميزان السماء فلا دخل لأحد به ولا يتأثر إلا بقيمة ما عمل الإِنسان، وساعة يقول سبحانه: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} . فكأن الميزان في الدنيا يمكن أن يحصل فيه خلل، وكذلك المِلْك أيضاً؛ لأنه سبحانه أعطى أسباباً للملك المناسب لكل إنسان، فهذا يملك كذا، والثاني يملك كذا، والثالث يملك كذا، وبعد ذلك يتصرف كل إنسان في هذا الملك إن عدلاً، وإن ظلماً على ضوء الاختيار. لكن حين يأتي اليوم الآخر فلا ملك لأحد: { ... لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] فالأمر حينئذ يكون كله لله وحده، فإن كان الملك في الدينا قد استخلف فيه الحق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4050 عباده، فهذه الولاية تنتهي في اليوم الآخر: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون} . وسبحانه هو القائل: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6 - 11] إذن فالميزان يثقل بالحسنات، ويخف بالسيئات، ونلحظ أن القسمة العقلية لإِيجاد ميزان ووزان وموزون تقتضي ثلاثة أشياء: أن تثقل كفة، وتخف الأخرى، أو أن يتساويا، ولكن هذه الحال غير موجودة هنا. ويتحدث الحق عن الذين تخف موازينهم فيقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4051 والسورة السابقة جاء فيها بالحالتين، وفي هذه السورة أيضاً جاء بالحالتين، ومن العجيب أن هذا الكلام عن الثقل والخفة وعدم وجود الحالة الثالثة وهي حالة تساوي الكفتين يأتي في أول سورة الأعراف، ولكنه - سبحانه يقول بعد ذلك في سورة الأعراف: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} . وهؤلاء هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد جعل لهم ربنا مكاناً يشبه عرف الفرس، وعرف الفرس يعتبر أعلى شيء فيه، فحينا يأتي شعر الفرس يميناً، وحينا يأتي شعر الفرس يساراً، وليس هناك جهة أولى بالشعر من الأخرى. وقد أعد الحق لأصحاب الأعراف مكاناً يسمعون فيه أصحاب النار وهم ينادون أصحاب الجنة، وأصحاب الجنة وهم ينادون أصحاب النار، وأصحاب الأعراف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4051 يجلسون؛ لا هم في الجنة ولا هم في النار، فهم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وبذلك صحت القسمة العقلية في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: 46] فلا الحسنات ثقلت ليدخلوا الجنة، ولا السيئات خفت ليدخلوا النار، فميزانهم تساوت فيه الكفتان. وقال بعض العلماء عن الميزان؛ إن هناك ميزاناً بالفعل. وقال البعض إن المراد بالميزان هو العدالة المطلقة التي أقامها العادل الأعلى، والأعجب أن الحق قال: إن هناك موازين، فهل لكل واحد ميزان أو لكل عمل من أعمال التكليفات ميزان: ميزان العقائد، وميزان الأحكام. . إلخ، وهل سيحاسبنا ربنا تباعاً. أو أن هناك موازين متعددة، بدليل أن سيدنا الإِمام عليًّا عندما سألوه: أيحاسب الله خلقه جميعاً في وقت واحد؟ فقال: وأي عجب في هذا؟ أليس هو رازقهم في وقت واحد؟ إذن فالميزان بالنسبة لله مسألة سهلة جدًّا. وهيّنة فسبحانه لا يتأبى عليه شيء. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: 9] نعم هم قد خسروا أنفسهم فكل منهم كان يأخذ شهوات ويرتكب سيئات يمتع بها نفسه، ويأتي اليوم الآخر ليجد نفسه قد خسر كل شيء، وكما يقول المثل العام: خسر الجلد والسقط. لماذا؟ تأتي الإِجابة من الحق: { ... بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} . ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4052 المُمَكَّن هو الذي يحتل المكان بدون زحزحة؛ فيقال مكّنتك من كذا. أي أعطيتك المكان ولا ينازعك أحد فيه. وقد مكننا سبحانه في الأرض وجعل لنا فيها وسائل استبقاء الحياة، وترف الحياة، وزينة الحياة، ورياش الحياة، ولم تبخل الأرض حين حرثناها، بل أخرجت لنا الزرع، ولم تغب الشمس عنا بضوئها وإشعاعها وحراراتها. ما في الدنيا يؤدي مهمته، ولم نُمكَّن في الأرض بقدراتنا بل بقدرة الله. وكان يجب ألا يغيب ذلك عن أنظارنا أبداً. فلا أحد منا مسيطر على الشمس أو القمر أو الريح أو الأرض، ولكن الذي خلقها وجعلها مسخرة، هو ربك وربها؛ فأنت مُمَكَّن، وكل شيء مستجيب لك. بتسخير الله له. {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] و «معايش» جمع معيشة، والمعيشة هي الحياة، فالعيش هو مقومات الحياة، ولذلك سموا الخبز في القرى عيشاً لأن عندهم دقة بالغة؛ لأنهم عرفوا أنه مقوّم أساسي في الحياة. وقول الحق: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} دل على أن هناك من يشكر، ومن الناس من يشكر نعم الله شكراً عاماً على مجموع النعم، أو يشكره شكراً خاصًّا عند كل نعمة، ومنهم من يشكر شكراً خاصًّا لا عند كل نعمة، ولكن عند جزئيات النعمة الواحدة، فعندما يبدأ في الأكل يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ويقول بعد الأكل: «الحمد لله» ؛ وهناك من يقول عند تناول لقمة واحدة: «بسم الله» وعندما يمضغها ويبلعها يقول: «الحمد لله» لأنها لم تقف في حلقه، وأيضاً حين نشرب علينا أن نشرب على ثلاث دفعات: أول دفعة نقول: «بسم الله» . وننتهي منها فنقول: «الحمد لله» وكذلك في الدفعة الثانية والدفعة الثالثة. ومن يفعل ذلك فلا تتأتَّى منه معصية، مادامت آثار شربة الماء هذه في جسمه؛ لأنها كلها «بسم الله» . فتحرسه من الخطيئة؛ لأن النعمة الواحدة لو استقصيتها لوجدت فيها نعما كثيرة. وأنتم حين لا تشكرون إنما تضيقون عليكم أبواب النعم من الله؛ لأنكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4053 لو شكرتموه على النعم لزادت النعم عليكم، {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} ومن الحمق ألا نشكر. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4054 ومسألة الخلق سبق أن تقدمت في سورة البقرة: خلق آدم، والشيطان، والقضية تتوزع على سبع سور، في سبعة مواضع موجودة في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة الحج، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه، وسورة ص، إلا أن القصة في في كل موضع لها لقطات متعددة، فهنا لقطة، وهناك لقطة ثانية، وتلك لقطة ثالثة، وهكذا؛ لأن هذه نعمة لابد أن يكررها الله؛ لتستقر في أذهان عباده، ولو أنه ذكرها مرة واحدة فقد تُنسى، لذلك يعيد الله التذكير بها أكثر من مرة. وإذا أراد الله استحضار النعم والتنبيه عليها في أشياء، فهو يكررها كما كررها في استحضار النعم في سورة واحدة في قوله سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . إنه يذكر هذه النعم من بدايتها، فيقول: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4054 وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 14 - 28] وكل نعمة يقول بعدها: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وأراد سبحانه بذلك أن يكثر ويردد تكرارها على الآذان لتستقر في القلوب حتى في الآذان الصماء؛ فمرة يأتي بها في شيء ظاهره أنه ليس نعمة، مثل قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35 - 36] وجاء الحق بذكر كل ذلك؛ لأنه ساعة يجلي لنا الأمور على حقائقها ونحن في دار التكليف فهذه رحمة ونعمة منه علينا؛ لأن ذلك يدعونا إلى اتقاء المحظورات والبعد والتنحي عن المخالفات. ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فحين يدخل الابن إلى المدرسة نقول له: إن قصرت في كذا فسوف ترسب، وأنت بهذا القول ترحمه بالنصيحة، فلم تتركه دون أن تبصره بعواقب الأمور، وأيضا ساعة ترى شراً يحيق بالكافرين، فإن هذا الأمر يسرك، لأنه لو تساوى الكافرون مع المؤمنين لما كان للإيمان فضل أو ميزة، فالعذاب نقمة على الكافر، ونعمة على المقابل وهو المؤمن. وقد جاءت قصة خلق آدم بكل جوانبها في القرآن سبع مرات؛ لأنها قصة بدء الخلق، وهي التي تجيب عن السؤال الذي يبحث عن إجابته الإنسان؛ لأنه تلفت ليجد نفسه في كون معد له على أحسن ما يكون. ولم يجيء الكون من بعد الإنسان، بل طرأ الإنسان على الكون، وظل السؤال وارداً عن كيفية الخلق، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4055 والسؤال مهم أهمية وجود الإنسان في الكون، فأنت تستقرئ أجناساً في الكون، وكل جنس له مهمة، ومهمته متعلقة بك، جماد له مهمة، ونبات له مهمة، وحيوان له مهمة، وكلها تصب في خدمتك أنت؛ لأن الجماد ينفع النبات، ويتغذى منه لكي يغذي الحيوان، والحيوان ينفعك ويغذيك، إذن فكل الأجناس تصب في خدمتك. أمّا أنت أيها الإِنسان فما عملك في هذا الكون؟؛ لذلك كان لابد أن يتعرف الإِنسان على مهمته. وأراد الحق سبحانه أن يُعرِّف الإِنسان مهمته؛ لأنه جل وعلا هو الصانع، وحين يبحث الإِنسان عن صانعه تتجلى له قدرة الله في كل ما صنع. وكان لابد أيضاً أن يستقبل الإِنسان خبراً من الخالق. إنه - سبحانه - يُنزل لنا المنهج من السماء ويصاحب هذا المنهج معجزة على يد رسول، وأنزل الحق عليه المنهج وأوكل له مهمة البلاغ. فالرسول يخبر، ثم نستدل بالمعجزة على صدق خبره. فكان من اللازم أن نصدق الرسول، لأنه قادم بآية ومعجزة من الله. والرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ جاء بالرسالة في سن الأربعين ومعه المنهج المعجزة، وأبلغنا أنه رسول من الله. وكان لابد أن نبحث لنتثبت من صدق البلاغ عن الله بالتعقل في دعواه؛ فهذا الرسول جاء بعد أربعين سنة من ميلاده ومعه معجزة من جنس ما نبغ فيه قومه، وليس من جنس ما نبغ فيه هو، إن معجزته ليست من عنده، بل هي من عند الله؛ لأن الرسول جاء بالمعجزة بعد أربعين سنة من ميلاده، ومن غير المعقول أن تتفجر عبقرية بعد أربعين سنة من الميلاد؛ لأننا نعلم أن العبقريات تأتي في آخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث من عمر الإِنسان، ونلتفت فنجده يتكلم كل الكلام البلاغي المعجز. وليس من المعقول ان يأتي بأخبار الكون وهو الأمي الذي مات أبوه وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو في السادسة، وكذلك مات جده. ورأى الناس يتساقطون من حوله، فمن الذي أدراه - إذن - انه سيمهل ويمد في أجله إلى أن يصل إلى الأربعين ليبلغنا بمعجزته؟ . ولذلك نجد القرآن يستدل على هذه، فيقول: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4056 أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15] وهكذا تتجلى الحجة القوية من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكلف بالبلاغ بما يُوحَى إليه، ويتأكد ذلك مرة ثانية في قوله الحق: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] وهنا نجد أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد تلقى الأمر من الله بأن يبيّن لهم: هل علمتم عني خلال عمري أني قلت شعراً أو حكمة أو جئتكم بمثل؟ إذن إن نحن عقلنا الأمر وتبصرنا وتأملنا دعواه لصدقنا أنه رسول الله، وأن المعجزة نزلت عليه من السماء. {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} [الأعراف: 11] وهكذا نرى أن مسألة الخلق والإِيجاد، كان يجب على العقل البشري أن يبحث فيها، ليعلم مهمته في الوجود. وحين يبحث فيها ليعلم مهمته في الوجود. يجب عليه أن يترك كل تخمين وظنٍ؛ لأن هذه المسألة لا يمكن أن تأتي فيها بمقدمات موجودة لتدلنا على كيفية خلقنا ولا لأي شيء ومهمة خلقنا! فكيفية الخلق كانت أمراً غيبيًّا وليس أمامنا ما نستقرئه لنصل إلى ذلك. وقد حكم الله في قضية الخلق، سواء أكان الأمر بالنسبة للسموات والأرض وما بينهما أم للإِنسان، وقد حكم سبحانه في هاتين القضيتين، ولا مصدر لعلم الأمر فيهما إلا من الله سبحانه، وأغلق باب الاجتهاد فيها، وكذلك باب التخمين، وسمى القائمين بكل بحث بشري في هذا المجال بأنهم ضالون مضللون، ولذلك قال ليحكم هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4057 القضية ويحسمها، ويريح العقول من أن تبحث فيها؛ قال: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] فكأن الذي يقول: كيف خلقت السموات والأرض وكيف خلق الإِنسان هو مضل؛ لأن الله لم يشهده، ولم يكن القائل عضداً لله ولا سنداً ولا شريكا له. وقص سبحانه علينا قصة خلق السموات والأرض وخلق الإِنسان، وهذه الآية تتعرض لخلق الإِنسان. ومن يبحث بحثاً استقرائيّاً ويرجع إلى الوراء فلابد أن يجد أن الأمر منطقي؛ لأن العالم يتكاثر، وتكاثره أمر مرئي، وليس التكاثر في البشر فقط، بل فيمن يخدمون البشر من الأجناس الأخرى، نجد فيهم ظاهرة التكاثر نباتاً وحيواناً، وإذا ما نظرنا إلى التعداد من قرن وجدنا العدد يقل عن التعداد الحالي وهو خمسة آلاف مليون، وكلما عدنا ورجعنا إلى الزمن الماضي يقل التعداد إلى أن نصل إلى اثنين؛ لأن الخلق إنما يأتي من اثنين، وحلّ الله لنا اللغز فقال: {الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ... } [النساء: 1] وهذا كلام صحيح يثبته الإِحصاء وييقنه؛ لأن العالم يتكاثر مع مرور الزمن مستقبلا. {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ... } [النساء: 1] وهذا كلام صادق. وسبحانه القائل: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ... } [الذاريات: 49] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4058 وأبلغنا سبحانه بقصة خلق آدم، وكيفية خلق حوّاء فهل أخذ جزءًا من آدم وخلق منه حوّاء؟ قد يصح ذلك، أو خلق منها زوجها ويكون المقصود به أنه خلقها من الجنس نفسه وبالطريقة نفسها؟ وذلك يصح أيضا، فسبحانه قد اكتفى بذكر خلق آدم عن ذكر خلق حوّاء، وأعطانا النموذج في واحد، وقال: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} . و {مِنْهَا} في هذه الآية يحتمل أن تكون غير تبعيضية، مثلها مثل قوله الحق: «رسول من أنفسكم» . فسبحانه لم يأخذ قطعة من العرب وقال: إنها «محمد» ، بل جعل محمدًّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الجنس نفسه خلقاً وإيجاداً، وسبحانه حين يتكلم هنا يقول للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ... } [البقرة: 30] وهذا أول بلاغ، ثم اتبع ذلك: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] إذن فقبل النفخ في الروح ستوجد تسوية، فلمن تحدث التسوية، ومن هو «المسوّى منه» ؟ . إن التسوية لآدم. وجاء القول بأنه من صلصال، ومن حمأ مسنون، ومن تراب، ومن طين؛ إنّها مراحل متعددة، فإن قال سبحانه عن آدم: إنه تراب، نقول: نعم، وإن قال: «من ماء» نقول: نعم، وإن قال «من طين» فهذا قول حق؛ لأن الماء حين يختلط بالتراب يصير طيناً. وإن قال: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} ، فهذا جائز؛ لأن الحمأ طينٌ اختمر فتغيرت رائحته ثم جف وصار صلصالاً. إذن فهي مراحل متعددة للخلق، ثم قال الحق: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} . وهكذا تكتمل فصول الخلق، ثم قال: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4059 ويقول العلماء: إن المراد من السجود هو الخضوع والتعظيم، وليس السجود كما نعرفه، وقال البعض الآخر: المراد بالسجود هو السجود الذي نعرفه، وأن آدم كان كالقبلة مثل الكعبة التي نتجه إليها عند الصلاة. ولكنْ لنا هنا ملاحظة، ونقول: إننا لا نسجد إلا الله، ومادام ربنا قد قال: اسجدوا فالسجود هنا هو امتثال لأمر خالق آدم. والنية إذن لم تكن عبادة لآدم، ولكنها طاعة لأمر الله الأول. والأمر بالسجود لآدم قد أراده الله؛ لأنه سبحانه سخر الكون كله لخدمة آدم، ومن الملائكة مدبرات أمر، ومنهم حفظة، ومنهم من هو بين يدي الله، فلم يكن السجود للملائكة خضوعاً من الملائكة لآدم، بل هو طاعة لأمر الله، ولذلك سجد من الملائكة الموكلون بالأرض وخدمة الإنسان، لكنْ الملائكة المقربون لا يدرون شيئاُ عن أمر آدم، ولذلك يقول الحق لإِبليس: { ... أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75} والمقصود بالعالين الملائكة الذين لم يشهدوا أمر السجود لآدم، فليس للملائكة العالين عمل مع آدم؛ لأن الأمر بالسجود قد صدر لمن لهم عمل مع آدم وذريته والذين يقول فيهم الحق سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ... } [الرعد: 11] وهناك الرقيب، والعتيد والقعيد. وفي كل ظاهرة من ظواهر الكون هناك ملك مخصوص بها، ويبلغنا الحق بمسألة الخلق، والخطاب لنا {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} وهذا ترتيب اخباري، وليس ترتيباً للأحداث. أو أن الحق سبحانه وتعالى طمر الخلق جميعاً في خلق آدم، والعلم الحديث يعطينا أيضاً مؤشرات على ذلك، حين يأتون ببذرة ويكتشفون فيها كل مقومات الثمرة، وكذلك الحيوان المنوي توجد فيه كل صفات الإنسان. ولذلك نجدهم حين يدرسون قانون الوراثة يقولون: إن حياة كل منا تتسلسل عن آخر، فأنت من ميكروب أبيك، وقد نزل من والدك وهو حي، ولو أنه نزل ميتاً لما اتصل الوجود. ووالدك جاء من ميكروب جده وهو حي، وعلى ذلك فكل مكائن الآن فيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4060 كائن الآن فيه جزئ حي من لدن آدم، لم يطرأ عليه موت في أي حلقة من الحلقات. إذن فكلنا كنا مطمورين في جزيئات آدم، وقال ربنا سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ ... } [الأعراف: 172] ونقول: صدق الحق فهو الخالق القادر على أن يخرجنا من ظهر آدم، وهكذا كان الخلق أولاً والتصوير أولاً، وكل ذلك في ترتيب طبيعي، وهو سبحانه له أمور يبديها ولا يبتديها، أي أنه سبحانه يظهرها فقط، فإذا خاطب آدم وخاطب ذريته فكأنه يخاطبنا جميعاً. {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} [الأعراف: 11] وعرفنا من هم الملائكة من قبل، وما هي علة السجود. {فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} . والحق سبحانه يستثنيه بأنه لم يكن من الساجدين. وهذا دليل على أنه دخل في الأمر بالسجود، ولكن هل إبليس من الملائكة؟ لا؛ لأنك إذا جئت في القرآن ووجدت نصَّا يدل بالالتزام، ونصَّا يدل بالمطابقة والقطع فاحمل نص الالتزام على النص المحكم الذي يقطع بالحكم. وقد قال الحق في ذلك: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ... } [الكهف: 50] وفي هذا إخراج لإبليس من جنس الملائكية، وتقرير أنه من الجن، والجن كالإنس مخلوق على الاختيار، يمكنه أن يعصي يمكنه أن يطبع أو أن يعصي، إذن فقوله الحق: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4061 يعني أن هذا الفسوق أمر يجوز منه؛ لكن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإن تساءل أحد: ولماذا جاء الحديث عن إبليس ضمن الحديث عن الملائكة؟ . نقول: هب أن فرداً مختاراً من الإِنس أو من الجن التزم بمنهج الله كما يريده الله، فأطاع الله كما يجب ولم يعص. . أليست منزلته مثل الملك بل أكثر من الملك، لأنه يملك الاختيار. ولذلك كانوا يسمون إبليس طاووس الملائكة، أي الذي يزهو في محضر الملائكة لأنه ألزم نفسه بمنهج الله، وترك اختياره، وأخذ مرادات الله فنفذها، فصار لا يعصي الله ما أمره ويفعل ما يؤمر، وصار يزهو على الملائكة لأنهم مجبورون على الطاعة، لكنه كان صالحاً لأن يطيع، وصالحاً - أيضاً - لأن يعصي، ومع ذلك التزم، فأخذ منزلة متميزة من بين الملائكة، وبلغ من تميزه أنه يحضر حضور الملائكة. فلما حضر مع الملائكة جاء البلاغ الأول عن آدم في أثناء حضوره، وقال ربنا للملائكة: {اسجدوا لأَدَمَ} . وكان أولى به أن يسارع بالامتثال للأمر الطاعة، لكنه استنكف ذلك. وهب أنه دون الملائكة ومادام قد جاء الأمر للأعلى منه وهم الملائكة، ألم يكن من الأجدر به وهو الأدنى أن يلتزم بالأمر؟ لكنه لم يفعل. ولأنه من الجن فقد غلبت عليه طبيعة الاختيار. ويقول الحق بعد ذلك: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4062 ثم قال كما يحكي القرآن الكريم: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4062 وهكذا كان الموقف استكباراً واستلاءً. وقوله الحق: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75] ونحن حين نحلل هذا النص، نجد قوله: {مَا مَنَعَكَ} أي ما حجزك، وقد أورد القرآن هذه المسألة بأسلوبين، فقال الحق مرة: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} . وقال مرة أخرى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} . وهذا يعني أن الأسلوب الأول جاء ب «لا» النافية، والأسلوب الثاني جاء على عدم وجود «لا» النافية. وقوله {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} كلام سليم واضح؛ يعني: ما حجزك عن السجود. لكن {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} هي التي تحتاج لوقفة. لذلك قال العلماء: إن «لا» هنا زائدة، ومَنْ أَحْسَن الأدب منهم قال: إن «لا» صلة. لكن كلا القولين لا ينفع ولا يناسب؛ لأن من قال ذلك لم يفطن إلى مادة «منع» ولأي أمر تأتي، وأنت تقول: «منعت فلاناً أن يفعل» ، كأنه كان يهم أن يفعل فمنعته. إذن {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} كأنّه كان عنده تهيؤ للسجود، فجاءت قوة أقوى منه ومنعته وحجزته وحالت بينه وبين أن يسجد. لكن ذلك لم يحدث. وتأتي «منع» للامتناع بأن يمتنع هو عن الفعل وذلك بأن يقنعه غيره بترك السجود فيقتنع ويمتنع، وهناك فرق بين ممنوع، وممتنع؛ فممنوع هي في {مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} ، وممتنع تعني أنه امْتنع من نفسه ولم يمنعه أحد ولكنّه أقنعه. وإن كان المنع من الامتناع فالأسلوب قد جاء ليؤكد المعنى الفعلي وهو المنع عن السجود. وهذا هو السبب في وجود التكرار في القرآن. ولذلك قال الحق سبحانه: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] وسبحانه قد أمر الملائكة وكان موجوداً معهم إما بطريق العلو، لأنه فاق الملائكة وأطاع الله وهو مختار فكانت منزلته عالية، وإما بطريق الدنو؛ لأن الملائكة أرفع من إبليس بأصل الخلقة والجبلة، وعلى أي وضع من العلو والدنو كان على إبليس أن يسجد، ولكنه قال في الرد على ربّه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4063 { ... أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] وسبحانه لم يسأل إبليس عن المقارنة بينه وبين آدم، ولكن سأله وهو يعلم أزلاً أنّ إبليس قد امتنع باقتناع لا بقهر، ولذلك قال إبليس: أنا خير منه، فكأن المسألة دارت في ذهنه ليوجد حيثية لعدم السجود. ولا يصح في عرفه الإبليسي أن يسجد الأعلى للأدنى، فما دام إبليس يعتقد أنه خير من آدم ويظن أنه أعلى منه، فلا يصح أن يسجد له. وأعلى منه لماذا؟ لأنه قال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فكأن النار لها علو، وهو في ذلك مخطئ تماماً لأن الأجناس حين تختلف؛ فذلك لأن لكل جنس دوره، ولا يوجد جنس أفضل من جنس، النار لها مهمة، والطين له مهمة، والنار لا تقدر أن تؤدي مهمة الطين، قلا يمكن أن نزرع في النار. إذن فالخيرية تتأتى في الأمرين معا مادام كل منهما يؤدي مهمته، ولذلك لا تقل: إن هذا خير من هذا، إنما قل: عمل هذا أحسن من عمل هذا، فكل شيء في الوجود حين يوضع في منزلته المرادة منه يكون خيراً، ولذلك أقول: لا تقل عن عود الحديد إنه عود مستقيم، وتقول عن الخطاف: إن هذا عود أعوج، لأن مهمة الخطاف تقتضي أن يكون أعوج، وعوجه هو الذي جعله يؤدي مهمته، لأن الخيرية إنما تتأتى في متساوي المهمة، ولكن لإبليس قال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ ... } [الأعراف: 12] قالها للمعاندة، للكبر، للكفر حين أعرض عن أمر الله وأراد أن يعدل مراد الله في أمره، وكأنه يخطِّئ الحق في أمره، ويردّ الأمر على الآمر. فما كان جزاء الحق سبحانه وتعالى لإبليس إلا أن قال له: {قَالَ فاهبط ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4064 والهبوط يستدعي الانتقال من منزلة عالية إلى منزلة أقل، وهذا ما جعل العلماء يقولون إن الجنة التي وصفها الله بأنها عالية في هي السماء، ونقول: لا، فالهبوط لا يستدعي أن يكون هبوطاً مكانياً، بل قد يكون هبوط مكانة، وهناك فرق بين هبوط المكان، وهبوط المكانة، وقد قال الحق لنوح عليه السلام: {قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ... } [هود: 48] أي اهبط من السفينة، إذن مادة الهبوط لا تفيد النزول من مكان أعلى إلى مكان أدنى، إنما نقول من مكان أو من مكانة. {قَالَ فاهبط مِنْهَا} . وهذا تنزيل من المكانة لأنه لم يعد أهلاً لأن يكون في محضر الملائكة؛ فقد كان في محضر الملائكة؛ لأنه الزم نفسه بالطاعة، وهو مخلوق على أن يكون مختارا أن يطيع أو أن يعصي، فلما تخلت عنه هذه الصفة لم يعد أهلاً لأن يكون في هذا المقام، وذلك أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. {قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ ... } [الأعراف: 13] أي ما ينبغي لك أن تتكبر فيها. إن امتناعك عن أمر من المعبود وقد وجهه لك وأنت العابد هو لون من الكبرياء على الآمر، والملائكة جماعة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فما دامت أنت أهل استكبار واستعلاء على هذه المكانة فلست أهلاً لها، فكأن العمل هو الذي أهله أن يكون في العلو، فلما زايله وفارقه كان أهلاً لأن يكون في الدنو، وهكذا لم يكن الأمر متعلقاً بالذاتية، وفي هذا هبوط لقيمة كلامه في أنه من نار وآدم من طين؛ لأن المقياس الذي توزن به الأمور هو مقياس أداء العمل، ومن حكمة الحق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4065 أن الجن يأخذ صورة القدرة على أشياء لا يقدر عليها الإنس، مثل السرعة، واختراق الحواجز، والتغلب على بعض الأسباب، فقد ينفذ الجن من الجدار أو من الجسم، وكما قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم.» وهو ذلك مثل الميكروب، لأنه هذه طبيعة النار، وهي المادة التي خُلق منها. وهي تتعدى الحواجز. والجن قد بلغ من اللطف والشفافية أنه يقدر على أن ينفذ من أي شيء، لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح للجن لا تعتقد أن عنصريتك هي التي أعطتك هذا التمييز، وإنما هي إرادة المُعَنْصر، بدليل أنه جعلك أدنى من مكانة الإنسان، إنه - سبحانه - يجعل إنسياً مثل سيدنا سليمان مخدوما لك أيها الجنى، إنه يسخرك ويجعلك تخدمه. وأنه في مجلس سليمان، جعل الذي عنده علم من الكتاب، يأتي بقوة أعلى من قوة «عفريت» من الجن. فالحق هو القائل: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن ... } [النمل: 39] وهذا يدل على أن هناك أذكياء وأغبياء في عالم الجن أيضاً. وجاء الذي عنده علم من الكتاب فتسامى فوق عفريت الجن في الزمن، فقد قال هذا العفريت: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ... } [النمل: 39] والمقام هو الفترة الزمنية التي قد يقعدها سليمان في مجلسه، فماذا قال الذي عنده علم من الكتاب - وهو إنسان -؟ {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ... } [النمل: 40] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4066 كأنه سيأتي بعرش بلقيس قبل أن ينته سليمان من ردّ طرفه الذي أرسله ليبصر به شيئاً، إن سليمان رأى العرش بين يديه، ولذلك نجد عبارة القرآن معبرة: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ ... } [النمل: 40] كأن المسألة لا تتحمل. بل تم تنفيذها فوراً. إذن فالحق يوضح للمخلوقين من العناصر: إياكم أن تفهموا أن تميزكم بعناصركم، إنني أقدر بطلاقة قدرتي أن اجعل الأدنى يتحكم في الأعلى؛ لأنها إرادة من عَنْصَرَ العناصر. {قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} [الأعراف: 13] وكلمة {فاهبط} تشير على أن الهبوط أمر معنوي، أي أنك لست أهلاً لهذه المنزلة ولا لتلك المكانة. هذا ما تدل عليه كلمة {فاهبط} ، ثم جاء الأمر بعد ذلك بالخروج من المكان. والصَّغَار هو الذل والهوان؛ لأنه قََابَل الأمر باستكبار، فلابد أن يجازى بالصَّغار. وبذلك يكون قد عومل بضد مقصده، والمعاملة بضد المقصد لون من التأديب والتهذيب والتعليم؛ مثلما يقرر الشرع أن الذي يقتل قتيلاً يحرم من ميراثه، لأنه قد قتله ليجعل الإرث منه، ولذلك شاء الله أن يحرمه من الميراث؛ فبارتكابه القتل صار محجوباً عن الميراث. ويقول الحق بعد ذلك: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4067 ومعنى {أَنظِرْنِي} أمهلني أي لا تمتني بسرعة، ولا تجعل أجلي قريباً، بدليل قوله سبحانه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4067 {قَالَ إِنَّكَ مِنَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4068 فالإِنظار طلب الإِمهال، وعدم التعجيل بالموت، وقد طلبه إبليس لكي يشفي غليله من بني آدم وآدم؛ انه جاء له بالصَّغَار والذلة والطرد والهبوط، ولذلك أصر على أن يجتهد في أن يغري أولاد آدم ليكونوا عاصين أيضاً. وكأن إبليس في هذا الطلب أراد أن يُنْقذ من الموت وأن يبقى حيًّا إلى يوم البعث الذي يبعث فيه كل من مات. وكأنه يريد أن يقفز على قول الحق: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ... } [آل عمران: 185] فأوضح الحق: أن تأجيل موتك هو إلى يوم الوقت المعلوم لنا وغير المعلوم لك؛ لأن الأجل لو عرف فقد يعصي من يعلمه مدة طويلة ثم يقوم بالعمل الصالح قبل ميعاد الأجل، ولكن الله أراد بإبهام زمان الموت أن يشيع زمانه في كل وقت. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38] والوقت المعلوم هو النفخة الأولى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] وكأن إبليس كان يريد أن يفر من الموت ليصل إلى النفخة الثانية، لكن ربنا أوضح أنه باق إلى وقت معلوم، وآخر الوقت المعلوم هذا لابد أن يكون قبل النفخة الأولى. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4068 {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي ... } والإغواء. إغراء بالمعصية، ومن الإغواء الَغّي وهو: الإهلاك، ويقول الحق سبحانه وتعالى: { ... فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} [مريم: 59] وحين نقرأ {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} أي فبإغوائك يا الله لي سأفعل كذا وكذا، وبذلك يكون قد نسب الإغواء لله لكن هل يغوي ربنا أو يهدي؟ . إن الله يهدي دلالة وتمكيناً، وسبق أن تكلمنا كثيراً عن هداية الدلالة ودلالة التمكين، وسبحانه خلق الشيطان مختاراً، ولم يخلقه مرغماً ومسخراً كالملائكة، ولأنه قد خلق مختاراً فقد أعطاه فرصة أن يطيع وأن يعصي، وكأن الشيطان بقوله هذا يتمنى لو أنه قد خلق مقهوراً. ويقول إن الله هو الذي أعطاه سبب العصيان. ولم يلتفت إلى أن الاختيار إنما هو فرصة لا للغواية فقط، ولكنه فرصة للهداية أيضاً. وأنت أيها الشيطان الذي اخترت الغواية. إذن فقول الشيطان: {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} إنما يريد به الشيطان: أن يدخل بمعصيته على الله، ونقول له: لا، إن ربنا لم يغو؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يغوي وإنما يهدي؛ لأن الله لو خلقه مرغماً مقهوراً ما أعطاه فرصة أن يختار كذا أو يختار كذا؛ فقد خلقه على هيئة «افعل» و «لا تفعل» ، واختار هو ألاّ يفعل إلا المعصية. {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] والمفهوم من العبارة أنهم بنو آدم، والقعود لون من ألوان حركة الجسم الفاعل؛ لأن المتحرك إما أن يكون قائماً، وإما أن يكون قاعداً، وإما أن يكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4069 مضجعاً نائماً. وأريح الحالات أن يكون نائماً مضجعاً؛ لأن الجسم في هذه الحالة يكون مستريحاً بفعل الجاذبية الأرضية، وحين يكون الإنسان قاعداً تقاومه الجاذبية قليلاً، وحين يكون واقفاً فهو يحمل جسمه على قدميه، ولذلك نقول لمن وقف طويلاً على قدميه: «اقعد حتى ترتاح» ولو قعد وكان متعباً فيقال له: «مضجع قليلاً لترتاح» . ولماذا اختار الشيطان أن يقول: {لأَقْعُدَنَّ} ؟ حتى يكون مطمئناً، فقد يتعب من الوقفة، أيضاً وهو في حالة القعود يكون منتبها متيقظاً، والحق يقول: {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ... } [التوبة: 5] ولم يقل: «قفوا» حتى لا يرهق الناس أنفسهم بالوقوف الطويل، ولكن ساعة يواجهون الأمر فعليهم بالنهوض. والقعود أقرب إلى الوقوف، لأن الاضجع أقرب إلى التراخي والنوم، وقد اختار الشيطان الموقف الذي يحفظ له قوته، ويبقى له انتباهه: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} . ومادام الشيطان سيغوي، وسيضل الغير، فسيختار للغواية من يكون في طريق الهداية. إنما من غوى باختياره وضل بطبيعته فالشيطان قد استراح من ناحيته ولا يريده، وتلك ظاهرة تحدث للناس حينما يجدون ويجتهدون في الطاعة؛ فالشاب الطائع الملتزم يحاول الشيطان أن يخايله ليصرفه عن الصلاة والطاعة؛ لأن الشيطان يتلصص على دين الإنسان، فهو كاللص، واللص لا يحوم حول بيت خرب. إنما يحوم اللص حول بيت عامر بالخير. إننا نلاحظ هذه المسألة في كل الناس حينما يأتون للصلاة فيقول الواحد منهم: حينما أصلي يأتي له الوسواس، ويشككني في الصلاة، نقول له: نعم هذا صحيح، وحين يأتي لك هذا الوسواس فاعتبره ظاهرة صحية في الإيمان؛ لأن معناه أن الشيطان عارف أن عملك مقبول، ولذلك يحاول أن يفسد عليك الطاعة؛ لأنك لو كنت فاسداً من البداية، ووقفت للصلاة دون وضوء لما جاءك الوسواس. لكن الشيطان يريد أن يفسد عليك الطاعة ولذلك يقول الله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4070 {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله ... } [الأعراف: 200] لماذا؟ . لأن الله خلقك وخلقه، وإن كنت لا تستطيع دفعه لأنه يجري منك مجري الدم في العروق وينفذ إليك بالخواطر والمواجيد التي لا تضبطها؛ ويأتي إليك بمهام الأشياء في وقت الصلاة؛ فتتذكر الأشياء التي لم تكن تتذكرها، ويأتي لك بأعقد المسائل وأنت تصلي؛ وكل ذلك لأنه قال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} ، ولم يقل إنه سيقعد على الطريق المنحرف، ولن يجلس الشيطان في مجلس خمر، لكنه يقعد على أبواب المساجد أو في المساجد ليفسد للناس أعمالهم الصالحة. فماذا نفعل في هذه الحال؟ . يدلنا الحق سبحانه أن نستعيذ: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} فمعنى {فاستعذ} أي فالتجئ منه إلى الله؛ لإن الله الذي أعطاه الخاصية في أن يتغلغل فيك، وفي دمك، وفي خواطرك، هو القادرعلى منعه، وحين تقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» بفزع والتجاء إليه - سبحانه - فإنه - جل شأنه - ينقذك منه. وإن كنت تقرأ القرآن ثم جاء لك الخاطر من الشيطان فقل: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فإذا قلت هذا فكأنك نبهته إلى أنك أدركت من أين جاءت هذه النزغة: مرة واثنتين وثلاثاً، فيقول الشيطان لنفسه: إن هذا المؤمن حاذق فطن وحذر لا أستطيع غوايته، ولأبحث عن غيره. ولذلك رأينا الإمام أبا حنيفة، وقد شهرَ عنه الفتيا، وذهب إليه سائل يقول: ضاع مني مال في أرض كنت قد دفنته فيها، ولا أعرف الآن مكانه. دلني عليه أيها الشيخ؟ . وبطبيعة الحال كان هذا السؤال في غير العلم، فقال أبو حنيفة: يا بني ليس في ذلك شيء من العلم، ولكني احتال لك؛ إذا جاء الليل فقم بين يدي ربك مصليا هذه الليلة، لعل الله سبحانه وتعالى يبعث لك جنداً من جنوده يقول لك عن مكان مالك. وبينما أبو حنيفة يؤدي صلاة الفجر، وإذا بالرجل يقبل ضاحكاً مبتسماً قائلا: يا إمام لقد وجدت المال، فضحك أبو حنيفة، وقال: والله لقد علمت أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4071 الشيطان لا يدعك تتم ليلتك مع ربك، وسيأتي ليُخبرك، فهلاّ أتممتها شكراً لله، هيا قم إلى الصلاة. إذن فقد عرف الشيطان كيف يقعد: وكيف يقسم، لأنه في آية أخرى يقول: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] لقد استطاع أن يأتي بالقسم الذي يعينه على مهمته؛ فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ} أي بامتناعك عن خلقك وعدم حاجتك إليهم فأنت الغالب الذي لا يقهر؛ لأنك إن أردتهم ما استطعتُ أن آخذهم، لكنك شئت لكل إنسان أن يختار: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فأقسم، ومن هذا الباب يدخل الشيطان على الإِنسان: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . واستدرك على نفسه أيضاً وقال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83] لأن الذي يريده الله مهديًّا لا يستطيع الشيطان أن يغويه؛ لأنه لا يناهض ربنا ولا يقاومه، إنما يناهض خلق الله، ولا يدخل مع ربنا في معركة، إنما يدخل مع خلقه في معركة ليس له فيه حجة ولا قوة؛ لأن الذي يغلب في المعارك إما أن يرغمك على الفعل، وإما أن يقنعك لتفعل أنت بدون إرغام. وهل يملك إبليس واحدة من هذه؟ . لا، ولذلك سيأتي في الآخرة يقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي ... } [إبراهيم: 22] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4072 والسلطان قسمان: سلطان يقهر، وسلطان يقنع. والشيطان يدخل على الإِنسان من هذه الأبواب. ويقول الحق بعد ذلك على لسان إبليس: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4073 فالذي بين اليد هو ما كان إلى الإمام، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي من الوراء، {وعَنْ أَيْمَانِهِمْ} أي من جهة اليمين، {وعَن شَمَآئِلِهِمْ} أي من جهة اليسار. والشيء الذي أمام العالم كله، ونسير إليه جميعاً هو {الدار الآخرة} وحين يأتي الشيطان من الأمام فهو يشككهم في حكاية الآخرة ويشككهم في البعث. ويحاول أن يجعل الإِنسان غير مقبل على منهج الله، فيصير من الذين لا يؤمنون بلقاء الله، ويشكّون في وجود دار أخرى سيُجَازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقد حدث ذلك ووجدنا من يقول القرآن بلسان حاله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} [الصافات: 16 - 17] ولذلك يعرض الحق قضية البعث عرضاً لا يجعل للشيطان منفذاً فيها، فيوضح لنا أنه سبحانه لم يعجز عن خلقنا أولاً؛ لذلك لن يعجز عن إعادتنا، والإِعادة بالتأكيد أهون من البداية؛ لأنّه سيعيدهم من موجود، لكن البداية كانت من عدم، إنه - سبحانه - عندما يبيّن للناس أن الإِعادة أهون من البداية فهو يخاطبهم بما لا يجدون سبيلاً إلى إنكاره، وإلاّ فالله - جل شأنه - تستوي لدى طلاقة قدرته كل الأعمال فليس لديه شيء سهل وهيّن وآخر صعب وشاق ويبلغنا - سبحانه - بتمام إحاطة علمه فيقول: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4073 أي أن لكل واحدٍ كتاباً مكتوباً فيه كل عناصره وأجزائه. والشيطان - أيضاً - يأتي من الخلف، وخلف كل واحد منا ذريته، يخاف ضيعتهم، فيوسوس الشيطان للبعض بالسرقة أو النهب أو الرشوة من أجل بقاء مستقبل الأبناء، وفساد أناس كثيرين يأتي من هذه الناحية، ومثل هذا الفساد يأتي حين يبلغ بعض الناس منصبًّا كبيراً، وقد كبرت سنّه، ويقبل على الله بشرّ، ويظن أنه يترك عياله بخير. لكن إن كنت تخاف عليهم حقًّا فأمِّن عليهم في يد ربهم، ولا تؤمِّن حياتهم في جهة ثانية. {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] ولماذا لم يأت الشيطان للإِنسان من فوق ومن تحت لأن الفوقية هي الجهة التي يلجأ إليها مستغيثا ومستجيرا بربه، والتحتية هي جهة العبودية الخاصة. فالعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، فهو في هاتين الحالتين محفوظ من تسلط الشيطان عليه؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} . ويقول تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] ويأتي الشيطان من اليمين ليزهد الناس ويصرفهم عن عمل الحسن والطاعة. واليمين رمز العمل الحسن؛ لأن كاتب الحسنات على اليمين، وكاتب السيئات على الشمال، ويأتي عن شمائلهم ليغريهم بشهوات المعصية. ونلحظ أن الحق استخدم لفظ {عَنْ أَيْمَانِهِمْ} و {عَن شَمَآئِلِهِمْ} ولم يأت ب «على» لأن «على» فيها استعلاء، والشيطان ليس له استعلاء أبداً؛ لأنه لا يملك قوة القهر فيمنع، ولا قوة الحجة فيقنع. ولأن أكثر الناس لا تتذكر شكر المنعم عليهم، فيجيد الشيطان غوايتهم. ولذلك يقول الحق تذييلاً للآية: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4074 { ... وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] ويقول الحق بعد ذلك: {قَالَ اخرج مِنْهَا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4075 لقد بلغ الغرور بالشيطان أن تخيّل أنه ذكي، فشرح لنا خطته ومنهجه فدلل لنا على أن حكم الله فيه قد نفذ بأن جعل كيده ضعيفاً، فسبحانه القائل: { ... إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76] لقد نبهنا الحق لكيد الشيطان وغروره، والناصح هو من يحتاط، ويأخذ المناعة ضد النزغ الشيطاني. وهنا يقول الحق: {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً ... } [الأعراف: 18] وقال له الحق من قبل: {قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} [الأعراف: 13] إذن فهناك هبوط وخروج بصَغار ومجاوزة المكان، ثم هنا أيضاً تأكيد بأنه في حالة الخروج سيكون مصاحباً للذم والصغار والطرد واللعن. ويقول الحق سبحانه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4075 { ... لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] وفي هذا اخبار لمن يتبعون الشيطان بأنهم أهل لجهنم، ولم يعدَّها سبحانه لتسع الكافرين فقط، لكنه أعدّها على أساس أن كل الخلق قد يكفرون به سبحانه، كما أعدّ الجنة على أساس أن الخلق جميعاً يؤمنون به؛ فليس عنده ضيق مكان، وإن آمن الخلق جميعاً؛ فإنه - جل شأنه - قد أعد الجنة لاستقبالهم جميعاً، وإن كفروا جميعاً فقد أعدّ النار لهم جميعاً؛ تأكيداً لقوله الحق: {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11] وقوله الحق: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] وبهذا نكون قد شرحنا مسألة إبليس الذي امتنع عن طاعة أمر الآمر الأعلى بالسجود لآدم. ويقول الحق بعد ذلك: {وَيَآءَادَمُ اسكن ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4076 ويعاود القرآن الحديث عن آدم بعد تناول مسألة إبليس فيقول: {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4076 كثير من العلماء تواتر نقل العلم عندهم إلى أن الجنة هي جنة الآخرة والخلود، واعترض البعض متسائلين: كيف يدخل إبليس جنة الخلود؟ . وكيف يخرج منها؟ . وهل الذي يدخل الجنة يخرج منها؟ . وهؤلاء العلماء الذي قالوا: إن الجنة هي جنة الآخرة، لم يفطنوا إلى مدلول كلمة «جنة» ؛ فساعة تطلق كلمة جنة، تأخذ ما يسمى في اللغة «غلبة الاستعمال» ، أي تأخذ اللفظ من معانيه المتعددة إلى معنى واحد يستقل به عرفاً، بحيث إذا سُمع انصرف الذهن إليه، فأنت إذا سمعت يا مؤمن كلمة الجنة ينصرف ذهنك إلى جنة الآخرة؛ لأنها هي التي تُعتبر جنة بحق، لكن حينما يأتي اللفظ في القرآن والمتكلم هو الله، فلابد أولاً أن ندرس اللفظ واستعمالاته في اللغة؛ لأن القرآن جاء بلسان عربي مبين، فمن الجائز أن يوجد اللفظ في اللغة وله معانٍ متعددة. وعندما يتعلق الأمر بالدين والفقه فإننا نأخذ اللفظ من معناه اللغوي، ونجعله ينصرف إلى المعنى الشرعي الاصطلاحي. مثال ذلك كلمة «الحج» فأنت ساعة تسمع كلمة «الحج» تقول: هو قصد بيت الله الحرام للنسك والعبادة في أشهر معلومة، على الرغم من أن «الحج» في اللغة هو القصد، فإذا قصدت أي شيء تقول: حججت إليه. فلما جاء الإِسلام أخذ هذا اللفظ من اللغة واستعمله في الحج بالمعنى الشرعي، وهو قصد البيت الحرام للنسك، وكذلك كلمة «الصلاة» إنها في اللغة الدعاء، فقوله تعالى: {وصلِّ عليهم} أي ادع لهم، ولما جاء الإِسلام أخذ الكلمة من اللغة، وجعلها تطلق على معنى اصطلاحي جديد بحيث إذا أطلق انصرفت إليه، وهي الأقوال والأفعال المخصوصة، المبدوءة بالتكبير المختومة بالتسليم بشرائطها الخاصة. ولكن هل معنى أننا أخذنا اللفظ من اللغة وجعل له الشرع معنىً اصطلاحيًّا أن هذا يكون تركاً لمعناه الأصلي؟ . لا؛ لأنك إن أردت أن تستعمله في معناه الأصلي فلك ذلك، ولكنك تحتاج إلى قرينة تدل على أنك لا تريد الصلاة الشرعية لأن كلمة «صلاة» أصبحت هي الصلوات الخمس المعروفة لنا، مع أن معناها الأصلي كان الدعاء، وهذا هو ما جعل العلماء يذهبون إلى أن كلمة «الجنة» ساعة تُطلق ينصرف الذهن إلى جنة الخلود. ونقول: المعنى اللغوي للجنة أنها المكان الذي فيه أشجار غزيرة ومتنوعة، أما غزارتها وعلوها فتستر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4077 الإِنسان وتُجِنّه عن كل ما حوله، وأما ما فيها من الثمار والضروريات والكماليات فلأنها تستر الإِنسان عن خارجها ويكتفي بأن يكون فيها، والقرآن لم يجيء بالجنة بمعنى جنة الخلد فقط، بل يقول أيضاً: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266] وكذلك يقول سبحانه: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [الكهف: 32] وقوله الحق: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15] وأقول: إن علينا أن نبحث في آفاق مرادات الله حين يُعْلمنا من لدنه ويقفنا على المعنى المراد، إننا نعلم أن أول بلاغ نزل من الله بخصوص آدم أخبرنا فيه أنه قد خلق آدم خليفة في الأرض: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ... } [البقرة: 30] إذن فآدم مخلوق للأرض، ولا تظلموا آدم وتقولوا إنه مخلوق للجنة، وكنا سنعيش فيها لكنه عصى وأنزلنا إلى الأرض. لذلك نقول: لا، وعلينا أن نتذكر أن أول بلاغ من الله عن آدم أنه جعله في الأرض خليفة. والذي كان يجب أن نسأل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4078 عنه: ما دام قد جعله الله خلفية في الأرض فما الذي جاء بحكاية الجنة هذه؟! لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض، وكان عليه أن يتلقى من الله التكاليف محصورة في «افعل» و «لا تفعل» ؛ لأنك إن لم تمتثل سيظهر الفساد في المجتمع، أما الذي لا يظهر منه فساد فسبحانه يتركه مباحاً؛ لذلك فكل ما لم يرد فيه «افعل» و «لا تفعل» لا يفسد به المجتمع. إذن ف «افعل» و «لا تفعل» هي مقياس ضمان الصلاح في الأرض. وهل خلق الله الإِنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه منهج الله؟ . لا، فمادام الشيطان قد وقف هذا الموقف مع آدم، وقال أنا سأغوي؛ فسيزين لك في «افعل» ، و «لا تفعل» ويأتيك الأمر بالصلاة فينزغك الشيطان حتى لا تصلي. ويأتيك الأمر ألا تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها، ويحاول أن ينقل مجال «افعل» إلى مجال «لا تفعل» ، وكذلك يحاول أن يزين لك «أن تفعل» ما هو في مجال «لا تفعل» فترتبك حركتك. إن الحق سبحانه يريد منهجاً يحكم حركة الحياة، ويضمن للخلافة في الأرض أن تؤدي مهمتها أداءً يسعد الإِنسان فيها في الدنيا وينعم في الآخرة؛ لذلك كان لابد أن يدرب الحق سبحانه خليفته في الأرض على المنهج؛ حتى لا يتلقى المنهج تلقيًّا نظريًّا، لذلك شاء الحق سبحانه وتعالى ألاّ يجعل آدم يباشر مهمة الخلافة إلا بعد أن يعطيه تدريباً على المهمة في «افعل» و «لا تفعل» . وحذره من العقبات التي تعترض «افعل» ؛ حتى لا تجيء في منطقة «لا تفعل» ، وكذلك من العقبات في منطقة «لا تفعل» حتى لا تجيء في منطقة «افعل» ، واختار له مكاناً فيه كل مقومات الحياة وترفها حتى لا يتعب في أي شيء أبداً في أثناء التدريب، وأوضح له أن هذه هي الجنة وهي بستان جميل وفيه كل مقومات الحياة وترفها، وأمره: كُلْ من كل شيء فيها، ولكن لا تقرب هذه الشجرة. «كل» هذا هو الأمر، و «لا تقرب» هذا هو النهي. وأوضح سبحانه لآدم أن الذي سيعكر عليه تطبيق منهج الله هو العدو الذي ثبتت عداوته إنّه «إبليس» ؛ لأنه حين امتنع عن السجود لآدم تلقى الطرد واللعنة فأقسم وقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4079 {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل مقومات الحياة لآدم بصنع الله - سبحانه - وإعداده، وأعطى له منها القدر الذي يعطي المقوم فلا فضلات تتعبه، ولا ينفخ ولا يعاني من متاعب في الصحة ... إلخ؛ لأنه سبحانه يعطي لآدم القدر المقوم. وسبحانه قادر على كل شيء بدليل أنه يرعى الجنين في بطن أمه، والجنين ينمو، والنمو معناه أنه يتلقى الغذاء، ولا يخرج منه فضلات؛ لأن الغذاء الذي يدخله الله له على قدر النمو فقط، وحين يكون ربنا هو الذي يمد جنة التدريب بالغذاء، فهو قادر على كامل الإِعداد. إذن فالجنة التي وُجد فيها آدم بداية ليست هي جنة الجزاء؛ لأن جنة الجزاء لابد أن تأتي بعد التكليف. ولا يمكن أن يكون فيها تكليف، ومن يسكنها لا يخرج منها. وآدم - كما علمنا - مخلوق للأرض، إذن وجود الجنة هنا يعني أنها مكان التدريب على المهمة في الخلافة أمراً متمثلاً في {فَكُلاَ} ، ونهياً متمثلاً في {وَلاَ تَقْرَبَا} ، لم يقل لهما: لا تأكلا، بل قال: {وَلاَ تَقْرَبَا} لأن القِربان مظنة أنه يؤدي إلى الغواية ويدفع إليها. وهو قد أكل منها لأنه جاء ناحيتها واقترب منها، ولو كان قد استمع ولم يقرب لما أكل منها. فكأن الله جعل لآدم في جنة التدريب والتمرين رمزين: الرمز الأول: ل «افعل» ، والرمز الثاني: ل «لا تفعل» ، ونجد أن الذي نهى الله عنه قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به. وهذا من رحمة الله بالعباد، فيفعل المؤمن ما يؤمر به، ولا يحوم حول ما حرمه الله؛ لأنه لا يأمن حين يرى ما حرم الله أن تميل نفسه إليه، ولذلك قال: {وَلاَ تَقْرَبَا} فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة تغريهما بأي منظر. ولذلك في كثير من الأشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما يصون ويحفظ العقيدة الأساسية، يقول بعدم الاقتراب أو الاجتناب، فسبحانه هو القائل: { ... فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور} [الحج: 30] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4080 ولم يقل: «لا تعبدوا الأوثان» ، بل قال: «فاجتنبوا» ، والشأن في «الخمر» أيضاً جاء بالاجتناب. لكنّ بعضاً من السطحيين يقولون: لم يرد في الخمر تحريم بل قال بالاجتناب، ونقول: الاجتناب أقوى من المنع ومن التحريم، لأن غاية التحريم أن يمنعك من شرب الخمر. لكن الاجتناب يقتضي ألا تذهب ناحيتها، ولا تقعد في المكان الذي توجد فيه، ولا تعصرها ولا تحملها. { ... وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} [الأعراف: 19] والظلم هو تجاوز الحد أو إعطاء الشخص غير حقه، ويوضح سبحانه: أنا لم أجعل لكما حقا في أن تقربا ناحية هذه الشجرة، فإن قربها أي منكما، فهو قد خالف ما شرعته لكما، {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} اي لا تدخلا في اطار من يظلمون أنفسهم لأن الله لا يظلم أحداً، وأنت تظلم نفسك لأنك تعطي نفسك شهوة قليلة في زمن يسير، وبعد ذلك تأخذ عقابها عذاباً أليماً في زمن طويل وبشكل أشد. وهذا ظلم لنفسك، كما أنه دليل على أنك غير مأمون عليها. ويقول الحق بعد ذلك: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4081 كلمة «وسوس» تدل على الهمس في الإغواء، ونعرف أن الذي يتكلم في خير لا يهمه أن يسمعه الناس. لكن من يتكلم في شرّ فيهمس خوفاً من أن يفضحه أحد، وكأن كل شر لابد أن يأتي همساً، وصاحبه يعرف أن هذا الكلام لا يصح أن يحدث، ويستحي منه، ولا يحب أن يعرف المجتمع عنه هذا الشيء، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4081 و «وسوس» مأخوذة من الصوت المغري، لأن الوسوسة هي صوت رنين الذهب والحلي، إذن فما قاله الشيطان لآدم وزوجه هو كلام مغرٍ ليلفتهما عن أوامر رب حكيم. وقوله الحق: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا} يعطينا حيثيات البراءة لحواء؛ لأن الشائع أن حواء هي التي ألحت على آدم ليأكلا من الشجرة، وكثير منا يظلم حواء على الرغم من أن القرآن يؤكد أن الوسوسة كانت لآدم وحواء معاً. {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} . [الأعراف: 20] وهل وسوس الشيطان لهما ليبدي لهما ما ووري من سوءاتهما، أو وسوس ليعصيا الله؟ . لقد وسوس ليعصيا الله، وكان يعلم أن هناك عقوبة على المعصية، ويعلم أنهما حين يأكلان من الشيء الذي حرمه ربنا ستظهر سواءتهما، و «السوءة» هي ما يسوء النظر إليه، ونطلقها على العورة، والفطرة تستنكف أن يرى الإِنسان المكتمل الإِنسانية السوءة. وكأنهما في البداية لم ير أحدهما سوءة الآخر أو سوءة نفسه لأن الحق يقول: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} . والسوءات أربع: اثنتان للرجل واثنتان للمرأة، فكأن كل إنسان منهما لا يرى سوءتيه، وكذلك لا يرى سوءتي الآخر، لأن السوءات كلها لها ما يخفيها عن الرؤية، وهذا كلام معقول جداً. ألم تقل سيدتنا أم المؤمنين عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «ما رأيت ولا أرى مني» ، وفي هذا القول تتجلّى قمة الأدب لأنها لم تجيء حتى باللفظ، لأن العضو مادام سوءة فهو مبني على الستر. وذلك حين حدَّث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «» يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين «، تعجبت السيدة عائشة فقال لها:» الأمر أخطر من أن ينظر أحد إلى أحد. « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4082 {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 20] وبماذا ووري؟ . لا بد أن هناك لباساً كان على كل منهما، وقال العلماء الكثير عن هذا اللباس، فمن قائل: إن أظافر الإِنسان هي بقية اللباس الذي كان موجوداً عند آدم وحواء، وهو ما كان يواري السوءات، ويقال: إنّ أيّ إنسان يكون في غاية الضحك والانبساط، ويريد أن يكتم نَفْسه، ويمنعها ويحول بينها وبين الضحك إنه يحدث له ذلك لو نظر إلى أظافره، عندئذ لا يمكنه أن يضحك لأنها بقية لحظة الندم على كشف السوءة. وجرّبها في نفسك، تجد نفسك قد منعت من الضحك، وهذا من عمل الإِله. أو أن الستار الذي كان يواري السوءة هو النور الإِلهي الذي كان يلفهما، والنور الساطع جداً حين يلف لا يبين، صحيح أنك بالنور ترى الأشياء، لكنه إن اشتد عمَّى على الأشياء فأخفاها فلا تراها؛ لأن أي أمر إذا زاد على حدّه انقلب إلى ضده، فإما أن يكون الثوب الأظافر، وإما أن يكون النور الإِلهي الذي كان يغشاهما ويواري السوءة، وقد سميت «سوءة» و «عورة» ، لأنها تسوء، فلماذا تسوء؟ وما الفرق بين فتحتين: فتحة في الفم، وفتحة في العورة؟ . إن فتحة العورة سوءة باعتبار ما يخرج منها. وحينما كانا يأكلان من إعداد ربنا لم يكونا - كما قلنا - في حاجة إلى إخراج فضلات؛ لأن إعداد الله يعطي كُلاًّ منهما على القدر الكافي للحركة والفعل، وكانت المسألة مجرد فتحات مثل بعضها. لكن حينما يخرجان عن مرادات الله في الطعام، ويأكلان غير ما أمر الله به، ويمارسان اختيار الطعام بدأت الفضلات في الخروج بما لها من رائحة غير مقبولة، فهل ظهور السوءة لهما هو رمز إلى أن هناك مخالفة لمنهج الله سواء أكان ذلك في القيم والمعنويات أم في الأمور المادية؟ نعم؛ لأن كل شيء يُخَالَف فيه منهج الله لابد أن تبدو فيه العورة، وإن رأيت أي عورة في المجتمع فاعلم أن منهجاً من مناهج الله قد عطل. وينقل القرآن ما قاله لهما الشيطان من وسوسة: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4083 {وقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20] لقد همس الشيطان وأوحى لهما بأن الحق: أراد ألا تقربا هذه الشجرة لأن من يأكل منها يصير مَلَكاً، أو خالداً. ولم يمحص أي منهما كلمات الشيطان ليعرف أن كيده كان ضعيفاً واهياً وغبياً؛ لأنه مادام قد عرف أن من يأكل من هذه الشجرة يصير ملكاً أو يبقى من الخالدين فلماذا لم يخطف منها ما يجعله مَلَكاً أو خالداً؟ وفي هذا درس يبين لنا أن مَن يُزَيّن له ويتصدى له أحد بالإِغواء يجب عليه أن يمحص إلى أي غواية يسير، وأن يدقق في نتائج ما سوف يفعل. وإذا كان الشيطان قد قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14] فلماذا لم ينقذ نفسه بالأكل من هذه الشجرة وتنتهي المسألة؟ . إذن كان ما يقوله الشيطان كذباً. ويقول الحق بعد ذلك: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4084 «قاسم» مادة فاعل، تأتي للمشاركة، أي أن هناك طرفين اثنين، كل منهما فاعل في ناحية ومفعول في ناحية أخرى، مثل شارك زيد عمراً، وهي تعني أيضاً أن عمراً شارك زيداً، وهكذا تكون مادة فاعل وتفاعل، فكل منهما فاعل من جهة ومفعول من جهة. وفي المعنى نجد الاثنين فاعلاً ومفعولا، إذن «قاسم» تحتاج إلى عمليتين اثنتين. . فهل جلس إبليس يقسم لآدم ولزوجته، وهما يقسمان؟ . ونقول: لا؛ لأنها تأتي مرة لغير المفاعلة، أو للمفاعلة اللزومية، والمفاعلة اللزومية تتضح في قوله الحق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4084 {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ... } [الأعراف: 142] وواعدنا، مثلها مثل فاعل، من الذي واعد؟ . إنه الله الذي وعد موسى عليه السلام، ودخل موسى في الوعد بقبوله الوعد وتوفيته به. إذن «قاسمهما» أي قبلا القسم ودخلا فيه. {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] و «قاسم» ، أي أقسم، ولذلك حينما عاتب ربنا سيدنا آدم أوضح سبحانه: أنا قلت إنه عدو لك ولزوجك، ولسوف يخرجنكما من الجنة لتتعب وتشقى، فقال آدم: يا ربي ما كنت أعتقد أن خلقاً من خلقك يقسم بك على الباطل. ولم يأتي على البال أن خلقاً يقسم بالله على الباطل. وكانت هذه أول خديعة في الخلق. ولذلك نجد قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول: «المؤمن بالله يُخدع» . «والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عقد على امرأة ودخلت به، ومن كيد النساء وهن زوجات للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد خفن أن يشغف بها حُبًّا، فقلن لها: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يحب هذه الكلمة، فإذا دخل عليك فقوليها! ، قولي:» أعوذ بالله منك «، ولحظة أن دخل عليها سيدنا رسول الله، قالت له:» أعوذ بالله منك «. فقال لها: استعذت بمعاذ. ولم يقربها الرسول» ، وهذا ما يشرح لنا كيف يُخدع المؤمن بالله. وها هو ذا سيدنا عبد الله بن عمر كان يعتق من العبيد من يحسن الصلاة ويتقنها ويؤديها في مواعيدها، ويقف فيها خاشعاً، وحين عرف العبيد ذلك احترفوا إقامة الصلاة أمام المكان الذي يجلس فيه وكانوا يؤدونها بخشوع، وكان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يعتقهم، وذهب له من يقول: إن العبيد يخدعونك، فيقول: من خدعنا بالله، انخدعنا له. والنصح هنا: إغراء بمخالفة أمر الله، وكان يجب ألا تكون هناك غفلة من آدم، وكان لابد أن يقارن بين الأمرين، بين غواية الشيطان له بالأكل، وبين أمر الحق سبحانه الذي قال له ولزوجه: لا تقربا. لكنه لم يفعل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4085 ويقول الحق بعد ذلك: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4086 {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} أي فأنزلهما من رتبة الطاعة إلى درك المعصية والذنب مما غرهما وخدعهما من القسم. و «دلاّ» مأخوذة من دلّى رجليه في البئر كي يرى إن كان فيه ماء أم لا، أو دلَّى جبل الدلو لينزله في البئر، ومعناها: أنه يفعل الشيء مرة فمرة، و «بغرور» أي بإغراء لكي يوقعهما في المخالفة، فأظهر لهما النصح وأبطن لهما الغش. وهنا وقفة تدل على الاصطراع بين الحق والباطل في النفس، {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة} هذا يدل على أنهما بمجرد المذاق تذكرا أن النزغ من إبليس جعلهما يذهبان إلى الشجرة. وأن ما أخذاه فقط كان مجرد المذاق، فتنبه كلاهما إلى جسامة الأمر. {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} [الأعراف: 22] و «الخصف» أي تأتي بشيء وتلزقه على شيء لتداري شيئاً. وقديماً حينما كان يبلى نعل الحذاء، ويظهر به خرق فالإِسكافي يضع عليه رقعة من الجلد تكون أوسع من الخرق حتى تتمكن منه. وهكذا فعل آدم وحواء؛ أخذا من ورق الجنة ووضعا ورقة على ورقة ليداريا السوءة. وقوله الحق: {وَطَفِقَا} يعني وجعلا من ورق الشجر غطاء للسوءات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4086 وهنا يقول الحق: { ... وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 22] لقد كان التكليف هنا في أمر واحد، والإِباحة في أمور متعددة، وسبحانه لم يكلفهما إلا بأمر واحد هو عدم الاقتراب من الشجرة، والمباح كان كثيراً؛ لذلك لم يكن من اللائق أن يتولى عن التكليف. ولم يكن هذا التكليف بالواسطة ولكن كان بالمباشرة، ولذلك سينفعنا هذا الموقف في الفهم في لقطة للقصة في سورة غير هذه وهو قوله الحق: { ... وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] ولم يأت الحق هنا بسيرة المعصية، وقال لهما: { ... أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 22] وسبحانه لا يجرم إلا بنص، وسبق أن قال سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} وأوضح: أن هناك عنصراً إغوائياً هو إبليس وعداوته مسبقة في أنه امتنع عن السجود، وقد طرده الحق لهذا السبب. إذن إنْ آخذهما وعاقبهما الله بهذا الذنب فهو العادل، وهما اللذان ظلما أنفسهما. وكان لابد أن يكون الجواب: نعم يا رب نهيتنا، وقلت لنا ذلك. وهذا إيراد للحكم بأقوى الأدلة عليه؛ لأن الحكم قد يأتي بالإِخبار، وقد يأتي بالاستفهام بالإِيجاب، ويكون أقوى لو جاء بالاستفهام بالنفي. { ... إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 22] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4087 ونحن نعلم أن العدو هو الخصم الذي يريد إلحاق الضرر والإيذاء بك، و «مبين» أي محيط، وهذا دليل يظهر عداوة الشيطان وإحاطتها؛ لأنه قد سبق أن أوضح أنه سيأتي من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. أو بيَّن العداوة وشديد الخصومة. ويأتي الإقرار بالذنب من آدم وحواء: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4088 وتلك هي الكلمات التي قال الله عنها في سياق آخر: {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} [البقرة: 37] فكأن الحق سبحانه وتعالى قدَّر غفلة خلقه عن المنهج؛ فشرّع لهم وسائل التوبة إليه، ووسائل التوبة ثلاث مراحل: تشريعها رحمة، ثم الإقبال عليها من المذنب اعترافا وإنابة، وقبولها منه سبحانه رحمة، فالتشريع يطلب منك أن تفعل، وحين تتوب يتوب الله عليك. تشريع التوبة - إذن رحمة، لا بالمذنب فقط، بل وبغيره أيضاً؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة، كان الذي يعمل معصية، ولايجد مغفرة، يستشري في المعاصي، وإذا استشرى في المعاصي تعب المجتمع كله. {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] وهذا هو الموقف بعد الذنب من آدم وزوجته، وهو يختلف عن موقف إبليس بعد الذنب؛ فإبليس أراد أن يبرر المخالفة: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4088 { ... قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] فماذا قال آدم وحواء؟ : { ... رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] ولذلك كان جزاء إبليس - وهو المتأبي على أوامر الله وحكمه - أن يطرد من رحمته. وجزاء المعترف بأنه أذنب، وأنه ظلم نفسه أن تُقبل توبته. إذن لا يصح للناس الذين يقيمون على معصية أن يقول الواحد منهم: «هذه هي ظروفي» ، ويبرر ويحلل ما يفعله من المعاصي، بل على الواحد منهم ألا يطرد نفسه بنفسه من منطقة الرحمة، وعليه أن يقول: «ما أفعله، حرام، لكن لا أقدر على نفسي» وبذلك لا يكون قد ردّ الحكم، بل اتهم نفسه بالتقصير واعترف بالذنب، فصار أهلاً للمغفرة وأهلاً للتوبة. وهنا نسأل: ما الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم؟ . نقول: إبليس عصى وجاء بحيثية رفض الأمر، لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة. وحين قال آدم وزوجته حواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} معاً وفي نَفَس واحد، ونغمة حزينة نادمة، ألا يدل ذلك على أنهما قد تعلماها؟ . إن كلا منهما لو اعتذر لله بمفرده لاختلفا في أسلوب الاعتذار. وهذا دليل على أنها ملقنة، ولهذا قال ربنا. {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ... } [البقرة: 37] وهما قد قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} ، وأنفسنا جمع نَفْس، ولم يقولا «نفسينا» ، بل قالا {أَنفُسَنَا} أي أن قلبيهما أيضاً قد صفيا وخلصا من أثر تلك المعصية، وأن ذلك مطمور وداخل في نفوس ذريتهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4089 ويقول الحق بعد ذلك: {قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4090 ونلتفت لنجد أن هناك أمراً قد يسبق لإِبليس بالهبوط، وهنا أمر آخر بالهبوط، وبالله لو كانت جنة الخلود هي محل إقامتهما، وآدم مخلوق لها ثم عصى ثم تاب لما خرجا منها أبداً. لكنه سبحانه أمر آدم بأن يهبط إلى الأرض التي جعله خليفة فيها، ليباشر مهمة الخلافة في إطار التجربة التي وقعت له، وعليه أن يحترم أمر الله في كل تكليف، وأن يحترم نهي الله في كل تكليف، وليحذر عداوة الشيطان فإنه سيوسوس له. وقد جرب ذلك بنفسه، فلينزل مزوداً بالتجربة، وليس له عذر من بعد ذلك. {قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . والأمر هنا للجماعة؛ ولم يقل لهما اهبطا. وفي آية ثانية قال: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً ... } [طه: 123] وذلك لنعرف أن ورود القصة في أماكن متعددة جاء لتعطي لقطات كثيرة. والأمر هنا جاء بقوله: {اهبطوا} لأن الهبوط اشترك فيه الثلاثة؛ آدم وحواء، وإبليس. . والعداوة مسبقة ولا ندعيها. العداوة بين طرفين: اثنان في طرف هما آدم وحواء، وواحد في طرف هو إبليس. ويريد الحق لنا بيان الحقائق وأن المتكلم إله، إنّ كل حرف عنده بميزان؛ ولذلك نجده سبحانه يقول لنا: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن ... } [النساء: 82] أي إياك أن تأخذ واجهة النص، ولكن ابحث في خلفيات النص، ولا تأخذ واجهة اللفظ، بل انظر إلى ما وراء الألفاظ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4090 {قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} [الأعراف: 24] وكلمة «عدو» تعني وجود صراع، ومعارك سوف تقوم بين أولاد آدم بعضهم مع بعض، أو تقع العداوة بينهم وبين أعدائهم من سكان الأرض من جن وغيرهم، لكنها لمدة محدودة، ولذلك قال: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} . أي أن لكم استقراراً في الأرض ومتاعاً إلى حين. وصراع صاحب الحق في الحق يجب أن يأخذه على أنه متاع في الدنيا ولا يأخذه على أنه معركة بلا جزاء، لا، فأنت تجاهد وتأخذ جزاء كبيراً على الجهاد وهذا متاع. ويقول الحق بعد ذلك: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4091 كأنه قال: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} فأحب أن يعطينا الصور لرحلة الحياة، ويرسم لنا علاقتنا بالأرض التي قال فيها: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ... } [البقرة: 30] فقد ربطنا بالأرض. إيجاداً من طينها، ومتعة بما فيها من ميزات، وخيرات وثمرات، ثم نموت لنعود لها ونبعث من بعد ذلك. فالإِنسان منا من الأرض، منها يحيا وفيها يموت، ويذهب إلى أصله ومرجعه، إلى الأم الأرض، فهي تكفته وتضمه وتأخذه في حضنها فهي الحانية عليه وبخاصة في وقت ضعفه. وساعة ما يكون الإِنسان في حالته الطيبة، وله أخ حالته عكس ذلك فإن قلب الأم إنما يكون مع الضعيف، ومع المريض، ومع الصغير. والأرض هي التي تأخذ كل البشر، تأخذ الإِنسان وتمص منه الأذى، وتداري الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4091 رائحته، أمّا أحبابه في الدنيا وإخوانه، فقد سارعوا بمواراته التراب تفادياً لرحلة التحلل. وبمجرد أن يموت الإنسان، أول ما يُنْسىَ هو اسمه؛ فيقولون: «أين الجثة» ، ولا يقولون: «أين فلان» . وبعد الكفن يوضع الجثمان في النعش، ليوارى في التراب ويدمدم اللحاد عليه برجليه. وينتقل الحق بعد ذلك بالخطاب إلى أبناء آدم فيقول: {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4092 وكلمة {يابنيءَادَمَ} لفت إلى أن تتذكروا ماضي أبيكم مع عدوكم المبين، إبليس، أنتم أولاد آدم، والشيطان موجود، فانتبهوا. لقد أنزل الحق عليكم لباسا يواري سوءاتكم؛ لأن أول مخالفة حدثت كشفت السوءة، والإنزال يقتضي جهة علو لنفهم أن كل خير في الأرض يهبط مدده من السماء، وسبحانه هو من أنزل اللباس لأنه هو الذي أنزل المطر، والمطر روى بذور النبات فخرجت النباتات التي غزلناها فصارت ملابس، وكأنك لو نسبت كل خير لوجدته هابطا من السماء. ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على عباده فيقول: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ... } [الزمر: 6] نعم هو الذي أنزل من الأنعام أيضاً لأن السببية في النبات من مرحلة أولى، والسببية في الحيوان من مرحلة ثانية، فهو الذي جعل النبات يخرج من الأرض ليتغذى عليه الحيوان، ويقول سبحانه أيضاً: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4092 {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ... } [الحديد: 25] نعم فسبحانه هو من أنزل الحديد أيضاً؛ لأننا نأخذه من الأرض التي خلقها الله، وهذا دليل على أن التنزيلات إنما أراد الله أن يحمي بها كل منهج. {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ ... } [الأعراف: 26] فإذا كنا قد أنزلنا اللباس يواري سوءات الحس وسوءات المادة، كذلك أنزلنا اللباس الذي يواري سوءات القيم. فكلما أنكم تحسّون وتدركون أن اللباس المادي يداري ويواري السوءة المادية الحسية فيجب أن تعلموا أيضاً أن اللباس الذي ينزله الله من القيم إنما يواري ويستر به سواءتكم المعنوية. ولباس الحياة المادية لم يقف عند موارة السوءات فقط، بل تعدى ذلك إلى ترف الحياة أيضاً. لذلك قال الحق: { ... قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26] والريش كساء الطير، وقديماً كانوا يأخذون ريش الطير ليزينوا به الملابس. وكانوا يضعون الريش على التيجان، وأخذ العوام هذه الكلمة وقالوا: فلان مريش أي لا يملك مقومات الحياة فقط، بل عنده ترف الحياة أيضاً، فكأن هذا القول الكريم قد جاء بمشروعية الترف شريطة أن يكون ذلك في حل. وقيل أن يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى مقومات الحياة لفتنا إلى الجمال في الحياة، فقال سبحانه: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ... } [النحل: 8] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4093 والركوب لتجنب المشقة، والزينة من أجل الجَمَال. وكذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق ... } [الأعراف: 32] بل سبحانه طلب زينتنا في اللقاء له في بيته فيقول: {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... } [الأعراف: 31] إذن فهذا أمر بالزينة، وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ. . .} [الأعراف: 26] نعم إن لباس التقوى خير من ذلك كله؛ لأن اللباس المادي يستر العورة المادية، وقصاراه أن يكون فيه مواراة وستر لفضوح الدنيا، لكن لباس التقوى يواري عنا فضوح الآخرة. أو لباس التقوى هو الذي تتقون به أهوال الحروب؛ إنّه خير من لباس الزينة والرياش لأنكم تحمون به أنفسكم من القتل، أو ذلك اللباس - لباس التقوى - خير من اللباس المادي وهو من آيات الله، أي من عجائبه، وهو من الأشياء اللافتة؛ فالإِنسان منكم مكون من مادة لها احتياجات مادية وعورات مادية، وهناك أمور قيمية لا تنتظم الحياة إلا بها، وقد أعطاك الحق مقومات الحياة المادية، وزينة الحياة المادية، وأعطاك ما تحيا به في السلم والحرب، ومنهج التقوى يحقق لك كل هذه المزايا. فخذ الآيات مما تعلم ومما تحس لتستنبط منها ما يغيب عنك مما لا تحس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4094 ويقول الحق بعد ذلك: {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4095 قبل أن يطلب منا سبحانه ألا نفتتن بالشيطان، أوضح أنه قد رتب لنا كل مقومات الحياة، وعلينا أن نتذكر موقف الشيطان، من أبينا آدم وإِغواءه له. والفتنة في الأصل هي الاختبار، وتُطلق - أحياناً - على الأثر السيء حيث تكون أشد من القتل، لكن هل يسقط الإِنسان في كل فتنة؟ لا؛ لأن الفتنة هي الاختبار، وفي الاختبار إما أن ينجح الإِنسان، وإمّا أن يرسب، فإن نجح أعطته الفتنة خيراً وإن رسب تعطه شرًّا. وبعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى قصة خلق آدم، وأعلمنا أنه خلقه للخلافة في الأرض، وأن موضوع الجنة هو حلقة مقدمة لتلقي الخلافة؛ لأنه إذا ما أصبح خليفة في الأرض؛ فلله منهج يحكمه في كل حركاته، ومادام له منهج يحكمه في كل حركاته فرحمة به لم ينزل الله للأرض ابتداءً ليتلقى المنهج بدون تدريب واقعي على المنهج، فجعل الجنة مرحلة من مراحل ما قبل الاستخلاف في الأرض، وحذره من الشيطان الذي أبى أن يسجد له، وأراد منه أن يأخذ التجربة في التكليف. وكل تكليف محصور في «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» ؛ لذلك شاء الله أن يجعل له في الجنة فترة تدريب على المهمة؛ لينزل إلى الأرض مباشراً مهمة الخلافة بعد أن زود بالتجربة الفعلية الواقعية، وأوضح له: أَنْ كُلْ مِنْ كُلِّ ما في الجنة، ولكن لا تقرب هذه الشجرة. و «كُلْ» أَمْرٌ، و «ولا تقرب» نَهْيٌّ. وكل تكليف شرعي هو بين «لا تفعل» وبين «افعل» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4095 وبعد ذلك حذره من الشيطان الذي يضع ويجعل له العقبات في تنفيذ منهج الله، فلما قرب آدم وحواء وأكلا منها؛ خالفا أمر الله في {وَلاَ تَقْرَبَا} ، وأراد الله أن يبين لهما بالتجربة الواقعية أن مخالفة أمر الله لابد أن ينشأ عنها عورة تظهر في الحياة، فبدت له ولزوجته سواءتهما، فلما بدت لهما سواءتهما علم كل منهما أن مخالفة أمر الله تُظهر عورات الأرض وعورات المجتمع، فأمره الله: أن اهبط إلى الأرض مزوداً بهذه التجربة. ولما هبط آدم وزوجه إلى الأرض أرسل إليه منهج السماء بعد التجربة، وأراد أن يبين لنا أنه عصى أمر ربه في قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا} ، وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وأراد سبحانه أن يبين لنا أن آدم يتمثل فيه أنه بشر يصيب ويخطئ، وتدركه الغفلة، وقد يخالف منهج الله في شيء، ثم يستيقظ من غفلته فيتوب، وبعد أن كلفه أن يبلغ رسالة الله وصار نبيًّا؛ جاءت له العصمة فلا يغفل ولا ينسى في تبليغ الرسالة. ولذلك يجب أن نفطن إلى النص القرآني: { ... وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] إنّ هذه طبيعة البشر أن يعصي ثم يتوب إذا أراد التوبة، ولابد أن نفطن أيضاً إلى قوله الحق: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ} إذن فالاصطفاء جاء بعد المعصية؛ لأن عصيانه كان أمراً طبيعيًّا لأنه بشر، يخطئ ويصيب، ويسهو ويغفل. ولكن بعد أن خرج من الجنة اجتباه الله ليكون نبيًّا ورسولاً، ومادام قد صار نبيًّا ورسولاً فالعصمة تأتي له: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 122] إذن لا يصح لنا أن نقول: كيف يعصي آدم وهو نبي؟! نقول: تنبه إلى أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4096 النبوة لم تأته إلا بعد أن عصى وتاب؛ فهو يمثل مرحلة البشرية لأنه أبو البشرية كلها، والبشرية منقسمة إلى قسمين: بشر مبلغون عن الله، وأنبياء يبلغون عن الله، فله في البشرية أنه عصى، وله في النبوة أن ربه قد اجتباه فتاب عليه وهداه. والذين يقولون: إن آدم كان مخلوقاً للجنة، نقول لهم: لا. افهموا عن الله، لأنه يقول: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} . إن أمر الجنة كان مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. إنها كانت تدريباً على المهمة التي سيقوم بها في الأرض، والا فلو أن آدم قد خلقه الله للجنة وأن المعصية أخرجته، إلا أن الله قد قبل منه توبته، وما دام قبل توبته فكان يجب أن يبقيه في الجنة، ومن هنا نقول ونؤكد أن الجنة كانت مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع علينا التجربة لآدم حتى نتعظ بها، وأن نعرف عداوة الشيطان لنا، وألا نقع في الفتنة كما وقع آدم. {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ ... } [الأعراف: 27] وهذا نهي لبني آدم وليس نهيا للشيطان، وهذا في مُكنة الإنسان أن يفعل أو لا يفعل، فسبحانه لا ينهى الإنسان عن شيء ليس في مكنته، بل ينهاه عما في مكنته، والشيطان قد أقسم أن يفتنه وسيفعل ذلك لأنه أقسم وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . فإياكم أن تنخدعوا بفتنة الشيطان؛ لأن أمره مع أبيكم واضح، ويجب أن تنسحب تجربته مع أبيكم عليكم فلا يفتننكم كما أخرج أبويكم من الجنة، ويتساءل البعض: لماذا لم يقل الله: لا يفتننكم الشيطان كما فتن أبويكم، وقال: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة} ؟ . ونقول هذا هو السمو والافتنان الراقي في الأداء البياني للقرآن. وإن هذا تحذير من فتنة الشيطان حتى لا يخرجنا من جنة التكليف. كما فتن أبوينا فأخرجهما من جنة التجربة. ويقال عن هذا الأسلوب إنه أسلوب احتباك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4097 وهو أن تجعل الكلام شطرين وتحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر قصد الاختصار. وهذا هو الأسلوب الذي يؤدي المعنى بمنتهى الإيجاز؛ لينبه ذهن السامع لكلام الله. فيلتقط من الأداء حكمة الأداء وإيجاز الأداء، وعدم الفضول في الأساليب. {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة ... } [الأعراف: 27] والفتنة - كما علمنا - هي في الأصل الاختبار حتى ننقي الشيء من الشوائب التي تختلط به، فإذا كانت الشوائب في ذهب فنحن نعلم أن الذهب مخلوط بنحاس أو بمعدن آخر، وحين نريد أن نأخذ الذهب خالصاً نفتنه على النار حتى ينفض ويزيل عنه ما علق به. كذلك الفتنة بالنسبة للناس، إنها تأتي اختباراً للإنسان لينقي نفسه من شوائب هذه المسألة، وليتذكر ما صنع إبليس بآدم وحواء. فإذا ما جاء ليفتنك فإياك أن تفتن؛ لأن الفتنة ستضرك كما سبق أن الحقت الضرر بأبيك آدم وأمك حواء. والشيطان هو المتمرد على منهج الله من الجن، والجن جنس منه المؤمن ومنه الكافر. فقد قال الحق سبحانه: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ... } [الجن: 11] والشيطان المتمرد من هذا الجنس على منهج الله ليس واحداً، واقرأ قول الحق سبحانه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ... } [الكهف: 50] وهنا يقول الحق سبحانه: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ... } [الأعراف: 27] و «قبيله» هم جنوده وذريته الذين ينشرهم في الكون ليحقق قَسَمَه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4098 {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] إذن ففتنة الشيطان إنما جاءت لتخرج خلق الله عن منهج الله، وحينما عصى إبليس ربّه عزّ عليه ذلك، فبعد أن كان في قمة الطاعة صار عاصيًّا لأمر الله معصية أَدَّته وأوصلته إلى الكفر؛ لأنه ردّ الحكم على الله. إن ذلك قد أوغر صدره وأحنقه، وجعله يوغل ويسرف في عداوة الإِنسان لأنه عرف أن طرده ولعنه كان بسبب آدم وذريته. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ... } [الأعراف: 27] وهذا يدل على أن المراد ذرية الشيطان، فلو كان المراد شياطين الإِنس معهم لما قال: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} . وعلى ذلك فهذه الآية خاصة بالذرية، ويعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن نتنبه إلى أن الشيطان لن يكتفي بنفسه ولن يكتفي بالذرية بل سيزين لقوم من البشر أن يكونوا شياطين الإِنس كما وُجد شياطين الجن، وهم من قال فيهم سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً ... } [الأنعام: 112] وكلمة {زُخْرُفَ القول} تعني الاستمالة التي تجعل الإِنسان يرتكب المعصية وينفعل لها، ويتأثر بزخارف القول. وكل معصية في الكون هكذا تبدأ من زخرف القول، فللباطل دعاته، ومروجوه، ومعلنوه، إنهم يزينون للإِنسان بعض شهواته التي تصرفه عن منهج الله، ونلاحظ أن أعداء الله، وأعداء منهج الله يترصدون مواسم الإِيمان في البشر، فإذا ما جاء موسم الإِيمان خاف أعداء الله أن يمر الموسم تاركاً هبة في نفوس الناس، فيحاولوا أن يكتلوا جهودهم حتى يحرموا الناس نفحة الموسم، فإذا ما حرموا الناس من نفحة الموسم فقد حققوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4099 غرضهم في العداوة للإِسلام. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} . إن الشيطان يراكم أيها المكلفون هو وقبيله. والقبيل تدل على جماعة أقلها ثلاثة من أجناس مختلفة أو جماعة ينتسبون إلى أب وأم واحدة. واختلف العلماء حول المراد من هذا القول الكريم؛ فقال قوم: «إنهم جنوده وذريته» . ويقصدون جنوده من البشر، ولم يلتفتوا إلى قول الحق: {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} فلا بد أن يكون المراد بالقبيل هنا الذرية؛ لأننا نرى البشر، وفي قوله الحق تغليظ لشدة الحذر والتنبه؛ لأن العدو الذي تراه تستطيع أن تدفع ضرره، ولكن العدو الذي يراك ولا تراه عداوته شديدة وكيده أشد، والجن يرانا ولا نراه، وبعض من العلماء علل ذلك لأننا مخلوقون من طين وهو كثيف، وهم مخلوقون من نار وهي شفيفة. فالشفيف يستطيع أن يؤثر في الكثيف، بدليل أننا نحس حرارة النار وبيننا وبينها جدار، ولكن الكثيف لا يستطيع أن يؤثر في الشفيف ولا ينفذ منه. إذن فنفوذ الجن وشفافيته أكثر من شفافية الإِنسان، ولذلك أخذ خفة حركته. ونحن لا نراه. إذن معنى ذلك أن الشيطان لا يُرى، ولكن إذا كان ثبت في الآثار الصحيحة أن الشيطان قد رُئى وهو من نار، والملائكة من نور، والاثنان كل منهما جنس خفي مستور، وقد تشكل المَلك بهيئة إنسان، وجاء لرسول الله وقال لنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم» . وعلى ذلك رأى السابقون المعاصرون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جبريل لا على صورة ملائكيّته، ولكن على صورة تتسق مع جنس البشر، فيتمثل لهم مادة. «وقد ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى الشيطان وقال:» إن عفريتا من الجن جعل يفتك عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة، وإن الله أمكنني منه فَذَعَتّهُ فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سوراي المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون «. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4100 وذلك من أدب النبوة. إذن فالشيطان يتمثل وأنت لا تراه على حقيقته، فإذا ما أرادك أن تراه. . فهو يظهر على صورة مادية. وقد ناقش العلماء هذا الأمر نقاشاً يدل على حرصهم على فهم كتاب الله، ويدل على حرصهم على تجلية مراداته وأسراره، فقال بعضهم: حين يقول الله إن الشيطان يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، لابد أن نقول: إننا لن نراه. وأقول: إن الإنسان إن رأى الجني فلن يراه على صورته، بل على صورة مادية يتشكل بها، وهذه الصورة تتسق وتتفق مع بشرية الإنسان؛ لأن الجني لو تصور بصورة مادية كإنسان أو حيوان أو شيء آخر يمكن أن يراه الإنسان، وحينئذ لفقدنا الوثوق بشخص من نراه، هل هو الشيء الذي نعرفه أو هو شيطان قد تمثل به؟ إن الوثوق من معرفة الأشخاص أمر ضروري لحركة الحياة، وحركة المجتمع؛ لأنك لا تعطف على ابنك إلا لأنك تعلم أنه ابنك ومحسوب عليك، ولا تثق في صديقك إلا إذا عرفت أنه صديقك. ولا تأخذ علماً إلا من عالم تثق به. وهب أن الشيطان يتمثل بصورة شخص تعرفه، وهنا سيشكك هذا الشيطان ويمنع عنك الوثوق بالشخص الذي يتمثل في صورته. وأيضاً أعدى أعداء الشيطان هم الذين يبصرون بمنهج الله وهم العلماء، فما الذي يمنع أن يتشكل الشيطان بصورة عالم موثوق في علمه، ثم يقول كلاماً مناقضاً لمنهج الله؟ . إذن فالشيطان لا يتمثل، هكذا قال بعض العلماء، ونقول لهم: أنتم فهمتم أن الشيطان حين يتمثل، يتمثل تمثلاً استمرارياً، لا. هو يتمثل تمثل الومضة؛ لأن الشيطان يعلم أنه لو تشكل بصورة إنسان أو لصورة مادية لحكمته الصورة التي انتقل إليها، وإذا حكمته الصورة التي انتقل إليها فقد يقتله من يملك سلاحاً، إنه يخاف منا أكثر مما نخاف منه، ويخاف أن يظهر ظهوراً استمرارياً؛ لذلك يختار التمثل كومضة، ثم يختفي، والإنسان إذا تأمل الجني المشكل. سيجد فيه شيئاً مخالفاً، كأن يتمثل - مثلا - في هيئة رجل له ساق عنزة لتلتفت إليه كومضة ويختفي؛ أنه يخاف أن تكون قد عرفت أن الصورة التي يتشكل بها تحكمه. وإذا عرفت ذلك أمكنك أن تصرعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4101 ويتابع الحق سبحانه: { ... إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27] والشياطين من جَعْل الله، وسبحانه خلّى بينهم وبين الذين يريدون أن يفتنوهم والا لو أراد الله منعهم من أن يفتنوهم. لفعل. . إذن فكل شيء في الوجود، أو كل حدث في الوجود يحتاج إلى أمرين: طاقة تفعل الفعل، وداع لفعل الفعل. فإذا ما كانت عند الإنسان الطاقة للفعل، والداعي إلى الفعل، فإبراز الفعل في الصورة النهائية نستمدها من عطاء الله من الطاقة التي منحها الله للإنسان. فأنت تقول: العامل النساج نسج قطعة من القماش في غاية الدقة، ونقول: إن العامل لم ينسج، وإنما الآلة، والآلة لم تنسج، لكن الصانع الذي صنعها أرادها كذلك، والصانع لم يصممها الا بالعالم الذي ابتكر قانون الحركة بها. إذن فالعامل قد وجّه الطاقة المخلوقة للمهندس في أن تعمل، واعتمد على طاقة المهندس الذي صنعها في المصنع، والمهندس اعتمد على طاقة الابتكار وعلى العالم الذي ابتكر قانون الحركة، والعالم قد ابتكرها بعقل خلقه الله، وفي مادة خلقها الله. إذن فكل شيء يعود إلى الله فعلاً؛ لأنه خالق الطاقة، وخالق من يستعمل الطاقة، والإنسان يوجه الطاقة فقط، فإذا قلت: العامل نسج يصح قولك، وإذا قلت: الآلة نسجت، صح قولك، وإذا قلت: إن المصنع هو الذي نسج صح قولك. إذن فالمسألة كلها مردها في الفعل إلى الله، وأنت وجهت الطاقة المخلوقة لله بالقدرة المخلوقة لله في فعل أمر من الأمور. فإذا قال الله {إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين} أي خلّينا بينهم وبينهم المفتونين بهم، غير أننا لو أردنا الا يفتنوا أحداً لما فتنوه. وهذا ما فهمه إبليس. { ... لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82 - 83] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4102 إذن من يريده الله معصوماً لا يستطيع الشيطان أن يغويه، وتعلم الشياطين أن الله خلّى بينهم في الاختيار، هذه اسمها تخلية؛ ولذلك لا معركة بين العلماء. فمنهجهم أن الطاقة مخلوقة لله، ونسب كل فعل إلى الله، ومنهم من رأى أنَّ موجّه الطاقة من البشر فينسب الفعل للبشر، ومنهم من رأى طلاقة قدرة الله في أنه الفاعل لكل شيء، ومنهم من قال: إن الإنسان هو الذي فعل المعصية. . أي أنه وجه الطاقة إلى عمل والطاقة صالحة له، فربنا يعذبه على توجيه الطاقة للفعل الضار ولا خلاف بينهم جميعاً. { ... إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27] إذن جعل الله الشياطين أولياء لمن لم يؤمن، ولكن الذي آمن لا يتخذه الشيطان وليًا. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4103 والفاحشة مأخوذة من التفحش أي التزايد في القبح، ولذلك صرفها بعض العلماء إلى لون خاص من الذنوب، وهو الزنا، لأن هذا تزيد في القبح، فكل معصية يرتكبها الإنسان تنتهي بأثرها، لكن الزنا يخلف آثاراً. . فإمّا أن يوأد المولود، وإما أن تجهض المرأة، وإما أن تلد طفلها وتلقيه بعيداً، ويعيش طريداً في المجتمع لا يجد مسئولاً عنه، وهكذا تصبح المسألة ممتدة امتداداً أكثر من أي معصية أخرى. وتصنع هذه المعصية الشك في المجتمع. ولنا أن نتصور إن إنساناً يشك في أن من ينسبون إليه ويحملون اسمه ليسوا من صلبه، وهذه بلوى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4103 كبيرة للغاية. والذين قالوا: إن الفاحشة المقصود بها الزنا نظروا إلى قول الله سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] أو الفاحشة هي ما فيه حد، أو الفاحشة هي الكبائر، ونحن نأخذها على أنها التزيد في القبح على أي لون من الألوان. فما هي الفاحشة المقصودة هنا؟ . إنها الفواحش التي تقدمت في قوله: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ ... } [المائدة: 103] وكذلك ما جاء في قوله تعالى: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ ... } [الأنعام: 137] وكذلك في قوله الحق سبحانه: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا ... } [الأنعام: 136] أو أن المقصود أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فيطوف الرجال نهاراً، والنساء يطفن ليلاً، لماذا؟ . لأنهم ادَّعَوْا الورع. وقالوا: نريد أن نطوف إلى بيت ربنا كما ولدتنا أمهاتنا، وأن نتجرد من متاع الدنيا، ولا نطوف ببيت الله في ثياب عصينا الله فيها. وقولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا} تقليد، والتقليد لا يعطي حكماً تكليفياً، وإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4104 أعطى علماً تدريبيا، بأن ندرب الأولاد على مطلوب الله من المكلف ليستطيعوا ويألفوا ما يكلفون به عندما يصلون إلى سن التكليف. ومما يدل على أن التقليد لا يعطي حقيقة، أنك تجد المذهبين المتناقضين - الشيوعية والرأسمالية مثلاً - مقلدين؛ لهذا المذهب مقلدون، ولهذا المذهب مقلدون. فلو أن التقليد معترف به حقيقة لكان التقليدان المتضادان حقيقة، والمتضادان لا يصبحان حقيقة؛ لأنهم - كما يقولون - الضدان لا يجتمعان، هذا هو الدليل العقلي في إبطال التقليد. ولذلك نلاحظ في أسلوب الأداء القرآني أنه أداء دقيق جداً؛ فالذي يتكلم إله. {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] والرد من الله عليهم أنه سبحانه لم يأت في مسألة التقليد بردّ لأنه بداهة لا يؤدي إلى حقيقة، بل قال: { ... قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] وهذا رد على قولهم: والله أمرنا بها. وأين الرد على قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا} ؟ . نقول إنه أمر لا يحتاج إلى رد؛ لأنه أمر يرفضه العقل الفطري، ولذلك ترك الله الرد عليه؛ لوضوح بطلانه عند العقل الفطري، وجاء بالرد على ادعائهم أن الله يأمر بالفحشاء، فالله لا يأمر بالفحشاء. ثم كيف كان أمر الله لكم؟ . أهو أمر مباشر. . بمعنى أنه قد أمر كل واحد منكم أن يرتكب فاحشة؟ ألم تنتبهوا إلى قول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ... } [الشورى: 51] أم بلغكم الأمر بالفاحشة عن طريق نبي فكيف ذلك وأنتم تكذبون مجيء الرسول؟ . وهكذا يكون قولكم مردوداً من جهتين: الجهة الأولى: إنه لا طريق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4105 إلى معرفة أمر الله إلا بأن يخاطبكم مباشرة أو يخاطبكم بواسطة رسل؛ لأنكم لستم أهلاً للخطاب المباشر، والجهة الثانية: أنكم تنكرون مسألة الأنبياء والرسل. فأنتم لم يخاطبكم الله بالمباشرة أو بواسطة الرسل فلم يبق إلا أن يقال لكم: { ... أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] ولا جواب على السؤال إلا بأمرين: إما أن يقولوا: «لا» فقد كذبوا أنفسهم، وإما أن يقولوا: «نعم» ؛ فإذا قالوا: نعم نقول على الله ما لا نعلم؛ فقد فضحوا أنفسهم وأقروا بأن الله لم يأمر بالفاحشة، بل أمر الله بالقسط، لذلك يقول سبحانه بعد ذلك: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4106 والقسط هو العدل من قسط قِسطاً، وأمّا قاسط فهي اسم فاعل من قسط قَسْطاً وقَسُوطاً أي جار وعدل عن الحق، والقاسطون هم المنحرفون والمائلون عن الحق والظالمون، كلمة العدل هي التسوية، فإن ملت إلى الحق، فذلك العدل المحبوب. وإن ملت إلى الباطل، فذلك أكره مكروه {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط} . وهذه جملة خبرية. {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] وهذا فعل أمر، وقد يتبادر إلى الذهن إن هذا من عطف الأمر على الخبر، ولكن لنلتفت أن الحق يعطفها على «قل» ، فكأن المقصود هو أن يقول: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4106 والوجه هو السمة المعينة للشخص؛ لأن الإنسان إن أخفى وجهه لن تعرفه إلا أن كان له لباس مميز لا يرتديه الا هو. والوجه أشرف شيء في التكوين الجسمي، ولذلك كان السجود هو وضع الوجه في الأرض، وهذا منتهى الخضوع لأمر الله بالسجود؛ لأن السجود من الفاعل المختار وهو الإنسان يكون بوضع الجبهة على الأرض. وكل شيء خاضع لحكم الله نقول عنه: إنه ساجد. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب ... } [الحج: 18] والشجر يسجد وهو نبات، والدواب تسجد وهي من جنس الحيوان، والشمس والقمر والنجوم والجبال من الجماد وهي أيضا ساجدة، لكن حين جاء الحديث عن الإنسان قسمها سبحانه وقال: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ... } [الحج: 18] لأن الإنسان له خاصية الاختيار، وبقية الكائنات ليس له اختيار. إذن فالسجود قد يكون لغير ذي وجه، والمراد منه مجرد الخضوع، أما الإنسان فالسجود يكون بالوجه ليعرف أنه مستخلف وكل الكائنات مسخرة لخدمته وطائعة وكلها تسبح ربنا، فإذا كان السيد الذي تخدمه كل هذه الأجناس حيواناً، ونباتاً، وجماداً قد وضع وجهه على الأرض فهو خاضع من أول الأمر حين نقول عنه إنه ساجد. {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... } [الأعراف: 29] والإقامة أن تضع الشيء فيما هيىء له وخُلق وطُلب منه، وإن وجهته لناحية ثانية تكون قد ثنيته وأملته وحنيته، وعَوِّجته. إذن فإقامة الوجه تكون بالسجود؛ لأن الذي سخر لك هذا الوجود وحكمك بمنهج التكليف هو من جعلت وجهك في الأرض من أجله، وإن لم تفعل فأنت تختار الاعوجاج لوجهك، واعلم أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4107 هذا الخضوع والخشوع والسجود لله لن يعطيك فقط السيادة على الأجناس الأخرى التي تعطيك خير الدنيا، ولكن وضع جبهتك ووجهك على الأرض يعطيك البركة في العمل ويعطيك خير الآخرة أيضاً. والعاقل هو من يعرف أنه أخذ السيادة على الأجناس فيتقن العبودية لله، فيأخذ خيري الدنيا والآخرة حيث لا يفوته فيها النعيم ولا يفوت هو النعيم، أما في الدنيا فأنت تقبل عليها باستخلاف وتعلم أنك قد يفوتك النعيم، أو تفوت أنت النعيم، وحين تتذكر الله وتكون خاضعاً لله فأنت تنال البركة في حركة الاستخلاف. {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... } [الأعراف: 29] والمسجد مكان السجود، وقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون» . إذن فكل موضع في الأرض مسجد؛ فإن دخلت معبداً لتصلي فهذا مسجد. والأرض كلها مسجد لك. يصح أن تسجد وتصلي فيها. وتزاول فيها عملك أيضا، ففي المصنع تزاول صنعتك فيه، وحين يأتي وقت الصلاة تصلي، وكذلك الحقل تصلي فيه، لكن المسجد الاصطلاحي هو المكان الذي حُبس على المسجدية وقصر عليها، ولا يزاول فيه شيء آخر. فإن أخذت المسجد على أن الأرض مسجد كلها تكن {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ} في جميع أنحاء الأرض. وإن أخذتها على المسجد، فالمقصود إقامة الصلاة في المكان المخصوص، وله متجه وهو الكعبة. وكذلك يكون اتجاهك وأنت تصلي في أي مكان. والمساجد نسميها بيوت الله ولكن باختيار خلق الله، فبعضنا يبني مسجداً هنا أو هناك. ويتجهون إلى بيت باختيار الله وهو الكعبة. ولذلك كانت كعبة ومتوجهاً لجميع بيوت الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4108 وقصارى الأمر أن نجعل قبلة المسجد متجهة إلى الكعبة وأن نقيم الوجه عليها، أي على الوجه الذي تستقيم فيه العبادة. وهو أن تتجهوا وأنتم في صلاتكم إلى الكعبة فهي بيت الله باختيار الله. وساعة ما تصادفك الصلاة صل في أي مسجد، أو {أَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يقصد بها التوجه للصلاة في المسجد، وهنا اختلف العلماء، هل أداء الصلاة وإقامتها في المسجد ندباً أو حتماً؟ . والأكثرية منهم قالوا ندباً، والأقلية قالوا حتماً. ونقول: الحتمية لا دليل عليها. من قال بحتمية الصلاة في المسجد استدل بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «والذي نفسِ بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم» . ونقول: هل فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك أو لم يفعل؟ لم يفعل رسول الله ذلك، إنما أراد بالأمر التغليظ ليشجعنا على الصلاة في المساجد عند أي أذان للصلاة. ويقول الحق سبحانه: {وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ... } [الأعراف: 29] والدعاء: طلب من عاجز يتجه به لقادر في فعل يحبه الداعي. وحين تدعو ربك ادعه مخلصاً له الدين بحيث لا يكون في بالك الأسباب؛ لأن الأسباب إن كانت في بالك فأنت لم تخلص الدين، لأن معنى الإِخلاص هو تصفية أي شيء من الشوائب التي فيه، والشوائب في العقائد وفي الأعمال تفسد الإِتقان والإِخلاص، وإياكم أن تفهموا أن أحداً لا تأتي له هذه المسألة، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4109 «أنّي لَيُغَانُ على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة» . إذن فالإِخلاص عملية قلبية، وأنت حين تدعوا الله ادعه دائماً عن اضطرار، ومعنى اضطرار. أن ينقطع رجاؤك وأملك بالأسباب كلها. فذهبت للمسبب، وما دمت مضطراً سيجيب ربنا دعوتك؛ لأنك استنفدت الأسباب، وبعض الناس يدعون الله عن ترف، فالإِنسان قد يملك طعام يومه ويقول: ارزقني، ويكون له سكن طيب ويقول: أريد بيتاً أملكه. إذن فبعضنا يدعو بأشياء لله فيها أسباب، فيجب أن نأخذ بها، وغالبية دعائنا عن غير اضطرار. وأنا أتحدى أن يكون إنسان قد انتهى به أمر إلى الاضطرار ولا يجيبه الله. ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: { ... كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] والله سبحانه يخاطب الإِنسان، ويحننه، مذكراً إياه ب «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» . وسبحانه قادر أن يخلقه مرغماً على أن يفعل، لكنه - جل وعلا - شاء أن يجعل الإِنسان سيدا وجعله مختاراً، وقهر الأجناس كلها أن تكون مسخرة وفاعلة لما يريد، وأثبت لنفسه - سبحانه - صفة القدرة، ولا شيء يخرج عن قدرته؛ فأنت أيها العبد تكون قادراً على أن تعصي ولكنك تطيع، وهذه هي عظمة الإِيمان إنّها تثبت صفة المحبوبية لله، فإذا ما غُر الإِنسان بالأسباب وبخدمة الكون كله، وبما فيه من عافية، وبما فيه من قوة، وبما فيه من مال، تجد الحق يلفته: لاحظ أنك لن تنفلت مني: أنا أعطيت لك الاختيار في الدنيا، لكنك ترجع لي في الآخرة ولن تكون هناك أسباب، ولن تجد إلا المسبب، ولذلك اقرأ: { ... لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4110 كأن المُلْكَ - قبل ذلك - أي في الدنيا - كان للبشر فيه شيء لمباشرتهم الأسباب هذا يملك، وذلك يملك، وآخر يوظف، لكن في الآخرة لا مالك، ولا مَلِكٌ إلا الله، فإياكم أن تغتروا بالأسباب، وأنها دانت لكم، وأنكم استطعتم أن تتحكموا فيها؛ لأن مرجعكم إلى الله. ويقول الحق بعد ذلك: {فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4111 اذكروا أننا قلنا من قبل: إن الله هدى الكل. . بمعنى أنه قد بلَّغهم بمنهجه عبر موكب الرسل، وحين يقول سبحانه: {فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} فالمقصود هنا ليس هداية الدلالة، لكن دلالة المعونة. وقد فرقنا بين هداية الدلالة وهداية المعونة. وقوله الحق {فَرِيقاً هدى} أي هداية المعونة؛ لأن هذا الفريق أقبل على الله بإِيمان فخفف الله عليه مؤونة الطاعة، وبغّضه في المعصية، وأعانه على مهمته. أما الذي تأبّى على الله، ولم يستجب لهداية الدلالة أيعينه الله؟ لا. إنه يتركه في غيِّه ويخلي بينه وبين الضلالة، ولو أراده مهديًّا لما استطاع أحد أن يغير من ذلك. وسبحانه منزه عن التجني على أحد من خلقه، ولكن الذين حق عليهم الضلالة حصل لهم ذلك بسبب ما فعلوا. { ... إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30] إن من يرتكب المعصية ويعترف بمعصيته فهذه تكون معصية، أمّا من يقول إنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4111 هداية فهذا تبجح وكفر؛ لأنه يرد الحكم على الله. وخير للذين يرتكبون المعاصي أن يقولوا: حكم الله صحيح ولكننا لم نقدر على أنفسنا، أما أن يرد العاصي حكم الله ويقول: إنه الهداية، فهذا أمره عسير؛ لأنه ينتقل من مرتبة عاصٍ إلى مرتبة كافر والعياذ بالله. { ... وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30] لأنهم يفعلون ما حرم الله، وليتهم فعلوه على أنه محرّم، وأنهم لم يقدروا على أنفسهم، ولكنهم فعلوه وظنوا أن الهداية في الفعل. وهذا الأمر يشيع في معاصٍ كثيرة مثل الربا، فنجد من يقول: إنه حلال، ونقول: قل هو حرام ولكن لم أقدر على نفسي، فتدخل في زمرة المعصية، ولا تدخل في زمرة الكفر والعياذ بالله، ويمكنك أن تستغفر فيغفر لك ربنا، ويتوب عليك، ولكن أن ترد الحكم على الله وتقول إنه حلال!! فهذا هو الخطر؛ لأنك تبتعد وتخرج عن دائرة المعصية وتتردى وتقع في الكفر، اربأ بنفسك عن أن تكون كذلك واعلم أن كل ابن آدم خطاء، وما شرع الله التوبة لعباده إلا لأنه قدَّر أن عبيده يخطئون ويصيبون، ومن رحمته أنه شرع التوبة، ومن رحمته كذلك أنه يقبل هذه التوبة، فلماذا تخرج من حيز يمكن أن تخرج منه إلى حيز يضيق عليك لا تستطيع أن تخرج منه؟ . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4112 والزينة إذا سمعتها تنصرف إلى تجميل فوق قوام الشيء، وقوله سبحانه وتعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4112 هذا يعني أن يذهب المسلم إلى المسجد بأفخر ما عنده من ملابس، وكذلك يمكن أن يكون المقصود ب {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} هو رد على حالة خاصة وهو أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، وأن المراد بالزينة هنا هو ستر العورة. أو المراد بالزينة ما فوق ضروريات الستر، أو إذا كان المراد بها اللباس الطيب الجميل النظيف، فنحن نعلم أن المسجد هو مكان اجتماع عباد الله، وهم متنوعون في مهمات حياتهم، وكل مهمة في الحياة لها زيها ولها هندامها؛ فالذي يجلس على مكتب لمقابلة الناس له ملابس، ومن يعمل في «الحِدَادَة» له زي خاص مناسب للعمل، ولكن إذا ذهبتم إلى المسجد لتجتمعوا جميعاً في لقاء الله أيأتي كل واحد بلباس مهنته ليدخل المسجد؟ لا، فليجعل للمسجد لباساً لا يُضَايق غيره، فإن كانت ملابس العمل في مصنع أو غير ذلك لا تليق، فاجعل للمسجد ملابس نظيفة حتى لا يُؤذَي أحد بالوجود بجانبك؛ لأننا نذهب إلى المسجد لعمل مشترك يحكم الجميع وهو لقاء الله في بيت الله، فلابد أن تحتفي بهذا اللقاء. { ... وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأعراف: 31] والمأكل والمشرب من الأمور المباحة لأن فيها مقومات الحياة، وكل واشرب على قدر مقومات الحياة ولا تسرف، فقد أحل الله لك الأكثر وحرّم عليك الأقل، فلا تتجاوز الأكثر الذي أُحلِّ لك إلى ما حرم الله؛ لأن هذا إسراف على النفس، بدليل أنه لو لم تجد إلا الميتة، فهي حلال لك بشرط ألا تُسرف. ولا يصح أن تنقل الأشياء من تحليل إلى تحريم؛ لأن الله جعل لك في الحلال ما يغنيك عن الحرام، فإذا لم يوجد ما يغنيك، فالحق يحل لك أن تأخذ على قدر ما يحفظ عليك حياتك، والمسرفون هم المتجاوزون الحدود. ولا سرف في حل، إنما السرف يكون في الشيء المحرم، ولذلك جاء في الأثر: «لو أنفقت مثل أحد ذهباً في حِلِّ ما اعتبرت مسرفاً، ولو أنفقت درهماً واحداً في محرم لاعتبرت مسرفاً» . «ولذلك يطلب منك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تعطي كل نعمة حقها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4113 بشرط ألا يؤدي بك ذلك إلى البطر، وحينما ذهب إليه سيدنا عثمان بن مظعون، وقد أراد أن يترهب، ويتنسك، ويسيح في الكون، وقال لرسول الله: يا رسول الله، إنني أردت أن اختصي؛ أي يقطع خصيتيه؛ كي لا تبقى له غريزة جنسية، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا عثمان خصاء أمتي الصوم» لذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شأن من لم يستطع الزواج: «» يا معشر الشباب من استطاع منك الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء «. » وقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر الناس وخوفهم فاجتمع عشرة من الصحابة وهم: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسليمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون فاتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم ولا يقربوا النساء ويجبّوا مذاكيرهم «. فكان التوجيه النبوي أن حمد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربه وأثنى عليه وقال:» ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني «. ويتابع الحق سبحانه بعد ذلك: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4114 وما دام أخرجها لعباده فهو قد أرادها لهم، وما ينفع منها للإناث جعلتها السنة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4114 للإِناث، وما يصح منها للذكور أحلتها السنّة لهم، وكذلك الطيب من الرزق حلال للمؤمنين والمؤمنات. ولنلحظ دقة الأسلوب هنا في قوله تعالى: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا ... } [الأعراف: 32] ثم يتابع سبحانه: {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة ... } [الأعراف: 32] فكأننا أمام حالتين اثنتين: حالة في الدنيا، وأخرى في يوم القيامة، معنى ذلك أن الزينة في الحياة الدنيا غير خالصة؛ لأن الكفار يشاركونهم فيها، فهي من عطاء الربوبية، وعطاء الربوبية للمؤمن وللكافر، وربما كان الكافر أكثر حظًّا في الدنيا من المؤمن، ولكن في الآخرة تكون الزينة خالصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها الكافرون. وكذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعطي اليقظة الإِيمانية في المؤمن بوجود الأغيار فيه، ومعنى وجود الأغيار أنه قد يتعرض الإِنسان لتقلبات بين الصحة والمرض والغنى والفقر والقوة والضعف. وهكذا يكون الإٍنسان في الدنيا؛ فهي دار الأغيار، ويصيب الإِنسان فيها أشياء قد يكرهها؛ لذلك فالدنيا ليست خالصة النعيم لما فيها من أغيار تأتيك فتسوؤك. إنها تسوؤك عند غيبة شحنة الإِيمان منك؛ لأنك إن استصحبت شحنة الإِيمان عند كل حدث أجراه الله عليك لَلَفَتَكَ الله إلى حكمته. {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة ... } [الأعراف: 32] ويمكن أن نقرأ كلمة «خالصة» منصوبة على أنها حال، ويمكن أن نقرأها في قراءة أخرى مرفوعة على أنها خبر بعد خبر، والمعنى: أنها غير خالصة للمؤمنين في الدنيا لمشاركة الكفار لهم فيها، وغير خالصة أيضاً من شوائب الأغيار ولكنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4115 وفي الآخرة خالصة للمؤمنين فلا يشاركهم الكفار ولا تأتي لهم فيها الأغيار. ويذيل الحق الآية بقوله: { ... كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] معنى {نُفَصِّلُ الآيات} أي لا نأتي بالآيات مجملة بل نفصل الآيات لكل مؤمن، فلا نترك خللاً، ونأتي فيها بكل ما تتطلبه أقضية الحياة، بتفصيل يُفهمنا قضايانا فهماً لا لبس فيه. ويقول الحق بعد ذلك: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4116 والحق سبحانه - قد بدأ الآية ب «إنما» التي هي للحصر: أي ما حرم ربي إلا هذه الأشياء، الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإِثم، والبغي بغير الحق، والشرك بالله، والقول على الله ما لا نعلم، فلا تدخلوا أشياء أخرى وتجعلوها حراماً، لأنها لا تدخل في هذه، وقول الله في الآية السابقة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله} هوعلى صيغة استفهام لكي يجيبوا هم. ولن يجدوا سبباً لتحريم زينة الله لأن الحق قد وضح وبينّ ما حرم فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4116 ونتأمل الخمسة المحرمات التي جاءت بالآية؛ فحين ننظر إلى مقومات حياة الخلافة في الأرض ليبقى الإِنسان خليفة فيها نرى أنه لابد من صيانة أشياء ضرورية لسلامة هذه الخلافة وأداء مهمتها، وأول شيء أن يسلم للمجتمع طهر أنسابه. وسلامة طهر الأنساب أي الإِنجاب والأنسال ضرورية للمجتمع؛ لأن الإِنسان حين يثق أن ابنه هذا منه فهو يحرص عليه لأنه منسوب إليه، ويرعاه ويربيه. أما إذا تشكك في هذه المسألة فإنه يهمله ويلفظه، كذلك يهمله المجتمع، ولا أحد يربيه ولا يلتفت إليه ولا يعنى به. إذن فسلامة الأنساب أمر مهم ليكون المجتمع مجتمعاً سليماً، بحيث لا يوجد فرد من الأفراد إلا وهو محسوب على أبيه، بحيث يقوم له بكل تبعات حياته، ولذلك يجب أن تعلموا أن الأطفال المشردين مع وجود آبائهم حدث من أن شكاً طرأ على الأب في أن هذا ليس ابنه. ولذلك ماتت فيه غريزة الحنان عليه، فلا يبالي إن رآه أم لم يره، ولا يبالي أهو في البيت أم شرد، لا يبالي أكل أم جاع، لا يبالي تعرى أم لا. إذن فطهارة الأنساب ضمان لسلامة المجتمع؛ لأن المجتمع سيكون بين مربٍّ يقوم على شأن وصغير مرَّبى، المربي قادر على أن يعمل، والمربَّى صغير يحتاج إلى التربية. ولذلك حرم الله الفواحش. والفحش - كما قلنا - ما زاد قبحه، وانتهوا على أنه هو الزنا؛ لأن أثره لا يتوقف فقط عند الذنب والاستمتاع. بل يتعدى إلى الأنسال. وما تعدى إلى الأنسال فهو تعد إلى المجتمع، ويصير مجتمعاً مهملاً لا راعي له. والإِثم: أهو كل كبيرة أو ما يقام على فاعله حد؟ . لقد انتهى العلماء على أن الإِثم هو الخمر والميسر؛ لأن الله قال بالنص: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ... } [البقرة: 219] وأراد الحق بذلك أن يضمن مقوم تنظيم حركة الحياة في الإِنسان وهو العقل وأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4117 الخمر تغيب العقل، والإِنسان مطالب بأن يحفظ عقله ليواجه به أمور الحياة مواجهة تبقى الصالح على صلاحه أو تزيده صلاحاً ولا تتعدى على الإِنسان فإذا ما ستر العقل بالخمر فسد واختل، ويختل بذلك التخطيط لحركة الحياة. والذين يأتون ويشربون ويقولون: نريد أن ننسى همومنا نقول لهم: ليس مراد الشارع أن ينسى كل واحد ما أهمه؛ لأنه إن نسي كل واحد ما أهمه فلن يحتاط أحد ولن يقوم على تقدير الأمور التي تضمن السلامة. إن الشارع يطلب منك أن تواجه الهموم التي تعاني منها مضاعف لتزيلها. أما أن تستر العقل فأنت قد هربت من المشكلة، إذن يجب عليك أن تواجه مشكلات الحياة بعقلك وبتفكيرك. فإن كانت المشكلة، قد نشأت من أنك أهملت في واجب سببي أي له أسباب وقد قصرت في الأخذ بها فأنت الملوم. وإن كانت المشكلة جاءتك من أمر ليس في قدرتك، أي هبطت عليك قضاء وقدراً؛ فاعلم أن مجريها عليك له فيها حكمة. وقد يكون البلاء ليحيمك الله من عيون الناس فيحسدوك عليها، لأن كل ذي نعمة محسود، وحتى لا تتم النعمة عليك؛ لأن تمام النعمة على الإنسان يؤذن بزوالها، وأنت ابن الأغيار وفي دنيا الأغيار، وإن تمت لك فقد تتغير النعمة بالنقصان. إذن فالتفكير في ملافاة الأسباب الضارة وتجنبها يأتي بالعقل الكامل، والتفكير في الأشياء التي ليس لها سبب يأتي من الإيمان، والإيمان يطلب منك أن ترد كل شيء إلى حكمة الحكيم. إذن فأنت تحتاج إلى العقل فلا تستره بشرب الخمر؛ لأن العقل يدير حركة الحياة. البغي نعرف انه مجاوزة الحد ظلماً أو أكبر، أو بخلاً. والظلم أن تأخذ حق غيرك وتحرمه من ثمرة عمله فيزهد في العمل؛ لذلك يحرم الحق أن يبغي أحد على أحد. لا في عرضه، ولا في نفسه، ولا في ماله. ويجب أن نصون العرض من الفواحش؛ لأن كل فاحشة قد تأتي بأولاد من حرام. وإن لم تأت فهي تهدر العرض، والمطلوب صيانته، كذلك لا يبغى أحد على محارم أحد، وكذلك لا يبغى أحد على حياة إنسان بأن يهدمها بالقتل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4118 ويصمون الحق المال فيمنع عنه البغي فلا يأخذ أحد ثمرة عمل آخر وكفاحه عدواناً وظلماً، ومظاهر البغي كثيرة. ومن البغي أن تأخذ سلطة قسراً بغير حق ولكن هناك من يأخذ سلطة قسراً وقهراً بحق، فإن كنت - على سبيل المثال - تركب سفينة، ثم قامت الرياح والزوابع، وأنت أمهر في قيادتها أتترك الربان يقودها وربما غرفت بمن فيها أم تضرب على يده وتمسك بالدفة وتديرها لتنقذها ومن فيها، إنك في هذه الحالة تكون قد أخذت القيادة بحق صيانة أرواح الناس، وهذا بغي بحق، وهو يختلف عن البغي بغير الحق. وحتى تفرق بين البغي البغي بحق والبغي بغير الحق نقول. إن هذا يظهر ويتضح عندما نأخذ مال السفيه منه للحفاظ عليه وصيانته وتثميره له، فنكون قد أخذنا من صاحبه رعاية لهذا الحق، فهو وإن كان في ظاهره بغيا على صاحب الحق إلا أنه كان لصالحه وللصالح العام فهذا بغي بحق أو أنه سمي بغيا؛ لأنه جاء على ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير، ونقرأ أيضاً قول الله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ... } [الشورى: 40] فهل جزاء السيئة يكون سيئة؟ لا. وإنما هي سيئة بالنسبة لمن وقعت عليه؛ لأنه لما عمل سيئة واختلس مالا - مثلا - وضربت على يده وأخذت منه المال فقد أتعبته ولذلك فالحق يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] ومن بغى بغير حق علينا أن نذكره بأن هناك من هو أقوى منه، أن يتوقع أن يناله بغي ممن هو أكثر قدرة منه. وينبهنا الحق إلى العمل الذي لا غفران له: {وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} . ومحال أن ينزل الحق الذي نعبده شريكاً له ويؤيده بالبرهان والسلطان والحجة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4119 على أنه شريك له - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً؛ لأن من خصائص الإِيمان أنه سبحانه ينفي هذا الشرك بأدلته العقلية وأدلته النقلية. وإذا كان الحق قد قال لنا في هذه الآية: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فبعض من الآيات الأخرى جمعت هذه الأشياء، في إطار إيجازي ومع المقابل أيضاً، يقول الحق: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي ... } [النحل: 90] لقد جاء بالفحشاء في هذه الآية ليؤكد طهارة الأنسال، وجاء أيضاً بتحريم المنكر والبغي، وزاد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الإِثم فقط. وكأن الإثم في آية الأمر بالعدل والإِحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، مطمور في «المنكر» ، والمنكر ليس محرماً بالشرع فقط، بل هو ما ينكره الطبع السليم؛ وأيضاً فصاحب الطبع غير السليم يحكم أنه منكر إذا كانت المعاصي تعود عليه بالضرر، هنا يقول: أعوذ بالله منها. وإن كان هو يوقعها على الغير فهو يعتقد أنها غير منكر، وعلى سبيل المثال نجد رجلاً يبيح لنفسه أن يفتح أعينه على عورات الناس ويتلذذ بهذه المسألة. لكنه ساعة يرى إنساناً آخر يفتح عينيه على عورته أو على ابنته مثلا إنّه يرى في ذلك أبشع المنكرات؛ لذلك لابد أن تجعل للمنكر حدًّا يشملك ويشمل غيرك ولا تنظر إلى الأمر الذي تكلف به أنت وحدك، وإنما انظر إلى الأمر المكلف به الآخرون. . وإياك أن تقول: إنه حدد بصري من أن يتمتع بجسم يسير أمامي، إنه - سبحانه - كما حرم نظرك إلى ذلك، حرم أنظار الناس جميعاً أن ينظروا إلى محارمك؛ وفي هذا صيانة لك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4120 وبعد أن حلل هذه الطيبات والزينة، وحرم الفواحش والمنكر والبغي والإِثم يقول سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4121 نحن هنا أمام نص قرآني تثبته قضايا الوجود الواقعي؛ فالذين سفكوا، وظلموا، وانتهكوا الأعراض، وأخذوا الأموال. لم يدم لهم ذلك، بل أمد الله لهم في طغيانهم، وأخذهم به أخذ عزيز مقتدر. ولو أراد خصومهم الانتقام منهم لما وصلوا إلى أدنى درجات انتقام السماء. ويجري الحق هذا الانتقام من الطغاة لصيانة سلامة المجتمع. فإن رأيت فساداً أو طغياناً إياك أن تيأس؛ لأن الحق سبحانه قد أوضح أن لكل أمة أجلاً، بداية ونهاية، ففي أعمارنا القصيرة رأينا أكثر من أمة جاء أجلها. إذن فكل طاغية يجب أن يتمثل هذه الآية: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] والأجل لكل أمة معروف عند الله؛ لأن الباطل والظلم إن لم يعض الناس عضة تجعلهم يصرخون فهم لا يستشرفون إلى الحق ولا يتطلعون إليه، والألم وسيلة العافية لأنه يؤكد لك أن وضعك غير طبيعي، وعلى ذلك فالمسائل التي تحدث في الكون وهذه الأمم التي تظلم. وتضطهد. ولها جبروت وطغيان إنما تفعل ذلك إلى أجل معلوم. فإياك أن تيأس، ولكن عليك أن تستشرف إلى الحق. وإلى جناب الله فتلوذ به وحده، ولذلك نجد أكثر الناس الذين حدثت لهم هذه الأحداث لم يجدوا إلا واحة الإِيمان بالله؛ ففروا إلى بيته حجاجاً وإلى مساجده عمارًّا وإلى قراءة قرآنه ذكراً. وننظر إلى هذه الأمور ونقول: إن الطاغية الفاجر مهما فعل فلابد أن يسخره الله لخدمة دينه، وهناك أناس لولا أن الدهر عضهم وأخنى عليهم كأن سلط عليهم ظالماً لما فروا إلى الله بحثاً عن نجاة، ولما التفتوا لربنا عبادة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4121 إن في واقع حياتنا يعرف كل منا أناساً، كان الواحد منهم لا يعبد ربه فلا يصلي ولا يصوم ولا يذكر ربه، ثم جاءت له عضة من ظالم فيلجأ الإِنسان المعضوض إلى الله عائذاً به ملتجئا إليه، ولذلك نقول للظالم: والله لوعرفت ماذا قدمت أنت لدين الله، ولم تأخذ عليه ثواباً لندمت، فأنت قد قدمت لدين الله عصبة ممن كانوا من غير المتدينين به. ولو أنك تعلم ما يأتي به طغيانك وظلمك وجبروتك من نصر لدين الله لما صنعته أنت، إنّ لكل أمة أجلاً، فإن كنت ظالماً وعلى رأس جماعة ظالمة فلذلك نهاية. وانظر إلى التاريخ تجد بعض الدول أخذت في عنفوانها وشدتها سيادة على الشعوب، ثم بعد فترة من الزمن تحل بها الخيبة وتأتي السيطرة عليها من الضعاف؛ لأن هذا هو الأجل. إن الحق يعمي بصائرهم في تصرف، يظنون أنه يضمن لهم التفوق فإذا به يجعل الضعيف يغلبهم ويسيطر عليهم. وإذا جاء الأجل فلا أحد يستطيع تأخيره؛ لأن التوقيت في يد قيوم الكون، وهم أيضاً لا يستقدمون هذا الأجل، ونلحظ هنا وجود كلمة «ساعة» ، والساعة لها اصطلاح عصري الآن من حيث إنها معيار زمني لضبط المواقيت، ونعلم أن اليوم مقسم إلى أربع وعشرين ساعة، والأقل من الساعة الدقيقة، والأقل من الدقيقة الثانية، والأكبر من الساعة هو اليوم. ومن يدري فقد يخترع البشر آلاتٍ لضبط الجزء من الثانية. وكذلك تطلق الساعة على قيام القيامة. ويقول الحق بعد ذلك: {يابنيءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4122 هنا ينادي الحق أبناء آدم، بعد أن ذكرهم أنه أحل لهم الطيبات والزينة وحرم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4122 عليهم المسائل الخمسة من الفاحشة والمنكر والبغي والإِثم والشرك، ووضع لهم نظاماً يضمن سلامة المجتمع، وطمأنهم بأنه منتقم من أي أمة ظالمة بأن جعل للظلم نهاية وأجلاً. فعليكم يا بني آدم أن تأخذوا أمور حياتكم في إطار هذه المقدمات. {يابنيءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ... } [الأعراف: 35] عليكم أن تستقبلوا رسل الله استقبال الملهوف المستشرق المتطلع إلى ما يحميه وإلى ما ينفعه؛ لأن الرسول هو من يعلن لكل واحد منكم ما أحله الله من طيبات الحياة وملاذها، ويبين لكم ما حرم الله ليحيا المجتمع سليماً. كان المظنون أن ساعة يأتي الرسول نجد المجتمع يحرص على ملازمته وعلى تلقي البلاغ منه، لا أن يظل الرسول يدعو باللين بينما المجتمع يتأبى عليه. لكن من رحمة الله أن يتأبى المجتمع ويلح الرسول مبيناً آيات الله وبيناته كي يأخذ كل إنسان ما يساعده على أمر حياته ويهتدي إلى الصراط المستقيم، وأنت إذا ما أصبت في عافيتك تلح على الطبيب وتبحث عنه، فكان مقتضى العقل أنه إذا جاء رسول ليبلغنا منهج الله في إدارة حركة الحياة أن نتشوق إليه ونتطلع، لا أن نعاديه، وعادة ما يسعد بالرسول أهل الفطرة السليمة بمجرد أن يقول الرسول: أنه رسول ومعه آية صدقه. ويقيس أهل الفطرة السليمة قول الرسول بماضيه معهم، فيعلمون أنه مخلص لم يرتكب الإثم. وهذه فائدة قوله الحق: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] فلم يأت لكم إنسان لا تعرفونه بل لكم معه تاريخ واضح وجلي، لذلك نجد الذين آمنوا برسول الله أول الأمر لم ينتظروا إلى أن يتلو عليهم القرآن، لكنهم آمنوا به بسوابق معرفتهم له؛ لأنهم عايشوه، وعرفوا كل تفاصيل أخلاقه. ومثال ذلك: عندما أخبر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيدتنا خديجة - رضوان الله عليها - بنبأ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4123 رسالته وأسرّ لها بخوفه من أن يكون ما نزل إليه هو من أمور الجن أو مسها، أسرعت إلى ورقة بن نوفل؛ لأنه عنده علم بكتاب، وقبل ذلك قالت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتعين على نوائب الحق وتكسب المعدوم» . وكل هذه المقدمات تدل على أنك - يا رسول الله - في حفظ الله ورعايته؛ لأنك كنت مستقيم السلوك قبل أن تُنَّبَّأ، وقبل أن توجد كرسول من الله. وهل معقول أن مَن يترك الكذب على الناس يكذب على الله؟! وكذلك نجد سيدنا أبا بكر الصديق بمجرد ما أن قال رسول الله: أنا رسول، قال له: صدقت. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صدق الفطرة، وهذه هي فائدة {رسول من أنفسكم} أو من جنسكم البشري حتى نجد فيه الأسوة الحسنة. ولو جاء لنا رسول من الملائكة وقال لنا: هذا هو المنهج ولكم أسوة بي، كنا سنرد عليه الرد المقنع السهل اليسير: وهل نقدر أن نفعل مثلك وأنت ملَكٌ مفطور على الخير؟ . لكن حين يأتينا رسول من جنسنا البشري، وهو صالح أن يصدر منه الخير، وصالح أن يصدر منه الشر فهو الأسوة الموجودة، ولذلك كان من غباء الكافرين أن قالوا ما جاء به القرآن على ألسنتهم: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] إنه الغباء وقصر النظر والغضب؛ لأن الله بعث محمداً وهو من البشر، فهل كانوا يريدون مَلَكاً؟ ولو كان ملكاً فكيف تكون به الأسوة وطبعه مختلف عن طبائع البشر؟ . ولذلك يرد الحق الرد المنطقي: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4124 وذلك حتى تتحقق لنا الأسوة فيه؛ فسبحانه لم يقتحم وجودكم التكليفي، ولم يُدخلكم في أمر يشتد ويشق عليكم لكنه جاء لكم بواحد منكم تعرفون تاريخه. ولم يأت به من جنس آخر. {يابنيءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ... } [الأعراف: 35] وانظر قوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} ، لقد جاء بكلمة «يقصّون» لأن القصص مأخوذة من مادة «القاف» و «الصاد المضعَّفة» ؛ وهذا مأخوذ من «قصّ الأثر» ، وكان الرجل إذا ما سرقت جماله أو أغنامه يسير ليرى أثر الأقدام. إذن {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} أي أنهم ملتزمون بما جاء لهم، لا ينحرفون عنه كما لا تنحرفون أنتم عن قص الأثر حين تريدون المؤثِّر في الأثر. { ... فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35] و «التقوى» هو أن تجعل بينك وبين شيء يضرك وقاية. ولذلك يقول الحق: {اتقوا النار} ، لنرد عن أنفسنا بالعمل الصالح لهيب النار. وإذا قيل: {واتقوا الله} أي اتقوا متعلقات صفات الجبروت من الله؛ لأنكم لن تستطيعوا تحمل جبروت ربنا، وعليكم أن تلتزموا بفعل الأوامر وتلتزموا أيضاً بترك النواهي. والأمر بالتقوى هنا يعني ألا ننكر ونجحد رسالات الرسل؛ لأنهم إنما جاءوا لإِنقاذ البشر، فالمجتمع حين يمرض، عليه أن يسرع ويبادر إلى الطبيب القادم بمنهج الله ليرعاه، وهو الرسول؛ لذلك لا يصح الجحود برسالة عليها دليل ومعجزة. {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . و «أصلح» تدل على أن هناك شيئاً غير صالح فجعله صالحاً، أو حافظ على صلاح الصالح ورقَّى صلاحه إلى أعلى، مثل وجود بئر نشرب منه، فإن كانت البئر تؤدي مهمتها لا نردمها، ولا نلقي فيها قاذورات، وبذلك نبقي الصالح على صلاحه، ويمكن أن نزيد من صلاح البئر بأن نبني حول فوهتها سوراً، أو أن نقوم بتركيب مضخة تمتص الماء من البئر لضخه إلى البيوت. وبذلك نزيد الصالح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4125 صلاحاً، والآفة في الدنيا هم الذين يدعون الإِصلاح بينما هم مفسدون، يقول الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 104] إذن فحين تقدم على أي عمل لابد أن تعرف مقدمات هذا العمل، وماذا ستعطيه تلك المقدمات، وماذا سوف تأخذ منه. وأبق الصالح في الكون على صلاحه أو زده إصلاحاً، وهنا لا خوف عليك ولن تحزن على شيء فاتك ليتحقق قول الحق: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ ... } [الحديد: 23] وما المقابل لمن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ أي هؤلاء الذين أصلحوا واتقوا؟ المقابل هو ما يأتي في قوله الحق: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4126 ولماذا يكون مصير المكذبين بالآيات والمستكبرين عنها أن يكونوا أصحاب النار ويكونوا فيها خالدين؟ لأنهم وإن تيسرت لهم أسباب الحياة لم يضعوا في حسابهم أن يكون لهم نصيب في الآخرة ولم يلتفتوا إلى الغاية، وغاب عنهم الإِيمان بقول الحق: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4126 مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] وهب أن الواحد منهم قد أخذ ما أخذ في الدنيا، فلماذا نسي أنها موقوتة العمر؟ ولماذا لم يلتفت إلى الزمن في الآخرة؟ . عليك أن تعلم أنك في هذه الدنيا، خليفة في الأرض، ومادمنا جميعاً أبناء جنس واحد ومخلوقين فيها والسيادة لنا على الأجناس فلابد أن تكون لنا غاية متحدة؛ لأن كل شيء اختلفنا فيه لا يعتبر غاية، فالغاية الأخيرة هي لقاء الله؛ لأن النهاية المتساوية في الكون هي الموت ليسلمنا لحياة ثانية، فالذي يستكبر عن آيات الله هو من دخل في صفقة خاسرة؛ لأن من يقارن هذه الدنيا بالحياة الأخرى سيجد أن زمن الإِنسان في الدنيا قليل، وزمن الآخرة لا نهاية له. وعمر الإِنسان في الدنيا مظنون غير متيقن، والمتعة فيها على قدر أسباب الفرد وإمكاناته، لكن الآخرة متيقنة، ونعيم المؤمن فيها على قدر طلاقة قدرة الله. {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 36] وأصحاب النار. يعني أن يصاحب ويلازم المذنب النار كما يصاحب ويلازم الإِنسان منا صاحبه؛ لأن النار على إلف بالعاصين، وهي التي تتساءل: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ؟ . ويقول الحق بعد ذلك: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4127 و {فَمَنْ أَظْلَمُ} تأتي على صيغة السؤال الذي لن تكون إجابته إلا الإِقرار. ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب؛ لأنه أولاً ظلم نفسه، وظلم أمته، وأول ظلم النفس أن يرتضي حياة زائلة وأن يترك حياة أبدية، وأما ظلمه للناس فلأنه سيأخذ أوزار ما يفعلون؛ لأنه قد افترى على الله كذباً. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} . أي قوَّل الله ما لم يقله، أو كذَّب ما قاله الله، وكلا الأمرين مساوٍ للآخر. والآية - كما نعلم - هي الأمر العجيب، والآيات أُطلقت في القرآن على معانٍ متعددة؛ فالحق يقول: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ... } [فصلت: 3] وكذلك أطلقت على المعجزات التي يرسلها الله تأييداً لرسله. {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ... } [الإسراء: 59] فالآيات هنا هي المعجزات أي الأمور العجيبة. وحدثنا القرآن عن الآيات الكونية فقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر ... } [فصلت: 37] فالآية إذن هي الشيء العجيب وهي تشمل آيات القرآن؛ لأنك حين تنظر إلى نظم آيات القرآن، وإلى استيعابها إلى حقائق الوجود وإلى استيفائها لقضايا الكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4128 كله تقول لنفسك: هذا شيء عجيب؛ لأن الذي جاءت على لسانه هذه الآيات نبي أمي، ما عرف عنه أنه زاول تعلماً، وما جربوا عليه أنه قال شعراً، أو نثراً أو له رياضة في كلام، وبعد ذلك ما جرب حكم أمم، وما درس تاريخ الأمم حتى يستنبط القوانين التي أعجزت الحضارات المعاصرة عن مجاراتها. إن الأمة البدوية حينما ذهب بمنهجها إلى الفرس، وكانت الفرس لها حضارة الشرق كلها، وعلى الرغم من ذلك أخذت الفرس قوانينها من هذه الأمة البدوية، وكان كل نظام هذه الأمة المتبدية قبل مجيء الرسالة مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتخلص في نظام القبيلة وكل قبيلة لها رئيس، وبعد أن جاءت رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بنظام يجمع أمم العالم كلها، ثم ينجح في أدراة الدنيا كلها، وهذه مسألة عجيبة، وكل آية من هذه الآيات كانت معجزة وعجيبة. وكذلك الآيات الكونية التي نجدها تتميز بالدقة الهائلة؛ فالشمس والقمر بحسبان، وكل في فلك يسبحون، إنه نظام عجيب. إذن فالعجائب في الآيات هي آيات القرآن، والمعجزات والآيات الكونية. وكيف يكذبون إذن بالآيات؟ . ألا ينظرون إلى الكون. وما فيه من دقة صنع وهندسة بناء تكويني لا تضارب فيه؟ وهي آيات تنطق بدقة الخالق؛ فهو العالم، القادر، الحكيم، الحسيب. وكذلك كيف يكذبون الرسول القادم بالمعجزات، ويقولون: إنه ساحر، وحين تتلى عليهم آيات يكذبونها. إذن هم لم ينظروا في آيات الكون ليستنبطوا منها عظمة الصانع وحكمته ودقته، ولم يلتفتوا إلى الإِيمان به قمة عقيدية، وكذلك كذبوا بالآيات المعجزات التي جاء بها الرسل فلم يصدقوا الرسل وآخرها وقمتها آيات القرآن العظيم. وحينما عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية، تساءل: كيف تقولون. إنه سحر الناس فآمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنت؟ . وحينما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ... } [النحل: 103] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4129 قال الحق: { ... لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103] وقالوا: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] فيعلم الحق رسله أن يقول: { ... فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] وهنا يأمر الحق رسوله أن يذكرهم بأنه عاش بينهم أربعين عاماً فهل عرف عنه أنه يقول أو يتكلم بشيء من هذا؟ فهل يترك الحق من كذبوا بالآيات؟ أنهم خلق الله، والله استدعاهم إلى الوجود، لذلك يضمن لهم مقومات الحياة، وأمر أسباب الكون أن تكون خدمة هؤلاء المكذبين الكافرين كما في خدمة الطائعين المؤمنين. ومن يحسن منهم الأسباب يأخذ نتائجها، وإن أهمل المؤمنون الأخذ بالأسباب فلن يأخذوا نتائجها، وكل هذا لأنه عطاء ربوبية ولأنه خلق فلابد أن يرزق، والنواميس الكونية تخدم الطائع وتخدم العاصي؛ لأن ذلك من سنة الله ولن يجد أحد لسنة الله تبديلا. إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي قَدَّر لهم، من الرزق والحياة، ما هو مسطر في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لذلك يقول الحق: {أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب ... } [الأعراف: 37] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4130 أو ينالهم، أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له الثواب، والعاصي له العقاب، فيقول الحق هنا: { ... حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: 37] وساعة تسمع {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} تفهم أن الحياة تنتهي، وتنفصل الروح عن الجسد فهذا هو «التوفي» ، فمرة ينسب إلى الحق الأعلى سبحانه وتعالى، ومرة ينسب إلى المَلَك، ومرة يراد منه أتباع المَلَك أي جنوده يقول - سبحانه -: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} ، والأساليب الثلاثة ملتقية؛ لأن ملك الموت لم يأت بالموت من عنده، بل أخذ التلقي من الله، فالأمر الأعلى من الله، وأمر التوسط للملك، وأمر التنفيذ للرسل. و «التوفي» على إطلاقه هو استيفاء الأجل، فإن كان أجل الحياة فهو ترفية بالموت، وإن كان الأجل البرزخ وهو المدة التي بين القبر والحساب. إلى أن يجيء ميعاد دخولهم النار فهذا هو توفي أجلهم الثاني؛ لأن كل إنسان له أجلان: أجل ينهي هذه الحياة، والأجل الذي يأخذه في البرزخ إلى أن يجيء الحساب. وهذا لا يمنع أن يقال: إن قيامة كل إنسان تأتي بموته؛ لأن للقيامة مراحل بدءا من القبر ونهاية بالخلود في الجنة أو في النار. وحين تسألهم الملائكة: { ... أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: 37] هم إذن يعترفون أن من كانوا يدعونهم من دون الله قد غابوا واختفوا ولا يظهر لهم أثر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4131 {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... } [السجدة: 10] وهم - إذن - يقرون غياب من كانوا يدعونهم من دون الله، والمراد أنه لا وجود لهم، وهم بذلك قد شهدوا على أنفسهم بكفرهم. ولكن هذه الشهادة لا تجدي لأن زمن التكليف قد انتهى، وهم الآن في دار قهر لكل ما يريده الله؛ ففي دار التكليف كان الإِنسان حرًّا أن يفعل أو ألاّ يفعل، ولكن في الدار الآخرة لا تنفع هذه الشهادة. وذلك لتبين عدالة الجزاء الذي يصيبهم، ولن يتأبوا على الجزاء؛ لذلك يقول الحق: {قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4132 ويوضح لنا الحق أنه بأوامر «كن» سيدخلون كما دخلتها أمم قد خلت من قلبهم فليسوا بدعاً، وليدخلوا معهم إلى المصير الذي يذهبون إليه، وهم أمم خليط؛ لأن الكفر سوف يلتقي كله في الجزاء. إن الاقتداء بالأمم التي سبقت هو الذي قادهم إلى الكفر؛ فالأمم التي سبقت كانت أسوة في الضلال للأمة التي لحقت، فإذا ما دخلوا لعنوهم. وهب أن إنساناً دخل مرة السجن لجرم ارتكبه، وبعد ذلك دخل عليه من كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4132 يغربه بالجرم. ومن كان يزين له، ومن اقتدى به. بالله ساعة يلتقيان في السجن ألا يلعن الأول الثاني؟ { ... كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38] وبعد أن يلحق بعضهم بعضاً ويجتمعوا، يحدث بينهم هذا الحوار العجيب: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار ... } [الأعراف: 38] فإن قلت الأخرى أي التي دخلت النار متأخرة كانت الأولى هي القدوة في الضلال وقد سبقتهم إلى النار، {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ} ، أي أن الأولى هم القادة الذين أضلوا، والطائفة الأخرى هم الأتباع الذين قلدوا. {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا} . وهم يتوجهون بالكلام إلى ربنا: {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا} . كيف يتأتى هذا؟ . وكان المقياس أن يقول: قالت أخراهم لأولاهم أنتم أضللتمونا لكن جاء هذا القول، لأن الذين أضلوا غيرهم أهون من أن يخاطبوا؛ لأن الموقف كله في يد الله، وإذا ما قالوا لله المواجه للجميع: {هؤلاء أَضَلُّونَا} فهؤلاء، هذه رشارة إليهم، فكأن القول موجه لله شهادة منهم إلى من كان وسيلة لإضلالهم وهم يقولون لربنا هذا حتى يأخذوا عذاب الضعف من النار مصداقاً لقوله الحق: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار ... } [الأعراف: 38] فقال لهم جميعاً: { ... لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4133 فلكل أمة منهم ضعف العذاب بما ضلت وأضلت. ونفهم أن الضّعْف معناه «شيء مساوٍ لمثله» ، فأنتم أيها المقلدون غيركم قد أضللتم سواكم بالأسوة أيضاً؛ لأنكم كثرتم عددهم وقويتم شوكتهم وأغريتم الناس باتباعهم. ويكون لكم ضعف العذاب بحكم أنكم أضللتم أيضاً، وأنتم لا تعلمون أن من يحاسبكم دقيق في الحساب، ويعطي كل إنسان حقه تماماً. وماذا تقول أولاهم لأخرهم؟ يقول الحق سبحانه: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4134 أي مادمتم ستأخذون ضعف العذاب مثلنا فقد تساوت الرءوس {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} كأن المجرم نفسه ساعة يلتقي ويستقبل مجرماً مثله، يقول له: اشرب من العذاب نفسه، وليس ذلك تجنياً من الله، ولا بسلطة القهر لعباده، ولكن بعدالة الحكم؛ لأن ذلك إنما حدث بسبب ما كسبتم. ومعلوم أن التذوق في الطعوم، فهل هم يأكلون العذاب؟ . لا، إنّ الحق قد جعل كل جارحة فيهم تذوق العذاب، والحق حين يريد شمول العذاب للجسم يجعل لكل عضو في الجسم حساسية الذوق كالتي في اللسان. ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4134 وهذه هي الإذاقة، كأنها صارت لباساً من الجوع يشمل الجسد كله، والإِذاقة أشد الإِدراكات تاثيراً، واللباس أشمل للجسد. {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} . ولم يقل الحق: بما كنتم تكتسبون؛ لأن اكتسابهم للسيئات لم يعد فيه افتعال، بل صار أمراً طبيعياً بالنسبة لهم، وعلى الرغم من أن الأمر الطبيعي في التكوين أن يصنع الإنسان الحسنة دون تكلف ولا تصنع، وفي السيئات يجاهد نفسه؛ لأن ذلك يحدث على غير ما طبع عليه، ولكن هؤلاء من فرط إدمانهم للسيئات فسدت فطرتهم ولم تعد ملكاتهم تتضارب عند فعل السيئات، بل صاروا يرتكبون الإثم كأمر طبيعي، وهذا هو الخطر الذي يحيق بالمسرفين على أنفسهم؛ لأن الواحد منهم يفرح بعمل السيئات. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4135 والحق يريد أن يعطي حكماً جديداً ويحدد من هو المحكوم عليه ليعرف بجريمته، وهي جريمة غير معطوفة على سابقة لها، وليعرف كل إنسان أن هذه جريمة، وأن من يرتكبها يلقى حكماً وعقاباً. {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا} . وقد عرفنا من قبل معنى الايات. وأنها ايات القرآن المعجزة أو الايات الكونية، وأي إنسان يظن نفسه أكبر من أن يكون تابعاً لمنهج جاء به رسول عرف بين قومه بأمانته، وهذا الانسان يستحق العقاب الشديد. فصحيح أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن له من الجاه ولا سلطان ما ينافس به سادة وكبراء قريش، ولذلك وجدنا من يقول: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4135 إنهم يعترفون بعلو القرآن، لكنهم تمنوا لو أن القرآن قد نزل على إنسان غيره بشرط أن يكون من العظماء بمعاييرهم وموازينهم المادية. ومن يكذب الايات ويستكبر عن اتباع الرسول لا تفتح له أبواب السماء. {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين} [الأعراف: 40] وبذلك نعرف من هم الذين لا تفتح لهم أبواب السماء، وبطبيعة الحال نعرف أن المقابلين لهم هم الذين تفتح لهم أبواب السماء. . إنهم المؤمنون، وحين تصعد أرواحهم إلى الملأ الأعلى تجد أعمالهم الصالحة تصعد وترتفع بهم إلى أعلى. أما المكذبون فهم لا يترقون بل يهبطون ولا يدخلون الجنة، وقد علق سبحانه دخول الجنة بمستحيل عقلاً وعادة وطبعاً: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} . و {سَمِّ الخياط} هو ثقب الإبرة، أي الذي تدخل فيه فتلة الخيط، ولا تدخل فتلة الخيط في الثقب إلا أن يكون قطر الفتلة أقل من قطر الثقب، وأن تكون الفتلة من الصلابة بحيث تنفذ، وأن تكون الفتلة غير مستوية الطرف؛ لأنها إن كانت مقصوصة وأطرافها مستوية فهي لا تدخل في الثقب؛ لذلك نجد الخياط يجعل للفتلة سناً ليدخلها في ثقب الإبرة. وحين نأتي بالجمل ونقول له: ادخل في سم الخياط، فهل يستطيع؟ طبعاً لا؛ لذلك نجد الحق سبحانه قد علق دخول هؤلاء الجنة على مستحيل. بعض الناس قالوا: وما علاقة الجمل بسم الخياط؟ نقول: إن الجمل يطلق أيضاً على الحبل الغليظ المفتول من حبال، مثل حبال المركب إننا نجده سميكاً مجدولاً. وأخذ الشعراء هذه المسألة؛ ونجد واحداً منهم يصف انشغاله بالحبيب وشوقه إليه وصبابته به حتى يهزل ويستبد به الضعف فيقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4136 ولو أن ما بي من جوى ... وصبابةعلى جمل لم يدخل النار كافر لأن الجوى والصبابة التي يعاني منهما هذا الشاعر، لو أصيب بهما الجمل فلسوف ينحف وينحف ويهزل، إلى أن يدخل في سم الخياط، وهنا يوضح ربنا: إن دخل الجمل في سم الخياط فسوف أدخلهم الجنة. { ... حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين} [الأعراف: 40] وهم يستحقون هذا الجزاء بما أجرموا. ويقول الحق بعد ذلك: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4137 المهاد هو الفراش، ومنه مهد الطفل، والغاشية هي الغطاء، أي أن فرش هذا المهاد وغطاءه جهنم. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ... } [الزمر: 16] إذن الظلل والغواشي تغطي جهتين في التكوين البعدي للإِنسان، والأبعاد ستة وهي: الأمام والخلف، واليمين والشمال، والفوق والتحت، والمهاد يشير إلى التحتية، والغواشي تشير إلى الفوقية، وكذلك الظلل من النار، ولكن الحق شاء أن يجعل جهنم تحيط بأبعاد الكافر الستة فيقول سبحانه: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ... } [الكهف: 29] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4137 وهذا يعني شمول العذاب لجميع اتجاهات الظالمين. وجهنم مأخوذة من الجهومة وهي الشيء المخوف العابس الكريه الوجه، ثم يأتي بالمقابل ليشحن النفس بكراهية ذلك الموقف، ويحبب إلى النفس المقابل لمثل هذا الموقف، فيقول سبحانه: {والذين آمَنُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4138 وبهذا يخبرنا الحق أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم أصحاب الجنة وهم فيها خالدون، ويضع لنا الحق تنبيهاً بين مقدمة الآية وتذييلها {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} ؛ لنفهم أن المسرفين على أنفسهم بالكفر وتكذيب الآيات لم يفهموا حقيقة الإِيمان، وأن حبس النفس عن كثير من شهواتها هو في مقدور النفس وليس فوق طاقتها؛ لذلك أوضح لنا سبحانه أنه كلف ب «افعل ولا تفعل» وذلك في حدود وسع المكلَّف. وحين نستعرض الصورة إِجمالاً للمقارنة والموازنة بين أهل النار وأهل الجنة نجد الحق قد قال في أهل النار: {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين} [الأعراف: 40] فهم لن يدخلوا الجنة، وعلى ذلك فقد سلب منهم نفعاً، ولا يتوقف الأمر على ذلك، ولكنهم يدخلون النار، إذن فهنا أمران: سلب النافع وهو دخولهم الجنة، إنه سبحانه حرمهم ومنعهم ذلك النعيم، وذلك جزاء إجرامهم. وبعد ذلك كان إدخالهم النار، وهذا جزاء آخر؛ فقال الحق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4138 {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظالمين} [الأعراف: 41] في الأولى قال: - سبحانه - {وكذلك نَجْزِي المجرمين} . وفي الثانية قال: {وكذلك نَجْزِي الظالمين} . فكأن الإجرام كان سبباً في ألا يدخلوا الجنة، والظلم كان سبباً في أن يكون من فوقهم غواش، لهم من جهنم مهاد، وهم في النار يحيطهم سرداقها. ومن المناسب بعد تلك الشحنة التي تكرهنا في أصحاب النار وفي سوء تصرفهم فيما كلفوا به أولاً، وسبب بشاعة جزائهم ثانياً؛ أن نتلهف على المقابل. فقال سبحانه: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42] وقول الحق سبحانه وتعالى: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} جاء بين المبتدأ والخبر، ككلام اعتراضي؛ لأن أسلوب يقتضي إبلاغنا أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الخلود في الجنة، وجاءت {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} بين العمدتين وهما المبتدأ والخبر؛ لأننا حينما نسمع {والذين آمَنُواْ} فهذا عمل قلبي، ونسمع بعده {وَعَمِلُواْ الصالحات} وهذا عمل الجوارح، وبذلك أي بعمل القلب مع عمل الجوارح يتحقق من السلوك ما يتفق مع العقيدة. والاعتقاد هو يسهل دائما السلوك الإيماني ويجعل مشاق التكاليف في الأعمال الصالحة مقبولة وهينة، ولذلك أوضح سبحانه: إياكم أن تظنوا أني قد كلفتكم فوق طاقتكم، لا؛ فأنا لا أكلف إلا ما في الوسع، وإياكم أن تفهموا قولي: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} هو رغبة في إرهاق نفوسكم، ولكن ذلك في قدرتكم لأنني المشرع، والمشرع إنما يضع التكليف في وسع المكلَّف. ونحن في حياتنا العملية نصنع ذلك؛ فنجد المهندس الذي يصمم آلة يخبرنا عن مدى قدرتها، فلا يحملها فوق طاقتها وإلا تفسد. وإذا كان الصانع من البشر لا يكلف الآلة الصماء فوق ما تطيق، أيكلف الذي خلق البشر فوق ما يطيقون؟ محال أن يكون ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4139 إذن فيجب أن نوصد الباب أمام الذين يحاولون أن يتحللوا من التزامات التكليف عليهم، فلا تعلق الحكم على وسعك الخائر الجائر، ولكن غلق الوسع على تكليف الله، فإن كان قد كلف فأحكم لأن ذلك في الوسع؛ والدليل على كذب من يريد الافلات من الحكم هو محاولته إخضاع الحكم لوسعه هو؛ أن غيره يفعل ما لا يريد أن يفعله. فحين ينهى الحق عن شرب الخمر تجد غيرك لا يشرب الخمر امتثالاً لأمر الله، وكذلك تجد من يمتنع عن الزنا أو أكل الربا؛ فإذا كان مثيلك وهو فرد من نوعك قادراً على هذا العمل فمن لا يمتنع عن مثل هذه المحرمات هو المذنب لا لصعوبة التكليف. فالتكليف هو أمر الشارع الحكيم ب «افعل» و «لا تفعل» وسبحانه لا يكلف الإنسان إلا إذا كان قادراً على أن يؤدي مطلوبات الشرع؛ لأن الله لا يكلف إلا على قدر الطاقة، واستبقاء الطاقة يحتاج إلى قوت، طعام، شراب، لباس، وغير ذلك مما تحتاج إليه الحياة، لذلك أوضح سبحانه أنه يوفر للإِنسان كل ماديات الحياة الأساسية، وإياكم أن تظنوا أن الله حين يكلف الإنسان يكلفه شططاً، ولكن الإنسان هو الذي يضع في موضع الشطط. فقال: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ... } [الطلاق: 7] {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق عليه قليلاً. ويقول سبحانه: {فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا ... } [الطلاق: 7] إذن لا تفترض وتقدر أنت تكاليف المعيشة ثم تحاول إخضاع وارداتك إلى هذا التصور، بل انظر إلى الوارد أليك وعش في حيز وإطار هذا الوارد، فإن كان دخلك مائة جنيه فرتب حياتك على أن يكون مصروفك يساوي دخلك؛ لأن الله لا يكلفك إلا ما آتاك. ولننظر إلى ما آتانا الله؛ لذلك لا تدخل في حساب الرزق إلا ما شرع الله، فلا تسرق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4140 ولا تنهب ولا تختلس ولا ترتش ثم تقول: هذا ما آتاني الله، لا، عليك ألاَ تأخذ ولا تنتفع إلا بما أحل الله لك، فإن عشت في نطاق ما أحل الله يعينك الله على كل أمرك وكل حاجاتك، لأنك تحيا بمنهج الله، فيصرف عنك الحق مهمات الحياة التي تتطلب أن تزيد على ما آتاك الله، فلا تخطر على بالك أو على بال أولادك. وتجد نفسك - على سبيل المثال - وأنت تدخل السوق وآتاك الله قدراً محدوداً من المال، وترى الكثير من الخيرات، لكن الحق يجعلك لا تنظر إلا في حدود ما في طاقتك، وكذلك يُحسّن لك الله ما في طاقتك ويبعد عنك ما فوق طاقتك؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها، ولا يحرك شهوات النفس إلا في حدود ذلك. ولذلك قال الحق: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42] وأصحاب الجنة هم الذين لا يفارقونها مثلما يحب الصاحب صاحبه؛ فالجنة تتطلبهم، وهم يتطلبون الجنة، والحياة فيها بخلود وما فاتك من متع الدنيا لم يكن له خلود، وأنت في الدنيا تخاف أن تموت وتفوت النعمة، وإن لم تمت تخاف أن تتركك النعمة؛ لأن الدنيا أغيار، وفي ذلك لفت لقضايا الله في كونه، تجد الصحيح قد صار مريضاً، والغني قد صار فقيراً، فلا شيء لذاتية الإنسان. وبهذا يعدل الله ميزان الناس فيأتي إلى الحالة الاقتصادية ويوزعها على الخلق، ونجد الذي لا يتأبى على قدر الله في رزقه وفي عمله يجعل الله له بعد العسر يسراً. وفي الجنة يُخلي الله أهلها من الأغيار. ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4141 وقوله الحق: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} ينطبق - أيضا - على أهل الاجتهاد الذين اجتهد كل منهم في الدنيا، واختلفوا، هؤلاء يبعثون يوم القيامة وليس في صدر أحدهم غل ولا حقد. لذلك تجد سيدنا الإِمام عليًّا - كرم الله وجهه - حين يقرأ هذه الآية يقول: «اللهم اجعلني أنا وعثمان وطلحة والزبير من هؤلاء» . لأن هؤلاء هم الذين وقع بينهم الخلاف في مسألة الخلافة، وكل منهم صحابي ومبشر بالجنة، فإن كانت النفوس قد دخلت فيها أغيار، فإياكم أن تظنوا أن هذه الأغيار سوف تصحبكم في دار الجزاء في الآخرة؛ لأن الله يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} . إن الخلاف كان خلافاً اجتهادياً بين المؤمنين وهم قد عملوا الصالحات وكل منهم أراد الحسن من الأعمال، ونشأ عن ذلك في أغيار الدنيا شيء من عمل القلب، فأوضح سبحانه: إياكم أن تفهموا أن ذلك سوف يستمر معهم في الآخرة؛ لأنهم جميعاً حينما اختلفوا كانوا يعيشون باجتهادات الله، وفي الآخرة لا اجتهاد لأحد. ويريد الحق أن يجعل هذا الأمر قضية كونية، ومثال ذلك تجد رجلاً قد تزوج امرأة بمقاييس غير مقاييس الله في الزواج؛ تزوجها لأنها جميلة مثلاً، أو لأن والدها له جاه أو غني، وبعد الزواج لم يعطه والدها الغني شيئاً من ماله فيقول: غشني وزوجني ابنته، أو كانت جميلة، ثم لقى فيها خصال قبيحة كثيرة فكرهها، ونقول لمثل هذا الرجل: مادمت لم تأخذها بمقاييس الله فعليك أن تنال جزاء الاختيار. ولكن من تزوج امرأة على دين الله، ووجد منها قبحاً، فلن يصحبه هذا القبح في الآخرة، ولذلك نجد الحق قد جاء بهذه القضية بالذات، ولم يأت بها في الأبناء أو في البنات، بل في الزوج والزوجة لأنهما عماد الأسرة. فبيّن للرجل: إياك أن تتخيل أن المرأة التي أغاظتك أو أتعبتك أو كدرت عليك بخصلة سيئة فيها، إياك أن تظن أن هذه الخصلة السيئة ستصاحبها في الآخرة، ولذلك قال سبحانه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4142 {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ... } [آل عمران: 15] وأزواج مطهرة من الأشياء التي كنت تغضب منها وستكون مطهرة بتطهير الله لها. {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار ... } [الأعراف: 43] ونجد الحق يقول مرة: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} ومرة يقول: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} ، ونجد «مِن» فارقاً بين القولين. إننا نرى من يستقر في قصر ونجد الماء منساباً حوله وتحته يسر العيون، وماء الآخرة هو ماء غير آسن، وليس فيه أكدار الدنيا، وكما أننا نسر بالماء في الدنيا سنسر به أضعاف ذلك في الآخرة. وقد تجري المياه تحت القصر ولكن نبعها من مكان بعيد فيخاف صاحب القصر أن يقطعها آخر عنه، ويطمئن الحق عباده الصالحين: ستجري من تحت جنانكم الأنهار وكل المياه ستكون ذاتيتها من موقع كل مكون أنت فيه ولن يتحكم فيك أحد، ولن يسد أحد عنك منبع المياه وسترى أنهار الآخرة بلا شطآن؛ لأن كل شيء ممسوك لا بالأسباب كما في الدنيا، ولكن ب «كن» التي هي لله. ولذلك يقول العباد في جنة الآخرة: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله ... } [الأعراف: 43] إنهم يقولون الحمد لله لأنه جل وعلا قد جمعهم ودلهم وأرشدهم إلى الثواب والنعيم دون منغصات، والحمد لله هي عبادة يقولها المؤمنون في الآخرة؛ لأنهم أدوا حق الله في تكاليفه في الدنيا ويعطيهم الله فوق ما يتوقعون في الآخرة. ونعيم الآخرة لا قيد عليه، ولن يستطيع بشر مهما ارتقى بالابتكار أن يصل إلى ما في الجنة؛ لأن الشيء يتحقق لك من فور أن يخطر ببالك. {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ} . وهذا الحمد لله كان في الدنيا عبادة تكليف، أمّا في الآخرة فهو «عبادة غبطة وسرور وتلذذ. {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله} . يقولها المؤمن؛ لأن الله لو لم ينزل منهجاً سماوياً يحدد له حركة حياته استقامة وينذره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4143 ويخوفه من المعاصي لما وصل إلى الجنة. والهداية - كما قلنا - هي الدلالة على الطريق الموصل للغاية، إذن لابد أن تعرف الغاية أولاً ثم تضع الطريق الموصل لها، بحيث لا يكون معوجاً ولا يعترضك فيه ما يطيل عليك المسافة، وقوله الحق: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله} يمنع أن يضع البشر للبشر قوانين تهديهم إلى الغاية؛ لأن البشر أنفسهم لا يعرفون الغاية؛ لذلك يوضحها لهم خالقهم بمنهجه المنزل على رسوله. ومادامت الهداية من الله فسبحانه لن يخاطب كل إنسان مباشرة، لكنه سبحانه ينزل الرسل يتلون علينا آيات الله ويوضحون لنا المنهج؛ لذلك يأتي الحق في الآية نفسها يقوله الحكيم: { ... لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] أنت في الحياة الدنيا حين تجد من يقول لك: إن أردت أن ترتاح فأنا أنصحك أن تمشي إلى المكان الفلاني واذهب إليه عن الطريق الفلاني، وستجدك سعيداً مرتاح البال، ثم صدقته ونفذت ما قال، ووجدت الرجل صادقاً. ألا تشعر بالسعادة؟ . وإذا كان الحق قد أرسل الرسل بالبينات والآيات والمنهج الصحيح، وسار عليه المؤمنون ثم وجدوا الجنة والنعيم؛ لذلك كان لابد أن يشكروا الله وأن يقولوا: {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} لأن الرسل لم يكذبوهم بل جاءوا بالخير لهم. {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . وكأن الحق يوضح لنا ونحن في دار التكليف أن نستقبل المنهج على هذا الأساس، وعلى كل واحد أن يحدد مكانه من الجنة؛ بقربه من منهج الله أو بعده عنه؛ لأن دخول الجنة هو جزاء العمل طبقاً لمنهج الحق. ووقف العلماء هنا - جزاهم الله خيراً - وقالوا: كيف نوفق بين هذه الآية: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لأعراف: 43] وبين قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4144 «لن يُدخل أحداً عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة» . وأقول: ليس هناك تناقض بين قول الله سبحانه وتعالى وقول الصادق المصدوق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي بلغ عن الله سبحانه، بل بينهما تأييد؛ فالحق ساعة ما شرع أوضح أن من يعمل العمل الصالح سيدخل الجنة، وهذا التشريع لم يجبر أحد الله عليه، بل هو الذي يعطيه لنا فضلا منه؛ فليس لأحد حق على الله؛ لأنه لا يوجد عمل يعود بفائدة على الله، واتباع المنهج إنما يعود على العبد بالمنفعة والخير، فإن دخلت الجنة فهذا أيضاً بالفضل من الله. وينبهنا القرآن إلى الجمع بين هذه الآيات وأنه لا تعارض بين نص حديثي ونص قرآني. يقول: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] فجزاء كل عمل عائد على الإنسان لأنه يأخذ مكافأته على فعله، فإن كانت المكأفاة أكبر من جزاء الفعل فهي من الفضل؛ لأن الحق هو القائل: { ... كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الطور: 21] وسبحانه أيضاً هو القائل: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] إن فهمت اللغة وكنت صاحب ملكة ناضجة نقول: هذه «اللام» للملك. وتفيد أنه لاحق لك على الله إلا بسعيك على وفق منهج الله، وأن هذه الآية قد حددت العدل ولم تحدد الفضل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4145 {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ... } [يونس: 58] والمثال على ذلك أننا كمسلمين نصلى على الميت المسلم، وقد أمرنا التشريع بذلك، وأن ندعو الله أن يتجاوز عن سيئاته. فهل تضيف هذه الصلاة إلى الميت شيئا زائداً عن عمله؟ لو لم تكن صلاة تضيف شيئاً لما أمر التشريع بها. فهي صلاة على ميت مسلم، وأسلامه من عمله، ونجد الحق يقول: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ ... } [الطور: 21] أي أن الآباء والأبناء يشتركون معاً في الإيمان وفي العمل، قوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ... } [الطور: 21] هذا الإلحاق يفيد أن منزلة الذرية كانت أقل من منزلة الآباء، لكن الحق يرفع من منزلتهم إكراماً للآباء. وهذا الإلحاق جزاء للذرية، وقد يكون أيضاً جزاء للآباء؛ فيحضر لهم أولادهم معهم مادام الكل قد اشتركوا في الإيمان، وكان الآباء يتحرون الحلال في إطعام الأبناء ولا يربونهم إلا على منهج الله. وقد يرى الأب أبناء جار له يلبسون الملابس الفاخرة ويأكلون الأكل الطيب، ويتحمل الأبناء ويعيشون عيش الكفاف مع هذا الأب الملتزم بالعمل الصالح والأجر الحلال، وينال الأبناء الجنة مع الأب لأنهم تحملوا معه مشاق الالتزام بالحلال. وهكذا نجد كل إنسان مؤمن قد أخذ نتيجة عمله وزيادة. { ... ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لأعراف: 43] و {أُورِثْتُمُوهَا} من «الإرث» وتدل على أن هناك شيئاً آل إلى الغير. ونعلم أن الله، علم أزلا كيف سيسلك كل مخلوق وما سيفعله من كفر وإيمان وطاعة ومعصية، وعلى رغم ذلك أعد سبحانه لكل واحد من خلقه مكانه في الجنة على أنه مؤمن، وأعد لكل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4146 واحد من خلقه مكاناً في النار على أساس أنه سيكفر. إذن فقد أعدَّ سبحانه جناناً بعدد خلقه، وأعدَّ أماكن في الجحيم بعددهم، فليست هناك أزمة أماكن عند إله قادر مقتدر. فإن آمنا كلنا فلن يضيق بنا واسع الجنة، ووالعياذ بالله - إن كفر الخلق جميعاً فلن تضيق بهم النار. فإذا كانوا جماعة من خلق سيدخلون الجنة بالعمل، فأين تذهب أماكن أهل النار؟ إن الحق بفضل منه يمنحها المؤمنين. إذن فقد ورثوا الذين لم يستحقوا الجنة بسبب الكفر. وبعد الكلام في الجنة والجزاء وفي حمد التلذذ والسرور والغبطة وفي عهد الجنة، بعد ذلك كان من المناسب أن يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن موقف أهل الجنة من أهل النار؛ فيقول سبحانه: {ونادى أَصْحَابُ الجنة ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4147 وهكذا نرى التبكيت، وتصور لنا الآية كيف يرى أهل الجنة أهل النار، وهذا الترائي من ضمن النعيم ومن ضمن العذاب الأليم، فحين يرى المؤمن بمنهج الله من عاداه وقهره وآذاه وهو في النار فهذا من تمام اللذة. والآخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا أيضاً من تمام العذاب. إذن لابد أن يتراءوا، ولذلك يحدث الحوار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار معترفين بأنهم وجدوا ما وعدهم به الله حقاً وصدقاً، وأن الحق قد وهبهم هذه الجنة. فهل - يا أهل النار - وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ونلاحظ أن هناك خلافاً بين الأسلوبين مع أن السياق المنطقي واحد؛ فأهل الجنة يقولون: «قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً» ، ولم يأت بالكاف في كلمة ما وعد (الثانية) بل قال: «فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً» ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4147 إنه قال سبحانه: «ما وعد» فقط، ولم يقل ما وعدكم كما قال: (ما وعدنا) لأن المراد أن يلفتهم إلى مطلق الوعد، وليس الخاص بهم فقط، بل وأيضاً الخاص بالمقابل، وهكذا يتحقق الوعد المطلق لله. فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة فضلاً من الله، وأهل النار بكفرهم وعصيانهم عقاباً من الله. وهنا يجيب أهل النار: (قالوا نعم) . وهذا إقرار منهم بالواقع الذي عاشوه واقعاً بعد أن، كان وعيداً، وهم لم يكابروا لأن المكابرة إنما تحدث بين الخصمين في غير مشهد، وهم في الدنيا قبل أن يوجد المشهد كانوا يكذبون البلاغ عن الله، وصارت الدار الآخرة واقعاً، وتحقق وجودهم في النار. { ... فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44] أي فينادي مناد من الملائكة يُسمع أهلَ الجنَّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم؛ بعدم الإِيمان وبالتكذيب باليوم الآخر. ويقول الحق بعد ذلك: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4148 والذي يصد عن سبيل الله هو من امتنع عن سبيل الله، وصد غيره، أي ضلّ في ذاته ثم أضل غيره، وهؤلاء هم الذين يطلبون منهج الله معوجاً، ويذمونه ولا يؤمنون به فيعترضون على إقامة الحدود والقصاص، وينفرون الناس عن منهج الله؛ لينصرف الناس عن الدين. هم إذن قد صدوا عن سبيل الله وطلبوا العوج فيما شرع الله لينفروا الناس عمّا شرع الله، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل هم بالآخرة كافرون، ولو كان الواحد منهم مؤمناً بالآخرة ويعلم أن له مرجعاً ومرداً إلى الله لما فعل ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4148 ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4149 الحجاب موجود بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وهم يتراءون من خلاله، وبيّنه الحق سبحانه فقال: {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} [الحديد: 13] باطن هذا الحجاب الرحمة من ناحية أهل الجنة، وظاهره المواجه لأهل النار فيه العذاب، والحق هو القادر على كل شيء؛ لذلك لا ينال أهل الجنة شيء من شقاء أهل النار، ولا ينال أهل النار شيء من نعيم أهل الجنة، ويسمع أهل النار رداً على طمعهم في أن ينالهم بعض من نور أهل الجنة، إنكم تلتمسون الهدى في غير موطن الهدى؛ فزمن التكليف قد انتهى، ومن كان يرغب في نور الآخرة كان عليه أن يعمل من أجله في الدنيا، فهذا النور ليس هبة من خلق لخلق، وإنما هو هبة من خالق لمخلوق آمن به. وأنتم تقولون: انظرونا نقتبس من نوركم، وليس في مقدور أهل الجنة أن يعطوا شيئاً من نور أهل الجنة فالعطاء حينئذ لله. {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ... } [الأعراف: 46] و {كُلاًّ} المعنيّ بها أصحاب الجنة وأصحاب النار، فقد تقدم عندنا فريقان؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4149 أصحاب الجنة، وأصحاب النار وهناك فريق ثالث هم الذين على الأعراف، و «الأعراف» جمع «عُرف» مأخوذ من عرف الديك وهو أعلى شيء فيه، وكذلك عرف الفرس. كأن بين الجنة مكانا مرتفعاً كالعرف يقف عليه أناس يعرفون أصحاب النار بسيماهم فكأن من ضمن السمات والعلامات ما يميز أهل النار عن أهل الجنة. وكيف توجد هذه السمات؟ يقال إن الإنسان ساعة يؤمن يصير أهلا لاستقبال سمات الإيمان، وكلما دخل في منهج الله طاعة واستجابة أعطاه الله سمة جمالية تصير أصيلة فيه تلازمه ولا تفارقه وبالعكس من ذلك أصحاب النار فتبتعد عنهم سمات الجلال والجمال وتحل محلها سمات القبح والشناعة والبشاعة. وإذا ما رأى أهل الأعراف أصحاب الجنة يقولون: سلام عليكم؛ لأن الأدنى منزلة - أصحاب الأعراف - يقول للأعلى - أصحاب الجنة - سلام عليكم. وجماعة الأعراف هم من تساوت سيئاتهم مع حسناتهم في ميزان العدل الإلهي الذي لا يظلم أحداً مثقال ذرة. {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6 - 9] ويا رب لقد ذكرت الميزان، وحين قدرت الموزون لهم لم تذكر لنا إلا فريقين اثنين. . فريق ثقلت موازينه، وفريقاً خفت موازينه، ومنتهى المنطق في القياس الموازيني أن يوجد فريق ثالث هم الذين تتساوى سيئاتهم مع حسناتهم، فلم تثقل موازينهم فيدخلوا الجنة، ولم تجف موازينهم فيدخلوا النار، وهؤلاء هم من تعرض أعمالهم على «لجنة الرحمة» فيجلسون على الأعراف. ومن العجيب أنهم حين يشاهدون أهل الجنة يقولون لهم سلام عليكم على الرغم من أنهم لم يدخلوا، لكنهم يطمعون في أن يدخلوا، لأن رحمة الله سبقت غضبه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4150 { ... ونَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46] وبطبيعة الحال ليس في هذا المكان غش ولا خداع. وماذا حين ينظرون إلى أهل النار؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4151 انظر إلى التعبير القرآني {صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} أي لم يصرفوا أبصارهم لأن المسألة ليست اختيارية؛ لأنهم يكرهون أن ينظروا لهم لأنهم ملعونون، وكأن في {صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} لونا من التوبيخ لأهل النارُ. وقوله الحق: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ} أي جهة أصحاب النار يقولون: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} . هنا يدعو أهل الأعراف: يا رب جنبنا أن نكون معهم. إنهم حين يرون بشاعة العذاب يسألون الله ويستعيذون به ألا يدخلهم معهم. ويقول الحق سبحانه: {ونادى أَصْحَابُ الأعراف ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4151 وكأن أصحاب الأعراف قد صرفت أنظارهم لأصحاب النار ويرون فيهم طبقات من المعذبين، فهذا أبو جهل، وذاك الوليد، ومعه أمية بن خلف وغيرهم ممن كانوا يظنون أن قيادتهم لمجتمعهم وسيادتهم على غيرهم تعطيهم كل سلطان وكيان، وكانوا يسخرون من السابقين إلى الإسلام كعمار وبلال وصهيب وخباب، وغيرهم ممن عاشوا للحق مع الحق، فيقول أهل الأعراف لهؤلاء: {مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} . وكأنهم يقولون لهم: إن اجتماعكم على الضلال في الدنيا لم ينفعكم بشيء. . شياطينكم، والأصنام والسلطان لم ينفعوكم وكذلك استكباركم على الدعوة إلى الإيمان هل أغنى عنكم شيئاً؟ لا. لم يغن عنكم شيئاً. ويقول الحق بعد ذلك: {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4152 ويشير أهل الأعراف إلى المؤمنين الصادقين من أمثال بلال وخباب ويقولون لأهل النار من أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة: أهؤلاء الأبرار من أهل الجنة الذين تقولون إنهم لن ينالوا رحمة الله؟ هم إذن - أهل الأعراف - قد عقدوا المقارنة والموازنة بين أهل الجنة وأهل النار، وكأنهم نسوا حالهم أن يقفوا في انتظار الفرج وفرحوا بأصحاب الجنة ووبخوا أهل النار، ولم يشغلهم حالهم أن يقفوا موقف الفصل في هذه المسألة، وهنا يدخل الحق سبحانه أصحاب الأعراف جنته لفرحهم بأصحاب الجنة، وتوبيخهم أهل النار ويقول لهم: { ... ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 49] وهؤلاء - كما قلنا - هم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم؛ هي الطائفة التي جلست على الأعراف، فلم تثقل حسناتهم لتدخلهم الجنة، لم تثقل سيئاتهم ليدخلوا النار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4152 ويقول الحق بعد ذلك: {ونادى أَصْحَابُ النار ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4153 وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة مستغيثين طالبين أن يعطوهم ويفيضوا عليهم من الماء أو من رزق الله لهم في الجنة، فيقول أهل الجنة: نحن مربوطون الآن ب «كن» ، ولم يعد لنا الاختيار، وقد حرم الله عليكم أي شيء من الجنة ومنعه عنكم، فأنتم يا أهل النار ممنوعون أو هذه المتع ممنوعة عنكم. وحين يطلب أهل النار الماء، فهم يطلبون أوليات الوجود، في نار أحاطت بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه. ولذلك يقول الحق بعد ذلك عن الكافرين الذين حرم عليهم خير الجنة: {الذين اتخذوا دِينَهُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4153 وهكذا يبين لنا الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية من هم الكافرون الذين حرّم عليهم الجنة؛ إنهم من اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، وأول مرحلة تمر على الإِنسان هي اللعب ثم تأتي له مرحلة اللهو. ونعلم أن كل فعل تُوَجَّه إليه طاقة فاعلة، وقبل أن تُوجّه إليه الطاقة الفاعلة يمر هذا الفعل على الذهن كي يحدد الغاية من الجهد. وهذا المقصود له حدود؛ إما أن يجلب له نفعاً، وإما أن يدفع عنه ضُرًّا. وكل مقصد لا يجلب نفعاً ولا يدفع ضراً، فهو لعب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4153 إذن فتعريف اللعب: هو فعل لم يقصد صاحبه به قصداً صحيحاً لدفع ضر أو جلب نفع. كما يلعب الأطفال بلعبهم، فالطفل ساعة يمسك بالمدفع اللعبة أو السيارة اللعبة، هل له مقصد صحيح ليوجه طاقته له؟ . لا؛ لأنه لو كان المقصد صحيحاً لما حطم الطفل لُعَبَهُ. والطفل غالباً ما يكسر لعبته بعد قليل، وهذا دليل على أنه يوجه الطاقة إلى غير قصد صحيح ولا يجلب لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها مضرة. ولكن حين تُوَجَّه الطاقة إلى ما هو أدنى من المهم فهذا هو اللهو، كأن يكون المطلوب منك شيئا وأنت توجه الطاقة إلى شيء آخر. والذي يعاقب عليه الله هو اللهو. أما اللعب فلا. ولذلك نجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطلب من الأهل أن يدربّوا الأبناء على شيء قد يفيد الأمة كالسباحة والرماية وركوب الخيل، ولكن خيبة البشر في زماننا أنهم جعلوا اللعب غاية لذاته. ومن العجيب أن اللعب صار له قانون الجد ولا يمكن أن يخرقه أحد دون أن يُعاقَب؛ لأن الحَكم يرقب المباراة، وإذا ما تناسى الحكم أمراً أو أخطأ هاج الجمهور. وأتساءل: لقد نقلتم قانون الجد إلى اللعب، فلماذا تركتم الجد بلا قانون؟ وكذلك نجد أن خيبة اللهو ثقيلة؛ لأن الإِنسان اللاهي يترك الأمر المهم ويذهب إلى الأمر غير المهم. فيجلس إلى لعبة النرد وهي طاولة ويترك الشغل الذي ينتج له الرزق، وليت هذا اللهو مقصورٌ على اللاهي، ولكنه يجذب أنظار غير اللاهي ويأخذ وقته، هذا الوقت الذي كان يجب أن يُستغل في طاقة نافعة. وفساد المجتمعات كلها إنما يأتي من أن بعضاً من أفرادها يستغلون طاقاتهم فيما لا يعود على ذواتهم ولا على أمتهم بالخير إذن فاللهو طاقة معطلة. {اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} . وغرورهم بالحياة الدنيا إنما يأتي من الأسباب التي خلقها الله مستجيبة لهم فظن كل منهم أنه السيد المسيطر. وحين غرتهم الحياة الدنيا نسوا الجد الذي يوصلهم إلى الغاية النافعة الخالدة، ويكون عقابهم هو قول الله سبحانه: { ... فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51] فهل يعني قوله عَزَّ وَجَلَّ: {نَنسَاهُمْ} أنه يتركهم لما يفعلون؟ . لا، بل تأخذهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4154 جهنم لتشويهم، ونسيانهم هنا هو أنه - سبحانه - لا يشملهم بمظاهر فضله ولطفه ورحمته ويتركهم للنار تلفح وجوههم وتنضج جلودهم. وهكذا يتأكد من جديد أن الدنيا هي المكان الذي يعد فيه الإِنسان مكانه في الآخرة، فإن أراد مكاناً في عليين فعليه أن يؤدي التكليف الذي يعطيه مكانه في عليين. وإذا أراد مكانه أقل من ذلك فعليه أن يؤدي العمل الأقل. كأن الإِنسان بعمله هو الذي يحدد مكانه في الآخرة؛ لأن الحق لا يجازي الخلق استبدادا بهم وافتياتاً أو ظلماً، ولكنه يجازي الإِنسان حسب العمل؛ لذلك فهناك أصحاب الجنة، وهناك أصحاب النار، وهناك أصحاب الأعراف. وهذا العلم الذي يُنزله لنا الحق قرآناً ينذرنا ويبشرنا هو دليل لكل مسلم حتى نتنافس على أن تكون مواقعنا في الآخرة مواقع مشرفة. {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51] وحين يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} فالآيات إما آيات كونية: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر ... } [فصلت: 37] وإما آيات قرآنية كقوله سبحانه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] وإما أن تكون آيات معجزات لإِثبات النبوة كقوله سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ... } [الإسراء: 59] هم إذن جحدوا الآيات كلها، وكان أول جحود هو جحود بالآيات الكونية التي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4155 شاهدوها قبل أن يأتي التكليف، فهم عاشوا الليل والنهار. وتنفسوا الهواء، واستمتعوا بدفء الشمس، وروى المطر أراضيهم ووجدوا الكون مرتباً منظماً يعطي الإنسان قبل أن يكون للإنسان إدراك أو طاقة، وكان يجب أن تلفتهم هذه الآيات إلى أن لهم خالقاً هو الحق الأعلى. وحين جاء لهم الموكب الرسالي جحدوا آيات المعجزات التي تدل على صدق الرسل. وحين جاء القرآن معجزاً جحدوا الآيات التفصيلية التي تحمل المنهج. إذن فلا عذر لهم في شيء من ذلك أن الحق يقول: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4156 أي لا عذر لهم في شيء من هذا الجحود؛ لأن الكتاب مفصل، وقد يقولون: إن الكتاب الطارئ علينا، وكذلك الرسول الذي جاء به. إذن فما موقفهم من الآيات الكونية الثابتة؟ لقد جحدوها أيضاً. {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ} . و {فَصَّلْنَاهُ} أي أنه سبحانه لم ينزل كلاما مجملاً أو مبهماً، لا، بل فيه تفصيل العليم الحكيم، أنه فصل أحكامه ومعانيه ومواعظه وقصصه حتى جاء قيما غير ذي عوج، وسبحانه هو القادر أن ينزل المنهج المناسب لقياس ومقام كل إنسان. إنه حينما يأتي إلينا من يستفتينا في أي أمر ويحاول أن يلوي في الكلام لنأتي له بفتوى تبرر له ما يفعله، فنحن نقول له: ليس لدينا فتوى مفصلة؛ لأن الفتاوي التي عندنا كلها جاهزة، ولك أن تدخل بمسألتك في أي فتوى. { ... فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52] وهناك أناس سمعوا القرآن ورأوا الآيات واهتدوا، فلماذا اهتدى هؤلاء وضل هؤلاء؟ لقد آمن من صدق بالوجود الأعلى كما قلنا في سورة البقرة: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4156 {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] إذن فقد آمن بالقرآن من اهتدى إلى الحق، ومنهم من أوضح الحق عنهم: أنهم حين يستمعون القرآن تفيض أعينهم من الدمع. وأيضاً هناك من لا يلمس الإيمان قلوبهم حين يستمعون إلى القرآن. {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً ... } [محمد: 16] وهؤلاء هم الذين غلظت قلوبهم فلم يتخللها أو يدخلها ويخالطها نور القرآن، لذلك تجد الحق يرد عيلهم بقوله سبحانه: { ... أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} [محمد: 16] ويقول سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ... } [فصلت: 44] سبق أن ضربنا المثل بأن الفعل في بعض الحالات واحد، لكن القابل للفعل مختلف، لذلك تكون النتيجة مختلفة. وعلى سبيل المثال: إذا كنت في الشتاء، وخرجت ووجدت الجو بارداً، وشعرت أن أطراف أصابعك تكاد تتجمد من البرد، فتضم فبضتك معاً وتنفخ فيهما، وقد تفعل ذلك بلا إرادة من كل تدفئ يديك. وكذلك حين يأتي لك كوب من الشاي الساخن جداً، وتحب أن تشرب منه، فأنت تنفخ فيه لتأتي له بالبرودة. والنفخة من فمك واحدة؛ تأتي بحرارة ليديك، وتأتي بالبرودة لكوب الشاي، وهكذا فالفعل واحد لكن القابل مختلف. وكذلك القرآن فمن كان عنده استعداد للإيمان فهو يهتدي به، ومن لا يملك الاستعداد فقلبه غلف عن الإيمان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4157 وموقف هؤلاء العاجزين عن استقبال الرحمة غير طبيعي، وماذا ينتظرون بعد هذا الكفر، وبعد الافتئات وبعد الاستكبار وبعد التأبي وبعد اتخاذ الدين لهواً ولعباً، ما ينتظرون؟ ها هو ذا الحق سبحانه يوضح لهم العاقبة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4158 وما معنى التأويل؟ . . التأويل هو ما يؤول إليه الشيء، هو العاقبة التي يعدها الحق، فالرحمة والجنة لمن آمن، والنار لمن كفر، والحق هو من يقول ويملك قوله لأن الكون كله بيده. وهنا يقول سبحانه وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} . أي هل ينتظرون إلا لمرجع الذي يؤول إليه عملهم؟ إن مرجعهم الأخير هو العذاب بعد الحساب يوم يأتي تأويل وغاية وعاقبة ما عملوا. وحين يأتي يوم القيامة ويتضح الحق ويظهر صدق ما جاء به الرسول من الوعد والوعيد ماذا سيكون قولهم؟ . . سيقولون ما أورده سبحانه على ألسنتهم: {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} . أي أنهم سيعلنون التصديق حين لا ينفع هذا التصديق؛ لأنهم لن يكونوا في دار التكليف، سيقرون بالإِيمان لحظة لا ينفعهم ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4158 {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ ... } [الأعراف: 53] هم إذن يقرون بأن الرسل حملت المنهج الحق ويتساءلون عن الشفيع. ونعلم أن الشفيع لابد أن يكون محبوباً عند من يشفع عنده، ونحن في الدنيا نجد من يبحث لنفسه عمن يشفع له عند صاحب جاه يكون أثيرا وعزيزا لديه، أو يكون له كلمة وفضل عليه فلا يرد عليه كلمته. فمن يأتي يوم القيامة بالشفاعة لهؤلاء؟ . . لا أحد، وسنجدهم يتخذون الشفعاء من الذين اتخذوهم أنداداً لله. وسيعلن هؤلاء أيضاً الكراهية لهم، ولو مكنهم الله من الشفاعة ما أعطوها للكافرين المشركين؛ ففي الدنيا كان هؤلاء مؤتمرين بأمر البشر وضلالاتهم. أما يوم الحساب فلا أحد خاضع لإِرادة أحد، حتى الجوارح لا تخضع لإِرادة صاحبها، بل هي خاضعة للحق الأعلى. وفي الآخرة لا مرادات لأحد. وقد ضربنا من قبل المثل وقلنا: هب أن سرية في جيش ما وعليها قائد صغير برتبة ضابط، ومفروض في جنود السرية أن ينفذوا كلامه، ثم راحوا لموقعة وأعطاهم الضابط الصغير أوامر خاطئة بما له من فرض إرادة عليهم فنفذوا ما أمروا به. ولحظة أن يعودوا ويحاسبهم القائد الأعلى فسيقولون: لقد فعلنا ما أمرنا به الضابط المكلف بقيادتنا، وكذلك ستأتي الجوارح في الآخرة: تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم وجلودهم. إذن فالأبعاض سترفع شكواها إلى الله يوم ألا يكون لأحد من ملك سواه، ويومئذ سيقول المكذبون الصدق الذي لن ينفعهم. {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ... } [الأعراف: 53] وسوف يبحثون عن شفاعة، لكنهم لن يجدوا، بل إن أول من يسخر من الذين عبدوا غير الله هم المعبودون أنفسهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4159 ولذلك نجد قوله الحق سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] وما ذنب المعبود؟ . . إن الأصنام لا ذنب لها، بل كل منها يريد أن يشفي نفسه بأن يكون أداة تعذيب لمن أعطوه غير حقه. ولذلك نجد أن الأحجار التي عُبدت تقول: عبدونا ونحن أعبد لله من القائمين بالأسحار؛ لأن القائم في الأسحار من الأغيار قد يختار أمراً غير هذا، ولكنا كنا مقهورين على الطاعة، وقد اتخذوا صمتنا علينا دليلاً. إن الأحجار تعلن أنها لم تكن تملك قدرة رفض أن يعبدها أحد أو أن تعبده عنها وتعلن له غباءه. والشاعر يقول: قد تجنوا جهلا كما قد تجنوا ... على ابن مريم والحواري للمغالي جزاؤه والمغالي ... فيه تنجيه رحمة الغفار وهكذا يأتيهم الحق واضحاً يوم القيامة. إنهم سيطلبون العودة إلى الدنيا، وهذا من الخيبة؛ لأن مثل هذا الإِقرار ليس من الإِيمان، فالإِيمان يكون بالغيب لا في المشهد. وحتى ولو عادوا، فلن يؤمنوا! . والحق هو القائل: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ... } [الأنعام: 28] وكأنهم نسوا لحظة إقرارهم أنهم من الأغيار، وأتى فيهم القول الفصل من الله. { ... قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 53] لقد جاء لهم الخسران بعد أن غاب عنهم ما كانوا يفترون على الله في الدنيا، إنهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4160 رفضوا عبادته - سبحانه - وعبدوا غيره أصناماً صارت وقوداً للنار التي سيصلونها. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4161 هنا ربوبية، وهنا ألوهية: {رَبَّكُمُ الله} ولا أحد يختلف في مسألة الربوبية لأن الحق يقول على ألسنة الكافرين والمشركين: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ... } [الزمر: 38] وكذلك إن سألتهم من خلقهم؟ سيقولون: الله، ولم يدّع أحد نفسه مسألة الربوبية، لأن الربوبية جاءت بنفع لهم، لكن الألوهية دخلت بمنهج هو: «افعل ولا تفعل» ؛ لأن التكليف من الإله الرب، والتكليف نعمة منه وهو لمصلحتكم أنتم، فلا شيء في التكليف يعود على الله. وفعلكم الحسن أو السيء لن يعطي لله صفة لم تكن له؛ لأن صفات الكمال أوجدكم. وإن كنتم أنتم في شك في هذه الربوبية فربكم هو الله - ولله المثل الأعلى - منزه عن التشبيه، كأن تقول الأم للولد: قال لك أبوك لا تسهر خارج المنزل ليلاً، فيتأبى الولد. وتنبه الأم ولدها: إن أباك هو الذي يأتي لك بالأكل والشرب، والملابس ويعطيك مصروف اليد. . إلخ. وقد ضربت هذا المثل لأشرح كيف أن المكلف هو الرازق ولا أحد سواه يرزق، لذلك كان يجب أن تقبل تكاليفه لأن سبق لك بالفضل بأن أعطى لك وسخر لك الدنيا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4161 ومن قبل فصل الحق سبحانه خلق الإنسان، ويفصل لنا هنا خلق السماء والأرض لأن ظرف وجود الإنسان هو السماء والأرض، وكل الخيرات تأتي له من السماء ومن الأرض، وإذا كان الله قد علمنا كيف خلقنا، فهو هنا يعلمنا كيف خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان وخلق السموات والأرض مسألتان ينشغل بهما العلم الحديث، فمن العلماء من قال: إن الأرض انفصلت عن الشمس، ومنهم من افترض نظرياً أن الإنسان أصله قرد، ولهؤلاء نقول: هذا حكم منكم لا يقبل؛ لأنكم لم تشهدوا الخلق، ولذلك فعليكم أن تسمعوا ممن خلق الخلق ليقول لكم كيف خلق الخلق. هو سبحانه يقول: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} [الأعراف: 54] والآية تتعرض للخلق الأول وهو السموات والأرض - كما أوضحت - وهو الظرف الوجودي للإنسان الخليفة وطرأ الإنسان على هذا الكون بكل ما فيه من قوى ونواميس، فكأن الله أعد الكون للخليفة قبل أن يُخلَق الخليفة ليجيء الخليفة فيجد كوناً مسخراً له؛ ولا يستطيع أي كائن منه أن يخرج عن مراد الله في شيء {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ} . ومعنى «الخلق» أي أوجد شيئاً كان معدوماً وبرأه على غير مثال سبقه. فربنا سبحانه قدر كل شيء بنظام غير مسبوق، هذا هو معنى الخلق، وكلمة «الخلق» مادتها الفاعلة هي: خالق، وسبحانه وتعالى يجمعها مع أنه الخالق الوحيد فيقول: { ... فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] إذن فهناك الخالق الأعلى وهو الله، ولكنه سبحانه أيضاً أشرك خالقاً غيره معه فقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4162 جل وعلا: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} . كيف؟؛ لأن الخلق إيجاد شيء معدوم، والذي صنع الميكروفون يقال خلقه، والذي صنع الكوب يقال خلقه، والذي صنع المصباح يقال خلقه، لأنه كان شيئاً معدوماً بذاته، فأوجده. لكن الفارق أن الخالق من البشر يوجد معدوماً من موجود ولا يأتي بمادة جديدة؛ فمن أخذ المواد الموجودة في الكون وصمم منها المصباح وصهر الرمل وفرغ الهواء داخل الزجاج يقال له: خلق المصباح وأوجد معدوماً من موجود. لكن الخالق هو خير الخالقين لأنه يخلق من عدم ولم يحرم خلقه حين يوجدون شيئا معدوماً من أن يوصف الواحد منهم بأنه خالق، وسبحانه حين خلق خلق من لا شيء، وأيضاً فإنكم حين تخلقون أي صنعة تظل جامدة على هيئة صناعتها، فمن صنع الكوب من الرمل المصهور يظل الكوب هكذا، ولا نستطيع - كما سبق أن قلت قديماً - أن نأتي بكوب ذكر، وكوب أنثى، ونضعهما معاً في مكان ونقول لهما: أنجبا لنا أكواباً صغيرة. لكن ما يخلقه ربنا يعطي له سر الحياة ويجعله بالقانون ينتج غيره وينمو ويكبر. إذن فهو أحسن الخالقين. والله سبحانه وتعالى يعطينا خبر خلقه السموات والأرض. وأوضح سبحانه أن السموات سبع وقد جاءت مجموعة. أما الأرض فجاء بها مفردة. لكنه جل وعلا قال في آية أخرى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ ... } [الطلاق: 12] فكما خلق سبع سموات خلق سبع أراضين، ولماذا جاء بالسماء بالجمع وترك لفظ الأرض مفرداً؟ . . لماذا لم يقل: سبع أراضين؟؛ لأن كلمة «أراضين» ثقيلة على اللسان فتركها لثقلها وأتى بالسموات مجموعة لخفتها ويسر نطقها. والسماء هي كل ما علاك فأظلك، هذا معنى السماء في اللغة. لكن هل السماء التي يريدها الله هي كل ما علاك؟ . . إن النجم هو ما علاك؛ وقد يقال: إن الشمس علتك، والقمر علانا جميعاً. ونلفت الانتباه هنا ونقول للناس الذين أحبوا أن يجعلوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4163 السموات هي الكواكب إنها ليست دائما ما علانا؛ فالشمس تعلو وقتا وتنخفض وقتاً آخر. وكذلك القمر. إذن فالوصف منحسر عن الشمس أو القمر بعض الوقت، ولا يصح أن يوصف أي منهما بأنه سماء دائما. وشيء آخر وهو أنهم حينما قالوا على الكواكب التي كانت معروفة بأنها كواكب سبعة وقالوا: إن هذه السماء، إنهم بقولهم هذا قد وقعوا في خطأ. وأوضح الحق لنا بالعلم أن للشمس توابع أخرى. فمرة رأى العلماء ثمانية توابع، ومرة تسعة، وأخرى عشرة توابع، وهكذا انهدمت فكرة أن التوابع هي السماء، وبقيت السماء هي ما فوق هذا كله، والحق هو القائل: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} [الصافات: 6] هذه - إذن - زينة للسماء الدنيا، والسماء التي يقصدها ربنا ليست هي التي يقولون عليها، بل السماء خلق آخر لا يمكن لأحد أن يصل إليه، وكان الجن قديماً يقعدون منها مقاعد للسمع {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} . وحدث هذا بعد بعثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والحق هو من قال لنا ذلك. ولم يوضح الحق لنا حقيقة هذه السماء ونظامها، أي أن ربنا يريد لعقولنا أن تفهم هذا القدر فحسب، وسبحانه خالق السماء التي فوقنا، وهو جل وعلا خالق أراضين. وأين هي هذه الأراضين؟ . . أهي أراضين مبعثرة؟ ولقد أثبت العلم أن كل مجرّة من المجرّات فيها مليون مجموعة شمسية، وكل مجموعة شمسية فيها أرض، إذن فهناك أراضٍ عديدة، ونلحظ أن الحق سبحانه حين يتكلم عن الأرض فكل مخاطب بالأرض التي هو فيها، ولذلك قال بعض العلماء: إن في هذا العالم العالي توجد أراضٍ، وكل أرض أرسل لهم الحق رسولاً. والحق هو القائل: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ.} [الشورى: 29] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4164 ويعطينا العلم كل يوم مزيداً من الاكتشافات. وهكذا تكون السماء هي كل ما علاك والأرض كل ما أقلك. ومادامت سبع سموات والسماء الأولى فراغ كبير وفضاء، وتأتي بعدها السماء الثانية تُظل السماء الأولى، وكل سماء فيها أرض وفيها سماء أخرى. ونحن غير مكلفين بهذا، نحن مكلفون بأن نعلم أن الأرض التي نحن عليها مخلوقة لله. والحق يقول: {خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... } [الأعراف: 54] وقوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} هو ظرف للخلق. واليوم نعرف أنه المدة من طلوع الشمس إلى الغروب ثم إلى الشروق ومدته أربع وعشرون ساعة. لكن لابد لنا أن نعرف بعضاً من اصطلاحات الحق القرآنية. فهو يقول سبحانه وتعالى: { ... سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ: 18] أي هناك ليل وهناك يوم، إذن فاليوم عند الحق غير اليوم عندنا؛ لأننا نطلق على المدة الزمنية من طلوع الشمس إلى غروبها وشروقها من جديد. هكذا يكون اليوم في العرف الفلكي: من شروق إلى شروق، أو من غروب إلى غروب، وقول الحق: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} . يعني أنه سبحانه قد جعل الليل قسماً والنهار قسماً، وهل كان هناك من عرف اليوم إلا بعد أن وجدت الشمس؟ . . وإذا كانت الشمس هي التي تحدد اليوم فكيف عرف اليوم قبلها وخصوصاً أن السماء والأرض حينما خلقتا لم تكن هناك شمس أو كواكب؟ . . وعلينا هنا أن نعرف أن هذا هو تقديره سبحانه وقد خاطبنا به بعد أن عرفنا مدة اليوم. ألم تقرأ قول الله سبحانه: { ... وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] وليس في الآخرة بكرة ولا عشى، إذن سبحانه قد قدر البكرة وقدر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4165 العشي، وكذلك {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وتلك هي الآيات المحكمات في القرآن بالنسبة لزمن الخلق؛ ستة أيام، ولكن آية التفصيل للخلق، جاءت في ظاهر الأمر أنها ثمانية أيام. اقرأ معي: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ... } [فصلت: 9 - 12] والظاهر من آية التفصيل أنها ثمانية أيام، أما آيات الإِجمال فكلها تقول: إنها أيام، ومن النقطة دخل المستشرقون، وادعوا زوراً أن القرآن فيه اختلاف، وحالوا أن يجعلوها ضجة عالية. ونقول: إنه - سبحانه - خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام كاملة بلا زيادة ولا نقصان، فالمراد أن ذلك حصل وتم في تتمة أربعة أيام ويضم إليها خلق السموات في يومين فيكون عدد الأيام التي تم فيها خلق السموات والأرض ستة أيام أو نحمل المفصل على المجمل، فحين يقول الحق: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... } [الأعراف: 54] فهل خلق الله يحتاج إلى علاج حتى يتطلب الزمن الممتد؟ . . إن ربنا يخلق ب «كن» ، ونحن البشر على حسب قدرتنا لنخلق شيئاً، وكل عملية نقوم بها تأخذ زمناً، لكن من يخلق بكلمة «كن» فالأمر بالنسبة له هين جداً - سبحانه وتعالى - لكن لماذا جاء الخلق في ستة أيام؟ نعلم أن هناك فرقاً بين ميلاد الشيء وبين تهيئته للميلاد. وكنا قد ضربنا المثل سابقا - ولله المثل الأعلى - بصانع الزبادي، الذي يأتي بأكواب اللبن الدافئ، ثم يضع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4166 في كل منها جزءا من خميرة الزبادي، ويضع تلك الأكواب في الجو المناسب. فهل يؤدي هذا الرجل عملاً لمدة أثنتي عشرة ساعة في كل كوب، وهي المدة اللازمة لتخمر الكوب؟ . . طبعاً لا، فقد اكتفى بأن في كل كوب عناصر التخمر لتتفاعل بذاتها إلى أن تنضج. ولنظر إلى خلق الجنين من تزاوج بويضة وحيوان منوي. ويأخذ الأمر تسعة شهور وسبحانه جل جلاله لا يعمل في خلق الجنين تسعة شهور، لكنه يترك الأمر ليأخذ مراحل تفاعلاته. إذن فخلق الله السموات والأرض في ستة أيام لا يعني أن الستة أيام كلها كانت مشغولة بالخلق، بل قال سبحانه: «كن» وبعد ذلك ترك مكونات السموات والأرض لتأخذ قدرها ومراحلها؛ لأن ميلادها سيكون بعد ستة أيام. وفي القرآن آية من الآيات أعطتنا لمحة عن هذه المسألة، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] أي خلق سبحانه السموات والأرض دون تعب؛ لأنه لا يعالج مسألة الخلق، بل إنما يحدث ذلك بأمر «كن» فكانت السموات والأرض. والآية التي بعدها فوراً تقول: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} وكأن قوله سبحانه هنا جاء لتسلية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موضحاً له: إنهم يكذبونك وقد ترغب في أن نأخذهم أخذ عزيز مقتدر. لكن الحق جعل لكل مسألة كتاباً، فهو قد خلق السموات والأرض في ستة أيام. ونحن في حياتنا نقول لمن يتعجل أمراً: يا سيدي إن ربنا خلق السماء والأرض في ستة أيام. فلا تتعجل الأمور. إذن كان ربنا هو القادر على أن ينجز خلق السماء والأرض في لحظة، لكنه أمر «بكن» وترك المواد تتفاعل لستة أيام. ولماذا لا نقول: جاء بكل ذلك ليعلمنا التأني، وألا نتعجل الأشياء؟ لأنه وهو القادر على إبراز السموات والأرض في لحظة، خلقها في ستة أيام، لذلك قال سبحانه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4167 {فاصبر على مَا يَقُولُونَ ... } [ق: 39] أي لا ترهق نفسك لأنه سبحانه خلق السماء والأرض في ستة أيام، وسيأتي لهؤلاء الجاحدين يومهم الذي يؤاخذون فيه بسوء أعمالهم وسوف يأتي حتماً. وهناك من يتساءل: كيف خلق الكون بما فيه من الرواسي والكائنات؟ . . ونقول: إن الإنجاز الذي أخبر به سبحانه مرة واحدة، وانفعلت الكائنات للقدرة مرة واحدة، وتعددت استدامة انفعالات السامع بقدرة الله، في كل جزيئة من جزئيات الفعل، وأخذ الأمر ستة أيام. واستقر الأمر بعد ذلك واستتب، وسبحانه يقول: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش ... } [الأعراف: 54] ولابد أن نعرف العرش ما هو. وسبحانه يقول في ملكة سبأ: { ... وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] فالعرش إذن هو سرير الملك؛ لأن الملك لا يجلس على العرش إلا بعد إن تستقر الأمور. فكأن قوله: {استوى عَلَى العرش} كناية عن تمام الأمور؛ وخلقها وانتهت المسألة. لكن العلماء حين جاءوا في {استوى} ، اختلفوا في فهمها؛ لأن العرش لو كان كرسياً يجلس عليه الله، لكان في ذلك تحييز لله ووضعه وضمه في جرم ما. وسبحانه منزه عن أن يحيزه شيء. ولذلك أخذ العلماء يتلمسون معاني لكلمة {استوى} منهم من قال: إن معناها هو قصد إليها بخلقه واختراعه، ومنهم من قال: المقصود بها أنه استعلى وارتفع أمره، ومنهم من قال: «صعد» أمره إلى السماء واستند إلى قوله الحق: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ ... } [فصلت: 11] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4168 وكلها معانٍ متقاربة. وجماعة من العلماء أرادوا أن يخرجوا من التشبيهات؛ فقالوا: المقصود ب «استوى» أنه استوى على الوجود، ولذلك رأوا أن وجود العرش والجلوس عليه هو سمة لاستقرار الملك. وحتى لا ندخل في متاهات التشبيهات، أو متاهات التعطيل نقول: علينا أن نأخذ كل شيء منسوب إلى الله في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فحين يقول سبحانه: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ... } [الفتح: 10] ونحن نفهم أن لليد مدلولاً، والقرآن لغة عربية يخاطبنا بها سبحانه، فالقول أن لله يداً فهذا دليل على قدرته. واستخدام الحق كلمة اليد هنا كناية عن القدرة. والإِنسان عليه أن يأخذ كل شيء منسوب إلى الله مما يوجد مثله في البشر، في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، فنقول: سبحانه له يد ليست كيد البشر، وله وجود لكنه ليس كوجود البشر، وله عين ليست كعيون البشر. وله وجه ليس كوجه أحد من البشر. ولذلك حينما سئل سيدنا الإِمام مالك عن هذه المسألة قال لمن سأله: «الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة» وأراك رجل سَوْء! أخرجوه. نعم السؤال عنه بدعة لأنه يدخل بنا في متاهة التشبيه ومتاهة التعطيل، وهل سأل أحد من صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن معنى الاستواء؟ . . لا؛ لأنهم فهموا المعنى، ولم يعلق شيء من معناها في أذهانهم حتى يسألوا عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إنهم فهموها بفطرتهم التي فطرهم الله عليها في إطار ما يليق بجلال الله وكماله. وإن قال قائل: أرسول الله كان يعلم المعنى أم لا يعلم؟ . . إن كان يعلم لأخبرنا بها، وإن لم يخبرنا فقد أراد أن يكتمها. وإن لم يكن قد علم الأمر. . فهل تطلب لنفسك أن نعلم ما لم يعلمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ أو أنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ترك لكل واحد أن يفهم ما يريد ولكن في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والذين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4169 يمنعون التأويل يقولون: إياك أن تؤول اليد بالقدرة؛ لأنه إن قال: إن له يداً، فقل ليست كأيدينا في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ؛ لأنه سبحانه له حياة، وأنت لك حياة، أحياته كحياتك؟ . لا، فلماذا إذن تجعل يده مثل يدك؟ . . إذن لابد أن ندخل على كل صفة لله فننفي عنها التعطيل وننفي عنها التشبيه. ثم إن من يمنعون التأويل نقول لكل منهم: أنت ستضطر أخيراً إلى أن تؤول؛ لأن الحق يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ... } [القصص: 88] ومادام {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فكل ما يطلق عليه شيء يهلك، ويبقى وجهه سبحانه فقط، فلو أنت قلت الوجه هو هذا الوجه، فكأن يده تهلك ورجله تهلك وصدره يهلك، وحاشا لله أن يحدث ذلك. وتكون قد دخلت في متاهة ما لها من آخر. لذلك نقول: لنأخذ النص وندخله في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وآية الاستواء على العرش هذه، مذكورة في سور كثيرة، وهي تحديداً في «سبعة مواضع» ؛ في سورة الأعراف التي نحن بصددها، وسورة يونس، وسورة الرعد، وسورة طه، وسورة الفرقان، وسورة السجدة، وسورة الحديد. وهنا يقول الحق بعد الحديث عن الاستواء على العرش: {يُغْشِي اليل النهار} . الله - سبحانه - قد خلق السماء والأرض للخليفة في الأرض وهيأ له فيها أصول الحياة الضرورية ودلّه على ما يحتاج إليه، فماذا سيفعل هذا الخليفة؟ . . لا بد أن يقوم بكل مقومات الحياة، وإذا ما عمل فسيبذل جهداً، والجهد يقتضي راحة. ومن يشتغل ساعة لا بد أن يرتاح ساعة. وإن اشتغل ساعتين ولم يسترح ساعة غُلب على نفسه. ونحن نرى في الالة التي تعمل ثلاث ورديات يومياً أي التي تعمل لمدة الأربع والعشرين ساعة دون توقف أنها تُستهلك أكثر من الآلة التي تعمل ورديتين، والآلة التي تعمل وردية واحدة لمدة ثماني ساعات يطول عمرها أكثر. وكل إنسان يحتاج إلى الراحة. فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن الليل والنهار متعاقبان من أجل هذا الهدف: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4170 {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ... } [القصص: 73] أي لتسكنوا في الليل، وتبتغوا الفضل في النهار، فإن كنت لم تسترح بالليل فلن تقدر أن تعمل بالنهار، فمن ضروريات حركة الخلافة في الأرض أن يوجد وقت للراحة ووقت للعمل. لذلك أوضح سبحانه لنا: أنا خلقت الليل والنهار، وجعلت الليل سكناً إلى للراحة والبعد عن الحركة، والحق يقول هنا: {يُغْشِي اليل النهار ... } [الأعراف: 54] ويكون المعنى هنا أن النهار يغشي الليل، ولذلك تحدثنا من قبل عن تتابع الليل والنهار لنستنبط منها الدليل على أن الأرض كرة. {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] والليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، وفي مصر نكون في نهار مثلا، ويكون هذا الوقت في بلد آخر ليلاً، وإذا سلسلتها إلى أول ليل وإلى أول نهار، وأيهما الذي كان خلفه للثاني؟ فلن تجد؛ لأن كلا الاثنين خلقا معاً. ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة التسطيح وكانت الشمس قد خلقت مواجهة لسطح الأرض لكان النهار قد خلق أولاً ثم يعقبه الليل، ولو كانت الشمس قد خلقت غير مواجهة للسطح كان الليل سيأتي أولاً ثم تطلع الشمس على السطح ليوجد النهار. والحق سبحانه أراد من الليل والنهار أن يكون كلاهما خلفة للآخرة، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا كان الله سبحانه خلق الليل والنهار دفعة واحدة. كان لابد أن تكون الأرض كرة؛ ليغشى النهار الجزء المواجه للشمس، وليغشى الليل الجزء غير المواجه للشمس، وحين تدور الأرض يأتي النهار خلفة لليل، ويكون الليل خلفه للنهار. {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4171 {يُغْشِي اليل النهار} ويغشى النهار الليل وحذفت للاعتماد على الآيات السابقة التي منها قوله الحق سبحانه: {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار ... } [يس: 40] أي أن الليل لا يسبق النهار وكذلك النهار لا يسبق الليل، وهذا دليل على أنهما خُلقاً دفعة واحدة. والحق يقول هنا: {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر. . .} فلا أحد من هذه الكائنات له اختيار أن يعمل أو لا يعمل، بل كلها مسخرة، ولذلك تجد النواميس الكونية التي لا دخل للإنسان فيها ولاختياراته دخل في أمورها تسير بنظام دقيق، ففي الوقت الفلاني ستأتي الأرض بين الشمس والقمر، وفي الوقت الفلاني سيقع القمر بين الأرض والشمس، وسيحدث للشمس خسوف، وكل أمر من هذا له حساب دقيق. {يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر ... } [الأعراف: 54] والخلق إيجاد الأشياء من عدم، فبعد ان خلق الله الكون لم يترك شؤون الكون لأحد، بل - سبحانه - له الأمر بعد ذلك. وقيوميته؛ لأنه لم يزاول سلطانه في ملكه ساعة الخلق ثم ترك النواميس تعمل، لا، فبأمره يُعطل النواميس أحياناً، ولذلك شاء الحق أن تكون معجزات الأنبياء لتعطيل النواميس؛ لنفهم أن الكون لا يسير بالطبع أو بالعلة. لذلك يقول: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} . وإذا نظرت إلى كلمة «الأمر» تجد الحق يقول: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ ... } [آل عمران: 154] والمقصود هو الأمر الكوني، أما الأمور الاختيارية فلله فيها أمر يتمثل في المنهج، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4172 وأنت لك فيها أمر إما أن تطيع وإما أن تعصي، وأنت حر. { ... أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} [الأعراف: 54] وحين يقول سبحانه: {تَبَارَكَ الله} وقال من قبل: {أَحْسَنُ الخالقين} ، فكل لفظ له معنى، ففي خلقه من البشر مواهب تَخْلق ولكن من موجود وأوضحنا ذلك. وفي قول آخر يصف الحق نفسه: {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} [الأنعام: 62] والناس تتعلم الحساب وخلقوا آلات حاسبة، وهي آلات تتم «برمجتها» وإعدادها وتهيئتها للجمع والطرح والضرب والقسمة، وكل حدث من الحساب يأخذ مدة. لكن الحق يحسب لكل البشر دفعة واحدة. لذلك فهو أسرع الحاسبين؛ لأنه ليس هناك حساب واحد، فأنت لك حساب مع الله، والآخر له حساب مع الله، والحساب مع الله متعدد بتعدد أفراد المحاسبين، وحساب الحق للخلق لا يحتاج إلى علاج، بل ينطبق عليها ما ينطبق على الرزق، ولذلك حينما سئل عليّ كرم الله وجهه: - أيحاسب الله خلقه في وقت واحد؟ قال: وما العجب في ذلك ألم يرزقهم في وقت واحد؟ وانظر إلى القرآن تجد الحق {أَسْرَعُ الحاسبين} و {أَحْسَنُ الخالقين} ، و {أَرْحَمُ الراحمين} و {خَيْرُ الوارثين} . وهذه هي الألفاظ التي وردت، ولله فيها مع خلقه صفة، لكن صفة الله دائما في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} . و {تَبَارَكَ الله} أي أنه - تعالى - تنزّه؛ لأن هناك فرقاً بين القدرة المطلقة - وهي قدرة الله - والانفعال للقدرة المطلقة بالإِرادة وب «كن» وهذا هو الانفعال والانقياد وللإِرادة والأمر. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4173 {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4174 والدعاء إنما يكون من عاجز يدعو أو قادراً على إنجاز وتحقيق ما عجز عنه أو يعينه عليه. وعندما تشعر أنك عاجز فأنت ترتكن إلى من له مطلق القدرة؛ لأن قدرتك محدودة. إذن فإن كنت تطغى أو تتكبر فاعرف مكانتك ومنزلتك جيداً وتراجع عن ذلك لأنك عرض زائل، والدعاء هو تضرع، وذلة، وخشوع، وإقرار منك بأنك عاجز، وتطلب من ربك المدد والعون. واستحضار عجزك وقدرة ربك تمثل لك استدامة اليقين الإِيماني. وما جعل ربنا للناس حاجات إلا من أجل ذلك؛ لأن الإِنسان إذا ما رأى الأشياء تنفعل له، ويبتكر ويخترع فقد يأخذه الغرور، فيأتي له بحاجة تعز وتعجز فيها الأسباب، فيقف ليدعو. ومن كان متكبراً وعنده صلف وغطرسة يذهب إلى رجل «غلبان» زاهد تجرد من الجاه والسلطان منقطع لعبادة الله ويقول له: أستحلفك برسول الله أن تدعو لي لأني في أزمة والذي يسأل الغلبان الزاهد هو رجل عزيز في قومه لكنه يظن أن الغلبان الزاهد أقرب إلى الله منه. إذن الدعاء هو الضراعة وإظهار الذلة والخشوع لله؛ لكي يستديم اليقين الإِيماني. {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ... } [الأعراف: 55] وإياك أن تدعو وفي بالك أن تقضي حاجتك بالدعاء، عليك بالدعاء فقط لقصد إظهار الضراعة والذلة والخشوع، ولأنك لو لم تدع فستسير أمورك كما قُدر لها، والدعاء هو إظهار للخشوع، وإياك أن تفهم أنك تدعو الله ليحقق لك مطالبك؛ لأنه سبحانه منزه أن يكون موظفاً عندك، وهناك نظام وضعه سبحانه لتحقيق مطالب العباد. ومن الناس من يطلب بالدعاء أشياء ضارة. {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] والإِنسان قد يتعلق قلبه بأماني قد تضره؛ لذلك نقول: لا تتعجل بالدعاء طلباً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4174 لأمنيات قد تكون شراً عليك، والحق العليم ينظم لنا أمورنا، وإياك أيضاً أن تيأس حين لا تجاب دعوتك التي في بالك؛ لأن الله يحقق الخير لعباده. ولو حقق لك بعضاً مما تدعو فقد يأتي منها الشر، ويترك الله لأقضيتك أموراً تبين لك هذا، وتقول: إن الشيء الفلاني الذي كنت أتمناه تحقق وجاء شراً عليّ. مثال ذلك قد تحجز لطائرة لكنك لا تلحق بها فقد أقلعت قبل أن تصل إليها وحزنت لأن بعضاً من مصالحك قد فاتك ولم يتحقق وتفاجأ بأن هذه الطائرة سقطت في البحر. إذن، اجعل حظك من الدعاء هو الخشوع والتذلل والضراعة له سبحانه لا إجابتك إلى ما تدعو إليه، إنك دعوت لتطلب الخير، فدع الحق بقيوميته وعلمه يحقق لك الخير. واسمع قول الله: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإِسراء: 11] إذن فحين يقول الحق: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فسبحانه يطلب منا أن ندعوه لأننا سنواجه لحظات متعددة نعجز فيها عن أشياء، فبدلاً من أن تظل مقهوراً بصفة العجز عن الشيء اذكر أن لك رباً قويا مقتدراً، وساعة تذكر ذلك لن تأخذك الأسباب من حظيرة الإِيمان. وقلنا من قبل: من له أب لا يحمل هماً للحياة، فإذا كان الذي له أب لا يحمل هماً لمطلوبات الحياة فمن له رب عليه أن يستحي ويعرف أن ربه سيوفر له الخير؛ لذلك يوضح سبحانه: إذا أعجزتكم الأسباب فاذكروا أن لكم رباً. وقد طلب منكم أن تدعوه، ولا تظن أن حظك من الدعاء أن تجاب إلى ما طلبت، بل ليكن حظك من الدعاء إظهار التذلل والخشوع لله؛ فقد يكون ما حدث لك نتيجة أنك قد اغتررت بنفسك. وقد سبق «قارون» إلى الغرور، فماذا حدث له؟ . . لقد هزمه الحق وأنزل به شر العقاب. وقد يجعل الحق من تأبّى الأسباب وامتناعها عليك مغزى لتلتفت إلى الله، لكن لفتتك لله لا يصح أن تكون بغرض أن يقضي حاجتك، بل اجعل أساس لفتتك لله أن تظهر العجز أمامه والخضوع والخشوع؛ ليعيط ما لم يكن في بالك حين تدعو. {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ... } [الأعراف: 55] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4175 خفية لها معنى وهو أن يكون الدعاء دعاءً مستوراً مختبئاً، ولها معنى آخر وهو أن تكون من الخوف أي أدعو ربكم خوفاً من متعلقات صفات الجلال كالجبار والقهار أو خوفا من أن يردها الله عليك فلا يقبلها منك. ادعوا ربكم تضرعاً بذلة وانكسار وخضوع خفية بينك وبين ربك، فلا تجهر بالدعاء وتجعله عملك الوحيد لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علمنا حينما كان في غزوة غزاها فنزل أصحابه وادياً، فلما نزلوا الوادي صاحوا بالتهليل والتكبير، فقال: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصمَّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» . والدعاء إلى الله خُفية يبتعد بك عن الرياء وهو أستر لك في مطلوباتك من ربك لأنه حين يوضح لك: ادعني في سرّك لأنني سميع عليم؛ فاعلم كل ما ظهر منك وما بطن، ادع بالخضوع والخشوع والتذلل لتنكسر فيك شهوة الكبرياء، وشهوة الغطرسة، وشهوة الجبروت. وإذا ما نظرت إلى هذا تجد أن كثيراً من العلماء يقولون: - نعرف قوماً يقرأون القرآن في محضرنا وما عرفنا لشفاههم حركة، وعرفنا قوماً يستنبطون الأحكام من كلام الله وما رأينا منهم انفعالاً يصرفهم عناً. إذن فالمسألة تعبر عن شغل باطني داخلي. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعدنا عن الرياء ويريد أن يستر علينا مطلوباتنا؛ لأن الإِنسان قد يطلب من الله سبحانه وتعالى ما يستحي أن يسمعه آخر. {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ... } [الأعراف: 55] ولو نظرت إلى هذه الآية لوجدت أن كثيراً من الناس يخالفونها مخالفات جماعية؛ في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4176 الليل مثلاً تجد من يصعدون على المآذن أو يصيحون في مكبرات الصوت التي أغنتهم عن صعود المآذن، ويكون الواحد من هؤلاء نائما طول النهار لأن رفع الأذان هو عمله ليس غير، وبعد ذلك يظل يصرخ ويستغيث ويقول: «أن هذه ابتهالات» . بينما من الناس من هو نائم ليأخذ قسطه من الراحة ليؤدي عمله نهاراً، ولا أحد يطلب من هذا النائم إلا أنه وإذا جاء الفجر يستيقظ ويؤدي الصلاة. فلماذا نقلق الناس بهذا؟ إننا لابد أن ننبه هؤلاء الذين يظنون أنهم يذكرون الناس بدين الله، إنهم بعملهم هذا لا يسلكون الطريق الصحيح؛ لأننا لا يمكن أن نذكر الناس بالله ونصنع مخالفة أو نؤذي أحداً؛ فسبحانه يقول: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} . والتضرع والخُفية تقتضي ألا أقلق الناس، أو أن أعلن الأمور التي أريدها لنفسي خاصة بصوت عال مثل من يأتي في ختام الصلاة ويقول دعاءه بصوت عال وهو رافع يديه، ولمثل هذا أقول: إن الله سبحانه وتعالى جعل لنا القنوت لندعو فيه، وترك كل مسلم أن يدعو بما ينفعل له. وأنت حين تدعو في ختام الصلاة قد يوجد مُصل مسبوق لحق الصلاة بعد أن سبقه الإمام بركعة أو باثنين أو بثلاث ويريد أن يكمل صلاته، وأنت حين ترفع صوتك بالدعاء حين تختم صلاتك إنما تفسد عليه إتمام صلاته. وتشغله بمنطوق من عندك وبكلام من عندك عن شيء واجب عليه. ومن بفعل ذلك إنما يفعله عن حسن نية، لكنه يسيء إلى عبادة آخر. إذن فلابد أن ننتّبه إلى أن الله سبحانه وتعالى له مطلوبات، هذه المطلوبات قد تخالفها النفس لغرض ترى أنه حسن، لكن خذها في إطار: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 401] فلابد أن نتنبه إلى مثل هذه المسائل، وعلينا أن نوفر الراحة لمن ينام ليقوم ويصلي الصبح ويذهب إلى عمله؛ لذلك لا داعي أن يفتح إنسان «الميكروفون» ويعلو صوته بالدعاء، ومن يفعل ذلك يظن أنه يحرص على أمر مطلوب فيزعج النائم، بل ويزعج من يصلي بالليل أو «يشوش» على من يقرأ القرآن أو يستذكر بعضاً من العلم. إن على من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4177 يفعل ذلك أن يترك كل إنسان لانفعالاته، وأن يكون ملك نفسه وملك اختياره. ويعطينا الحق سبحانه وتعالى صوراً كهذه فيقول: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم: 3 - 4] إذن كلمة «خفي» موجودة في القرآن، ولابد أن نتنبه إلى الدعاء الخفي. {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} [الأعراف: 55] إذن إن لم يكن تضرعاً وخفية فهو اعتداء في الدعاء؛ لأنك مكلف والله هو المُكلَف، وهو يقول لك: ادعوني تضرعاً وخفية. فإن فعلت غير هذا تكن معتدياً، وعلى كل هؤلاء أن يفهموا أنهم معتدون فإما أن يكون الاعتداء في أسلوب الطلب وإما ان يكون الاعتداء في المطلوب. لأن الحق حدد أسلوب الطلب فأوضح: ادعوني بخفاء، فإن دعوت في غير الخفاء تكن معتدياً على منهج الله. وكذلك قد يكون الاعتداء في المطلوب فلا يصح مثلاً أن تقول: إنني أدعوك يا رب أن تجعلني نبياً. إن ذلك لا يصح وربنا سبحانه وتعالى علمنا فيما سرده عن نوح. فقال: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 45 - 46] وهنا نبه الحق نوحاً إلى الاعتداء في المطلوب فقال الحق: {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ... } [هود: 46] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4178 ولذلك نجد نوحاً يستغفر لأنه سأل ودعا الله هذا الدعاء عن غير علم، فلما عرف ذنبه استغفر الله وقال: {قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ... } [هود: 47] وقال له الحق سبحانه: {اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ... } [هود: 48] إذن فالذي لا يسمع منهج الله أو لا يطبقه في الدعاء يكون معتدياً على الحق سبحانه وتعالى، وسبحانه لا يحب المعتدين. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4179 الأرض هي مكان الخليفة وهو الإِنسان، وفيها الأسباب الأصيلة لاستبقاء الحياة والسماء والأرض والشمس والهواء كلٌ مسخر لك. ولا تحتاج إلى تكليف فيه، فلا أنت تقول: «يا شمس أشرقي» أو «يا هواء هب» فكل ذلك مسخر لك. وأنت مطالب ألا تفسد فيما لك فيه اختيار؛ لأنك لا تستطيع أن تفسد قوانين الكون العليا، لا تستطيع أن تغير مسار الشمس ولا مسار القمر ولا مسار الريح، وأنت لن تستطيع إصلاح ما لا يمكن أن تقترب من إفساده، لأن أمره ليس بيدك لأنه لا اختيار لك فيه. وإنما يأتي الإِفساد من ملكات الاختيار الموجودة فيك، ولم يتركنا الله أحراراً فيها، بل حددها بمنهج يحمي حركة الحياة ب «افعل» و «لا تفعل» ، فإذا كان سبحانه قد أنزل قرآناً، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4179 والقرآن فيه منهج يحمي اختيارك إذن فقد أعطاك عناصر الإِصلاح ولذلك يقول لك: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً ... } [الأعراف: 56] وهنا يعود الحق مرة أخرى للحديث عن الدعاء، فأولاً جاء بالأمر أن يكون الدعاء تضرعاً وخفية، وهنا يوضح الحق سبيلاً ثانيا للدعاء: {وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً} . خوفاً من صفات جبروته وقهره، وطمعا في صفات غفرانه ورحمته؛ لأن لله صفات جمال وصفات جلال، وادعوه خوفاً من متعلقات صفات الجلال، وطمعاً في متعلقات صفات الجمال. أو خوفاً من أن تُرد وطمعاً فيما أنت ترجو. { ... وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] إذن من الذي يحدد قرب الرحمة منه؟ إنه الإِنسان فإذا أحسن قربت منه الرحمة والزمام في يد الإِنسان؛ لأن الله لا يفتئت ولا يستبد بأحد. فإن كنت تريد أن تقرب منك رحمة الله فعليك بالإِحسان. {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} . ولذلك قلنا إن الحق سبحانه وتعالى يقول: «لا أمل حتى تملّوا» . [من حديث قدسي] وأنت تدخل بيوت الله تصلى في أي وقت، وتقف في أي مكان لتؤدي الصلاة، إذن فاستحضارك أمام ربك في يدك أنت، وسبحانه حدد لك خمسة أوقات، ولكن بقية الأوقات كلها في يدك، وتستطيع أن تقف بين يدي الله في أي لحظة. وسبحانه يقول: «ومن جاءني يمشي أتيته هرولة» [من حديث قدسي] . وهو جل وعلا يوضح لك: استرح أنت وسآتي لك أنا؛ لأن الجري قد يتعبك لكني لا يعتريني تعب ولا عي ولا عجز. وكأن الحق لا يطلب من العبد إلا أن يملك شعوراً بأنه يريد لقاء ربه. إذن فالمسألة كلها في يدك، ويقول سبحانه: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» . [من حديث قدسي] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4180 وهكذا يؤكد لك سبحانه أن رحمته في يدك أنت وقد أعطاها لك، وعندما تسلسلها تجدها تفضلاً من الله، ولكن في يدك أنت. {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} . ونعلم أن فيه صفات لله وفيه ذات، فالذات (الله) وهو واهب الوجود، وله كل صفات الكمال وكل صفة لها متعلق؛ الرحمة لها متعلق والبعث له متعلق فمن أسمائه سبحانه «الباعث» ؛ وإياك أن تغيب عن الذات، اجعل نفسك مسبحاً لذاته العلية دائماً. وقد تقول: يا رب أريد أن ترحمني في كذا، وقد لا ينفذ لك ما طلبت، لكن ذلك لا يجعلك تبتعد عن التسبيح للذات، لأن عدم تحقيق ما طلبت هو في مصلحتك وخير لك. وقد وقف العلماء عند كلمة «قريب» هذه، وتساءل بعضهم عن سرّ عدم مجيء تاء التأنيث بعد لفظ الجلالة؟ ونعلم أن القرآن قد نزل بلغة العرب، وعند العرب ألفاظ يستوي فيها التذكير والتأنيث، وما يقال للمذكر مثلما يقال للمؤنث، فنقول: «رجل صبور» ، و «امرأة صبور» ، ولا نقول: صبورة ونقول: «رجل معطار» أي يكثر استخدام العطر، و «امرأة معطار» أي تكثر استخدام العطر. ونقول: قريب مثلما نقول: قتيل بمعنى مقتول. فيقال: «رجل قتيل» و «امرأة قتيل» ، ولا يقال: «قتيلة» إلا إذا لم يذكر معها كلمة امرأة أو ما يدل على التأنيث، لأن القتيل للذكر وللأنثى. هذه هي ألفاظ صحيح اللغة. وقد صنعت اللغة ذلك بأسانيد، فأنت حين نقول: «رجل صبور» أو «امرأة صبور» فالصبر يقتضي الجلد والعزم والشدة؛ لذلك لا نقول: «امرأة صبور» بل نأتي بالوصف المناسب للجَلَد والشدة. وإياك أن تضعفها بحكاية التأنيث، وكذلك «رجل معطار» و «امرأة معطار» ، والرجل المعطار هو من تعرفه الناس من نفاذ رائحة عطره، والمرأة مبنية على الستر. فإن تعطرت فهي قد تشبهت بالرجل ويقال لها: «امرأة معطار» ، وحين ننظر إلى كلمة «قريب» فهي من صيغة «فعيل» التي يستوي فيها المذكر والمؤنث؛ بدليل أن الله قال: { ... وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4181 والملائكة لفظها لفظ مؤنث، ولم يقل الحق «ظهيرة» ، لأن «ظهير» يعني مُعين، والمعونة تتطلب القوة والعزم والمدد؛ لذلك جاء لها باللفظ المناسب الذي يدل على القوة وهو «ظهير» . وكذلك قوله الحق: { ... إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] و «قريب» بوزن «فعيل» بمعنى مفعول، ولعل بعض الناس يفهم أن «قريب» بمعنى فاعل أي قارب. مثل رحيم وراحم. أي أن رحمة الله هي التي تُقرب من المحسنين، والأمر ليس كذلك، فإن الرحمة هي المقروبة، والإحسان هو الذي يقرب إليها فيكون فعيل هنا بمعنى مفعول الذي يستوي فيه المذكر والمؤنث، أن يكون جاءت كذلك على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم، أو لأنه صفة لموصوف محذوف أي شيء قريب، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، أو أن الرحمة مصدر، وحق المصدر التذكير. ويقول الحق بعد ذلك: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4182 وتصريف الرياح إهاجة للهواء في الكون، والإهاجة للهواء في الكون تأتي منها فوائد كثيرة للغاية، ونحن حين نجلس في مكان مكتظ وممتلئ بالأنفاس نقول لمن يجلس بجوار النافذة: «لنهوي الغرفة قليلاً. وإن لم يكف هواء النافذة تأت بمروحة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4182 لتأخذ من طبقات الجو طبقة هواء جديدة فيها أوكسجين كثير. إذن فإرسال الرياح ضرورة حتى لا يظل الهواء راكداً. ويتلوث الجو بهذا الركود، ولو أن كل إنسان سيستقر في مكان مكتوم الهواء لامتلأ المكان بثاني أكسيد الكربون الخارج من تنفسه، ثم لا يلبث أن يختنق، ولذلك أراد الله حركة الرياح رحمة عامة مستمرة في كل شيء، وهي أيضاً رحمة تتعلق بالقوت كما تعلقت بمقومات الحياة من نفس وماء وطعام، وتصريف الرياح من أجل تجديد الهواء الذي تتنفسة، وكذلك تكوين الماء. لأن سبحانه القائل عن الرياح. {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ ... } [الأعراف: 57] والرياح هي التي تساعد في تكوين الأمطار التي تنزل على الأرض فتروي التربة التي نحرثها، هكذا تكون الرياح بشرى في ثلاثة أشياء: الشيء الأول تحريك طبقات الهواء وإلا لفسد الجو في الماء، لأن الرياح هي التي تحمل السحاب وتحركه وتنزل به هناك فرقاً بين بشرى، وبشراً؛ فالبشرى مفرد، وقد وردت في قوله الحق: {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى ... } [هود: 69] أي التبشير. لكن بشراً جمع بشير وهي كلمة مخففة، والأصل فيها بشر. والحق يقول: {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير} . وجمع البشير» بُشُر «مثل:» نذير «و» نُذُر «بضم الشين فسكنت تخفيفا، فتنطق بُشْراً وبُشُراً. {بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} . هي بين يدي رحمته لأنها ستأتي لنا بالماء، وهو الرحمة في ذاته، وبواسطته يعطينا ري الأرض، ونحن نرتوي منه مباشرة أيضاً. ونلحظ كلمة الرياح إذا أطلقت بالجمع فهي تأتي للخير، أما حين يكون فيها شر فيأتي بكلمة» ريح «مفردة، مثل قوله: { ... بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4183 فإذن عندما ترى كلمة» رياح «فاعلم أنها خير، أما كلمة» ريح «فاعلم أنها شر لماذا؟ أنت إذا كنت قاعداً في حجرة فيها فتحة نافذة يأتي منها الهواء، ويتسلط التيار على إنسان، فالإِنسان يصاب بالتعب؛ لأن الهواء يأتي من مكان واحد، لكن حين تجلس في الخلاء ويهب الهواء فأنت لا تتعبَ، لأن الرياح متعددة. ولكن الرياح تأتي كالصاروخ. الرياح إذن يرسلها الحق بين يدي رحمته؛ حتى إذا أقلت أي حملت يقال:» أقل فلان الحمل «أي رفعه من على الأرض وحمله لأنه أقل من طاقته، لأنه لو كان أكثر من طاقته لما استطاع أن يرفعه عن الأرض، وما دام قد أقله فالحمل أقل بالنسبة لطاقته وبالنسبة لجهده، أقلت أي حملت، وما دامت قد حملت فجهدها فوق ما حملته، وإذا كان الجهد أقل من الذي حملته لابد أن ينزل إلى الأرض. وأقلت سحاباً أي حملت سحاباً. نعرف أن السحاب هو الأبخرة الطالعة والصاعدة من الأرض ثم تتجمع وتصعد إلى طبقات الجو العليا، وتضربها الرياح إلى أن تصادف منطقة باردة فيحدث تكثيف للسحاب؛ فينزل المطر؛ ونرى ذلك في الماء المقطر الذي يصنعونه في الصيدلية؛ فيأتي الصيدلي بموقد وفوقه إناء فيه ماء ويغلي الماء فيخرج البخار ليسير في الأنابيب التي تمر في تيار بارد فيتكثف البخار ليصير ماء. {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} . وقال الحق: «سقناه» بضمير المذكر؛ لأنه نظر إلى السحاب في اسم جنسه، أو نظر إلى لفظه، وجاء بالوصف مجموعاً فقال: «ثقالا» نظراً إلى أن السحاب جمع سحابة فرق بينه وبين واحدة بالتاء، وما دامت السحب كلها داخلة في السّوق فليس لها تعددات فكأنها شيء واحد. {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} [الأعراف: 57] السحاب لا يتجه إلى مكان واحد، بل يتجه لأماكن متعددة، إذن فالحق يوجه السحاب الثقال لأكثر من مكان. لكن الحق سبحانه وتعالى يقول: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} . والميت هو الذي لا حراك فيه وانتهى اختياره في الحركة، كذلك الأرض، فالماء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4184 ينزل من السماء على الأرض وهي هامدة ليس بها حركة حياة أي أن الله يرسل السحاب ويزجيه إلى البلد الميت في أي مكان من الأرض. { ... فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] إذن فالأرض التي لا يأتيها الماء تظل هامدة أي ليس بها حركة حياة مثل الميت. {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات ... } [الأعراف: 57] وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا وينبهنا إلى القضية اليويمية التي نراها دائما في صور شتى، وهي أن الأرض تكون في بعض الأحيان جدباً، ثم يهبط عليها بعض المطر، وبمجرد أن ينزل المطر على الجبل، وبعد يومين من نزول المطر نجد الجبل في اليوم الثالث وهو مخضر، فمن الذي بذر البذرة للنبات هذا اليوم؟ إذن فالنبات كان ينتظر هذه المياه، وبمجرد أن تنزل المياه يخرج النبات دون أن يبذر أحد بذوراً، وهذا دليل على أن كل منطقة في الأرض فيها مقومات الحياة. { ... فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57] فالماء الذي ينزل على الأرض الميتة يحيي الأرض؛ لأنه سبحانه يخرج الحياة كل يوم، وحين يوضح لنا سبحانه أن سيبعثنا من جديد فليس في هذا أمر عجيب، وهكذا جعل الله القضية الكونية مرئية وواضحة لكل واحد ولا يستطيع أحد أن يكابر ويعاند فيها؛ لأنها أمر حسيّ مشاهد، ومنها نستنبط صدق القضية وصدق الرب. ويقول الحق بعد ذلك: {والبلد الطيب يَخْرُجُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4185 إذن الآية السابقة عالجت قضية البعث بضرب المثل بالآية الكونية الموجودة؛ فالرياح التي تحمل السحاب، والسحاب يساق إلى بلد ميت وينزل منه الماء فيخرج به الزرع. والأرض كانت ميتة ويحييها الله بالمطر وهكذا الإِخراج بالبعث وهذه قضية دينية، ويأتي في هذه الآية بقضية دينية أيضا: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} . والبلد الطيب هو البلد الخصب الذي لا يحتاج إلا لى المياه فيخرج منه الزرع، أما الذي خبث، فمهما نزل عليه الماء فلن يخرج نباته إلاّ بعد عناء ومشقة وهو مع ذلك قليل وعديم النفع. وهنا يخدم الحق قضية دينية مثلما خدم القضية الدينية في البعث أولاً. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة؛ قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل فقه في دين الله تعالى، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به» . إذن فالمنهج ينزل إلى الناس وهم ثلاثة أقسام؛ قسم يسمع فينفع نفسه وينقل ما عنده إلى الغير فينفع غيره مثل الأرض الخصبة شربت الماء وقبلته، وأنبتت الزرع، وقسم يحملون المنهج ويبلغونه للناس ولا يعملون به وينطبق عليهم قوله الحق: { ... لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4186 صحيح سينتفع الناس من المنهج، ولذلك قال الشاعر: خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي ... واجن الثمار وخل العود للنار ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة» . فستر المؤمن على المؤمن مطلوب وستر المؤمن على العالم آكد وأشدّ طلبا؛ لأن العالم غير معصوم وله فلتات، وساعة ترى زلته وسقطته لا تُذِعْها لأن الناس سينتفعون بعلمه. فلا تشككهم فيه، والقسم الثالث هو من لا يشرب الماء ولا يسقيه لغيره أي الذي لا ينتفع هو، ولا ينفع غيره. {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كذلك نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58] إذن منهج الله مثله مثل المطر تماماً؛ فالمطر ينزل على الأرض ليرويها وتخرج النبات وهناك أرض أخرى لا تنتفع منه ولكنها تمسكه فينتفع غيره، وهناك من لا ينتفع ولا ينفع، فكذلك العلم الذي ينزله الله على لسان رسوله. {والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كذلك نُصَرِّفُ الآيات} . قلنا من قبل: إن الآيات تطلق على معانٍ ثلاثة: الآيات الكونية التي نراها واقعة في الكون مثل قوله الحق: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر ... } [فصلت: 37] وآيات هي آيات القرآن، والآيات التي تكون هي المعجزات للأنبياء. {كذلك نُصَرِّفُ الآيات} [الأعراف: 58] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4187 الآيات هنا في الكونية كالماء الذي ينزل، إنه مثل المنهج، من أخذ به فاز ونجا، ومن تركه وغوى وكل آيات الله تقتضي أن نشكر الله عليها ويقول الحق بعد ذلك: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4188 بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطائعين وعن العاصين في الدنيا، وتكلم عن مواقف الآخرة الجزائية في أصحاب الجنة، وأصحاب النار والأعراف أراد أن يبين بعد ذلك أن كل دعوة من دعوات الله سبحانه أهل الأرض لابد أن تلقي عنتا وتضييقا، وتلقى إعراضاً، وتلقى إيذاء، إنه - سبحانه - يريد أن يعطي المناعة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيوضح له: لست أنت بادعاً من الرسل؛ لأن كل رسول جاء إلى قومه قوبل بالاضطهاد، وقوبل بالتكذيب، وقوبل بالنكرات، وقوبل بالإيذاء، وإذا كان كان كل رسول قد أخذ من هذا على قدر مهمته الرسالية زماناً محدوأ، ومكاناً محصوراً فأنت يا رسول الله أخذت الدنيا كلها زماناً ومكاناً، فلا بد أن تكون مواجهاً لمصاعب تناسب مهمتك ورسالتك؛ فأنت في قمة الرسل، وستكون الإيذاءات التي تنالك وتصيبك قمة في الإيذاء، فلست بدعاً من الرسل، فوطّن نفسك على ذلك. وحين توطن نفسك على ذلك ستلقى كل إيذاء وكل اضطهاد بصبر واحتمال في الله، وقص الحق قصص الرسل على رسول الله، وعبر الله بالهدف من قص القصص بقول: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ... } [هود: 120] فكأنا القصص تثبيت لفؤاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكلما أهاجه نكران، أو كلما أهاجه جحود، قص عليه الحق - سبحانه - قصة رسول قوبل بالنكران وقوبل بالجحود ليثبت به فؤاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفؤاد أتباعه لعلهم يعرفون كل شيء ويوطنون أنفسهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4188 على هذا العنت؛ فلم يقل الحق لأتباع محمد: إنكم مقبلون على أمر والأرض مفروشة لكم بالورود، لا. إنما هي متاعب لتجابهوا شر الشيطان في الأرض. والقصص له أكثر من هدى يثبت به فؤاد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويبين له أنه ليس بدعاً من الرسل، ويقوي نفوس أتباعه، لأنهم حينما يرون أن أهل الحق مع الأنبياء انتصروا، وهزم الجميع ووليّ الدبر، وأنهم منصورون دائما فهذا يقوي يقين المؤمنين، ويكسر من جهة أخرى نفوس الكافرين مثلما قال الحق عن واحد من أكابر قريش. {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} . قال الحق لهم ذلك عن واحد من أكابر قريش وهم لا يقدرون حينئذ أن يدافعوا أو يذودوا عن أنفسهم، وذهبوا وهاجروا إلى الحبشة حماية لأنفسهم من بطش هؤلاء الأكابر، وكل مؤمن يبحث له عمن يحميه، وينزل قوله الحق بعد ذلك في الوليد بن المغيرة {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} ، والوليد بن المغيرة سيد قومه، ويأتي يوم بدر فيوجد أنفه وقد ضرب وخطم ويتحقق قول الله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] فمن - إذن - يحدد ضربة قتال بسيف في يد مقاتل قبل أن يبدأ القتال؟ لقد حددها الأعلم بما يكون عليه الأمر. وأيضا فقصص الرسل إنما جيء بها ليثبت للمعاصرين له أنه تلقى القرآن من الله؛ لأنه رسول أميّ؛ الأمة أمية، ولم يدّع أحد من خصومه أنه جلس إلى معلم، أو قرأ كتاباً، فمن أين جاءته هذه الأخبار إذن؟ واسمع قول الحق سبحانه وتعالى في الآيات التي يأتي فيها: «ما كنت» مثل قوله الحق: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر ... } [القصص: 44] ومثل قوله الحق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4189 {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48] ومثل قوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ... } [آل عمران: 44] فمن أين جاءت هذه الأخبار إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم يعلمون أنه لم يجلس إلى معلم ولم يقرأ كتاباً؟ لقد جاءت كلها من الحق سبحانه وتعالى، وهذا دليل آخر على صدق رسالته. وقصة سيدنا نوح من القصص التي وردت كثيراً في القرآن الكريم مثل قصة موسى عليه السلام، ومن العجيب أن لقطات القصة تنتشر في بعض السور، لكن السورة التي سميت بسورة نوح ليس فيها من المواقف التي تعتبر من عيون القصة، إنها تعالج لقطات أخرى؛ تعالج إلحاحه في دعوة قومه، وأنه ما قصّر في دعوتهم ليلاً ونهاراً، وسرّاً وعلانية، كلما دعاهم ابتعدوا، ولم تأت قصة المركب في سورة نوح، ولا قصة الطوفان، وهذه لقطات من عيون القصة، وكذلك لم تأت فيها قصته مع ابنه، بل جاء بها في سورة هود. إذن كل لقطة جاءت لوضع مقصود، ولهذا رأينا قصة نوح في سورة «نوح» وقد خلت من عناصر مهمة في القصة، وجاءت هذه العناصر في سورة «هود» أو في سورة «الأعراف» التي نتناولها الآن بالخواطر الإِيمانية. إذن، كل قصة من القصص القرآني تجدها قد جاءت تخدم فكرة، ومجموعها يعطي كل القصة؛ لأن الحق حين يورد القصص فهو يأتي بلقطة في سورة لتخدم موقفاً، ولقطة أخرى تخدم موقفاً آخر وهكذا. وحين شاء أن يرسل لنا قصة محبوكة تماماً، جاء بقصة «يوسف» في سورة يوسف ولم يكررها في القرآن، لأنها مستوفية في سورة يوسف، اللهم إلا في آية واحدة: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ... } [غافر: 34] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4190 لقد وردت في سورة يوسف حياة يوسف منذ أن كان طفلا حتى أصبح عزيز مصر، وهكذا نرى أن الحق حين يشاء أن يأتي بالقصة كتاريخ يأتي بها محبوكة، وحين يريد أن يلفتنا إلى أمور فيها مواقف وعظات، يوزع لقطات القصة على مواقع متعددة تتناسب وتتوافق مع تلك المواقع لتأكيد وخدمة هدف. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ. . .} [الأعراف: 59] وساعة ترى «اللام» و «قد» فاعرف أن هذا قسم، وكأن الحق يقول: وعزتي وجلالي لقد أرسلت نوحاً. وهو بهذا يؤكد المقسم عليه. والقوم هم الرجال خاصة من المعشر؛ لأن القوم عادة هم المواجهون للرسالة، والمرأة محتجبة؛ تسمع من أبيها أو من أخيها أو من زوجها، ولذلك قالت النساء للنبي: غلبنا عليك الرجال. أي أننا لا نجد وسيلة لنقعد معك ونسألك، فاجعل لنا يوماً من أيامك تعظنا فيه، فجعل لهن يوماً؛ لأن المفروض أن تكون المرأة في ستر، وبعد ذلك ينقل لها الزوج المنهج. إن سمع من الرسول شيئاً، وكذلك الأب يقول لابنته، والأخ يقول لأخته. فإذا تكلم الرسول يقال: إن الرسول واجه القوم، من قولهم هو قائم على كذا. وقيم على كذا. ولذلك الشاعر العربي يقول: وما أدرى ولست أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء وجاء هنا بالقوم، والمراد بهم الرجال، والقرآن يقول: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ... } [الحجرات: 11] إذن النساء لا تدخل في القوم؛ فالقوم هم المواجهون للرسول ومنهم تأتي المتاعب والتصلب في الرأي، ويكون الإِنكار والجحود والحرب منهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4191 وسيدنا نوح عليه السلام دعا قومه ونبههم إلى ثلاثة أشياء: عبادة الله، فقال: {يَاقَوْمِ اعبدوا الله} ، وبين لهم أنه ليس هناك إله سواه فقال: {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} ، وأظهر لهم حرصه وإشفاقه عليهم إذا خالفوا وعصوا فقال: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . وهكذا تكلم عن العقيدة في الإِله الواحد المستحق للعبادة، وليس آلهة متعددة، ونعبده أي نطيع أمره ونهيه، ولأنهم إن لم يفعلوا ذلك فهو يخاف عليهم من عذاب يوم عظيم، وهو عذاب يوم القيامة. أو أنّ الله كان قد أوحى له بأنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وعذاب يوم عظيم أي يوم الإِغراق، و «الخوف» مسألة تتعب تفكير من يستقبلها ويخاف أن يلقاها. فمن الذي يفزع بهذا؟ إن الذي يفزع هم الطغاة والجبابرة والسادة والأعيان ووجوه القوم، وكانوا قد جعلوا من أنفسهم سادة، أما سائر الناس وعامتهم فهم العبيد والمستضعفون. والذي يهاج بهذه الدعوة هم السادة لأنه ليس هناك إلا إله واحد، والأمر لواحد والنهي لواحد والعبادة والخضوع لواحد، ومن هنا فسوف تذهب عنهم سلطتهم الزمنية، لذلك يوضح الحق لنا موقف هؤلاء من الدعوة حين يقول: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4192 والملأ هم سادة القوم وأعيانهم وأشرافهم، أو الذين «يملأون» العين هيئة ويملأون القلوب هيبة، ويملأون صدور المجالس بنية. إنهم خائفون أن تكون دعوة نوح هي الدعوة إلى الطريق المستقيم وكلامه هو الهداية؛ فيمنّوا أنفسهم بأن هذا ضلال وخروج عن المنهج الحق: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4192 أي غيبة عن الحق، أو في تيه عن الحق، و «مبين» أي محيط بصورة لا يمكن النفاذ منها. ويرد نوح عليه السلام: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4193 هم قالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ، المتبادر أن يكون الرد: ليس في أمري ضلال، لكنه قال هنا: {لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} ، أقول ذلك لنعرف أن كل حرف في القرآن موزون لموضعه. هم قالوا له: إنا لنراك في «ضلال، فيرد عليهم ليس بي ضلالة؛ لأن الضلال جنس يشمل الضلالات الكثيرة، وقوله يؤكد أنه ليس عنده ضلالة واحدة. وعادة نفي الأقل يلزم منه نفي الأكثر، مثلاً عندما يقول صديق: عندك تمر من المدينة المنورة؟ تقول له: ليس عندي ولا تمرة واحدة. أنت بذلك نفيت الأقل، وهذا أيضاً نفي للأكثر. {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} . وحين ينفي نوح عن نفسه وجود أدنى ضلالة فذلك لأنه يعرف أنه لم يأت من عنده بذلك، ولو كان الأمر كذلك لاتّهم نفسه بأن هواه قد غلبه، لكنه مرسل من عند إله حق. { ... وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} [الأعراف: 61] وقوله:» ولكني «استدراك فلا تقولوا: أنا في ضلال؛ فليس فيّ ضلالة واحدة، لكن أنا رسول يبلغ عن الله، الله لا يعطي غير الهدى. {رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} أي من سيد العالمين ومن متولى تربية العالمين، ومن يتولى التربية لا يُنزل منهجاً يضل به من يربيهم، بل ينزل منهجاً ليصلح من يربيهم، وسبحانه قبل أن يأتي بهم إلى الوجود سخر لهم كل هذا الكون، وأمدهم بالأرزاق حتى الكافرين منهم، ومن يعمل كل ذلك لن يرسل لهم من يضلهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4193 ويستمر البلاغ من نوح عليه السلام لقومه فيقول: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4194 والبلاغ هو إنهاء الأمر إلى صاحبه؛ فيقال: بلغت المكان الفلاني. . أي انتهيت إليه. و «البلاغة» هي النهاية في أداء العبارة الجميلة، و «أبلغكم» أي أنهي إليكم ما حملنيه الحق من منهج هداية لحركة حياتكم. {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} . وكان يكفي أن يقول: «رسالة ربي» إلا أنّه قال: {رِسَالاَتِ رَبِّي} لأن أي رسول يأتي بالمنهج الثابت كما جاءت به الرسالات السابقة حتى لا يقول أحد: إنه جاء ليناقض ما جاء به الرسل السابقون، فما قاله به أي رسول سابق يقوله، ونعلم أنه كانت هناك صحف لشيت ولإِدريس. فقال: إنه يبلغ رسالته المتضمنة للرسالات السابقة سواء رسالة إدريس وهو اخنوخ، وكذلك شيت وغيره من الرسل. أي أبلغكم كل ما جعله الله منهجاً لأهل الأرض من الأمور المستقيمة الثابتة، مثلما قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ... } [الشورى: 13] وهو الأمور المستقرة الثابتة، العقدية، والأحكام التي لا تتغير. أو {رِسَالاَتِ رَبِّي} ، لأنه كرسول يتلقى كل يوم قسطاً من الرسالة؛ فاليوم جاءت له رسالة يبلغها، وغداً تأتي له رسالة يبلغها، ولو قال: «الرسالة» لكان عليه أن ينتظر حتى تكتمل البلاغات من الله له ثم يقولها، لكنْ نوح كان يبلغ كل رسالة تأتيه في وقت إبلاغه بها؛ لذلك فهي «رسالات» . أو لأن موضوع الرسالات أمر متشعب تشعباً يماثل ما تحتاج إليه الحياة من مصالح؛ فهناك رسالة للأوامر، ورسالة للنواهي، ورسالة للوعظ، ورسالة للزجر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4194 ورسالة للتبشير، ورسالة للإِنذار، ورسالة للقصص، وهكذا تكون رسالات. أو أن كل نجم - أي جزء من القرآن وقسط منه - يعتبر رسالة، فما يرسله الله في يوم هو رسالة للنبي، وغداً له رسالة أخرى وهكذا. وقوله: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} لأن البلاغ يقتضي أن يقول لهم منهج الله، ثم يدعو القوم لاتباع هذا المنهج بان يرقق قلوبهم ويخاطبهم بالأسلوب الهادئ وينصحهم، والنصح أمر خارج عن بلاغ الرسالة. ولنلتفت إلى فهم العبارة القرآنية. {وَأَنصَحُ لَكُمْ} . والنصح أن توضح للإِنسان المصلحة في العمل، وتجرد نيتك مما يشوهه. وهل أنت تنصح آخر بأن يعود نفعه عليك؟ إنك إن فعلت ذلك تكون النصيحة متهمة، وإن نصحته بأمر يعود عليه وعليك فهذه نصيحة لك وله، ولكن حينما تقول: «نصحت لك» أي أن النصيحة ليس فيها مسألة خاصة بك، بل كل ما فيها لصالح من تبلغه فقط، وبذلك يتضح الفارق بين «نصحته» و «نصحت لك» . {وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62] وكأن سيدنا نوحاً يخاطب قومه: إياكم أن تظنوا أن ما أقوله لكم الآن هو كل العلم من الله، ولا كل علم الله، ولا كل ما علمني الله، بل أنا عندي مسائل أخرى سوف أقولها لكم إن اتقيتم الله وامتلكتم الاستعداد الإِيماني، وهنا سأعطيكم منها جرعات. أو قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يعني أنه سيحدث لكم أمر في الدنيا لم يحصل للأمم السابقة عليكم وهو أن من يُكذب الرسول يأخذه الله بذنبه. وتلك التجربة لم تحدث مع قوم شيت أو إِدريس. {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا ... } [العنكبوت: 40] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4195 ولم يحدث مثل هذا العقاب من قبل نوح، وقد بين لهم نوح: أنا أعلم أن ربنا قد دبر لكم أن من يُكّذِّبَ سيأخذه أخذ عزيز مقتدر. أو {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ، أي أن الله أعلمني لا على قدر ما قلت لكم من الخير، لكنه سبحانه قد علمني أن لكل إخبار بالخير ميلاداً وميعاداً. ويقول سبحانه بعد ذلك: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4196 {أَوَ عَجِبْتُمْ} وكان من الممكن أن يقول: «أعجبتم» ، لكن ساعة أن يجيء بهمزة الاستفهام ويأتي بعدها بحرف عطف. فاعرف أن هناك عطفاً على جملة؛ أي أنه يقول: أكذَّبْتُم بي، وعجبتم من أن الله أرسل على لساني {ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} . والذكر ضد النسيان، وأن الشيء يكون على البال، ومرة يتجاوز البال ويجري على اللسان. وقد وردت معانٍ كثيرة للذكر في القرآن، وأول هذه المعاني وقمتها أن الذكر حين يطلق يراد به القرآن: {ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم} [آل عمران: 58] وكذلك في قوله الحق: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] إذن يطلق الذِّكر ويراد به القرآن، ومرة يطلق الذكر ويراد به الصيت أي الشهرة الإِعلامية الواسعة. وقد قال الحق لرسوله عن القرآن: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4196 {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ... } [الزخرف: 44] أي أن القرآن شرف كبير لك ولأمتك وسيجعل لكم به صيتاً إلى يوم القيامة؛ لأن الناس سترى في القرآن على تعاقب العصور كل عجيبة من العجائب، وسيعلمون كيف أن الكون يصدق القرآن، إذن بفضل القرآن «العربي» ، سيظل اسم العرب ملتصقا ومرتبطا بالقرآن، وكل شرف للقرآن ينال معه العرب شرفا جديدا. أي أن القرآن شرف لكم. ويقول سبحانه: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ... } [الأنبياء: 10] . أي فيه شرفكم، وفيه صيتكم، وفيه تاريخكم، ويأتي الإِسلام الذي ينسخ القوميات والأجناس، ويجعل الناس كلها سواسية كأسنان المشط. {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا ... } [الحجرات: 13] والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى» . وسيظل القرآن عربياً، وهو معجزة في لغة العرب، وبه ستظل كلمة العرب موجودة في هذه الدنيا. إذن فشرف القوم يجيء من شرف القرآن، ومن صيت القرآن. والحق يقول: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] أي أن شرفه دائم أبداً. حين يأتي إلى الدنيا سبق علمي، نجد من يذهب إلى البحث عن أصول السبق في القرآن، ونجد غير المسلمين يعتنون بالقرآن ويطبعونه في صفحة واحدة، وعلى ورق فاخر قد لا يستعملونه في كتبهم. هذا هو القرآن ذو الذكر على الرغم من أن بعض المسلمين ينحرفون قليلاً عن المنهج، وقد يتناساه بعضهم، لكن في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4197 مسألة القرآن نجد الكل يتنبه. وكما قلت من قبل: قد تجد امرأة كاشفة للوجه وتضع مصحفاً كبيراً على صدرها، وقد تجد من لا يصلي ويركب سيارة يضع فيها المصحف، وكل هذا ذكر. وتجد القرآن يُقرأ مرتلاً، ويُقرأ مجوداً، ومجوداً بالعشرة ثم يسجل بمسجلات يصنعها من لا يؤمنون بالقرآن. وكل هذا ذكر وشرف كبير. عرفنا أن «الذكر» قد ورد أولا بمعنى القرآن، وورد باسم الصيت والشرف: ويطلق الذكر ويراد به ما نزل على جميع الرسل؛ فالحق سبحانه يقول: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 1 - 2] أي أن كل ما نزل على الرسل ذكر. ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] إذن فالمراد بالذكر - أيضاً - كل ما نزل على الرسل من منهج الله. ومرة يُطلق الذكر ويراد به معنى الاعتبار. والتذكير، والتذكر فيقول سبحانه: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله ... } [المائدة: 90 - 91] والمراد هنا بالذكر: الاعتبار والتذكر وأن تعيش كمسلم في منهج الله. ومرة يراد بالذكر: التسبيح، والتحميد. انظر إلى قوله الحق سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4198 رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة ... } [النور: 36 - 37} وهو ذكر لأن هناك من يسبح له فيها بالغدو والآصال وهم رجال موصوفون بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. وقد يُطلق الذكر ويراد منه خير الله على عبادة ويراد به كذلك ذكر عبادتهم له بالطاعة؛ فسبحانه يذكرهم بالخير وهم يذكرونه بالطاعة. اقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى: { ... وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] وفي آية أخرى: { ... إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45] وما دام قد قال جل وعلا: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} أي ذكر الله لهم بالنعم والخيرات، فذكره فضل وإحسان وهو الكبير المتعال. فهناك إذن ذكر ثان، ذكر أقل منه، وهو العبادة لربهم بالطاعة، هنا يقول الحق: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الاعراف: 63] ما وجه العجب هنا؟ نعلم أن العجب هو إظهار الدهشة وانفعال النفس من حصول شيء علي غير ما تقتضيه مواقع الأمور ومقدماتها، إذن تظهر الدهشة ونتساءل كيف حدث هذا؟ ولو كان الأمر طبيعياً ورتيباً لما حدثت تلك الدهشة وذلك العجب. وعجبتم لماذا؟ اقرأ - إذن - قول الحق سبحانه وتعالى: {ق والقرآن المجيد بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ... } [ق: 1 - 2] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4199 موضع العجب هنا أن جاء لهم منذر ورسول من جنسهم؛ فمن أي جنس كانوا يريدون الرسول؟ كان من غبائهم أنهم أرادوا الرسول مَلَكاً. {بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 2] وجاء العجب أيضاً في البعث. فتساءل الكافرون هل بعد أن ذهبنا وغبنا في الأرض وصرنا تراباً بعد الموت يجمعنا البعث مرة ثانية؟! إذن فالعجب معناه إظهار الدهشة من أمر لا تدعو إليه المقدمات أو من أمر يخالف المقدمات. العجب عندهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لأن نوحاً عليه السلام يريد منهم أن يبحثوا في الإِيمان بوجود إِله. وكان المنطق يقتضي أنه إذا رأوا شيئاً هندسته بديعة، وحكيمة، وطرأ عليها هذا المخلوق وهو الإِنسان ليجد الكون منسقاً موجوداً من قبله، كان المنطق أن يبحث هذا الإِنسان عمن خلق هذا الكون وأن يلحّ في أن يعرف مَن صنع الكون، وحين يأتي الرسول ليقول لكم من صنع هذا الكون، تتعجبون؟ { كان القياس أن تتلهفوا على من يخبركم بهذه الحقيقة؛ لأن الكون وأجناسه من النبات والجماد والحيوان في خدمتك أيها الإنسان. لا بقوتك خلقت هذا الكون ولا تلك الأجناس، بل أنت طارئ على الكون والأجناس، ألم يدر بخلدك أن تتساءل من صنع لك ذلك؟ إذن فالكلام عن الإِيمان كان يجب أن يكون عمل العقل، وقلت قديماً: هب أن إنساناً وقعت به طائرة في مكان، وهذا المكان ليس به من وسائل الحياة شيء أبداً، ثم جاع، ولم يجد طعاماً، وقهره التعب، فنام، ثم أفاق من هذه الإِغفاءة؛ وفوجئ بمائدة أمامه عليها أطايب الطعام والشراب وهو لا يعرف أحداً في المكان، بالله قبل أن يأكل ألا يتساءل عمن أحضرها؟} ! كان الواجب يقتضي ذلك. إذن أنتم تتعجبون من شيء تقتضي الفطرة أن نبحث عنه، وأن نؤمن به وهو الإِله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4200 الذي لا ينتفع بطاعاتنا أو بعبادتنا، ولا تعود عليه العبادة بشيء، بل تعود علينا، والعبادة فيها مشقات لأنها تلجم الشهوات وتعقل وتمنع من المعاصي والمحرمات، ولكن يُقابِل ذلك الثوابُ في الآخرة. وهناك من قال: ولماذا لا يعطينا الثواب بدون متاعب التكليف؟ مادام لا يستفيد. إنّ العقل كاف ليدلنا - دون منهج - إلى ما هو حسن فنفعله، وما نراه سيئاً فلا نفعله، والذي لا نعرفه أهو حسن أم سيىء. ونضطر له نفعله، وإن لم نكن في حاجة له لا نفعله. ونقول لها القائل: لكن من الذي أخبرك أن العقل كاف ليدلنا إلى الأمر الحسن، هل حسّن لك وحدك أم لك وللآخرين؟ فقد يكون الحسن بالنسبة لك هو السوء بالنسبة لغيرك لأنك لست وحدك في الكون. ولنفترض أن هناك قطعة قماش واحدة، الحسن عندك أن تأخذها، والحسن عند غيرك أن يأخذها. لكن الحُسْن الحقيقي أن يفصل في مسألة ملكية هذه القطعة من القماش مَن يعدل بينك وبين غيرك دون هوى. وألاّ يكون واحد أولى عنده من الآخر. إذن لابد أن يوجد إله يعصمنا من أهوائنا بمنهج ينزله يبين لنا الحسن من السيء؛ لأن الحسن بالمنطق البشري ستصدم فيها أهواؤنا. ومثال آخر: افرض أننا دخلنا مدينة ما، ورأينا مسكنا جميلا فاخرا وكل منا يريد أن يسكن فيه وكل واحد يريد أن يأخذه؛ لأن ذلك هو الحسن بالنسبة له، لكن ليس كذلك بالنسبة لغيره، إذن فالحسن عندك قد يكون قبيحاً عند الغير. فالحسن عند بعض الرجال إذا رأى امرأة أن ينظر إليها ويتكلم معها، لكن هل هذا حسن عند أهلها أو أبيها أو زوجها؟ لا. إنّ الذي تعجبتم منه كان يجب أن تأخذوه على أنه هو الأمر الطبيعي الفطري الذي تستلزمه المقدمات. فقد جاءكم البلاغ على لسان رجل منكم. ولماذا لم يقل الحق: لسان رجل؟ إننا نعلم أن هناك آية ثانية يقول فيها الحق: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ ... } [آل عمران: 194] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4201 كأنه يقول لهم: إن الوعد الذي وعده الحق لكم قد جاء لكم بالمنهج الذي نزل على الرسل. ومهمة الرسل صعبة؛ فليست مقصورة على التبليغ باللسان لأن مشقاتها كلها على كاهل كل رسول، ولا تظنوا أن ربنا حين اختار رسولاً قد اختاره ليدلله على رقاب الناس، لا. لقد اختاره وهو يعلم أن المهمة صعبة، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كما تعلمون - لم يشبع من خبز شعير قط، وأولاده وأهله - على سبيل المثال - لا يأخذون من الزكاة، والرسل لا تورث فجميع ما تركوه صدقة، وكل تبعات الدعوة على الرسول، وهذه هي الفائدة في أنه لم يقل على لسان رسول، لأن الأمر لو كان على لسان الرسول فقط لأعطى البلاغ فقط، إنما «على رجل منكم» تعطي البلاغ ومسئولية البلاغ على هذا الرجل. {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ ... } [الأعراف: 63] ما هو العجب؟ لقد كان العجب أن تردوا الألوهية والنبوة. وبعضهم لم يرد الألوهية ورد فكرة النبوة على الإِنسان. وطالب أن يكون الرسول من الملائكة؛ لأن الملائكة لم تعص ولها هيبة ولا يُعرف عنها الكذب لكن كيف يصبح الرسول ملكاً؟ وهل أنت ترى الملك؟ إن البلاغ عن الله يقتضي المواجهة، ولابد أن يراه القوم ويكلموه، والملك أنت لن تراه. إذن فلسوف يتشكل على هيئة رجل كما تشكل جبريل بهيئة رجل. إذن أنتم تستعجبون من شيء كان المنطق يقتضي ألاّ يكون. {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] وقولهم هذا في قمة الغباء. فقد كان عليهم أن يتهافتوا ويقبلوا على الإِيمان؛ لأن الرسول منهم. وقد عرفوا ماضيه من قبل، وكذلك أنسوا به، ولو كانت له انحرافات قبل أن يكون رسولاً لخزي واستحيا أن يقول لهم: استقيموا. وما دام هو منكم وتعرفون تاريخه وسلوكه حين دعاكم للاستقامة كان من الواجب أن تقولوا لأنفسكم: إنه لم يكذب في أمور الدنيا فكيف في أمور الآخرة، ولم يسبق له أن كذب على خلق الله فكيف يكذب على الله؟ ولأنه منكم فلابد أن يكون إنساناً ولذلك قال الحق: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4202 وهنا في الآية التي نحن بصددها يقول الحق: {على رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . إذن فمهمته أن ينذر، والأنذار لقصد التقوى، والتقوى غايتها الرحمة، وبذلك نجد هنا مراحل: الإنذار وهو إخبار بما يسؤوك ولم يأت زمنه بعد وذلك لتستعد له، وتكف لأنه سيتبعك ويضايقك. والبشارة ضد الإنذار، لأنها تخبر بشيء سار زمنه لم يأت، وفائدة ذلك أن يجند الإنسان كل قوته ليستقبل الخير القادم. وأن يبتعد عن الشيء المخيف. وهكذا يكون التبشير والإنذار لتتقي الشرور وتأخذ الخير، وبذلك يحيا الإنسان في التقوى التي تؤدي إلى الرحمة. إذن فمواطن تعجبهم من أن يجيئهم رسول مردودة؛ لأن مواطن التعجب هذه كان يجب أن يلح عليها فطرياً، وأن تنعطف النفس إليها لا أن يتعجب أحد لأنها جاءت، فقد جاءت الرسالة موافقة للمقدمات، وقد جاء الرسول ولم يأت ملكاً ليكون قدوة. وكذلك لم يرسله الله من أهل الجاه من الأعيان ومن صاحب الأتباع؛ حتى لا يقال إن الرسالة قد انتشرت بقهر العزوة، إن الأتباع كانوا موافقين على الباطل بتسلط الكبراء والسادة، فمخافة أن يقال: إن كل تشريع من الله آزره المبطلون بأتباعهم جاءت الدعوة على أيدي الذين ليس لهم أتباع ولا هم من أصحاب الجاه والسلطان. ولقد تمنى أهل الشرك ذلك ويقول القرآن على لسانهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] ولقد كان تمنيهم أن ينزل القرآن على رجل عظيم بمعاييرهم، وهذه شهادة منهم بان القرآن في ذاته منهج ومعجزة. ولم يتساءلوا: وهل القرآن يشرف بمحمد أو محمد هو الذي يشرف بالقرآن؟ إن محمداً يشرف بالقرآن؛ لذلك يقول الحق: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي ... } [هود: 27] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4203 وهذه هي العظمة؛ لأن اتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكونوا من الذين يفرض عليهم الواقع أن يحافظوا على جاههم ويعملوا بسطوتهم وبطشهم وبقوتهم، ويفرضوا الدين بقوة سلطانهم، لا، بل يمر على أتباع رسول الله فترة ضعاف مضطهدون، ويؤذوْن ويهاجرون، فالمهمة في البلاغ عن الله تأتي لينذر الرسول، ويتقى الأتباع لتنالهم الرحمة نتيجة التقوى، والتقوى جاءت نتيجة الإنذار. ويقول الحق بعد ذلك: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4204 وهنا يتكلم الحق عن حكاية الإنجاء، ونعلم المقدمة الطويلة التي سبقت إعداد سيدنا نوح عليه السلام للرسالة، فقد أراد الله أن يتعلم النجارة، وأن يصنع السفينة. {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ ... } [هود: 38] ولم يجيءالحق هنا بسيرة الطوفان التي قال فيها في موضع آخر من القرآن: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} [القمر: 11] وجاء الحق هنا بالنتيجة وهي أنهم كذبوه. {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ ... } [الأعراف: 64] وكانت هذه أول حدث عقابي في تاريخ الديانات؛ لأن رسالة نوح عليه السلام هي أول رسالة تعرضت إلى مثل هذا التكذيب ومثل هذا العناد وكان الرسل السابقون لنوح عليهم البلاغ فقط، ولم يكن عليهم أن يدخلوا في حرب أو صراع، والسماء هي التي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4204 تؤدب، فحينما علم الحق سبحانه وتعالى أنه بإرسال رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ستبلغ الإِنسانية رشدها صار أتباع محمد مأمونين على أن يؤدبوا الكافرين. وفي تكذيب نوح عليه السلام يأتينا الحق هنا بالنتيجة. {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ} ولم يقل الحق: كيف أنجاه ولم يأت بسيرة الفلك، بل أخبر بمصير من كذبوه، ويأتي بالعقاب من جنس الطوفان. { ... وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} [الأعراف: 64] هناك «أعمى» لمن ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما، وهناك أيضا عَمِه وأَعْمَهُ، والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر. . أي ذهبت بصيرته ولم يهتد إلى خير. ثم انتقل الحق إلى رسول آخر. ليعطي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأسوة فيه أيضاً. فبعد أن جاء بنوح يأتي بهود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4205 وساعة ما تسمع: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} أي أرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً، و «أخاهم» موقعها الإِعرابي «مفعول به» ويدلنا على ذلك قوله في الآية السابقة: {أَرْسَلْنَا نُوحاً} ، وكذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. وكلمة «أخاهم» تُشْعرُ بأشياء كثيرة؛ إنه من جنسهم، ولغته لغتهم، وأنسهم به، ويعرفون كل شيء وكل تاريخ عنه، وكل ذلك إشارات تعطى الأنس بالرسول؛ فلم يأت لهم برسول أجنبي عاش بعيداً عنهم حتى لا يقولوا: لقد جاء ليصنع لنفسه سيادة علينا بل جاء لهم بواحد منهم وأرسل إليهم «أخاهم» وهذا الكلام عن «هود» . إذن كان هود من قوم عاد، ولكن هناك رأي يقول: إن هودا لم يكن من قوم عاد، ولأنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4205 الأخوة نوعان: أخوَّة في الأب القريب، أو أخوّة في الأب البعيد، أي من جنسكم، من آدم؛ فهو إما أخ من الأب القريب، وإمّا أخ من الأب البعيد. وقد قلنا من قبل: إن سيدنا معاوية كان يجلس ثم دخل عليه الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، رجل بالباب يقول إنه أخوك، فتساءلت ملامح معاوية وتعجب وكأنه يقول لحاجبه: ألا تعرف إخوة أمير المؤمنين؟ وقال له: أدخله، فأدخله. قال معاوية للرجل: أي إخوتي أنت؟! قال له: أخوك من آدم. فقال معاوية: رحم مقطوعة - أي أن الناس لا تتنبه إلى هذه الأخوة - والله لأكونن أول من وصلها. {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] ونلحظ أن الحق قال على لسان سيدنا نوح لقومه: { ... فَقَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] وأرسل الحق هوداً إلى عاد، لكن قول هود لقوم عاد يأتي: {قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} . وهنا «قال» فقط من غير الفاء؛ وجاء في قول نوح: «فقال» . وهذه دقة في الأداء لننتبه؛ لأن الذي يتكلم إله ورب، فتأتي مرة ب «فاء» وتأتي مرة بغير «فاء» رغم أن السياق واحد، والمعنى واحد والرسول رسول، والجماعة هم قوم الرسول. ونعلم أن «الفاء» تقتضي التعقيب، وتفيد الإِلحاح عليهم، وهذا توضحه سورة نوح؛ لأن الحق يقول فيها: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4206 واستكبروا استكبارا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 5 - 10] إذن فالفاء مناسبة هنا، لكن في مسألة قوم هود نجد أن سيدنا هوداً قال لهم مرة أو اثنتين أو ثلاث مرات، لكن بلا استمرار وإلحاح، وهذا يوضح لنا أن إلحاح نوح على قومه يقتضي أن يأتي في سياق الحديث عنه ب: «فقال» وألا تأتي في الحديث عن دعوة سيدنا هود. وقد يتعجب الإِنسان لأن مدة هود مع عاد لا تساوي مدة نوح مع قومه، وقد جاء الإِيضاح بزمن رسالة سيدنا نوح في قوله الحق: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ... } [العنكبوت: 14] ظل سيدنا نوح قُرابة ألف سنة يدعو قومه ليلاً ونهاراً سرًّا وعلانية، لكنهم كانوا يفرون من الإِيمان، لذلك يأتي الحق في أمر دعوة نوح بالفاء التي تدل على المتابعة. أما قوم عاد فلم يأت لهم «بالفاء» . بل جاء ب «قال» : {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ ... } [الأعراف: 65] وقال نوح من قبل: { ... يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] وفي مسألة قوم عاد قال: {يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} . ومع أن الأسلوب واحد والمعاني واحدة، وكان ذلك يقتضي الإِنذار، لكن لم يقل الحق ذلك؛ لأن نوحاً عنده علم بالعذاب الذي سوف ينزل؛ لأنها كانت أول تجربة، لكن سيدنا هود لم يكن عنده علم بالعذاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4207 العملية التي حدثت لنوح مع قومه وإهلاكهم بالغرق كانت أولية بالنسبة له؛ فالله سبق أن أعلمه بها، وحين ذهب هود إلى قوم عاد كانت هناك سابقة أمامه، وأخذ ربنا المكذبين لنوح بالعذاب، لذلك ألمح سيدنا هود فقط إلى احتمال العذاب حين قال: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} . أي أن العذاب قد ينتظركم وينالكم مثل قوم نوح. ويقول الحق بعد ذلك: {قَالَ الملأ الذين ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4208 في هذه الآية جاء قوله: {الذين كَفَرُواْ} ، وفي قصة نوح قال سبحانه: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ} ولم يأت فيها بالذين كفروا، لأن قوم نوح لم يكن فيهم من آمن وكتم إيمانه وأخفاه، بخلاف عاد قوم هود فإنه كان فيهم رجل اسمه مرثد بن سعد آمن وكتم وستر إيمانه، فيكون قوله تعالى في شأنهم: {الذين كَفَرُواْ} قد جاء مناسبا للمقام، لأن فيهم مؤمنا لم يقل ما قولوا من رميهم لسيدنا هود بالسفاهة حيث قالوا ما حكاه الله عنهم بقوله: { ... إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} [الأعراف: 66] أما قوم نوح فقد قالوا: { ... إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأعراف: 60] فقال لهم نوح عليه السلام: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4208 {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ... } [الأعراف: 61] ما الفرق بين الضلال والسفاهة؟ الضلال هو مجابنة حق، والسفاهة طيش وخفة وسخافة عقل، وأضافت عاد اتهاماً آخر لسيدنا هود: {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} . والظن رجحان الأمر بدون يقين، فهناك راجح، ومرجوح، أو أن الظن هنا هو التيقن. على حد قوله سبحانه: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ ... } [البقرة: 46] أي يتيقنون، وجاء بالرد من سيدنا هود: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4209 وفي هذا القول نفي للاتهام بالسفاهة، وإبلاغ لهم بأنه مبلّغ عن الله بمنهج تؤديه الآية التالية وهي قوله الحق: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4209 وسبق أن قال سبحانه على لسان نوح: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ ... } [الأعراف: 62] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4209 فلماذا قال في قوم نوح: {أَنصَحُ لَكُمْ} ، وقال هنا في عاد: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} ؟ لقد قال الحق: {أَنصَحُ لَكُمْ} في قوم نوح لأن الفعل دائماً يدل على التجدد، بينما يدل الاسم على الثبوت. ونظراً إلى أن نوحاً عليه السلام كان يلحّ على قومه ليلاً ونهاراً، وإعلاناً وسرًّا، لذلك جاء الحق بالفعل: {أَنصَحُ لَكُمْ} ليفيد التجدد، ولكن في حالة قوم هود جاء سبحانه بما يفيد الثبوت وهو قوله: {نَاصِحٌ أَمِينٌ} ؛ لأن هوداً عليه السلام لم يلح ويكرر على قومه في دعوتهم إلى الإِيمان كما كان يفعل نوح عليه السلام. ويقول الحق على لسان سيدنا هود: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4210 جاء الحق هنا بالذكر للإِنذار فقال: {لِيُنذِرَكُمْ} فقط، وليس كما قال في قوم نوح: {وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لأن الإِنذار لم يأت لمجرد الإِنذار، بل لنرتدع ونتقي، لِكي نُرحم، إذن فحين يأتي بأول الحلقة وأول الخيط وهو الإِنذار فنحن نستنتج الباقي وهو التقوى لنصل إلى الرحمة: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} . وهذا كلام جديد؛ لأن قوم نوح هم أول قوم عُذّبوا حين لم يؤمنوا، وجاء سيدنا هود إلى عاد بعد ذلك، يبلّغهم وينذرهم ليأخذوا العبرة من نوح وقومه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4210 { ... واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً فاذكروا آلآءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69] ويذكرهم سيدنا هود أن الحق قد أعطى لهم أجساماً فارعة فيها بسطة وطول، ويقال: إن الطويل منهم كان يبلغ طوله مائة ذراع، والقصير منهم كان يبلغ طوله ستين ذراعاً، ويأمرهم سيدنا هود أن يذكروا آلاء الله، أي نعمه عليهم، وأول النعم أن أرسل إليهم رسولاً يأخذ بأيديهم إلى مناطق الخير. فماذا كان ردهم؟ يقول الحق: {قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4211 كان المنطق أن يعبدوا الله وحده لا أن يعبدوا الشركاء الذين لا ينفعوهم ولا يضرونهم، ولا يسمعونهم. بل إن الواحد منهم كان يرى الهواء يهب على الصنم، فيميل الصنم ويقع على الأرض وتنكسر رقبته، فيذهب إلى الحداد ليعيد تركيب رأس جديد للصنم، فكيف يعبد مثل هذا الصنم؟ لكنهم قالوا لهود: نحن نقلد آباءنا ولا يمكن أن نترك ما كان يعبد آباؤنا لأننا على آثارهم نسير. وإن كان إلهك ينذرنا بعذاب فأتنا به إن كنت من الصادقين. وهكذا وضح أنه لا أمل في اقتناعهم بالدعوة إلى الإِيمان. فماذا يقول الحق بعد ذلك؟ يجيء القول الفصل على لسان سيدنا هود: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4211 {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4212 لقد كان يكلمهم ويكلمونه، قالوا له: ائتنا بالعذاب، فقال لهم: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} ، فكيف يقول وقع؟ لقد قال ذلك لأنه يخبر عن الله. و «وقع» فعل ماض، لكنا نعلم أن كلام الله مجرد عن الزمان ماضياً كان أو حاضرا، أو مستقبلا، لقد قال سيدنا هود: «وقع» والعذاب لم يقع بعد، لكن لما كان قوله بلاغاً عن الله فإنّه يؤكد وقوع العذاب حتماً؛ لأن الذي أخبر به قادر لما كان قوله بلاغاً عن الله فإنّه يؤكد وقوع العذاب حتماً؛ لأن الذي أخبر به قادر على إنقاذه في أي وقت، ولا إله آخر ولا قوة أخرى قادرة على أن تمنع ذلك. والذي وقع عليهم هو الرجس، والرجس أي التقذير، ضد التزكية والتطهير. وغضب الله الواقع لم تحدده هذه الآية. لكن لا بد أن له شكلاً سيقع به. ويسائلهم هو ساخراً: {أتجادلونني في أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ} ، وكل اسم يكون له مسمى، وهذه الأسماء أنتم أطلقتموها على هذه الآلهة، هل لها مسميات حقيقة لِتُعبد؟ . لا، بل أنتم خلعتم على ما ليس بإله أنه إله، وهذه أسماء بلا مسميات، وأنتم في حقيقة الأمر مقلدون لآبائكم. وما تعبدونه أسماء بلا سلطان من الإِله الحق. {مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71] أي ليس لهذه الأسماء من حجة على ما تقولون، بدليل أنهم كانوا يسمون في الجاهلية إلهاً باسم «العزّى» وعندما يكسرونه لا يجدون عزاً ولا شيئاً؛ لأن هذا الإِله المزعوم لم يدفع عن نفسه، فكيف يكون إلهاً وقيّوما على غيره؟ وكذلك سموا «اللات» أي الله ومضاف له التاء، وعندما يكسرونه لا يجدون له قوة أو جبروتاً أو طغياناً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4212 ويقول هود لقومه ما يؤكد وقوع العذاب: { ... فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} [الأعراف: 71] وقوله: {فانتظروا} ، جعلنا نفهم قوله السابق: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} بأن الرجس والغضب قادمان لا محالة. صحيح أنه عبر عن ذلك بالفعل الماضي، ولكن لنقرأ قوله الحق: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ... } [النحل: 1] و «أتي» فعل ماضٍ، وفي الظاهر أنه يناقض قوله: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} لأن الاستعجال يدل على أنّ الحدث لم يأت زمنه بعد. ولكن لنا أن نعلم أن الذي أخبر هو الله، ولا توجد قوة ثانية تغير مرادات الله أن تكون أو لا تكون. يقول الحق بعد ذلك: {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4213 ونلحظ أن الحق قد بين وسيلة نجاة سيدنا نوح: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} . أما هنا في مسألة عاد فلم يوضح لنا وسيلة النجاة، بل قال سبحانه: {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4213 وقوله: {فَأَنجَيْنَاهُ} تدل على أن عذاباً عاماً وقع، إلا أن ربنا أوحى لسيدنا هود أن يذهب بعيداً عن المكان هو والذين معه قبل أن يقع هذا العذاب. وكان العرب قديماً إذا حزبهم أمر، أو دعتهم ضرورة إلى شيء خرج عن أسبابهم يذهبون إلى بيت الله؛ ليضرعوا إلى الله أن يخلصهم منه، حتى الكفرة منهم كانوا يفعلون ذلك. كما حدث من عاد حين أرسل الله إليهم سيدنا هودا نبيًّا فكذبوه وازدادوا عتوًّا وتجبراً فأصابهم جدب وظل ثلاث سنوات فما كان منهم ألا أن فزعوا إلى الكعبة لكي يدعوا ربهم أن يخفف عنهم العذاب، وذهب واحد منهم اسمه «قيل بن عنز» ، وآخر اسمه «مرثد بن سعد» الذي كان يكتم إسلامه على رأس جماعة منهم إلى مكة، وكان لهم بها أخوال من المعاليق؛ من أولاد عمليق بن لاوث بن سام بن نوح، وكانوا هم الذين يحكمون مكة في هذا الوقت، وعلى رأسهم واحد اسمه «معاوية بن بكر» ، فنزلوا عنده، وأكرم وفادتهم على طريقة العرب، واستضافهم ضيافة ملوك وأمراء، وجاء لهم بالقيان والأكل والشراب، فاستمرأوا الأمر، وظلوا شهراً، فقال معاوية بن بكر: لقد جاءوا لينقذوا قومهم من الجدب وما فكروا أن يذهبوا إلى الكعبة، ولا فكروا في أن يدعوا ربنا وأخاف أن أقول لهم ذلك فيقولوا إنه ضاق بنا. وتكون سبّة فيّ. وأخذ يفكر في الأمر. وكان عنده مغنيتان اسمهما «الجرادتان» . فقالت المغنيتان: قل في ذلك شعراً، ونحن نغنيه لهم، فقال معاوية: ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يمطرنا غماماً فيسقى أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما فلما غنتا، والغناء فيه ترديد وخصوصاً إذا كان غناءً موجهاً «ألا يا قيل ويحك قم فهينم» وهينم: أي ادعوا الله، ألم تحضر من أجل الدعاء لعل الله يمطرنا الغمام على أرض عاد، وينتهي الجدب، وقد بلغ منهم الجهد أنهم لا يبينون الكلام، فتنبه القيل، وتنبه مرثد بن سعد، وكان قد نمى إلى علم «القيل» أن مرثد بن سعد مؤمن بهود عليه السلام، فرفض أن يصحبه معه، وبالفعل ذهب قيل وأخذ يدعو الله، فسمع هاتفاً يقول له: «اختر قومك» وقد رأى سحابة سوداء وسحابة حمراء وسحابة بيضاء، ونبهه الهاتف أن يختار سحابة تذهب لقومه من بين الثلاثة، فاختار السحابة السوداء، لأنها أكثر السحاب ماء، وهو على قدر اجتهاده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4214 اختار السحابة السوداء، وعادوا لبلادهم ليجدوا السحابة السوداء فقال لهم: أنا اخترت السحابة لأنها توحى بماء كثير منهمر، وقال الحق في هذا الأمر: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ... } [الأحقاف: 24] أي أن هذه هي السحابة التي قال عليها: «قيل» سوف تعطينا المطر. فيرد الحق عليهم ويقول لهم: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ... } [الأحقاف: 24 - 25] إذن فقولهم السابق لسيدنا هود الذي أورده الحق هنا في سورة الأعراف: { ... فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 70] أي أن عذابهم يتأكد بالمطر والريح الذي جاء به قول سيدنا هود هنا في سورة الأعراف: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} . ولم يفلت من العذاب إلا من آمن مصداقاً لقوله الحق: {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72] لقد يسّر الحق الانقاذ لسيدنا هود ومن آمن معه ليهجروا المكان لحظة ظهور السحاب، فقد سمع هود هاتفاً يؤكد له أن في هذا السحاب العذاب الشديد، فأخذ الجماعة الذين آمنوا معه وهرب إلى مكة، وتم إهلاك الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسولهم ورفضهم الإِيمان بربهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4215 ويقول الحق بعد ذلك: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4216 لقد قال سيدنا صالح لثمود مثلما قال سيدنا هود لعاد، وحمل لهم الإِنذار ليتقوا فيرحموا، قال سيدنا صالح: {يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} . إذن فالإِنذار للتقوى وللوصول إلى الرحمة والفلاح، ولذلك أقول دائماً: إن القرآن حينما يتعرض لأمر قد لا يأتي به مفصلا ولكن سياقه يوحي بالمراد منه، ولا يكرر وذلك ليربي فينا ملكة الاستيقاظ إلى استقبال المعاني. والمثال على ذلك في قصة الهدهد مع سيدنا سليمان، يقول القرآن على لسان سيدنا سليمان: {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [النمل: 20] ويهدد سيدنا سليمان الهدهد قائلاً: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ ... } [النمل: 21] ثم جاء الهدهد ليقول: { ... وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] ثم أرسل سيدنا سليمان الهدهد إلى قوم سبأ قائلاً: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4216 {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28] وبعد هذه الآية مباشرة قال القرآن: {قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] وكأن الهدهد قد ذهب بالكتاب، ورماه إلى ملكة سبأ، وقالت هي الرد مباشرة. إذن لم يكرر القرآن ما حدث، بل جعل بعضاً من الأحداث متروكاً للفهم من السياق. وكذلك هنا في قوله الحق: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ ... } [الأعراف: 73] وكلمة «أخاهم» هنا تؤكد أن سيدنا صالحاً كان مأنوساً به عند ثمود، ومعروف التاريخ لديهم، سوابقه في القيم والأخلاق معروفة لهم تماماً وأضيفت ثمود له لأنه أخوهم. وقد جاءت دعوته مطابقة لدعوة نوح وهود. { ... قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] والبنية هي الدليل على الصدق في البلاغ عن الله، وهي الناقة. فما قصة الناقة؟ هل خرج لهم بناقة ونسب ملكيتها لله؟ بطبيعة الحال، لا، بل لا بد أن تكون لها قصة بحيث يعلمون أن هذه الناقة ليست لأحد من البشر. وحين قام سيدنا صالح بدعوته، تحداه السادة من قومه، وقالوا: نقف نحن وأنت، نستنجد نحن بآلهتنا، وأنت تستنجد بإلهك، وإن غلبت آلهتنا تتبعنا، وإن غلب إلهك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4217 نتبعك، وجلسوا يدعون آلهتهم، فلم يحدث شيء من تلك الآلهة، وهنا قالوا لسيدنا صالح: إن كنت صادقاً في دعوتك، هذه الصخرة منفردة أمامك في الجبل اسمها «الكاثبة» فليخرج ربك لنا من هذه الصخرة ناقة هي عشراء كالبخت - أحسن أنواع الإِبل - فدعا الله سبحانه وتعالى، وانشقت الصخرة عن الناقة، وخروج الناقة من الصخرة لا يدع مجالاً للشك في أنها آية من الله ظهرت أمامهم. إنها البينة الواضحة. لقد انشقت الصخرة عن الناقة ووجدوها ناقة عشراء، وَبْرَاء - أي كثيرة الوَبَر - يتحرك جنينها بين جنبيها ثم أخذها المخاض فولدت فصيلاً، وهكذا تتأكد الإِلهية دون أن يجرؤ أحد على التشكيك فيها، وهي ناقة من الله وهو القائل: { ... نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] وأوضح لهم سيدنا صالح أنها ناقة الله، وترونها رؤية مشهدية وهذه الناقة لها يوم في الماء لتشرب منه، ويوم تشربون أنتم فيه. وكان الماء قليلاً عندهم في الآبار. { ... لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] أي لابد من تخصيص يوم لتشرب فيه هذه الناقة، ولكم أنتم وإبلكم وحيواناتكم يوم آخر، وكان من عجائب هذه الناقة أن تقف على العين وتشرب فلا تدع فيها ماءً، وهي كمية من المياه كانت تكفي كل الإِبل. وبعد ذلك تتحول كل المياه التي شربتها في ضرعها لبناً، فيأخذون هذا اللبن. صحيح أن الناقة منعتهم المياه لكنهم أخذوا منها اللبن الذي يطعمونه، ولأنها ناقة الله كان لابد أن تأخذ هيكلاً وحجماً يناسبها وكمية من الطعام والشراب مناسبة لتقيم بها حياتها، وكمية إدرار اللبن مناسبة لشربها وطعامها وحجمها، فمادامت منسوبة لله فلابد أن فيها مواصفات إعجازية، وكان الفصيل الذي ولدته معها، وكان إذا ما جاء الحر في الصيف تسكن الناقة في المشارف العالية، وبقية النوق تنزل في الأرض الوطيئة، وحين يأتي الشتاء تنزل إلى المناطق المنخفضة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4218 والمعروف أن مدائن صالح كانت منطقة شديدة الحرارة، ويمكن لمن يزور المدينة أو «تبوك» أن يمر عليها. كانت الناقة حرة في اختيار المكان الذي تعيش فيه صيفاً أو شتاءً فلا أحد بقادر أن يمسها بسوء. وكانت هناك امرأتان لهما نياق. وناقة الله تغلب نياق المرأتين في المراعي والماء. فأحضرت المرأتان رجلاً يطلق عليه: «أُحَيْمر ثمود: واسمه قُدار بن سالف» ليقتلها، فقتل الناقة، فلما قتلت الناقة، طلع ابنها الفصيل على جبل يسمى «قارة» وخار ثلاثة أصوات، فنادى سيدنا صالح: يا قوم أدركوا هذا الفصيل، لعل الله بسبب إدراككم له يرفع عنكم العذاب، فراحوا يتلمسونه فلم يجدوه وأعلم الله صالحاً النبي أن العذاب قادم، ففي اليوم الأول تكون وجوههم مصفرة، وفي اليوم الثاني تكون محمرة، وفي اليوم الثالث تكون مسودّة، فقد كانت الناقة هي ناقة الله المنسوبة له سبحانه، وقد تأكدوا بالأمر المشهدي من ذلك، وكان من الواجب عليهم ساعة أن وجدوا الآية الكونية المشهودة أن يأخذوا منها العبرة، وأنها مقدمة للشيء الموعود به. لكنَّ الغباء أنساهم أنها ناقة الله. { ... هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] وبالفعل حدث العذاب بعد أن قتل أحميرثمود الناقة. ويقول الحق بعد ذلك: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4219 ومن قبل قال الحق لقبيلة عاد: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ... } [الأعراف: 69] وهنا قال الحق: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ} . لأن عاداً هم الخلفاء الأقرباء منهم، وقصتهم مازالت معروفة ومعالمها واضحة، أما قصة نوح فهي بالتأكيد أقدم قليلاً من قصة عاد. ويذكرهم الحق أيضاً أنه جعل في الأرض منازل يسكنونها، فاتخذوا من سهولها قصوراً، والسهل هو المكان المنبسط الذي لا توجد به تلال أو صخور أو جبال، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، وكان عمر الإِنسان منهم يطول لدرجة أن البيت ينهدم مرتين في العمر الواحد للإِنسان. ولذلك قرروا أن يتخذوا من الجبال بيوتاً لتظل آمنة، وحين يرى الإِنسان مدائن صالح منحوتة في الجبل فهي فرصة لأن يتأمل عظمة الحق في تنبيه الخلق إلى ما يفيدهم وهي بالفعل من نعم الله، ويقول سبحانه: { ... فاذكروا آلآءَ الله وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74] وآلاء الله - كما عرفنا - هي نعمه التي لا تحصى، وينبههم إلى عدم نشر الفساد في الأرض. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ الملأ الذين استكبروا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4220 ونعرف أن هناك سادة، وهناك أتباعاً. ومن قبل قال الحق: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا ... } [البقرة: 166] وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حوار بين السادة وبين المستضعفين الذين لا جاه لهم لا جبروت يُحافظ عليه، ورأوا دعوة الإِيمان ووجدوا فيها النفع لهم فأقبلوا عليها، أما الملأ وهم السادة الأشراف الأعيان الذين يملأون العين هيبة، والقلوب مهابة فقد قالوا لمن آمن من المستضعفين - لأن هناك مستضعفين ظلوا على ولائهم للكفر - قال هؤلاء الملأ من المستكبرين لمن آمن من المستضعفين: { ... أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 75] وعندما سمع المستكبرون قول المؤمنين من المستضعفين. فماذا قال الملأ المستكبرون؟ يقول الحق: {قَالَ الذين استكبروا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4221 إذن فقد أعلنوا الكفر بالقول وضموا إليه بالعمل وهو قتل الناقة، ويقول الحق: {فَعَقَرُواْ الناقة وَعَتَوْاْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4222 والعقر: هو الذبح بالنسبة للنوق. وهم هنا يقولون أيضاً مثلما قال السابقون لهم: { ... ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} [الأعراف: 77] و «الصادقين» تؤول أيضاً إلى المرسلين. لقد اتهموا صالحاً عليه السلام بالكذب كنبي مرسل لهم برغم حدوث الآية الواضحة وهي خروج الناقة من الجبل، لذلك يحل عليهم غضب الله في قوله الحق: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4222 والرجفة هي الهزة التي تحدث رجة في المهزوز. ويسميها القرآن مرة بالطاغية في قوله الحق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4222 {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5] والتي أصبحوا من بعدها «جاثمين» ، وهو التعبير الدقيق الذي يدل على أن الواحد منهم إن كان واقفاً ظل على وقوفه، وإن كان قاعداً ظل على قعوده، وإن كان نائماً ظل على نومه. أو كما نقول: «إنسخطوا على هيئاتهم» . «فالجاثم» هو من لزم مكانه فلم يبرح أو لصق بالأرض. وبعد أن أخذهم بالرجفة يقول الحق: {فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4223 فهل كان سيدنا صالح يخاطبهم وهم موتى؟ . نعم يخاطبهم إنصافاً لنفسه وإبراء لذمته، مثلما يقع واحد في ورطة فيقول له صديقه: لا أملك لك شيئاً الآن: فقد نصحتك من قبل. أو أن شريراً قد قتل، فتقول له: «ياما نصحتك» . وأنت تتكلم لكي تعطي لنفسك براءة العذر، «أو كما فعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع قتلى بدر وناداهم واحداً واحداً بعد أن ألقوا جثثهم في قليب بدر، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا أهل القليب، يا فلان، يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال الصحابة: - أو تكلمهم يا رسول الله وقد جيَّفوا. قال: والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4223 وكأن سيدنا صالح قال ذلك ليتذكروا كيف أبلغهم رسالات الله ومنهجه ونصح لهم وتحنن عليهم أن يلتزموا بمنهج الله، لكنهم لم يستمعوا للنصح. ولم يحبوا الناصحين؛ لأن الناصح يريد أن يُخرج المنصوح عما ألفه من الشر، وعندما ينصحه أحد يغضب عليه. وبعد أن انتهى من قصة ثمود مع نبيهم يقول سبحانه: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة ... } . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4224 وكما قال الحق: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً} وقال: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} ، {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} فهو هنا يأتي باسم «لوط» منصوباً لأنه معطوف على من سبقه من أصحاب الرسالات. وما هو زمان الإِرسال؟ إن قوله الحق: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} يفيد أن زمن القول كان وقت الإِرسال. وهي الإِشارة القرآنية ذات الدلالة الواضحة على أن الرسول حين يبعث ويرسل إليه ويبَّلغ الرسالة لا يتوانى لحظة في أداء المهمة، فكأن تبليغ الرسالة تزامن مع قوله: {يَاقَوْمِ} . والأسلوب يريد أن يبين لك أنه بمجرد أن يقال له: «بلغ» فهو يبلغ الرسالة على الفور، وكأن الرسالة جاءت ساعة التبليغ فلا فاصل بينهما. {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف: 80] وكلمة «قومه» تعني أنه منهم، ولماذا لم يقل: «أخاهم لوطاً» ؟ وهذه لها معنى يفيد أن السابقين من الرسل كانوا من بيئة الأقوام الذين أرسلوا إليهم؛ فعاد كان «هود» من بيئتهم و «ثمود» كان صالح من بيئتهم وإذا كان الحق لم يقل «أخاهم لوطاً» فلنلحظ أنه أوضح أنه قد أرسله إلى قومه، وهذه تنبهنا إلى أن لوطاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4224 لم يكن من هذا المكان، لأن لوطاً وإبراهيم عليهما السلام كانا من مدينة بعيدة، وجاء إلى هذا المكان فراراً من الاضطهاد هو وإبراهيم عليهما السلام، وهذا يبين لنا أن لوطاً طارئ على هذا المكان، ولم يكن أخاهم المقيم معهم في البيئة نفسها. ولكنهم «قومه» لأنه عاش معهم فترة فعرف بعضهم بعضاً، وعرفوا بعضاً من صفاته، وأنسوا به. أقول ذلك لننتبه إلى دقة أداء القرآن، فمع أن القصص واحد فسبحانه يضع لنا التمييز الدقيق، ولم يقل لهم لوط: إن ربي نهاكم عن هذه العملية القذرة وهي إتيان الرجال. بل أراد أن يستفهم منهم استفهاماً قد يردعهم عن العملية ويقبحها. وكان استفهام سيدنا لوط هو استفهام تقريع، واستفهام إنكار، فلم يقل لهم: إن ربنا يقول لكم امتنعوا عن هذا الفعل، بل يستنكر الفعل كعمل مضاد للفطرة، واستنكار فطري. { ... أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80] وهذا يدل على أنه يريد أن يسألهم سؤالاً إنكاريًّا ليحرجهم، لأن العقل الفطري يأبى هذه العملية: {أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} . أي أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لأنها عملية مستقذرة؛ لأن الرجل إنما يأتي الرجل في محل القذارة، لكنهم فعلوها، وهذا الفعل يدل على أنها مسألة قد تشتهيها النفس غير السويَّة. ولكنها عملية قذرة تأباها الفطرة السليمة. وكلمة «فاحشة» تعطينا معنى التزيد في القبح؛ فهي ليست قبحاً فقط، بل تَزَيُّدٌ وإيغال وتعمق في القبح ومبالغة فيه؛ لأن الفاحشة تكون أيضاً إذا ما أتى الرجل أنثى معدة لهذه العملية لأنه لم يعقد عليها، ولم يتخذها زوجا، وعندما يتزوجها تصير حِلاًّ له، لكن إتيان الذكر للذكر هو تزيد في الفحش. وإذا كان هذا الأمر محرماً في الأنثى التي ليست حلالاً له ويعد فاحشة، فالرجل غير مخلوق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4225 لمثل هذا الفعل ولا يمكن أن يصير حلالاً، يكون إتيانه فاحشة بمعنى مركّب. { ... أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80] وقلنا من قبل: إن «من» قد تأتي مرة زائدة، ويمكنك أن تقول إنها زائدة في كلام الإنسان، لكن من العيب أن تقول ذلك في كلام ربنا. وقوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} . أي ما سبقكم أحد من العالمين، و «أحد» هي الفاعل، وجاءت «من» لتوضح لنا أنه لم يأت بها أحد ابتداءً، مثلما قلنا قديماً، حين تأتي لواحد لتقول له: «ما عندي مال» . فأنت قد نفيت أن يكون عندك مال يعتد به. وقد يكون معك من بداية ما يقال له أنه مال، وقوله الحق: { ... مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} . [الأعراف: 80] يعني أنه لم يسبقكم أي أحد من بداية ما يقال له أحد، وسبحانه يريد بذلك أن ينفيها أكثر، و «من» التي في قوله: {مِّن العالمين} هي تبعيضية أي ما سبقكم بها أحد «من بعض» العالمين. فما هذا الأمر؟ لقد سماها فاحشة، وهي تزيد في القبح ووصفة لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها مسألة فظيعة للغاية. لأننا حين نبحث هذه المسألة بحثاً عقلياً نجد أن الإنسان مخلوق كخليفة في الأرض وعليه استبقاء نوعه؛ لأن كل فرد له عمر محدود، ويخلف الناس بعضهم بعضاً، ولابد من بقاء النوع، وقد ضمن الله للإنسان الأقوات التي تبقيه، وحلل له الزواج وسيلة لإبقاء النوع، ومهمة الخلافة تفرض أن يخلف بعضنا بعضاً. وكل خليفة يحتاج إلى اقتيات وإلى إنجاب. و «الاقتيات» خلقه الله في الأرض التي قدر فيها أقواتها. والنوع البشري جعل منه سبحانه الذكر والأنثى ومنهما يأتي الإنجاب الخلافي؛ فهو محمول أولاً في ظهر أبيه نطفة، ثم في أمه جنيناً ثم تضعه لترعاه مع والده ويربيه الاثنان حتى يبلغ رشده. وهذه خمس مراحل، وكل مرحلة منها شاقة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4226 فحمل الأم في الطفل تسعة شهور هو أمر شاق؛ لأن الإِنسان منا إن حمل شيئاً طوال النهار سيصاب بالتعب، لكن الأم تحمل الجنين تسعة أشهر، وأراد الله أن يكون الحمل انسيابياً بمعنى أن الجنين في نشأته الأولى لا يبلغ وزنه إلا أقل القليل، ثم يكبر بهدوء وبطء لمدة تسعة شهور حتى يكتمل نموه. وهذا الجنين كان صغيراً في بدء تكوينه، ثم صار وزنه غالباً ثلاثة كيلو جرام في يوم ولادته، وبين بدء تكوينه إلى لحظة ميلاده هناك فترة زمنية ينمو فيها هذا الجنين تدريجياً، وبشكل انسيابي، فهو لا يزيد في الوزن كل ساعة، بل ينمو في كل جزء من المليون من الثانية بمقدار يناسب هذا الجزء من الثانية، وهذا يعني أن الجنين ينمو انسيابيا بما يناسب الزمن. نلحظ ذلك أيضاً في أثناء التدريب على رياضة حمل الأثقال أنهم لا يدربون اللاعب الناشئ على حمل مائة كيلو جرام من أول مرة بل يدربونه على حمل عشرين كيلو جراماً في البداية، ثم يزاد الحمل تباعاً بما لا يجعل حامل الأثقال في عنت، ويسمون ذلك: انسياب التدريب؛ لأن حمل هذه الأثقال يحتاج إلى تعود، ولهذا لا يتم تدريبه على حمل الأثقال فجأة، بل بانسياب بحيث لا يدرك الزمن مع الحركة، كذلك النمو، فأنت إذا نظرت إلى طفلك الوليد ساعة تلده أمه، وسأقدر جدلاً أنك ظللت تنظر إليه دائماً، فهو لا يكبر في نظرك أبداً؛ لأنه ينمو بطريقة غير محسوسة لديك، لكنك لو غبت شهراً عنه وتعود لرؤيته ستدرك نموه، وهذا النمو الزائد قد تجمع في الزمن الفاصل بين آخر مرة رأيته فيها قبل غيابك وأول مرة تراه بعد عودتك. ومن لطف الله - إذن - في الحمل أن الجنين ينمو انسيابياً، ولذلك يزداد الرحم كل يوم من بدء الحمل إلى آخر يوم فيه، وترى الأم الحامل، وهي تسير بوهن وتبطئ في حركتها، ثم يأتي الميلاد مصحوباً بمتاعب الولادة وآلامها، وبعد أن يولد المولود تستقبله رعاية أمه وأبيه، ويأخذ سنوات إلى أن يبلغ الرشد. ونعلم أن أطول الأجناس طفولة هو الإنسان، ولذلك نجد الأب الذي يريد الإنجاب يتحمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4227 مع الأم متاعب التربية، وقد قرن الله هذا الأمر بشهوة، وهي أعنف شهوة تأتي من الإِنسان، وبعد ميلاد الطفل نجد المرأة تقول: لن أحمل مرة أخرى، ولكنها تحمل بعد ذلك. إذن كأن الشهوة هي الطُعم الموضوع في المصيدة ليأتي بالصيد وهو الإِنجاب؛ لذلك قرن الحق الإِنجاب بالشهوة لنقبل عليها، وبعد أن نقبل عليها، ونتورط فيها نتوفر ونبذل الجهد لنربي الأولاد. فإذا أنت عزلت هذه الشهوة عن الإِنجاب والامتداد تكون قد أخللت وملت عن سنة الكون، لأنك ستأخذ اللذة بدون الإِنجاب، وإذا تعطل الإِنجاب تعطلت خلافة الأرض، والشيء الآخر أن الرجل في الجماع يلعب دور الفاعل، وفي الشذوذ وهو العملية المضادة التي فعلها قوم لوط ينقلب الرجل إلى منفعل بعد أن كان فاعلاً. {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80] والفاحشة هي العملية الجنسية الشاذة، ولم يحددها سبحانه من البداية كدليل على أنها أمر معلوم بالفطرة، فساعة يقول: {أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} يعرفون ما فعلوا. وإن افترضنا أن هناك أغبياء أو من يدعون الغباء ويرفضون الفهم، فقد جاء بعدها بالقول الواضح: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4228 والإِسراف هو تجاوز الحد، والله قد جعل للشهوة لديك مصرفاً طبيعياً منجبا، وحيث تأخذ أكثر من ذلك تكون قد تجاوزت الحد، ولقد جعل الله للرجل امرأة من جنس البشر وجعلها وعاء للإِنجاب، وتعطيك الشهوة وتعطيها أنت الشهوة، وتعطيك الإِنجاب، وتشتركان من بعد ذلك في رعاية الأولاد. وأي خروج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4228 عما حدده الله يكون الدافع إليه هو الشهوة فحسب لكي ينبغي أن يكون الدافع إلى هذه العملية مع الأنثى هو الشهوة والإنجاب معا؛ لبقاء النوع، ولذلك وصف الحق فعل قوم لوط: { ... بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} . ويأتي الحق سبحانه بما أجابوا به عن سؤال سيدنا لوط: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4229 وبذلك تمادى هؤلاء القوم رافضين أن يقبح أحد لهم الشذوذ؛ لذلك قالوا: {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ ... } . وما هي الحجة التي من أجلها إخراج لوط والذين آمنوا معه من القرية؟ { ... أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] فهل التطهر عيب! لا، لكنهم عاشوا في النجاسة وألفوها، ويرفضون الخروج منها، لذلك كرهوا التطهر. والمثال على ذلك حين نجد شاباً يريد أن ينضم إلى صداقة جماعة في مثل عمره، لكنه وجدهم يشربون الخمور، فنصحهم بالابتعاد عنه، ووجدهم يغازلون النساء فحذرهم من مغبة الخوض في أعراض الناس، لكن جماعة الأصدقاء كرهت وجوده بينهم لأنه لم يألف الفساد فيقولون: لنبتعد عن هذا المستقيم المتزهد المتقشف، وكأن هذه الصفات صارت سُبة في نظر أصحاب المزاج المنحرف، مثلهم مثل الحيوان الذي يحيا في القذارة، وإن خرج إلى النظافة يموت. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4229 {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4230 وهم حين أرادو طرد لوط وأهله، إنما كانوا يجازفون. إنهم بذلك قد تعجلوا العقاب، وجاءهم العقاب وأنجى الحق سبحانه لوطاً وأهله بتدبير حكيم لا يحتاج فيه سبحانه إلى حد، وإذا تساءل أحد: ومن هم أهل لوط الذين أنجاهم الله معه؟ أهم أهل النسب أم أهل التدين والتبعية؟ . إن كان أهله بالنسب فالحق يستثني منهم «إمرأته» ، وهذا دليل على أن أهل البيت آمنوا بما قاله لوط وكذلك الأتباع أيضاً {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} . إذن كان مع لوط أيضاً بعض من أهله وبعض من الأتباع، وكانوا من المتطهرين، والتطهر هو أن يترفع الإنسان عن الرجس والسوء. ولذلك نجد سيدنا شعيباً حين ينصح وقومه: {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ ... } [الأعراف: 85] ويتعجب القوم سائلين شعيباً: {أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ ... } [هود: 87] إنهم يتعجبون من أن الصلاة تنهى عن ذلك، لقد أعمى ضلالهم بصيرتهم، فلم يعرفوا أن الصلاة تنهى عن كل شيء. وكذلك فعل بعض من الكافرين حين اتهموا سيدنا رسول الله بأنه مجنون: {وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4230 ومن قولهم يتأكد غباء تفكيرهم، فماداموا قد قالوا: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} فمن الذي نزل هذا الذكر؟ ، والذكر هو القرآن، والذي نزله هو الله - سبحانه وتعالى - فكيف يعترفون بالقرآن كذكر، ثم يتهمون الرسول بأنه «مجنون» ؟ ، لأنهم ماداموا قد قالوا عن القرآن إنه ذكر، وإنه قد نزل عليه، ولم يأت به من عنده، فكيف يكون مجنوناً؟ إنهم هم الكاذبون، وقولهم يؤكد أن فكرهم نازل هابط. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق يقول سبحانه: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} [الأعراف: 83] إن إمرأة سيدنا لوط لم تدخل في الإنجاء لأنها من الغابرين، و «غبر» تأتي لمعان متعددة، فهي تعني إقامة ومكثا بالمكان، أو تعني أي شيء مضى، كما يقال: هذا الشيء غبرت أيامه؛ أي مضت أيامه، ولسائل أن يقول: كيف تأتي الكلمة الواحدة للمعنى ونقيضه؟ فغبر تعني بقي، وغبر أيضاً تعني مضى وانتهى. نقول: إن المعنى ملتق هنا في هذه الاية، فمادام الحق ينجيه من العذاب الذي نزل على قوم لوط في القرية فنجد زوجته لم تخرج معه، بل بقيت في المكان الذي نزل فيه العذاب، وبقيت في الماضي، وهكذا يكون المعنى ملتقيا. فإن قلت مع الباقين الذين آتاهم العذاب فهذا صحيح. وإن قلت إنها صارت تاريخاً مضى فهذا صحيح أيضاً: {إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} . ونحن لا ندخل في تفاصل لماذا كانت امراته من الغابرين؛ لأن البعض تكلم في حقها بما لا يقال، وكأن الله يدلس على نبي من أنبيائه، لا، نحن لا نأخذ إلا ما قاله الحق بأنها كانت مخالفة لمنهجه وغير مؤمنة به. ونلحظ أيضاً أن الحق تحدث عن امرأة نوح وامرأة لوط في مسألة الكفر؛ فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ... } [التحريم: 10] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4231 ودقق النظر في كلمة {تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} وتساءل البعض عن معنى الخيانة وهل المقصود بها الزنا؟ . ونقول: ربنا لا يدلس على نبي له، لكن أن تؤمن الزوجة أو تكفر، فهذه مسألة اختيارية. وكأن الله سبحانه يوضح لنا أن الرسول مع أنه رسول من الله إلا أنه لا يستطيع أن يفرض إيماناً على امرأته؛ فالمسألة هي حرية الاعتقاد. وانظر إلى التعبير القرآني: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ} . إياك أن تظن أن أيًّا منهما متكبرة على زوجها؛ لأن الحق يقول: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا} أي أن إمرة وقوامة الرجل مؤكدة عليها، يشير إلى ذلك قوله: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ} لكن الإِيمان هو مسالة اختيار، وهذا الاختيار متروك لكل إنسان، وأكد الحق ذلك في مسألة ابن سيدنا نوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] وحاول البعض أن يلصق تهمة الزنا بامرأة نوح وامرأة لوط، وهم في ذلك يجانبون الصدق، إنه محض افتراء، وقد نبهنا الحق إلى ذلك فقال عن امرأة نوح وامرأة لوط: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا} [التحريم: 10] ولنفهم أن الاختيار في العقيدة هو الذي جعلهما من الكافرين، وأن الرسولين نوحاً ولوطاً لم يستطيعا إدخال الإيمان في قلبي الزوجتين؛ حتى يتأكد لدينا أن العقيدة لا يقدر عليها إلا الإِنسان نفسه، ولذلك ضرب سبحانه لنا مثلاً آخر: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11] فهذه زوجة فرعون المتجبر؛ الذي «ادّعى الألوهية» ، لكنه لا يقدر أن يمنع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4232 امرأته من أن تؤمن بالله، وهكذا نجد نبيًّا لا يقدر أن يقنع امرأته بالإِيمان، ونجد مدّعي الألوهية عاجزاً عن أن يجعل امرأته كافرة مثله، وهذا يدل على أن العقيدة أمر اختياري محمي بكل أنواع الحماية؛ حتى لا يختار الإِنسان دينه إلا على أساس من اقتناعه لا على أساس قهره. وضرب الله مثلاً آخر: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ ... } [التحريم: 12] ونلاحظ أن الحق لم يأت بأسماء زوجتي نوح ولوط، وكذلك لم يأت باسم امرأة فرعون، لكنه أورد لنا اسم مريم واسم والدها. فلماذا كان الإِبهام أولاً؟ لنعلم أنه من الجائز جدًّا أن يحصل مثل هذا الأمر لأي امرأة، فقد تكون تحت جبار وكافر، وتكون هي مؤمنة، وقد تكون تحت عبد مؤمن ولا يلمس الإِيمان قلبها. {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} . [الأعراف: 83] فكلمة «أنجيناه» تشير إلى أن عذاباً سيقع في المكان الذي فيه قوم لوط، ولأنه سبحانه شاء أن يعذب جماعة ولا يعذب جماعة أخرى، فلابد أن يدفع الجماعة التي كتب لها النجاة إلى الخروج. وهذا الخروج أراده لهم من يكرهونهم، فقد قالوا: { ... أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] لكن ربنا هو الذي أخرجهم، والإِخراج كان من العذاب الذي نزل بهؤلاء المجرمين؛ إنه كان لإِنجاء لوط وأهله مما نزل بهؤلاء الفجرة. ويأتي العذاب من الحق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4233 {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فانظر ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4234 فهل كان ذلك المطر مثل المطر الذي ينزل عادة؟ لا، بل هو مطر من نوع آخر. فسبحانه يقول: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 33 - 34] يقول الحق: إنه سبعذبهم بالمطر، فلننتبه أنه ليس المطر التقليدي، بل إنه يعذبهم ويستأصلهم بنوع آخر من المطر. وقوله: «انظر» أي فاعتبر يا من تسمع هذا النص، وهذه القصة تبين وتوضح أن الله لا يدع المجرمين يصادمون دعوة الله على لسان رسله دون عقاب. ويقول سبحانه: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4234 و «مدين» هو ابن من أبناء سيدنا إبراهيم جاء واستقر في هذا المكان، فهو علم على شخصه، وعلم على المكان الذي أقام فيه وسمي المكان باسمه، فلما تكاثر أبناؤه وصاروا قبيلة أخذت القبيلة اسمه. إذن ف «مدين» اسم عَلَمٌ على ابن إبراهيم، وأطلق على المكان الذي استقر فيه من طور سيناء إلى الفرات، وأطلق على القبيلة: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} . الحق سبحانه وتعالى هنا يكرر «أخ» ليبين لك؛ أنه إن قسا عليهم مرة فسيحنو عليهم مرة أخرى؛ لأنهم إخوة له ومأنوس بهم، وفيهم عاش ويعرفون عنه كل شيء، وكان مدين قد تزوج من رقبة ابنة سيدنا لوط، وحين تكاثر الاثنان صاروا قبيلة، ويبلغهم سيدنا شعيب بالقضية العقدية التي يبلغها كل رسول: {يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} . والعبادة هي الطاعة للأمر والطاعة للنهي، وأنت لا تطيع أمر آمر ولا نهي ناه إلا إذا كان أعلى منك، لأنه إن كان مساويا لك، فبعد أن يقول لك: «افعل كذا» ستسأله أنت: لماذا؟ ، وبعد أن ينهاك عن شيء ستسأله أيضاً: لماذا؟ . لكن الأب حينما يقول لطفله: أنت لا تفعل الشيء الفلاني، فالابن لا يناقش؛ لأنه يعرف أن أباه هو من يطعمه ويشربه ويكسوه، وحين يكبر الطفل فهو يناقش؛ لأن ذاتيته تتكون، ويريد أن يعرف الأمر الذي سيقدم عليه. {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ... } [الأعراف: 85] ومادام قد قال لهم: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} فهو رسول قادم ومرسل من الله، ولا بد أن تكون معجزة يثبتها، إلا أن شعيباً لم يأت لنا بالمعجزة، إنما جاء بالبينة. {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان ... } [الأعراف: 85] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4235 لأن كل المعاصي والكفر تدفع إلى الإخلال في الكيل والميزان، وإذا كان شعيب قد قال ذلك لقومه فلابد أن الإخلال في الكيل والميزان كان هو الأمر الشائع فيهم. فيأتي ليعالج الأمر الشائع. وهم كانوا يبخسون الكيل والميزان. ويظن الناس في ظاهر الأمر أنها عملية سهلة، وأن القبح فيها قليل، والاختلاس فيها هين يسير، فحين يبخس في الميزان ولو بجزء قليل، إنما يأخذ لنفسه في آخر الأمر جزءاً كبيراً. وأنت ساعة تكيل وتزن وتطفف فأنت تفعل ذلك في من يشتري. وستذهب أنت بعد ذلك لتشتري من أناس كثيرين سيفعلون مثلما فعلت، فإذا ما وفيت الكيل والميزان، فأنت تفعل ما هو في مصلحتك، لأنك تنشر العدل السلوكي بين الناس بادئاً بنفسك، ومصالحك كلها مع الآخرين. إنك حين تبيع أي سلعة ولو كانت بلحاً وتنقص في الميزان، وستحقق لنفسك ربحاً ليس فيه حق، وإن كنت تكيل قمحاً لتبيعه وأنقصت الكيل، فأنت تأخذ ما ليس لك، والقمح والبلح هما بعض من مقومات حياتك؛ لأنك تحتاج إلى سلع كثيرة عند من يزن، وعند من يكيل، فإن أنقصت الميزان أو الكيل فلسوف يفعلون مثلما فعلت فيما يملكون لك، وبذلك تخسر أنت ويصبح الخسران عاماً. {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ ... } [الأعراف: 85] وإذا كانت الخسارة في الكيل والميزان طفيفة ومحتملة، فمن باب أولى ألا نبخس الناس أشياءهم فلا نظلمهم بأخذ أموالهم والاستيلاء على حقوقهم، فلا نسرف لأن السارق يأخذ ما تصل إليه يده، ولا نغتصب، ولا نختلس، ولا نرتشي، لأنه إذا كان وفاء الكيل هو أول مطلوب الله منكم مع أن الخسارة فيه طفيفة، إذن فبخس الناس أشياءهم يكون من باب أولى. ويتابع سبحانه: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ... } [الأعراف: 85] وبذلك نكون أمام أكثر من أمر جاء بها نبي الله شعيب: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} وهذه العبادة لتربي فيهم مهابة وتزيدهم حباً واحترامً للآمر الأعلى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4236 وكذلك ليخافوا من جبروته سبحانه. وبعد ذلك ضرورة يكون الأمر بالوفاء بالكيل والميزان، والزجر عن أن يبخسوا الناس أشياءهم، ثم النهي والتحذير من الإِفساد في الأرض {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} ، والإِصلاح الذي يطلبه الله منا أن نستديمه أو نرقيه إنما يتأتى بإيجاد مقومات الحياة على وجه جميل. مثال ذلك الهواء وهو العنصر الأول في الحياة المسخرة لك؛ يصرّفه سبحانه حتى لا يفسد. والنعيم الثاني في الحياة وهو الشراب؛ إنه سبحانه ينزل لك الماء من السماء، ثم القوت الذي يخرجه لك من الأرض. والمواشي التي تأخذ منها اللبن، والأوبار، والأصواف، والجلود، كل ذلك سخره الله لك، وهذا إصلاح في الأرض، لكن هل هذه كل المقومات الأساسية؟ لا؛ لأنه إن وجدت كل هذه المقومات الأساسية ثم وجد الغصب، والسرقة، والرشوة، والاختلاس، فسيفسد كل شيء، ولا يعدل كل ذلك ويقيمه ويجعله سويا إلا الدين؛ لأنه كمنهج يمنع الإِفساد في الأرض. {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ... } [الأعراف: 85] إذن فهذه الأشياء التي هي إيفاء الكيل والميزان يأتي الأمر بها، ثم يتبعها بما ينهى عنه وهو ألا نبخس الناس أشياءهم وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها، كل ذلك يجمع المنهج. أوامر ونواهي، وقد يبدو في ظاهر الأمر أنها مسائل تقيد حرية الإنسان، فنقول: لا تنظر إلى نفسك أيها الإِنسان وأنت بمعزل عن المجتمع الواسع، فأنت لا تملك من مصالحك إلا أمراً واحداً، وهذا الأمر الذي تملكه أنت من مصالحك يكون أقل الأشياء عندك، ولكن الأمور الأخرى التي تحتاج إليها هي بيد غيرك، فإن أنت وفيت الكيل والميزان. فذلك خير لك؛ فالذي يقيس لك القماش لا يغشك، والذي يزن لك ما ليس عندك لا يغشك، والذي يكيل لك الذي ليس عندك لا يغشك، إذن فأنت واحد منهي عن أن تفعل ذلك، وجميع الناس منهيون أن يفعلوا ذلك معك، وبذلك تكون أن الكاسب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4237 وإذا جئت إلى قوله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ} ، فأنت مأمور ألا تبخس الناس أشياءهم، وكل الناس مأمورون ألا يبخسوك شيئاً، وإذا أفسدت في الأرض بعد إصلاحها فالناس مأمورون أيضاً ألا يفسدوا هذه الأرض وبذلك تكون احظ منهم في كل شيء. ولذلك يجب على كل مكلف حين يستقبل تكليفاً قد يكون شاقاً على نفسه أن يتأمل هذا التكليف وأن يقول لنفسه: إياك أن تنظر إلى مشقة التكليف على نفسك، ولكن انظر إلى ما يؤديه لنفسه: إياك أن تنظر إلى التكليف لك: لاتنظر إلى محارم غيرك، فقد أمر غيرك ألا ننظر محارمك، وفي هذا عزة لك. وإذا أمرك التكليف ألا تضع يدك في جيب غيرك وتسرق، فقد أمر كل الناس ألا يضعوا أيديهم في جيوبك ليسرقوك، وبهذا نعيش في أمان. وإذا طلب التكليف منك وأنت غني أن تخرج زكاة مالك إياك أن تقول: مالي وتعبي وعرقي؛ لأن المال مال الله، وأنت كإنسان مخلوق ليس لك إلا توجيه الحركة، والحركة تكون بطاقة مخلوقة لله، والعقل الذي خطط مخلوق لله، والانفعال الذي انفعل لك في الأرض من خلق الله، ولكن الحق احترم عملك وناتجه وفرض عليك أن تخرج منه زكاة مقدرة. فإياك أن تقول: أنه يأخذ مني، لماذا؟ لأن عالم الأغيار باد وظاهر أمامك، وكم رأيت من قوي ضعف، ومن غني افتقر، فإذا كان سبحانه قد طلب منك أن تعطي الفقير وتقويه، فإن افتقرت فسيفعل لك ذلك، وفي ذلك تأمين حياتك؛ لأنك تعيش في مجتمع فلا تأس على نفسك إن مرت بك الأغيار لأن مجتمعك الإيماني لن يتركك، أنت أو أولادك، ويقول الحق: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] فإن أردت أن تطمئن على أولادك الصغار بعد موتك فانظر للأيتام في مجتمعك وكن أبا لهم، وحين تصير أنت أباً لهم، وهذا أب لهم، وذلك أب لهم، سيشعر اليتيم أنه فقد أبا واحداً، لكنه يحيا في مجتمع إيماني أوجد له من كل المؤمنين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4238 آباء، فلا يحزن، وكذلك لن تخاف على أولادك إن صاروا أيتاماً بعد أن غادرتهم إلى لقاء ربك؛ لأنك رعيت اليتامى وعشت في مجتمع يرعاهم. ولكنك تحزن عندما ترى يتيماً مضيعاً في مجتمع لا يقوم على شأنه وتقول لنفسك: أنا إن مت سيضيع أبنائي هكذا. وهكذا تكون تكاليف الإيمان هي تأميناً للحياة. ومثال ذلك حين نقول للمرأة: تحجبي، ولا تبدي زينتك لغير محارمك، قد تظن المرأة في ظاهر الأمر أننا ضيقنا على حريتها، لأنها تنسى أن المنهج يؤمن لها قبح الشيخوخة، لأنها حين تتزوج صغيرة، ثم يصل عمرها فوق الأربعين ويتغير شكلها من متاعب الحمل وتربية الأبناء، ثم يرى زوجها فتاة في العشرين وغير محتشمة قد تفتنه وتصرفه عن زوجته، وينظر إلى زوجته نظر غير المكترث بها، وغير الراغب فيها. فالشرع قد أمر بالحجاب للمرأة وهي صغيرة؛ ليصون لها زوجها إن صارت كبيرة غير مرغوب فيها. فإن منعها وهي صغيرة فقد منع عنها وهي كبيرة؛ كل ذلك إذن من تأمينات المنهج للحياة. إذن فإيفاء الكيل، وعدم إبخاس الناس أشياءهم وعدم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها خير للجميع في الدنيا، بالإضافة إلى خير الآخرة، ولذلك يذيل الحق الآية الكريمة بقوله: { ... ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} . [الأعراف: 85] و «ذلكم» إشارة إلى ما سبق من الأمر بعبادة الله فلا إله غيره وإلى الآمر باستيفاء الكيل والميزان، وألا نبخس الناس أشياءهم، وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها، ووضع الحق ذلك في إطار {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} على الرغم من أن الخير سيأتي أيضاً لغير المؤمن، وهكذا تكون كلمة «خير» تشمل خيراً في الدنيا، وخيراً في الآخرة للمؤمن فقط. أما الكافر فسيأخذ الخير في الدنيا فقط، ولا خير له في الآخرة، فإن كنتم مؤمنين فسيضاعف الخير لكم ليصير خيراً دائماً في الدنيا والآخرة. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4239 {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4240 وقوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ} أي لا تقعدوا على كل طريق، لأن من يقعد على الطريق قد يمنع من يحاول الذهاب ناحية الرسول. والشيطان قد قال: { ... لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] فحين تقعدون على كل صراط يصير كل منكم شيطاناً والعياذ بالله؛ لأن الشيطان قال لربنا: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} ، وهنا ينهى الحق عن القعود بكل صراط؛ لأن الصراط سبيل، وحين يجمع الحق السبل لينهي عنها، إنما ليذكرنا أن له صراطاً مستقيماً واحداً، وسبيلاً واحداً يجب علينا أن نتبعه. ولذلك يقول: {فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ... } [الأنعام: 153] إذن فللشيطان سبل متعددة وسبيل الاستقامة واحد، لأن للطرق المتعددة غوايات منوعة، فهذا طريق يغوي بالمال، وذلك يغوي بالمرأة، وذاك يغوي بالجاه. إذن فالغوايات متعددة. أو أن الهداية التي يدعو إليها كل رسول شائعة في كل ما حوله؛ فمن يأتي ناحية أي هداية يجد من يصده. ومن يطلب هداية الرسول يلقى التهديد والوعيد، والمنع عن سبيل الحق. ولماذا يفعلون ذلك؟ تأتي إجابة الحق: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4240 إنهم يبغون ويودون شريعة الله معوجة ومائلة عن الاستقامة، أو تصفونها بأنها غير مستقيمة لتصدوا الناس عن الدخول فيها، ولتنفروا منها، مثال ذلك السخرية من تحريم الخمر والادعاء بأنها تعطي النفس السرور والانسجام. إن الواحد من هؤلاء إنما ينفر من شريعة الله، ويدعي أنها شريعة معوجة، فنجد من يحلل الربا؛ لأن تحريم الربا في رأيهم السقيم المنحرف يضيق على الناس فرصهم. إنهم يبغون شريعة الله معوجة ليستفيدوا هم من اعوجاجها، وينفروا الناس منها. { ... واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} . [الأعراف: 86] نعلم أن كل ردع، وكل توجيه يهدف إلى أمرين اثنين: ترغيب وترهيب، وعلى سبيل المثال نجد المدرس يقول للتلاميذ: من يجتهد فسنعطيه جائزة، وهذا ترغيب، ويضيف الأستاذ للتلاميذ: ومن يقصر في دروسه فسنفصله من المدرسة؛ وهذا ترهيب. وما دام الناس صالحين لعمل الخير ولعمل الشر بحكم الاختيار المخلوق فيهم لله فلا بد من مواجهتهم بالأمرين بالترغيب في الخير والترهيب من الشر. والحق هنا يقول في الترغيب: {واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} . وكأنه يطالبهم بأن يكونوا أصحاب ذوق وأدب، فنحن نعلم أن مدين تزوج وأنجب عدداً من الذرية وكانوا قلة في العدد فكثرهم حتى صاروا قبيلة، وكانوا ضعافاً فقواهم، وكانوا فقراء فأغناهم، فمن صنع فيكم ولكم كل هذه المسائل ألا يصح أن تطيعوا أوامره. كان عليكم أن تطيعوا أوامره. وهذا ترغيب وتحنين. ونعلم أن شعيباً هو خامس نبي جاء بعد نوح، وهود، وصالح، ولوط. لذلك يذكرهم الحق بما حدث لمن كذبوا الأنبياء الأربعة السابقين. وقد يكون قوم نوح معذورين لأنهم كانوا البداية، فلم يسبقهم من أخذ بالعذاب لتكذيب رسلهم، ثم صارت من بعد ذلك قاعدة هي أن من يكذب الرسل يلقى العذاب، مصداقا لقوله الحق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4241 {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ... } [العنكبوت: 40] فإذا كان شعيب ينذرهم بأن ينظروا كيف كان عاقبة المفسدين ممن سبقوهم فهذا تذكير بمن أغرقهم ومن أخذتهم الصيحة، ومن كفأ وقلب ودمر ديارهم، ومن جاء لهم بمطر من سجيل، فإن لم يعرفوا واجبهم نحو الله الذي أنعم عليهم بأن كانوا قليلاً فكثرهم، فعليهم أن يخافوا عاقبة المفسدين. إذن فقد جمع لهم بين الترغيب والترهيب. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4242 وهذا القول يوضح لنا أن طائفة آمنت، وطائفة لم تؤمن، ثم جاء الأمر للطائفتين، فأمر المؤمنين بالصبر تأنيس لهم، وأمر الكافرين بالصبر تهديد لهم. وهذه دقة القرآن في الأداء وعظمة البيان والبلاغة. إذن، فكلمة: فاصبروا نفعت في التعبير عن الأمر بالصبر للذين آمنوا، ونفعت في كشف المصير الذي ينتظر الذين لم يؤمنوا، فصبر الكافرين مآله وعاقبته، إما أن يخجلوا من أنفسهم فيؤمنوا، وإما أن يجدوا العذاب، وصبر المؤمنين يقودهم إلى الجنة، وأن الذي يحكم هو الله وهو خير الحاكمين؛ لأن المحكوم عليهم بالنسبة له سواء، فلا أحد منهم له أفضلية على أحد، ولا أحد منهم قريبه، وإلا قرابة القربى والزلفى إليه، وسبحانه هو العادل بمطلق العدل، ولا يظلم أحداً. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4242 {قَالَ الملأ الذين استكبروا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4243 علمنا من قبل أن الملأ هم السادة، والأعيان الذين يملأون العيون هيبة، ويملأون القلوب هيبة، ويملأون الأماكن تحيزاً. وقد استكبر الملأ من قوم شعيب عن الإيمان به، طغوا وهددوه بأن يخرجوه من أرضهم. وقالوا مثلما قال من سبقوهم. فقد نادى بعض من قوم لوط بأن يخرجوا لوطاً ومن آمن معه من قريتهم. قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] وكلمة «قرية» تأخذ في حياتنا وضعاً غير وضعها الحقيقي، فالقرية الآن هي الموقع الأقل من المدينة الصغيرة. لكنها كانت قديماً البلد الذي توجد فيه كل متطلبات الحياة، بدليل أنهم كانوا يقولوا عن مكة «أم القرى» . وقد وضع شعيباً ومن آمن معه بين أمرين: إما أن يخرجوهم حتى لا يفسدوا من لم يؤمن فيؤمن، وإما أن يعودوا إلى الملة. وهنا «لفتة لفظية» أحب أن تنتبهوا إليها في قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} لأن العود يقتضي وجوداً سابقاً خرج عنه، ونريد أن نعود إلى الأصل، فهل كان شعيب والذين آمنوا معه على ملتهم ثم آمنوا والمطلوب منه أنهم يعودون؟ علينا أن ننتبه إلى أن الخطاب هنا يضم شعيباً والذين معه. وقد يصدق أمر العودة إلى الملة القديمة على الذين مع شعيب، ولكنها لا تصدق على شعيب لأنه نبي مرسل، وهنا ننتبه أيضاً إلى أن الذي يتكلم هنا هم الملأ من قوم مدين، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4243 ووضعوا شعيباً والذين آمنوا معه أمام اختيارين: إما العودة إلى الملة، وإمَّا الخروج، ونسوا أن الحق قد يشاء تقسيماً آخر غير هذين القسمين. فقد يوجد ويريد سبحانه أمراً ثالثاً لا يخرج فيه شعيب والذين آمنوا معه، وأيضاً لا يعودون إلى ملة الكفر، كأن تأتي كارثة تمنع ذلك. لقد عزل الملأ من قوم شعيب أنفسهم عن المقادير العليا، لأن الله قد يشاء غير هذين الأمرين، فقد يمنعكم أمر فوق طاقتكم أن تُخْرِجوا؛ شعيباً ومن آمن معه؛ بأن يصيبكم ضعف لا تستطيعون معه أن تخرجوهم، أو أن يسلط الله عليكم أمراً يفنيكم وينجي شعيباً والذين آمنوا معه. إذن أنت أيها الإِنسان الحادث، العاجز لا تفتئت ولا تفتري وتختلق على القوة العليا في أنك تخير بين أمرين قد يكون لله أمر ثالث لا تعلمه، ويأتي الرد على لسان مَن آمنوا مع شعيب: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88] لقد سأل شعيب والذين معه: أيمكن أن يتم قهر أحد على أن يترك الإِيمان إلى الكفر، كأن الكافرين قد تناسوا أن التكليف مطمور في الاختيار، فالإِنسان يختار بين سبيل الإِيمان وسبيل الكفر. ويتتابع القول من شعيب والذين آمنوا معه: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4244 وقولهم: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} أي أنهم يعلمون أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4244 العودة إلى مثل هذه الملة لون من الكذب المتعمد على الله. لأن الكذب أن تقول كلاماً غير واقع، وتعلن قضية غير حقيقية ثم قلت على مقتضى علمك فهذا مطلق كذب. لكن إن كنت عارفاً بالحقيقة ثم قلت غيرها فهذا افتراء واختلاق وكذب. والذين آمنوا مع شعيب عليه السلام يعلمون أن الملة القديمة ملة باطلة، وهم قد شهدوا مع شعيب حلاوة الإِيمان بالله؛ لذلك رفضوا الكذب المتعمد على الله. ويقولون بعد ذلك: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ... } [الأعراف: 89] قد عرفوا أن التكليف اختيار وهم قد اختاروا الإِيمان، وأقروا وأكدوا إيمانهم بأنه سبحانه له طلاقة القدرة، فقالوا: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} . فمشيئته سبحانه فوق كل مشيئة. ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن قلوب بني آدم كلَّها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقَلْبٍ واحدٍ يصرفُه حيث شاء» . وألم يقل سيدنا إبراهيم وهو أبو الأنبياء والرسل: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام ... } [إبراهيم: 35] لم يقل: واجنبنا. بل قالها واضحة ودعا ربًّه أن يبعده وينأى به وببنيه أن يعبدوا الأصنام، لأنه يعلم طلاقة قدرته سبحانه. إذن فمن آمنوا مع شعيب احترموا طلاقة القدرة في الحق؛ لذلك قالوا: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا ... } [الأعراف: 89] ولكن الله لا يشاء لمعصوم أن يعود، وسبحانه يهدي من آمن بهداية الدلالة ويمده بالمزيد من هداية المعونة إلى الطريق المستقيم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4245 ويتابع أهل الإيمان مع شعيب. { ... وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89] جاء قولهم: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} لأن خصومهم من الملأ بقوتهم وبجبروتهم قالوا لهم: انتم بين أمرين اثنين: إما أن تخرجوا من القرية، وإما أن تعودوا في ملتنا. وأعلن المؤمنون برسولهم شعيب: أن العود في الملة لا يكون إلا بالاختيار وقد اخترنا ألا نعود. إذن فليس أمامهم إلا الإخراج بالإجبار؛ لذلك توكل المؤمنون على الله ليتولاهم، ويمنع عنهم تسلط هؤلاء الكافرين. {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89] وساعة نسمع كلمة «افتح» أو «فتَح» أو «فَتْح» نفهم أن هناك شيئاً مغلقاً أو مشكلاً، فإن كان من المُحسّات يكون الشيء مغلقاً والفتح يكون بإزالة الأغلاق وهي الأقفال، وإن كان في المعنويات فيكون الفتح هو إزالة الإشكال، والفتح الحسي له نظير في القرآن، وحين نقرأ سورة يوسف نجد قوله الحق: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِي هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ... } [يوسف: 65] وكلمة {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ} تعني أن المتاع الذي معهم كان مغلقاً واحتاج إلى فتح حسي ليجدوا بضاعتهم كما هي. وأيضاً يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ... } [الزمر: 73] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4246 ومادام هناك أبواب تفتح فهذا فتح حسي، وقد يكون الفتح فتح علم مثلما نقول: ربنا فتح علينا بالإيمان والعلم، ويقول الحق: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ... } [البقرة: 76] فما دام ربنا قد علمهم من الكتاب الكثير فهذا فتح علمي. ويكون الفتح بسوق الخير والإمداد به. والمثال على ذلك قوله الحق: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ... } [فاطر: 2] وكذلك قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ... } [الأعراف: 96] والبركات من السماء كالمطر وهو يأتي من أعلى، وهو سبب فيما يأتي من الأسفل أي من الأرض. والفتح أيضاً بمعنى إزالة إشكال في قضية بين خصمين، ففي اليمن حتى الآن، يسمون القاضي الذي يحكم في قضايا الناس «الفاتح» لأنه يزيل الإشكالات بين الناس. وقد يكون «الفتح» بمعنى «النصر» ، مثل قوله الحق: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ ... } [البقرة: 89] لقد كانوا ينتظرون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لينتصروا به على الذين كفروا، ومن الفتح أيضاً الفصل في الأمر من قوله الحق هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين ... } [الأعراف: 89] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4247 وهذا القول هو دعاء للحق: احكم يا رب بيننا وبين قومنا بالحق بنصر الإِيمان وهزيمة الكفر، وأنت خير الفاتحين فليس لك هوى ضد أحد أو مع أحدٍ من مخلوقاتك. ويقول الحق بعد ذلك: {وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4248 وهنا يقول الملأ من قوم مدين لمن آمنوا ولمن كان لديهم الاستعداد والتهيؤ للإِِيمان محذرين لهم من اتباع شعيب حتى لا يظل الملأ والكبراء وحدهم في الضلال: وساعة نرى «اللام» في «لئن» نعلم أن هنا قَسَماً دلّت عليه هذه «اللام» . وهنا أيضاً «إن» الشرطية، والقسم يحتاج إلى جواب، والشرط يحتاج كذلك إلى جواب، فإذا اجتمع شرط وقسم اكتفينا بالإِتيان بجواب المتقدم والسابق منهما، مثل قولنا: «والله إن فعلت كذا ليكونن كذا» : {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} . وماذا سيخسرون؟ سيخسرون لأنهم كانوا سيأخذون أكثر من حقهم حين يطففون الكيل ويخسرون الميزان، والقوي يأخذ من الضعيف؛ فإذا ما ارتبطوا بالمنهج واتبعوه خسروا ما كانوا يأخذونه من تطفيف الكيل وبخس وخسران الميزان بمنهج. وهذه هي الخسارة في نظر المنحرف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4248 والرجفة هي الهزّة العنيفة التي ترج الإِنسان رجًّا غير اختياري، وصاروا بها جاثمين أي قاعدين على ركبهم؛ ولا حراك بهم؛ ميتين، وفي هيئة الذلة. وهذا يدل على أن كلا منهم ساعة أُخِذ تذكر كل ما فعله من كفر وعصيان، وأراد استدراك ما فاته من مخالفاته للرسول، وأخذ يوبخ نفسه ويندم على ما فعل، ولم تأخذه الأبهة والاستكبار، لأن هناك لحظة تمر على الإِنسان لا يقدر فيها أن يكذب على نفسه، ولذلك نجد أن من ظلم وطغى وأخذ حقوق الغير ثم يأتيه الموت يحاول أن ينادي على كل من بغى عليه أو ظلمه ليعطيه حقه لكنه لا يجده. ولذلك يسمون تلك اللحظة أنها التي يؤمن فيها الفاجر، لكن هل ينفع إيمانه؟ طبعاً لا. في هذه الحالة لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل. ويتابع سبحانه وصف ما حدث لهم إثر الرجفة: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4249 وغنى بالمكان: أقام به؛ فحين صاروا جاثمين وخلت منهم الديار، كأنهم لم تكن لهم إقامة إذ استؤصلوا وأهلكوا إهلاكاً كاملا، وإذا كان هؤلاء المكذبون قد قالوا: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} فيكون مآلهم هو ذكره ربنا بقوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين} . ويتتابع قوله الحق عن سيدنا شعيب: {فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4249 و «تولى عنهم» أي تركهم وسار بعيداً عنهم، وحدثهم متخيلاً إياهم {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} ، فكأن المنظر العاطفي الإنساني حين رأى كيف أصبحوا، وتعطف عليهم وأسى من أجلهم، لكن يرد هذا التعاطف متسائلا متعجباً {فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ} ؟ إنهم نوع من الناس لا يحزن عليهم المؤمن. فما بالنا بنبي ورسول؟ إنه يحدث نفسه وكأنه يقول: ما قصرت في مهمتي، بل أبلغتكم رسالاتي التي تلقيتها من الله، والرسالات إذا جمعت فالمقصود منها أو رسالته ورسالة الرسل السابقين في الأمور التي لم يحدث فيها نسخ ولا تغيير، أو رسالاته أي في كل أمر بلغ به؛ لأنه كان كلما نزل عليه حكم يبلغه لهم. أو أن لكل خير رسالة، ولكل شر رسالة، وقد أبلغهم كل ما وصله من الله، ولم يقتصر على البلاغ بل أضاف عليه النصح، والنصح غير البلاغ، فالبلاغ أن تقول ما وصلك وينتهي الأمر، و «النصح» هو الإلحاح عليهم في أن يثوبوا إلى رشدهم وأن يتبعوا نهج الله. ويقول الحق بعد ذلك: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4250 وعرفنا من قبل أن القرية هي البلد الجامع لكل مصالح سكانها في دنياهم. والمقصود هنا أن القرية التي يرسل إليها الحق رسولاً ثم تُكَذِّب فسبحانه يأخذ أهلها بالبأساء والضراء. والبأساء هي المصيبة تصيب الإنسان في أمر خارج عن ذاته؛ من مال يضيع، أو تجارة تبور وتهلك، أو بيت يهدم، والضراء هي المصيبة التي تصيب الإنسان في ذاته ونفسه كالمرض، ويصيبهم الحق بالبأساء والضراء لأنهم نسوا الله في الرخاء فأصابهم بالبأساء والضراء لعلهم يرجعون إلى ربهم ويتعرفون إليه، ليكون معهم في السراء والضراء. والحق يقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4250 {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ ... } [يونس: 12] وكان من الواجب على الإنسان أنه ساعة ما تمسه الضراء أن يتجه إلى خالقه، ولقد جعل الله الضراء وسيلة تنبيه يتذكر بها الإنسان أن له ربا، وفي هذه اللحظة يجيب الحق الإنسان المضطر، ويغيثه مصداقاً لقوله الحق: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] وإذا صنع الله مع المضطر هذا فقد يثوب إلى رشده ويقول: إن الإله الذي لم أجد لي مفزعاً إلا هو، لا يصح أن أنساه وكأن الحق سبحانه وتعالى يذكرنا بطلاقة قدرته حين يقول: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ... } [الأنعام: 43] وكأنه سبحانه يطلب منا حين تجيء البأساء أن نفزع إليه ولا نعتقد أننا نعيش الحياة وحدنا، بل نعيش في الحياة بالأسباب المخلوقة لله وبالمسبب وهو الله، فالذي عزت عليه الأسباب وأتعبته يروح للمسبب، ولذلك يأخذ سبحانه أية قرية لا تصدق الرسل بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون وذلك رحمة بهم. ويقول: {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ... } [الأنعام: 43] فهل يتركهم الله في السراء والضراء دائماً؟ لا، فهو سبحانه يجيئهم ويبتليهم بالبأساء والضراء ليلفتهم إليه، فإذا لم يلتفتوا إلى الله، فسبحانه يبدل مكان السيئة الحسنة، لذلك يقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4251 {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4252 ويعطي سبحانه بعد ذلك لهم الرزق، والعافية، والغنى؛ لأن الحق إذا أراد أن يأخذ جباراً أخذ عزيز مقتدر فهو يمهله، ويرخي له العِنان ليتجبر - كفرعون - من أجل أن يأخذه بغتة، كأنه يسقط من أعلى، فيعليه من أجل أن ينزل به - كما يقولون - على جذور رقبته: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ} . (عَفَوْا) أي كثروا عدداً ومالاً وقوة أي أنه ما أخذهم سبحانه بالبأساء والضراء إلاِّ وكان القصد منها أن يلفتهم إليه، فلم يلتفتوا، فيمدهم ويعطي لهم العافية وما يسرّهم، ثم يصيبهم بالعذاب بغتة. {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95] ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن تكلم على خلافة الإِنسان في الأرض، وأنه أمده بكل ما تقوم به حياته، وأمده بالقيم بواسطة مناهج السماء، وأنزل المنهج مبينا ما أحل، وما حرم بعد أن كانوا يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، فبيّن لهم الحق أن الذي خلق الخلق عالم بما يصلحهم فأحله، وعالم بما يفسدهم فحرّمه، فليس لكم أن تقترحوا على الله حلالاً، ولا حراماً، ولكن بعض المشككين في منهج الله قالوا - ومازالوا يقولون -: إذا كان الله قد أحل شيئاً وحرم شيئاً فلماذا خلق ما حرم؟ ونقول: لقد خلق سبحانه كل شيء لحكمة قد تكون لغير الطعام والشراب والكسوة، فبعض الأشياء يكون مخلوقاًَ لمهمة وإن لم تكن مباشرة لك؛ فالبترول مثلاً مخلوق لمهمة أن يوجد طاقة، لذلك لا نشربه. والخنزير مخلوق لحكمة لا نعلمها نحن، وإنما يعلمها من خلق، لأنه من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4252 الجائز أن يكون أداة لالتقاط الميكروبات التي تنشأ من عفن الأشياء التي يستعملها الناس في حياتهم، إذن فكل شيء مخلوق لحكمة، فلا تخرج أنت حكمة الأشياء من غير مراد خالقها؛ لأن صانع الصنعة هو الذي يحدد الشيء الذي يوجد وينشئ القوة لها. ونحن نعلم - مثلاً - أن أنواع الوقود كثيرة، فهناك «البنزين» النقي جداً ويرقمونه برقم (1) وهو مخصص للطائرة، ووقود السيارة وهو «البنزين» رقم (2) . فإذا استخدمنا وقود ماكينة وآلة بدل ماكينة أخرى أفسدناها. كذلك خلق الله الإنسان وسخر له كل المخلوقات وأوضح: هذا يصلح لك مباشرة، وهذا مخلوق ليخدمك خدمة غير مباشرة فدعه في مكانه. وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى مواقف الجنة، ومواقف النار، ومواقف أصحاب الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم؛ وبعد أن بين المنهج كله أراد أن يبين أن ذلك ليس نظرياً، وإنما هو واقع كوني أيضاً. ففرق بين الشيء يقال نظرا، والشيء يقع واقعاً، فقص علينا قصص الأنبياء حين أرسلهم إلى أقوامهم، فمن كذب بالرسل أخذه الله أخذ عزيز مقتدر بواقع يشهده الجميع؛ فذكر نوحا مع قومه، وذكر عاداً وأخاهم هوداً، وذكر ثمود وأخاهم صالحاً، ومدين وأخاهم شعيباً، وقوم لوط وسيدنا لوطا. وبين ما حدث للمؤمنين بالنجاة، وما حدث للكافرين بالعطب والإذلال، ويوضح الحق سبحانه وتعالى: أنني آخذ الناس بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، لأن الإنسان مخلوق أفاض الله عليه من صفات جلاله، ومن صفات جماله الشيء الكثير، فالله قوي، وأعطى الإنسان من قوته. والله غني وأعطى الإنسان من غناه، والله حكيم وأعطى الإنسان من حكمته، والله عليم وأعطى الإنسان من علمه. وإذا أردت أن تستوعب ما يقربك إلى كمال العلم في الله، فانظر ما علمه لكل خلق الله. ومع ذلك فعلمهم ناقص. ويريدون إلى العلم الذاتي في الحق سبحانه وتعالى، وربما غر الإنسان بالأسباب وهي تستجيب له، فهو يحرث ويبذر ويروي، وإذا بالأرض تعطيه أكلها. وهو يصنع الشيء فيستجيب له. كل ذلك قد يغريه بأن الأشياء استجابت لذاتيته فيذكره الله: أن أذكر من ذللها لك. {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4253 وساعة ما يجد الإِنسان أن كل الأسباب مواتية له فعليه أن يذكر الله. إن الإِنسان بمجرد إرادة أن يقوم من مكانه فهو يقوم. وبمجرد إرادة أن يصفع أحداً فهو يصفعه؛ لأن الأبعاض التي في الإِنسان خاضعة لمراده، فإذا كانت أبعاضك خاضعة لمراداتك أنت، وأنت مخلوق، فكيف لا يكون الكون كله مراداً للحق بالإِرادة؟ فإذا استغنى الإِنسان بالأسباب، فالحق يلفته إليه. فالقادر الذي كان بفتوته يفعل. سلب الله منه القدرة بالمرض؛ فيمد يده ليساعده إنسان على القيام والذي اعتز بشيء يذله الله بأشياء. لماذا؟ حتى يلفته إلى المسبِّب، فلا يُفتن بالأسباب. ويدع لنا الحق سبحانه وتعالى في كونه عجائب، ونجد العالم وقد تقدم الآن تقدماً فضائيًّا واسعاً، واستطاع الإِنسان أن يكتشف من أسرار كون الله ما شاء، ولكن الحق يصنع لهم أحياناً أشياء تدلهم على أنهم لا يزالون عاجزين. فبعد أن تكتمل لهم صناعة الآلات المتقدمة يكتشفون خطأ واحداً يفسد الآلة ويحطمها، وتهب زوبعة أو إعصار يدمر كل شيء، أو يشتعل حريق هائل. فهل يريد الله بكونه فساداً وقد خلقه بالصلاح؟ لا، إنه يريد أن يلفتنا إلى ألا نغتر بما أوتينا من أسباب. فالذين عملوا «الرادار» لكي يبين لهم الحدث قبل أن يقع، يفاجئهم ربنا - أحياناً - بأشياء تعطل عمل «الرادار» ، فيعرفون أنهم مازالوا ناقصي علم. إذن فالأخذ بالبأساء، والأخذ بالضراء، سنة كونية الإِنسان فاهماً وعالماً أنه خليفة في الأرض لله. وفساد الإِنسان أن يعلم أنه أصيل في الكون، فلو كنت أصيلاً في الكون فحافظ على نفسك في الكون ولا تفارقه بالموت. وإن كنت أصيلاً في الكون فذلل الكون لمراداتك. ولن تستطيع؛ لأن هناك طبائع في الكون تتمرد عليك، ولا تقدر عليها أبداً. وترى أكثر من مفاعل ذري ينفجر بعد إحكامه وضبطه لماذا؟ {ليدل على طلاقة القدرة وأن يد الله فوق أيديهم، إذن فأخذ الناس بالبأساء والضراء، وبالشيء الذي نقول إنه شر إنما هو طلب اعتدال للإِنسان الخليفة، حتى إذا اغتر يرده الله سبحانه وتعالى من الأسباب إلى المسبِّب. وحين يأخذ الله قوماً بالبأساء التي تصيب الإِنسان في غير ذاته: مال يضيع، ولد يفقد، بيت يهدم، أو يأخذهم بالضراء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4254 وهي الأشياء التي تصيب الإِنسان في ذاته، فلذلك ليسلب منهم أبهة الكبرياء، فلا يجدون ملجأ إلا أن يخضعوا لرب الأرض والسماء، ولكي يتضرعوا إلى الله، ومعنى التضرع - كما عرفنا - إظهار الذلة لله. وإذا لم يُجْدِ وينفع فيهم هذا، وقالوا: لا، إن البأساء والضراء مجرد سنن كونية، وقد تأتي للناس في أي زمان أو مكان. نقول لهم: صحيح البأساء والضراء سنن كونية من مكوّن أعلى من الكون، فإذا لم يرتدعوا بالبأساء والضراء ويرجعوا إلى ربهم ويتوبوا إليه يبتليهم الله بالنعماء، فهو القائل: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] فالمجتمعات حين تبتعد عن منهج السماء نجد الحق ينتقم منهم انتقاماً يناسب جرمهم، ولو أنه أخذهم على حالهم المتواضع فلن تكون الضربة قوية؛ لذلك يوسع عليهم في كل شيء حتى إذا ما سلب منهم وأخذهم بغتة وفجأة تكون الضربة قوية قاصمة ويصيبهم اليأس والحسرة. وقديماً قلنا تعبيراً ريفيًّا هو: إن الإِنسان إن أراد أن يوقع بآخر لا يوقعه من على حصيرة، إنما يوقعه من مكان عال. وربنا يعطي للمنكرين الكثير ويمدهم في طغيانهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وقد دلت وقائع الحياة على هذا، ورأينا أكثر من ظالم وجبار في الأرض والحق يملي له في العلو ويمد له في هذه الأسباب ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ولو بواسطة حارسه. {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95] وقد يضبط الإِنسان أشياء تُعْلمه بواقع الشر في مستقبله. مثلها مثل «الرادار» الذي يكشف لنا أي خطر في الأفق قبل أن يأتي، وحين يقول سبحانه: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي ليس عندهم حساب ولا مقاييس تدلهم على أن شرًّا يحيق بهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4255 وأنت لو نظرت إلى هذه المسألة لوجدت الإِنسان بعقله وفكره الذي لم يسلك فيه طريق الله بل سلك فيه السبيل غير الممنهج بمنهج الله، وبينما لا يلتفت الانسان إلى مجيء الكارثة، ويتساءل: لماذا تجري هذه الحيوانات؟} إنه في هذه الحالة يكون أقل من الحيوانات؛ لأن الحيوان من واقع الأحداث في بلد تحدث فيه الزلازل يكون أول خارج من منطقة الزلزال، إنَّ الله قد سلبه هذه المعرفة حتى تتمكن منه الضربة، إننا نجد الحمار يجري ليغادر مكان الزلزال، بينما يظل الإِنسان واقفاً حتى يحيق ويحيط به الخطر، فأي إحساس وأي استشعار عند الحيوان؟ إنه استشعار غريزي خلقه ربه فيه؛ لأنه سلب منه التعقل فأعطاه حكمة الغرائز. وما دام الحق قد نبه الإِنسان بالبأساء فلم يلتفت، وبالضراء فلم ينتبه إلى المنهج؛ لذلك يأتي له الحق ويمد له بالطغيان. لكن أهل الإِيمان أمرهم يختلف، فيقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4256 أي أنهم لو آمنوا بالموجود الأعلى، واتقوا باتباع منهجه أمراً باتباع أمراً ونهيًا تسلم آلاتهم، لأن الصانع من البشر حتى يصنع آلة من الآلات، يحدد ويبيّن الغاية من الآلة قبل أن يبتكرها، ويصمم لها أسلوب استخدام معين، وقانون صيانة خاصا لتؤدي مهمتها، فما بالنا بمن خلق الإِنسان، إذن فالبشر إذا تركوا رب الإِنسان يضع منهج صيانة الإِنسان لعاش هذا الإِنسان في كل خير، وسبحانه وتعالى أوضح أنهم إن اتقوا، تأت لهم بركات من السماء والأرض، فإن أردتها بركات مادية تجدها في المطر الذي ينزل من أعلى، وبركات من الأرض مثل النبات، وكذلك كنوزها التي تستنبط منها الكماليات المرادة في الحياة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4256 وما معنى البركة؟ . البركة هي أن يعطي الموجودُ فوق ما يتطلبه حجمه؛ كواحد مرتبه خمسون جنيهاً ونجده يعيش هو وأولاده في رضا وسعادة، ودون ضيق، فنتساءل: كيف يعيش؟ ويجيبك: إنها البركة. وللبركة تفسير كوني لأن الناس دائماً - كما قلنا سابقاً - ينظرون في وارداتهم إلى رزق الإِيجاب، ويغفلون رزق السلب. رزق الإِيجاب أن يجعل سبحانه دخلك آلاف الجنيهات ولكنك قد تحتاج إلى أضعافهم، ورزق السلب يجعل دخلك مائة جنيه ويسلب عنك مصارف كثيرة، كأن يمنحك العافية فلا تحتاج إلى أجر طبيب أو نفقة علاج. إذن فقوله: {بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} أي أن يعطي الحق سبحانه وتعالى القليل الكثير في الرزق الحلال، ويمحق الكثير الذي جاء من الحرام كالربا، ولذلك سمى المال الذي نخرجه عن المال الزائد عن الحاجة سماه زكاة مع أن الزكاة في ظاهرها نقص، فحين تملك مائة جنيه وتخرج منها جنيهين ونصف الجنيه يكون قد نقص مالك في الظاهر. وإن أقرضت أحداً بالربا مائة جنيه فأنت تأخذها منه مائة وعشرة، لكن الحق سمى النقص في الأولى نماء وزكاة، وسمى الزيادة في الثانية محقا وسحتاً، وسبحانه قابض باسط. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] إذن فلو أخذ الإِنسان قانون صيانته من خالقه لاستقامت له كل الأمور، لكن الإِنسان قد لا يفعل ذلك. ويقول الحق: {ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} . وهكذا نعلم أن الأخذ ليس عملية جبروت من الخالق، وإنما هي عدالة منه سبحانه؛ لأن الحق لو لم يؤاخذ المفسدين، فماذا يقول غير المفسدين؟ . سيقول الواحد منهم: مادمنا قد استوينا والمفسدين، وحالة المفسدين تسير على ما يرام، إذن فلأفسد أنا أيضاً. وذلك يغري غير المفسد بأن يفسد، ويعطي لنفسه راحتها وشهوتها، لكن حين يأخذ الله المفسدين بما كانوا يكسبون، يعلم غير المفسد أن سوء المصير للمفسد واضح، فيحفظ نفسه من الزلل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4257 كان القياس أنه يقول سبحانه: بما كانوا يكتسبون، لأن مسألة الحرام تتطلب انفعالات شتى، وضربنا المثل من قبل بأن إنساناً يجلس مع زوجته، وينظر إلى جمالها ويملأ عينيه منها، لكن إن جلس مع أجنبية وأراد أن يغازلها ليتمتع بحسنها، فهو يناور ويتحايل، وتتضارب ملكاته بين انفعالات شتى، وهو يختلف في ذلك عن صاحب الحلال الذي تتناسق ملكاته وهو يستمتع بما أحل له الله، ولكنْ هؤلاء المفسدين تدربوا على الفساد فصار دربة تقرب من الملكة فقال فيهم الحق: إنهم يكسبون الفساد، ولا يجدون في ارتكابه عنتا. ويقول الحق بعد ذلك: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4258 ونلحظ وجود ذ «همزة استفهام» و «فاء تعقيب» في قوله: {أَفَأَمِنَ} وهذا يعني أن هناك معطوفاً ومعطوفاً عليه، ثم دخل عليهما الاستفهام، أي أنهم فعلوا وصنعوا من الكفر والعصيان فأخذناهم بغتة، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا وعذابنا بياتاً أو ضحى كما صنع بمن كان قبلهم من الأمم السابقة؟ هم إذن لم يتذكروا ما حدث للأمم السابقة من العذاب والدمار. ويوضح الحق أن الذين كذبوا من أهل القرى، هل استطاعوا تأمين أنفسهم فلا يأتيهم العذاب بغتة كما أتى قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب؟ والبأس هو الشدة التي يؤاخذ بها الحق سبحانه الأمم حين يعزفون عن منهجه. وما الذي جعلهم يأمنون على أنفسهم أن تنزل بهم أهوال كالتي نزلت بمن سبقهم من الأمم. وحين يتكلم الحق عن الأحداث فهو يتكلم عما يتطلبه الأحداث من زمان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4258 ومكان؛ لأن كل حدث لابد له من زمن ولابد له من مكان، ولا يوجد حدث بلا زمان ولا مكان، والمكان هنا هو القرى التي يعيش فيها أهلها، والزمان هو ما سوف يأتي فيه البأس، وهو قد يأتي لهم وهم نائمون، أو يأتي لهم ضحى وهم يلعبون، وهذه تعابير إلهية، والإِنسان إذا ما كان في مواجهة الشمس فالدنيا تكون بالنسبة له نهاراً. والمقابل له يكون الليل. وقد يجيء البأس على أهل قرية نهاراً، أو ليلاً في أي وقت من دورة الزمن، ونعلم أن كل لحظة من اللحظات للشمس تكون لمكان ما في الأرض شروقاً، وتكون لمكان آخر غروباً، وفي كل لحظة من اللحظات يبدأ يوم ويبدأ ليل، إذن أنت لا تأمن يا صاحب النهار أن يأتي البأس ليلاً أو نهاراً، وأنت يا صاحب الليل لا تأمن أن يكون البأس نهاراً أو ليلاً. وأهل القرى هم الذين قال الله فيهم: { ... ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] وماداموا قد كذبوا فمعنى ذلك أنهم لم يؤمنوا برسول مبلغ عن الله، وتبعاً لذلك لم يؤمنوا بمنهج يحدد قانون حركتهم ب «افعل» و «لا تفعل» . إذن فنهارهم هو حركة غير مجدية، وغير نافعة، بل هي لعب في الحياة الدنيا، وليلهم نوم وفقد للحركة، أو عبث ومجون وانحراف، وكل من يسير على غير منهج الله يقضي ليله نائماً أو لاهيًا عاصيًّا، ونهاره لاعباً؛ لأن عمله مهما عظم، ليس له مقابل في الآخرة من الجزاء الحسن. ويقول الحق بعد ذلك: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4259 و «الأمن» هو الاطمئنان إلى قضية لا تثير مخاوف ولا متاعب، ويقال: فلان « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4259 آمن» ؛ أي لا يوجد ما يكدر حياته. والحق يقول: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله} ونحن نسمع بعض الكلمات حين ينسبها الله لنفسه نستعظمها، ونقول: وهل يمكر ربنا؟ لأننا ننظر إلى المكر كعملية لا تليق. . وهنا نقول: انتبه إلى أن القرآن قد قال: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ... } [فاطر: 43] إذن ففيه مكر خير، ولذلك قال الحق: { ... والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] والمكر أصله الالتفاف. وحين نذهب إلى حديقة أو غابة نجد الشجر ملتف الأغصان وكأنه مجدول بحيث لا تستطيع أن تنسب ورقة في أعلى إلى غصن معين؛ لأن الأغصان ملفوفة بعضها على بعض، وكذلك نرى هذا الالتفاف في النباتات المتسلقة ونجد أغصانها مجدولة كالحبل. إذن فالمكر مؤداه أن تلف المسائل، فلا تجعلها واضحة. ولكي تتمكن من خصمك فأنت تبيت له أمراً لا يفطن إليه، وإذا كان الإِنسان من البشر حين يبيت لأخيه شرًّا، ويفتنه فتناً يُعمي عليه وجه الحق وليس عند الإِنسان العلم الواسع القوي الذي يمكر به على كل من أمامه من خصوم لأنهم سيمكرون له أيضاً. وإذا كان هناك مكر وتبييت لا يكتشفه أحد فهو مكر وتبييت الله لأهل الشر، وهذا هو مكر الخير؛ لأن الله يحمي الوجود من الشر وأهله بإهلاكهم. {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99] وهناك من يسأل: هل أمن الأنبياء مكر الله؟ نقول نعم. لقد آمنوا مكر الله باصطفائهم للرسالة، وهناك من يسأل: كيف إذن لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون؟! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4260 نقول: لقد جاء في منهج الرسل جميعاً أن الذي يأمن مكر الله هو الخاسر؛ لأن الله هو القادر، وهو الذي أنزل المنهج ليختار الإِنسان به كسب الدنيا والآخرة إن عمل به، وإن لم يعمل به يخسر طمأنينة الإِيمان في الدنيا وإن كسب فيها مالا أو جاها أو علماً، ويخسر الآخرة أيضاً. ويتابع سبحانه: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4261 و {يَهْدِ} أي يبين للذين يرثون الأرض طريق الخير، ومعنى {يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ} أن الأرض كانت مملوكة لسواهم، وهم جاءوا عقبهم. وحين يستقرئ الإِنسان الوجود الحضاري في الكون يجد أن كل حضارة جاءت على أنقاض حضارة، وما في يدك وملكك جاء على أنقاض ملك غيرك، والذي يأتي على أنقاض الغير يسمى إرثاً، ومادمتم قد رأيتم أنكم ورثتم عن غيركم كان يجب أن يظل في بالكم أن غيركم سيرثكم. إذن فالمسألة دُوَلٌ، ويجب ألا يغتر الإِنسان بموقع أو منصب، ونحن نرى في حياتنا من يحتل منصباً كبيراً، ثم يُقال ويعزل عن منصبه، أو يحال إلى التقاعد ويأتي آخر من بعده. ولذلك يقال: لو دامت لغيرك ما وصلت إليك. فإن كنت صاحب مكانة وقد أحسنت الدخول إلى وضعك وإلى جاهك، وإلى منصبك؛ فيجب أن تفطن وتتذكر الخروج قبل الدخول إلى هذا المنصب حتى لا يعز عليك فراقه يوماً. واحذر أن تحسن الدخول في أمر قبل أن تحاول أن تحسن الخروج منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4261 واستمع إلى قول الشاعر في هذا المعنى: إن الأمير هو الذي يُمسي أميراً يوم عزلهْ ... إن زال سلطان الإِمارة لم يزل سلطانُ فضلِهْ وحين يقول الحق: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض} . نلحظ أنه سبحانه لم يجعل المهديين هنا على وضع المفعول، فلم يقل: أو لم يهد الذين، بل قال: {يَهْدِ لِلَّذِينَ} ، فما الحكمة في ذلك؟ . نعرف أن «الهداية» هي الدلالة على الطريق الموصل للغاية، وقد تعود فائدته عليك، أي أنك قد هَدَيْت غيرك لصالحك. وقد تكون الهداية وهي الدلالة على فعل الخير لأمر يعود على الذي هَدَى وعلى المَهْدِيّ معاً، لكن إذا كانت الهداية لا تعود إلا لك أنت، ولا تعود على مَن هداك، أتشك في هدايته لك؟ لا، إن من حقك أن تشك في الهداية إذا كان هذا الأمر يعود على من هَدَى، أو يعود أمرها على الاثنين؛ ففي ذلك شبهة لمصلحة، لكن إذا كان الأمر لا يعود على من يَهْدِي ويعود كله لمن يُهْدَي فليس في ذلك أدنى شك. ولذلك يقول الحق سبحانه في حديثه القدسي: « ... يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني ِ فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المَخْيط إذا أُدْخِلَ البحر» . إذن فحين يهديهم الحق إلى الصراط المستقيم فما الذي يعود عليه سبحانه من صفات بهذا العمل؟ لقد خلقكم بصفات الكمال فيه، فلن ينشئ خلقه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4262 لكم صفة من صفات الكمال زائدة على ما هو له، وهكذا نرى أن كل هداية راجعة إلى المَهْدِيّ. وبذلك يتأكد قوله: {يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض} ما هو مصلحتهم. {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100] والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن المشيئة يقول: {لَّوْ نَشَآءُ} ويحدد أسباب المشيئة وهو قوله: {أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} ، وهكذا نعلم أن المشيئة ليست مشيئة ربنا فقط لا، بل هي أيضاً مشيئة العباد الذين ميزهم بالاختيار، وسبحانه يقول: {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً ... } [الرعد: 31] وما الذي يمنعه سبحانه أن يشاء هداية الناس جميعاً؟ . لا أحد يمنع الخالق، ولكنه سبحانه خلق خلقاً مهديين بطبيعتهم، لا قدرة لهم على المعصية وهم الملائكة، وجعل سائر أجناس الأرض مسخرة مسبحة، وذلك يثبت صفة القدرة، فلا يستطيع أحد أن يخرج عن مراد الله، ولكن هذا لا يعطي صفة المحبوبية للمشرع الأعلى، ثم إنه - سبحانه - خلق خلقاً لهم اختيار في أن يطيعوا وأن يعصوا. فالمخلوق الذي اختصه سبحانه بقدرة الاختيار في أن يؤمن وأن يكفر، وأن يطيع وأن يعصي، ثم آمن يكون إيمانه دليلا على إثبات صفات المحبوبية للإِله. إذن المقهورون على الفعل أثبتوا القدرة، والمختارون الفعل أثبتوا المحبوبية للمشروع الأعلى، ويتابع سبحانه في الآية نفسها: {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} . [الأعراف: 100] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4263 ونلحظ أن الحق لم يقل أنه لو نشاء أصبناهم لذنوبهم وذلك رحمة منه، بل جعل العقاب بالذنوب التي يختارونها هم، وكذلك جعل الطبع على القلوب نتيجة للاختيار. وسبق أن تكلمنا في أول سورة البقرة. عن كلمة «الطبع» ؛ وهو الختم: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ ... } [البقرة: 7] لأن القلوب وعاء اليقين الإِيماني؛ فحين يملأ إنسان وعاء اليقين الكفر، فهذا يعني أنه عشق الكفر وجعله عقيدة عنده؛ لذلك يساعده الله على مراده، وكأنه يقول له: أنا سأكون على مرادك، ولذلك أطبع على قلبك فلا يخرج ما فيه من الكفر، ولا يدخل فيه ما خرج منه من الإِيمان الفطري الذي خلق الله الناس عليه. لأنك أنت قد سَبَّقت ووضعت في قلبك قضية يقينية على غير إيمان؛ لأن أصول الإِيمان أن تُخْرِج ما في قلبك من أي اعتقاد، ثم تستقبل الإِيمان بالله، ولكنك تستقبل الكفر وترجحه على الإِيمان. إن الله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه: قلب يؤمن، وقلب لا يؤمن، بل جعل قلباً واحداً، والقلب الواحد حيز، والحيز - كما قلنا - لا تداخل للمحيَّز فيه؛ فحين نأتي بزجاجة فارغة ونقول: إنها «فارغة» فالذي يدل على كذب هذه الكلمة أننا حين نضع فيها المياه تخرج منها فقاقيع الهواء، وخروج فقاقيع الهواء هو الذي يسمح بدخول المياه فيها؛ لأن الزجاجة ليست فارغة، بل يخيل لنا ذلك؛ لأن الهواء غير مرئي لنا. ولو كانت الزجاجة مفرغة من الهواء دون إعداد دقيق قي صناعتها لتلك المهمة لكان من الحتمي أن تنكسر. والقلب كذلك له حيز إن دخل فيه الإِيمان بالله لا يسع الكفر، وإن دخل فيه الكفر - والعياذ بالله لا يسع الإِيمان، والعاقل هو من يطرح القضيتين خارج القلب، ثم يدرس هذه ويدرس تلك، وما يراه مفيداً لحياته ولآخرته يسمح له بالدخول. أما أن تناقش قضية الإِيمان بيقين قلبي بالكفر فهذه عملية لا تؤدي إلى نتيجة. {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4264 على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100] أي أو لم يتبيّن للذين يُستخلفون في الأرض من بعد إهلاك الذين سبقوهم بما فعلوا من المعاصي والكفر فسار هؤلاء القوم سيرة من سبقهم وعملوا أعمالهم وعصوا ربهم أن لو نشاء فعلنا بهم من العذاب كما فعلنا بمن قبلهم وقوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي السماع المؤدي إلى الاعتبار والاتعاظ فكأنهم لم يسمعوا. ويقول الحق بعد ذلك: {تِلْكَ القرى نَقُصُّ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4265 هذا هو المراد في سرد القصص بالنسبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي أوضحه الحق في موضع آخر من القرآن فقال: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ... } [هود: 120] فإذا ما حدث لك من أمتك وقومك شيء من العناد والإِصرار والمكابرة فاعلم أنك لست بدعاً من الرسل؛ لأن كل رسول قد قابلته هذه الموجة الإِلحادية من القوم الذين خاطبهم. وإذا كان رسول يأخذ حظه من البلاء بقدر ما في رسالته من العلو فلابد أن تأخذ أنت ابتلاءات تساوي ابتلاءات الرسل جميعاً. {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4265 بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} [الأعراف: 101] والطبع - كما قلنا - هو الختم؛ لأن قلوبهم ممتلئة بالضلال؛ لذلك يعلنون التكذيب للرسول. وقد طبع الله على قلوبهم لا قهراً منه، ولكن لاستبطان الكفر وإخفائه في قلوبهم. ويقول الحق بعد ذلك: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4266 وهؤلاء الذين كذبوا الرسل، وردوا منهج الله الذي أرسله على ألسنة رسله. كانت لهم عهود كثيرة. فما وفوا بعهد منها، مثال ذلك: العهد الجامع لكل الخلق، وهو العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم من صلبه حين مسح الله على ظهر آدم، وأخرج ذريته وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] وقد يقف العقل في أخذ مثل هذا العهد على الذرية الموجودة في آدم؛ لذلك نقول: إذا قال الله فقد صدق عَقِلْنا ذلك أو لم نعقله، إنك لو نظرت إلى «آحاد البشر» ، أي إلى الأفراد الموجودين، تجد نفسك وغيرك يجد نفسه نسلاً لآبائكم، وهذا يدل على أنَّ الإِنسان وجد من حيوان منوي حي انتقل إلى بويضة حيّة من أمه فنشأ هذا الإنسان. ولو طرأ على الحيوان المنوي موت، أو طرأ على البويضة موت امتنع الإِنسال. إذن فكل إنسان منا جزء من حياة أبيه، وأبوه جزء من حياة والده، ووالده جزء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4266 من حياة أبيه، وإن سلسلت ذلك فسنصل لآدم، فكل واحد من ذرية آدم إلى أن تقوم الساعة فيه جزئ حي من آدم. ومادام فيه جزئ حي من آدم فقد شهد الخلق الأول، ولذلك حين يسألهم الله سؤال التقرير ويقول: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ؟ فيقولون: {بلى} . وضربنا المثل لنقرب وقلنا إن الذرة الشائعة في شيء، تشيع في أضعاف الشيء، وسبق أن قلنا: إننا إذا جئنا بمادة حمراء - مثلاً - في حجم سنتيمتر مكعب، ثم أذبناها في قارورة، وبذلك يصبح كل جزء في القارورة فيه جزء من المادة الملونة، وإن أخذت القارورة وألقيتها في برميل واسع، هنا تصير كل قطرة من البرميل فيها جزيء من المادة الحمراء، وإن أخذت ماء البرميل وألقيته في البحر فكل ذرة في البحر الواسع يصير فيها جزيء من المادة الملونة، وهكذا يقرب من ذهن كل منا أن في كل إنسان جزيئاً من آدم، وقد شهد هذا الجزئ العهد الأول. ولقائل أن يسأل: كيف يخاطب الله الذر الذي كان موجوداً في ظهر آدم؟ . نقول: كما خاطب الأرض وخاطب السماء، فهو القائل: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] إذن فعدم إدراكنا لكيفية الخطاب بين رب ومربوب، لا يقدح في أن هذه المسألة لها أصل ولها وجود. وهذا بالنسبة للعهد الأول، وبعده العهد الثاني الذي أخذه الله على رسله، مصداقاً لقوله الحق: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4267 ثم هناك عهود خاصة أنشأتها الأحداث الخاصة، مثلما يقول الحق سبحانه وتعالى: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22] إنهم لا يسلمون أنفسهم للعطب، ولا يغترون بجاههم وبالأسباب التي عندهم لأنها قد امتنعت، ولذلك لا يغشون أنفسهم بل يلجأون صاغرين إلى الله قائلين: { ... لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22] هكذا نرى أنهم أعطوا العهد في حادثة، فلما أنجاهم الله أعرضوا، وفي ذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ ... } [يونس: 12] إذن فالعهد إما أن يكون عهداً عاماً وإما أن يكون عهداً خاصًّا. والحق يقول: {وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} . أي أن حال وشأن أكثرهم ظل على الفسق ونقض العهد والخروج عنه؛ لأن العهد إطار يحكم حركة المختار فيما أعطاه على نفسه من المواثيق، وهو حر في أن يفعل أو لا يفعل، لكنه إذا عاهد أن يفعل أصبح ملزماً ووجب عليه أن ينفذ العهد باختياره، لأنه إذا قطع العهد على نفسه فعليه أن يحكم حركته في إطار هذا العهد، فإن خرج بحركته عن إطار هذا العهد فهذا هو الفسق، والأصل في الفسق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4268 أنه خروج الرطبة من القشرة لأن القشرة تصنع سياجاً على الثمرة بحيث لا تُدخل إلى الثمرة شيئاً مفسداً من الخارج، ويقال: فسقت الرطبة أي خرجت عن قشرتها. كأن ربنا جعل التكليف تغليفاً حماية للإِنسان من العطب، فإذا ما خرج عن الدين مثل خروج الرطبة عن الغطاء والقشرة صار عرضة للتلوث وللميكروبات؟ ، فسمى الله الخارج على منهجه بالفاسق، لأنه خرج عن الإِطار الذي جعله الله له ليحميه من المفاسد، ومن العطب الذي يقع عليه. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4269 وبعد أن تكلم الحق عن نوح وهو وصالح ولوط وشعيب وما دار بينهم وبين أقوامهم، وكيف أهلك سبحانه المكذبين وأنجى المؤمنين، أراد أن يأتي بتاريخ رسول من أولى العزم من الرسل، أي من الذين تعرضوا في رسالاتهم لأشياء لا يتحملها إلا جَلْد قوي. وأظن أنكم تعلمون أن علاج موسى لليهود أخذ قسطاً وافراً في القرآن، بل إن قصة موسى مع قومه هي أطول قصص القرآن؛ لأن انحرافاتهم ونزواتهم وتمردهم على أنبيائهم كانت كثيرة، وكان أنبياؤهم كثيرون لذلك فهم يفتخرون بأنهم كثيرو الأنبياء، وقالوا: نحن أكثر الأمم أنبياء. وقلنا لهم: إن كثرة أنبيائكم تدل على تأصل دائكم؛ لأن الأطباء لا يكثرون إلا حين يصبح علاج المريض أمراً شاقاً. إذن فكثرة أنبيائكم، دليل على أن رسولاً واحداً لا يكفيهم، بل لابد من أنبياء كثيرين. وقوله الحق: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى} . وكلمة «بعث» - كما نفهمها - توحي وتشير إلى أنه سبحانه قد أرسل موسى رسولاً إلى فرعون، واختيرت كلمة «بعث» للرسالات لأن البعث يقتضي أن شيئاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4269 كان موجوداً ثم انطمر ثم بعثه الحق من جديد، والإِيمان يتمثل في عهد الفطرة الأول الذي كان من آدم؛ لأن الله خلقه بيديه خلقاً مباشراً وكلفه تكليفاً مباشراً، فنقل آدم الصورة للذرية، وهذه الصورة الأصلية هي التي تضم حقائق الإِيمان التي كانت لآدم، وحين يبعث الله رسولاً جديداً، فهو لا ينشئ عقيدة جديدة، بل يحيي ما كان موجوداً وانطمر، وحين يطم الفساد يبعث الله الرسول، فكأن الحق سبحانه وتعالى حينما كلف آدم التكليف الأول طلب منه أن ينقل هذا التكليف إلى ذريته، ولو أن الإِنسان أخذ تكاليف الدين كما أخذ مقومات الحياة ممن سبقه لظل الإِيمان مسألة رتيبة في البشر. إننا نأخذ الأشياء التي أورثها لنا أجدادنا وتنفعنا في أمور الدنيا نحتفظ بها ونحرص عليها، فلماذا لم نأخذ الدين منهم؟ لأن الدين يحجر على حرية الحركة ويضعها في إطارها الصحيح. والإِنسان يريد أن ينفلت من تقييد حرية الحركة، وحين يقول ربنا مرة إنه: «أرسل» الرسل، ومرة أخرى إنه قد بعثهم، فهذا يدل على أنه لم يجيء بشيء جديد، ولكنه جاء بشيء كان المفروض أن يظل فيكم كما ظلت فيكم الأشياء التي ورّثها لكم أسلافكم وتنتفعون بها؛ مثال ذلك: نحن ننتفع برغيف الخبز وننتفع بخياطة الإِبرة فلماذا انتفعنا بهذه الأشياء المادية ونسينا الأشياء المنهجية؟ لأن الأشياء المادية قد تعين الإِنسان على شهواته، أما قيم الدين فهي تحارب الشهوات. {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ... } [الأعراف: 103] والآيات - كما نعلم - جمع آية، وهي الأمر العجيب الذي يقف العقل عنده مشدوهاً. وتُطلق الآيات ثلاث إطلاقات؛ فهي تطلق على الآيات القرآنية لأنها عجيبة أسلوبيًّا معبرة عن كل كمال يوجد في الوجود إلى أن تقوم الساعة، وكل قارئ لها يأخذ منها على قدر ذهنه وقدر فهمه. والآيات الكونية موجودة في خلق الأرض والسماء وغير ذلك، وكذلك تطلق الآيات على المعجزات الدالة على صدق الأنبياء. والبعث يقتضي مبعوثاً وهو موسى، ويقتضي باعثاً وهو الله، ومبعوثاً إليهم. وهم قوم فرعون، ومبعوثاً به وهو المنهج. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4270 والآيات التي بعث الله بها موسى هي أدلة صدق النبوة، وهي أيضاً الكلمات المعبرة عن المنهج ليشاهدها ويسمع لها فرعون وملؤه، والملأ - كما عرفنا من قبل - هم القوم الذين يملأون العيون هيبة، فلا يقال للناس الذين لا يلتفت إليهم أحد إنهم ملأ، أو هم الأناس الذين يملأون صدور المجالس، أي الأشراف والسادة. ولماذا حدد الحق هنا أن موسى قد بعث لفرعون وملئه فقط؟ لأن الباقين من أتباعهم تكون هدايتهم سهلة إن اهتدى الكبار، والغالب والعادة أن الذي يقف أمام منهج الخير هم المنتفعون بالشر، وهم القادة أو من حولهم، ولا يرغبون في منهج الخير لأنه يصادم أغراضهم، وأهواءهم، ولذلك يحاربونه، أما بقية العامة فهم المغلوبون على أمرهم، وساعة يرون أن واحداً قد جاء ووقف في وجه الذين عضوهم بمظالمهم وعضوهم بطغيانهم، تصبح قلوبهم مع هذا المنقذ! {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ... } [الأعراف: 103] وإن كانت الآيات هي الكلمات المؤدية للمنهج الموجودة في التوراة، أو كانت الآيات هي المعجزات التي تدل على صدق موسى فقد كان ذلك يقتضي إيمانهم. ونعلم أن القرآن قد عدد الآيات المعجزات التي أرسلها الحق مع موسى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ... } [الإِسراء: 101] ومن هذه الآيات العصا، واليد يدخلها في الجيب أو تحت جناحه وإبطه وتخرج بيضاء من غير سوء أو علة، وأخذ آل فرعون بالسنين، وكلمة «سنين» تأتي للجدب الشديد الذي يستمر لفترة من الزمن بحيث يلفت الناس إلى حدثٍ في زمان، ولذلك نقول: كانت سنة عصيبة؛ لأن السنة عضة من الأحداث، تهدم ترف الحياة، ثم تأتي لهم بما يهدم مقومات الحياة، وأولها الطعام والشراب فيصيبهم بنقص الثمرات، وهو الجدب والقحط، وسمي الجدب سنة، وجمعه سنين، لأنه شيء يؤرخ به، فماذا كان استقبال فرعون وملئه للآيات التي مع موسى عليه السلام؟ يقول الحق: {فَظَلَمُواْ بِهَا} . وهل كانت الآيات أداة للظلم أو ظلموا بسببها لأنهم رفضوها كمنهج حياتي؟ . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4271 لقد ظلموا بها لأنهم رفضوا اتباع المنهج الحق، وظلوا على فسادهم، والمفسدون - كما نعلم - هم الذين يعمدون إلى الصالح في ذاته فيفسدونه، برغم أن المطلوب من الإِنسان أن يستقبل الوجود استقبال من يرى أن هناك أشياء فوق اختياراته ومراداته، وأشياء باختياره ومراداته، فإذا نظر الإِنسان في الأشياء التي بها مقومات الحياة، مما لا يدخل في اختياره يجدها على منتهى الاستقامة. إننا نجد الإِنسان لا يتحكم في حركة الشمس أو حركة القمر، أو النجوم أو الريح أو المطر، فهذه الكائنات مستقيمة كما يريدها الله، ولا يأتي الفساد إلا في الأمر الذي للإِنسان مدخل فيه، والناس لا تشكو من أزمة هواء - على سبيل المثال - لأنه لا دخل في حركة الهواء لأحد، لكنهم شَكَوْا من أزمة طعام لأن للبشر فيه دخلاً، ونجد شكواهم من أزمة المياه أقل؛ لأن مدخل الإِنسان على الماء قليل. إنه سبحانه وتعالى يجعل الأمر الذي يدير حركتك الوقودية لك فيه بعض من الدخل، فيجعل من جسمك - على سبيل المثال - مخزناً للدهون ليعطيك لحظة الجوع ما كنزته فيه من طاقة. ومن العجيب أن الدهون هذه هي مادة واحدة وساعة نحتاج إلى التغذية منها تتحول المادة الواحدة إلى المواد الأخرى التي نحتاج إليها. تحتاج مثلا إلى زلال، فيتحول الدهن إلى زلال، تحتاج إلى كربون، يعطي لك الدهن الكربون، تحتاج إلى فوسفور يعطيك فوسفوراً، تحتاج إلى مغنسيوم يعطيك الدهن المغنسيوم، وهكذا فإذا كنا نصبر على الطعام بقدر المخزون في أجسامنا، ونصبر على الماء أيضاً بقدر المخزون في هذه الأجساد، فنحن لا نصبر على الهواء لأن التنفس شهيق وزفير، ولو أن إنساناً ملك الهواء يعطيك إياه لحظة الرضا، ويمنعه عنك لحظة الغضب، لمت قبل أن يرضى عنك، لكن إياه منع عنك الماء فترة فقد يحن قلب عدوك أو يأتي لك أحد بالماء أو قد تسعى أنت بحيلة ما لتصل إليه. إذن فالأمر الذي لا دخل للإِِنسان فيه نجد على منتهى الاستقامة، ولا يأتي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4272 الفساد إلا من الأمر الذي للإِنسان فيه دخل. {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [الأعراف: 103] أي أن آخر الأمر سيعاقب الله المفسدين. وأراد سبحانه أن يَذْكُر سلسلة القصة لا من بدء سلسلتها، بل يبدأ من نهايتها، فسبحانه لا يدرس لنا التاريخ، ولكن يضع أمامنا العظة، وللقطة التي يريدها في هذا السياق، ولذلك لم يتكلم سبحانه في هذه السورة عن ميلاد موسى وكيف أوحى لأمه أن تلقيه في البحر، ولم ترد حادث ذهابه إلى مدين ومقابلته لسيدنا شعيب، لكنه هنا يتكلم سبحانه عن مهمة سيدنا موسى مع فرعون. ويقول سبحانه: {وَقَالَ موسى يافرعون ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4273 ويشرح لنا القرآن أمر بلاغ موسى لفرعون وقومه بان الله واحد أحد وهو رب العالمين، وكان قوم فرعون يعتقدون بوجود إله للسماء وآخر للأرض، لذلك يبلغهم موسى بأن الإِله واحد: {قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} [الشعراء: 24] ونجد موسى يعدد كلمة الربوبية في آيات أخرى؛ ليأتي بالمظهر الذي دُسَّت فيه دسيسة الربوبية لفرعون، وكانوا يعتقدون أن للسماء إلهاً، وللأرض إلهاً آخر، فقال موسى: إنني أتكلم عن الإِله الواحد الذي هو رب السماء والأرض معاً فلا إله إلا الله وحده. وكانوا يعتقدون أن للشرق إلهاً، وللغرب إلهاً، فأبلغهم موسى بأنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4273 إله واحد، وكانوا يعتقدون أن للأحياء ألهاً ورباً، وللأموات إلهاً ورباً، فقال لهم موسى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} [الشعراء: 26] ويبلغ هنا موسى فرعونَ وقومَه: { ... إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} [الأعراف: 104] وما دام موسى رسولا من رب العالمين، فهو لا يقول إلا الحق، لذلك يتابع الحق على لسان موسى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4274 فأي هذه الأمور هو الذي يحتاج إلى بينة، هل البلاغ بأنه رسول من رب العالمين؟ إن هذا القول يدلنا على أن موسى اختلف مع فرعون أولاً في أن موسى رسول، وأن للعالمين رباً واحداً، وأنه لا يبلغ إلا بالحق، هذه - إذن - ثلاث قضايا خلافية بين موسى وفرعون، ولكن فرعون لم يختلف مع موسى إلا في قضية واحدة هي: هل هو رسول بلغ عن الله بالقول الحق؟ فماذا طلب منه؟ طلب الدليل على أنه رسول من رب العالمين. وهذا يوضح أن فرعون يعلم أن العالم له رب أعلى. كذلك فإن فرعون لم يقف مع موسى في مسألة أن للعالمين ربًّا، وأن هذا الرب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4274 لا يستطيع كل إنسان أن يفهم مراده منه فلابد أن يرسل رسولاً، بل وقف فرعون في مسألة: هل موسى رسول مبلغ عن الله أولا؟ ولذلك يقول موسى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105] كأن مهمة موسى عند فرعون أن يخلص بني إسرائيل. ونعرف أن قصة بني إسرائيل ناشئة من أيام نبي الله يعقوب وابنه يوسف حين كاد الإخوة لأخيهم يوسف، وتشاوروا في أمر قتله أو طرحه أرضاً أو إلقائه في غيابة الجب، لقد جاء الحق بقصة بني إسرائيل على مراحل لنتدرج بالانفعال معها. فمراحل الانفعال النفسي أمام من تكره تأخذ صورتين اثنتين: صورة تدل على تصعيد الرحمة في قلبك، وصورة تدل على تصعيد الشر في قلبك، مثال ذلك: لنفترض أن لك خصماً وصنع فيك مكيدة، وتحكي أنت لإِخوانك ما فعله هذا الخصم، وكيف أنك تريد الانتقام منه فتقول: أريد أن انتقم منه بضربه صفعتين، ثم تصعد الشر فتقول: أنا أريد أن أقتله بالرصاص، هذا شأن الشرير، أما الخيّر فيقول: أنا لا أريد أن أقتله أو أصفعه أو أشتمه وأسبّه فهذا تصعيد في الخير. إذن. يختلف تصعيد الانتقام أو السماح حسب طاقة الخير أو الشر التي في النفس. وهكذا نجد إخوة يوسف وهو يكيدون له، فقالوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ... } [يوسف: 8] هم يعترفون أنهم قوة وعصبة، ويحسدون يوسف وأخاه على محبة الأب لهما، ويعترضون على ذلك، ويظهرون البينة على أن يوسف وأخاه أحب إلى الأب منهم، وذكر القرآن هذه البينة لنعرف أهميتها، حتى لا يغفل أحد عنها. لقد كان قلب نبي الله يعقوب مع يوسف وأخيه لصغرهما وضعفهما، بينما بقية أبنائه كبار أقوياء أشداء؛ لأن الله سبحانه وتعالى وضع في قلب الأبوة والأمومة من الرحمة على قدر ضعف الوليد الصغير. فالصغير هو من يحتاج إلى رعاية وعناية، ويكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4275 قلب الأم والأب مع الابن المريض أو الغائب. ولذلك حينما سئلت امرأة حكيمة: من أحب بنيك إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى. إذن فقول إخوة يوسف: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} . هو بينة ضدهم. وكان المنطق يقتضى أن يعرفوا أنهم ما داموا عصبة فلا بد أن يكون قلب أبيهم مع يوسف وأخيه فكلاهما كان صغيراً ويحتاج إلى رعاية، وبطبيعة تكوين أبناء يعقوب كأسباط وذريّة أنبياء، نجدهم يصعدون الخير لا الشر، فقد بدأوا بإعلان رغبة القتل، ثم استبدلوا بها الطرح أرضاً بأن يلقوه في أرض بعيدة نائية ليستريحوا منه ويخلو لهم وجه أبيهم، ثم استبدلوا بها إلقاءه في غياهب الجب؛ بدأوا بالقتل في لحظة عنفوان الغضب ثم تنازلوا عن القتل بالطرح أرضاً، أي أن يتركوه في مكان يكون فيه عرضة لأن يضل، ثم تنازلوا عن ذلك واكتفوا بإلقائه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة، فهل كانوا يريدون أن يضروه، أو كانوا يفكرون في نجاته؟ . إذن فهذا تصعيد للخير. وتوالت الأحداث مع سيدنا يوسف واستقر معه بنو إسرائيل في مصر وكثرت أعدادهم. وعندما نستقرئ التاريخ، نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن ملوك مصر، خص بعضهم باسم فرعون، وخص بعضهم باسم ملك، فهناك فرعون وهناك ملك. فإذا ما نظرت إلى القديم نجد أن الحق يقول: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 10] هكذا نجد الحق يسمى حاكم مصر «فرعون» وفي أيام سيدنا موسى أيضاً يسميه الحق فرعون. لكن في أيام يوسف عليه السلام لم يسمه فرعون، بل سمَّاه ملكاً: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ ... } [يوسف: 50] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4276 وبعد أن اكتشف العالم الفرنسي شامبليون - حجر رشيد - عرفنا أن الفترة التي دخل فيها سيدنا يوسف مصر، لم يكن الفراعنة هم الذين يحكمون مصر، بل كان الحكام هم ملوك الهكسوس الرعاة، وطمر القرآن هذه الحقيقة التاريخية حين سمى حكام مصر قبل يوسف فراعين، وفي الفترة التي جاء فيها سيدنا يوسف سماهم «الملوك» ، وهؤلاء هم من أغاروا على مصر وحكموها وساعدهم بنو إسرائيل وخدموهم، وقاموا على مصالحهم، وبعد أن طرد المصريون الهكسوس التفت الفراعنة بالشّر إلى من أعان الهكسوس؛ فبدأوا في استذلال بني إسرائيل لمساعدتهم الهكسوس إبّان حكمهم مصر. وأراد الله أن يخلصهم بواسطة موسى عليه السلام، ولذلك يقول الحق على لسان موسى: {وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 104 - 105] وكأن موسى يريد أن يخلص بني إسرائيل، أما مسألة الألوهية وربوبية فرعون فقد جاءت عرضاً. ويقول فرعون: {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4277 وهكذا يواجه فرعون موسى سائلاً إياه أن يُظهر الآية إن كان من الصادقين، إذن ففرعون يعتقد أن لله آيات تثبت صدق الرسول بدليل أنه قال له: هاتها إن كنت من الصادقين. ويكشف موسى عليه السلام الآية: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4277 {فألقى عَصَاهُ فَإِذاَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4278 وهذا الإلقاء كان له سابق تجربة أخرى حينما خرج مع أهله من مدين ورأى ناراً وبعد ذلك قال لأهله: {امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً ... } [طه: 10] ثم سمع خطاباً: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 17 - 18] وحين يقال له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} ، كان يكفي أن يقول في الجواب: عصاي، ولا داعي أن يقول: «هي» ولا داعي أن يشرح ويقول: إنه يتوكأ عليها وأن له فيها مآرب أخرى؛ لأن الحق لم يسأله ماذا تفعل بعصاك، إذن فجواب موسى قد جاوز في الخطاب قدر المطلوب، ويظن البعض أنه كان من الواجب أن يعطي الجواب على قدر السؤال. لكن من يقول ذلك ينسى أنه لا يوجد من يزهد في الأنس بخطاب الله. وحين قال موسى عليه السلام: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي ... } [طه: 18] ولقد شعر موسى عليه السلام واستدرك هيبة المخاطب فكان تهافته على الخطاب حبًّا لأنسه في الله، لكنه حين شعر أنه قارب أن يتجاوز قال: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} كان من الممكن أن يقول استعمالات كثيرة للعصا. إذن فللعصا أكثر من إلقاء، إلقاء الدربة والتمرين على لقاء فرعون حين أمره الحق: {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 19 - 20] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4278 فماذا حدث؟ قال له الله: {قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21] فساعة خاف، دل على أن ما حدث للعصا ليس من قبيل السحر؛ لأن الساحر حين يلقي عصاه أو حبله يرى ذلك عصا أو حبلاً، بينما يرى ذلك غيرُه حية، ولذلك يقول الحق عن السحرة: {سحروا أَعْيُنَ الناس ... } [الأعراف: 116] وهذا يدل على أن حقيقة الشيء في السحر تظل كما هي في نظر الساحر، لكن موسى أوجس في نفسه خيفة، فهذا يدل على أن العصا انتقلت من طبيعتها الخشبية وصارت حية. وكان من الممكن أن تورق العصا وتخضر على الرغم من أنها كانت غصناً يابساً. ولو حدث ذلك فسيكون معجزة أيضاً، ولكن نقلها الله نقلتين: نقلها من الجمادية، وتعدى بها مرحلة النباتية إلى مرحلة الحيوانية. وكأن الحق العليم أزلاً يرد على من أراد اللغط في مسألة إلقاء العصا، وقد ظن بعض الجاهلين أن ذلك تكرار في الكلام في قصة واحدة. ولم يلحظوا أن جهة الإِلقاء للعصا كانت منفكة، ففي القرآن ثلاثة إلقاءات للعصا: إلقاء التدريب حينما اصطفى الله موسى رسولاً وأعلمه بذلك في طور سيناء: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني ... } [طه: 14] وبعد ذلك قال له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ ... } [طه: 17 - 18] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4279 وإلقاء التدريب على المهمة هدفه طمأنة موسى، حتى إذا ما باشرها أمام فرعون باشرها وهو على يقين أن العصا ستستجيب له فتنقلب حية بمجرد إلقائها، ولو أن الله قال له خبراً «إذا ذهبت إلى فرعون فألق العصا فستنقلب حية» ، فقد لا يطمئن قلبه إلى هذا الأمر. فأراد الله أن يدربه عليها تدريباً واقعيًّا، ليعلم أن العصا ستستجيب له حين يلقيها فتنقلب حية، وكان ذلك أول إلقاء لها، أما الإِلقاء الثاني فكان ساعة أن جاء لفرعون للإِعلام بمهمته أنه رسول رب العالمين، وإعلامه بالبينة، وهو ما نحن بصدده الآن في هذه الآية التي نتكلم بخواطرنا الإِيمانية فيها. ثم هناك إلقاء ثالث وهو إلقاء التحدي للسحرة، ولأن لكل إلقاء موقعاً فلا تقل أبداً: أن ذلك تكرار. وإنما هو تأسيس لتعدد المواقف والملابسات، فلكل موقف ما يتطلبه، فلا تغني لقطة هنا عن لقطة هناك. {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 107] ومرّة يقول عن العصا: {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} . ويقول المشككون في كلام الله من المستشرقين: كيف يقول مرة إنها ثعبان مبين. ثم مرة أخرى يقول: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} ، ومرة ثالثة يقول: {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} . ونقول: إن هناك فارقاً بين مختلفات تتناقض، ومختلفات تتكامل، فهي ثعبان مرة، وهي حية مرة ثانية، وهي جان؛ لأن الثعبان هو الطويل الخفيف الحركة، والحية هي الكتلة المخيفة بشكلها وهي متجمعة، والجان هو الحية المرعبة الشكل. فكأنها تمثلت في كل مرة بمثال يرعب من يراه، وكل مرة لها شكل؛ فهي مرة ثعبان، ومرة حية، وثالثة جان، أو تكون ثعباناً عند من يخيفه الثعبان، وتكون حية عند من تخيفه الحية، وتكون جاناً عند من يخيفه الجان، ولذلك تجد أن إشاعة الإِبهام هو عين البيان للمبهم. ومثال ذلك إبهام الحق لأمر الموت، فلا يحكمه سن، ولا يحكمه سبب، ولا يحكمه زمان، وفي هذا إبهام لزمانه وإبهام لسببه مما يجعله بياناً شائعاً تستقبله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4280 بأي سبب في أي زمان أو في أي مكان، وهكذا يأتي الإِبهام هنا لكي يعطينا الصور المتكاملة، وقال بعض المستشرقين: إن المسلمين يستقبلون القرآن بالرهبة وبالانبهار. ولا يحركون عقولهم لكي يروا المتناقضات فيه، لكن غير المسلم إن قرأ القرآن يتبين فيه أشياء مختلفة كثيرة، قالوا بالنص: «أنتم تعلمون بقضايا اللغة أن التشبيه إنما يأتي لتُلْحِق مجهولاً بمعلوم» ، فيقال: أنت تعرف فلاناً، فتقول: لا والله لا أعرفه. فيقول لك: هو شكل فلان؛ في الطول، وفي العرض، وفي الشكل، إذن فقد ألحق مجهولاً بمعلوم ليُوضحه. فكيف يلحق القرآن مجهولاً بمجهول، إن هذا لا يعطي صورة مثلما تكلم القرآن عن شجرة الزقوم فقال: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 64 - 65] فكيف توجد شجرة في الجحيم، إنها أشياء متناقضة؛ لأن الشجرة فيها خضرة، وتحتاج إلى ري، ومائية، والجحيم نار وجفاف، ثم إن الشيطان غير معلوم الصورة للبشر، وشجرة الزقوم غير معلومة لأنها ستأتي في الآخرة، فكيف يُشَبِّه الله مجهولاً بمجهول. واستخدم المستشرقون ذلك كدليل على أن المسلمين يأخذون القرآن بانبهار ولا يبحثون فيه، ونرد عليهم: أنتم لا تعلمون لغة العرب كملكة، بل عرفتموها صناعة، ولم تتفهموا حقيقة أن القرآن جاء على لغة العرب. وقد تخيلت لغة العرب أشياء رأت فيها البشاعة والقبح؛ كأن قالوا: «ومسنونة زرق كأنياب أغوال» ، والغول كائن غير موجود، لكنهم تخيلوا الغول المخيف وأن له أنياباً ... إلخ. إذن التشبيه قد يكون للأمر المُتَخَيَّل في أذهان الناس، والأصل في التشبيه أن يلحق مجهولاً ليُعلم، وشجرة الزقوم لا نعرفها، ورءوس الشياطين لم نرها، وهكذا ألحق الله مجهولاً بمجهول، ولماذا لم يأت بها في صورة معلومة؟ . لأنه - سبحانه - يريد أن يشيع البيان، ويعمم الفائدة ويرببها؛ لأن الإِخافة تتطلب مخيفاً، والمخيف يختلف باختلاف الرائين، فقد يوجد شيء يخيفك، ولكنه لا يخيف غيرك، وقد تستقبح أنت شيئاً، ولكن غيرك لا يستقبحه، ولذلك ضربنا - سابقاً - مثلاً. وقلنا: لو أننا أحضرنا من كبار رسامي الكاريكاتور في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4281 العالم، وقلنا لهم: ارسموا لنا صورة الشيطان تخيلوا الشيطان وارسموه، أيتفقون على شكل واحد فيه؟ لا؛ لأن كل رسام سيرسم من وحي ما يخيفه هو. ولقد قال الله في صورة: شجرة الزقوم {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} ؛ ليتخيل كل سامع ما يخيفه من صورة الشيطان، فتكون الفائدة عامة من التخويف من تلك الشجرة. لكنه لو قالها بصورة واحدة لأخاف قوماً ولم يخف الآخرين. ومثال ذلك أمر عصا موسى، فهي مرة ثعبان، ومرة جان، ومرة حية، وكلها صور لشيء واحد مخيف، ويقول الحق هنا في سورة الأعراف: {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} . وقوله: {فَإِذَا هِيَ} يوضح الفجائية التي أذهلت فرعون، فقد تحولت العصا إلى ثعبان ضخم في لمح البصر بمجرد إلقائها، ومن فوائد تدريب سيدنا موسى على إلقاء العصا في طور سيناء أن موسى لن تأخذه المفاجأة حين يلقيها أمام فرعون، بل ستأخذ المفاجأة فرعون. كأن التدريب أولاً لإِقناع موسى وضمان عدم خوفه في لحظة التنفيذ، وقد خاف منها موسى لحظة التدريب؛ لأن العصا صارت ثعباناً وحيَّة حقيقية، ولو كانت من نوع السحر لظلت عصا في عين الساحر ولا يخاف منها، إذن خوفه منها إبَّان التدريب دليل على أنها انقلبت حقيقة، ولا تخيلاً، وتلك هي مخالفة المعجزة للسحر، فالمعجزة حقيقة والسحر تخييل، وهذا هو الذي سيجعل السحرة يخرون ساجدين لأنهم قد ذهلوا مما حدث. {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 107] و «مبين» أي بيّن، وواضحة ملامحه المخيفة التي لا تخفى على أحد، ويقدم موسى عليه السلام الآية الثانية، فيقول: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4282 وهذه آية معجزة أخرى. وقوله: «ونزع» تعني إخراج اليد بعسر، كأن هناك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4282 شيئاً يقاوم إخراج اليد؛ لأنه لو كان إخراج اليد سهلاً، لما قال الحق: {وَنَزَعَ يَدَهُ} لأنَّ النزع يدل على أن شيئاً يقاوم، ومثال ذلك قوله الحق: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ ... } [آل عمران: 26] لأن نزع الملك ليس مسألة سهلة؛ ففي الغالب يحاول صاحب الملك التشبث بملكه، لكن الحق ينزعه من هذا الملك. كذلك قوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ} ، وهذا يدل على أن يده لها وضع، ونزع يده وإخراجها بشدة له وضع آخر، كأنها كانت في مكان حريص عليها. إذن ففيه لقطة بينت الإِدخال، ولقطة بينت النزع، وهما عمليتان اثنتان. وقال سبحانه في آية ثانية: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء ... } [النمل: 12] و «الجيب» هو مكان دخول الرأس من الثوب، وإن كنا نسمي «الجيب» في أيامنا مطلق شيء نجعله وعاء لما نحب، وكان الأصل أن الإِنسان حين يريد أن يحتفظ بشيء، يضعه في مكان أمامه وتحت يده، ثم صنع الناس الجيوب في الملابس، فسميت الجيوب جيوباً لهذا. والحق قال في موضع آخر: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء آيَةً أخرى} [طه: 22] إذن ففيه إدخال وإخراج، وكل آية جاءت بلقطة من اللقطات؛ فآية أوضحت دخول اليد في الجيب، وأخرى أوضحت ضم اليد إلى الجناح، وثالثة أوضحت نزع اليد، وهذه لقطات متعددة، تكوّن كلها الصورة الكاملة؛ لنفهم أن القصص في القرآن غير مكرَّر، فالتكرير قد يكون في الجملة. لكن كل تكرير له لقطة تأسيسية، وحين نستعرضه نتبين أركان القصة كاملة. فكل هذه اللقطات تجمَّع لنا القصة. وقلنا قبل ذلك: إن الصراع بين فرعون وموسى لا ينشأ إلا عن عداوة، وحتى يحتدم الصراع لابد أن تكون العداوة متبادلة، فلو كان واحد عدوًّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4283 والثاني لا يشعر بالعداوة فلن يكون لديه لدد خصومة، وقد يتسامح مع خصمه ويأخذ أمر الخلاف هينا ويسامحه وتنفض المسألة. لكن الذي يجعل العداوة تستعر، ويشتد ويعلو لهيبها أن تكون متبادلة. وتأتي لنا لقطة في القرآن تثبت لنا العداوة من فرعون لموسى، ولقطة أخرى تثبت العداوة من موسى لفرعون، فالحق يقول: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ... } [طه: 39] هذه تثبت العداوة من فرعون لموسى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ... } [القصص: 8] وهذه تثبت لأن موسى عدوٌّ لهم. وكلتا اللقطتين يُكمل بعضها بعضاً لتعطينا الصورة كاملة. والحق هنا يقول: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 108] ونعرف أن موسى كان أسمر اللون، لذلك يكون البياض في يده مخالفاً لبقية لون بشرته، ويده صارت بيضاء بحيث يراها الناس يلفتهم ضوؤها ويجذب أنظارهم، وهي ليست بيضاء ذلك البياض الذي يأتي في سُمرة نتيجة البرص، لا؛ لأن الحق قال في آية أخرى: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء ... } [طه: 22] وكل لقطة كما ترى تأتي لتؤكد وتكمل الصورة. إذن فقوله: {بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} يدل على أن ضوءها لامع وضئ، يلفت نظر الناس جميعاً إليها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4284 ولا يكون ذلك إلا إذا كان لها بريق ولمعان وسطوع، وقوله: {بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} يؤكد أن هذا البياض ليس مرضاً. ويتابع الحق سبحانه: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4285 عرفنا أن الملأ هم القوم الذين يتصدرون المجالس، ويملأونها أو الذين يملأون العيون هيبة، والقلوب مهابة وهم هنا المقربون من فرعون. وكأنهم يملكون فكرة وعلما عن السحر. وفي سورة الشعراء جاء القول الحق: {قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء: 34] إذن فهذه رواية جاءت بالقول من الملأ، والآية الأخرى جاءت بالقول على لسان فرعون، وليس في هذا أدنى تناقض، ومن الجائز أن يقول فرعون: إنه ساحر، وأيضاً أن يقول الملأ: إنه ساحر. وتتوارد الخواطر في أمر معلوم متفق عليه. وقد حدث مثل هذا في القرآن حينما نزلت آيات في خلق الإِِنسان وتطوره بأن كان علقة فمضغة إلخ فقال كاتب الوحي بصوت مسموع: { ... فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: وافقت ربي في أربع: نزلت هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} الآية قلت أنا: فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4285 «وعن زيد بن ثابت الأنصاري قال: أملى عليّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} إلى قوله: { ... خَلْقاً آخَرَ} فقال معاذ: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال له معاذ: مِمّ تضحك يا رسول الله؟ فقال:» بها ختمت فتبارك الله أحسن الخالقين «. لقد جاءت الخواطر في الحالة المهيجة لأحاسيس الإِيمان لحظة نزول الوحي بمراحل خلق الإِنسان. فما الذي يمنع من توارد الخواطر فيجيء الخاطر عند فرعون وعند الملأ فيقول ويقولون؟ أو يكون فرعون قد قالها وعلى عادة الأتباع والأذناب إذا قال سيدهم شيئاً كرروه. {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109] ولم يصفوا فعل سيدنا موسى بأنه ساحر فقط بل بالغوا في ذلك وقالوا: إنه ساحر عليم. وأضافوا ما جاء على ألسنتهم بالقرآن في هذه السورة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4286 إنها نكبة جاءت لفرعون الذي يدعي الألوهية، ونكبة لمن حوله من هؤلاء الذين يوافقونه، فكيف يواجهها حتى يظل في هيئته وهيبته؛ قال عن موسى: إنه ساحر، لكي يصرف الناس الذين رأوا معجزات موسى عن الإِيمان والاقتناع به، وأنه رسول رب العالمين، وبعد ذلك يهيج فرعون وطنيتهم ويهيج ويثير غيرتهم ويحرك انتماءهم إلى مكانهم فقال: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4286 اتهموا موسى عليه السلام بأنه يريد أن يخرج الناس بسحره من أرضهم، وهذا القول من فرعون ومن معه له هدف هو تهييج الناس وإثارتهم؛ لأن فرعون اقنع الناس أنه إله. وها هي ذي الألوهية تكاد تنهدم في لحظة، فقال عن موسى إنه ساحر، وبين قوم لهم إلف بالسحر، وقوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} على لسان الملأ من قوم فرعون تدل على أن القائل للعبارة أدنى من المقول لهم، فالمفروض أن فرعون هو صاحب الأمر على الجميع، ومجيء القول: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} يدل على أن الذي يأمر في مسائل مثل هذه هو فرعون، وهذا يشعر بأن فرعون قد أدرك أن مكانته قد انحطت وأنه نزل عن كبريائه وغطرسته. أو أن يكون ذلك من فرعون تطييباً لقلوب من حوله، وأنه لا يقطع أمراً إلا بالمشورة، فكيف تشاور الناس يا فرعون وأنت قد غرست في الناس أنك إله؟ وهل يشاور الإِله مألوهاً؟ . إن قولك هذا يحمل الخيبة فيك لأنك تدعي الألوهية ثم تريد أن تستعين بأمر المألوه. ويقول الحق سبحانه: {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4287 و {أَرْجِهْ} أي أَخّره مثل قوله الحق: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ ... } [التوبة: 106] . أي أنهم مؤخرون للحكم عليهم وهم الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو فخلفوا وأرجئ أمرهم حتى نزل فيهم قوله سبحانه: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} إلخ الآية. وقولهم: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111] وهكذا كان طلب الإرجاء لأن المسألة أخطر من أن يُتَصَرَّف فيها تصرفاً سريعاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4287 بل تحتاج إلى أن يؤخَّر الرأي فيها حتى يجتمع الملأ، ويرى الجميع كيفية مواجهتها، فهي مسألة ليست هينة لأن فيها نقض ألوهية فرعون، وفي هذا دك لسلطان الفرعون وإنهاء لانتفاعهم هم من هذا السلطان. فإذا كان قد قال لهم: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} . فكأنه كان يطلب منهم الرأي فوراً، لكنهم قالوا إن المسألة تحتاج إلى تمهل وبطء، وأول درجات البطء والتمهل أن يُستدعى القوم الذين يفهمون في السحر. فما دمنا نقول عن موسى: إنه ساحر، فلنواجهه بما عندنا من سحر: وقبول فرعون لهذه المشورة هدم لألوهيته؛ لأنه يدعي أنه إله ويستعين بمألوه هم السحرة، والسحرة أتباع له. وقوله الحق كان على ألسنتهم: {وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] يدل على أن السحر كان منتشراً، ومنبثقاً في المدائن وقد أتبع سبحانه هذا القول على لسان الملأ بقوله: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4288 ولأن المستشرقين يريدون أن يشككونا في القرآن قالوا: ولماذا قال في سورة الشعراء: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} . وكان هؤلاء المستشرقين يريدون أن يفرقوا بين {سَاحِرٍ عَلِيمٍ} و {سَحَّارٍ عَلِيمٍ} ؛ ولأنهم لا يعرفون اللغة لم يلتفتوا إلى أن «سحّار» تفيد المبالغة من جهتين. فكلمة «ساحر» تعني أنه يعمل بالسحر، و «سحّار» تعني أنه يبالغ في إتقان السحر، والمبالغات دائماً تأتي لضخامة الحدث، أو تأتي لتكرر الحدث. ف «سحّار» تعني أن سحره قوي جدًّا، أو يسحر في كل حالة، فمن ناحية التكرار هو قادر على السحر، ومن ناحية الضخامة هو قادر أيضاً. ومادام القائلون متعددين. . فواحد يقول: ساحر، وآخر يقول: سحَّار وهكذا. والقرآن يغطي كل اللقطات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4288 {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: 111 - 112] و «حاشرين» تعني مَن يحشر لك السحرة ويجمعهم لا بإرادتهم ولكن بقوة فرعون وبطش جنده. ويقول الحق سبحانه: {وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4289 وقوله: {وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ} يدل على بطش الآمر، أي أنه ساعة قال الكلمة هُرع الجند بسرعة ليجمعوا السحرة. وقد ولغ بعض المستشرقين في هذه اللقطة أيضاً فتساءلوا: ولماذا جاء بقول مختلف في سورة أخرى حين قال: {إِنَّ لَنَا لأَجْراً ... } [الشعراء: 41] لقد جاء بها بهمزة الاستفهام، وفي سورة الأعراف جاء من غير همزة الاستفهام، وهذه آية قرآنية، وتلك آية قرآنية. وأصحاب هذا القول يتناسون أن كل ساحر من سحرة فرعون قد انفعل انفعالاً أدى به مطلوبه؛ فالذي يستفهم من فرعون قال: «أإن» ، والشجاع قال لفرعون: {أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً} . وفي القضية الاستفهامية لا يتحتم الأجر لأنه من الجائز أن يرد الفرعون قائلا: أنْ لا أجر لكم، ولكن في القضية الخبرية «إن لنا لأجراً» اي أن بعض السحرة قد حكموا بضرورة وجود الأجر، وقد غطى القرآن هذا الاستفهام، وهذا الخبر. وتأتي إجابة فرعون على طلب السحرة للأجر: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4289 {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4290 و «نعم» حرف جواب قائمة مقام جملة هي: لكم أجر، وأضاف أيضاً: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} . وهذا دليل على أنه ينافقهم أو يبالغ في مجاملتهم؛ لأنه يحتاج إليهم أشد الحاجة. وهكذا نجد ألوهية فرعون قد خارت أمام المألوهين السحرة. وقوله: {لَمِنَ المقربين} هذه تدل على فساد الحكم؛ لأنه مادام حاكماً فعليه أن يكون كل المحكومين بالنسبة إليه سواء. لكن إذا ما كان هناك مقربون فالدائرة الأولى منهم تنهب على قدر قربها، والدائرة الثانية تنهب أيضاً، وكذلك الثالثة والرابعة فتجد كل الدوائر تمارس فسادها مادام الناس مصنفين عند الحاكم. ولذلك كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا ما جلس الصحابة يستمعون إليه كان يسوّي الناس جميعاً في نظره حتى يظن كل إنسان أنه أولى بنظر رسول الله، ولا يدنى أحداً أو يقربه من مجلسه إلا من شهد له الجميع بأنه مقرب. . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالُواْ ياموسى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4290 ونلحظ أنهم لم يؤكدوا لموسى رغبتهم في أن يلقي هو أولا عصاه. ولكنهم أكدوا رغبتهم في أن يكونوا هم أول الملقين. فجاءوا بضمير الفصل وهو (نحن) الذي يفيد التأكيد. ونعلم أن مَن يعقِّب ويكون عمله تاليا لمن سبقه، فإن فعله هو الذي سيترتب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4290 عليه الحكم. ولابد أن يكون قوي الحجة. هم يريدون أم يكونوا هم المعقبين، وأن موسى الذي يبدأ، لكن عزتهم تفرض عليهم أن يبدأوا هم أولاً؛ لذلك جاءوا بالعبارة التي تحمل المعنيين: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [الأعراف: 115] فعلم موسى أنهم حريصون، على أن يبدأوا هم بالإِلقاء فأتوا بكلمة (نحن) . وفكر موسى أن من صالحه أن يلقوا هم أولاً؛ لأن عصاه ستلقف وتبتلع ما يلقون؛ لذلك يأتي قوله سبحانه: {قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4291 هم - إذن - سحروا أعين الناس، والسحر - كما نعلم - لطف حيلة يأتي بأعجوبة تشبه المعجزة. وكأنها تخرق القانون، وهو غير الحيلة التي يقوم بها الحواة؛ لأن الحواة يقومون بخفة حركة، وخفة يد، ليعموا الأمر على الناس. لكن «السحر» شيء آخر، ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى خلق كل جنس بقانون؛ خلق الإِنس بقانون، وخلق الجن بقانون، وخلق الملائكة بقانونها: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ... } [المدثر: 31] وكل قانون له خصائصه ومميزاته التي تناسب عنصر تكوينه، فالإِنسان - مثلاً - لأنه مخلوق من الطين له من الكثافة ما يمنعه من التسلل من خلال جدار؛ لأنك لو كنت تجلس وهناك تفاحة وراء الجدار الذي تجلس بجواره فلن يتعدى ريحها ولا طعمها إلى فمك؛ لأن الجدار يحول بينك وبين ذلك، لكن لو كانت هناك جذوة من نار بجانب الجدار الذي تستند عليه لكان من الممكن أن يتعدى أثرها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4291 لك؛ لأن النار إشعاعات تنفذ من الأشياء، ولأن الجن مخلوق من نار، لذلك نجد له هذه الخاصية. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ... } [الأعراف: 27] فإذا كان الجن له قانون والإِنس له قانون، فهل القانون هو الذي يسيطر؟ لا، بل رب القانون هو الذي يسيطر لأنه جل وعلا فوق القانون. فيأتي الله للإِنس ويُعَلّم واحداً منهم بعضاً من أسرار كونه ليستذل الجن لخدمته، برغم ما للجن من خفة حركة، فسبحانه يوضح: لا تظن أيها الجن أنك قد أخذت خصوصيتك من العنصر الذي يكونك لأن هناك القادر الأعلى وهو المعنصر لك ولغيرك، بدليل أن الإِنسان وهو من عنصر آخر يتحكم فيك بعد أن علمه الله بعضاً من أسرار كونه. ولننتبه دائماً أن العلم بأسرار تسخير الجن هو من ابتلاءات الحق للخلق؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ... } [البقرة: 102] فكأن هاروت وماروت وهما يعلّمان الإِنسان كيف يمارس السحر، ينصحان الإِنسان الذي يرغب في أن يتعلم السحر أولاً، ويوضحان له أنهما فتنة أي ابتلاء واختبار ويقولان له: {فَلاَ تَكْفُرْ} ، مما يدل على أن كل من يتعلم السحر؛ إن قال لك: إني سأستعمله في الخير فهو كاذب؛ لأنه يقول ذلك ساعة صفاء نفسه تجاه الخلق، لكن ماذا إن غافله إنسان من أي ناحية وغلبه على بعض أمره وهو يملك بعضاً من أسرار السحر؟ هل يقدر على نفسه؟ لقد قال إنه أمين وقت التحمل، لكن هل يظل أميناً وقت الأداء؟ إن من يتعلم السحر قد يستخدمه في الانتقام من غيره، وبذلك يضيع تكافؤ الفرص، ونعلم أن تكافؤ الفرص هو الذي يحمي الناس، ويعطي بعضهم الأمن من بعض، ويُلزم كل إنسان حدّه. فإذا أخذ إنسان سلاحاً ليس عند غيره فقد يستخدمه ضد من لا يملك مثله، والإِنسي الذي يأخذ سلاح استخدام الجن إنما يأخذ سلاحاً لا يملكه أخوه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4292 الإِنسي، وبذلك يكون قد أخذ فرصة أقوى من غيره وفي هذا ابتلاء؛ لأن الإِنسان قد ينجح فيه وقد يخفق فلا يظفر بما يطلبه، وقوله سبحانه: {فَلاَ تَكْفُرْ} يدل على أنهما علما طبائع البشر في أنهم حين يأخذون فرصة أعلى قد يُضْمَنون وقت صفاء نفوسهم، ولكنهم لا يُضْمَنون يوم تعكير نفوسهم. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ... } [البقرة: 102] ما دام الحق هو الذي أعطاهم هذه القدرة فهو سبحانه القادر على أن يسلبها منهم، مثلما يمنح الله سبحانه وتعالى القدرة لإِنسان ليكون غنيًّا وقادراً على شراء سلاح ناري، وأن يتدرب على إطلاق النار، فهذا الرجل ساعة يغضب قد يتصور أن يحل خلافه مع غيره أو ينهي غضبه مع أي إنسان آخر بإطلاق الرصاص عليه. لكن لو لم يكن معه «مسدس» فقد ينتهي غضبه بكلمة طيبة يسمعها، إذن فساعة ما يمنع الله أمراً فهو يريد أن يرحم؛ لذلك يقول: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} . وفي هذا تحذير لمن يتعلم مثل هذا الأمر، ويريد سبحانه أن يحمي خلقه من هذه المسألة، فلو أنك تتبعت هؤلاء لاستذلوك واستنزفوك، ويتركك الله لهم لأنك اعتقدت فيهم، أما إن قلت «اللهم إنك قد أقدرت بعض خلقك على السحر والشر، ولكنك احتفظت لنفسك بإذن الضر، فإني أعوذ بما احتفظت به مما أقدرت عليه، بحق قولك: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} ، ويكفي أن نعلم أنه سبحانه قد قال: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} . هنا لن يمكنهم الله منك، إنما إن استجبت وسرت معهم، فهم يستنزفونك، وأراد الله أن يفضح هذه العملية فقال على ألسنة السحرة الذين استدعاهم فرعون: {أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً ... } [الشعراء: 41} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4293 وكأنهم يعترفون بالنقص فيهم، فعلى الرغم من ادعائهم القدرة على فعل المعجزات إلا أنهم عاجزون عن الكسب الذي يوفي حاجاتهم؛ لذلك طلبوا الأجر من فرعون، وهذا حال الذين يشتغلون بالسحر والشعوذة. هم يدعون القدرة ويعانون الفاقة والعوز. هكذا حكم الحق بضيق رزق من يعمل بالسحر، ويفضحهم الحق دائماً، وللعاقل أن يقول: ماداموا يَدّعُون الفلاح فليفلحوا في إصلاح أحوالهم. ومادام الساحر يدعي أنه يعرف أماكن الكنوز المخبوءة فلماذا لا يعرف كنوزاً في الأرض التي ليست مملوكة لأحد ويأخذها لنفسه؟ هذا إن افترضنا أن الساحر أمين للغاية ولا يريد أن يأخذ من خزائن الناس. ولذلك تجد كل العاملين بالسحر والشعوذة يموتون فقراء، بشعي الهيئة؛ مصابين في الذرية؛ لأن الكائن منهم استغل فرصة لا توجد لكل واحدٍ من جنسه البشري، وذلك للإِضرار بالناس. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] وهنا يقرر الحق أنهم سيعيشون في إرهاق وتعب. ولذلك يتحدد موقفنا من السحر بأننا لا ننكره مثلما ينكره آخرون. فقد قال بعض من العلماء: إن السحرة جاءوا بعصيّ وضعوا فيها زئبقاً، وعند وجود الزئبق تحت أشعة الشمس تعطي له حرارة فتتلوى العصى، لكن نحن لا ننكر السحر، كما لا ننكر الجن لأنه لا يفوتنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن عفريتا من الجن تفلّت عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي} » . فمادام الحق قد قال: إنه خلق خلقاً لا تدركهم بإحساسك، فنحن نقر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4294 بما أبلغنا به الحق؛ لأن وجود الشيء أمر وإدراك وجوده أمر آخر، وكل مخلوق له قانونه، فالعفريت من الجن قال لسيدنا سليمان عن عرش بلقيس: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ... } [النمل: 39] وكأن الجن يطلب زمناً ما، فقد يجلس سليمان في مقامه معهم ساعة أو ساعتين أو ثلاثا، لكن الذي عنده علم من الكتاب يقول: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ... } [النمل: 40] ولابد أن يكون طرفه قد ارتد في أقل من ثانية بعد أن قال ذلك، ولهذا نجد القرآن يورد ما حدث على الفور فيقول: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} . مما يدل على أن الله قد خلق الأجناس، وخلق لكل جنس قانوناً، وقد يكون هناك قانون أقوى من قانون آخر، لكن صاحب القانون مخلوق لذلك لا يحتفظ به؛ لأن خالق القانون يبطله، ويسلط أدنى على من هو أعلى منه. ولندقق في التعبير القرآني: {سحروا أَعْيُنَ الناس} . ونحن أمام أشياء هي العصى والحبال. وجمع من البشر ينظر. ونفهم من قوله الحق: {سحروا أَعْيُنَ الناس} أن السحر يَنْصَبُّ على الرائي له، لكن المرئي يظل على حالته، فالعصى هي هي، والحبال هي هي، والذي يتغير هو رؤية الرائي. ولذلك قال سبحانه في آية ثانية: { ... يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] إذن فالسحر لا يقلب الحقيقة، بل تظل الحقيقة هي هي ويراها الساحر على طبيعتها. لكن الناس هي التي ترى الحقيقة مختلفة. إذن فالسحرة قد قاموا بعملهم وهو: {سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4295 واسترهبوهم أي أدخلوا الرهبة في نفوس الناس من هذه العملية، وظن السحرة أن موسى سيخاف مثل بقية الناس المسحورين، ونسوا أن موسى لن ينخدع بسحرهم؛ لأنه باصطفاء الله له وتأييده بالمعجزة صار منفذاً لقانون الذي أرسله فجعل عصاه حية، وصاحب القانون هو الذي يتحكم. وهم قد جاءوا بسحر عظيم، وهو أمر منطقي؛ لأن العملية هي مباراة كبرى يترتب عليها هدم ألوهية فرعون أو بقاء ألوهيته، لذلك لا بد أن بأتوا يآخر وأعظم ما عندهم من السحر. ويقول الحق: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4296 ولماذا احتاجت هذه المسألة إلى وحي جديد خصوصاً أنه قد سبق أن تم تدريب موسى على إلقاء العصا؟ . ونقول: فيه فرق بين التعليم للإعداد لما يكون، والتنفيذ ساعة يكون، فساعة يأتي أمر التنفيذ يجيء الحق بأمر جديد، فربما يكون قد دخل على بشرية موسى شيء من السحر العظيم، والاسترهاب، هذا ونعلم أن قصة موسى عليه السلام فيها عجائب كثيرة. فقد كان فرعون يقتل الذكران، ويستحي النساء، وأراد ربنا ألا يُقتل موسى فقال سبحانه: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم ... } [القصص: 7] وقوله سبحانه: {أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} يدل على أن العملية المخوفة لم تأت بعد، بل ستأتي لاحقّاً. وهات أيَّة امرأة وقل لها: إن كنت خائفة على ابنك من أمر ما فارميه في البحر. من المؤكد أنها لن تصدقك، بل ستسخر منك؛ لأنها ستتساءل: كيف أنجيه من موت مظنون إلى موت محقق؟ . وهذا هو الأمر الطبيعي، لكن نحن هنا أمام وارد من الله إلى خلق الله، ووارد الله لا يصادمه شك. إذن فالخاطر والإِلهام إذا جاء من الله لا يزاحمهما شيء قط. ولا يطلب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4296 الإِنسان عليه دليلاً لأن نفسه قد اطمأنت إليه؛ لذلك ألقت أم موسى برضيعها في البحر. ويقدّر الله أنها أم فيقول: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ ... } [القصص: 7] ولن يرده إليها فقط، بل سيوكل إليه أمراً جللاً. { ... وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] وكأن الحق سبحانه يوضح لأم موسى أن ابنها لن يعيش من أجلها فقط، بل إن له مهمة أخرى في الحياة فسيكون رسولاً من الله. فإذا لم تكن السماء ستحافظ عليه لأجل خاطر الأم وعواطفها، فإن السماء ستحفظه لأن له مهمة أساسية {وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} . ونلحظ أن الحق هنا لم يأت بسيرة التابوت لكنه في آية ثانية يقول: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 38 - 39] ولم يقل في هذه الآية: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} ؛ لأنه أوضح لها ما سوف يحدث من إلقاء اليم له بالساحل. وقوله في الأولى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} . هو إعداد للحدث قبل أن يجيء، وفي هذه الآية: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى ... } إلخ تجد اللقطات سريعة متتابعة لتعبر عن التصرف لحظة الخطر. لكن في الآية الأولى: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} نجد البطء والهدوء والرتابة؛ لأنها تحكي عن الإِعداد. لما يكون. إذن فالحق سبحانه وتعالى يعطي كل جنس قانوناً، وكل قانون يجب أن يُحترم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4297 في نطاقه، لأن تكافؤ الفرص بين الأجناس هو الذي يريده الله. وحينما أراد سبحانه وتعالى أن يبين لنا هذه المسألة أوضح أن على المؤمن أن ينظر إلى المعطيات من وراء التكاليف، وفي آية الدّيْن - على سبيل المثال - نجد الحق يوصي المقترض «المدين» - وهو الضعيف - أن يكتب الدَّيْن، ويعطي بذلك إقراراً للدائن وهو القوي القادر فيقول سبحانه: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ... } [البقرة: 282] والمسألة هنا في ظاهر الأمر أنه يحمي الدائن ونقوده، لكن علينا أن ننتبه إلى أنه يحمي المدين من نفسه؛ لأن الدَّيْن إن لم يكن موثقاً فالمدين لن يبذل الجهد الكافي للسداد، وباجتهاد المدين نفيد الوجود بطاقة فاعلة. ولكن إن لم نوثق الدَّيْن، وتكاسل المدين عن العمل والسداد فقد تشيع الفوضى في المجتمع ويرفض كل إنسان أن يقرض أحداً ما يحتاج إليه. وبذلك تفسد الأمور الاقتصادية. إذن فسبحانه حين يأمر بتوثيق الدَّيْن، وإن كان في ظاهر الأمر حماية للدائن. لكنّه في باطن الأمر يحمي سبحانه المدين، لأن هناك فرقاً بين ساعة التحمل للحكم، وساعة أداء الحكم. مثال ذلك حين يأتيك إنسان قائلاً: أنا عندي ألف جنيه وخائف أن يضيع مني فخذه أمانة عندك إلى أن أحتاج إليه، وبذلك يكون هذا الإِنسان قد استودعك أمانة ولا يوجد إيصال أو شهود، والأمر مردود إلى أمانة المودَع عنده إن شاء أنكر، وإن شاء أقر. ونجد من يقول لهذا الإِنسان: هات ما عندك. يقول ذلك وفي ذمته ونيته أن صاحب الألف جنيه حين يأتي ليطلبه يعطيه له، إنه يَعِدُ ذلك ساعة التحمل، لكنه لا يضمن نفسه ساعة الأداء، فقد تأتي له ظروف صعبة ساعة الأداء فيتعلل بالحجج ليبعد صاحب المال عنه. إذن هناك فرق بين حالة واستعداد حامل الأمانة ساعة الأداء لهذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4298 الأمانة. والمؤمن الحق هو من يتذكر ساعة التحمل والأداء معاً، إنّ بعض الناس يرفض الأمانة ليزيل عن نفسه عبء الأداء. والذي يتعلم شيئاً يناقض ناموس وجوده كتعلم السحر نقول له: احذر أن تُبتلى وتُفتن، بل ابتعد واحفظ نفسك ولا تستعمل ذلك، واحذر أن تقول أنا سأستعمل ما تعلمته من سحر في الخير، ومن يأتي لي وهو في أزمة سوف أحلها له بالسحر. ونقول: لهذا الإِنسان: أنت تتكلم عن وقت التحمل، ولكنك لا تتكلم عن وقت الأداء. ويقول الحق سبحانه: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117] والإِفك هو قلب الشيء على وجهه، ومنه الكذب. وعلمنا من قبل أن كل شيء له نسبة كلامية وله نسبة واقعية، فإذا قلت مثلاً «محمد مجتهد» فهذه نسبة كلامية، لكن أيوجد واحد في الواقع اسمه محمد وموثوق في اجتهاده؟ . إن كان الأمر كذلك فقد وافقت النسبة الكلامية النسبة الواقعية، ويكون الكلام هو الصدق، أما الكذب فهو أن تقول «محمد مجتهد» ولا يوجد إنسان اسمه محمد، وإن كان موجوداً فهو غير مجتهد، ويكون الكلام كذباً لأن النسبة الكلامية خالفت النسبة الواقعية، وحين يكذب أحد فهو يقلب المسألة ونسمى ذلك كذباً، وشدة الكذب تسمى إفكاً. أو الكذب ألا يكون هناك تطابق، وإن لم تكن تعلم، والإِفك أن تتعمد الكذب، وهذا أيضاً افتراء. {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَإِذَا} وهي تعبر عن الفجائية حيث ابتلعت عصا موسى - بعد أن صارت حية - ما أتى السحرة وجاءوا به من الكذب والإِفك وسحروا به أعين الناس. ويقول سبحانه بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4299 {فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4300 وقوله: {فَوَقَعَ الحق} أي صار الحق النظري واقعاً ملموساً؛ لأن هناك فارقاً بين كلام نظريًّا وكلام يؤيده الواقع، والوقوع عادة يكون من أعلى بحيث يراه ويعرفه كل من يراه. وقوله سبحانه: {فَوَقَعَ الحق} أي ثبت الحق، فبعد أن كان كلاماً خبريًّا يصح أن يصدَّق ويصح أن يُكَذب. صار بصدقه واقعاً. {فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . والذي بطل هو ما كانوا يعملون من السحر. إن الحق جعل الصدق موسى واقعاً مشهوداً. وبذلك غُلب السحرة. ويقول الحق: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4300 ولم يغلب السحرة فقط، بل غلب أيضاً فرعون وجماعته، وعاش كل من هو ضد موسى في صَغَار، صغار للمستدعِي وصغار للمستدعَى. لذلك ذيل الحق الآية بقوله: {وانقلبوا صَاغِرِينَ} أي أذلاء. ويقول الحق بعد ذلك: {وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4300 ولم يقل الحق: وسجد السحرة، ولكنه قال: «ألقى» مما يدل على أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4300 خرورهم للسجود ليس برأيهم، لكنه عملية انبهارية مما حصل أمامهم، كأن شيئاً آخر ألقاهم ساجدين، وهو الانبهار بالحق. فالساحر منهم كان يعتقد أنه هو الذي يسحر، ثم يفاجأ مجموع السحرة أن موسى حين ألقى عصاه رأوها حية بالفعل فعرفوا أن المسألة ليست سحراً، وحينما ألقوا عصيهم وحبالهم التي جاءوا بها من كل المدائن، قيل إنها حُملت على سبعين بعيراً وشاهدوا كيف أن العصا التي صارت حية أو ثعباناً لقفت كل هذا وابتلعته! وحجم العصا هو حجم العصا مهما طالت، وهكذا تيقن أن هذا لا يمكن أن يكون من فعل ساحر، وانظر إلى الاستجابة منهم لمَّا رأوا: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4301 وهل هم سجدوا بعد الإِيمان؟ أم آمنوا بعد السجود؟ النص هنا يظهر منه أنهم آمنوا بعد السجود، ولكن كان الأمر يقتضي ألا يسجد أحد إلا لأنه آمن، لكن نحن نعرف أن الإِيمان عمل قلبي، والسجود عمل عضلي وسلوك عملي، فكل منهم آمن بقلبه فسجد. وهناك فرق بين أن يؤمنوا فيسجدوا ثم يعلنوا إيمانهم؛ فيقولوا: آمنا برب العالمين؛ لذلك نحن لا نرتب السجود على إيمان، بل نرتب السجود مع القول بالإِيمان وبإعلان الإِيمان؛ لأن إعلان الإِيمان شيء، والإِيمان شيء آخر، فكأنهم آمنوا فخروا ساجدين وبعد هذا قاموا بإعلان الإِيمان، وكأن الناس سألوهم: ما الذي جرى لكم؟ فقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} . إذن فمن يحاول أن يستدرك على النص فعليه أن ينتبه إلى أن إخبارهم عن الإِيمان يعني وجود الإِيمان أولاً، والسحرة قد آمنوا فسجدوا، فاستغرب منهم الناس هذا السجود، وهنا قال السحرة: لا تستغربوا ولا تتعجبوا فنحن قد آمنا برب العالمين. {آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} [الأعراف: 121] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4301 وقيل في بعض التفاسير: إن فرعون قال: أنا رب العالمين. لكن السحرة لم يتركوا قوله هذا فأعلنوا أن رب العالمين هو: {رَبِّ موسى وَهَارُونَ} . وقال فرعون: لقد ربيت أنا موسى، فقالوا: لكنك لم ترب هارون. ولذلك أوضح الحق هنا أن رب العالمين هو: {رَبِّ موسى وَهَارُونَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4302 ولأن السحرة أعلنوها واضحة بالإِيمان برب العالمين رب موسى وهارون، وكان لابد أن يغضب فرعون، فيأتي القرآن بما جاء على لسانه: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4302 وكأن فرعون مازال يحاول تأكيد سلطانه، ونعلم أن بني إسرائيل اختلطوا بالناس في مصر، ومنهم من تعلم السحر. ولذلك اتهم فرعون السحرة بأنهم قد اتفقوا مع موسى على هذه المسألة. لقد كان فرعون في مأزق ويريد أن يخرج منه؛ لأن الناس جميعاً قد شاهدوا المسألة، وهو لا يريدهم أن يتشككوا في ألوهيته، فينهدم الصرح الذي أقامه على الأكاذيب؛ لذلك قال السحرة: إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة. . أي أنكم اتفقتم مع موسى، وسيأتي ويقول: اتهاماً لموسى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر ... } [طه: 71] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4302 ونتيجة لهذا المكر المتوهم بين بني إسرائيل وموسى يتوعدهم فرعون: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4303 والوعيد - كما نراه - قاسٍ وفظيع، فتقطيع الأيدي والأرجل ثم الصلب كلها أمور تخيف، فماذا يكون الرد ممن يتلقون هذا الوعيد، وقد خالطت بشاشة الإِيمان قلوبهم؟ إنهم يقولون: {قالوا إِنَّآ إلى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4303 إنك قد عجلت لنا الخير لأننا سنكون في جوار ربنا، فأنت بطيشك وحماقتك قد أسديت لنا معروفاً وخيراً من حيث لا تدري. ويزيدون في تقريع فرعون بما يجيء في القرآن على ألسنتهم: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4303 ما الذي تكرهه منا لأن «تنقم» تعني تكره، وقولهم لفرعون: أليس الذي تكرهه منا أنَّا آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا؟ وهل الإِيمان بآيات الإِله حين تجيء مما يُكره؟!! ويسمون ذلك في اللغة تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ كأن يقول إنسان: ماذا تكره فيّ؟ أصدقي؟ أمانتي؟ أجودي؟ أعلمي؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4303 كأنه يعدد أشياء يعرف كل الناس واقعاً أنها لا تُكره، لكن الخطأ في مقاييس من يكره الصواب، فهي أمور لا تستحق أن تُكره أو تعاب أو تُذَم. لقد تيقنوا أن لقاء الله على الإِيمان هو الخير وكلهم يفضل جوار الله على جوار فرعون. وهذا الذي يعتبره فرعون عقاباً إنما يثبت خيبته حتى في توقع العقوبة؛ لأنه لو لم يهددهم بهذه الميتة فهم سيموتون ليرجعوا إلى الله، وهذا أمر مقطوع به، وكل مخلوق مصيره أن ينقلب إلى الله، وكأنهم أبطلوا وعيد فرعون حين قال لهم: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 124] ثم يتجهون إلى ربهم وخالقهم فيقولون: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} . و «الإفراغ» أن ينصب شيء على شيء ليغمره، وكانهم يقولون: أعطنا يا رب كل الصبر، وهم يحتاجون إلى الصبر لأن فرعون قد توعدهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم. ولذلك قال بعض العارفين بالله: عجبي لسحرة فرعون كانوا أول النهار كفرة سحرة وكانوا آخر النهار شهداء بررة. ويقول سبحانه: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4304 وهكذا نعرف أن المقربين من فرعون هم أول من خافوا على سلطانهم، ويدل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4304 هذا القول أيضاً على أن فرعون لم يتعرض لموسى بأي أذى؛ لأنه مازال يعيش في رهبة اليقين وصولة الحق مما جعله متوجساً وخائفاً من موسى؛ لأن فرعون أول من يعلم أن مسألة ألوهيته كذب كلها، ويعلم جيداً أن موسى على حق، لكن إعلان انهزامه أمام الجمع ليس أمراً سهلاً على النفس البشرية، وسأل الملأ من قوم فرعون الذين اهتز أمامهم سلطانه ومكانته، قالوا: لفرعون: أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض؟ . أو فيما يبدو أن موسى وهارون تركا المكان بعد أن انتهيا من أمر السحرة، ولم يقبض عليهما فرعون؛ لذلك تساءل الملأ من قوم فرعون: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] و «يذرك» أي يدعك ويتركك، وكان فرعون يعتقد أن هناك آلهة علويين وآلهة سفليين، وهو رب العالم السفلي كله. لذلك قالوا: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} . وهناك قراءة أخرى «ويذرك إلاهتك أي عبادتك» . أي يتركك أنت ويترك عبادتك. ويقول فرعون: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ} . وحتى تلك اللحظة لم يتعرض فرعون لموسى، ولا يزال خوفه من موسى يمنعه من الاقتراب أو الدنو أو الاتصال به ولو بكلمة، إنه يأخذ الحذر من أن يقدم على شيء ضد موسى، فيفاجئه موسى مفاجأة ثانية. ويقال إن الثعبان الذي ظهر ساعة ألقى موسى عصاه فتح شدقيه واتجه إلى فرعون، فقال: كف عني وأومن بما جئت به. وهو أمر محتمل؛ لأن فرعون حتى هذه اللحظة لم يجرؤ على الاقتراب من موسى، وجاء بخبر قتل الأبناء وسبيْ النساء ولم يأت بسيرة موسى. { ... سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] والقوي حين يملك القدرة على الضعيف لا يشد الخناق عليه شدًّا ليفتك به؛ لأنه يعرف ضعفه، ويستطيع أن يناله في أي وقت، لكن لو كان الخصم أمامك قويًّا فأنت ترهبه بالقوة حتى يخضع لك. وهنا يقول فرعون: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4305 إن فرعون يؤكد لقومه أنهم مسيطرون وغالبون، ولن يستطيع قوم موسى أن يفلتوا منهم. ويؤكد فرعون: سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم؛ لأن الأبناء هم العدة، والنساء عادة شأنهن مبني على الحجاب، وعلى الستر، وفي إبقاء المرأة وقتل الرجل إذلال للرجال؛ لأن التعب سيكون من نصيب النساء. ولذلك كان العرب حين يغيرون على عدو، يصحبون نساءهم لتزيد الحمية ولا يخور ولا يجبن واحد وتراه زوجه أو أخته أو ابنته وهو على هذا الحال، وكذلك كان العرب يخافون الانهزام حتى لا يمسك العدو نساءهم ويأخذهن سبايا. وهنا يؤكد فرعون إصراره على إذلال قوم موسى بأن يعيد قتل الأبناء، وأن يستحيي النساء، وكان الفرعون يفعل مثل ذلك الأمر من قبل، والسبب في ذلك أن بني إسرائيل كانوا يساعدون ملوك الهكسوس، وبعد أن طرد الفراعنة الهكسوس، اتجهوا إلى إيذاء بني إسرائيل الذين كانوا في صف الهكسوس، ومن بقي من بني إسرائيل تعرض لتقتيل الأبناء، لكن الحق أنقذ موسى حين أوحى لأمه أن تلقيه في اليم ليربيه فرعون. وها هو ذا فرعون يعيد الكرة مرة أخرى بالأمر بتقتيل الأبناء وسبي النساء. ويقول الحق بعد ذلك: {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4306 ويقرر موسى الحقيقة الواضحة وهي أن الأرض ليست لفرعون، والعاقبة لا تكون إلاَّ للمتقين. وكأنه بهذا القول يريد أن يردهم إلى حكم التاريخ حيث تكون العاقبة دائماً للمتقين، فإن قال لفرعون: وإنا فوقهم قاهرون، مستعلون غالبون مسلطون مسيطرون، فإن موسى يرد على ذلك: أنا أستعين بمن هو أقوى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4306 منك. إن موسى عليه السلام يأمر بأن يستعينوا بالله، ويصبروا على ما ينالهم من بطش فرعون وظلمه. ولأن قوم موسى كانوا من المستضعفين، فإن الله وعدهم أن يؤمّنهم في الأرض ويمكن لهم فيها وهذا إخبار من الله وإخبار الله حقائق. ولكن ماذا كان موقف قوم موسى منه بعد هذا النصر العظيم لموسى، والنصر لهم؟ . نجد الحق سبحانه يقول: {قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4307 لقد قالوا لموسى: من قبل أن تأتينا أوذينا بأن قتلوا الأبناء واستحيوا النساء، وبعد أن جئت ها نحن أولاء نتلقى الإِيذاء. كأن مجيئك لم يصنع لنا شيئاً. إذن هم نظروا للابتلاءات التي يجريها الله على خلقه، ولم ينظروا إلى المنة والمنحة والعطاء وإلى آلاء الانتصار، وإلى أن فرعون قد حشد كل السحرة، وبعد ذلك هزمهم موسى، وكان يجب أن يكون تنبيها لهم لقدر عطاءات الله، هم يحسبون أيام البلاء، ولم يحسبوا أيام الرخاء. وقوله: {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} يدل على أنهم سوف يخونون العهود، ويفعلون الأشياء التي لا تتناسب مع هذه المقدمات. وفي الإِسلام نجد عمرو بن عبيد وقد دخل على المنصور قبل أن يكون أميراً للمؤمنين، وكان أمامه رغيف أو رغيفان، فقال: التمسوا رغيفاً لابن عبيد. فرد عليه العامل: لا نجد. فلما ولي الخلافة وعاش في ثراء الملك ونعمته دخل عليه ابن عبيد وقال: لقد صدق معكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4307 الحق يا أمير المؤمنين في قوله: { ... عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] وقد قال موسى لقومه بعد أن عايروه بعدم قدرته على رد العذاب عنهم. وهكذا استقبل قوم موسى أول هزيمة لفرعون أمام موسى، وقالوا له: أوذينا من قبل أن تأتينا، ومن بعد ما جئتنا، أي بالتذبيح، واستحياء النساء، وقتل الأبناء، فكأن مجيئك لم يفدنا شيئاً لأننا مقيمون على العذاب الذي كنا نُسامه. فلا حاجة لنا بك، ولا ضرورة في أن تكون موجوداً؛ بدليل أن الذي حدث بعدك هو الذي حدث قبلك. ولم يلتفتوا إلى أن الإِيذاء من قبل ومن بعد لا ينشأ إلا من عدو، فكأن موسى يرد عليهم بأن أسباب الإِيذاء ستنتهي، وأن الله سيهلك عدوكم الذي آذاكم من قبل ويؤذيكم من بعد. ولن يقتصر الأمر على هذه النعمة؛ بل يزيدكم بأن يستخلفكم في الأرض، ويعطيكم ملكهم ويعطيكم أرضهم. وكأن هنا أمرين: الأمر الأول سلبي: وهو إهلاك العدو، والأمر الثاني إيجابي: وهو استخلافكم في الأرض وهذا أمر لكم، ووعد من الله بأن تكون لكم السيادة والملك وعليكم أن تنتبهوا إلى أن نعمة الله عليكم بإهلاك عدوكم، وباستخلافكم في الأرض لن تترك هكذا، بل أنا رقيب عليكم أنظر ماذا تفعلون، هل تستقبلون هذه النعم بالشكر وزيادة الإِيمان واليقين والارتباط بالله، أو تكفرون بهذه النعمة؟ وحين يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى {عسى} فهي كلمة - كما يقول علماء اللغة - تدل على الرجاء، ومعنى الرجاء أن ما بعدها يكون مرجو الحصول. وهناك فرق بين التمني وبين الرجاء. فالتمني أن تتطلب أمراً مستحيلاً أو يكون في الحصول عليه عسر، ولكنك تريد - فقط - بالتمني إشعار حبك له، فأنت إذا قلت: ليت الشباب يعود، فهذا أمر لا يكون، ولكنك تعلن حبك لمرحلة الشباب. وقصارى ما يعطيه أن يعلمنا أنك تحب هذا المتمنَّي. لكن هل يتحقق أو لا يتحقق. . فهذه ليست واردة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4308 لكن «الرجاء» شيء محبوب يوشك أن يقع. وهكذا نعرف أن الرجاء أقوى من التمني. وأداة التمني «ليت» وأداة الرجاء «عسى» . وحين يكون بعد «عسى» ما يُرْجَى فلذلك مراحل تتفاوت بقوة أسباب الرجاء في الوقوع. فأنا مثلاً إذا قلت: عسى أن أكرمك فهذا أمر يعود إليّ أنا، لأنَّ إكرامي لك يقتضي بقائي، وعدم تغير نفسي من ناحيتك، فمن الجائز أن تتغير نفسي قبل أن أكرمك ولا يقع إكرامي لك. هذا هو الرجاء من صاحب الأغيار، ومادمت صاحب أغيار فقد لا أقدر على الإِكرام، أو أقدر ولكني لم أعد أحب هذا الأمر فقد انصرفت نفسي عنه، وهذا يفسد الرجاء ويقلل الأمل في حصوله. فإذا قلت لإِنسان: عسى الله أن يكرمك فلان وهو مساويه، فهذا أمر مستبعد قليلاً؛ لأن من يقول ذلك لا يملك أن يقوم فلان بإِكرام المساوي له، لأنه صاحب أغيار. لكن إذا قلت: عسى الله أن يكرمك فهذه أقوى، لأن ربنا لا يعجزه شيء عن إكرام إنسان. وهل يقبل الله أن يجيب رجاءك؟ هذه مسألة تحتاج إلى وقفة، فسبحانه من ناحية القوة له مطلق القدرة فلا شيء يعطله أو يستعصي أو يتأبى عليه. فإذا ما قال الحق عن نفسه: {عسى رَبُّكُمْ} فقد انتهت المسألة وتقرر الوعد وتحقق، وهذا ما يقال عنه رجاء محقق. إذن مراحل الرجاء هي: عسى أن أكرمك، وعسى أن يكرمك زيد، وعسى الله أن يكرمك، وأقوى ألوان الرجاء أن بعد الحق بالإِكرام أو بالرحمة. {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ... } [الأعراف: 129] والكلام كما نراه هو من موسى، ولا يقدر على هذه المسألة إلا الله، فما موقع هذا من تحقيق الرجاء؟ . نعلم أن موسى رسول أرسله الله لهداية الخلق، وأرسله مؤيداً بالمعجزة، فإذا كان الرسول المؤيد بالمعجزة قد أمره الله أن يبلغهم ذلك، فيكون الرجاء منه مقبولاً: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} . ومرة تكون إزالة الشيء الضار نعمة بمفردها، أما أن يهلك الله عدوي ويعطيني الحق مكانة عدوي العالية فهذه نعمة إيجاب، تكون بعد نعمة سلب. ومثل هذا ما سوف يحدث يوم القيامة؛ لأن الحق يقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4309 {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ ... } [آل عمران: 185] ومجرد الزحزحة عن النار فضل ونعمة، فما بالك بمن زُحزح عن النار وأدخل الجنة؟ . لقد نال نعمتين. وهنا يقول الحق سبحانه: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} . وتلك وحدها نعمة تليها نعمة أخرى هي: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض} . لكن ثمن هذه النعم هو أن ينظر ماذا تعملون؟ . هل ستشكرون هذه النعم وتكونون عباداً صالحين، أو تجحدونها وتكفرونها؟ فالإِنسان ظلوم كفار. وكلمة «ينظر» إذا جاءت على الإِنسان فُهِم المراد منها أي يراك بناظره. وإذا أُسندت لله فالأمر مختلف، فتعالى الله أن تكون له حدقة عين مثل عيوننا. لكنه سبحانه لا يجهل شيئاً لينظره؛ لأنه هو - سبحانه - عالمه قبل أن يقع. ونعلم أن هناك فارقاً بين الحكم على المخلوق بعلم الخالق، وبين الحكم على المخلوق بعمل المخلوق. مثال ذلك نجد الأستاذ في مادة ما يعرف مستويات الطلاب الذين يدرسون على يديه. وعميد الكلية يقول له: ما رأيك؟ فيقول فلان تلميذ يستحق النجاح بتقدير مرتفع والثاني لابد أن يرسب. الأستاذ يقول هذا الحكم بناء عن علمه بحال كل طالب. لكن إذا أرسب الأستاذ طالباً بناء على تقديره دون امتحان فالطالب الذي رسب قد يقول لأستاذه: أنت شططت في الحكم؛ ولو مكنتني من الامتحان لنجحت. وحين يقرر العميد امتحان الطالب، ويؤدي الامتحان بالفعل، ولكنه يرسب. هنا يتأكد للعميد أن الحكم برسوب طالب قد عرفه الأستاذ أولاً ثم تلا ذلك إخفاق الطالب في الامتحان. إن الله سبحانه حين يقول: {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} . هو سبحانه لا ينظرها ليعلمها - حاشا الله - فهو عالمها، ولكنه لا يريد أن يحكم بعلمه على خلقه. ولكن يريد أن يحكم على خلقه بفعل خلقه، وسبحانه عالم أزلاً بكل من يهدي ومن يضل. ولذلك خلق الجنة وخلق النار لتسع كل منهما كل الخلق، ولم يخلق أماكن في الجنة على قدر من سوف يدخلونها فقط، وكذلك لم يخلق أماكن في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4310 النار لا تسع فقط أهل النار، بل يمكنها أن تسع كل الخق، ولم يحكم بعلمه في هذه المسألة، بل يترك الحكم الأخير لواقع الأشياء مادام هناك اختيار للإِنسان، فعلى فرض أنكم جميعاً آمنتم فلكم كلكم أماكن في الجنة. وعلى فرض أنكم - والعياذ بالله - كفرتم فلكم أماكن في النار، وسبحانه لن ينشئ شيئاً جديداً، بل أعد كل شيء وانتهى الأمر. وحين يأتي أهل الجنة ليدخلوا الجنة، وأهل النار ليدخلوا النار سوف يكون لأهل الجنة مقاعد أخرى كانت مخصصة لمن دخلوا النار. ويعلن لأهل الجنة: أورثتموها وخذوها أنتم: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا ... } [الأعراف: 43] وهي ميراث من الذين كانت معدة لهم ولم يقوموا بالعمل المؤهل لامتلاكها. فإياك أن تفهم أن نظر الله إلى خلقه ليعلم منه شيئاً. لا. أنَّه العليم أزلاً. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب ... } [الحديد: 25] وسبحانه يعلم أزلاً ويتحقق بسلوك الناس علمهم بأفعالهم واقعاً، وعلم الواقع هو الذي يكون حجة على الخلق. وهنا في الآية التي نحن بصددها ثلاثة أشياء: أن يهلك سبحانه عدوكم، وأن يستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون. ونحقق فيما تحقق منهما. وجاء سبحانه في مقدمة الإِهلاك، فقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4311 وهكذا نرى أن الإِهلاك لم يحدث دفعة واحدة، بل على مراحل لعلهم إذا أصابتهم شدة يضرعون إلى الله. نحن نعلم أن السنة هي العام. . أي من مدة إلى نهاية مدة مثلها، لكنها تطلق - أيضاً - على الجدب والقحط. ولذلك يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في دعائه على قومه: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» أي أن ينزل بهم سبحانه بعضاً من الجدب ليتأدبوا قليلاً. ويقال: «أسنت القوم» أي أصابهم قحط وجدب. إذن فالسنة المراد منها هنا القحط والجدب. ولماذا سماها سنة؟ لأن نعم الله متوالية كثيرة، وابتلاءاته لخلقه بالشرِّ قليلة في الكون، وسبحانه ينعم عليهم مدة طويلة ثم يبتليهم في لحظة، فإذا ما ابتلاهم في وقت يؤرخ به، ويقال حدث الابتلاء سنة كذا فيقال: سنة الجراد، سنة حريق القاهرة، وهكذا نجد الناس تؤرخ بالأحداث المفجعة؛ لأن الأحداث السارة عادة تكون أكثر من الأحداث السيئة. ولذلك قلنا إن الذي يعد أيام البلاء عليه أن يقارنها بأيام الرخاء، وعلى الواحد منا أن ينظر إلى أيام السنة التي عاشها، إن جاء له يوم بلاء حزن نقل له: وكم مرة عشت ونعمت بالرخاء؟ ونجد أن أيام الرخاء هي أكثر من أيام البلاء: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات} . وعرفنا أن السنين - كما قلنا - تعني الجدب والقحط، أما قوله سبحانه: {وَنَقْصٍ مِّن الثمرات} فهو يدل على أن بعضاً من الثمار كان موجوداً، أو كان الجدب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4312 والقحط في البادية، أما «نقص الثمرات» فكان في الحضر، ويقال: إن النخلة الواحدة في الحضر كانت لا تطرح في السنة إلا بلحة واحدة. ولماذا هذه البلحة؟ لأن أسباب رحمته سبحانه يجب أن تبقى في خلقه، ولو أن النخل كله لم يطرح ولا بلحة واحدة لا نقطع نسل النخيل؛ لذلك يُبقي الله أسباب رحمته لنا. إننا نرى في واقعنا مهما حاولوا أن يستزرعوا فواكهه بدون بذور بواسطة التقدم العلمي المعاصر، نجد ثمرة وقد شذت وفيها بذرة، لماذا؟ يقال لنا لاستبقاء النوع، فلو خرجت كل الثمار بلا بذور ثم أكلناها جميعها فكيف نزرع محصولاً جديداً؟ ولذلك قلنا من قبل إن الحق سبحانه وتعالى من رحمته بالخلق في استبقائه للنعم ومقومات الحياة لم يجعل الثمار حلوة تستساغ إلا بعد أن تَنْضج بذرتها، فأنت حين تفتح البطيخة إن كان بذرها أبيض تجد طعمها لا يستساغ وترميها. لكن حين يسودَّ بذرها ويكون صالحاً لأن تعيد زراعته، هنا تكون ثمرة البطيخة ناضجة وحلوة الطعم. وبذلك يوضح لك الحق أن الثمار لن تصير مقبولة ومستساغة إلا بعد أن تنضج بذرتها لتكون صالحة لاستنباتها من جديد، وفي هذا استبقاء للرحمة، وحتى مع العاصين نجده سبحانه يستبقي الرحمة معهم. {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يعني أن على الإِنسان أن يتذكر أنه الخليفة في الأرض وأنه غير أصيل في الكون حتى يظل العالم مستقيماً. لكن الذي يفسد العالم أن الإِنسان حينما تستجيب له أسباب الحياة، وسننها الكونية ويحرث ويبذر ويطلع الزرع، ويشعل النار ويستخرج المياه من الآبار ينسى أن كل ذلك «أسباب» ولا يتذكر المُسبِّب إلا حينما تمتنع عليه الأسباب. والمثال في حياتنا اليومية أن الإِنسان منا إذا جاء ليفتح صنبور المياه في البيت فلم يجد ماءً فيتجه أول ما يتجه إلى محبس المياه الذي يتحكم في مياه المنزل ويرى هل به خلل أو سدد، وإن وجده سليماً، يبحث هل أنبوبة وماسورة المياه الرئيسية مكسورة أو لا؟ وإن كانت ماسورة المياه سليمة فهو يبحث عن الخلل في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4313 آلة رفع المياه، ويظل يبحث في الأسباب الكثيرة، وقديماً لم تكن المياه تأتي إلا من الآبار وعندما لا يوجد في البئر ماء يقول العبد: يا رب اسقني. والحضارة الآن أبعدتنا بالأسباب عن المسبِّب. والحق قد أخذ قوم فرعون بالسنين ونقص الثمرات لينفض أيديهم من أسبابها، فإذا نفضت اليد من الأسباب لم يبق إلا أن يلتفتوا إلى المسبِّب ويقولون: «يا رب» ويقول القرآن عن الإِنسان: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً ... } [يونس: 12] إذن فالإِنسان يذكر المسبِّب حين تمتنع عنه الأسباب، لأنها مقومات الحياة، فإذا امتنعت مقومات الحياة يقول الإِنسان: يا رب، وهكذا كان ابتلاء الله لقوم فرعون بأخذهم بالسنين ونقص الثمرات ليذكروا خالقهم. ويقول الحق بعد ذلك: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4314 والحسنة إذا أطلقت فهي الأمر الذي يأتي من ورائه الخير. ولكن الحسنة مرة تكون لك، ومرة تُطْلَب منك، فالحسنة التي لك في ذاتك أولاً أن تكون في عافية وسلام، ثم الحسنة في مقومات الذات ومقومات الحياة، وهي في النبات، والحيوان، والخصب والثروة. والحسنة المطلوبة منك هي أيضاً لك. فسبحانه يطلب منك عمل شيء يورِّثك في الآخرة حسنة، ولذلك يقول سبحانه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4314 {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ... } [الأنعام: 160] وهذه هي الحسنة التي تعطي الإِنسان خيراً فيما بعد. إذن فالحسنة التي في ذاتك من عافية وسلامة أو في مقومات الذات من ثمرات وحيوانات وخصب وأعشاب وثراء فكلها موقوتة بزمن موقوت هو الدنيا. والحسنة الثانية غير محدودة لأن زمنها غير محدود. فأي الحسنات أرجح وأفضل بالنسبة للإِنسان؟ . إنها حسنة الآخرة. وقوله الحق: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة} أي جاء لهم قدر من الخصب والثمار وغير ذلك من الرزق يقولون: «لنا هذه» أي أننا نستحقها؛ فواحد يقول: أنا أستحقها لأنني رتبت لها وأتقنت الزراعة والحصاد مثلما قال قارون: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ علىعلم عندي ... } [القصص: 78] وأجرى عليه الحق التجربة، فمادام يدعي أنه جاء بالمال على علم من عنده فليجعل العلم الذي عنده يحافظ له على المال أو يحافظ له على ذاته. وهم قالوا عن الحسنات التي يهبها الله لهم: «قالوا لنا هذه» أي نستحقها، لأننا قدمنا مقدمات تعطينا هذه النتائج. وجرت العادة قديماً بأن يفيض النيل كل سنة يغمر الأرض، ثم يبذرون الحب وينتظرون الثمار. فإن جاءت لهم سيئة مثل أخذهم الله لهم بالسنين ينسبون ذلك لموسى. { ... وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131] فإذا ما جاءتهم سيئة يطَّيَّرون أي يتشاءمون لأن الطيرة هي التشاؤم، وضده التفاؤل، ويقال: «فلان طائره نحس» ، و «فلان طائره يمن وسعد» . وقديماً حينما كانوا يريدون طلب مسألة ما، يأتون بطير ويضعه صاحب المسألة على يده ويزجره ويثيره، فإن طار يميناً فهذا فأل حسن، وإن طار يساراً فهذا فأل سيئ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4315 والحق هنا يوضح: لا تظلموا موسى، لأن شؤمكم أو حظكم السيئ ليس من موسى؛ لأن موسى لا يملك في كون الله شيئاً، وإنما المالك للكون هو رب موسى. وكأن الحق يريدهم أيضاً ألا يفتنوا في موسى إن صنع شيئاً يأتي لهم بخير، وهنا يقول لهم لا تتطيروا بموسى، لأن طائركم من عند الله. ولأن أحداث الحياة صنفان: حدث لك فيه مدخل، مثل التلميذ الذي لم يذاكر ويرسب، أو إنسان لا يحسن قيادة سيارته فقادها فعطبت به أو أصاب أحداً إصابة خطيرة، وهنا لا غريم لهذا الإِنسان، بل هو غريم نفسه. وهناك شيء يقع عليك، واسمه حدث قهري، فالإِنسان في الأحداث بين أمرين اثنين: إما مصيبة دخلت عليه من ذات نفسه لتقصيره في شيء. وإمَّا أحداث قدرية تنزل بالإِنسان ونقول إنها من عند الله لحكمة لا يعرفها الإِنسان؛ لأن الإِنسان ينظر إلى سطحيات الأشياء، وإلى عاجل الأمر فيها، ولكنه لا ينظر إلى عاقبة الأمر. ولهذا تحدث له بعض من الأحداث ليس له فيها مدخل. مثال ذلك: أن يكون للإِنسان ابن نجيب وذكي وترتيبه دائماً من العشرة الأوئل، ثم جاء في ليلة الامتحان أو في يوم الامتحان وأصابه صداع جعله لا يعرف كيف يجيب عن أسئلة الامتحان ورسب، وهذه مصيبة ليس له مدخل فيها. وعادة ما يحزن الناس من مثل هذه المصائب لكن المؤمن يقول: إن الولد لم يقصر، وهذا أمر جاء من الله، وسبحانه منزه عن العبث، بل حكيم ولابد أن له حكمة في مثل هذه الأمور. وبعد مدة تتبين الحكمة، فلو كان الولد قد نجح لأصابته عين الحسود. وحدث له ما يكره، فكأن الله يصنع له تميمة يحميه بها من الحسد. وقديماً حين كانوا يصنعون للطفل الجميل «فاسوخة» ، ولا يهتمون بنظافته ولا بملابسه، لماذا؟ يقال حتى لا تتجه إليه عين العائن الحاسد. وأقول: وما الذي يدرك أن الله سبحانه وتعالى صنع الحادث الطارئ ليرد عنه العين، ويُسكت الناس عنه؟ وما الذي يدريك أن الله أراد له أن يرسب هذا العام لأنه لم يكن يستطيع الحصول على المجموع الذي يدخله الكلية التي يريدها، ثم يستذكر في العام التالي وتكون المذاكرة سهلة بالنسبة له، ونقول له: احمد ربك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4316 على أنك لم تنجح في العام السابق وأن الله أراد بك خيراً. . لتبذل جهداً وتنجح وتنال المجموع الذي أردته لنفسك. إذن فالمقادير التي تجري على الناس بدون دخل لهم فيها، فلله فيها حكمة، وهنا يقال: {طَائِرُهُمْ عِندَ الله} ، أما إن كان للإِِنسان دخل فيما يجري له فيقال: طائرك من عندك أنت وشؤمك من نفسك وعصيانك. {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131] ألم يتطير اليهود في المدينة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما قالوا: قلت الأمطار وارتفعت الأسعار من شؤم مجيء هذا الرجل، ولم يتفهموا حكم الله. لقد كانوا سادة في الجزيرة؛ لأنهم أهل علم بالكتاب وسيطروا على حركة السوق التجارية، وتعاملوا في الربا وتجارة السلاح وكان عندهم الحصون، والأسلحة، وأراد الله أن يشغلهم بأخذ شيء من أسبابهم ويهد كيانهم ليلفتهم إلى أنهم خرجوا عن المنهج إلى أن هناك رسولاً قد جاء بعودة إلى المنهج. وقوله الحق: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يفيد أن هناك قلة تعلم. فما موقف هذه القلة، ولماذا لم يرفضوا موقف الكثرة؟ . كان موقفهم هو الصمت خوفاً من الطغيان؛ لأن الطاغية أجبرهم وقهرهم وجعلهم يسكتون ولا يعترضون على باطل، ونرى في حياتنا كثيراً من الناس يعلمون الزور ويعلمون الطغيان ولكنهم لا يتكلمون. ويقول الحق بعد ذلك: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4317 أي وقال قوم فرعون لموسى عليه السلام: أي شيء تأتينا به من المعجزات لتصرفنا عما نحن فلن نؤمن لك، وسموا ما جاء به موسى «آية» استهزاء منهم وسخرية. وكل هذه مقدمات تبرز الإِهلاك الذي قال الله فيه: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ... } [الأعراف: 129] وأعلنوا أن ما جاء به موسى هو سحر على الرغم من أنهم رأوا السحرة الذين برعوا في السحر وعرفوا طرائقه وبذّوا فيه سواهم قد خروا ساجدين وآمنوا، كيف يحدث هذا والسحرة كلهم جُمِعوا إلى وقت معلوم؟ وشهد كل الناس التجربة الواقعية التي ابتلعت فيها عصا موسى كل سحر السحرة فآمنوا وسجدوا، فكيف يتأتى لمن لا يعرفون السحر أن يتهموا موسى بالسحر؟ وكيف يظنون أن ما يأتي به من آيات الله هو لون من السحر؟ . إنهم يقولون كلمة «مهما» وهي تدل على استمرارية العناد في نفوسهم مثلما يقول واحد لآخر: لقد صممت على ألا أقبل كلامك، فيكرر الرجل: انتظر لتسمع حجتي الثانية فقد تقنعك، فيقول: مهما تأتني من حجج فلن أسمع لك، وهذا يعني استمرارية العناد والجحود والتمرد ويقدمون حيثيات هذا الجحود فيقولون: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132] وإذا كانوا يظنون أن آيات الله التي مع موسى من السحر، فهل للمسحور إرادة مع الساحر؟ . لو كانت المسألة سحراً لسحركم وانتهى الأمر. وقلنا قديماً في الرد على الذين قالوا: إن محمداً يسحر ليؤمنوا به، قلنا إذا كان هو قد سحر الناس ليؤمنوا به، فلماذا لم يسحركم لتؤمنوا وتنفض المسألة؟ إن بقاءكم على العناد دليل على أنه لا يملك شيئاً من أمر السحر. وأنت ساعة تسمع كلمة «مهما» تعرف أن هناك شرطاً، وله جواب، ويقول العلماء: إن أصلها «مه» أي كُفّ عن أن تأتينا بأية آية فلن نصدقك. وهذا يعني أن هناك إصرار وعناداً على عدم الإِيمان. ويبين الحق عقابه لهم على ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4318 {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4319 وكلمة «الطوفان» يراد بها طغيان ماء، والماء - كما نعلم - هو سبب الحياة، وقد يجعله الله سبباً للدمار حتى لا تفهم أن المسائل بذاتيتها، بل بتوجيهات القادر عليها، وعندما ننظر إلى الطوفان الذي أغرق من قبل قوم نوح، ولم ينج أحد إلا من ركب مع نوح في السفينة؛ وهنا مع قوم موسى لا توجد سفينة، لأن الله يريد أن يؤكد لهم العقاب على طغيانهم. وإذا كان الطوفان قد أصاب آل فرعون ومعهم بنو إسرائيل لدرجة أن الواحد منهم كانت المياه تبلغ التراقي فيبقى واقفاً لأنه لو جلس يموت، ويظل هكذا، وأمطرت عليهم السماء سبعة أيام، لا يعرفون فيها الليل من النهار ويرون أمامهم بيوت بني إسرائيل لا تلمسها المياه، وهذه معجزة واضحة، لقد عمّ الطوفان وأراد الحق أن ينجي بني إسرائيل منه دون حيلة منهم حتى لا يقال آية كونية جاءت على هيئة طوفان وانتهت المسألة، لكن الطوفان جاء لبيوتهم ولم يلمس بني إسرائيل. وقال الرواة: إن الطوفان دخل على فرعون حتى صرخ واستنجد بموسى، وقال له: كف عنا هذا ونؤمن بما جئت به، ودعا موسى ربه فكف عنهم الطوفان. لكنهم عادوا إلى الكفر. وجعل الله من آياته لمحات، وإشارات، بدأت بالطوفان، وحين يوضح ربنا: أنا عذبت بالطوفان قوم نوح، وقوم فرعون، فهو يعطينا ملامح تشعرنا بصدق القضية، فيهبط السيل في أي بلد ويهدم الديار ويغرق الزرع والحيوانات، لنرى صورة كونية، وكذلك الجراد يرسله الله على فترات فيهبط في أي وقت من الأوقات، ونقيم الحملات لمكافحته، وهذا دليل على صدق الأشياء التي حكى الله عنها، فلو لم يوجد جراد ولا طوفان لكنا عرضة ألا نصدق. وابتلاهم الله بالقمل كذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4319 {والقمل} هو غير القَمْل. فالقَمْل هو الآفة التي تصيب الإِنسان في بدنه وثيابه وتنشأ من قذارة الثياب، أما القُمَّل فقيل هو السوس الذي يصيب الحبوب، ومفردها قُمَّلَة، وقيل هو ما نسميه بالقراد، وقيل هو الحشرات التي تهلك النبات والحرث، وحين نراه نفزع ونبحث عن تخليص الزرع منه باليد والمبيدات، وكل ذلك من تنبيهات الحق للخلق، وهي مجرد تنبيه وإرشاد ولَفْتٌ للالتفات إلى الحق. وكذلك يرسل الله عليهم {والضفادع} ، وعندما يضع أي إنسان منهم يده في شيء يجد فيها الضفادع؛ فإناء الطعام يرفع عنه الغطاء فترى فيه الضفادع، والمياه التي يشربها يجد فيها الضفادع! {وإن فتح فمه تدخل ضفدعة في الفم} ! . فهي آية ومعجزة، وكذلك {والدم} ، فكان كل شيء ينقلب لهم دماً. ويقال: إن امرأة من قوم فرعون أرادت أن تشرب ماء، فذهبت إلى امرأة من بني إسرائيل وقالت لها: خذي الماء في فمك ومُجيه في فمي، كأنها تريد أن تحتال على ربنا وتأخذ مياها من غير دم، فينتقل من فم الإسرائيلية وهو ماء، فإذا ما دخل فم المرأة التي هي من قوم فرعون صار دماً. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ ... } [الأعراف: 133] وقوله سبحانه: {مُّفَصَّلاَتٍ} أي لم يأت بها جل وعلا كلها مجتمعة مع بعضها البعض لتفزعهم دفعة واحدة وتختبرهم أيعلنون الإِيمان أم لا؟ بل جاء سبحانه بكل آية مُفصلة عن الآخرى؛ فلا توجد آية مع آية أخرى في وقت واحد، أو جاء بها علامات واضحات فيها مواعظ وعبر، مما يدل على موالاة الإِنذارات للرغبة في أن يَذّكروا، وأن يرتدعوا، فلو اذكروا وارتدعوا من آية واحدة يكف عنهم سبحانه البأس. وأرسل سبحانه الآيات وهي: طوفان، جراد، قمل، ضفادع، دم، هذه آيات خمس في هذه آيات خمس في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، ومن قبل قال الحق إنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4320 أخذهم بالسنين، وكذلك نقص الثمرات، فأصبحت الآيات سبعاً، ومن قبل كانت عصا موسى التي كانت تلقف ما صنعه السحرة فصارت ثماني آيات، وكذلك «اليد البيضاء» التي أراها موسى لفرعون وملئه فيصبح العدد تسع آيات، إذن فالآيات بترتيبها هي: العصا، واليد، والأخذ بالسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. والآيات المفصلات. . هي عجائب؛ كل منها عجيبة يسلطها الله على مَن يريد إذلاله، ويبتلي الله بها نوعا من الناس ولا يبتلي بها قوماً آخرين. فماذا كان موقفهم من الآيات العجائب؟ نجد الحق يذيل الآية: {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} . إنهم لم يؤمنوا، بل تكبروا وأجرموا في حق أنفسهم وقطعوا ما بينهم وبين الإِيمان. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4321 هم إذن بعد أن استكبروا وكانوا قوماً مجرمين، وتوالت عليهم الأحداث، والرجز هو الأمور المفزعة وما نزل بهم من العذاب، وهنا ذهبوا إلى موسى ليسألوه أن يدعو الله ليكشف ويرفع عنهم ما نزل بهم من العقاب. إذن فهم آمنوا بأن موسى مرسل من رب، وهم قد فهموا أن الرجز الذي عاشوا فيه لن يرتفع إلا من ذلك الرب. وهذا ينقض ربوبية إلههم فرعون، لأنه لو كانت ربوبية فرعون في عقيدتهم لذهبوا إليه ولم يذهبوا إلى عدوهم موسى ليسألوه أن يدعو لهم الله. ومن هنا نأخذ أكثر من قضية عقدية هي أولاً: أن ألوهية فرعون باطلة، وثانياً: أن موسى مقبولْ الدعاء عند ربه، وثالثاً: أنه إن لم يكشف ربه هذا العذاب فسيستمر هذا العذاب، وكل هذه مقدمات تعطي الإِيمان بالله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4321 { ... قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إِسْرَآئِيلَ} [الأعراف: 134] أي ادع ربّك بما أعطاك الله من العهد أن ينصرك لأنك رسوله المؤيَّد بمعجزاته وهو لن يتخلى عنك. ادع الله أن يرفع عنا العذاب والله لئن رفعت وكشفت عنا ما نحن فيه من العذاب لنؤمنن بك ولنصدقن ما جئت به ولنرسلن ونطلقن معك بني إسرائيل، وقد كانوا يستخدمونهم في أحط وأرذل الأعمال، ولكنهم في كل مرة بعد أن يكشف الحق عنهم العذاب يعودون إلى نقض العهد بدليل قوله سبحانه عنهم: {فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4322 فكأن لهم مع كل آية نقضاً للعهد، وانظر الفرق بين العبارتين: بين قوله الحق: {فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} وبين قوله السابق: {ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز} ، فمن إذن يكتشف الرجز؟ إن الكشف هنا منسوب إلى الله، وكل كشف للرجز له مدة يعرفها الحق، فهو القائل: {إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} . والنكث هو نقض العهد. ويتابع سبحانه: {فانتقمنا مِنْهُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4322 ويوضح هنا سبحانه أنه مادام قد أخذهم بالعقاب في ذواتهم، وفي مقومات حياتهم، وفي معكرات صفوهم لم يبق إلا أن يهلكوا؛ لأنه لا فائدة منهم؛ لذلك جاء الأمر بإغراقهم، لا عن جبروت قدرة، بل عن عدالة تقدير؛ لأنهم كذبوا بالآيات وأقاموا على كفرهم. ويلاحظ هنا أن أهم ما في القضية وهو الإِغراق قد ذكر على هيئة الإِيجاز، وهو الحادث الذي جاء في سورة أخرى بالتفصيل، فالحق سبحانه يقول: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52] ولم يأت الحق هنا بتفاصيل قصة الإِغراق؛ لأن كل آية في القرآن تعالج موقفاً، وتعالج لقطة من اللقطات؛ لأن القصة تأتي بإجمال في موضع وبإطناب في موضع آخر، وهنا يأتي موقف الإِغراق بإجمال: {فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم} . وكلمة {فَأَغْرَقْنَاهُمْ} لها قصة طويلة معروفة ومعروضة عرضاً آخر في سورة أخرى، فحين خرج موسى وبنو إسرائيل من مصر خرج وراءهم فرعون، وحين رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا بمنطق الأحداث: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} . مدركون من فرعون وقومه لأن أمامهم البحر وليس عندهم وسيلة لركوب البحر. لكن موسى المرسل من الله علم أن الله لن يخذله؛ لأنه يريد أن يتم نعمة الهداية على يديه، كان موسى عليه السلام ممتلئاً باليقين والثقة لذلك قال بملء فيه: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] هو يقول: «كلا» أي لن يدركوكم لا بأسبابه، بل أسباب من أرسله بدليل أنه جاء بحيثيتها معها وقال: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} . لقد تكلم بمنطق المؤمن الذي أوى إلى ركن شديد، وأن المسائل لا يمكن أن تنتهي عند هذا الوضع؛ لأنه لم يؤد المهمة بكاملها، لذلك قال: «كلا» يملء فيه، مع أن الأسباب مقطوع بها. فالبحر أمامهم والعدو من خلفهم، وأتبع ذلك بقوله: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4323 سَيَهْدِينِ} بالحفظ والنصرة. . أي أن الأسباب التي سبق أن أرسلها معي الله فوق نطاق أسباب البشر، فالعصا سبق أن نصره الله بها على السحرة، وهي العصا نفسها التي أوحى له سبحانه باستعمالها في هذه الحالة العصيبة قائلاً له: {اضرب بِّعَصَاكَ البحر ... } [الشعراء: 63] ونعرف أن البحر وعاء للماء، وأول قانون للماء هو السيولة التي تعينه على الاستطراق، ولو لم يكن الماء سائلاً، وبه جمود وغلظة لصار قطعاً غير متساوية، ولكن الذي يعينه على الاستطراق هو حالة السيولة، ولذلك حين نريد أن نضبط دقة استواء أي سطح نلجأ إلى ميزان الماء. وقال الحق سبحانه لموسى عليه السلام: {اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63] وحين ضرب موسى بعصاه البحر امتنع عن الماء قانون السيولة وفقد قانون الاستطراق، ويصور الله هذا الأمر لنا تصويراً دقيقاً فيقول: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} . أي صار كل جزء منه كالطود وهو الجبل، ونجد في الجبل الصلابة، وهكذا فقد الماء السيولة وصار كل فرق كالجبل الواقف، ولا يقدر على ذلك إلا الخالق، لأن السيولة والاستطراق سنة كونية، والذي خلق هذه السنة الكونية هو الذي يستطيع أن يبطلها. وحين سار موسى وقومه في اليابس، وقطع الجميع الطريق الموجود في البحر سار خلفهم فرعون وجنوده وأراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ليعود إلى السيولة وإلى الاستطراق حتى لا يتبعه فرعون وجنوده، وهذا تفكير بشري أيضاً، ويأتي لموسى أمر من الله: {واترك البحر رَهْواً ... } [الدخان: 24] أي اترك البحر ساكناً على هيئته التي هو عليها ليدخله فرعون وقومه، إنه سبحانه لا يريد للماء أن يعود إلى السيولة والاستطراق حتى يُغري الطريق اليابس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4324 فرعون وقومه فيأتوا وراءكم ليلحقوا بكم، فإذا ما دخلوا واستوعبهم اليابس؛ أعدنا سيولة الماء واستطراقه فيغرقون؛ ليثبت الحق أنه ينجي ويهلك بالشيء الواحد، وكل ذلك يجمله الحق هنا في قوله: {فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم} . و «اليم» هو المكان الذي يوجد به مياه عميقة، ويطلق مرة على المالح، ومرة على العذب، فمثلاً في قصة أم موسى، يقول الحق: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم ... } [القصص: 7] وكان المقصود باليم هناك النيل، لكن المقصود به هنا في سورة الأعراف هو البحر. ويأتي سبب الإِغراق في قوله: {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} . كيف إذن يعذبهم ويغرقهم نتيجة الغفلة، ونعلم أن الغفلة ليس لها حساب؟ بدليل أن الصائم قد يغفل ويأكل ويصح صيامه. ويقال إن ربنا أعطى له وجبة تغذيه بالطعام وحسب له الصيام لأنه غافل. لكن هنا يختلف أمر الغفلة؛ فالمراد ب «غافلين» هنا أنهم قد كانوا قد كذبوا بآيات الله ثم أعرضوا إعراضاً لا يكون إلا عن غافل عن الله وعن منهجه، ولو أنهم كانوا عباداً مستحضرين لمنهج الله لما صح أن يغفلوا، وهذا القول يحقق ما سبق ان قاله سبحانه: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ... } [الأعراف: 129] ثم يأتي بعد ذلك القول الذي يحقق ما سبق أن قاله سبحانه: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] ويقول الحق تأكيداً لذلك: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4325 أي صارت مصر والشام تحت إمرة بني إسرائيل، وهي الأرض التي باركها الله، بالخصب، وبالنماء، بالزروع، بالثمار، بالحيوانات، وبكل شيء من مقومات الحياة، وترف الحياة: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} . {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} أي استمرت عليهم الكلمة وتم وعد الله الصادق بالتمكين لبني إسرائيل في الأرض ونصره إياهم على عدوهم، واكتملت النعمة؛ لأن الله أهلك عدوهم وأورثهم الأرض، وتحققت كلمته سبحانه التي جاءت على لسان موسى: { ... وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] هكذا تمت كلمة الله بقوله سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] ونعلم أن كلمة {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} تقال بالنسبيات؛ فليس هناك مكان اسمه مشرق وآخر اسمه مغرب، لكن هذه اتجاهات نسبية؛ فيقال هذا مشرق بالنسبة لمكان ما، وكذلك يقال له «مغرب» بالنسبة لمكان آخر. وحين ينتقل الإِنسان إلى مكان آخر يوجد مشرق آخر ومغرب آخر. وعلى سبيل المثال نجد من يسكن في الهند واليابان يعلمون أن منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لهم مغرب، ومن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4326 يسكنون أوروبا يعرفون أن الشرق الأوسط بالنسبة لهم مشرق. وقلنا من قبل: إن الحق حين جاء «بالمشرق والمغرب» بصيغة الجمع كما هنا فذلك إنما يدل على أن لكل مكان مشرقاً، ولكل مكان مغرباً؛ فإذا غربت الشمس في مكان فهي تشرق في مكان آخر. وفي رمضان نجد الشمس تغرب في القاهرة قبل الإسكندرية بدقائق. ونعلم أن سبب هذه الدورة إنما هو ليبقى ذكر الله بكل مطلوبات الله في كل أوقات الله، مثال ذلك حين نصلى نحن صلاة الفجر نجد أناساً يصلون في اللحظة نفسها صلاة الظهر، ونجد آخرين يصلون صلاة العصر، وقوماً غيرهم يصلون صلاة المغرب، وغيرهم يصلي صلاة العشاء. وبذلك تحقق إرادة الله في أن هناك عبادة في كل وقت وفي كل لحظة، فحين يؤذن مسلم قائلاً «الله أكبر» لينادي لصلاة الفجر، هناك مسلم آخر يقول: «الله أكبر» مناديًّا لصلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء، وهذا هو الاختلاف في المطالع أراد به سبحانه أن يظل اسمه مذكوراً على كل لسان في كل مكان لتعلو «الله أكبر، الله أكبر» في كل مكان. وأنت إذا حسبت الزمن بأقل من الثانية تجد أن كون الله لا يخلو من «لا إله إلا الله» أبداً: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى} . ونعلم أن كلمة «الحسنى» وصف للمؤنث، و «كلمة» مؤنثة، والكلمة هي قوله الحق: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} [القصص: 5] لقد قال الحق القصة بإيجاز، وهذه هي التي قالها ربنا وهي كلمة «الحسنى» لأنه سبحانه لم يعط لهم نعمة معاصرة لنعمة العدو، بل نعمة على أنقاض العدو، فهي نعمة تضم إهلاك عدوهم، ثم أعطاهم بعد ذلك أن جعلهم أئمة وهداة وورثهم الأرض: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} . وهم بالفعل قد صبروا على الإِيذاء الذي نالوه وذكره سبحانه من قبل حين قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4327 {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ... } [البقرة: 49] وجاء عقاب الله لقوم فرعون: { ... وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] والتدمير هو أن تدرك شيئاً وتخربه، وقد ظل ما فعله الله بقوم فرعون باقيًّا في الآثار التي تدلك على عظمة ما فعلوا، وتجد العلماء في كل يوم يكتشفون تحت الأرض آثاراً كثيرة. ومن العجيب أن كل كشوف الآثار تكون تحت الأرض، ولا يوجد كشف أثري جاء من فوق الأرض أبداً. وكلمة «دمرنا» تدل على أن الأشياء المدمرة كانت عالية الارتفاع ثم جاءت عوامل التعرية لتغطيها، ويبقى الله شواهد منها لتعطينا نوع ما عمّروا؛ كالأهرام مثلاً. وكل يوم نكتشف آثاراً جديدة موجودة تحت الأرض مثلما اكتشفنا مدينة طيبة في وادي الملوك، وكانت مغطاة بالتراب بفعل عوامل التعرية التي تنقل الرمال من مكان إلى مكان. وأنت إن غبت عن بيتك شهراً ومع أنك تغلق الأبواب والشبابيك قبل السفر؛ ثم تعود فتجد التراب يغطي جميع المنزل والأثاث؛ كل ذلك بفعل عوامل التعرية التي تنفذ من أدق الفتحات، ولذلك لو نظرت إلى القرى القديمة قبل أن تنشأ عمليات الرصف التي تثبت الأرض نجد طرقات القرية التي تقود إلى البيوت ترتفع مع الزمن شيئاً فشيئاً وكل بيت تنزل به قليلاً، وكل فترة يردمون أرضية البيوت لتعلو، وكل ذلك من عوامل التعرية التي تزيد من ارتفاع أرضية الشوارع. وكل آثار الدنيا لا تكتشف إلا بالتنقيب، إذن فكلمة «دمرنا» لها سند. والحق يقول عن أبنية فرعون: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 10] ونجد الهرم مثلاً كشاهد على قوة البناء، وإلى الآن لم يكتشف أحد كيف تم بناء الهرم. وكيف تتماسك صخوره دون مادة كالأسمنت مثلاً، بل يقال: إن بناء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4328 الهرم قد تم بأسلوب تفريغ الهواء، ولا أحد يعرف كيف نقل المصريون الصخرة التي على قمة الهرم. إذن فقد كانوا على علم واسع. وإذا ما نظرنا إلى هذا العلم عمارة وآثاراً وتحنيطاً لجثث القدماء، إذا نظرت إلى كل هذا وعلمت أن القائمين به كانوا من الكهنة المنسوبين للدين، لتأكدنا أن أسرار هذه المسائل كلها كانت عند رجال الدين، وأصل الدين من السماء، وإن كان قد حُرِّف. وهذا يؤكد لنا أن الحق هو الذي هدى الناس من أول الخلق إلى واسع العلم. {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] و «يعرشون» أي يقيمون جنات معروشات، وقلنا من قبل: إن الزروع مرة تكون على سطح الأرض وليس لها ساق ومرة يكون لها ساق، وثالثة يكون لها ساق لينة فيصنعون له عريشة أو كما نسميه نحن التكعيبة لتحمله وتحمل ثمرهُ. وبعد ذلك يقول الحق: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4329 لقد قالوا ذلك وهم مازالوا مغمورين في نعم الله إنجاء من عدو، واستخلافاً في الأرض، ومع ذلك بمجرد أن طلعوا إلى البر ورأوا جماعة يعبدون صنماً طالبوا موسى أن يجعل لهم صنماً يعبدونه. لقد حسدوا من يجهلون قيمة الإِيمان ويعكفون على عبادة الأصنام، ويعكف تعني أن يقيم إقامة لازمة، ومنه الاعتكاف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4329 في المسجد، أي الانقطاع عن حركة الحياة خارج المسجد إلى عبادة الله في بيته. {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ... } [الأعراف: 138] وهذا القول من قوم موسى هو قمة الغباء، كأن الإِله بالنسبة لهم مجهول على رغم أنه قد أسبغ عليهم من النعم الكثير، وهذه أول خيبة، وهم يريدون أن يكون الإِله مجعولاً برغم أن الإِله بكمالاته وطلاقة قدرته جاعل، ولكن عقيلتهم لم تستوعب النعم الغامرة وقلوبهم مغلقة لم يعمها الإِيمان. وقالوا: اجعل لنا إلهاً! وأرادوا أن ينحت لهم الأصنام، وقد يقول واحد منهم: رأس الإِله كبيرة قليلاً صغّرها بعض الشيء، وأنفه غير مستقيمة فلنعدلها بالإِزميل، وقولهم: {اجعل لَّنَآ إلها} . وهذا ما يجعلنا نفهم أن عقولهم لم تستوعب حقيقة الإِيمان؛ لذلك يقول لهم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} . ولم يقل لهم: «لا تعلمون» بل قال: «تجهلون» لأن هناك فارقاً بين عدم العلم بالشيء، وبين الجهل بالشيء، فعدم العلم يعني أن الذهن قد يكون خالياً من أي قضية، أما «الجهل» فهو يعني أن تعلم مناقضاً للقضية، إذن فهناك قضية يعتقدها الجاهل ولكنها غير واقعية. أما الذي لا يعلم فليس في باله قضية، وحين تأتي له القضية يقتنع بها، ولا يحتاج ذلك إلى عملية عقلية واحدة مثل الأمي مثلاً الذي لا يعلم، لأن ذهنه خال من قضية، أما الذي يعلم قضية مخالفة فهو يحتاج من الرسول إلى عمليتين عقليتين: الأولى أن يخرج ما في نفسه من قضية الجهل، والثانية أن يعطي له القضية الجديدة، إن الذي يخرج ما في نفسه من قضية الجهل، والثانية أن يعطي له القضية الجديدة، إن الذي يرهق العالم هم الجهلاء لا الأميون، لأن الأمي حين تعطي له المعلومة فليس عنده ما يناقضها. لكن الجاهل عنده ما يناقضها ويخالف الواقع. ويقول سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4330 و {مُتَبَّرٌ} أي هالك ومدمر، وهنا يوضح لهم موسى أن هؤلاء الجماعة التي تعبد الأصنام؛ وهم وأصنامهم هالكون، وما يعملون هو باطل لأن قضايا الكون إن أردتم أن تعرفوا حقيقتها، فلابد لها من ثبوث، والحق ثابت لا يتغير أبداً لأن له واقعاً يُستقرأ، ومثال ذلك إذا حصلت حادثة بالفعل أمامنا جميعاً، ثم طلب من كل واحد على انفراد أن يقول ما رآه فلن نختلف في الوصف لأننا نستوحي واقعاً، لكن إن كانت القضية غير واقعية فكل واحد سيقولها بشكل مختلف، ولذلك نجد من لباقة القضاء أن القاضي يحاور الشهود محاورات ليتبيّن ما يثبتون عليه وما يتضاربون فيه. وإن كان الشهود يستوحون حقيقة واقعية، فلن يختلفوا في روايتهم، ولكنهم يختلفون حين لا يتأكد أحدهم من الواقعة أو أن تكون غير حقيقية. والمثل العربي يقول: «إن كنت كذوباً فكن ذكوراً» أي إن كذبت - والعياذ بالله - وقلت قولاً غير صادق فعليك أن تتذكر كذبتك، وأنت لن تتذكرها لأنها أمر متخيّل وليس أمراً ثابتاً. وقد يجوز أن يأخذ غير الواقع زهوة ولمعاناً فنقول: إياك أن تغتر بهذه الزهوة لأن الحق سبحانه وتعالى يقول: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17] لقد شبه سبحانه الباطل بالزبد وهو ما يعلو السائل أو الماء من الرغوة والقش والمخلفات التي تعوم على سطح المياه إنه يتلاشى ويذهب، أما ما ينفع الناس فيبقى. ونحن نختبر المعادن لنعرف هل هي مغشوشة أو لا. . ونعرضها على النار، فيطفوا ما فيها من مادة غير أصيلة وما فيها من شوائب، ويبقى في القاع المعدن الأصيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4331 وهنا يقول الحق على لسان موسى: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139] والأحداث إما فعل أو قول، والقول: عملية اللسان، والفعل: لبقية الجوارح، وكل الأحداث ناشئة عن قول أو عن فعل، والقول والفعل معاً هما «عمل» . ولذلك يقول الحق: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] إذن فالعمل يشمل القول، ويشمل الفعل. وقوله الحق: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إن الأصنام التي كانوا يصنعونها ويعبدونها، كانت تقوم على أقوال وأفعال، كأن يقولوا: يا هبلٍ، يا لات، يا عزّى، ويناجون هذه الأصنام ويطلبون منها أن تحقق لهم بعضاً من الأعمال وكانوا يقفون أمامها صاغرين أذلاء، إذن فقد صدر منهم قول وفعل يضمهما معاً العمل. ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4332 هم حينما قالوا لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال لهم أولاً: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، ثم قال: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، وبعد ذلك رجع إلى الدليل على أن هذا طلب جهل، وأن الذين يعبدون الأصنام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4332 من دون الله إنما يفعلون باطلاً؛ فقال: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} . وقوله: {أَغَيْرَ الله} أي أن الإِله الذي عرفتم بالتجربة العملية أنه فضلكم على العالمين ورأيتم ما صنع بعدوكم الذي استذلكم وسامكم سوء العذاب، إنه قد أهلكه ودمره، هل يمكن أن تطلبوا ربًّا غيره؟ وقوله: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ} أي أأطلب لكم إلهاً غيره؟ وفي سؤاله هذا استنكار لأنه يتبعه بتفضيل الله لهم على العالم، ثم أراد أن يذكرهم بقمة التفضيل لهم فيقول سبحانه على لسان موسى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4333 وإذا سمعت «إذ» فافهم ان معناها ظرف زمان يريد الحق أن نتذكر ما حدث فيه، و «إذ» يعني جيداً ولا يغيب عن بالكم حين أنجاكم الله من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب وأفظعه وأشده. ويقول بعدها مبيناً ومفسراً ذلك العذاب: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} . ونلحظ أنه لم يأت بالعطف هنا، فلم يقل: يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم. مما يدل على أنه جاء بقمة سوء العذاب؛ لأن الاحتقار، والتسخير هما جزء من العذاب. لكن قمة العذاب هي تقتيل الأبناء، واستحياء النساء. وفي آية ثانية يقول سبحانه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4333 {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ ... } [البقرة: 49] أي أنهم تعرضوا للتقتيل، وتعرضوا للتذبيح، وفي آية ثالثة يقول: {إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ ... } [إبراهيم: 6] لقد جاء ب «الواو» هنا للعطف. لأن المتكلم هنا مختلف، فقد يكون المتكلم الله، وسبحانه يمتن بقمة النعم. لكن: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا} ، فموسى يمتن بكل النعم التي ساقها الله إلى بني إسرائيل صغيرة وكبيرة. ويذيل الحق الآية الكريمة: {وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} . هو بلاء شديد الإِيلام والوقع لفراق من يقتل أو يذبح، وبلاء آخر في الهم والحزن على من يستبقي من النساء لاستباحة أعراضهن وامتهانهن في الخدمة. ويقول الحق بعد ذلك: {وَوَاعَدْنَا موسى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4334 وعلمنا من قبل في مسألة الأعداد أن هناك أسلوبين: الأسلوب الأول إجمالي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4334 والثاني تفصيلي؛ فمرة يتفق التفصيل مع الإِجمال، وبذلك لا توجد شبهة أو إشكال، وسبحانه في سورة البقرة يقول: {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ... } [البقرة: 51] جاء بها هناك بالإِجمال. لكنه شاء هنا في سورة الأعراف ألا يأتي بها مرة واحدة مجملة. بل فصلها بثلاثين ليلة ثم أتمّها الحق بعشر أخر لمهمة سنعرفها فيما بعد، ليكون الميقات قد تم أربعين ليلة، وإذا جاء العدد مجملاً مرة، ومفصلاً مرة، واتفق الإِجمال مع التفصيل فلا إشكال. لكن إذا اختلف الإِجمال عن التفصيل فعادة يُحْمَل التفصيل على الإِجمال، لأن المفصَّل يمكن أن يتداخل ليصير إلى الإِجمال. وضربنا من قبل المثل في خلق السماء والأرض في ستة أيام، وكل آيات الخلق تأتي بخبر الستة أيام وهي مجملة. لكنه شاء سبحانه في موضع آخر بالقرآن أن يقول: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 9 - 10] وظاهر الأمر هنا أن المهمة قد اكتمل أمرها وخلقها في ستة أيام، لكنه قال جل وعلا بعدها: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ. .} [فصلت: 11 - 12] وهنا في موقف أيام خلق الدنيا نجد إجمالاً وتفصيلاً، والتفصيل يصل في ظاهر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4335 الأمر بأيام الخلق إلى ثمانية، والإِجمال يحكي أنها ستة أيام فقط. فهل هي ستة أيام أم ثمانية أيام؟ نقول: إنها ستة أيام لأننا نستطيع أن ندخل المفصل بعضه في بعضه، فإذا قلت: سافرت من مصر إلى طنطا في ساعتين، وإلى الإِسكندرية في ثلاث ساعات، فمعنى هذا القول أن الساعتين دخلتا في الثلاث الساعات: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} . والوعد هو أن الله وعد موسى بعد أن تحدث عملية إنجاء بني إسرائيل أنه - سبحانه - سينزل عليه كتاباً يجمع فيه كل المنهج المراد من خلق الله لتسير حركة حياتهم عليه، لكن ما إن ذهب موسى لميقات ربه حتى عبدوا العجل، في مدة الثلاثين يوماً ولم يشأ الله أن يرسل موسى بعد الثلاثين يوماً بل أتمها بعشر آخر حتى لا يعود موسى ويرى ما فعله قومه؛ لأنه بعد أن عاد أمسك برأس أخيه يعنفه ويشتد عليه ويأخذ بلحيته يجره إليه إذ كيف سمح لبني إسرائيل أن يعبدوا العجل. وفي ذلك يقول الحق على لسان هارون: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] فكأن العشرة أيام زادوا عن الثلاثين يوماً ليعطيك الصورة الأخيرة الموجودة في سورة البقرة. وهنا يقول الحق في سورة الأعراف: {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] و «اخلفني» أي كن خليفة لي فيهم إلى أن أرجع وذلك فيما هو مختص بموسى من الرسالة فاستخلاف موسى لهارون ليس تكليفاً لهارون بامتداد إرسال الله لموسى وهارون، فأسلوب تقديم موسى وهارون أنفسهما لفرعون جاء بضمير التثنية التي تجمع بين موسى وهارون: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4336 {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ ... } [طه: 47] لأن كلاًّ منهما رسول، وقول الحق: {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ} فيه التحنن، أي أنني لي بك صلة قبل أن تكون شريكاً لي في الرسالة فأنا أخ لك وأنت أخ لي، ومن حقي عليك أن تسمع كلامي وتخلفني. فالأخوة مقرونة بأنك شريك معي في الرسالة إذن نجد أن موسى قد قدم حيثية الأخوة والمشاركة في الرسالة. وأكد موسى عليه السلام بكلمة «قومي» أنهم أعزاء عليه، ولا يريد بهم إلا الخير الذي يريده لنفسه، فإذا جاءكم بأمر فاعلموا أنه لصالحكم، وإذا نهاكم نهيّا فاعلموا أن موسى هو أول من يطبقه على نفسه. وقيل كان موسى عليه السلام قد قام بإعداد نفسه للقاء ربه، ولابد أن يكون الإِعداد بطهر وبتطهير وبتزكية النفس بصيام، فصام ثلاثين يوماً، وبعد ذلك أنكر رائحة فمه، فأخذ سواكاً وتسوك به ليذهب رائحة فمه، فأوضح الحق سبحانه له: أما علمت يا موسى أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك. وما دمت قد أزلت الخلوف وأنا أريد أن تقبل عليّ بريح المسك فزد عشرة أيام؛ حتى تأتي كذلك. وقال بعض العلماء: إن تفصيل الأربعين إلى ثلاثين وإلى عشرة، لأن الثلاثين يوماً هي الأيام التي عبد فيها القوم بعد موسى العجل، فكان ولابد أن تكون هناك فترة من الفترات؛ حتى يميز الله الخبيث من الطيب. {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] وهنا أمر ونهى «أصلح» هي أمر، و «لا تتبع» هي نهي، ونعرف أن كل تكاليف الحق سبحانه وتعالى محصورة في «افعل كذا» ، و «لا تفعل كذا» ، ولا يقول الحق للمكلَّفين: «افعلوا كذا» إلا إذا كانوا صالحين للفعل ولعدم الفعل، وإن قال لهم: «لا تفعلوا» فلابد أن يكونوا صالحين للفعل ولعدم الفعل، ولذلك أوضحنا من قبل ان الله ركز كل التكاليف في مسألة آدم وحواء في الجنة فقال: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} ، وكان هذا هو الأمر. وقال: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} ، وهذا نهي: {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4337 وكلمة «أصلح» تستلزم أن يبقى الصالح على صلاحه فلا يفسده، وإن شاء الله يزيد فيه صلاحاً فليفعل. وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} لأنه قول موجه لنبي وهو هارون، لا يتأتى منه الإِفساد، ولكنَّ موسى أعلمه أنه ستقوم فتنة بعد قليل، فكأن موسى قد ألهم أنه سيحدث إفساد، فقصارى ما يطلبه من أخيه هارون ألاَّ يتبع سبيل المفسدين، ولذلك سيقول هارون بعد ذلك مبرراً تركه بني إسرائيل على عبادة العجل بعد أن بذل غاية جهده في منعهم وإنذارهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلا أن يقتلوه. { ... إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَمَّا جَآءَ موسى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4338 والميقات هو الوقت الذي يعد لعمل من الأعمال. ونسميه وقت العمل. وغلب على أشياء في الإِسلام، كمواقيت الحج. ونحن نعلم أن كل عمل وحدث يتطلب أمرين يُظْرَف فيهما، أي يكونان ظرفاً له؛ فلابد له من مكان يحدث فيه، ومن زمان يحدث فيه كذلك، واسمهما ظرف الزمان، وظرف المكان. إلا أن ظرف الزمان غير قار أي غير ثابت؛ فقد يأتي الصبح ويذهب ويأتي بعده، الظهر، والعصر والمغرب والعشاء. لكن ظرف المكان قار وثابت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4338 والمواقيت - إذن - إما أن يتحكم فيها الزمان، وإما أن يتحكم فيها المكان، وإما أن يتحكم فيها المكان والزمان معاً. فإذا أخذنا المواقيت على أنها زمن كل فعل نجد فريضة «الصوم» لها زمن محدد وهو رمضان. فالذي يتحكم في الصوم هو الزمن، فيكون ويحدث في أي مكان. وكذلك صيام عرفة يتحكم فيه أيضاً الزمان لأنه صيام يوم عرفة، ومن يجلس في أي مكان يصوم يوم عرفة ولكنه غير مطلوب من الحاج. ولكن الوقوف بعرفة يتحكم فيه المكان والزمان معاً. والإِحرام بالحج أو العمرة يتحكم فيه المكان وهو ما يسمى بالميقات المكاني ولكل أهل جهة ميقاتهم المكاني الذي يطلب منهم ألاَّ يمروا عليه إلاَّ وهم محرمون. فمرة يتحكم الزمان، ومرة يتحكم المكان، وثالثة يتحكمان معاً. وجاء موسى لميقاتنا المضروب له بعد أربعين ليلة. وهل جاء موسى للميقات أو جاء في الميقات؟ لقد جاء في الميقات، واللام تأتي بمعنى «عند» . ونعلم أن «اللام» تأتي بمعنى «عند» كثيراً في القرآن، مثل قوله: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل ... } [الإِسراء: 78] أي أقم الصلاة عند دلوك الشمس أي عند زوالها عن وسط وكبد السماء إلى غسق الليل. ومن الدلوك إلى الغسق نجد صلاة الفجر ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء، وهذه أربعة فروض، وبقي الفرض الخامس وهو الفجر، وقال فيه الحق: { ... وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} [الإِسراء: 78] ولماذا بدأ بدلوك الشمس؟ وهل النهار يبدأ بالظهر أو يبدأ بالصبح؟ . إن الإسراء والمعراج كانا ليلاً، ورسول الله جاء صباحاً إلى مكة، وقد فرضت الصلاة في المعراج، فكانت أول فريضة هي الظهر، وكأن الحق يعني خذ الغاية وخذ البداية، وكانت البداية هي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبقي الفجر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4339 وجاء فيه: {وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} . ثم يخص الله رسوله بالتهجد وهو قيام الليل إنه فرض على رسول الله دون غيره، فإنه بالنسبة لسائر الأمة تطوع. {وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإِسراء: 79] ومن يتشبه برسول الله فله الثواب الجزيل والأجر العظيم ولكن هذا الأمر مرجعه إلى اختيار المسلم: {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} . وهذه المسألة تحتاج إلى بحث، وقوله سبحانه: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} هو قول يدل على أن كلاماً حصل من الله لموسى فكيف يحدث ذلك وسبحانه قد قال في مسألة الكلام بالنسبة للبشر كلاماً عاماً: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ ... } [الشورى: 51] وفي هذا نفي أن يكلم الله البشر. إلا بالوسائل الثلاث: الوحي أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً، والوحي بالنسبة للأنبياء يكون بإلقاء المعنى في قلب النبي دفعة، مع العلم اليقيني بأن ذلك من الله عَزَّ وَجَلَّ، وقد يراد بالوحي الإِلهامات؛ مثل الوحي إلى أم موسى، والوحي إلى الحواريين، وكذلك إلى الملائكة، وقد يراد بالوحي: التسخير؛ كالوحي للأرض، والنحل. وبعد ذلك. . {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} أي أن يسمع كلاماً ولا يرى متكلماً، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} هو جبريل عليه السلام. والقرآن لم ينزل إلا بطريقة واحدة، بواسطة نزول جبريل على سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فما نزل القرآن بالإِلهام، وما نزل القرآن من وراء حجاب بل نزل بواسطة رسول من الله وهو جبريل وله علامات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4340 وهنا في كلام موسى نقول إن الكلام وقع فيه من وراء حجاب وهنا نمسك عن الخوض فيما وراء ذلك لأنه غيب لم يكشف لنا عنه ونترك الأمر فيه الله. وقد سبق أن قلنا: إن صفات الله لا يوجد مثلها في البشر. فليس وجود الإِنسان كوجود الله، وليس غنى الإِنسان كغنى الله، وكذلك لن يكون أبداً كلامك ككلام الله، لأن كل شيء يخص الله إنما نأخذه في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وقد بين الحق سبحانه وتعالى أن كلامه لموسى تميز لموسى، ولذلك يقول الحق: {إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي ... } [الأعراف: 144] ويجب أن نأخذ كل وصف يوجد في البشر، ويوجد مثله. في وصف الله مثل «استوى» ، و «جلس» و «وجه» ، و «يد» نأخذ كل ذلك في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ ... } [الأعراف: 143] وحينما خص الله موسى بميزة أن تكلم إليه، حصل من موسى استشراق اصطفائي، وكأنه قال لنفسه: مادام قد كلمني فقد أقدر أن أراه؛ لأن استطابة الأنس تمد للنفس سبل الأمل في الامتداد في الأشياء مثلما قال موسى من قبل رداً على سؤال الله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17] كان الجواب يكفي أن يقول: «عصا» لكنه قال: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي ... } [طه: 18] قال ذلك على الرغم من أن الحق لم يسأله: ما تفعل بها؟ وأراد بالكلام أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4341 يطيل الأنس بربه، وكأنه عرف أنه من غير اللائق أن يكون الجواب مجرد كلمة رداً على سؤال. ولله المثل الأعلى - نجد الإِنسان منا حين يرى طفلاً صغيراً فهو يداعبه ويطيل الكلام معه إيناساً له. وحين وجد موسى أن الله يكلمه استشرفت نفسه أن يراه: {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} . لم يقل موسى: أرني ذاتك. بل قال: {أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} كأنه يعلم أنه بطبيعة تكوينه يعرف أنه لا يمكن أن يرى الله، لكن إن أراه الله، فهذا أمر بمشيئة الحق وقدم موسى الطلب معلقاً بمشيئة الله وإرادته؛ لأنه يعلم أنه غير معد لاستقبال رؤية الله؛ لأن تكوينه لا يقوى على ذلك، وحتى في الوحي والكلام لم يكلم ربنا الناس مباشرة، بل لابد أن يصطفى من الملائكة رسلاً، ثم تكون مرحلة ثانية أن يصطفى من البشر رسلاً، ويبلغ الرسل الناس كلام الله؛ لأن الصفات الكمالية العليا الخالقة لا يمكن أن يستوعبها المخلوق. ضربنا المثل من قبل - ولله المثل الأعلى - بصناعات البشر، وأن الإِنسان حين ينام ليلاً، قد يستيقظ لأي شيء، فإذا كانت الدنيا ظلاماً قد يحطم الأشياء التي هي أقل منه أو تحطمه الأشياء التي هي أكثر صلابه منه؛ وإن اصطدم بشيء صغير فقد يكسره، وإن اصطدم بدولاب أو حائط فقد ينكسر الإِنسان. ولذلك ترك الإِنسان في البيت شيئاً من النور الضئيل؛ ليستفيد من سكون الليل وظلمته، فيضع ما نسميه «الوناسة» قوة شمعتين أو خمس شمعات، ولا يقدر أن يركبها على قوة التيار الموجود في المنزل؛ لأنها تفسد فوراً، لذلك يأتي لها بمحول يأخذ من القوي ويعطي الضعيف. إذن إذا كانت صناعة البشر نجد فيها الضعيف الذي لا يأخذ من القوي إلا بواسطة، فمن باب أولى أنه لا يمكن أن يتلقى خلق الله عن الله إلا بواسطة. وكانت الواسطة من البشر اصطفاء ومن الملائكة اصطفاء، فليس كل ذلك صالحاً لهذه المسألة، فمصطفى من الملائكة يعطي مصطفى من البشر. وبعد ذلك يعطي المصطفى من البشر للبشر. كذلك الرؤية وسيظهر ذلك لنا حينما يعطي الله الدليل على أنه خلقكم لا على هيئة أن تروه الآن، ولكن حين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4342 تبرزون في الآخرة وتعدون إعداداً آخر، فمن الممكن أن تنالوا شرف رؤيته: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . ولا يستوي الناس في ذلك؛ لأن المؤمن هو من ينال شرف النظر إلى الله، أما الكافر فهو محجوب عن رؤية الحق. يقول تعالى في شأن الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} فلا يستوي المؤمن والكافر في هذه الحالة، فمادام الكافر محجوبا فالمؤمن غير محجوب ويرى ربَّه. وقال موسى: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} . قال الحق: {قَالَ لَن تَرَانِي} . وفي اللغة نجد أن «لن» تأتي تأبيدية، أي تؤبد المستقبل أي لا يحدث ولا يتحقق ما بعدها. فهل معنى ذلك أن قول الحق: {لَن تَرَانِي} أن موسى لن يرى الله في الدنيا ولا في الآخرة؟ . ونقول: ومن قال إن زمن الآخرة هو زمن الدنيا؟ إن هذه لها زمن وتلك لها زمن آخر: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] إذن فزمن الآخرة وإعادة الخلق فيها سيكون أمراً آخر، يكفي أن أهل الجنة سيأكلون ولن تكون لهم فضلات، إنه خلق جديد. إن مجيء «لن» في قوله الحق: {لَن تَرَانِي} تأبيدها إضافي، أي بالنسبة للدنيا، وفيها تعليل لعدم قدرة موسى على الرؤية، وأضاف سبحانه: {ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً ... } [الأعراف: 143] وسبحانه هنا يعلل لموسى بعملية واقعية فأوضح: لن تراني ولكن حتى أطمئنك أنك مخلوق بصورة لا تمكنك من رؤيتي انظر إلى الجبل، والجبل مفروض فيه الصلابة، والقوة، والثبات، والتماسك؛ فإن استقر مكانه، يمكنك أن تراني. إن الجبل بحكم الواقع، وبحكم العقل، وبحكم المنطق أقوى من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4343 الإِنسان، وأصلب منه وأشد، ولما تجلّى ربه للجبل اندك. والدكُّ هو الضغط على شيء من أعلى ليسوَّي بشيء أسفل منه. والحق هو القائل: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً} [الفجر: 21] وهنا في موقف موسى وحواره مع الله يتأكد لنا أن الله تجلى على خلق من خلقه، ولكن أيقدر المتجلَِّي عليه على هذا التجلي أم لا يقدر؟ . إن أقدره الله فهو يقدر، أما إن لم يقدره الله فلن يقدر. والجبل هو الأصلب، فلما تجلى له ربه اندك، إذن فمن الممكن أن يتجلى الله على بعض خلقه، ولكن المهم أيقوى المستقبل للتجلي أو لا يقوى؟ ولم تقو طبيعة موسى على التجلي لله بدليل أن الأقوى منه لم يقو. وبعد ذلك أراد الله أن يلفتنا لفتة تصاعدية. ويبين لنا أن موسى قد صعق لرؤية المتجلَّى عليه فكيف لو رأى المتجلِّي؟!! {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً} . ويقال: خر الشيء إذا سقط من أعلى إلى أسفل، ويقول الحق في آية قرآنية: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً ... } [ص: 24] والحق يخبرنا هنا: {وَخَرَّ موسى صَعِقاً} ، وصعقه تُطلق ويراد بها الوفاة، ولكن هنا صعقة أخرى تعبر عن الإِغماءة الطويلة. وصعقة الوفاة يقول فيها الحق سبحانه: { ... فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] إذن النفخة الأولى لصعق وموت الجميع، ثم تأتي النفخة الثانية للبعث. وهنا يقول الحق: {فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} . وهذا يدل على أن الصعقة ليست هي الصعقة المميتة، وأفاق سيدنا موسى من الصعقة، وانتبه إلى أنه لم يكن من اللائق أن يطلب الرؤية المباشرة لله. وكما نقول: «فلان فاق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4344 لنفسه» وهنا «أفاق» موسى على حاجتبن اثنتين، أفاق من الغشية التي حصلت له من الصعقة، وكأنَّه تساءل: لماذا انصعقت؟ لقد انصعق لأنه سأل ربنا ما ليس له به علم: {فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ} ، وساعة تسمع كلمة «سبحانك» اعرف أنَّه يراد بها التنزيه لله من الحدث الذي نحن بصدده وهو رؤيته - تعالى - أي تنزيها لك يا رب أن يراك مخلوقك؛ لأن الرؤية قدرة بصر على مرئي، ومعنى: «رأيت الشيء» أي أن عين البشر قد قدرت على الشيء، ولو أننا نحن المخلوقين رأينا الله بقانون الضوء، فهذا يعني أن أبصارنا تقدر على ربنا وهذا لا يمكن أبداً؛ لأن المقدور لا ينقلب قادراً، والقادر لا ينقلب مقدوراً. { ... فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} [الأعراف: 143] وتوبة موسى هنا من أنه سأل الله ما ليس له به علم، ولأنه لم يقف عند التجليات المخالفة لنواميس الكون، وأنَّ ربنا فقد أعطاه بدون أن يسأل، لقد كلمه الله، فلماذا يُصعد المسألة ويطلب الرؤية؟ ولماذا لم يترك الأمور للفيوضات التي يعطيها الله له ويتنعم بفيض جود لا ببذل مجهود؟ . ويقرر موسى ويقول: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} ، أي بأنّ ذاتك - سبحانك - لا يقدر مخلوق أن يراها ويدركها. لقد شعر موسى ببعض من انكسار الخاطر لأنه طمح إلى ما يفوق استطاعته وقال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} وكأنه قد فهم ما أوضحه الحق له: لا تلتفت إلى ما منعتك، ولكن انظر إلى ما أعطيتك: {قَالَ ياموسى إِنِّي ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4345 والاصطفاء هو استخلاص الصفوة، وقوله: {اصطفيتك عَلَى الناس} تعبير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4345 فيه دقة الأداء لأنه لو قال اصطفيتك فقط، ولم يقل على الناس، فقد يُفهم الاصطفاء على الملائكة أيضاً. ولكن الاصطفاء هنا محدد في دائرة الاصطفاء البشري: {إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} . ولقائل أن يقول: إن الحق اصطفى غيره أيضاً من الرسل، والحق هو القائل: {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً ... } [آل عمران: 33] ونقول: هناك فرق بين اصطفاء رسالة منفردة، وبين اصطفاء في رسالة ومعها شيء زائد، وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - فإذا جئت كمدرس لتلاميذ وأعطيت واحداً منهم هدية عبارة عن قلم كمكافأة، ثم أعطيت الثاني قلماً وزجاجة حبر، أنت بذلك اصطفيت التلميذ الأول بهدية القلم، واصطفيت الآخر باجتماع قلم وزجاجة حبر في هدية واحدة. والاصطفاء هنا لموسى بالرسالة كما اصطفى غيره من الرسل بالإضافة إلى شرف الكلام: {اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} . وعرفنا من قبل أن «رسالاتي» هي في مجموعها رسالة واحدة، ولكن الرسالة مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استمرت جزئياتها ثلاثاً وعشرين سنة في النزول، فكأن كل نجم رسالة، أو كل باب من أبواب الخير رسالة، فهي رسالات متعددة، أو أن رسالته جمعت رسالات السابقين: {قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشاكرين} [الأعراف: 144] أي لا تنظر إلى ما منعتك، بل اذكر أني اصطفيتك وكلمتك وعليك أن تشكر لي هذا. ولذلك يجب على الإِنسان المؤمن حين يتلقى قضاء الله فيه أن ينظر دائماً إلى ما بقي له من النعم. لا إلى ما سلب عنه من النعم. ولذلك نجد المؤمن المتفاءل ينظر إلى الكوب الذي نصفه مملوء بالماء فيقول: الحمد لله نصف الكوب ملآن. أما المتشائم فيقول: إن نصف الكوب فارغ، وبرغم أن كُلاًّ منهما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4346 يقرر الحقيقة إلا أن المؤمن المتفائل نظر إلى ما بقي من نعم الله. إننا نجد ابن جعفر حين ذهب للخليفة الأموي في دمشق وجرحت رجله في أثناء السير من المدينة إلى دمشق، ولم تكن هناك عناية طبية فتقيحت، وحين أحضروا له الأطباء وقرروا قطع رجله، قال بعض الحاضرين: التمسوا له مرقداً أي دواء تخدير يجعله لا يحس بالألم، فقال: لا، فإني لا أريد أن أغفل عن ربي لحظة عين، فلما قطعوها أخذوها ليدفنوها، فقال هاتوها. فأحضروها له وأمسك بها وقال: اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو فقد عافيت في أعضاء. هذه نظرة المؤمن الذي لا ينظر إلى ما أُخذ منه بل ينظر إلى ما بقي له. وكذلك كان توجيه الحق لموسى عليه السلام، فقد أوضح له: لا تنظر إلى أني منعتك الرؤية، لا، بل انظر الاصطفاء وشرف الكلمة إلى الخالق واشكر ذلك. ويقول الحق بعد ذلك: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4347 والكتْب هو الرقم بقلم على ما يكتب عليه من ورق أو جلد أو عظم أو أي شيء، وعندما يقول ربنا: {وَكَتَبْنَا} فالله لم يزاول الكتابة بنفسه، ولكن أرسله من الملائكة يكتبون بأمر من الحق وهو القائل: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ ... } [يس: 12] وكتابة الرسل من الملائكة لأعمالنا هي بالأمر من الله، ومرة ينسب الأمر إلى الأعلى، أو ينسب إلى المباشر أو إلى الواسطة: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4347 ونحن نعرف الألواح، وكنا نكتب عليها قديماً. وللكتابة على الألواح سبب، فقديماً كانوا يكتبون على أي شيء مبسوط، وتبين لنا الآثار أن هناك كتباً مكتوبة على جلود الحيوانات، مثلاً نجد قدماء المصريين قد كتبوا على الأحجار، مثل حجر رشيد الذي أتاح لنا معرفة تاريخهم. وكان العرب يكتبون على القحف المأخوذ من النخل، وكذلك كتبوا على عظام الذبائح، أخذوا منها قطعة العظم المبسوطة مثل عظم اللوح وكتبوا عليها، وكانت هذه الوسيلة مشهورة جدًّا لديهم، وصار كل مكتوب يسمونه لوحاً. {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ ... } [الأعراف: 145] وقوله سبحانه: {مِن كُلِّ شَيْءٍ} يعني: من كل شيء تتطلبه خلافة الإِنسان في الأرض في الوقت المناسب له؛ فالرسل تأتي بعقيدة، لكن قد يأتي تشريع مناسب للفترة الزمنية التي جاء فيها الرسول، ويضيف الله لرسول آخر يأتي من بعده، إلى أن جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمنهج المكتمل إلى قيام الساعة. لقد أوضح سبحانه أنه كتب في الألواح الموعظة والتفصيل لمنهج الحياة، والموعظة تعني ألاَّ تنشئ حكماً للسامع، بل تعظه بتنفيذ ما عُلِم له من قبل، ولذلك يقال: واعظ وهو الذي لا يُنشئ مسائل جديدة. بل يعرف أن المستمع يعلم أركان الدين ويعظه بما يعلم. وقوله الحق سبحانه: {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي أن الكلام لم يأت مجملاً، بل يأتي بالتفصيل، ويأمر الحق موسى أن يقبل على الموعظة والتفصيلات التي في الألواح بقوة. ولماذا جاء الأمر هنا بأن يأخذها بقوة؟ لأن الإِنسان حين يؤمر أمراً قد يكون الأمر مخالفاً لرتابة ما ألف، وحين يُنهي نهيا قد يكون هذا النهي مخالفاً لرتابة ما ألف. وبذلك ينزع هذا النهي أو ذلك الأمر الإِنسان مما ألف، ويأخذه ويخرجه عما اعتاد. إن الإِنسان في هذه الحالة يحتاج إلى قوة نفس تتغلب على الشهوة الرتيبة التي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4348 تخلقها العادة، ولذلك فمن يريد أن يقبل على منهج الله فعليه أن يعرف أن المنهج سوف يخرجه مما ألف، ولابد أن يقبل على المنهج بقوة وعزم ليواجه إلف النفس، لأن إلف النفس قد يقول للإِنسان: لا تفعل، والمنهج يقول له: «افعل» وعلى المؤمن - إذن - أن يأخذ التكاليف بقوة، لأن شهوات النفس تحقق متع الدنيا الزائلة، والمنهج يعطي متعة طويلة الأجل. إن الشهوة قد تحقق للإِنسان لذة على مقدار قدرته واستعداده، لكن التكليف يعطي للمؤمن نفعاً يتناسب مع طلاقة قدرة الله في النفع. إذن لابد أن تشحن نفسك بما يعطيه الله لك من المنهج، وإياك ساعة أن ترى المنهج مطالباً لك ببعض من الجهد أن تقول: إن تلك أمور صعبة لأنك لست وحدك في المنهج، بل معك غيرك. فإذا قال لك: لا تسرق، إياك أن تقول: أيحدد المنهج حريتي؟ لا، لا تنظر إلى أن حظر وتحريم السرقة هو تحديد لحريتك بل هو صيانة لك من أن يعتدي عليك آخرون؛ فقد قال المنهج للناس كلهم لا تسرقوا منه وأنت الكاسب في هذه الحالة. ويتابع الحق بيان ما في الألواح من قيم فيقول سبحانه: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} . «أحسن» تفيد أن هناك مرتبة أقل منها وهي «حسن» ؛ فأمرهم الحق أن يتركوا الحسن ويأخذوا بالأحسن، ونعلم أن الإِنسان من الأغيار، إذا ما أصابته مصيبة من أحد يعتبره غريماً له، فإذا ما كان للإِنسان غريم تحركت نوازع نفسه إلى عقابه بمثل ما أصابه به. وهذا ما يبيحه الله في القصاص، ولكن الله يطلب من المؤمن إن قدر على نفسه أن يعفو، إذن فالعقوبة بالقصاص أو بغيره مادامت مشروعة من الله بمثل ما عوقبت فهذه مرتبة الحسن، لكن إذا تركت نوازع نفسك وعفوت فهذه مرتبة «الأحسن» ، وجاءت هذه الترقيات لأن الحق سبحانه وتعالى خلق في الإِنسان عواطف وغرائز، وللعواطف والغرائز مهمة في حركة الحياة، ولكن العواطف لا يمكن أن يسيطر عليها الإِنسان، ولذلك لا يقنن الله للعاطفة ولكنه سبحانه يقنن للغرائز. كيف؟ . نحن نعلم أن «حب الطعام» غريزة، ولكن يجب ألا يصل حب الطعام إلى مرتبة النهم والشره. وأيضاً «بقاء النوع» أو المتعة الجنسية أوجدها الحق من أجل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4349 بقاء النوع. لكن لا يصح أن تتحول إلى درجة الشرود والوقوع في أعراض الناس وانتهاك حرماتهم، وحب الاستطلاع غريزة، والذين اكتشفوا الكشوف العلمية جاءت أعمالهم من حب استطلاعهم على أسرار الوجود. لكن لا يصح ولا ينبغي أن يصل حب الاستطلاع إلى التجسس الاستذلالي. إن للإِنسان غرائز يعليها الشرع؛ أمَّا الحب فهو مسألة عاطفية. فالمشرع، يقول لك: أحبب من شئت وأبغض من شئت، ولكن لا تظلم من أبغضته ولا تظلم الناس لحساب من أحببت. ولنا في رسول الله أسوة حسنة حين قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين» . فقال عمر: كيف؟ . وكررها رسول الله فعلم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بفطرته أن ذلك أمر تكليفي. وعرف أن الحب المراد هو الحب العقلي. فيقول المؤمن لنفسه: من أنا لولا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ . وكل مؤمن يحب رسول الله حبًّا عقليًّا، وقد يتسامى إلى أن يصير حبًّا عاطفيًّا. والإِنسان منا - كما قلنا سابقاً - يحب الدواء بعقله لا بعاطفته لأنه مُرّ، ولكنه يغضب إن اختفى الدواء من الأسواق ويفرح بمن يأتي له به. إذن التكليف يتطلب الحب العقلي. ومن أخبار سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عندما مرّ أمامه قاتل أخيه زيد بن الخطاب فقال له عمر: ازو نفسك عني فأنا لا أحبك، فرد الرجل بكل جرأة إيمانية: أو عدم حبك لي يمنعني حقًّا من حقوقي؟ . قال عمر: لا، قال الرجل: إنما يبكي على الحب النساء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4350 والحق يقول هنا: {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} فمثلاً، حين يُقْتَلُ إنسان فلولي الدم أن يقتص، لكن الحق يحنن قلب ولي الدم على القاتل فيقول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف ... } [البقرة: 178] وحين يسمى الحق القاتل أخاً فهو يهدئ من صراع العواطف ويخفف من رغبة الانتقام. ويقول سبحانه أيضاً: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] ونجده سبحانه يؤكد أن مثل هذا الأمر من «عزم الأمور» لأنه أمر يتطلب الصبر والمغفرة. ومادام المؤمن قد استطاع أن يصبر وأن يغفر لغريم له، أفلا يصبر إذا نزلت مصيبة عليه بدون غريم كمرض مفاجئ أو افتقاد حبيب؟ . من إذن غريمك في المرض؟ وممن تغضب، وعلى من تهيج وإلى أين انفعالك؟ ولذلك يقول لك الحق سبحانه: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ} أي مما لا غريم لك فيه، ويوضح لك سبحانه: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} . ونلحظ أن الحق هنا لم يؤكد «باللام» لكنه أكد الأخرى «باللام» ؛ لأن لك غريماً يهيجك ساعة أن تراه، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق لسيدنا موسى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} . يعني إذا وجدت لهم ذريعة ووسيلة وسبباً إلى شيء ويوجد ما هو أحسن فأمرهم أن يأخذوا بالأحسن، لماذا؟؛ لأن الإِنسان إذا روَّض نفسه وذللها وعودها على الأحسن يكون قد فهم عن الله. ونفرض أن واحداً أساء إليك ويمكنك أن تسيء إليه، فعليك أن تراعي في ردك للإِساءة أن تكون بقدرها مصداقاً لقوله الحق سبحانه: {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ... } [النحل: 126] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4351 ولكن منَ منا يتصف بالدقة في الموازين النفسية حتى يستطيع أن يعرف المثلية بالهوى؟ فإن كان هناك من صفعك وتريد أن ترد الصفعة، فمن أين لك أن تقدر حجم الألم الذي في صفعتك له؟ . لا يمكن لك أن تحدد هذا القدر من الألم؛ لأن هذه مسألة تتناسب مع القوة. إذن لماذا تدخل نفسك في متاهات، ولماذا لا تعفو وينتهي الأمر؟ وحين يدلك الحق على أن العفو أحسن، إنما يريد بذلك أن ينهي شراسة النفوس وضغن الصدور. فحين يقتل إنسانٌ إنسانا آخرَ؛ سيكون هناك قصاص ودم، ولكن إذا عفا وليّ الدم تكون حياة المعفو عنه هبة من وليّ الدم فيستحي القاتل - بعد ذلك - أن يجعل أية حركة من حركات هذه الحياة ضد وليّ الدم أو من ينسب إلى وليّ الدم، وحينذاك تنتهي أي ضغينة أو رغبة في الثأر، ولذلك نجد البلاد التي تحدث فيها الثأرات وتستشري فيها عادة الأخذ بالثأر - مثل صعيد مصر - نجد القاتل إذا ما أخذ كفنه على يده ودخل على وليّ الدم وقال له: أنا جئت إليك. . يعفو عنه وليّ الدم وتفهم العائلة كلها أن حياة المطلوب للثأر صارت هبة من وليّ الدم، وتصفى الثأرات وتنتهي. ولذلك جاء الأمر من الحق بالأخذ بالأحسن: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} . ومثال آخر على الأخذ بالأحسن، قد نجد مديناً غير قادر أن يوفي الدين، هنا نجد الحق يقول: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ... } [البقرة: 280] اقترض الرجل لأنه محتاج؛ لأن القرض لا يكون إلا عن حاجة، وهو عكس السؤال الذي يكون عن حاجة أو عن غير حاجة، ولهذا نجد ثواب القرض أكثر من ثواب الصدقة؛ لأن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة، ولأن المتصدق حين يتصدق بشيء من ماله يكون قد أخرج هذا المال من نفسه ولم يعد يتعلق به. لكن القرض تتعلق به النفس، فكلما صبر المقرِض مع تعلق نفسه بماله أخذ أجراً، وهكذا يكون القرض أحسن من الصدقة. إذن فهناك حَسَن وهناك أحسن، الحَسَن هو أن تأخذ حقك المشروع، والأحسن أن تتنازل عنه، ومن يتنازلون هم الفاهمون عن الله فهماً واسعاً، ولنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4352 المثل والأسوة في سيدنا الحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - الذي أحسن لمن أساء إليه فقال كلمته: «ألا نحسن إلى من جعل الله في جانبنا» . ودائماً أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - هب أن إنساناً عنده أولاد وأساء واحد منهم للآخر. نجد قلب الأب يكون مع من أُسي إليه، وكذلك الأمر فينا نحن خلق الله. إن أساء واحد من خلق الله إلى واحد آخر من خلق الله؛ نجد رب الخلق مع من أُسيء إليه، وعلى من أسيء إليه أن يقول: هذا الإِنسان الذي أساء إلي قد جعل ربنا في جانبي ولذلك فهو يستحق أن أحسن إليه. ولهذا يقول الحق سبحانه: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وفي آية ثانية يقول الحق: {واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ... } [الزمر: 55] ويذيل الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} . ودار الفاسقين هي النار، وكأن الحق هنا يقول: سأريكم النار، ونعلم أن كل البشر سيمرون عليها ويرونها، ولكن المؤمنين سيعبرونها ويردون عليها ويدخلون الجنة. ولقائل أن يقول: ولماذا تأتي سيرة النار هنا؟ ونقول: جاءت سيرة النار ليرهب ويخيف النفس ويحملها على أن تبتعد عن كل ما أمر يقرب إلى النار. والقول هنا أيضاً لبني إسرائيل الذين نصرهم الحق على قوم فرعون وأخذوا منهم الكنوز والمقام الكريم. وكأن الحق يقول لهم: إن كنتم تحبون أن يكون مآلكم مثل مآل قوم فرعون فافعلوا مثلهم، وإن كنتم لا تريدون هذا المآل فالتزموا منهج الحق. إذن فقوله الحق: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} معناه حملهم على ما في الألواح من عظة، وعلى أن يأخذوه بقوة، وعلى أن يتبعة أحسن ما أنزل على الله. أو {دَارَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4353 الفاسقين} هي المدائن التي دمرّت وخربت بتمرد وكفر وعصيان أهلها وفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل الله بكم مثل نكاله بهم، وأنتم تمرون عليها في الغدو والرواح. ويقول الحق بعد ذلك: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4354 والآيات جمع آية وهي الأمر العجيب، وتطلق ثلاث إطلاقات، فإما أن تكون آية كونية مثل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} ، وإما أن تكون آية دلالة على صدق الرسول في البلاغ، وإما أن تكون آية قرآنية فيها حكم من أحكام الله، وهنا يقول الحق: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق ... } [الأعراف: 146] إذن يوضح سبحانه هنا أنه سيصرف الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق عن أن ينظروا نظر اعتبار في آيات الكون، أو أن الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق سيبطل كيدهم في أن يتجهوا للحق بالهدم؛ لأن الواحد من هؤلاء ساعة يرى آية من آيات الله سينظر إليها على أنها سحر، أو شعوذة، أو أن يقول عنها إنها ضمن أساطير الأولين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4354 إذن وجه الصرف أن يسلط الحق عليه من الكبر ما يجعله غير قادر على وزن الآية بالميزان الصحيح لها، والمتكبر هو من ظن أن غيره أدنى منه وأقل منزلة، ومقومات الكبر قد تكون قوة، لكن ألم يرَ المتكبر قويًّا قد ضعف؟ وقد يكون الثراء من مقومات التكبر، لكن ألم يرَ المتكبر غنيًّا قد افتقر؟ أو يكون المتكبر صاحب جاه، ألم يرَ ذا جاه صار ذليلاً؟ . إذن فمن يتكبر، عليه أن يتكبر بشيء ذاتي لا يُسْلَب منه أبداً. فإذا ما أردت أن تطبق هذا على البشر فلن تجد واحداً يستحق أن يكون متكبراً أبداً؛ لأنه لا يوجد في الإِنسان خاصية ذاتية فيه تلازمه ولا تفارقه أبداً، بل كلها موهوبة، ومن الأغيار التي تحدث وقد تزول. فكلها من الله وليست أموراً ذاتية؛ لأن القوة فيك إن كانت ذاتية فحافظ عليها، ولن تستطيع. وإن كان الثراء ذاتيًّا فحافظ على غناك أبداً، ولن تستطيع. وإن كانت العزة ذاتية فحافظ على عزتك أبداً ولن تستطيع. إذن فمقومات الكبرياء في البشر غير ذاتية. وقوله سبحانه: {يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} يفيد أن هناك كبرياء بحق لمن يملك في ذاته كل عناصر القوة والثراء والجاه والعزة، ولذلك فالكبرياء لله وحده. واعلموا أن كل متكبر في الأرض لا يخطر الله بباله؛ لأنه لو خطر الله بكماله وجلاله في باله لتضاءل؛ لأن الله يخطر فقط ببال المتواضعين من الناس، ولذلك نضرب هذا المثل: إننا نجد من حولنا إنساناً هو الرئيس الأعلى، وهناك رئيس لطائفة ومرؤوس لآخر، وهناك مرؤوس فقط. والرئيس المرؤوس لا يستطيع أن يجلس مع المرؤوسين له بتكبر ويضع ساقاً على ساق ويعطي أوامر؛ لأنه قد يلتفت فيجد رئيسه وقد دخل عليه. فلو فعل الرئيس المرؤوس ذلك لضحك منه المرؤوسون له. فكذلك الناس الذين لا يستحضرون الله في بالهم نجدهم مثار سخرية، لكن الذين يستحضرون الله الذي له الكبرياء في السموات والأرض لا يتكبرون أبداً. إنه سبحانه يصرف عن المتكبرين النظر في الآيات الكونية فلا يعتبرون، ويصرف عنهم تصديق الآيات الدالة على نبوة الأنبياء، ويصرف عنهم القدرة على تصديق أحكام القرآن، ويطبع على قلوبهم، فما بداخل هذه القلوب من الكفر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4355 لا يخرج، وما في خارج هذه القلوب من الإِيمان لا يدخل. وهم برغم حركتهم في الحياة إلا أن الحق يعجزهم عن رؤية آياته في الكون. {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ... } [الأعراف: 146] وحين يرى أهل الكبر الآية الكونية أو الآية الإِعجازية أو آيات الأحكام فهم لا يؤمنون بها، وحين يرون سبيل الرشد لا يتخذونه سبيلاً؛ لأن سبيل الرشد يضغط على شهوات النفس وهواها، فينهى عن السيئات وهم لا يقدرون على كبح جماح شهواتهم لأنها تمكنت منهم، ولكن سبيل الغي يطلق العِنان لشهوات النفس، ولا يكون كذلك إلا إذا غفل عن معطيات الإِيمان الذي يحرمه من شيء ليعطيه أشياء أثمن، وهكذا تكون نظرة أهل الكبر سطحية. ونلحظ أن كلمة السبيل تأتي مرة كمذكر كقوله؛ {لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} ، ومرة تأتي مؤنثة، فالحق يقول: {قُلْ هذه سَبِيلِي} . وهنا يقول الحق عن الذين يتبعون سبيل الغي من أهل الكبر: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} . وقديماً قلنا إن الغفلة لا توجب الجزاء عليها؛ لأن الغافل ساهٍ وناس، ولكن هؤلاء صدفوا عن الأمر صدوفاً عقليًّا مقصوداً، لدرجة أنهم لا يعيرون الإيمان أي التفات. ويقول الحق بعد ذلك: {والذين كَذَّبُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4356 وقد جاء لفظ الآيات هنا أكثر من مرة، فقد قال الحق: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} . ويقول أيضاً: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} . ويقول سبحانه: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} . إذن فالمسألة كلها مناطها في الآيات الكونية للاستدلال على من أوجدها، والإِعجازية للاستدلال على صدق مَنْ أرسل من الرسل، والقرآنية لأخذ منهج الله لتقويم واستواء حركة الإِنسان. {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ... } [الأعراف: 147] ويقال: حبط الشيء أي انتفخ وورم من علة أو مرض. أي أنهم في ظاهر الأمر يبدو لهم أنهم عملوا أعمالا حسنة ولكنها في الواقع أعمال باطلة وفاسدة، وقد يوجد من عمل عملاً حسناً نافعاً للناس، ولكن ليس في باله أنه بفعل ذلك إرضاء لله، بل للشهرة لينتشر ذكره ويذيع صِيتُه ويثني الناس عليه، أو للجاه والمركز والنفوذ. ولذلك حين «سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من الشهيد؟ . قال: » من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله «. لأن الرجل قد يقاتل حمية، أو ليعرف الناس مثلاً أنه شجاع. إذن فهناك من يعمل عملاً ليفتخر به. ويقال مثلاً: إن الكفار هم من اكتشفوا الميكروب وصعدوا إلى الفضاء. ونقول: نعم لقد أخذوا التقدير من الناس لأن الناس كانت في بالهم، ولن يأخذوا التقدير من الله لأنهم عملوا أعمالهم وليس في بالهم الله. والإِنسان يأخذ أجره ممن عمل له، والله سبحانه وتعالى لن يضيع أجر أعمالهم الحسنة، بل أعطى لهم أجورهم في الدنيا، لكن حرث الآخرة ليس لهم. {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا ... } [الشورى: 20] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4357 فمن زرع وأحسن اختيار البذور، واختيار التربة وروى بنظام يأتي له الزرع بالثمر لأنه أخذ بالأسباب، وهذا اسمه عطاء الربوبية وهو عطاء عام لكن مَن خلق الله، مؤمناً كان أو كافراً، عاصيًّا أو طائعاً، لكن عطاء الألوهية يكون في اتباع المنهج ب» افعل ولا تفعل «وهذا خاص بالمؤمنين، فإذا ما أحسنوا استعمال أسباب الحياة في السنن الكونية. يأخذون حظهم منها، والكافرون أيضاً يأخذون حظهم منها، إذا أحسنوا الأخذ بالأسباب؛ ويكون ذلك بتخليد الذكرى وإقامة التماثيل لهم. وأخذ المكافآت والجوائز وحفلات التكريم. أما جزاء الآخرة فيأخذه من عمل لرب الآخرة، أما من لم يفعلوا من أجل لقاء الله فهو سبحانه يقول في حقهم: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] وكذلك يقول: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً ... } [النور: 39] فالكافرون مثلهم مثل الظمآن الذي يسير في صحراء ويخيل له أن أمامه ماء، ويمشي ويمشي فلا يجد ماء. أما غير الظمآن فلا يهمه إن كان هناك ماء أو لا يوجد ماء، فالظمآن ساعة يرى السراب يمني نفسه بأن المياه قادمة وأنه سيحصل عليها. {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ... } [النور: 39] وليس المهم أنه لم يجده شيئاً، بل يفاجأ: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} . إنه يفاجأ بأن الإِله الذي كان لا يصدق بأنه موجود يجده أمامه يوم القيامة فيوفيه حسابه ويجزيه على عمله القبيح. إذن فإن عمل الإِنسان عملاً فلينتظر الأجر ممن عمل له، وإن عمل الإِنسان عملاً وليس في باله الله فعليه ألاّ يتوقع الأجر منه، وعلى الرغم من ذلك يعطي الله لهؤلاء الأجر في قانون نواميس الحياة الكونية؛ لأن من يحسن عملاً يأخذ جزاءه عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4358 {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 147] هم إذن كذبوا بآيات الله، وكذبوا باليوم الآخر، ولم يعملوا وفق منهج الإِيمان، فلهم جزاء وعقاب من الحق الذي أنزل هذا المنهج، ولكنّهم أعرضوا عنه وكذبوه. ولذلك يقول سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 104] ويقول الحق بعد ذلك: {واتخذ قَوْمُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4359 وقوله: {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد ذهابه لميقات ربه بعد أن قال لهارون: {اخلفني فِي قَوْمِي} . بعد ذلك اتخذ قوم موسى من حليهم عجلاً جسداً له خُوار، ونعرف أن الحلي هو ما يُتَزين به من الذهب، والجواهر والأشياء الثمينة، وسيد هذه الحلي هو الذهب دائماً، ونعلم أن الصائغ الماهر يشكل الذهب كما يريد، وإن انكسر يسهل إصلاحه، كما أن كسر الذهب بطيء، ولذلك يقال: إن الذهب كالإِنسان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4359 الطيب، كسره بطيء، واجباره سهل. وساعة نسمع كلمة «زينة» قد يدخل فيها الماس والزمرد، والياقوت، لكن الذهب سيد هذه الحلي. ونعلم أن العالم مهما ارتقى، فلن يكون هناك رصيد لأمواله إلا الذهب، ولذلك لم يأت سبحانه بالياقوت، أو بالجواهر، أو بالماس. ولذلك إذا أطلقت كلمة «الحلي» فالمراد بها الذهب. وهذه الزينة هي التي صنع منها موسى السامري تمثال العجل، وبطبيعة الحال أخذ الحلي الذهبية لأن الماس والجواهر لا يمكن صهرها. لكن من أين جاء قوم موسى بالحلي وقد كانوا مستضعفين، ومستذلين؟ لقد احتالوا على أهل مصر وأخذوا منهم الحلي كسلفة سيردونها من بعد ذلك. ثم جاء رحيلهم فأخذوا الحلي معهم! وغرق قوم فرعون وبقيت الحلي مع قوم موسى، وصنع موسى السامري من ذهب هذه الحلي عجلاً، والعجل هو الذكر من ولد البقر، وساعة تسمع قوله: {عِجْلاً جَسَداً} أي أنه مُحَجَّم، أي له حجم واضح. وأخذ أهل التفسير من كلمة «جسداً» أن ذلك العجل هو بدن لا روح له، مثلما نقول: «فلان هذا مجرد جثة» . أي كأنه جثة بلا روح. وقوله الحق: {عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} ، هذا القول يدل على أن جسدية العجل لم تكن لها حياة؛ لأنه لو كان جسداً فيه روح لما احتاج إلى أن يقول عجلاً جسداً له خوار، ولاكتفي بالقول بأنه عجل. لكن قوله سبحانه: {لَّهُ خُوَارٌ} دليل على أن الجسدية في العجل لا تعطي له الحياة. وجاء بالوصف في قوله: {لَّهُ خُوَارٌ} والخُوار هو صوت البقر. وقد صنعه من الذهب وكأنه يريد أن يتميز عن الآلهة التي كانت من الأحجار، وحاول أن يجعله إلهاً نفيساً، فصنعه - كما نعرف - من الحلي المسروقة، وصنعه بطريقة أن هذا العجل الجسد إذا ما استقبل من دبره هبة الهواء؛ صنعت وأحدثت في جوفه صوتاً يشبه صوت وخوار البقر الذي يخرج من فمه، وهذه المسألة نراها في الناي وهو أنبوبة من القصب مما يسمى الغاب البلدي وتصنع به ثقوب، ويعزف عليه العازف ليخرج منه النغمة التي يريدها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4360 وحين صنع موسى السامري العجل بهذه الحيلة، حدث هذا الصوت مشابها لخوار البقر. وقصة هذا العجل تأتي في سورة طه بوضوح وسنتعرض لها حين نتعرض بخواطرنا الإِيمانية لسورة طه بإذن الله: { ... عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148] ولماذا اختار السامري العجل؟ لأنهم حين خروجهم من مصر، رأوا قدماء المصريين وهم يعبدون العجل لمزية فيه، فقد كانوا يرون فيه مظهر قوة، كما عبد الآخرون الشمس حين رأوا فيها مظهر قوة، وكذلك من عبدوا القمر، والنجوم. وقدماء المصريين عبدوا العجل لأن فيضان النيل كان يغمر الأرض بالمياه، وكانوا يستخدمون العجل. حين يريدون حرث الأرض. وكان أَيِّدًا، أي قويًّا وشديداً في حرث الأرض وهذا مظهر من مظاهر القوة، ولكن كيف اتخذ قوم موسى من بعده عجلاً يعبدونه بعد أن أتم عليهم الله المنة العظيمة حين أنجاهم وأغرق فرعون وآله؟ . وهنا أوضح لنا الله أنه جاوز ببني إسرائيل البحر ومروا على قوم يعبدون الأصنام؛ فقالوا لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. ويأتي القول من الحق: { ... أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148] وهذه قضية تهدم كل عبادة دون عبادة الله؛ لأن العبد لابد أن يتلقى من المعبود أوامر، وأن يكون عند المعبود منهج يريد من العبد أن ينفذه، وأن يأتي المنهج بواسطة رسل يبلغون رسالات الله وكلام الله للبشر. أما الذين يعبدون الشمس - مثلاً - فنسألهم: لماذا تعبدونها؟ وما المنهج الذي أرسلته الشمس لكم؟ . إن العبادة هي طاعة العابد للمعبود في «افعل» و «لا تفعل» فهل قالت لكم الشمس «افعلوا» و «لا تفعلوا» ؟ لا؛ لأنه لا توجد واسطة كلامية تقول لكم المنهج، وكيف يوجد - إذن - معبود بدون منهج للعابد؟ وهل قالت: إن من يعبدني سأشرق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4361 عليه، وأعطيه الضوء والحرارة، ومن لا يعبدني فلن أعطيه شيئاً من ذلك؟ لم تقل الشمس ذلك فهي تعطي من آمن بها ومن كفر، ولم ترسل خبراً عن الآخرة وقيام القيامة. وهكذا يبطل أمامنا كل عبادة لغير الله من ناحية أن العبادة تقتضي أمراً ونهيا، في «افعل» و «لا تفعل» ولم يقل معبود من هؤلاء ما الذي نطيعه وما الذي نعصاه. والأصل في المعبود أنه يهدي العابد السبيل الموصل إلى خيره في الدنيا وفي الآخرة. لذلك يقول الحق: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} . و {وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} لأنهم أعطوا حقًّا لمن ليس له الحق، والحق سبحانه أعلى قمة في الحق، ولذلك قال عن الشرك به: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4362 هذا يوضح لنا أن عبادة العجل بين قوم موسى صار لها جمهور. لكن الناس الذين امتلكوا قدراً من البصيرة، أو بقية إيمان قالوا: هذه الحكاية سخيفة، وما كان لنا أن نفعلها وندموا على ما كان، ويقال: سُقِط في يده، وهذه من الدلالات الطبيعية الفطرية التي لا تختلف فيها أمة عن أمة، بل هي في كل الأجناس، وفي كل لغة تشير إلى أن الإِنسان إذا ما فعل فعلا وحدث له عكس ما يفعل يعض على الأنامل ندماً وغمًّا، وهذه من الدلالات الفطرية الباقية لنا من الالتقاء الطبعي في المخاطبات، في كل الأجناس. ويعض الإِنسان الأنامل لأنه عمل شيئاً ما كان يصح أن يعمله، فإذا كان الشيء عظيماً فهو لا يكتفي بالأنملة بل يمسك يده كلها ويعضها. والحق يقول: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4362 و «سُقط في أيديهم» أي جاءت أنيابهم على أيديهم، كأن الندم بلغ أشده، إن ذلك حدث من التائبين الذين أبصروا بعيونهم ورأوا أن ذلك باطل وخسران. أي قالوا: لئن لم يتداركنا الله برحمته ومغفرته لنكونن من الهالكين، وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4363 وكون موسى يعود إلى قومه حالة كونه غضبان أسِفاً، يدلنا على أنه علم الخبر بحكاية العجل. والغضب والأسف عملية نفسية فيها حزن وسموها: «المواجيد النفسية» ، أي الشيء الذي يجده الإِنسان في نفسه، وقد يعبر عن هذه المواجيد بانفعالات نزوعية، ولذلك تجد فارقاً بين من يحزن ويكبت في نفسه، وبين من يغضب، فمن يغضب تنتفخ أوداجه ويحمر وجهه ويستمر هياجه، وتبرق عيناه بالشر وتندفع يداه، وهذا اسمه: غضبان. وصار موسى إلى الحالتين الاثنتين؛ وقدّم الغضب لأنه رسول له منهجه. ولا يكفي في مثل هذا الأمر الحزن فقط، بل لابد أن يكون هناك الغضب نتيجة هياج الجوارح. وقديماً قلنا: إن كل تصور شعوري له ثلاث مراحل: المرحلة الأولى. مرحلة إدراكية، ثم مرحلة وجدانية في النفس، ثم مرحلة نزوعيه بالحركة، وضربنا المثل لذلك بالوردة. فمن يرى الوردة فهذا إدراك، وله أن يعجب بها ويسر من شكلها ويطمئن لها ويرتاح، وهذا وجدان. لكن من يمد يده ليقطفها فهذا نزوع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4363 حركي. والتشريع للإِدراك أو للوجدان لكنه قنن للسلوك. إلا في غض البصر عما حرم الله وذلك رعاية لحرمة الأعراض. والأسف عند موسى لن يظهر للمخالفين للمنهج. بل يظهر الغضب وهو عملية نزوعية، ونلحظ بكلمة أَسِف. وهي مبالغة. فهناك فرق بين أَسِف وآسف، آسف خفيفة قليلاً، لكن أسِف صيغة مبالغة، مما يدل على أن الحزن قد اشتد عليه وتمكن منه. {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ... } [الأعراف: 150] وقوله سبحانه: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي استبطأتموني، وهذا نتيجة لذهاب موسى لثلاثين ليلة وأتممها بعشر، فتساءل موسى: هل ظننتم أنني لن آتي؟ أو أنني أبطأت عليكم؟ وهل كنتم تعتقدون وتؤمنون من أجلي أو من أجل إله قادر؟ . ولذلك قال سيدنا أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: عندما انتقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الرفيق الأعلى: «من كان يعبد محمدًّا فإن محمدًّا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت» . وهنا يقول سيدنا موسى: افترضوا أنكم عجلتم الأمر واستبطأتموني أو خفتم أن أكون قد مت. فهل كنتم تعبدونني أو تعبدون ربنا. {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألواح} ، ونعلم أن الألواح فيها المنهج، وقدر موسى على أخيه: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} وهذا «النزوع الغضبي» الذي جعله يأخذ برأس أخيه، كأن الأخوة هنا لا نفع لها، فماذا كان رد الأخ هارون:؟ { ... قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} {الأعراف: 150] نلحظ أنه قال: «ابن أم» ولم يقل: «ابن أب» لأن أبا موسى وهارون طُوي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4364 اسمه في تاريخ النبوات ولم يظهر عنه أي خبر، والعلم جاءنا عن أمه لأنها هي التي قابلت المشقات في أمر حياته، لذلك جاء لنا بالقدر المشترك البارز في حياتهما، ولأن الأمومة مستقر الأرحام؛ لذلك أنت تجد أخوة من الأم، وأخوة من الأب فقط، وأخوة من الأب والأم، والأخوة من الأب والأم أمرهم معروف. لكن نجد في أخوة الأم حناناً ظاهراً، ويقل الحنان بين الأخوة من الأب. وجاء الحق هنا بالقدر المشترك بينهما - موسى وهارون - وهو أخوة الأم، وله وجود مستحضر في تاريخهم. أما الأب عمران فنحن لا نعرف عنه شيئاً، وكل الآيات التي جاءت عن موسى متعلقة بأمه، لذلك نجد أخاه هارون يكلمه بالأسلوب الذي يحننه: {قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} . ومادام قد قال: {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} فهذا دليل على أنه وقف منهم موقف المعارض والمقاوم الذي أدى ما عليه إلى درجة أنهم فكروا في قتله، ويتابع الحق بلسان هارون: {فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} . والشماتة هي إظهار الفرح بمصيبة تقع بخصم، والأعداء هم القوم الذين اتخذوا العجل، وقد وصفهم بالأعداء كدليل على أنه وقف منهم موقف العداوة، وأن موقف الخلاف بين موسى وهارون سيفرحهم، وقوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} . . إجمال للرأس في عمومها، وفي آية أخرى يقول: {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} . ولقد صنع موسى ذلك ليسمع العذر من هارون؛ لأنه يعلم أن هارون رسول مثله، وأراد أن يسمعنا ويسمع الدنيا حجة أخيه حين أوضح أنه لم يقصر. قال: إن القوم استغضعفوني لأني وحدي وكادوا يقتلونني، مما يدل على أنه قاومهم مقاومة وصلت وانتهت إلى آخر مجهودات الطاقة في الحياة؛ حتى أنهم كادوا يقتلونه، إذن فهو لم يوافقهم على شيء، ولكنه قاوم على قدر الطاقة البشرية، لذلك يذيل الحق الآية بقوله سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} . وكأنه يقول: لموسى إنك أن آخذتني هذه المؤاخذة في حالة غضبك، ربما ظُنَّ بي أنني كنت معهم، أو سلكت مسلكهم في اتخاذ العجل وعبادته. وأراد الحق سبحانه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4365 أن يبين لنا موقف موسى وموقف أخيه؛ فموقف موسى ظهر حين غضب على أخيه وابن أمه، وموقف هارون الذي بيّن العلة في أن القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولا يمكن أن يطلب منه فوق هذا، وحينما قال هارون ذلك تنبه موسى إلى أمرين: الأمر الأول: أنه كيف يلقي الألواح وفيها المنهج؟ والأمر الثاني: أنه كيف يأخذ أخاه هذه الأخذة قبل أن يتبين وجه الحق منه؟ ويقول الحق على لسانه بعد ذلك: {قَالَ رَبِّ اغفر لِي ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4366 قال يا رب اغفر لي إن كان قد بدر مني شيء يخالف منطق الصواب والحق. واغفر لأخي هارون ما صنع، فقد كان يجب عليه أن يأخذ في قتال من عبدوا العجل حتى يمنعهم أو ينالوا منه ولو مادون القتل جرحاً أو خدشاً أو. . أو. . إلخ. ويطلب موسى لنفسه ولأخيه الرحمة: {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} [الأعراف: 151] وحين تسمع {أَرْحَمُ الراحمين} أو {خَيْرُ الرازقين} ، أو {خَيْرُ الوارثين} ، أو {أَحْسَنُ الخالقين} ، وكل جمع هو وصف لله، وإنه بهذا أيضاً يدعو خلقه إلى التخلق بهذا الخلق، ويوصف به خلقه. فاعلم أن الله لم يحرمهم من وصفهم بهذه الصفات لأن لهم فيها عملا وإن كان محدودا يتناسب مع قدرتهم ومخلوقيتهم وعبوديتهم، فضلا على أنها عطاء ومنحة منه - سبحانه - أما صفات الله فهي صفات لا محدودة ولا متناهية جلالا وكمالا وجمالا فسبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4366 شَيْءٌ} ، فإذا كان خلق الله هو {أَرْحَمُ الراحمين} فهذا يعني أنه سبحانه لم يمنع الرحمة من خلقه على خلقه؛ فمن رحم أخاه سُميِّ رحيماً، وراحماً، ولكن الله أرحم الراحمين؛ لأن الرحمة من كل إنسان ضمان لمظهرية الغضب في هذا الأحد، يقال: «رحمت فلاناً» أي من غضبك عليه وعقوبتك، وإنّ عقوبتك على قدر قوتك، لكن الله حين يريد أن يأخذ واحداً بذنب فقوته لا نهاية لها، وكذلك رحمته أيضاً لا نهاية لها. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الذين اتخذوا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4367 حين يقال: {اتخذوا العجل} قد نجد من يتساءل: هل اتخذوه مذبوحاً يأكلونه؟ أو يثير الأرض أو يسقي الحرث ويدير السواقي؟ لأن العجل موجود لهذه المهام، لكنهم لم يأخذوا العجل لتلك المهام، بل إنهم قد اتخذوا العجل إلهاً ومعبوداً، أما اتخاذه فيما خُلِقَ له فلا غبار عليه، وهو هنا محذوف ومتروك لفطنة السامع؛ فإذا اتخذنا العجل فيما خُلِقَ له العجل لا ينالنا غضب من الله، أما الذين سينالهم غضب الله فهم من اتخذوا العجل في غير ما خُلِقَ له، إنهم اتخذوه إلهاً: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا} . وقوله: {سَيَنَالُهُمْ} يدل على أن أوان الغضب والذلة لم يأت بعد، وسيحدث في المستقبل، ومستقبل الدنيا هو الآخرة، ولكن الحق هنا يقول: إن الذلة ستحدث في الدنيا، فكيف يكون {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ} مع أنهم تابوا؟ ويوضح سبحانه لنا ذلك في قوله: {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4367 فبعضهم تاب إلى بارئه وقتل نفسه فلماذا إذن الغضب؟ ويوضح الحق لنا أن الذي ينالهم من الغضب هو ما ألجأهم إلى أن يقال لهم: «اقتلوا أنفسكم» ، وهكذا نفهم أن قوله تعالى: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ} أي قبل أن يتوبوا، وقتل النفس هو منتهى الذلة ومنتهى الإهانة. { ... سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين} [الأعراف: 152] أي أن هذا الأمر ليس بخاصية لهم، فكل مفتر يتجاوز حده فوق ما شرعه الله لابد أن يناله هذا الجزاء؛ لأن ربنا حين يقول لنا ما حدث في تاريخهم؛ وحين يسرد لنا هذه القصة فإنه يريد من وراء ذلك - سبحانه - أن يعتبر السامع للقصة في نفسه. واعتبار السامع للقصة في نفسه لا يتأتى إلا بأن يقول له الله تنبيهاً وتحذيراً: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين} أي احذر أن تكون مثل هؤلاء فينالك ما نالهم، وهو سبحانه ينبه كلا لينتفع من هذه العبرة وهذه اللقطة فإنَّ التاريخ مسرود لأخذ العبرة، والعظة ليتعظ بها السامع. ويقول الحق بعد ذلك: {والذين عَمِلُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4368 وهذا ما حدث، فبعد أن اتخذوا العجل، وقال لهم: اقتلوا أنفسكم توبة إلى بارئكم، ثم تابوا إلى الله وآمنوا بما جاءهم، غفر الله لهم. وإذا كان الحق قد قص علينا مظهرية جباريته فإنه أيضاًً لم يشأ أن يدعنا في مظهرية الجبارية، وأراد أن يدخلنا في حنان الرحمانية. لذلك يقول هنا: {والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وآمنوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأعراف: 153] وقوله: {ثُمَّ تَابُواْ} أي ندموا على ما فعلوا وأصروا وعزموا على ألاَّ يعودوا، ونعلم من قبل أن التوبة لها مظهريات ثلاثة؛ أولاً: لها مظهرية التشريع، ولها مظهرية الفعل من التائب ثانياً، ولها قبولية الله للتوبة من التائب ثالثاً. ومشروعية التوبة نفسها فيها مطلق الرحمة، ولو لم يكن ربنا قد شرع التوبة سيستشري شره في السيئة فهذه رحمة بالمذنب، وبالمجتمع الذي يعيش فيه المذنب. بعد ذلك يتوب العبد، ثم يكون هنا مظهرية أخرى للحق، وهو أن يقبل توبته. التوبة - إذن - لها تشريع من الله، وذلك رحمة، وفعل من العبد بأن يتوب، وذلك هو الاستجابة، وقبول من الله، وذلك هو قمة العطاء والرحمة منه سبحانه. وقوله الحق: {والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وآمنوا ... } [الأعراف: 153] إنَّ هذا القول يدل على أن عمل السيئة يخدش الإِيمان، فيأمر سبحانه عبده: جدّد إيمانك، واستحضر ربك استحضاراً استقباليًّا؛ لأن عملك السيئة يدل على أنك قد غفلت عن الحق في أمره ونهيه، وحين تتوب فأنت تجدد إيمانك وتجد ربك غفوراً رحيماً: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4368 لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} . إن ذنب العبد يكون فيما خالف منهج ربه في «افعل» و «لا تفعل» ، ومادام العبد قد استغفر الله وتاب فسبحانه يقبل التوبة. ويوضح: إذا كنت أنا غفوراً رحيماً، فإياكم يا خلقي أن تُذَكِّروا مذنباً بذنبه بعد أن يتوب؛ لأن صاحب الشأن غفر، فإياك أن تقول للسارق التائب: «يا سارق» ، وإياك أن تقول للزاني التائب: «يا زاني» ، وإياك أن تقول للمرتشي التائب: «يا مرتشي» لأن المذنب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4369 مادام قد جدّد توبته وآمن، وغفر الله له، فلا تكن أنت طفيليًّا وتبرز له الذنب من جديد. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4370 وهل للغضب سكوت؟ هل للغضب مشاعر حتى يسكت؟ نعم؛ لأن الغضب هيجان النفس لتعمل عملاً نزوعيًّا أمام من أذنب، فكأن الغضب يلح عليه، ويقول للغاضب: اضرب، اشتم، اقتل. كأن الغضب قد مُثِّل وصُوِّر في صورة شخص له قدرة إصدار الأوامر، فشبَّه الله الغضب بصورة إنسان يلح على موسى في أن يفعل كذا، ويفعل كذا، فلما قال الله ذلك كأن الغضب قد سكت عنه. أو هو كما قال إخواننا العلماء: من القلب في اللغة، أي أنه يقلب المسألة، اتكالاً على أن فطنة السامع سترد كل شيء إلى أصله؛ كما نسمع في اللغة: خرق الثوبُ المسمارَ، نفهم من هذا القول أن المسمار هو الذي قام بخرق الثوب؛ لأننا لن نتخيل أنّ الثوب يخرق مسماراً. ويسمى ذلك «القلب» أي أن يأتي بمسألة مقلوبة تفهمها فطنة السامع. أو أن المسمار مستقر في مكانه، والثوب هو الذي طرأ عليه فانخرق، فيكون سبب الخرق من الثوب، فكأن الفاعلية الحقيقية من الثوب: {وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} . أو تكون كلمة (سكت) كناية عن أن الغضب زال وانتهى. {وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب أَخَذَ الألواح وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4370 وأول عمل قام به موسى ساعة أن كان غضبان أسفاً أنه ألقى الألواح، وأول ما ذهب الغضب عنه وزايله أخذ الألواح، وهذا أمر منطقي، فالغضب جعله يلقي الألواح، ويأخذ برأس أخيه، ثم فهم ما فعله أخوه واعتذر به فقبل عذره، وطلب من الله أن يغفر له، وأن يغفر لأخيه وانتهى الغضب وكانت الألواح ملقاة فأخذها ثانية. { ... وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] النسخة من الكتاب مأخوذة من الشيء المنسوخ أي المنقول من مكان إلى مكان، ويقال: نسخت الكتاب الفلاني من الكتاب الفلاني. أي أن هناك كتاباً مخطوطاً ثم نقلناه بالطباعة أو بالكتابة إلى نسخة أو عدد من النسخ، أي أخذته من الأصل إلى الصورة، واسمه منسوخ، وكلمة نُسخة على وزن «فُعْلَة» وتأتي بمعنى مفعولة، فنسخة تعني منسوخة، وفي القرآن مثل هذا كثير. والحق سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ ... } [البقرة: 249] و «غُرْفة» أي مغروفة، وهي القليل من المياه في اليد لتبل الريق فقط، والغرفة أيضاً تكون في البيوت؛ لأنها مكان متقطع من مكان آخر ولها جدران تحددها. واسمها غرفة لأنها مغروفة من المكان في حيز مخصوص. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} . و «هدى» المقصود بها المنهج الموصل للغاية في «افعل» و «لا تفعل» . إنّه يوصل للغاية وهي ثواب الآخرة. إذن فالهدى والرحمة شيء واحد له طرفان، فالهدى هو المنهج الذي إن اتبعته تصل إلى الرحمة، ولذلك يقول الحق: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} . وهكذا نجد المنهج هدى ورحمة، فمن يسمع كلام الله ويتبعه يهتدي ويرحمه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4371 ربنا؛ لأنه جعل الله في باله وخاف من صفات الجبارية في الحق، ولهذا لابد أن يستحضر الإِنسان أو المؤمن رهبته لربه وخوفه منه - سبحانه - ليكون المنهج هدى ورحمة له. ويكون من الذين يرهبون ربهم. وساعة ترى المفعول تقدم في مثل قوله سبحانه هنا: { ... لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] نفهم أن هذا هو ما يسمى في اللغة «اختصاص» وقََصْر مثلما قال الحق في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . وما الفرق بين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} و «نعبدك» ؟ إن قلنا: «نعبدك» فهو قول لا يمنع من العطف عليه، فقد نعبدك ونعبد الشركاء معك؛ لكن قولنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي خصصناك بالعبادة وقصرناها عليك سبحانك فلا تتعدى إلى غيرك. إذن حين تقدم المفعول فهذا هو عمل الاختصاص. ومثال ذلك في حياتنا حين نقول: «أكرمتك» ، ولا مانع أن نقول بعدها «وأكرمت زيداً وأكرمت عمراً» . لكن إن قلت: إياك أكرمت، فهذا يعني أني لم أكرم إلا إياك. وهنا يقول الحق: {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} . ولقائل أن يقول: ألا يمكن أن يدعي أحد الرهبة ظاهراً وأنه ممتثل لأمر الله رياء أو سمعة حتى يقول الناس: إن فلاناً حسن الإِسلام، ويأخذون في الثناء عليه؟ ولكن هنا نجد التخصيص الذي يدل على أن العبد لا يرهب أحداً غير الله، وأن الرهبة خالصة لله، وليست رياء، ولا سمعة، ولا لقصد الثناء. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {واختار موسى قَوْمَهُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4372 وكلمة «اختار» تدل على أن العمل الإِختياري يُرجح العقل فيه فعلاً على عدم فعل أو على فعل آخر، وإلا فلا يكون في الأمر اختيار؛ لأن «اختار» تعني طلب الخير والخيار، وكان في مكنتك أن تأخذ غيره، وهذا لا يتأتى إلا في الأمور الاختيارية التي هي مناط التكليف، مثال ذلك: اللسان خاضع لإِرادة صاحبه الاختيارية التي هي مناط التكليف، مثال ذلك: اللسان خاضع لإِرادة صاحبه فخضع للمؤمن حين قال: لا إله إلا الله، وخضع للملحد حين قال - لعنه الله -: لا وجود لله، ولم يعص اللسان في هذه، ولا في تلك. والذي رجح أمراً على أمر هو ترجيح الإِِيمان عند المؤمن في أن يقول: لا إله إلا الله، وترجيح الإِلحاد عند الملحد في أن يقول ما يناقض ذلك. والحق هنا يقول: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} . والذين درسوا اللغة يقولون: إن هناك حدثاً. وأنّ هناك موجدا للحدث نسميه فاعلاً مثل قولنا: «كتب زيد الدرس» أي أن زيداً هو الذي أدى الكتابة، ونسمي «الدرس» الذي وقعت عليه الكتابة مفعولاً به، ومرة يكون هناك ما نسميه «مفعولاً له» أو «مفعولاً لأجله» مثل قول الابن: قمت لوالدي إجلالاً، فالذي قام هو الابن، والإِجلال كان سبباً في إِيقاع الفعل فنسميه «مفعولا لأجله» : ونقول: «صُمْت يوم كذا» ونسميه «مفعولاً فيه» ، وهو أن الفعل، وقع في هذا الزمن. فمرة يقع الحدث على شيء فيكون مفعولاً به، ومرة يقع لأجل كذا فيكون مفعولاً لأجله، ومرة يقع في يوم كذا؛ العصر أو الظهر فيكون مفعولاً فيه، ومرة يكون مفعولاً معه «مثل قولنا: سرت والنيل: أي أن الإِنسان سار بجانب النيل وكلما مشى وجد النيل في جانبه. وهنا يقول الحق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4373 {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا ... } [الأعراف: 155] ولأن اختيار موسى للسبعين كان وقع من القوم؛ فيكون المفعول قد جاء من هؤلاء القوم، ويسمى» مفعولاً منه «؛ لأنه لم يخترهم كلهم، إنما اختار منهم سبعين رجلاً لميقاته مع الله سبحانه. وقالوا في علة السبعين إن من اتبعوا موسى كانوا أسباطاً، فأخذ من كل سبط عدداً من الرجال ليكون كل الأسباط ممثلين في الميقات، وكلمة» ميقات «مرت قبل ذلك حن قال الله: {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ... } [الأعراف: 143] وهل الميقات هذا هو الميقات الأول؟ لا؛ لأن الميقات الأول كان لكلام موسى مع الله، والميقات الثاني هو للاعتذار عن عبدة العجل. {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ. . .} [الأعراف: 155] ولماذا أخذتهم الرجفة؟ لأنهم لم يقاوموا الذين عبدو العجل المقاومة الملائمة، وأراد الله أن يعطي لهم لمحة من عذابه، والرجفة هي الزلزلة الشديدة التي تهز المرجوف وتخيفه ونترهبه من الراجف. وحين أخذتهم الرجفة قال موسى: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} . أوضح موسى: لقد أحضرتهم من قومهم. وأهلوهم يعرفون أن السبعين رجلاً قد جاءوا معي، فإن أهلكتهم يا رب فقد يظن أهلهم أنني أحضرتهم ليموتوا وأسلمتهم إلى الهلاك. ولو كنت مميتهم يا رب وشاءت مشيئتك ذلك لأمتّهم من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4374 قبل هذه المسألة وأنا معهم أيضاً. ويضيف القرآن على لسان موسى والقوم معاً: { ... أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} {الأعراف: 155] أنت أرحم يا رب من أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا، وهذا القول يدل على أن العملية عملية فعل، والفعل هو عبادة العجل؛ فلو أن هذا هو الميقات الأول لما احتاج إلى مثل هذا القول؛ لأن قوم موسى لم يكونوا قد عبدوا العجل بعد. ولكنهم قالوا بعد الميقات الأول: مادام موسى قد كلم الله، فلابد لنا أن نرى الله، وقالوا فعلاً لموسى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً ... } [النساء: 153] إذن نجد أن ما حصل من قوم موسى بعد الميقات الأول هو قولهم: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} وليس الفعل، أما هنا فالآية تتحدث عن الفعل: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} . وهكذا نعلم أن الآية تتحدث عن ميقات ثانٍ تحدد بعد أن عبد بعضهم العجل، والفتنة هي الاختبار، والاختبار ليس مذموماً في ذاته، ولا يقال في أي امتحان إنه مذموم. إنما المذموم هو النتيجة عند من يرسب، والاختبار والامتحان غير مذموم عند من ينجح. إذن فالفتنة هي الابتلاء والاختبار، وهذا الاختبار يواجه الإِنسان الجاهل الذي لا يعلم بما تصير إليه الأمور وتنتهي إليه ليختار الطريق ويصل إلى النتيجة. ولا يكون ذلك بالنسبة لله؛ لأنه يعلم أزلاً كل سلوك لعباده، لكن هذا العلم لا يكون حجة على العباد؛ ولابد من الفعل من العباد ليبرز ويظهر ويكون له وجود في الواقع لتكون الحجة عليهم. والأخذ بالواقع هو الأعدل. وقول موسى عليه السلام: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4375 {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ ... } [الأعراف: 155] هذا القول يعني: أنك يا رب قد جعلت الاختبار لأنك خلقتهم مختارين؛ فيصح أن يطيعوا ويصح أن يعصوا. والله سبحانه هو من يُضل ويهدي؛ لأنه مادام قد جعل الإِنسان مختاراً فقد جعل فيه القدرة على الضلال، والقدرة على الهدى. وقد بيّن سبحانه من يشاء هدايته، ومن يشاء إضلاله فقال: { ... والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [آل عمران: 86] والسبب في عدم هدايتهم هو ظلمهم، وكذلك يقول الحق: { ... والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264] وهكذا نرى أن الكفر منهم هو الذي يمنعهم من الهداية. إذن فقد جعل الله للعبد أن يختار أو أن يختار الضلال، وما يفعله العبد ويختاره لا يفعله قهراً عن الله؛ لأنه سبحانه لو لم يخلق كلا منا مختاراً لما استطاع الإِنسان أن يفعل غير مراد الله، ولكنه خلق الإِنسان مختاراً، وساعة ما تختار - أيها الإِنسان - الهداية أو تختار الضلال فهذا ما منحه الله لك، وسبحانه قد بيّن أن الذي يظلم، والذي يفسق هو أهل لأن يعينه الله على ضلاله، تماماً كما يعين من يختار الهداية؛ لأنه أهل أن يعينه الله على الهداية. ويقول الحق على لسان سيدنا موسى في نهاية هذه الآية: { ... أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} [الأعراف: 155] والولي هو الذي يليك، ولا يليك إلا من قربته منك بودك له، ولم تقربِّه إلا لحيثية فيه قد تعجبك وتنفعك وتساعدك إذا اعتدى عليك أحد أو تأخذ من عمله لأنه عليم. إذن فالمعنى الأول لكلمة الولي أي القريب الذي قربته لأن فيه خصلة من الخصال التي قد تنفعك، أو تنصرك، أو تعلمك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4376 وقول موسى {أَنتَ وَلِيُّنَا} أي ناصرنا، والأقرب إلينا، فإن ارتكب الإِنسان منا ذنباً فأنت أولى به، إنك وحدك القادر على أن تغفر ذنبه؛ لذلك يقول موسى: {فاغفر لَنَا} ، ونعلم من هذا أنه يطلب درء المفسدة أولاً لأن درءها مقدم على جلب المصلحة، فقدم موسى عليه السلام طلب غفر الذنب، ثم طلب ودعا ربّه أن يرحمهم، وهذه جلب منفعة. وقد قال ربنا في مجال درء المفسدة: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} وهذا درء مفسدة وهو البعد عن النار: {وَأُدْخِلَ الجنة} . وهذا جلب منفعة ومصلحة. إذن فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، - وعلى سبيل المثال - إنك ترى تفاحة على الشجرة، وتريد أن تمد يدك لتأخذها، ثم التفت فوجدت شابًّا يريد أن يقذفك بطوبة، فماذا تصنع؟ انت في مثل هذه الحالة الانفعالية تدفع الطوبة أولاً ثم تأخذ التفاحة من بعد ذلك. وهذا هو درء المفسدة المقدم على جلب المصلحة، وهنا درء المفسدة متمثل في قول موسى: {فاغفر لَنَا} ثم قال بعد ذلك: {وارحمنا} وهذا جلب مصلحة، والقرآن يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ ... } [الإِسراء: 82] لأن الداء يقع أولاً، وحين تذهب لمنهج القرآن يشفيك من هذا الداء، والرحمة ألاَّ يجيء لك داء بالمرة. فإذا أخذت القرآن لك نصيراً فلن يأتي لك الداء أبداً. { ... فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} [الأعراف: 155] ومثلها مثل قول الحق سبحانه: {خَيْرُ الرازقين} ، و {خَيْرُ الماكرين} ، و {خَيْرُ الوارثين} و {خَيْرُ الغافرين} هنا؛ لأن المغفرة قد تكون من الإِنسان للإِنسان، ولكنا نعرف أن مغفرة الرب فوق مغفرة الخلق؛ لأن الغافر من البشر قد يغفر رياء، وقد يغفر سمعة، قد يغفر لأنه خاف بطش المقابل. لكنه سبحانه لا يخاف من أحد، وهو خير الغافرين من غير مقابل. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4377 {واكتب لَنَا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4378 ونلحظ أن هذه الآية تضم طلبات جديدة لسيدنا موسى من ربّه بعد قوله: {فاغفر لَنَا وارحمنا} . ونرى أن خير الغافرين تعود لقول موسى - عليه السلام -: {فاغفر لَنَا} أما الحسنة في قوله: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً} فإنها تعود على طلب الرحمة: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة} . هو إذن يطلب الحسنة في الدنيا وكذلك في الآخرة، والحسنة لها معنى «لغوي» ، ومعنى «شرعي» أما المعنى اللغوي فكل ما يستحسنه الإِنسان يُسمى حسنة، ولكن الحسنة الشرعية هي ما حسنه الشرع، فالشرع رقيب على كل فعل من أفعالنا وتصرفاتنا، فالحسنة ليست ما يستحسنه الإِنسان؛ لأن الإِنسان قد يستحسن المعصية، وهذا استحسان بشري بعيد عن المنهج، أما الاستحسان الشرعي فهو في تنفيذ المنهج ب «افعل» و «لا تفعل» . والحسنة المعتبرة في عرف المكلفين من الله هي الحسنة الشرعية؛ لأن الإِنسان قد يستحسن شيئاً وهو غير شرعي لأنه ينظر إلى عاجلية النفع فيه، ولا ينظر إلى آجلية النفع، ولا ينظر إلى كمية النافع. والنفع - كما نعلم - في الدنيا على قدر تصورك في النفع، أما النفع في الآخرة فلا يعلم قدره إلا علاّم الغيوب - سبحانه - إذن فقوله: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً} يكون المراد بها الحسنة الشرعية في الدنيا عملاً، وفي الآخرة جزاءً. ونلحظ أن موسى أراد بالحسنة الأولى ما يعم الحسنة الشرعية والحسنة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4378 اللغوية؛ فهو دعاء بالعافية والنعم الجلية الطيّبة؟ ، وكل خير الدنيا في ضوء منهج الله. والحق سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة ... } [الأعراف: 32] إذن فالحسنة الخالصة هي في يوم القيامة، ولكن هناك من ينتفع بها في الدنيا؛ فالجماد منتفع برحمة الله، والنبات برحمة الله، والحيوان منتفع برحمة الله، والكافر منتفع برحمة الله. كل ذلك في الدنيا، وهي الرحمة التي وسعت كل شيء، لكن مسالة الآخرة كجزاء على الإِحسان فهو جزاء خاص بالمؤمنين. ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلام: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} . و «هاد» أي رجع، و «هدنا إليك» أي رجعنا إليك، وهذا كلام موسى عن نفسه وعن أخيه، وعن القوم الذين عبدوا العجل ثم تابوا، وما دمنا قد رجعنا إليك يا ربي فأنت أكرم من أن تردنا خائبين. ويرد الحق سبحانه: { ... قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156] وقوله الحق: {عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ} أي لا يوجد من يدفعني ويرشدني في توجيه العذاب لأحد؛ فحين يذنب عبد ذنباً أنا أعذبه أو أغفر له؛ لذلك لا يقولن عبد لمذنب إن الله لابد أن يعذبه؛ لأنه سبحانه هو القائل: {عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. . .} [الأعراف: 156] وما المقصود بالرحمة هنا؟ أهي الرحمة في الدنيا أو الرحمة في الآخرة؟ إنها الرحمة في الدنيا التي تشمل الطائع والعاصي، والمؤمن والكافر، ولكنها خالصة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4379 في اليوم الآخر - كما قلنا - للمؤمنين. وقوله سبحانه: {فَسَأَكْتُبُهَا} يدل على أن هذا سيكون في الآخرة. أي أن رحمة الله وسعت كل شيء في الدنيا ولكنها رحمة تنتهي بالنسبة للكافرين في إطار الدنيا، ولكن بالنسبة للمؤمنين فهي رحمة مستمرة قد كتبها الله أزلاً وتعطي للمؤمنين فضلاً ومنًّة وعطاء منه - سبحانه - { ... فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156] وعندما سمع بعض اليهود ذلك قالوا: نحن متقون، فقيل لهم: في أي منهج أنتم متقون أفي منهج موسى؟ لو كنتم متقين في منهج موسى - كما تزعمون - لآمنتم بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأن من تعاليم موسى أن تؤمنوا برسول الله محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ولذلك جاء قوله تعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4380 فهذه تسع صفات لسيدنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي أن الله أوحى إليه كتابًا مختصاً به وهو القرآن، وأنه صاحب المعجزات، أنه بلّغ ونبأ بأفضل وأتم العقائد والعبادات والأخلاق - وهو - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الأمي الذي لم يمارس القراءة والكتابة ولم يجلس إلى معلم، فهو - عليه السلام - باقٍ على الحالة التي ولد عليها، وقد ذكره ربّه - جل وعلا - باسمه وصفاته ونعوته عند اليهود والنصارى في التوارة والإِنجيل وقد كتمها الكافرون منهم أو أساءوا تأويلها، كما وصفه ربه بأنه يأمرهم بالمعروف ويكلفهم بفعل ما تدعوا إليه الطبائع المستقيمة والفطر السليمة؛ لأن في ذلك النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يزجرهم وينهاهم عن كل منكر مستهجن تستقبحه الجبلة القويمة، والخلقة السوية، ويحل لهم ما حرم عليهم من الطيبات التي منعوا منها وحظرها الله عليهم جزاء طغيانهم وضلالهم، ويحرم عليهم كل ضار وخبيث: كأكل الميتة والمال الحرام من الربا والرشوة والغش، ويخفف عنهم ما شق عليهم وثقل من التكاليف التي كانت في شريعة موسى - عليه السلام - كقطع الأعضاء الخاطئة وتحريم الغنائم عليهم ووجوب إحراقها، وكذلك يخفف الله ويحط عنهم المواثيق الشديدة التي فرضت عليهم عقابا لهم على فسوقهم وظلمهم. يقول - جل شأنه -: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 160 - 161] وهكذا أعلم الله الرسل السابقين على سيدنا رسول الله أن يبلغوا أقوامهم بمجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأن يؤمن الأقوام التي يشهدون ويعاصرون رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، صحيح أن رسول الله لم يكن معاصراً لأحد من الرسل، ولكن البشارة به قد جاءت بها أنبياؤهم وسجلت في الكتب المنزلة عليهم، وكل رسول سبق سيدنا محمداً صلوات الله وسلامه عليه، قد أمره الله أن يبلغ الذين أرسل إليهم أن يتبعوا الرسول محمداً ويؤمنوا به ولا يتمسكوا بسلطة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4381 زمنية ويخافوا أن تنزع منهم. ومادام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جاء ومعه معجزة وبينة فلابد أن يؤمنوا به. {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين ... } [آل عمران: 81] إذن فقد صنع الله سبحانه وتعالى خميرة إيمانية حتى لا يتعارض اتباع الأديان. ولا يفهم أصحاب دين موجود أن ديناً آخر جاء لينسخه ويأخذ منه السلطة الزمنية؛ لأن رسالة الإِيمان موصولة وتحدث الأقضية للناس بامتداد الزمان. فكل الرسل يحرصون على أن تكون الحياة آمنة سعيدة تتساند فيها المواهب ولا تتعاند فيها الحركات. وقد طلب الحق من الرسل ذلك وأخذ عليهم العهد وبعد ذلك أكده فقال: {أَأَقْرَرْتُمْ} واستوحى منهم الكلام الذي يؤيد هذا المنهج. ولذلك لا يصح لتابع نبي أن يصادم رسالة جديدة مؤيدة بمعجزة ومؤيدة بمنهج يضمن للإِنسان الحياة وسلامتها وسعادتها. ولم يكتف الحق بأن يجعل الإِيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه ونسلم مجرد خبر، بل وضع لمحمد وحده سمة في الكتب التي سبقته، ووصفه لهم مشخصاً، وحين يصفه مشخصاً فهذا أوضح من الخبر عنه بكلام. ولذلك قال عبد الله بن سلام عندما سأله عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أنا أعلم به منّي يا بني. قال: وَلِمَ؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبيّ، فأما ولدي فلعل والدته قد خانت، فقبّل عمر رأسه. ولذلك يقول الحق سبحانه: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} . ولا شك أن الإِنسان يعرف ابنه معرفة دقيقة. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت له سمات خاصة وهي التي تثبت شخصيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المادية، وليس الأمر في رحلة الإِسراء والمعراج مجرد كلام، بل إنه حينما سئل عن هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4382 الرحلة قال: «رأيت موسى وإذا رجل ضَرْبٌ، رَجَلٌ كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى فإذا رَبعة أحمر كأنه خرج من ديماس - الحمَّام - وأنا أشبه ولد إبراهيم به» . وكذلك أعطى الله في التوراة والإِنجيل لا الخبر عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقط، بل أعطي تفاصيل صورته بحيث تتشخص لهم، فلا يلتبس به عند مجيئه مع التشخيص شريك، فبقول سبحانه: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} . ولكن فريقاً منهم كتموا الحق ليحتفظوا بالسلطة الزمنية، لأنهم كانوا يظنون أنه حين يأتي دين جديد سيأخذ منهم هذه السلطة الزمنية ويقود الأمم والشعوب. لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل رسل السماء إلى الأرض متعاونين لا متعاندين، ينصر بعضهم بعضاً. كما جاء في سورة الفتح: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29] لقد جاء الحق بصورة المؤمنين برسالة رسول الله صلى الله في التوراة والإِنجيل، لأن الدين الإِسلامي الذي نزل على محمد لن يأتي دين بعده؛ لذلك جاء بسيرة رسول الله وصفاته وصفات أتباعه في التوراة والإِنجيل، وفي هذا الدين ما تفتقده اليهودية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4383 التي انجرفت إلى مادية صرفة وتركت الروحانيات؛ لذلك تأتي سيرة أتباع محمد في التوراة: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} . حين أسرف اليهود في المادية أراد الله أن يأتي برسول يجنح ويميل إلى الروحانية وهو سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام. . ليحصل الاعتدال في تناول الحياة دون إفراط أو تفريط. إذن فالحق سبحانه وتعالى مهد لكل رسول بأن يبشر به الرسول السابق لأنه لا معاندات في الرسالات. ولما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو خاتم الموكب الرسالي، كان ولابد أن يصفه الله - سبحانه - وصفًّا ليس بالكلام، بل يصفه كصورة، بحيث إذا رأوه يعرفونه، ولذلك نجد سيدنا سلمان الفارسي حين رأى رسول الله في المدينة ورأى منه علامات كثيرة أحب أن يرى فيه علامة مادية، فرأى في كتف الرسول خاتم النبوة. ولكن هل نفع ذلك؟ نعم، فكثير من الناس آمن به. «وقد أقام رسول الله مناظرة بينه وبين اليهود بواسطة عبد الله بن سلام، الذي قال بعد أن أسلم بين يدي رسول الله:» يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أي رجل فيكم عبد الله بن سَلاَم؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك؟ فخرج عبد الله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه «. إذن فالأوصاف الكلامية والأوصاف الشخصية المشخصة جاءت حتى لا يقال: إن أديان السماء تتعاند، إنها كلها متكاتفة في أن تصل الأرض بالسماء على ما تقتضيه حالة العصر زماناً ومكاناً. وقديماً كان العالم معزولاً عن بعضه، وكل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4384 بيئة لها أجواؤها وداءاتها؛ فيأتي الرسول ليعالج في مكان خاص داءات خاصة، لكن الله جاء برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أن توحدت هذه الداءات في الدنيا؛ جاء رسولنا الكريم ليعالج هذه الداءات العالمية، وجاء رسول الله مؤيداً بأوصافه ومؤيداًُ بتعاليمه التي تخفف عنهم إصرهم وأغلالهم، والإِصر هو الحِمْل الثقيل، والأغلال جمع غُلّ وهو الحديدة التي تجمع اليدين إلى العنق لتقييد الحركة. وقد ذكر الحق الأوصاف ومهَّد الأذهان إلى مجيء رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليضع عنهم الأغلال بالنور الذي نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالرسالة المحمدية هي الجامعة المانعة، ولذلك يقول الحق بعد ذلك: {قُلْ ياأيها الناس ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4385 هنا يأمر الحق رسوله بالآتي: {قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} في رسالة تعم الزمان، وتعم المكان. وفي ذلك يقول رسول الله: «أعطيت خمساً لم يُعْطَهن أحد من الأنبياء قبلي. . نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة وأعطيت الشفاعة» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4385 ثم بعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يثبت عمومية الرسالة بعمومية تسخير الكون للخلق؛ لذلك كان الحديث موجهاً إلى كافة الناس: {قُلْ ياأيها الناس} . وكل من يطلق عليهم ناس فالرسول مرسل إليهم: {إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وأراد سبحانه أن يعطينا الحيثيات التي تجعل لله رسولاً يبلغ قومه وكافة الأقوام منهج الله في حركة حياتهم، فقال: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} . ومادام هو الذي يملك السموات والأرض، ولم يدّع أحد من خلقه أنه يملكها، وفي السموات والأرض وما بينهما حياتنا ومقومات وجودنا فهو سبحانه أولى وأحق أن يعبد. ولو أن السماء لواحد، والهواء لواحد، والأرض لواحد، وما بينهما لواحد لكان من الممكن أن يكون إله هنا، وإله هناك وإله هنالك. وفي هذا يقول الحق: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ ... } [المؤمنون: 91] إذن فما دام الوجود كله من السموات والأرض وما سواهما لله، فهو الأوْلى أن يعبد، وأول قمة العبادة أن تشهد بأنه لا إله إلا الله، وحيثية ألوهيته الأولى أن له ملك السموات والأرض. وما دام إلهاً فلا بد أن يطاع، ولا يطاع إلا بمنهج، ولا منهج إلا بافعل ولا تفعل. وأول المنهج القمة العقدية إنه هو التوحيد. وجعل الله للتوحيد حيثية من واقع الحياة فقال: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} . وهذا أمر لم يدعه أحد أبداً؛ لأن الله هو الذي له ملك السموات والأرض، ولأنه يحيي ويميت. ولذلك نجد من حاجّ إبراهيم في ربه يقول الحق عنه: {أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ ... } [البقرة: 258] وحاول هذا الملك أن يدير حواراً سفسطائيًّا مضللا ليفحم ويسكت إبراهيم - عليه السلام - فقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ... } [البقرة: 258] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4386 وذلك بأن يأمر بقتل انسان ثم يعفو عنه، وهو بذلك لا يميته بل يحييه في منطق السفسطائيين. لكن هل الأمر بالقتل هو الموت؟ . طبعا لا؛ لأن هناك فارقا بين الموت والقتل، فقد يقتل إنسان إنساناً آخر، لكنه لا يمكن أن يميته؛ لأن الموت يأتي بدون هدم بنيته بشيء؛ برصاصة أو بحجر أو بقنبلة. ولا أحد قادر على أن يميت احداً إذا رغب في أن يميته، فالموت هو الحادث بدون سبب، لكن أن يقتل إنسان إنساناً آخر فهذا ممكن، ولذلك يقول الحق سبحانه عن نفسه: {يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ. . .} [الأعراف: 158] وانظروا إلى الدقة في الأداء؛ فما دام قد أمر الحق رسوله أن يقول: إني رسول الله إليكم جميعاً، وحيثية الإِيمان هي الإِقرار والاعتقاد بوحدانية الإِله الذي له ملك السموات والأرض، وهو لا إله إلا هو، وهو يحيي ويميت؛ لذلك يدعوهم إلى الإِيمان بالخالق الأعلى: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} . لم يقل محمدٌ وآمنوا بي؛ لأنها ليست مسألة ذاتية في شخصك ما يا محمد، إنما هو تكريم لرسالتك إلى الناس، فالإِِيمان لا بذاتك وشخصك، ولكن لأنك رسول الله، فجاء بالحيثية الأصلية {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ، والرسول قد يكون محمداً أو غير محمد. . وبعد ذلك قال في وصف النبي: {النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ} . والأمية - كما علمنا من قبل - شرف في سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يؤمن بكلمات الله، وهي إما بما بلغنا عنه من أسلوب القرآن، وإمّا بالذي قاله موسى لقومه: «وجعل كلامي في فيه» . ويقول فيه عيسى - الذي لا يتكلم من قِبَل نفسه -، وإنما تأتي له كلمات ربنا في فمه، والقول الشامل في وصف كلمات محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما بيّنه الحق في قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] أو أن الإِيمان بالكلمات هو أن يؤمن بأن كل كون الله مخلوق بكلمة منه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4387 {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] ولقائل أن يقول: كيف يخاطب الله شيئاً وهو لم يكن بعد؟ ونقول: إنه سبحانه قد علمه أزلاً، ووجوده ثابت وحاصل، ولكن الله يريد أن يبرز هذا الموجود للناس، فوجود أي شيء هو أزلي في علم الله، وكأنه يقول للشيء: اظهر يا كائن للوجود ليراك الناس بعد أن كنت مطموراً في طيّ قدرتي. وسواء أكانت الكلمة بخلق الأسباب، مثل خلث الشمس والقمر أم بخلق شيء بلا أسباب، كعيسى - عليه السلام - فأنه «كلمة منه» أي كلمة تخطت نطاق الأسباب؛ بأن ولدت سيدتنا مريم من غير رجل. وفي هذا تخطٍ للأسباب، ولذلك قال الحق سبحانه: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} . ونعلم أن كل شيء لا يكون إلا بكلمة منه سبحانه، ولكن بكلمة لها أسباب، أو بكلمة لا أسباب لها. والكلمات هي أيضاً الآيات التي فيها منهج الأحكام، ولذلك يأتي قوله الحق: {قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] ويروي لنا الأثر أن سيدنا موسى عليه السلام قال لربه: «أني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4388 وقول موسى آمنوا بالكتاب الآخر، هو الذي يدل عليه قول الحق سبحانه: {قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط ... } [البقرة: 136] ويذيل الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: {واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . و «لعل» رجاء وطلب. ونعلم أن كل طلب يتعلق بأحد أمرين: إما طلب لمحال لكنك تطلبه لتدل بذلك على أنك تحبه، وهو لون من التمني مثل قول من قال: ليت الشباب يعود يوماً، إنه يعلم أن الشباب لا يعود لكنه يقول ذلك ليشعرك بأنه يحب الشباب. أو كقول إنسان: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح، وهذا طلب لمحال، إلا أنه يريد أن يشعرك بأن هذا أمر يحبه، إمَّا طلب ممكن التحقيق. وهو ما يسمى بالرجاء. وله مراحل: فأنت حين ترجو لإِنسان كذا، تقول: لعل فلاناً يعطيك كذا، والإِدخال في باب الرجاء أن تقول: لعلي أعطيك؛ لأن الرجاء منك أنت، وأنت الذي تقوله، ومع ذلك قد لا تستطيع تحقيقه، والأقوى أن تقول: لعل الله يعطيك. أما الله يعطيك. ولكنها من كلامك أنت فقد يستجيب الله لك وقد لا يستجيب، أما إذا قال الله: لعلكم، فهذا أرجي الرجاءات، ولابد أن يتحقق. وحينما يتكلم الحق عن قوم موسى، يتكلم عنهم بعرض قصصهم، وفضائحهم للعهد بعد نعم الله الواسعة الكثيرة عليهم، وأوضح لنا: إياكم أن تأخذوا هذا الحكم عاماً؛ لأن الحكم لو كان عاماً، لما وُجد من أمة موسى من يؤمن بمحمد. ولذلك قلنا قديماً إن هناك ما يسمى «صيانة الاحتمال» . ومثال على ذلك نجد من اليهود من آمنوا برسالة رسول الله مثل مخريق الذي قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مخريق خير يهود» . وعبد الله بن سلام إن بعض اليهود كانوا مشغولين بقضية الإِيمان، ولذلك لا تأخذ المسألة كحكم عام؛ لأن من قوم موسى من يصفهم الحق بالقول الكريم: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4389 {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4390 وحين يسمع قوم موسى هذا القول سيقولون في أنفسهم أنه يعلم ما في صدورنا من تفكير في الإِيمان برسالة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولكن لو عمَّم الحكم فمن يفكر في الإِيمان بمحمد يقول: لماذا يصدر حكماً ضدي وأنا أفكر في الإِيمان؟ لكن الحق «صان الاحتمال» وأوضح لكل واحد من هؤلاء الذين يفكرون في الإِيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتجه إلى إعلان الإِيمان فقال: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] أي يدلون الناس على الحق ويدعونهم إلى طريق الخير، وبهذا الحق يعدلون في حكمهم بين الناس ولا يجورون. ويقول الحق بعد ذلك: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4390 وحين يقول الحق «قطعناهم» فهذه عودة لقوم موسى، ونعرف أن القرآن لا يخصص كأي كتاب فصلاً لموسى وآخر لعيسى وثالثاً لمحمد، لا، بل يجعل من المنهج الإِيماني عجينة واحدة في الدعوة، فيأتي بقضية عيسى، ثم يدخل في الدعوة قضية موسى وغيره وهكذا، ثم يرجع إلى القضية الأصلية كي يستغل انفعالات النفس بعد أي قصة من القصص. وهنا يعود الحق سبحانه لقوم موسى مرة أخرى. فبعد أن أنصفهم وبيّن أن فيهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. يقول: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} . والمقصود هنا بنو إسرائيل، ومعنى «قطعت الشيء» أن الشيء كان له تمام وجودي مع بعضه، ثم قطعته وفصلت بعضه عن بعض، وجعلته قطعاً وأجزاء. فهم كلهم بنو إسرائيل، ولكن الحق يوضح أنه قطعهم وجعلهم «أسباطاً» ، و «السبط» هو ولد والولد، وهم هنا أولاد سيدنا يعقوب وكانوا اثني عشر ولداً، وحكت سورة يوسف وقالت: { ... ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وحين تعد وتحصي ستجد أحد عشر كوكباً مرئية، وتضم إليها الشمس والقمر والرائي، فيصير العدد أربعة عشر واترك الشمس والقمر لأنهما يرمزان إلى يعقوب وزوجه، وخذ الأحد عشر كوكباً، وأضف الرائي وهو يوسف فيكون العدد اثنى عشر. وهؤلاء هم الاثنى عشر سبطاً، فقد أنجب سيدنا يعقوب اثنى عشر ابناً من أمهات مختلفة، وعرفنا من قبل أن الأمهات حين تتعدد فالميول الأهوائية بين الأبناء قد تتعاند. ولذلك تنبأ سيدنا يعقوب وقال لسيدنا يوسف: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ... } [يوسف: 5] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4391 هذا أول دليل على أنهم مختلفون، وهو سبب من أسباب وحيثية التقطيع: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} . وفي سورة يوسف نقرأ: {هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ... } [يوسف: 100] وهنا يقول الحق سبحانه: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً ... } [الأعراف: 160] إنهم لا يريدون حتى مجرد الاشتراك في الماء تحسباً للاختلاف فيما بينهم، فجعل الحق لكل سبط منهم عيناً يشرب منها ليعالج ما فيهم من داءات الغيرة والحقد على بعضهم البعض؛ لأن الحق قال عنهم: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} . وهنا وقفة لغوية فقط، والأسباط في أولاد يعقوب وإسحاق يقابلون القبائل في أولاد إسماعيل، وأولاد إسماعيل «العرب» يسمونهم قبائل، وهؤلاء يسمونهم «أسباطاً» ، ونعرف أن لفظ «اثنتي» يدل على أنهم إناث، و «عشرة» أيضاً إناث، لأننا نقول: «جاءني رجلان اثنان» و «امرأتان اثنتان» ؛ أي اثنان للذكور، واثنتان للإِناث، وكلمة «اثنتي عشرة» عدد مركب وتمييزه يكون دائماً مفرداً، ولذلك يقول الحق: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} . إذن «اثنتا عشرة» يدل على أنه مؤنث. لكن المذكور هنا «سبط» وسبط مذكر، ولنا أن نعرف أنه إذا جمع صار مؤنثاً لأنهم يقولون: «كل جمع مؤنث» وأيضاً فالمراد بالأسباط القبائل، ومفردها قبيلة وهي مؤنثة، وقطعهم أي كانت لهم - من قبل - وحدة تجمعهم، فأراد الحق أن يلفتنا إلى أنهم من شيء واحد، فجاء بكلمة «أسباط» مكان قبيلة، وقبيلة مفردة مؤنثة، ويقال: «اثنتا عشرة قبيلة» ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4392 ولا يقال اثنتا عشرة قبائل، فوضع أسباطاً، موضع قبيلة لأن كل قبيلة تضم أسباطاً لذا جاء التمييز مذكراً ... {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً ... } [الأعراف: 160] أي جعلنا كل سبط أمة بخصوصها. والواقع الكوني أثبت أنهم كذلك؛ لأنك لا تجد لهم - فيما مضى - تجمعاً قوميًّا وهو ما يسمونه «الوطن القومي لليهود» برغم أن الدول الظالمة القوية أعانوهم وأقاموا لهم وطنًّا على أرض فلسطين، ومع ذلك نجد في كل بلد طائفة منهم تعيش معزولة عن الشعوب التي تحيا في رحابها، وكأنهم لا يريدون أن يذوبوا في الشعوب، ففي باريس - مثلاً - تجد «حي اليهود» ، وفي لندن المسألة نفسها، وفي كل مدينة كبيرة تتكرر هذه الحكاية، فهم يعيشون فيها بطقوسهم وبشكلهم وبأكلهم، وبعاداتهم معزولين عن الشعوب، وكأنهم ينفذون قدر الله فيهم: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} . وقطعهم ربنا في الأرض أي أنه نشرهم في البلاد، ولم يجعل لهم وطناً مستقلاً، ولذلك ستقرأ في سورة الإِسراء إن شاء الله: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض ... } . أي أنه سبحانه قال لهم بعد سيدنا موسى: اسكنوا الأرض وحين تقول لنا يا رب: «اسكن» فأنت تحدد مكاناً من الأرض. كأن يسكن الإِنسان في الإِسكندرية أو القاهرة أو الأردن أو سوريا، لكن أن يصدر الحكم بأن {اسكنوا الأرض} فهذا يعني أن انساحوا فيها فلا تجمع لكم. ويقول الحق: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} . أي أنه حين يجيء وعد الآخرة تكون ضربة قاضية عليكم - أيها اليهود - لأن عدوكم لن يتتبعكم في كل أمة من الأمم، ويبعث جيشاً يحاربكم في كل مكان تعيش فيه طائفة منكم، لكن إذا جاء وعد الآخرة يأتي بهم الحق لفيفاً ويتجمعون. في هذا الوطن القومي الذين يفرحون به، ونقول لهم: لا تفرحوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4393 فهذا هو التجمع الذي قال الله عنه: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} لتكون الضربة موجهة لكم في مكان واحد تستأصلكم وتقضي عليكم. ويأتي الحق بعد ذلك بخبر المعجزات: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر. . .} [الأعراف: 160] و «استسقى» المراد منه هو طلب السقيا، والسقيا هي طلب الماء الذي يمنع على الإِنسان العطش، ومادام قد طلبوا السقيا فلابد أنهم يعانون من ظمأ، كأنهم في التيه. وأراد الله سبحانه أن يبرز لهم نعمه وقت الحاجة، فقد تركهم إلى أن عطشوا ليستسقوا وليشعروا بنعمة الرِّي. والحق يقول: {إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} ، أي طلبوا من سيدنا موسى أن يسأل الله السقيا. فلماذا لجأوا إلى موسى وقت الظمأ؟ وقال لهم موسى: ليس بذاتي أرويكم، ولكن سأستسقي لكم ربي، ونعلم أن مقومات الحياة بالترتيب الوجودي الاضطراري: الهواء والماء والطعام. وساعة ترى «همزة» وسيناً «وتاء» واقعة على شيء من الأشياء فاعرف أنه أمر مطلوب ومرغوب فيه. مثال ذلك: حين سار موسى والعبد الصالح ونزلا قرية استطعما أهلها، أي طلبا طعاماً وهذا هو المقوم الثالث للحياة. وهنا «استسقى» أي طلب المقوم الثاني وهو الماء، ونعلم أن المقوم الأول وهو الهواء لا نستغني عنه. لذا لم يضعه الله في يد أحد بل أعطاه ومنحه كل الخلق. ولما كان الهواء غير مملوك وهو مشاع؛ لذلك لم توجد فيه هذه العملية. إنما الطعام يُمكن أن يُملك، والماء يُمكن أن يُملك، فقال سبحانه مرة «استطعم» ، وقال هنا «استسقى» ، ولم يوجد «استهوى» لطلب الهواء، لكن وجد في القرآن «استهوى» بمعنى طلب أن تكون على هواه: {استهوته الشياطين ... } [الأنعام: 71] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4394 أي طلبت الشياطين أن يكون هواه ومراده تبعاً لما يريدون لا لما يريده الله. وقصة الاستسقاء وردت من قبل في سورة البقرة: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} . وفي سورة الأعراف التي نحن بصدد خواطرنا عنها هم الذين طلبوا الاستسقاء. فهل هناك تعارض؟ . طبعاً لا؛ لأن قوم موسى طلبوا السقيا من موسى، فطلب لهم السقيا من ربه. فهل هذا تكرار؟ لا؛ لأنه سبحانه تكلم عن الواسطة، وبعد ذلك تكلم عن الأصل، وهو سبحانه الواهب للماء؛ فقال هنا: «إذ استسقاه قومه» ، وفي سورة البقرة قال: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} . وهذا ترتيب طبيعي. أقول ذلك لنعرف الفارق بين العبارتين حتى نؤكد أنه لا خلاف ولا تكرار؛ لأن المستسقي هنا القوم، والمستسقي لهم هنا هو موسى والمستسقي منه هو الله - جلت قدرته - وهذا أمر طبيعي. والحق سبحانه يقول في سورة البقرة: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر ... } [البقرة: 60] ونجد الوحي نزل إلى موسى بقوله: {فَقُلْنَا اضرب} ؛ وهنا في سورة الأعراف نجد الحق يقول: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر ... } [الأعراف: 160] ولنا أن نعرف أَنَّ {فَقُلْنَا} تساوي «أوحينا» تماماً، لأن المقصود بالقول هنا ليس من مناطات تكليم الله لموسى، بل مناط هذه القضية غير المناط في قوله الحق: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} . فليس كل وحي لموسى جاء بكلام مباشر من الله، بل سبحانه كلمه مرة واحدة كتشريف له، ثم أوحي له من بعد ذلك كغيره من الرسل. وقوله الحق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4395 {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً ... } [الأعراف: 160] هذا القول يدلنا على الإِعجاز المطلق، فمرة أمر الحق موسى أن يضرب الماء بالعصا {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} ، ومرة يأمره هنا أن يضرب الحجر فينحبس منه الماء، وهكذا نرى طلاقة قدرة الله في أن يعطي ويمنع بالشيء الواحد، ولم يكن ذلك إلا بالأسباب التي في يد الله يحركها كيف يشاء. ولذلك رأينا أمر الله حين ضرب موسى البحر بعصاه، فصار كل فرق كالطود، أي كالجبل، وامتنعت السيولة، ولما خرج موسى وقومه إلى البر بعد أن عبر البحر أراد أن يضرب البحر ليعود ثانية إلى سيرته الأولى من السيولة، فأوحى له الله: {واترك البحر رَهْواً} . أي تركه كما هو عليه؛ لأن الله يريد أن يغتر فرعون وقومه بأن يروا اليابس طريقاً موجوداً بين الماء، فيحاولوا النفاذ منه وراء موسى وقومه، وما أن دخل فرعون وقومه خلف موسى حتى عاد الماء إلى سيولته فغرق فرعون وقومه. وهكذا أنجى الله وأغرق بالشيء الواحد، وكذلك في أمر العصا؛ إنها حين ضربت الماء فلقته فصار كل فرق كالطود والجبل الشامخ، ثم ضرب موسى بها الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا من الماء، وهكذا نرى قدرة من بيده القدرة والأسباب. {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً ... } [الأعراف: 160] وهنا تعبير «انبجست» ، وهناك تعبير «انفجرت» ، ونعلم أن الانبجاس يحدث أولاً ثم يتبعه الانفجار ثانياً، فالانبجاس أن يأتي الماء قطرة قطرة، ثم يأتي الانفجار وتتدفق المياه الكثيرة، فكان موسى عليه السلام أول ما يضرب الضربة تأتي وتجيء المياه قليلة ثم تنفجر بعد ذلك. إذن فقد تكلم الحق عن المراحل التي أعقبت الضربة في لقطات متعددة لمظهر واحد؛ له أولية وله آخرية. وحين تكلم أمير الشعراء عن عطاء الله وقدرته قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4396 سبحانك اللهم خير معلم ... علمت بالقلم القرون الأولى أرسلت بالتوراة موسى مرشداً ... وابن البتول فعلَّم الإِنجيلا ثم جاء لسيدنا محمد وقال: وفجرت ينبوع البيان محمداً ... فسقى وناول التنزيلا وهنا توفيق رائع في العبارة حين قال: «فسقى الحديث» ، فالحديث سقيا أما القرآن فمناولة من الله لخلقه. والحق يقول: {فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} . إن الضربة واحدة من عصا واحدة، وكان المفترض أن تحدث هذه الضربة عينا واحدة تنبع منها المياه، لكن الحق أرادها اثنتي عشرة عينا وعلم كل أناس مشربهم؛ لذلك كان لابد أن يكون المكان متسعاً. وأن هذه الضربة كانت إيذاناً بالانفعال من الأرض. {فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ... } [الأعراف: 160] ومن أين عرف كل قسم منهم الماء الذي يخصه؟ إنها قسمة الله وصارت كل عين تجذب أصحابها، فلم يتزاحموا، وهذا يدل أيضاً على التساوي، فلم تنفجر عين بماء أكثر من الأخرى فتثير الطمع، لا، بل انتظم الجميع فيما أراده الحق: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} . والحق هنا يتكلم عن رحلة بني إسرائيل في التيه، وفي الصحراء والشمس محرقة، ولا ماء، فاستسقوا موسى، فطلب لهم السقيا من الله، وجاءت لهم اثنتا عشرة عينا حتى لا يتزاحموا، وعرف كل منهم مشربه. ويضيف الحق: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام} . ولأن الشمس محرقة يرحمهم الله بمسيرة من الغمامات تظللهم، ولكل سبط غمامة على قدره، فإذا كان الواحد من البشر حين يوزع جماعة من كتل صغيرة، لا يعجز أن يضعهم في عشرين خيمة مثلا، فهل يعجز ربنا عن ذلك؟ طبعاً لا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4397 وإذا كان الحق قد ضمن لنا في الأرض الرزق حتى لا نجوع، ولا نعرى، ولا تحرقنا الشمس، ونجد ماء. إذن لقد بقي أمر الطعام لهؤلاء. فقال: لا تحرقنا الشمس، ونجد ماء. إذن لقد بقي أمر الطعام لهؤلاء. فقال: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ... } [الأعراف: 160] ساعة تأتي كلمة «أنزلنا» نعرف أنها مسألة جاءت من علو، ولا يُفترض أن يكون مكانها عاليًّا، لكن هي مسألة جاءت من أعلى من قدرتك، أي من فوق أسبابك إنها بقدرة الأعلى. و «المنّ» مادة بيضاء اللون حلوة الطعم مثل قطرات الزئبق. يجدونه على الشجر. ولا يزال هذا الشجر موجوداً إلى الآن في العراق، يهزونه صباحاً فيتساقط ما على الورق من قطرات متجمدة لونها أبيض، فيأخذونه على ملاءة بيضاء واسمه عندهم المنْ - أيضاً - وهو طعم القشدة وليونتها، وحلاة العسل. و «السلوى» هو طير من رتبة الدجاجيات يستوطن أوروبا وحوض البحر المتوسط واحدته «سَلواة» وهو «السُّماني» ويسميه أهل السواحل «السُّمان» وهو يأتي مهاجراً ولم يربه أحد، وفي هذا إنزال من الله لأنه رزق من فوق قدرة العباد وأسبابهم. {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ... } [الأعراف: 160] وهناك مصانع تصنع المن في أشكال مختلفة وأنواع من الحلوى جميلة، ومن زار العراق ذاقه أو أحضره لأهله. والسلوى - كما قلنا - هو طائر «السمان» الموجود في بيئة أخرى يغريه ربنا بالطقس الدافئ فيأتي إلينا لنأخذه، وهذه الطيور جاءت طالبة استمرار الحياة، ويبعثها ربنا لتصير لنا طعاماً ليدلل على أنه حين يريد الماء، وكما ظلّلهم بالغمام، وبذلك صارت حاجاتهم قدريَّة ليس لهم فيها أسباب وجاءت لهم بالهناء. فقالوا: ومن يدرينا أن الرزق الذي يأتينا من المن والسلوى سيستمر، ثم كيف لنا أن نصبر على طعام واحد؟ إنهم قالوا لنبيهم سيدنا موسى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4398 ما حكاه القرآن بقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ... } [البقرة: 61] وهنا قال الحق: اذهبوا إلى أي مِصْرٍ من الأمصار والمدن تجدوا ما تريدون: {اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} . لقد أعطاهم الحق الرزق بدون السببية، إنه منه مباشرة، فكان من الواجب أن تشكروا من أراحكم، وجعل لكم الرزق ميسرا. لكنهم لم يشكروا الله، بل تمردوا، ولذلك ذيل الحق الآية بقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . نعم فهم ظلموا بعدم شكر النعمة. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4399 وهذه القصة مذكورة أيضاً في سورة البقرة، ونعرف أن قوله سبحانه: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} ، ولم يذكر الحق من القائل؛ لأن طبيعة الأمر في الأسباط أنه سبحانه جعل لكل سبط منهم عيناً يشرب منها، وكل سبط له نقيب، وهذا دليل على أنهم لا يأتلفون؛ فلا يكون القول من واحد إلى الجميع، بل يصدر القول من المشرع الأعلى وهو الحق إلى الرسول، والرسول يقول للنقباء، والنقباء يقولون للناس. وبعد أن تلقى موسى القول أبلغه للنقباء، والنقباء قالوه للأسباط، وفي آية أخرى قال الحق: {وَإِذْ قُلْنَا} . وهذا القول الأول وضعنا أمام لقطة توضح أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4399 المصدر الأصيل في القول هو الله، ولأنهم أسباط ولكل سبط مشرب؛ لذلك يوضح هنا أنه أوحى لموسى. وساعة ما تسمع «وإذ» فاعلم أن المراد اذكر حين قيل لهم اسكنوا هذه القرية، لقد قيل إن هذه القرية هي بيت المقدس أو أريحا، لكنهم قالوا: لن ندخلها أبداً لأن فيها قوماً جبارين وأضافوا: { ... فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] والحق لا يبين لنا القرية في هذه الآية؛ لأن هذا أمر غير مهم، بل جاء بالمسألة المهمة التي لها وزنها وخطرها وهي تنفيذ الأمر على أي مكان يكون: {اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا} . ويوضح الحق: أنا تكفلت بكم فيها كما تكفلت بكم في التيه من تظليل غمام، وتفجير ماء غماما، وتفجير ماء من صخر، ومَنّ وسلوى. وحين أقول لكم ادخلوا القرية واسكنوها فلن أتخلى عنكم: {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} . وقديماً كان لكل قرية باب؛ لذلك يتابع سبحانه: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّداً} . والحطة تعني الدعاء بأن يقولوا: يا رب حط عنا ذنوبنا فنحن قد استجبنا لأمرك وجئنا إلى القرية التي أمرتنا أن نسكنها، وكان عليهم أن يدخلوها ساجدين؛ لأن الله قد أنجاهم من التيه بعد أن أنعم عليهم ورفّههم فيه. وإذا ما فعلوا ذلك سيكون لهم الثواب وهو: { ... نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم سَنَزِيدُ المحسنين} [الأعراف: 161] وسبحانه يغفر مرة ثم يكتب حسنة، أي سلب مضرة، وجلب منفعة، لكن هناك في سورة البقرة قد جاء النص التالي: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين} [البقرة: 58] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4400 فالكيان العام واحد ونجد خلافاً في الألفاظ واللقطات عن الآية التي وردت في سورة الأعراف. أول خلاف {وَإِذْ قُلْنَا} ، و {وَإِذْ قِيلَ} ، وشاء الحق ذلك ليأتي لنا بلقطة مختلفة كنا أوضحنا من قبل. ففي آية سورة البقرة يقول سبحانه: {ادخلوا} وفي آية سورة الأعراف يقول: {اسكنوا} ، ونعلم أن الدخول يكون لغاية وهي السكن أي ادخلوا لتسكنوا، وأوضح ذلك بقوله في سورة الأعراف: {اسكنوا} ليبين أن دخولهم ليس للمرور بل للإِقامة. وأراد سبحانه أن يعطيهم الغاية النهائية؛ لأنه لا يسكن أحد في القرية إلا إذا دخلها. وهكذا نرى أن كلمات القرآن لا تأتي لتكرار، بل للتأسيس وللإِتيان بمعنى جديد يوضح ويبين ويشرح. ويقول الحق هنا في سورة الأعراف: {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} . وفي آية سورة البقرة يقول: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} . وحين أمرهم الله بالدخول وكانوا جوعى أمرهم الحق أن يأكلوا، على الفور والتوّ بتوسع، لذلك أتى بكلمة «رغداً» لأن حاجتهم إلى الطعام شديدة وملحة، لكنه بعد أن أمرهم بالسكن أوضح لهم أن يأكلوا؛ لأن السكن يحقق الاستقرار ويتيح للإِنسان أن يأكل براحة وتأن. وقال الحق هنا في سورة الأعراف: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّداً} . أي أنه قدم قولهم «حطة» على السجود، وفي آية سورة البقرة قدم السجود فقال: {وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ ... } [البقرة: 58] جاء الحق بهذا الاختلاف لأنه علم أن انفعالات السامعين تختلف ساعة الدخول، فهناك من ينفعل للقول، فيقول أول دخوله ما أمر به من طلب الحطة وغفران الذنب من الله، وهناك آخر ينفعل للفعل فيسجد من فور الدخول تنفيذاً لأمر الله. وأيضاً قال الحق هنا في سورة الأعراف: { ... نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم سَنَزِيدُ المحسنين} [الأعراف: 161] وفي سورة البقرة يقول: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4401 ونعلم أن صيغة الجمع تختلف؛ فهناك «جمع تكسير» وجمع تأنيث، ففي جمع التكسير نغير من ترتيب حروف الكلمة، مثل قولنا «قفل» فنقول في جمعها «أقفال» . أما في جمع التأنيث فنحن نزيد على الكلمة ألفاً وتاء بعد حذف ما قد يوجد في المفرد من علامة تأنيث، مثل قولنا «فاطمة» ، و «فاطمات» ، و «أكلة» ، و «أكلات» وهذا جمع مؤنث سالم، أي ترتيب حروفه لم يتغير، وجمع المؤنث السالم يدل على القلة. لكن جمع التكسير يدل على الكثرة فجاء - سبحانه - بجمع المؤنث السالم الذي يدل على القلة وبجمع التكسير الذي يدل على الكثرة لاختلاف درجات ونسب الخطايا؛ لأن المخاطبين غير متساوين في الخطايا، فهناك من ارتكب أخطاء كثيرة، وهناك من أخطأ قليلاً. والاختلاف حدث أيضاً في عجز الآيتين، فقال في سورة البقرة: {وَسَنَزِيدُ المحسنين} وجاء عجز سورة الأعراف بدون «واو» فقال: {سَنَزِيدُ المحسنين} . وقد عودنا ودعانا الحق إلى أن نقول: اغفر لنا وأنت خير الغافرين، وارحمنا وأنت خير الراحمين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة. وهنا يوضح سبحانه: أنا لن أكتفي بأن أغفر لكم وأن أرفع عنكم الخطايا. لكني سأزيدكم حسناً، وفي هذا سلب للضرر وجلب للنفع. كأن الله حينما قال: «خطاياكم» بجمع التكسير الذي ينبئ ويدل على كثرة الذنوب والخطايا و «خطيآتكم» التي تدل على القلة انشغلوا وتساءلوا: وماذا بعد الغفران يا رب فقيل؟ لهم: {سَنَزِيدُ المحسنين} هل يغفر لنا فقط، أو أنه سيجازينا بالحسنات أيضاً؟ وكانت إجابة الله أنه سيغفر لهم ويزيدهم ويمدهم بالحسنات. وقد عقدنا هذه المقارنة المفصلة بين آية سورة البقرة وآية سورة الأعراف لنعرف أن الآيات لا تتصادم مع بعضها البعض، بل تتكامل مصداقاً لقول الحق: { ... وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] ويقول الحق بعد ذلك: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4402 هذه الآية تدل على أنهم افترقوا فرقتين؛ لأن الحق سبحانه مادام قد قال: {مِنْهُمْ} فهذا يعني أن بعضهم قالوا وفعلوا المطلوب، وبعضهم ظلموا وبدلوا القول، فقد أمرهم الحق أن يقولوا: «حطة» وطلب منهم أن يدخلوا سجداً. والتغيير منهم جاء في القول؛ لأن القول قد يكون بين الإِنسان وبين نفسه بحيث لا يسمعه سواه. لكن الفعل مرئي مما يدل على أن بعضهم يرائي بعضاً، ففي القول أرادوا أن يهذروا ويتكلموا بما لا ينبغي ولا يليق، فبدلاً من أن يقولوا: «حطة» قالوا: «حنطة» استهزاءً بالكلمة. وهكذا نرى أن التبديل جاء في القول، لكن الفعل لم يأت فيه كلام، وإن قال بعضهم: إن التبديل أيضاً حدث من بعضهم في الفعل. فبدلاً من أن يدخلوا ساجدين دخلوا زاحفين على مقعداتهم، كنوع من التعالي، لكن الحق لم يذكر شيئاً من ذلك؛ لأن سلوكهم في الفعل قد يكون السبب فيه أن بعضهم لا قدرة له على الفعل. {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ ... } [الأعراف: 162] وكأن الحق يذكرنا بما فعله معهم من رعايتهم في أثناء التيه وكيف ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، واستسقى لهم موسى فجاءت المياه. لكن غريزة التبديل والتمرد لم تغادرهم. وما داموا قد بدَّلوا في كلمات الله، فعليهم أن ينالوا العقاب: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء} . وهناك آية ثانية في سورة البقرة يقول فيها الحق: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء} [البقرة: 59] . والفارق بين «الإِنزال» وبين «الإِرسال» أن الإِنزال يكون مرة واحدة. أما الإِرسال فهو مسترسل ومتواصل. ولذلك يقول الحق سبحانه في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4403 المطر: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً} . لأن المطر لا ينزل طوال الوقت من السماء. لكن في الإِرسال استمرار، اللهم إلا بعضاً من تأثير الهواء. ولذلك يقول الحق: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} . فالذي يحتاج إلى استمرارية في الفعل يقول فيه الحق: «أرسل» بدليل أن الله حينما أراد أن يجيء بالطوفان ليغرق المكذبين بموسى قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان ... } [الأعراف: 133] وعندما أراد أن يرغب عاداً قوم سيدنا هود في الاستغفار والتوبة والرجوع عما كانوا عليه من الكفر والآثام قال لهم: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً ... } [هود: 52] إذن فالإِرسال يعني التواصل، أما الإِنزال فهو لمرة واحدة، وأراد الحق سبحانه من قصة بني إسرائيل أن يأتي لنا بلقطة فجاء بكلمة «أنزلنا» ، ولقطة أخرى جاء فيها ب «أرسلنا» ؛ لأن العقوبة تختلف باختلاف المذنبين، والمذنبون مقولون بالتشكيك، فهذا له ذنب صغير، وآخر ذنبه أكبر، وكل إنسان يأخذ العذاب على قدر ذنبه؛ فمن أذنب ذنباً صغيراً أنزل الله عليه عقاباً على قدر ذنبه. ومن تمادى أرسل الله عليه عذاباً يستمر على قدر ذنوبه الكبيرة. وهنا يقول الحق: { ... فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 162] و «رجزاً» أي عذاباً، وهناك رِجْز، ورُجْز، والرِّجز يُولد من الرُّجز؛ وينشأ مثل قوله الحق: {والرجز فاهجر} . أي اهجر الرُّجز. . أي المآثم والمعاصي والذنوب لتسلم من الرِّجز. . أي من العذاب. وهنا يبين الحق أنهم تلقوا العذاب بسبب ظلمهم، وهناك في الآية الأخرى قال: {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} . والفسق يسبق الظلم؛ لأن الإِنسان لا يمكن أن يظلم نفسه بمخالفة منهج إلا إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4404 فسق أولاً، ولذلك جاء الحق بالمسبَّب وجاء السبب، وهكذا نتأكد أن كل كلمة في القرآن جاءت لمعنى أساسي تؤديه ولا تكرار إلا لمجموع القصة في ذاتها، أما لقطات القصة هنا، ولقطات القصة هناك فأمور جاءت تأسيساً في كل شيء لتعطي معاني ولقطات جديدة. ويقول الحق بعد ذلك: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4405 هنا سؤال عن القرية التي كانت حاضرة البحر، ونعلم أن القرية الأولى التي دخلوها هي «بيت المقدس» ولم تكن على البحر، والقرية التي كانت على البحر هي «أيلة» أو «مدين» أو «طبرية» ، المهم أنها كانت «حاضرة البحر» أي قريبة من البحر ومشرفة عليه؛ لأننا نقول فلان حضر، أي كان بعيداً فاقترب. فمثل الإِسكندرية يمكن أن نسميها حاضرة البحر. وقوله: «واسألهم» والسؤال هنا موجه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليوجه السؤال إلى أهل الكتاب، ويطلب منهم أن ينظروا في كتبهم ليعرفوا أن ما يقوله هو وحي من الله إليه؛ لأنهم يعلمون أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يجلس إلى معلم، ولم يقرأ في كتاب، وإنما علّمه من أرسله، إنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يريد أن يَعْلَم منهم، بل يريد أن يُعْلِمَهم أنه يعلم، وهم يعلمون أنه لا مصدر له كعلم سائر البشر؛ لا جلس على معلم ولا قرأ في كتاب ولذلك تجد «ماكُنَّات» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4405 القرآن أي قوله الحق: «ما كنت» و «ماكنت» و «ما كنت» و «ما كنت» مثل قوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر ... } [القصص: 44] ومثل قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ... } [القصص: 45] ومثل قوله تعالى: { ... وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] إذن فأنت يا رسول الله لم تكن معهم لتقول ما حدث وحصل لهم، بل إن ذلك موجود عندهم في كتبهم، إذن فالذي علمك هو من أرسلك. كذلك هنا مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48] وفي هذا القول أمر من الله سبحانه وتعالى أن يخبرهم أنه سبحانه قد علمه وأعلمه بما لا يستطيعون إنكاره ليتيقنوا أن الله يعلمه ليؤمنوا به. {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر ... } [الأعراف: 163] وكلمة «واسألهم» تحل لنا إشكالات كثيرة، مثال ذلك حديث الإِسراء، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلى بالأنبياء بصلاة إبراهيم. فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألوني عن أشياء من بيت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4406 المقدس لم أثبتها فكربت كرباً مثله قط، فرفعه الله إليّ أنظر إليه، ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، وإذا موسى قائم يصلي وإذا هو رجل جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى قائم يصلي أقرب الناس شبها به عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت قال قائل: يا محمد هذا مالك خازن جهنم فالتفت إليه فبدأني بالسلام» . وتأتي آية في القرآن تقول: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ ... } [الزخرف: 45] والأمر لرسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يسأل رسل الله من قبله، ومتى يسألهم؟ لابد أن توجد فرصة ليلتقوا فيسأل. إذن حين يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنه التقى بالأنبياء وكلمهم وصلى بهم فالخبر مصدق لأنه أدى أمر الله: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} . والسؤال هنا سؤال للتقرير والتقريع والتوبيخ: وما قصة القرية التي كانت حاضرة البحر؟ لقد قلنا إن حاضرة البحر أي القريبة من البحر، ونفهم أن ما تتعرض له الآية من سؤالهم يشير إلى أنّ للبحر فيه مدخلاً؛ لأن المسألة متعلقة بالحيتان والسمك والصيد؛ لذلك لابد أن تكون بلدة ساحلية. { ... إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] وحيتان جمع حوت، مثلما يجمعون «نُوناً» - وهو الحوت أيضاً - على «نينان» ؛ وهو صنف من الأسماك. لقد حرم الله عليهم العمل في يوم معين لينقطعوا فيه للعبادة وهو يوم «السبت» ، ومازالت عندهم بعض هذه العادات، حتى إن واحداً منهم زار أمريكا ورفض أن يركب سيارة يوم السبت لأنه يوم عطلة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4407 ورفض كذلك أن يعمل حتى جاء اليوم التالي. وشاء الحق سبحانه أن يؤدبهم حينما ارتكبوا أشياء مخالفة للمنهج، وسلب منهم وقتاً للعمل وقال: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ... } [النساء: 160] وفي هذه مُثُل وعِبَر لأي منحرف، ولكل منحرف نقول: إياك أن تظن أنك بانحرافك عن منهج الله ستأخذ أشياء من وراء ربنا وتسرقها، لا؛ لأن ربنا قادر أن يبتيله بعقاب يفوق ما أخذ آلاف المرات، فالمرتشي مثلاً يفتح له الله أبواباً من الأمراض ومن العلل ومن المصائب فيضيع عليه كل شيء أخذه. إذن فقد استحل بنو إسرائيل أشياء محرمة، فابتلاهم الله بأن يحرمهم من أشياء كانت حلالاً لهم. وهكذا نرى أن ما وقع عليهم من عقاب كان بظلمهم لأنفسهم؛ لأنهم انشغلوا بالدنيا وبالمادة، فحرم عليهم العمل في يوم السبت، وهؤلاء الذين كانوا يقيمون قريباً من حاضرة البحر يبتليهم الله البلاء العظيم، ويرون السمك في المياه وهو يرفع زعانفه كشراع المركب، وتطل عليهم أشرعة الحيتان وهم في بيوتهم، وهذا ابتلاء من ربهم لهم وعقاب؛ لأنهم ممنوعون من صيده، ويرون هذا السمك أمامهم في يوم السبت، لكن في بقية الأيام التي يباح فيها العمل، كيوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لا تظهر لهم ولا سمكة واحدة: {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} . وهنا قالوا: ما دام ربنا قد حرم علينا أن نصطاد يوم السبت فعلينا أن نحتال. وصنعوا كيساً من السلك المضفر والذي نسميه «الجوبية» وهم أول من صنعوا هذه الجوبية بشكل خاص، ويدخل السمك فيها ولا يستطيع الخروج منها، فيأتي السمك يوم السبت في الجوبية ويستخرجونه يوم الأحد. وفي هذا اعتداء. أو يصنعون حوضاً له مدخل وليس له مخرج وفي هذا مكر. وتمكر لهم السماء بحيلة أشد. لقد أراد الله ابتلاءهم لأنهم فسقوا عن المنهج. وخرجوا عن الطاعة، واستحلوا أشياء حرمهما الله؛ لذلك يحرم الله عليهم أشياء أحلها لغيرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4408 ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4409 وحينما تجد أن طائفة قالت قولاً، فلابد أن هناك أناساً قيل لهم هذا القول. إذن ففيه «قوم واعظون» ، و «قوم موعوظون» ، و «قوم مستنكرون وعظ الواعظين» . وهكذا صاروا ثلاث فرق: الذين قالوا وعظاً لهم: لماذا لا تلتزمون بمنهج الله؟ هؤلاء هم المؤمنون حقًّا. وقالوا ذلك لأنهم رأوا من يخالف منهج الله. والذين لاموا الواعظين هم الصلحاء من أهل القرية الذين يئسوا من صلاح حال المخالفين للمنهج. وحين ندقق في الآية: {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ ... } [الأعراف: 164] نعلم أن القائلين هم من الذين لم يعتدوا، ولم يعظوا وقالوا هذا التساؤل لمن وعظوا؛ لأنهم رأوا الوعظ مع الخارجين على منهج الله لا ينفع. كما قال الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} . هنا يسأل الحق رسوله: ولماذا تُحزن نفسك وتعمل على إزهاق روحك. وهنا قال بعض بني إسرائيل: لم تعظون هؤلاء المغالين في الكفر، لماذا ترهقون أنفسكم معهم، إنهم يعملون من أجل أن يعذبهم الله. وماذا قال الواعظون؟ : {قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . وما هي المعذرة إلى الله؟ . يقال: «عذرك فلان إذا كنت قد فعلت فعلاً كان في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4409 ظاهره أنه ذنب ثم بينت العذر في فعله، كأن تقول: لقد جعلتني انتظرك طويلاً وتأخرت في ميعادك معي. انت تقول ذلك لصديق لك لأنه أتى بعمل مخالف وهو التأخر في ميعادٍ ضربه لك. فيرد عليك: تعطلت مني السيارة ولم أجد وسيلة مواصلات، وهذا عذر. إذن فمعنى» العذر «هو إبداء سبب لأمر خالف مراد الغير. ولذلك يقال: أعذر من أنذر، والحق يقول: {وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب ... } [التوبة: 90] ونعلم أيضاً أن هناك مُعْذِراً. والمُعَذِّر هو من يأتي بعذر كاذب، والمُعْذِر هو من يأتي بعذر صادق. وقال الواعظون: نحن نعظهم، وأنتم حكمتم بأن العظة لا تنفع معهم لأنهم اختاروا أن يهلكهم الله ويعذبهم ولكنا لم نيأس، وعلى فرض أننا يئسنا من فعلهم، فعلى الأقل قد قدمنا لربنا المعذرة في أننا عملنا على قدر طاقتنا. وكلمة» وَعْظ «تقتضي أن نقول فيها: إن هناك فارقاً بين بلاغ الحكم، والوعظ بالحكم؛ فالوعظ أن تكرر لموعوظ ما يعلمه لكنه لا يفعله. كأن تقول لإِنسان: قم إلى الصلاة، هو يعلم أن الصلاة مطلوبة لكنه لا يقوم بأدائها. إذن فالوعظ معناه تذكير الغافل عن حكم، ومن كلمة الوعظ نشأت الوعَّاظ. وهم من يقولون للناس الأحكام التي يعرفونها، ليعملوا بها، فالوعاظ إذن لا يأتون بحكم جديد. وبعض العلماء قال: إن قول الحق: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ} ليس مراداً به الفئة التي لم تفعل الذنب ولم تعظ، إنما يراد به الفئة الموعوظة، كأن الموعوظين قالوا: إن ربنا سيعذبنا فلماذا توعظوننا؟ . ونقول: لا؛ لأن عجز الآية ينافي هذا. فالحق يقول: {مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . ومجيء» لعلهم «يؤكد أن هذا خبر عن الغير لا أنَّه من الموعوظين. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4410 {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4411 ويخبرنا الحق هنا أن الموعوظين حينما نسوا ما وعظهم به بعض المؤمنين أهلكهم الله بالعذاب الشديد جزاءً لخروجهم وفسوقهم عن المنهج وأنجى الله الفرقة الواعظة. وماذا عن الفرقة الثالثة التي لم تنضم إلى الواعظين أو الموعوظين؟ الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ} إن قولهم هذا لون من الوعظ؛ فساعة يخوفونهم بأن ربنا مهلك أو معذب من يخرج على منهجه، فهو وعظ من طرف آخر. وقوله الحق: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} يدل على أنه قد وعظهم غيرهم وذكروهم. ويعذب الحق هؤلاء الذين ضربوا عرض الحائط بمنهجه ولم يسمعوا مَن وعظوهم، وخرجوا على تعاليمه فظلموا أنفسهم واستحقوا العذاب الشديد؛ فالمسألة ليست تعنتاً من الله؛ لأنهم السبب في هذا، إما بفسق، وإمّا بظلم للنفس. ويقول الحق بعد ذلك: {فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4411 وأخذهم بعذاب يدل على أنه لم يزهق حياتهم ويميتهم؛ لأن العذاب هو إيلام من يتألم، والموت ليس عذاباً لأنه ينهي الإِحساس بالألم، ولنتعرف على الفارق بين الموت والعذاب حين نقرأ قصة الهدهد مع سيدنا سليمان، يقول سيدنا سليمان حين تنبه لغياب الهدهد عندما وجد مكانه خاليا: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4411 {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذْبَحَنَّهُ ... } [النمل: 20 - 21] هكذا نرى الفارق بين العذاب وبين الموت. وهنا يقول الحق: {فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} و «عتوا» تعني أبْوا وعصوْا واستكبروا فحق عليهم عذاب الله الذي أوضحه قول الحق: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . لأن «العتو» كبرياء وإباء؛ فيعاقبهم الله بأن جعلهم كأخس الحيوانات فصيرهم أشباه القرود، كل منهم مفضوح السوءة، يسخر الناس منهم ويستهزئون بهم. فهل انقلبوا قردة؟ . نعم؛ لأنك حين تأمر إنساناً بفعل. . أَلاَ تُقَدِّر قبل الأمر له بالفعل أنه صالح أن يفعل وألا يفعل؟ . وحين يقول الله: {كُونُواْ قِرَدَةً} فهل في مكنتهم أن يصنعوا من أنفسهم قردة؟ . ونقول: إن هذا اسمه «أمر تسخيري» أي اصبحوا وصُيرِّوا قردة. وقد رأوهم على هذه الهيئة من وعظوهم، وهي هنا مقولة «خبر» نصدقه بتوثيق من قاله، وكان هذا الخبر واقعاً لمن شاهده. ولذلك نجد المعجزات التي حدثت لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غير القرآن الذي وصلنا ككتاب منهج ومعجزة وسيظل كذلك إلى قيام الساعة، لكن ألم ينبع الماء من بين أصابعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ لقد حدث ذلك وغيره من المعجزات وشاهده أصحابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأخبرونا بالخبر، وكان ذلك آية تُثبِّت يقينهم وإيمانهم. وتثبت لنا خبراً، فإن اتسع لها ذهنك فأهلاً وسهلاً، وإن لم يتسع لها فلا توقف إيمانك؛ لأنها آية لم تأت من أجلك أنت، وكل معجزة كونية حدثت لرسول الله فالمراد بها من شاهدها، ووصلتك أنت كخبر، إن وثقت بالخبر صدقته، وإن لم تثق به ووقفت عنده فلن ينقص إيمانك. غير أنه يجب على من وصل إليه الخبر بطريق مقطوع به، أن يصدق ويذعن. وقد أخبر الحق هنا بالأمر بقوله: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} بأنه أوقع عليهم عذاباً بأن جعلهم قردة خاسئين، فهذا عقاب للذين عتوا عمَّا نهوا عنه. والذين وعظوهم أو عاصروهم هم من شاهدوا وقوع العذاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4412 وهل الممسوخ يظل ممسوخاً؟ . إن الممسوخ قرداً أو خنزيراً، يظل فترة كذلك ليراه من رآه ظالماً، ثم بعد ذلك يموت وينتهي. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4413 وتَأَذَّن نجد مادتها من الهمزة والذال والنون، فمنه أُذُن، ومنها أَذَان، وكلها يراد بها الإِعلام، والوسيلة للإِعلام هي الأذن والسمع، حتى الذي سنُعلمه بواسطة الكتابة نقول له ليسمع. ثم يكتب ويقرأ، وما قرأ إلا بعد أن سمع؛ لأنه لن يعرف القراءة إلا بعد أن يسمع أسماء الحروف «ألف» ، «باء» إلخ، ثم تهجاها. إذن فلا أحد يقرأ إلا بعد أن يسمع، وهكذا يكون السمع هو الأصل في المعلومات، ونقول في القرآن: {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1 - 2] وأذنت لربها. . أي سمعت لربها، فبمجرد أن قال لها: «انشقي» امتثلت وانشقت. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌْ} [الأعراف: 167] والكلام هنا بالنسبة لبني إسرائيل، ويبين لنا سبحانه أنهم مع كونهم مختارين في أن يفعلوا، «فإن مواقفهم الإِيمانية ستظل متقلبة مترددة، ولن يهدأ لهم حال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4413 في نشر الفساد وإشاعته، ولذلك يسلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ولماذا؟ . لأنهم منسوبون لدين، والله لا يسوم العذاب للكافر به وللملحد، لأنه بكفره وإلحاده خرج عن هذه الدائرة، إذ لم يبعث الله له رسولا. ولكن المنسوب لله ديانة، والمنسوب لله رسالة، والمنسوب لله كتاباً؛ إذا فسد مع كون الناس ويعلمون عنه أنه تابع لنبي، وأن له كتاباً، حينئذ يكون أسوة سيئة في الفساد للناس، فإذا ما سلط الله عليهم العذاب فإنما يسلط عليهم لا لأجل الفساد فقط، ولكن لأنه فساد لمن هو منسوب إلى الله. وعرفنا أن مادة أذن كلها مناط الإِعلام، وحينما تكلم الله عن خلقنا قال: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة ... } [النحل: 78] إنّ الحق - سبحانه - يسمي العرب المعاصرين لرسول الله أميين، أي ليس عندهم شيء من أسباب العلم، وسبحانه خلق لنا وسائل العلم. بأن جعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، وهي وسائل العلم التي تبدأ بالسمع ثم بالأبصار ثم الأفئدة. ومن العجيب أنه رتبها في أداء وظيفتها؛ لأن الإِنسان منا إذا كان له وليد - كما قلنا سابقاً - ثم جاء أحد بعد ميلاده ووضع أصبعه أمام عينه فإنه لا يطرف؛ لأنه عينه لم تؤد بعد مهمة الرؤية، وعيون الوليد لا تؤدي مهمة الرؤية إلا بعد مدة من ثلاثة أيام إلى عشرة، ولكنك إذا جئت في أذنه وصرخت انفعل. إن هذا دليل على أن أذنه أدت مهمتها من فور ولادته، بينما عينه لا تؤدي مهمة الرؤية إلا بعد مدة، فأولاً يأتي السمع، ثم يأتي البصر، ومن السمع والبصر تتكون المعلومات، فتنشأ عند الإِنسان معلومات عقلية، ويقولون للطفل مثلاً: إياك أن تقبل على هذه النار حتى لا تحرقك، فلا يصدق، ومنظر النار يجذبه فيلمسها، فتلسعه مرة واحدة، وبعد أن لستعه النار مرة واحدة، لم يعد في حاجة إلى أن يتكرر له القول: بأن النار محرقة. فقد تكونت عنده معلومة عقلية. فأولاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4414 يأتي السمع، ثم الأبصار، ثم تأتي الأفئدة. ولذلك قال سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . تشكرون له سبحانه أن أمدكم بوسائل العلم ليخرجكم مِن أميتكم. وهناك لفتة إعجازية أخرى؛ فحين تكلم الحق عن وسائل العلم، تكلم عن السمع بالإِفراد، وعن الأبصار بالجمع. مع أن هذه آلة، وهذه آلة؛ فقال: (السمع والأبصار) ولم يقل السمع والبصر، ولم يقل الأسماع والأبصار؛ لأن السمع هي الآلة التي تلتقط الأصوات، وليس لها سد من طبيعتها، أما العين فليست كذلك، ففي طبيعة تكوينها حجاب لتغمض. وإذا أنت أصدرت صوتاً من فمك يسمعه الكل، وعلى هذا فمناط السمع واحد، لكن في أي منظر من المناظر قد تكون لديك رغبة في أن تراه، فتفتح عينيك، وإن لم تكن بك رغبة للرؤية فأنت تغمضهما. إذن فالأبصار تتعدد مرائيها، أما السمع فواحد ولا اختيار لك في أن تسمع أو لا تسمع. أما البصر فلك اختيار في أن ترى أو لا ترى، وهذه الأمور رتبها لنا الحق في القرآن قبل أن ينشأ علم وظائف الأعضاء، ورتبها سبحانه فأفرد في السمع، وجمع في البصر مع أنهما في مهمة واحدة، إلا آية واحدة جاءت في القرآن: { ... إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإِسراء: 36] قال الحق ذلك لأن المسئولية هنا هي الفردية الذاتية، وكل واحد مسئول عن سمعه وبصره وفؤاده، وليس مسئولاً عن أسماع وأبصار وأفئدة الناس. ونرى مادة السمع قد تقدمت، وبعدها جاءت مادة البصر إلا في آية واحدة أيضاً، تتحدث عن يوم القيامة: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ... } [السجدة: 12] هنا قدّم الحق مادة الإبصار على مادة السمع؛ لأن هول القيامة ساعة يأتي سنرى تغيراً في الكون قبل أن نسمع شيئاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4415 {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌْ} [الأعراف: 167] وتأذَّن أي أَعْلم الله إعلاماً مؤكداً بأنكم يا بني إسرائيل ستظلون على انحراف دائم، ولذلك سيسلط الله عليكم من يسومكم سوء العذاب، إما من جهة إيمانية، مثلما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بني النضير وبني النضير وبني قريظة وبني قينقاع وخيبر، وإما أن يسلط عليهم حاكماً ظالماً غير متدين، مصداقاً لقوله الحق: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً ... } [الأنعام: 129] وكذلك مثلما حدث من بختنصر، وهتلر. إذن {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أي أعلم ربك إعلاماً مؤكداً؛ لأن البشر قد يُعْلمون بشيء، ولكن قدرتهم ليست مضمونة لكي يعملوا ما أعلموا به، فإذا أعلمت أنت بشيء فأنت قد لا تملك أدوات التنفيذ، أمّا الله - سبحانه - فهو المالك لأدوات التنفيذ، والإعلام منه مؤكد، ولذلك يُعْلم بالشيء، أما غيره فالظروف المحيطة به قد لا تساعده على أن ينفذ. مثال ذلك: صحابة رسول الله الأول وهم مستضعفون ولم يستطيعوا أن يحموا أنفسهم من اضطهاد المشركين والكافرين، وصار كل واحد يبحث لنفسه عن مكان يأمن فيه؛ منهم من يذهب إلى الحبشة أو يذهب إلى قوي يحتمي به، فينزل الله في هذه الظروف العصيبة آية قرآنية لرسول الله يقول فيها: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] وتساءل البعض كيف يُهزمون ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا. فعندما نزلت هذه الآية قال سيدنا عمر: أي جمع يُهزم، قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يثب في الدروع وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} ، فعرفت تأويلها يومئذ. إن الله سبحانه وتعالى أَعْلَمَ بالنصر. وهو قادر على إنفاذ ما أعْلَم به على وفق ما أعَلم؛ لأنه لا يوجد إله آخر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4416 يصادمه. إذن {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} يعني أعلم إعلاماً مؤكداً، وحيثية الإعلام المؤكد أنه لا توجد قوة أخرى تمنع قدرته ولا تنقض حكمه. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة ... } بالأعراف: 167] أي يبعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب. وهناك بنص القرآن مبعوث، والله يخلي بينه وبينهم، فلا يمنعهم الله منه، إنما يسلط الله عليهم العذاب باختيار الظالم. مثلما قال الحق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم: 83] أي أنه - سبحانه - أرسلهم لهذه المهمة وخلّى بينهم وبين الذين يستمعون إليهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة} . وكلمة {إلى يَوْمِ القيامة} تفيد أن هذا العنصر، المشاكس من اليهود سيبقى في الكون كخميرة (عكننة) إلى أن تقوم الساعة، لماذا؟! هم يقومون بمهمة الشر في الوجود، ولولا أن هذا الشر موجود في الوجود، ويعضُّ الناس بمساوئه وإفساداته، لم يكن من الناس من يتهافت على الحق وعلى الخير. فالشر - إذن - جاء ليعضّ الناس بآلامه وإفساده ليتجه الناس إلى الخير، ولذلك تجد أقوى انفعالات تعتمل في صدور المسلمين وأقوى نزوع حركي إلى الإِسلام حين يجدون مَن يضطهد قضية الإِسلام. إنَ مهمة الشر في الوجود أنه يجمع عناصر الخير في الوجود ومهمة الباطل في الوجود أنه يحفز عناصر الحق ويحضهم على محاربة الشر ومناهضته؛ لأن الباطل حين يعم، ويتضايق منه الناس، ترفع يدها وتقول: يا ناس افعلوا الخير. ولو لم يحدث ذلك فلن تجد من يقبل على الخير بحمية وحرارة. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب. . .} [الأعراف: 167] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4417 (ويسوم) من مادتها سام، ونسمعها في البهائم ونسميها السائمة وهي التي تطلب مقومات حياتها، وليس صاحبها هو الذي يجهز لها مقومات حياتها. أما البهائم التي تُرْبط وليست سائمة التي تجد من يجهز لها طعامها، إذن أصل «سام» أي طلب، وبهيمة سائمة أي تطلب رزقها وأكلها بنفسها. و «سام» أيضاً أي طلب العذاب. ولا يطلب أحد العذاب إلا أن يكون قد أفرغ قوته في التعذيب. فيطلب ممن يقدر على العذاب أن يعذب، أي أن الله يسلط ويبعث عليهم من يقوم بتعذيبهم جهد طاقته، فإذا فترت طاقته أو ضعفت فإنه يستعين على تعذيبهم بغيره. إذن فطلب العذاب معناه أنّه: عَذَّب هو، ولم يكتف بأنه عذَّب بل طلب لهم عذاباً آخر، و {يَسُومُهُمْ سواء العذاب} أي العذاب السيء الشديد. ويذيل الحق الآية بقوله تعالى: { ... إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌْ} [الأعراف: 167] ومعنى سرعة الشيء أن تأخذه زمناً أقل مما يتوقع له؛ لن السرعة هي اختصار الزمن. {لَسَرِيعُ العقاب} هي للدنيا وللآخرة، فساعة يقترفون ذنباً. يسلط عليهم من يعذبهم في الدنيا، أما الآخرة ففيها سرعة عالية؛ لأن مسافة كل إنسان إلى العذاب ليست هي عمر الدنيا، فالإِنسان بمجرد أن يموت تنتهي الدنيا بالنسبة له. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته» . إن هناك سرعة لحساب الآخرة. وحتى لو افترضنا أننا سنبقى جميعاً دون حساب إلى أن تنتهي الدنيا، فإن الحساب سيكون سريعاً لأن كل لحظة تمر على أي إنسان تقربه من العقاب، وحتى لو كان عمر الدنيا مليون سنة، فكل يوم يمر سينقص من عمر الدنيا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4418 وحين يقول الحق سبحانه بعد سرعة العقاب {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌْ} قد نجد من يسأل كيف والحديث هنا عن العقاب؟ ونقول: إنه سبحانه الذي يتكلم. وهو القادر، فإذا قال: أنه لسريع العقاب، فهذا يعني أنه يسرع بعقاب المفسدين والظالمين؛ لأنه غفور رحيم بالمظلومين الذين يُظلمون، إذن فسرعة عقاب الظّلمَة رحمة منه بالمظلومين. أو أن الله كما قال «سريع العقاب» فإنه - سبحانه - يأتي بالمقابل لكي يشجع كل إنسان على الدخول في رحمته. ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4419 وقد قال سبحانه قبل ذلك أيضاً: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً ... } [الأعراف: 160] ولكن القول هنا يجيء لمعنى آخر: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} . وقد قطعهم الحق حتى لا يبقى لهم وطن، ويعيشون في ذلة؛ لأنهم مختلفون غير متفقين مع بعضهم منذ البداية، كانوا كذلك منذ أن كانوا أسباطاً وأولاد إخوة على خلاف دائم. وهنا يقول الحق: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً} . ومعنى {وَقَطَّعْنَاهُمْ} أي أن كل قطعة يكون لها تماسك ذاتي في نفسها، وأيضاً لا تشيع في المكان الذي تحيا فيه، ولذلك قلنا: إنهم لا يذوبون في المجتمعات أبداً، - كما قلنا - فعندما تذهب إلى أسبانيا مثلاً تجد لهم حيًّا خاصًّا، كذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4419 فرنسا، وألمانيا، وكل مكان يكون لهم فيه تجمع خاص بهم، لا يدخل فيه أحد، ولا يأخذون أخلاقاً من أحد، وشاء الحق بعد ذلك أن قال لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ... } [المائدة: 21] فبعد أن مَنَّ عليهم بأرض يقيمون فيها، قالوا: { ... إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] فحرم الله عليهم أن يستوطنوا وطنا واحداً يتجمعون فيه، ونشرهم في الكون كله لأنهم لو كانوا متجمعين لعم فسادهم فقط في دائرتهم التي يعيشون فيها. ويريد الله أن يعلن للدنيا كلها أن فسادهم فساد عام. ولذلك فهم إن اجتمعوا في مكان فلابد أن تتآلب عليهم القوى وتخرجهم مطرودين أو تعذبهم، وأظن حوادث هتلر الأخيرة ليست بعيدة عن الذاكرة، وقد أوضحنا ذلك من قبل في شرح قوله الحق: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض ... } [الإِسراء: 104] لقد قلنا: إن السكن في الأرض هو أن يتبعثروا فيها؛ لأنه - سبحانه - لم يحدد لهم مكانا يقيمون فيه، فإذا جاء وعد الآخرة ينتقم الله منهم بضربة واحدة، ويأتي الحق بهم لفيفاً تمهيداً للضربة القاصمة: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} . وهناك فريق منهم جاء إلى المدينة المنورة ووسعتهم المدينة وصاروا أهل العلم وأهل الكتاب، وأهل الثراء وأهل المال، وأهل بنايةٍ للحصون، وحين هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عقد معهم معاهدة. فالذي دخل منهم في الإِيمان استحق معاملة المؤمنين، فلهم ما لهم وعليهم وما عليهم، والحق قد قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4420 {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] وقلنا إن هذه تسمى صيانة الاحتمال لمن يفكرون في الإِيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} . و «دون» أي غير، فالمقابل للصالحين هم المفسدون. أو منهم الصالحون في القمة، ومنهم من هم أقل صلاحاً. فهناك أناس يأخذون الأحسن، وأناس يأخذون الحسن فقط. ويتابع الحق سبحانه: { ... وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الاعراف: 168] كلمة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} هي التي جعلتنا نفهم أن قول الحق سبحانه وتعالى: أن منهم أناساً صالحين، ومنهم دون ذلك، أي كافرون؛ لأنهم لو كانوا قد صنعوا الحسن والأحسن فقط، لما جاء الحق ب {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . أو هم يرجعون إلى الأحسن. و «بلونا» أي اختبرنا؛ لأن لله في الاختبارات مطلق الحرية، فهو يختبر بالنعمة ليعلم واقعاً منك لأنه - سبحانه - عالم به، من قبل أن تعمل، لكن علمه الأزلي لا يُعتبر شهادة منا. لذلك يضع أمامنا الاختبار لتكون نتيجة عملنا شهادة إقرار منا علينا: {وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات} . وسبحانه وتعالى يختبر بالنعمة ليرى أتغزنا الأسباب في الدنيا عن المُسبِّب الأعلى الذي وهبها: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] فالواجب أن نشكر النعمة ونؤديها في مظان الخير لها. فإن كان العبد سيؤديها بالشكر فقد نجح، وإن أداها على عكس ذلك فهو يرسب في الاختبار. إذن فهناك الابتلاء بالنعم، وهناك الابتلاء بالنقم. والابتلاء بالنقم ليرى الحق هل يصبر العبد أو لا يصبر، أي ليراه ويعلمه واقعاً حاصلاً، وإلا فقد علمه الله أزلاً. ولذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4421 {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] إننا نجد من يقول: {ربي أَكْرَمَنِ} . ومَن يقول: {ربي أَهَانَنِ} والحق يوضح: أنتما كاذبان. فليست النعمة دليل الإِكرام، ولا سلب النعمة دليل الإِهانة. ولكن الإِكرام ينشأ حين تستقبل النعمة بشكر، وتستقبل النقمة بصبر. إذن مجيء النعمة في ذاتها ليس إلا اختبارا. وكذلك إن قَدَر الله عليك رزقك وضيقه عليك، فهذا ليس للإِهانة ولكنه للاختبار أيضاً. ويوضح الحق جل وعلا: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} [الفجر: 17 - 20] أنتم لا تطعمون في مالكم يتيماً ولا تحضون على طعام مسكين. فكيف يكون المال نعمة؟ إنه نقمة عليكم. وهنا يقول الحق: {وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . ولله المثل الأعلى، نقول: إن فلاناً أتعبني، لقد قلبته على الجنبين، لا الشدة نفعت فيه، ولا اللين نفع فيه، ولا سخائي عليه نفع فيه، ولا ضنى عليه نفع فيه، وقد اختبر الله بني إسرائيل فلم يعودوا إلى الطاعة مما يدل على أن هذا طبع تأصل فيهم. ويقول الحق بعد ذلك: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4422 والخَلَف أو الخَلْف أو الخليفة هو من يأتي بعد ذلك، ويقال: فلان خليفة فلان، ومن قبل قرأنا أن سيدنا موسى قال لسيدنا هارون: {اخلفني فِي قَوْمِي ... } [الأعراف: 142] أي كن خليفة لي، إلا أنك حين تسمع «خَلْفُ» بسكون اللام، فاعلم أنه في الفساد، وإن سمعتها «خَلَفٌ» بفتح اللام فاعلم أنه في الخير، ولذلك حين تدعو لواحد تقول: اللهم اجعله خير خَلَف لخير سلف. وهنا يقول الحق: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} . والحديث هنا عن أنهم هم الفاسدون والمفسدون، والشاعر يقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب الشاعر هنا يبكي موت الكرماء وأهل السماحة، فلم يعد أحد من الذين كان يعيش في رحاب كرمهم وسماحتهم؛ فقد ذهب الذين يُعاش في أكنافهم أي جوارهم؛ لأن هذا الجوار كان نعمة أيضاً. وحين يجاور رجل ضُيِّق وقُدِر عليه رزقه رجلاً طيباً عنده نعمة، فتنضح عليه نعمة الرجل الطيب. والشاعر هنا قال: «وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب» أي أن جلده قريب ولاصق لكنه جلد أجرب. وعرفنا قصة «أبودلف» وكان رجلاً كريماً في بغداد. يعيش في نعمته كل الناس ومن يحتاج يعطيه. وطرأ طارئ على جار فقير له، وأراد أن يبيع داره، فعرض الدار للبيع، وسألوه عن الثمن الذي يرتضيه، فقال: داري بمائة دينار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4423 لكن جواري لأبي دلف بألف دينار، فبلغ هذا الكلام أبا دلف فقال: إن رجلاً قدر جوارنا بعشرة أمثال ما قدر به داره لحقيق ألا يفرّط فيه. قالوا له: فليبق جاراً لنا وليأخذ ما يريد من مال. {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} . والكتاب هو التوراة، والخَلْف أخذوه ميراثاً، والشيء لا يكون ميراثاً إلا إذا حمله السابق بأمانة وأدّاه للاحق، ولكن لأنهم أهل إفساد فلنر ماذا فعلوا في الكتاب؟ لقد ورثوه. وبُلِّغ إليهمُ وعرفوا ما فيه. {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ... } [الأعراف: 169] أي لا حجة لهم في ألاّ يكونوا أصحاب منهج خير، لكنهم لم يلتفتوا إلى ما في الكتاب - التوراة - من المواثيق، والحلال، والحرام، وافعل كذا ولا تفعل كذا؛ لم يلتفتوا لكل هذا؛ لأنهم قالوا لأنفسهم: إن هذا الكتاب يعطي النعيم البعيد في الآخرة، وهم يريدون النعيم القريب، فمنهم من قبل الرشوة واستغلال النفوذ. وبذلك أخذوا عَرَضَ الحياة الأدنى وهو عرض الدنيا. ولم يأخذوا إدارة الدنيا بمنهج الله، والدنيا فيها جواهر أو أعراض، والجوهر هو الشيء الذاتي، فالإِنسان بشحمه ولحمه «جوهر» أما لونه إن كان أسمر أو أبيض فهذا عَرَض، قصيراً أو طويلاً، صحيحاً أو مريضاً، وغنيًّا أو فقيراً فهذا عرض. إذن فالأعراض هي ما توجد وتزول، والجواهر هي التي تبقى ثابتة على قدر ما كتب لها من بقاء، وكما يقول علماء المنطق: الجوهر ما قام بنفسه، والعَرَض ما قام بغيره. وهم قد أخذوا العرض من الحياة الدنيا، وعرض الدنيا قد يتمثل في المال الحرام، وأن يغشوا ويستحلوا الرشوة. ونعلم أن الإِنسان - حتى المؤمن - قد تحدث منه معصية ولا يمنع ربنا هذا؛ لأن المشرع الأعلى حين يشرع عقوبة لجريمة، فهذا إذْنٌ بأنها قد تحدث، وحين يقول الحق: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا ... } [المائدة: 38] إنَّ معنى هذا القول أن المؤمن قد تسول له نفسه أَنْ يسرق مثلاً، ولم يترك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4424 الحق هذا الجرم بدون عقوبة. وإن رأينا مسلماً يسرق، نقل له هذا فعل مُجَرَّم من الإِسلام، وله عقوبة، والمُجْرَم لا يمكن أن يرتكب الجُرْم وهو ملتزم بالدِّين، بل هو منسوب للدين فقط، وعندما يرتكب مسلم ذنباً أو معصية ثم يندم ويتوب ويعزم على أنه لن يعود تصح توبته، وكذلك لو ألحَّت عليه معصيته فيعود إليها، ثم تاب، المهم أنه في كل مرة لا يصر على الفعل، ثم يقول: سوف أتوب. وهم كانوا يصرون على المعصية ويقولون: سبغفر الله لنا، بل إنهم لم يفكروا في التوبة، ووجدنا منهم من يقول: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ ... } [المائدة: 18] ويأتي الرد: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ... } [المائدة: 18] إذن هم يأخذون عرض هذا الأدنى، ويحكمون في أخذهم بهذا العرض أنه سبحانه سوف يَغْفِر لهم. وبذلك استحلوا الحرام وانتقلوا من منطقة المعصية إلى منطقة الكفر؛ لأن هناك فرقاً بين أن تفعل الشيء وتقول هو معصية. لكن أن يرتكب الإِنسان المعصية ويقول: ليست بمعصية، فهذا انتقال من العصيان إلى الكفر، ومثال ذلك الربا حين نجد من يحلله، نقول له: اقْبَلْ أن تكون عاصيًّا ولا تدخل نفسك في الكفر؛ لأنك إن حللت ما حرم الله يقع عليك الكفر وتوصف به والعياذ بالله، أما إن قلت: هو حرام ولكن ظروفي صعبة ولا أقدر على نفسي فقد يغفر الله لك. لكن قوم موسى كانوا يصرون على المعصية ويقولون: سيغفر الله لنا: ويقول الحق: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} . وهم بعد ذلك تركوا الأعلى وأخذوا عرض الحياة الأدنى ويتمادون في غيهم ويرتكبون المعاصي تلو المعاصي دون أن يدقوا باب التوبة. لذلك ينبههم الحق سبحانه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4425 {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق ... } [الأعراف: 169] لقد ورثوا الكتاب، وفي الكتاب قد أُخذ عليهم عهدٌ موثقٌ ألا يقولوا على الله إلا الحق، لكن هل يعدل الفاسق عن الباطل ويعود إلى الحق؟ . طبعاً لا، هم إذن تجاهلوا ما في هذا الكتاب، رغم أنهم قد درسوا ما فيه مصداقاً لقوله الحق: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} وكلمة «دَرَسَ» تدل على تكرار العمل، فيقال: «فلان درس الفقه» أي تعلمه تعلما متواصلاً ليصير الفقه عنده ملكة. وهو مختلف عمن قرأ الكتاب مرة واحدة، هنا لا يصبح الفقه عنده ملكة. وحتى نفهم الفرق بين «العلم» و «الملكة» ، نقول: إن العلم هو تلقي المعلومات، أما من درس المعلومات وطبقها وصارت عنده المسألة آلية، فهذا هو من امتلك ناصية العلم حتى صار العلم عنده ملكة. إذا التقى صائم - مثلا - بفقيه وسأله عن فتوى في أمر الصيام يجيبه فوراً؛ لأنه علم كل صغيرة وكبيرة في الفقه. لكن إن تسأل تلميذاً مبتدئاً في الأزهر فقد يرتبك وقد يطلب أن يرجع إلى كتبه ليعثر على الإجابة؛ لأن الفقه لم يصبح لديه ملكه. والملكة في المعنويات هي مقابل الآلية في الماديات التي تحتاج إلى دُرْبة، فمن يمسك النول لينسج النسيج ويتقن تمرير المكوك بين الفتلتين لا يفعل ذلك إلا عن دُرْبة. إنه قد تعلم ذلك بصعوبة وتكرار تدريب. إذن فقوله: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} اي تكررت دراسة الكتاب حتى عرفوا ما فيه من علم. ونحن أخذنا «درس العلم» من مسألة حسية هي «درس القمح» ، ويعلم من تربى في الريف كيف ندرس القمح، حين يدور النورج على سنابل القمح فيخرج لنا الحب من أكمامه، ويقطع لنا العيدان، وهذه العملية تسمى «درس القمح» . إن ما فعلوه من عصيان ليس عن غفلة عن هذا الميثاق في ألاّ يقولوا على الله إلا الحق، لأنهم درسوا ما في الكتاب المنزل عليهم وهو التوراة دراسة مستوعبة، لكنهم أخذوا العرض الأدنى. وكان لابد أن يأتي بمقابل العرض الأدنى فيوضح لنا أنّ مصير من يريد الدار الآخرة هو الثواب الدائم ولذلك يقول الحق: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4426 { ... والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169] وهذا يعني التنبيه بأنه من الواجب قبل أن تفعلوا الفعل أن تنظروا ما يعطيه من خير، وأن تتركوه إن كان يعطي الكثير من الشر، وزنوا المسألة بعقولكم، وساعة أن تَزنوا المسألة بعقولكم ستعرفون أن عمل الخير راجح. ويقول الحق بعد ذلك: {والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4427 إنّ الكثير من بني إسرائيل ورثوا الكتاب، وأخذوا العرض الأدنى، ولم يزنوا الأمور بعقولهم؛ لذلك لم يتمسكوا بالكتاب، وتركوه، وساروا على هواهم؛ كأنهم غير مقيدين بمنهج افعل كذَا ولا تفعل كذَا، ويقابلهم بعض الذين يتمسكون بالكتاب الذي ورثوه، ولا يقولوا على الله إلا الحق. ومادة الميم والسين والكاف تدل على الارتباط الوثيق؛ فالذي يجعل الانسان متصلاً بالشيء هو ماسكه، وتقول: «مسَكَ» وتقول: «مَسَّكَ» ، و «أمسك» ، وتقول «استمسك» ، و «تماسك» ، وكلها مادة واحدة. وقوله الحق: «يمسِّكون» مبالغة في المسك، كُل قطع وقطَّع، ولكن قطَّع أبلغ. و (مسَّك) يعني أن الماسك تمكن مما يمسك، و (استمسك) أي طلب، و (تماسك) أي أنّ هناك تفاعلاًً بين الاثنين؛ بين الماسك والممسوك. ومن رحمة ربنا أنه لا يطلب منا أن نمسك الكتاب. بل يطلب أن نستمسك بالكتاب، ولذلك يوضح لك الحق سبحانه وتعالى: إن أنت ملت إلى القرب مني والزلفىإليّ، فاترك الباقي عنك فالمعونة منّي أنا، ولذلك يدلنا على أن من ينفذ منهج القرآن لا يلقى الهوان أبدا {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا} وهنا يستخدم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4427 الحق سبحانه كلمة (استمسك) لا كلمة مسَك، فمن وجه نيته في أن يفعل يعطيه الله المعونة، ولذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليَّ بشبر، تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة.» فأنت بإيمانك بالله تعزز نفسك وتقويها بمعونه الله لك. فإن أردت أن يذكرك الله فاذكر الله؛ فإن ذكرته في نفسك يذكرك في نفسه، وإن ذكرته في ملأ يذكرك في ملأ خير منه، وإن تقربت إليه شبراً تقرب إليك ذراعاً، فماذا تريد أكثر من ذلك، خاصة أنك لن تضيف إليه شيئاً، إذن فالموقف في يدك، فإذا أردت أن يكون الله معك فسر في طريقه تأت لك المعونة فوراً. وهكذا يكون الموقف معك وينتقل إليك، وذلك بإيمانك بالله وإقبالك على حب الارتباط به. ولذلك قلنا من قبل: إن الانسان إذا أراد أن يلقى عظيماً من عظماء الدنيا وفي يده مصلحة من مصالح الإِنسان فهو يكتب طلباً، فإما أن يوافق هذا العظيم وإما ألاّ يوافق، وحين يوافق هذا العظيم يحدد الزمان ويحدد المكان، ويسألك مدير مكتبه عن الموضوعات التي ستتكلم فيها، وحين تقابله وينتهي الوقت، فهو يقف من كرسيه لينهي المقابلة، هذا هو العظيم من البشر، لكن ماذا عن العظيم الأعظم الأعلى الذي تلتقي به في الإِيمان؟ أنت تلقى الله في أي وقت، وفي أي مكان، وتقول له ما تريد، وأنت الذي تنهي المقابلة، ألا يكفي كل ذلك لتستمسك بالإِيمان؟ . {والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} [الأعراف: 170] والكتاب هنا هو الكتاب الموروث، والمقصود به التوراة وهو الذي درسوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4428 ما فيه، وقد أخذ الله في هذا الكتاب الميثاق عليهم ألا يقولوا على الله إلا الحق، والحق يقول هنا: {وَأَقَامُواْ الصلاة} فهل هذا الكتاب ليس فيه إلا الصلاة؟ لا، ولكنه خص الصلاة بالذكر. لأننا نعلم أن الصلاة عماد الدين، وعرفنا في رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الصلاة قد فرضت بالمباشرة، وكل فروض الإِسلام - غير الصلاة - قد فرضت بالوحي. لقد قلنا من قبل ولله المثل الأعلى، إن رئيس أي مصلحة حكومية حين يريد أمراً عادياً رُوتينياً، فهو يوقع الورق الذي يحمل هذا الأمر ويكتب عليه: «يعرض على فلان» ويأخذ الورق مجراه، وحين يهتم بأمر أكثر، فهو يتحدث تليفونياً إلى الموظف المختص، وحين يكون الأمر غاية في الأهمية القصوى فهو يطلب من الموظف أن يحضر لديه، وهكذا فرضت الصلاة بهذا الشكل لأنها الإِعلان الدائم للولاء لله خمس مرات في اليوم، وإن شئت أن تزيد على ذلك تنفلا وتهجداً فعلت. إنك بالصلاة توالى الله بكل أحكامه، إنك توالي الله بالزكاة كل سنة، وبالصوم في شهر واحد هو رمضان، وبالحج مرة واحدة في العمر إن استطعت. لكن الصلاة ولاء دائم متجدد، ولأن الصلاة لها كل هذه الأهمية؛ لذلك لا تسقط أبداً. وأركان الإِسلام - كما نعلم - خمسة؛ شهادة أن لا إله إلا اله وأن محمداً. رسول الله، إنها الإِيمان بالله وبالرسول كوحدة واحدة لا تنفصل، ويكفي أن ينطقها الإِنسان مرة لتكتب له، ثم تأتي أركان الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والحج ليس ركناً مفروضاً إلا على من يستطيعون. قد لا يكون للإِنسان مال يخرج عنه الزكاة؛ فلا يجب عليه إخراج شيء حينئذ، وقد يكون الإِنسان مريضاً أو مسافراً فلا يصوم. إذن فبعض فروض الإِسلام قد تسقط عن المسلم، إلا الصلاة فهي لا تسقط أبداً؛ لأن في الصلاة في ظاهر الأمر قطعا لبعض الوقت عن حركة عملك، وإن كان كل فرض يأخذ مثلاً نصف ساعة، فالإِنسان يقتطع من وقته ساعتين ونصف الساعة كل يوم في أداء الصلاة. والوقت عزيز عند الإِنسان. ففي الصلاة بذل لبعض الوقت الذي يستطيع أن يكسب الإِنسان فيه مالاً، وفيها أيضا الصوم عن الأكل والشرب ومباشرة الزوجات، ففيها كل مقومات أركان الإِسلام، لذا فهي لا تسقط أبدا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4429 {والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة ... } [الأعراف: 170] إذن الاستمساك واضح هنا جداً، وأداء الصلاة تعبير عن الالتزام بالاستمساك بمنهج الإِيمان. ولذلك نسمع من يقول: حين ذهبنا إلى مكة والمدينة عشنا الصفاء النفسي والإِشراق الروحي، وعشنا مع التجلِّي والنور الذي يغمر الأعماق. وأقول لمن يقول ذلك: إن ربنا هنا هو ربنا هناك، فقط أنت هناك التزمت، وساعة كنت تسمع الأذان كنت تجري وتسعى إلى الصلاة، وإذا صنعت هنا مثلما صنعت هناك فسترى التجليات نفسها. إذن إن صرت على ولاء دائم مع الحق سبحانه وتعالى فالحق لن يضيع أجرك كاحد المصلحين. لأنه القائل: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} . وهذه قضية عامة، والحق سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المصلح. وقوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} بعد قوله: {يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة} دليل على أن أي إصلاح في المجتمع يعتمد على من يمسكون بالكتاب ويقيمون الصلاة؛ لأن المجتمع لا يصلح إلا إذا استدمت أنت صلتك بمن خلقك وخلق المجتمع، وأنزل لك المنهج القويم. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4430 والجبل معروف أنه من الأحجار المندمجة في بعضها والمكونة لجرم عالٍ قد يصل إلى ألف متر أو أكثر، والحق يقول عن الجبال: {والجبال أَرْسَاهَا} ولا يقال أرساها إلا إذا كان وجد شيء له ثقل، فأنت لا تقول: «أرسيت الورقة على المكتب» ، ولكنك تقول: «أرسيت لوح الزجاج علىلمكتب ليحميه» ، وأنت بذلك ترسي شيئاً له وزن وثقل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4430 وقد أرسى ربنا الجبال وجعلها في الأرض أوتادا، والوَتِد - كما نعلم - ممسوك من الموتود والمثبت فيه، بدليل أنه لو تخلخل في مكانه نضع له ما نسميه «تخشينة» لتلصقه وتربطه بما يثبت فيه، وهنا يقول الحق: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل} «نتقنا» أي قلعنا، وهناك قول آخر: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت ... } [النساء: 154] وقال الحق أيضا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور ... } [البقرة: 63] وهنا اختلاف بين «نتق» و «رفع» ؛ لأن الجبل راسٍ في الأرض، وممسوك كالوتد؛ لذلك يحتاج قبل أن يرفع إلى عملية نزع واقتلاع من الأرض، ثم يأتي من بعد ذلك الرفع، و «نتقا» تعني نزعنا الجبل من مكان إرسائه حتى نرفعه، وقد رفعه الله ليجعل منه ظلة عليهم، أي أن هناكَ ثلاث عمليات: نتق أي نزع وخلع، ثم رفع، ثم جعله سبحانه ظلة لهم، وهذا يحتاج إلى اتجاه في المرفوع إلى جهة ما. والحق يقول: «وإذ» أي اذكر إذ نتقنا الجبل، أي نزعناه وخلعناه من الأرض، ولا ننزعه ونخلعه من الأرض إلا لمهمة أخرى أي نجعله ظلة، وكان تظليل الغمام رحمة لهم من قبل، وصار الجبل ظلة «عذاب» ؛ لأن الحق أنزل لهم التوراة على موسى فقالوا له: إن أحكام هذه التوراة شديدة. وللإِنسان أن يتساءل: لماذا كل هذا التلكؤ مع التشريعات التي جاءت لمصلحة البشر؟ . وجاء لهم العقاب من الحق بأن رفع فوقهم الجبل كظلة تحمل التهديد كأنه قد يقع فوقهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} . لذلك نجد أن كل يهودي يسجد على حاجبه الأيسر، على الرغم من أن السجود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4431 يقتضي تساوي وضع الجبهة على الأرض، ولكنهم يسجدون بميل إلى الحاجب الأيسر لأن السابقين لهم رأوا الجبل فوقهم وتملكهم الخوف من سقوط الجبل، وكانوا يسجدون وفي الوقت نفسه يرقبون الجبل، وبقيت هذه المسألة لازمة فيهم، وصاروا لا يسجدون إلا على حاجبهم الأيسر، بسبب حكاية الجبل الذي نتقه الله وقلعه فصار فوقهم. {وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} . والظن هو رجحان قضية، وقد يأتي ويراد به أنه رجحان قوى قد يصل إلى درجة اليقين، مثل قوله الحق: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} وحين بقيت الحالة هذه، وخافوا من الجبل أن يقع عليهم، ولأن هناك كتابا قد أنزل إليهم وهو التوراة وهم يعصون ويتمردون على ما فيه؛ لذلك قال لهم الحق: {. . . خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171] و «خذوا» فعل أمر، والأمر يقتضي آمرا، ولابد له من شيء يأمر به. وكلمة «القوة» هذه هي الطاقة الفاعلة، والأصل في الكون كله أن نقبل على كل شيء بقوة؛ لأن الكون الذي تراه مسخراً ليس له رأي في أن يفعل أو لا يفعل، بل هو فاعل دائما إذا أمُر، وكما قلنا من قبل: لم تغضب الشمس على الناس وقالت: لن أطلع هذا اليوم، وكذلك لم يمتنع الهواء، وأيضاً لا يرفض الحمار مثلاً أن يحمل الروث، أو أن ينظفه صاحبه ويأتي له ب «البرذعة» ليجعله ركوبة متميزة، الحمار إذن لا يعصي هنا ولا يعصي هناك، والكون كله مسخر بقوانين مادية ثابتة. {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] وقد وضع الحق هذا النظام للكون نظراً لأنه مقهور وليس له تكليف، والمحكوم بالغريزة الكونية صالح للحياة عن المحكوم بالاختيار الفعلي، ومع هذا الاختيار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4432 فالإنسان له أشياء تفعل فعلها فيه ولا يَدْرِي عنها شيئاً مع أن بها قوام حياته، فلا أحد يمسك قلبه ويضبطه ويقول له: دق، والرئة كذلك وحركة التنفس، والحركة الدودية في الأمعاء، والحالب، ويرغب الإنسان في دخول دورة المياه عندما تمتلئ المثانة بالبول، كل هذه مسائل رتيبة لا اختيار للإنسان فيها أبدا، والأمور المحكومة بالغرائز ليس لنا فيها اختيار، كأن يأكل الإنسان ويتكلم في أثناء تناول الطعام فتنزل حبة أرز في القصبة الهوائية فيحاول الإنسان أن يطردها بالسعال، هذا اسمه «غريزة» أي أمر غير محكوم بالفعل الاختياري. وكذلك الحيوان إذا أحضرت له طعاما فهو لا يأكل أكثر من طاقته حتى لو ضربه صاحبه. أما الإنسان فقد يأكل بعد أن يشبع، وحين يقول له مُضيفه - على سبيل المثال -: أنت لم تذق هذا اللون من اللحم، فيأكل. ولهذا نجد أن الأمراض في الانسان أكثر من الأمراض في الحيوان؛ لأن اختيار الإنسان يمتد إلى مجالات متعددة متفرقة قد تضر به وتؤذيه. ونعرف جميعاً هذا المثال للفارق بين الإنسان والحيوان، نجد الإنسان يغلي النعناع ويشربه، ويطبخ الملوخية ليأكلها، وقد فعل ذلك لأنه اختبر الاثنين، فلم يأكل النعناع وأكل الملوخية، رغم تشابه أوراقهما. لكن هات شجرة النعناع أمام الجاموسة أو الحمار، وهات النجيل الناشف وضع الاثنين أمام الجاموسة أو الحمار، ستجد الجاموسة والحمار يتجهان إلى النجيل الناشف ويتركان نبات النعناع الأخضر الرطب، وهما يفعلان ذلك بالغريزة، فالمحكوم بالغريزة له نظام، ولو كان الحيوان مختارا لارْتَبَكت حركة الحياة كلها واختلطت واشتد على الناس شأنها. وهكذا نعرف أن مقومات الحياة تقوم على قوانين الغريزة، وهذه القوانين موجودة في الكون لتخدمنا نحن بني البشر. فالكهرباء مثلاً كانت موجودة قبل أن ننتفع بها، لكن بعد ذلك انتفعنا بها، وكذلك الجاذبية، كانت موجودة في الكون منذ الأزل، لكنا لم ننتبه لها، وحين اكتشفناها زادت قدراتنا على الاستفادة منها، وهكذا نرى أن الإنسان واحد من هذا الكون، إلا أنه يتميز بأن له جهة اختيار في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4433 بعض الأمور، وله جهة قهر في البعض الآخر، فهو يشارك الكون في القهر، ويتميز عن بقية المخلوقات - عدا الجن - بالاختيار في أمور أخرى. ونجد على سبيل المثال أن الإنسان الذي يعاني قلبه من ضعف ما، عندما يصعد هذا الإنسان سلماً ينهج ويتتابع نَفَسه من الإعياء وكثرة الحركة، لأنّ غريزته المحكوم بها تُنبه الجسد إلى ضرورة أن تعمل الرئة أكثر لتعطي الأوكسجين الذي يساعد على الصعود. ومثال آخر، نجد الذكر في الحيوانات يقترب من أنثاه ليشمها، فإن وجدها حاملاً لا يقربها، والحيوان في هذا الأمر مختلف عن الإنسان؛ لأن الحيوان تحركه الغريزة التي تبين له أن العملية الجنسية بين الذكر والأنثى لحفظ النوع، ومادامت الأنثى قد حملت، فالذكر لا يقربها، فاختلف الإنسان عن الحيوان في هذا الأمر؛ فلذة الإنسان في الجنس أعلى من لذة الحيوان؛ لأنها في الحيوان ترضخ للغريزة فحسب، أما في الإنسان فإنها مع الغريزة ترضخ أيضا للاختيار الذي منحه الله للإنسان. ومن رحمة الله - إذن - أن يكون الإنسان مقهوراً في بعض الأشياء ومختاراً في أشياء أخرى، ب «افعل» و «لا تفعل» حتى يختار بين البديلات. وهنا يقول الحق: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّة} أي خذوا ما آتاكم في الكتاب بجد واجتهاد. وكان هذا القول مقدمة لما جاء به العلم في شرح معنى القوة. وقد وصل إلينا خبر العلم قبل أن يصل لنا واقعه المادي، فصرنا نرى الطاقة التي تعطي القوة. وجاء نيوتن ليكشف لنا قانون الجاذبية، القانون الأول والثاني والثالث، واكتشف أن كل جسم يظل على ما هو عليه، فإن كان ساكناً يبق على سكونه إلى أن يأتي محرك يحركه. وإن كان الجسم متحركاً فهو لا يتوقف إلى أن يصدمه صادم أو يمسكه ماسك. وسمّى العلماء هذا التأثير بالقصور الذاتي. أو التعطل، أي أن الساكن يُعَطّلُ عن الحركة إلا أن يحركه محرك، والمتحرك يُعَطّلُ عن السكون إلا أن يوقفه موقف، فأنت إذا ركبت سيارة وأنت قاعد وساكن والسيارة تسير، فإنك تظل ساكناً، إلى أن يوقفها السائق فجأة فتتحرك من مكانك ما لم تمسك بشيء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4434 وفي الأسواق نرى الحواة وهم يؤدون بعض الألعاب ليسحروا أعين الناس فيأتي بمنضدة وعليها مفرش لامع وأملس، ثم يضع عليها أطباقاً وأكواباً، ثم يحرك المفرش بخفة لينزعه بهدوء من تحت الأكواب حتى لا تتحرك بحركة المفرش. وحين جاء نيوتن عقد مقارنة وموازنة بين القوة والحركة والعطالة، وقلنا: إنّ العطالة تعني أن الساكن يتعطل عن الحركة، والمتحرك يتعطل عن السكون، وهذه هي القضية المادية في الكون التي خدمت العلم الفضائي الخاص بسفن الفضاء والصواريخ. ونحن نرى السفن الفضائية ونعتقد أنها تدور في الفضاء بالوقود، رغم أن حجمها لا يسع الوقود الذي يسيرها لسنوات، والحقيقة أنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة إنّها بدون وقود، وهي تندفع إلى الفضاء بقوة الصاروخ إلى أن تخرج إلى الفضاء الكوني، وتظل متحركة ما لم يوقفها موقف. ونرى ذلك في التجربة اليسيرة حين يطلق إنسان رصاصة من مسدس فتنطلق الرصاصة بقوة الطلقة مسافة ثم تقع إن لم يوجد حاجز يصدها، وهي تقع بعد مسافة معينة؛ لأن الهواء يقابلها فيصادم الحركة إلى أن تتوقف، أما في الفضاء الخارجي فليس هناك هواء؛ لذلك لا تتوقف سفينة الفضاء، لأنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة. وهذه السفن الفضائية تعتمد في صعودها إلى الفضاء على الصواريخ لتصل إلى المدار الخارجي. والصواريخ تسير بالغاز المتفلت الذي أخذ القانون الثالث من قوانين نيوتن، وهو القانون القائل: إن كل فعل له رد فعل يساويه ومضاد له في الاتجاه، وحين يسخن هذا الغاز المتفلت يخرج من خلف الصاروخ بقوة فيندفع الصاروخ للأمام. وهكذا نرى قول الحق: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} في الواقع المادي والواقع القيمي. وانظر إلى غير المتدينين تجدهم ساكنين في بعض الأمور ولا يتحركون عنها ولا يجاوزونها، فالواحد منهم لا يصلي، ولا يزكي، ولا يقول كلمة معروف، وهو في ذلك يحتاج إلى قوة تحرك سكونه عن طاعة الله. ونجد أيضا من غير المتدينين من يشرب خمرة. أو يزني أو يسرق أو يرتشي. وهو هنا يحتاج إلى قوة لتصده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4435 عن مثل هذه الحركة. ولذلك نقول: إن الإنسان في أفعاله الاختيارية يحتاج إلى أمرين: الأول إن كان ساكناً عن فعل الخير نأت له بقوة تحركه إلى هذا الخير، وإن كان متحركا إلى الشر نأت له بقوة توقفه عنه، وهذا هو ما يقدمه المنهج الإيماني في «افعل» ، و «لا تفعل» . فمن يتراخى عن الصلاة وسكن عنها نقول له صلّ. ومن يذهب للقمار ويتحرك إليه لا يمكن أن يقف إلا إذا جاءت له قوة توقفه عن ذلك وتمنعه، إذن فالقوة الشرعية تكون في المنهج ب «افعل» ليحرك الساكن، و «لا تفعل» ليقف المتحرك شريطة أن يكون كل من السكون والحركة في ضوء المنهج. ولنعرف أن الله سبحانه وتعالى يسخر لنا الكافرين ليبينوا لنا المستغلق علينا في قوانين الكون، فقد اكتشفوا قوانين القوة المادية وفهمناها نحن في إطار الماديات والمعنويات، وليس اكتشاف الكافرين للقوانين في الكون مدعاة للكسل والاعتماد عليهم، بل علينا أن نشحذ الهمم لنتقدم في العلم الذي يُسير أمور الحياة، ولنعلم أنه لا شيء ينشىء فينا فطرة جديدة؛ لأن البشر من قديم مفطورون على الفطرة السليمة التي تلفتهم إلى أن لهذا العالم صانعاً، فكل ذراتنا وكل اتجاهاتنا تؤكد لنا وجود إله واحد. بل إن الفلاسفة حينما بحثوا وارء المادة تأكد لهم ذلك، وأغلب الفلاسفة كانوا غير مؤمنين، وهم ببحثهم وراء المادة إنما يبحثون عن الخالق الأعظم؛ لأن الإنسان لا يبحث عن شيء لا يظن وجوده. ولأنهم جميعا يعلمون أن الإنسان طرأ على كون، وهذا الكون مقام بهندسة حكيمة، ومخلوق بقوة لا تستطيع قوى البشر جميعا أن تأتي بمثلها، إذن لابد لهذا الكون من الخالق. لقد بيّنا أن القوانين التي تظهر لنا في المادة تتماثل مع قوانين القيم، إلا أن الناس يتهافتون على قانون المادة لأنها تحقق لهم خيراً أو تدفع عنهم شرا، فيأخذون ما ينفعهم ويدعون ويتركون ما يضرهم، ولذلك احتاج الإنسان إلى منهج من السماء ليوضح ويبين له قوانين القيم التي تحقق له السعادة العاجلة في الدنيا والآجلة في الآخرة، أما قوانين المادة في الأرض فتركها الله لنشاط العقل، حتى الذين لا يؤمنون بالله يذهبون إلى قوانين المادة ويصنعونها، ويتهربون من قوانين القيم لأنها تحد من شهوات النفس، وتتعب بمشقة التكليف، فشاء الحق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4436 سبحانه وتعالى أن يقول فيها: { ... خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171] وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطي من قانون المادة ما يقرب لنا قوانين القيم في الفعل ورد الفعل، لنفهم أن كل حركة للشر قد تحبها النفس لأنها تحقق لها شهوة من شهواتها، لكن يجب ألا يغيب عن ذهنك أيها الإنسان أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في الحركة ومضاداً له في الاتجاه، فإن كنت ترتاح في هذا العمل وتحبه وتشتهيه فتذكر جيداً رد الفعل الذي يأتيك بالعقاب عليه، وكذلك مشقات التكليف، حين تفعل الطاعة تكون صعبة عليك ولكن يجب أن تذكر رد الفعل فيها وهو الراحة وحسن الثواب، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية} [الحاقة: 24] وفي هذا القول فعل ورد فعل، الفعل هو العمل الصالح في الأيام التي مضت، ورد الفعل هو الطعام والشراب الهنيء في الآخرة. ولمن اغتر واعتز بنفسه وجبروته وقوته يقول له الحق: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً ... } [التوبة: 82] وهكذا نجد البكاء الكثيف الشديد الكثير نتيجة للضحك القليل. ويأتي الإنسان من هؤلاء يوم القيامة ليقال له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] إن كنت قد فهمت أنك عزيز كريم فأسأت إلى الناس فلسوف تتلقى العقاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4437 ولذلك يقول لنا الحق عن المنهج: {واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وإياكم أن تطرأ عليكم الغفلة من هذه الناحية، فالذي يتعب الناس في مناهج الله أنهم يغفلون عنها؛ لأن الطاعة تكلفهم مشقة وبعض عناء، والمعاصي تكسبهم لذة وشهوة، فأوضح الحق: اذكروا جيدا الفعل ورد الفعل في هذه القيم. ونعلم أن الذِّكْر يحتاج إلى أشياء كثيرة جدا، فالواعظ مثلاً يذكرهم دائماً، وقلنا إن «الوعظ» هو نوع من إعادة التذكير بالإعلام بالحكم، فأنا أعظ من عَلِمَ الحكم؛ لأني أريد أن يفعله، فبعد أن علمه الموعوظ علماً فقط يريد منه الوَاعظ أن ينفذه عملياً. فكلنا نعلم أن الصلاة ركن، وأن الحج ركن، والزكاة ركن من أركان الإسلام، وكلنا جاءنا العلم بذلك، لكن منا من يكسل في تطبيق هذا العلم. ونظل ندق على دماغه بالتذكير والوعظ، وهذا من خيرية أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... } [آل عمران: 110] ولماذا هذا التذكير؟ . يجيب الحق: {تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر ... } [آل عمران: 110] الأمر بالمعروف عظة قولية، والنهي عن المنكر عظة قولية، ويعددها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لبقاء التذكير، وليأخذ كل مسلم منهج الله بقوة، فيقول في الحديث: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان» . إذن فقد نقل الرسول المسألة من الأمر وهو القول والنهي وهو قول أيضاً إلى أن نباشرها فعلاً، فإن لم يستطع الإنسان منا تغيير المنكر بلسانه أو بيده فلينكره بقلبه، ونجد القرآن قد جاء بها أمراً ونهياً، والرسول جاء بها فعلاً، لأن هناك فرقاً بين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4438 المعلومة التي تدخل الذهن، وحمل النفس على مطلوب المعلومة. ولذلك نحن ندرس الدين في مدارسنا، وندرس فيها أيضا الجبر والهندسة، والكيمياء والطبيعة، والمتعب ليس تدريس الدين، بل الذي يتعب الناس هو حمل النفس على مطلوب الدين. لكن التلميذ حين يتعلم الجبر والهندسة أو الكيمياء، فهذه علوم تعطي الإنسان خير الدنيا فيذهب لها، لكن مسألة الدين مسألة قيم؛ لذلك لا يكفي أن نعلم الدين بل لابد أن تنفذ ذلك العلم، وتنفيذ هذه المسألة يكون بالتطبيق في سلوك من أسوة حسنة وقدوة طيبة. وهب أن الذي يُعلم الدين يدرسه معلومة ويدخلها في نفوس التلاميذ، ثم لا يجدون من أثر هذه المعلومة نضحاً على سلوك مَن علَّمها، ماذا يكون الموقف؟ . هنا تضعف ثقة التلميذ في أستاذة، وتضعف ثقته في الدين؛ لأنه لم ير من الدين إلا كلاماً يقال، بدليل أن من يقولونه لا ينفذونه، وفي هذا فشل في تعليم منهج الدين، والخطأ إذن أن الناس يظنون أن منهج الدين يقف عند تعليم المعلومات الدينية، لا. إن تعليم الدين يقتضي تنفيذ ما فيه من معلومات، عكس العلوم الأخرى التي تعطي المعلومة فقط. وإن أراد الإنسان أن ينتفع بها في حياته انتفع، وإن لم يرد فهو حر في ذلك. إذن فالتذكير مرة يكون بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، ومرة يكون بالفعل، «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه» وماذا يعني التغيير باللسان؟ . يعني أن الإنسان إن كان عنده حسن تأد واستعداد للعظة ومعرفة أدب النصح فله أن يقبل على تناول العظة. وليس كل إنسان صالحا لأن ينصح؛ لأن المنصوح يخالف المنهج، والناصح يقف أمامه حتى لا يخالف المنهج، إنه يخرجه عما ألف وأحب، لذلك يجب أن يتلطف الناصح في النصح. ومثال ذلك نجد الطبيب حين يذهب إليه المريض يصف له الدواء، والدواء قديماً كان كله مرًّا. وكانت الناس تأخذ الدواء بصعوبة، ويمسك الكبار الأطفال ليعطوهم الدواء. وحين ارتقت صناعة الدواء، قام الصيادلة بتغليف جرعة الدواء بغلاف يحجب المرارة. ليتلطفوا مع مريض الجسم، فما بالنا بمريض القيم؟ . إنه يحتاج إلى المسألة نفسها. لذلك لابد أن نجعل النصح خفيفاً، ولا نجمع على المنصوح بين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4439 أن نخرجه عما ألف وما يكره من الأساليب، ولذلك قلنا: إن النصح ثقيل، لأنك حين تنصح إنسانا فمعنى ذلك أنك افترضت أنك أفضل سلوكاً منه، وهو أقل منك في ذلك، وهذا هو أول مطب، وينظر لك المنصوح على أنك تفهم أحسن منه. ولهذا قالوا في الأثر: النصح ثقيل فلا ترسله جبلا، ولا تجعله جدلاً. وقيل أيضا: الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان. هكذا يكون التذكير، وإن لم تستطع أن تمنع بالفعل فامنع بالقول؛ لأن التغيير باليد يحتاج إلى سلطة المغيِّر على المغيَّر، وهذا لا يأتي إلا بأن يكون للمغير مقدمة وسابقة مع المغيَّر يثبت فيها المغيِّر أنه يحب مصلحة المغيَّر. وقد يكون ذلك وارداً من غير أن تقول. كأن تكون أباه أو أمه، والأب والأم يقومان برعاية الابن، وتلبية احتياجاته طعاماً ومشرباً ومسكناً ومصروفاً. وكل منهما هو المتولي لمصالح الابن. وإذا كان الناصح ليس له هذه الصلة بالمنصوح، فعليه أن يتلطف له أولاً بما يحب. فحين يطلب منك أمراً تقوم بإجابته إلى طلبه، وتنبهه بعد ذلك إلى ما تريد أن تنصحه إنك قد قدمت له شيئاً من المعروف فيتحمل منك النصح. ومثال آخر: افرض أن ابنك قد طلب منك أن تحضر له ساعة، وبعد ذلك قالت لك أمه: إنه لم يستذكر دروسه حتى الآن. ثم تأتي له بالساعة وتقول له: يا ولد أنت أردت مني ساعة وأحضرتها لك، وتناولها له وتقول: إن أمك قالت لي إنك غير مهتم بدروسك، ولو تذكرت قولها لما أحضرت لك الساعة. وقد توجه له توبيخاً فيضحك لأنك قد حننت قلبه، وبينت له أنك تحبه فيقبل النصح، حتى ولو صفعته قد يقبل لأنه يعلم أنك تحب مصلحته. إذن للتذكير ألوان متعددة: عظة بالقول، وتغيير بالفعل وإنكار بالقلب. {واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} والأصل في التقوى أن تتقي شيئاً بشيء؛ تتقي مؤلماً بجعل وقاية بينك وبينه، وهي تأتي كما علمنا في المتقابلات؛ فالحق سبحانه يقول: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4440 وهو سبحانه وتعالى يقول: { ... واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] [آل عمران: 130] ونجد من يتساءل: كيف يقول: «اتقوا الله» ، «واتقوا النار» ؟ نقول: نعم؛ لأن اتقوا الله تعني اتقوا غضب الله عليكم، واتقوا عذاب الله لكم بأن تجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية، ولابد أن تجعل بينك وبين النار وقاية؛ لأن الحق سبحانه وتعالىَ كما علمنا لَه صفات جلال وصفات جمال، وصفات الجمال هي التي تسعد الإنسان ككونه - سبحانه - «غفوراً» ، و «رحيماً» ، «باسطاً» ، وكما أن لله صفات جمال تعطيك الرغبة والإقبال عليه - سبحانه - فله صفات جلال تعطيك الرهبة، فهو - جل شأنه - جبار منتقم. فاتق الله حتى تحجب عن نفسك متعلقات صفات الجلال التي منها جبار منتقم. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4441 وإذ تنصرف إلى الزمن، أي اذكر وقت أن أخذ الله من بني آدم، والآخذ هو الله، والمأخوذ منه بنو آدم، والشيء المأخوذ هو ذريتهم، هذه هي العناصر. ولنتأمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4441 ذلك بدقة، إن الرب هنا هو الآخذ، وبنو آدم مأخوذ منهم، والمأخوذ هو الذرية. وبنو آدم هم أولاد آدم من لدنه إلى أن تقوم الساعة، وهنا اتحد المأخوذ والمأخوذ منه، ولابد أن نرى تصريفاً في هذا النص؛ لأنه يشترط أن يكون المأخوذ منه كلاً، والمأخوذ بعضه. والمثال: إن أنا أخذتُ منك شيئاً، فالمأخوذ منه هو الكل، والمأخوذ بنفسه هوالبعض. لكننا هنا نجد المأخوذ هو عين المأخوذ منه، وأزال سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الإشكال في هذه الآية فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يرويه أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لما خلق الله أدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وميضاً من نور ثم عرضهم على آدم، فقال: أيْ رَبَّ. من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك. فرأى رجلاً منهم. فأعجبه وميض ما بين عينيه. فقال: أي رب. من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك، يقال له داود، فقال: رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة، فلما قُضي عُمُر آدم جاءه ملك الموت. فقال: أو لم يَبْقَ من عُمُري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدمُ فجحدتُ ذُريته، ونسي فنسيت ذريته. وخطئ آدم فخطئت ذريته» إذن ذرية آدم أُخذت من ظهر آدم. وعرفنا من قبل أنّ كُلاً منا قبلَ أن تحملَ به أمّه كان ذَرَّةً في ظهر أبيه، وأبوه كان ذرّة في ظهر أبيه حتى آدم. وهكذا نجد أنَّ كل واحد مأخوذ من ظهره ذرية، هناك أناس يؤخذون - كذرية - ولا يؤخذ منهم، مثًل من فرض عليهم الله أن يكون الواحد منهم عقيماً، وكذلك آخرُ جيل تقومُ عليه الساعة، ولن ينجبوا. وآدم مأخوذ منه لأنه أول الخلق، وهو غير مأخوذ من أحد. وما بين الأب آدم وآخر ولد؛ مأخوذ ومأخوذ منه. وبذلك يكون كل واحد مأخوذ ومأخوذ منه، وهكذا يستقيم المعنى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4442 والمأخوذ منه آدم ثم كل ولد من أول أولاد آدم إلى الجيل الأخير الذي سينقطع عن النسل. وأوضح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أن ربنا سبحانه وتعالى مسح بيده على ظهر آدم وأخرج منه الذرية، وقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. وبهذا عَلمْنا أنَّ كل ذرّة من الذرات قد أُخذت مما قبلها، وأُخذ منها ما بعدها؛ وكلها مأخوذ ومأخوذ منه، اللهم إلا القوسين؛ القوس الأول: آدم لأنه مأخوذ منه وليس مأخوذاً من شيء، والقوس الثاني: آخر ولد من أولاده مأخوذ وليس مأخوذاً منه؛ لأن الإنسان منا وُجد من حيوان أبيه المنويّ. ولو أن الحيوانَ المَنَويَّ أصابه موت لما أنجب الأب. ومن وُلد من حيوان مَنَوِيَّ لأب، هذا الأب مأخَوذ من حيوان مَنَوِيَّ حيّ من الجد أيضاً، وسلسلها إلى آدم؛ ستجد أن كل واحد منا فيه جزيء حَيّ من لدن آدم لن يدركه موت أبداً. لذلك يقول ربنا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ... } [الأعراف: 172] ولا تقل إن الكل سيكون في ظهره؛ لأن المأخوذ منه هو الأساس الموجود في ظهره، ومادام كل شيء يتكاثر فهو قد وجد من أقل شيءٍ ونعلم أن الأقل يوجد فيه الأكثر مطموراً. وقد أخذ ربنا من ظهور بني آدم الذرية وخاطب الذرية بقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ؟ . وهنا قد يقول قائل: أكان لهذه الذرية القدرة على النطق؛ إنها ذرية تنتظر التكوين الآخر؛ لتتحد مثلاً ب «البويضة» في رحم الأم؟ فنرد عليه ونقول: لماذا تظن أن مخاطبة ربنا لهم أمرُ صعب؟ إن الواحد من البشر يستطيع أن يتَعلَّم عَشْرَ لغاتٍ، ويتزوجَ من أربع سيدات، وكل سيدة ينجب منها ذرية، ويقعد يوماً عند سيدة وذريتها ويعلمهَا اللغة الإنجليزية مثلا، ويجلس مع الأخرى ويعلمها اللغة الألمانية، ويعلم الثالثة وأولادها اللغة العربية وهكذا، بل يستطيع أن يتفاهم حتى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4443 بالإشارة معَ من لا يعرف لغته، وإذا كان الإنسانُ يستطيع أن يعدد وسائل الأداء، ألاَ يقدر أن يعدد وسائل الأداء لمخلوقاته؟ إنه قادر على أن يعدد ويخاطب، ألم يقل الحق تبارك وتعالى للجبال: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ ... } [سبأ: 10] كيف إذن لا يتسع أفق الإنسان لأن يدرك أن الله قادر على أن يخاطب أيّاَّ من مخلوقاته؟ . إنه قادر على أن يخاطب كل مخلوق له بلغة لا يفهمها الآخر. وهو القائل سبحانه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ ... } [الأنبياء: 79] ونعلم أن القرآن الكريم كذلك أن الجبال تسبح أيضاً من غير داود، شأنها شأن المخلوقات جميعها مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ... } [الإسراء: 44] وحتى ذرات يد الكافر تسبح، وإن كان تسبيحها لا يوافق إرادته. وقول الحق سبحانه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ} يبين لنا أن الجبال كانت تردد تسبيح داوود وتلاوته للزبور، ولا يقتصر أمر الحق إلى الجبال بل إلى كل مخلوق، فنحن - على سبيل المثال - نقرأ في القرآن الكريم أن ربنا اوحى إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً من الشجر ومما يعرشون. إذن فلله مع خلقه أدوات خطاب؛ لأنه هو الذي خلق الكون والمخلوقات، وله سبحانه خطاب بألفاظ، وخطاب إشارات، وخطاب بإلهام، وخطاب بوحي، فإذا قرأنا أن الحق تبارك وتعالى قال لذرية آدم: ألست بربكم؟ فهذا يعني أنه قالها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4444 لهم باللغة التي يفهمونها، لأنه هو سبحانه الذي قال للسماء والأرض: { ... ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] ولقد تكلمت النملة وفهم سليمان كلامها، ولو لَمْ يُعْلِم اللهُ سليمانَ كيف يفهم كلامها لما عرفنا أنها تكلمت: {قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ... } [النمل: 18] إنها تفهم ما يفعله البشر حين يدوسون على كائنات صغيرة دون أن يروها، ولكن سليمان نبي من أنبياء الله، ولن يعتدي على خلق الله، والنملة التي تكلمت كانت تحرس بقية النمل. وكذلك تكلم الهدهد ليخبر سيدنا سليمان عن مملكة سبأ وحالة بلقيس وقومها. إذن فالله عَزَّ وَجَلَّ يخاطب جميعَ خلقه، ويجيبُه جميعُ خلقه، فلا تقل: كيف خاطب المولى سبحانه الذر، والذَر لم يكن مكلفاً بعد؟ ولم يحاول العلماء أن يدخلوا في هذه المسألة؛ لأنها في ظاهرها بعيدة عن العقل، ويكفي أن ربنا الخالق القادر قد أبلغنا أنه قد خاطب الذرات قائلا: ألست بربكم؟ . قالوا: بلىَ. ويبدو من هذا القول أن المسألة تمثيل للفطرة المودعة في النفس البشرية. وكأنه سبحانه قد أودع في النفس البشرية والذات الإنسانية فطرةً تؤكد له أنَّ وراءَ هذا الكونِ إلهاً خالقاً قادرا مدبرا. وقديماً قلنا: هب أنَّ طائرةً وقعت في صحراء، وحين أفقت من إغماءة الخوف؛ فكرّت في حالك وكيف أنك لا تجد طعاماً أو شراباً أو أنيساً، وأصابك غمٌّ من هذه الحالة فنمت، ثم استيقظت فوجدت مائدة عليها أطايب الطعام والشراب، ألا تتلفت لتسأل من الذي أقام لك هذه المأدبة قبل أن تمد يدك إلى أطايب الطعام؟ . كذلك الإنسان الذي طرأ على هذا الكون الحكيم الصنع؛ البديع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4445 التكوين؛ ألا يجدرُ بهِ أن يسأل نفسه من خلق هذا الكون؟ . إننا نعلم أن المصباح الكهربي احتاج لصناعته إلى علماء وصناع مهرة كثيرين وإلى إمكانات لا حصر لها لينير هذا المصباح حجرة محدودة، وحين نرى الشمس تنير الكون كله، ولا يصيبها كللٌ أو تعبٌ ولا تحتاج منا إلى صيانة، ألا نسأل من صنعها؟ وخصوصاً أنَّ أحداً لم يدَّع أنه قد صنعها، وقد أبلغنا المولى سبحانه وتعالى بأنه هو الذي خلق الأرض وخلق الشمس وخلق القمر، فإما أن يكون هذا الكلام صحيحاً؛ فنعبده، وإما لا يكون الكلام صحيحاً فنبحث عمن صنع وخلق الكون لنعبده. وبما أن أحداً لم يَدَّعِ لنفسه صناعة هذه الكائنات، فهي تسلم لصاحبها وأنه لا إله إلا الله. إذن فالفطرة تهدينا أن وراء هذا الكون العظيم قدرةً تناسب هذه العظمة؛ قدرة تناسب الدقة؛ هذه الدقة التي أخذنا منها موازين لوقتنا؛ فقد أخذنا من الأفلاك مقياساً للزمن؛ ولولا حركة الأفلاك التي تنظم الليل والنهار؛ لما قسمنا اليوم إلى ساعات، ولولا أن حركة الأفلاك مصنوعة بدقة متناهية؛ لما استطعنا أن نَعُدَّها مقياساً للزمن. وحينما نستعرض قول الحق سبحانه وتعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] نجد أن كلمة «بحسبان» وردت مرتين، فقد أبلغنا الحق سبحانه وتعالى: أنه جعل الشمس والقمر بحسبان، أو حسبانا، وهما من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه ولم يخلقهما عبثا بل لحكمة عظيمة. {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ... } [يونس: 5] فقد أخذنا من دورة الشمس والقمر مقياساً، ولم نكن لنفعل ذلك إلا أن كانت مخلوقة بحساب؛ لأن الكون مصنوع ومخلوق على هذه الدرجة من الدقة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4446 والإحكام لهذا يجب أن نلتفت إلى أن هناك قدرة وراء هذا العالم تناسب عظمته. لكن أنعرف ماذا تريد هذه القوة بالعقل؟ إن أقصى ما يهدينا العقل هو أن نعرف أنَّ هناك قوةً ولا يعرف العقل اسم هذه القوة، وكذلك لم يعرف العقل مطلوبات هذه القوة، وكان لابد أن يأتي لنا رسولٌ من طرف تلك القوة ليقول لنا مرادَها، وجاء الموكب الرسالي فجاءت الرسل ليبلغ كلُّ رسولٍ مرادَ الحق من الخلق، فقال كلُّ رسول: إن اسم القوة التي خلقتكم هو الله، وله مطلق التصرف في هذا الكون، ومراد الحق من الخلق تعمير هذا الكون في ضوء منهج عبادة الحق الذي خلق الإنسان والكون. وكل هذه الأمور ما كانت لتدرك بالعقل. وهكذا نعلم أن منتهى حدود العقل هو إيمانٌ بقوةٍ خالقه وراءَ هذا الكون، وتستوي العقول الفطرية في هذه المسألة. أما اسم القوة والمنهج المطلوب لهذا الاله فلابد له من رسول. وأرهق الفلاسفة أنفسهم في البحث عن هذه القوة ومرادها. وسموها مجال البحث «الميتافيزيقا» أي «ماوراء الطبيعة» وعادة ما يقابل الفلاسفة من يسألهم من أهل الإيمان: ومن الذين قال لكم إن وراء المادة قوة يجب أن تبحثوا عنها؟ . وغالباً ما يقول الفيلسوف منهم: إنها الفطرة التي هدتني إلى ذلك. وتشعبت الفلسفة إلى مدارس كثيرة. وحاول أهل الفلسفة أن يتصوروا هذه القوة، وهذا هو الخلل؛ لأن الإنسان يمكنه أن يعقل وجود القوة الخالقة، ولا يمكن له أن يتصورها. وغرق الكثيرون من الفلاسفة في القلق النفسي المدمَّر. وأنقذ بعضهم نفسه بالإيمان. وكان يجب على كل فيلسوف أن يرهف أذنه ويسمع ما قاله الرسل ليحلّوا لنا هذا اللغز، بدلاً من إرهاق النفس بالخلط بين تعقل وجود قوة وراء المادة، وبين تصور هذه القوة. وإنني في هذا الصدد أضرب هذا المثل وأرجو آلا تنسوه أبداً: إننا إذا كنا قاعدين في حجرة، والحجرة مغلقة الأبواب. ودق الجرس وكلنا يجمع على أن طارقاً بالباب؛ وهذا الشيء المجمع عليه من الكل يَعدُّ تعقلاً، لكن أنستطيع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4447 أن نتصور من الطارق؟ رجل؟ امرأة؟ شاب؟ شيخ؟ . المؤكد أننا سنختلف في التصور وإن اتحدنا في التعقل. ونقول للفلاسفة: أنتم أولى الناس بأن ترهفوا آذانكم لمجيء رسول يحل لكم لغز هذا الكون، واسم القوة التي وراء هذا الكون، ومطلوب هذه القوة منا. والحق سبحانه وتعالى يهدينا إلى هذا عبر الرسل، ويقول هنا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ ... } [الأعراف: 172] وهذه شهادة الفطرة، ونحن نرى أن الفطرة تكون موجودة في الطفل المولود الذي يبحث بفمه عن ثدي أمه حتى ولو كانت نائمة ويمسك الثدي ليرضع بالفطرة وبالغريزة، وهذه الفطرة هي التي تصون الإنسان منا في حاجات كثيرة، وفي رد فعل الانعكاسي؛ مثال ذلك حين تقرب أصبعك من عين طفل، فيغمض عينيه دون أن يعلمه أحد ذلك. وقد أشهدنا الحق على وحدانيته ونحن في عالم الذر: {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} ويقال «أشهدته» أي جعلته شاهداً، والشهادة على النفس لَوْنٌ من الإقرار، والإقرار سيد الأدلة؛ لأنك حين تُشهد إنساناً على غيره؛ فقد يغيّر الشاهد شهادته، ولكن الأمر هنا أن الخلق شهدوا على أنفسهم وأخذ الله عليهم عهد الفطرة خشية أن يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} فحين يأتي يوم الحساب، لا داعي أو يقولَن أحد إنني كنت غافلاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4448 ويتابع المولى سبحانه: وتعالى قوله: {أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4449 كأن الحق يريد أن يقطع عليهم حجة مخالفتهم لمنهج الله، فينبه إلى عهد الفطرة والطبيعة والسجية المطمورة في كل إنسان؛ حيث شهد كل كائن بأنه إلهٌ واحدٌ أحَدٌ، ويذكرنا سبحانه بهذا العهد الفطري قبل أن توجد أغيار الشهوات فينا. {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} وهل كان أحد من الذر وهو في علم الله وإرادته وقدرته يجرؤ على أن يقول: لا لست ربي؟ . طبعاً هذا مستحيل، وأجاب كل الذر بالفطرة «بلى» . وهي تحمل نفي النفي، ونفي النفي إثبات مثل قوله الحق: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} [التين: 8] و «أليس» للاستفهام عن النفي؛ ولذالك يقال لنا: حين تسمع «أليس» عليك أن تقول «بلى» وبذلك تنفي النفي أي أثبتّ أنه لا يوجد أحكم الحاكمين غيره سبحانه، وهنا يقول الحق: «ألست بربكم» ؟ وجاءت الإجابة: بلى شهدنا. ولماذا كل ذلك؟ قال الحق ذلك ليؤكد لكل الخلق أنهم بالفطرة مؤمنون بأن الله هو الرب، والذي جعلهم يغفلون عن هذه الفطرة تحرُّك شهواتهم في نطاق الاختيار، ومع وجود الشهوات في نطاق الاختيار إن سألتهم من خلقهم؟ يقولون: الله، ومادام هو الذي خلقهم فهو ربهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4449 {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله ... } [العنكبوت: 61] وجاء الحق بقصة هذه الشهادة حتى لا يقولَنَّ أحدُ: {إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ} وبذلك نعلم أن أعذار العاصين وأعذار الكافرين التي يتعللون ويعتذرون بها تنحصر في أمرين اثنين: الغفلة عن عهد الذر، وتقليد الآباء. وما الغفلة؟ وما التقليد؟ . الغفلة قد لا يسبقها كفر أو معصية، ويقلدها الناس الذين يأتون من بعد ذلك. والمثال الواضح أن سيدنا آدم عليه السلام قد أبلغ أولاده المنهج السوي المستقيم لكنهم غفلوا عنه ولم يعد من اللائق أن يقول واحد منهم إن أباه قد أشرك. ولكن جاء هذا الأمر من الغفلة، ثم جاء إشراك الآباء في المرحلة الثانية؛ لأن كل واحد لو قلد أباه في الإشراك؛ لانتهى الشرك إلى آدم، وآدم لم يكن مشركاً، لكن الغفلة عن منهج الله المستقيم حدثت من بعض بني آدم، وكانت هذه الغفلة نتيجة توهم أن هناك تكاليف شاقةً يتطلبها المنهج، فذهب بعض من أبناء آدم إلى ما يحبون وتناسوا هذا المنهج ولم يعد في بؤرة شعورهم؛ لأن الإنسان إنما ينفذ دائماً الموجود في بؤرة شعوره. أما الشيء الذي سيكلفه مَشقَّة فهو يحاول أن يتناساه ويغفل عنه، هكذا كانت أول مرحلة من مراحل الانفصال عن منهج الله وهي الغفلة في آبائهم. وهنا يضاف عاملان اثنان: عامل الغفلة، وعامل الأسوة في أهله وآبائه. ولم تكن القضايا الإيمانية في بؤرة الشعور، ولذلك يقال: الغالب ألا ينسى أحد ما له ولكنه ينسى ما عليه؛ لأن الإنسان يحفظ ما له عند غيره في بؤرة الشعور، ويُخرج الإنسان ما عليه بعيداً عن بؤرة الشعور. ولأن البعض قد يتصور أن في التكليف الإِيماني مشقة، لذلك فهو يحاول أن يبعد عنه وينساه، وكذلك يحاول هذا البعض أن ينأى بنفسه عن هذه التكاليف. ونأخذ المثل من حياتنا: قد نجد إنساناً مَدِيناً لمحل بقالة أو لنجاَّرٍ وليس عنده مال يعطيه له، لذلك يحاول أن يبتعد عن محل هذا البقال، أو أن يسير بعيدا عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4450 أعين النجار. وهكذا يكون افتعال الغفلة في ظاهره هو أمراً مَنْجِياً من مشقات التكاليف، لكن البشر في ميثاق الذر قالوا: {بلى شَهِدْنَآ} وقد أُخِذَ ذلك العهدُ عليهم، وأُقرُّوا به واستشهد الحقُّ بهم، على أنفسهم حتى لا يقولوا يوم القيامه {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} لأنه لا يصح أن نغفل عن هذا العهد أبداً، ولكنَّ الحقَّ تبارك وتعالى عرَفَ أنَّنا بشرٌ، وقال في أبينا آدم: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ ... } [طه: 115] ومادام آدم قد نسي، فنسيانه يقع عليه حيث بيَّن وأوضح لنا الإسلام أن الأمم السابقة على الإسلام تؤخذ بالنسيان، وجاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بخبر واضح: فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» والخطأ معلوم، كأن يقصدَ الإنسانُ شيئاً ويحدث غيرهُ، والنسيانُ ألاَّ يجيءَ الحكمُ على بال الإنسان. والمُكْرَهُ هو من يقهره من هُو أقْوى منه بفقدان حياته أو بتهديد حريته وتقييدها ما لم يفعل ما يؤمر به، وفي الحالات الثلاث يرفع التكليف عن المسلم. وذكر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله أكرم الأمة المحمدية بصفة خاصة برفع ما ينساه المسلم. وهذا دليل على أن من عاشوا قبل بعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يؤاخذون به. وإذا سلسلنا من قبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نصل إلى سيدنا آدم الذي خُلق بيد الله المباشرة، بينما نحن أبناء آدم مخلوقون بالقانون؛ أن يوجد رجل وتوجد امرأة وتوجد علاقة زوجية فيأتي النسل. وقد كلف الله آدم في الجنة التي أعدها له ليتلقى التدريب على عمارة الأرض بأمر ونهي؛ فقال له سبحانه وتعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4451 {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة ... } [البقرة: 35] إذن فقصارى كل تكليف هو أمر في «افعل» ، ونهي في «لا تفعل؛، وقد نسي آدم التكليف في الأمر الواحد البسيط وهو المخلوق بيد الله والمكلف منه بأمر واحد أن يأكل حيث يشاء ويمتنع عن الأكل من الشجرة، وإن لم يتذكر آدم ذلك، فما الذي يتذكره؟ وما كان يصح أن ينسى لأنه مخلوق بيد الله المباشرة ومكلف من الله مباشرة، والتكليف وإن كان بأمرين؛ لكن ظاهر العبء فيه على أمر واحد؛ الأكل من حيث شاءا هو أمر لمصلحة آدم، و» لا تقرب «هو تكليف واحد. - ولذلك قال الحق في آية أخرى: { ... وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] وهو عصيان لأنه نسيان لأمر واحد، ما كان يصح أن ينساه. لعدم تعدده ويقول الحق تبارك وتعالى: {أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 173] جاء هذا القول لينبهنا إلى أن الغفلة لا يجب أن تكون أسوة لأن التكاليف شاقة، والإنسان قد يسهو عنها فيورث هذا السهو إلى الأجيال اللاحقة فيقول الأبناء: {أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} . وهذا يعني أن إيمانهم هو إيمان المقلد، رغم أن الحق قد أرسل لهم البلاغ، وإذا كان الآباء مبطلين للبلاغ بالمنهج فلا يصح للأبناء أن يغفلوا عن صحيح الإيمان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4452 ويقول الحق بعد ذلك: {وكذلك نُفَصِّلُ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4453 والآيات التي فصلها الحق هنا هي العهود الخاصة، ورفع الجبل ليأخذوا التوارة بقوة، وكذلك العهد العام الذي اشترك فيه كل الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، وجاء سبحانه بكل ذلك ليؤكد لهم أن قضية الإيمان عقيدةً يجب أن تكون في بؤرة الشعور، فمن غفل فليتذكر، ومن قلد آباه في شيء مخالف للمنهج القويم، فليرجع عن هذا التقليد؛ لأن التكاليف الإيمانية تكاليف ذاتية، وسبحانه لا يكلفك وأنت في حاجة إلى أبيك، أو إلى أمك. لكنه يكلفك من بعد البلوغ؛ لأنك بعد البلوغ تستقل بذاتيتك استقلالا كاملا مثل والدك، ومادمت مكتمل الرجولة كوالدك وصالحا للإنجاب فلا ولاية إيمانية لأبيك عليك أبداً، فلا تقل إنني أقلد أبي ولو كان على غير المنهج السليم؛ لأن مثل هذا القول يمكن أن يكون مقبولاً لو كان التكليف للإنسان وهو في دور الطفولة، حيث الأب يسعى لإطعام أبنائه ورعايتهم، لكن التكليف لا يأتي للإنسان إلا بعد البلوغ، ومعنى بعد البلوغ: أنك صالح لإنجاب مثلك ورعاية نفسك. ولذلك يطلب الحق سبحانه وتعالى من الآباء أن يدربوا أبناءهم ويعودوهم على مطلوبات التكليف قبل مجيء أوان تكليف الله، ويقول النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع. . إلخ» الأب إذن يأمرُ ويُعاقب قبل أوان التكليف ليتدرب الأبناء عليه ويصير دربة سهلة لا يتعب منها الإنسَان بعد البلوغ. {وكذلك نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . أي أن على الغافل أن يرجع عن غفلته فيتذكر، وأن يرجع المقلد لآبائه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4453 عن التقليد، ويقتنع اقتناعاً، مصداقاً لقوله الحق: {لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً ... } [لقمان: 33] ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4454 ولأنهم قالوا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} ، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا خبر هؤلاء فيقول: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا} . والنبأ هو الخبر المهم وله جدوى اعتبارية ويمكن أن ننتفع به وليس مطلق خبر. ولذلك يقول سبحانه وتعالى عن اليوم الآخر: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 1 - 2] كما يقول {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا} ، كأن هذا النبأ كان مشهوراً جداً، ويقال: إنه قد قيل في «ابن بعوراء» أو أمية بن أبي الصلت، أو عامر الراهب، أو هو واحد من هؤلاء، والمهم ليس اسمه، المهم أنّ إنساناً آتاه الله آياته ثم انسلخ من الآيات، فبدلاً من أن ينتفع بها صيانة لنفسه، وتقرباً إلى ربه {فانسلخ مِنْهَا} واتبع هواه ومال إلى الشيطان. وكلمة «انسلخ» دليل على أن الآيات محيطة بالإنسان إحاطة قوية لدرجة أنها تحتاج جبروت معصية لينسلخ الإنسان منها؛ لأن الأصل في السلخ إزاحة جلد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4454 الشاة عنها، فكأن ربنا يوضح أنه سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الآيات فانسلخ منها، وهذا يعني أن الآيات تحيط بالإنسان كما يحيط الجلد بالجسم ليحفظ الكيان العام للإنسان؛ لأن هذا الكيان العام فيه شرايين، وأوردة، ولحم، وشحم، وعظام. وجعل الله التكاليف الإيمانية صيانة للإنسان، ولذلك سمي الخارج عن منهج الله «فاسقاً» مثله مثل الرطبة من البلح، فبعد أن تضرب الشمس البلحة يتبخر منها بعض من الماء، فتنكمش ثمرة البلحة داخل قشرتها وتظهر الرطبة من القشرة، ولذلك سمي الخارج عن المنهج «فاسقاً» من فسوق الرطبة عن قشرتها، والله عَزَّ وَجَلَّ يقول هنا: {ءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا} . وكان يجب ألا يغفل عنها، لأن الإتيان نعمة جاءت ليحافظ الإنسان عليها، لكن الإنسان انسلخ من الآيات. ونعرف جميعاً ثوب الثعبان وهو على شكل الثعبان تماماً، ويغير الثعبان جلده كل فترة، ولا ينخلع من الجلد القديم إلا بعد أن يكون الجلد الذي تحته قد نضج، وصلح لتحمل الطقس والجو، وكذلك حين يندلق سائل ساخن على جلد الإنسان، تلحظ تورم المنطقة المصابة وتكون بعض المياه فيها، وله أفرغ الإنسان هذه المياه تصاب هذه المنطقة بالتهاب، أما إذا تركها فهي تحمي المنطقة المصابة إلى أن يتربى الجلد تحتها وتجف وتنفصل عن الجسم، وكذلك نعلم أن الشاة - مثلاً - لا تسلخ نفسها. بل نحن نسلخها، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار ... } [يس: 37] فكأن الليل كان مجلداً ومغلفاً بالنهار، والليل أسود، والنهار فيه الضوء، ونعلم أن اللون الأسود ليس من ألوان الطيف، وكذلك اللون الأبيض ليس من ألوان الطيف؛ لأن ألوان الطيف: الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق، النيلي، البنفسجي، واللون الأسود يأخذ ألوان الطيف ويجعلها غير مرئية، لأنك لا ترى الأشياء إلا إذا جاءت لك منها أشعة لعينيك، واللون الأسود يمتص كل الأشعة التي تأتي عليه فلا يرتد إلى العين شعاع منها فتراه مظلماً. والأبيض هو مزيج من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4455 ألوان متعددة إن مزجتها مع بعضها يمكنك أن تصنع منها اللون الأبيض، وهكذا نعلم أن الأبيض مثله مثل الأسود تماماً، فالأسود يمتص الأشعة فلا يخرج منه شعاع لعينيك، والأبيض يرد الأشعة ولا يخرج منه شعاع لعينيك. وقوله الحق: {نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} كأن سواد الليل جاء يغلف بياض النهار. وإذا انسلخ من آتاه خبر الإيمان عن المنهج يقول الشيطان: إنه يصلح لأن يتبعني، وكأن الشيطان حين يجد واحداً فيه أمل، فهو يجري وراءه مخافة أن يرجع إلى ما أتاه الله من الكتاب الحامل للمنهج، ويزكي الشيطان في نفس هذا الإنسان مسألة الخروج عن منهج ربنا. وقلنا من قبل: إن المعاصي تأتي مرة من شهوة النفس، ومرة من تزيين الشيطان وأوضحنا الفارق، وقلنا: إن الشيطان لا يجرؤ عليك إلا إن أوضحت للشيطان سلوكك أن له أملاً فيك، لكن إن اهتديت وأصلحت من حالك فالشيطان يوسوس للإنسان في الطاعة ويحاول أن يكرهه فيها، والشيطان لا يذهب - مثلا - إلى الخمارة، بل يقعد عند الصراط المستقيم ليرى جماعة الناس التي تتجه إلى الخير، أما الاخرون فنفوسهم جاهزة له. إذن فالشيطان ساعة يرى واحداً بدأ في الغفلة عن الآيات فهو يلاحقه مخافة أن تستهويه الآيات ثانية، ولذلك لابد لنا أن نفرق بين الدافع إلى المعصية هل هو من النفس أم من نزغ الشيطان، فإن جاءت المعصية وحدثتك نفسك بأن تفعلها ثم عزت عليك تلك المعصية لأي ظرف طارئ ثم ألححت عليها ذاتها مرة ثانية، فاعلم أنها شهوة نفسك. لكن إن عزت عليك ثم فكرت في معصية ثانية فهذا من نزغ الشيطان؛ لأن الشيطان لا يريدك عاصياً بمعصية مخصوصة، بل يريدك بعيداً عن المنهج فقط، لكن النفس تريد معصية بعينها وتقف عندها، فإن رأيت معصية وقفت عندها نفسك، فاعلم أنها من نفسك، وإن امتنعت عليك معصية وتركتها، ثم فكرت في معصية ثانية. فهذا نزغ من الشيطان - ويقول الحق: { ... فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين} [الأعراف: 175] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4456 الغاوي والغَوِيّ هو من يضل عن الطريق وهو الممعن في الضلال، ونعلم أن الهدى هو الطريق الموصل للغاية، ومن يشذ عن الطريق الموصل للغاية يضل أو يتوه في الصحراء. وهو الذي يُسمى «الغاوي» ، ومادام من الغاوين عن منهج الله فالفساد ينشأ منه لأنه فسد في نفسه ويفْسد غيره. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4457 وهنا أمران اثنان، الرفعة: وهو العلو والتسامي، ويأتي بعدها الأمر الثاني وهو الإخلاد إلى الأرض أي إلى التسفل، والفعلان منسوبان لفاعلين مختلفين. {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ} ، والفعل رفع هنا مسند لله. ولكنه اختار أن يخلد في الأرض. وجاء الأمر كذلك لأن الرفعة من المعقول أن تنسب لله. لكن التسفل لا يصح أن يُنسب لله، وكان كل فعل هو بأمر صاحب الكون. وربنا هنا يرفع من يسير على المنهج، وحين يقول الحق تبارك وتعالى {وَلَوْ شِئْنَا} أي أنها مشيئتنا. فلو أردنا أن نرفعه كانت المشيئة صالحة، لكن هذا الأمر ينقض الاختيار، والحق يريد أن يُبقَي للإنسان الاختيار، فإن اختار الصواب فأهلا به وجزاؤه الجنة، وإن أراد الضلال فلسوف يَلْقى العذاب الحق، ولمزيد من الاعتبار بقصص القرآن اقرأ معي قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4457 {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 65 - 66] ورغم أن موسى رسول من عند الله إلا أنه لم يتأبّ على أن عبداً من عباد الله تقرب إلى الله فاتبعه موسى ليقول له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} . وفي هذا تأكيد على رغبة موسى أن يستزيد بالعلم ممن أعطاه الله العلم. وجاء القرآن بهذه القصة ليعلمنا أدب التعلم. وماذا قال العبد الصالح؟ لقد عذر موسى وقال: {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 67 - 68] أي أنك يا موسى لن تصبر لا لنقص فيك، بل لأنك سترى أمورا لا تعرف أخبارها. لكن سيدنا موسى قال له لا: {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً} وأصرّ موسى أن يتبع العبد الصالح وأنه لن يعصي له أمرا، واشترط العبد الصالح ألا يسأله سيدنا موسى عن شيء إلا أن يحدثه العبد الصالح. وكان كل ذلك مجرد كلام نظري، فيه أخذ ورد، وحين جاء الواقع تغير الموقف تماما. بعد أن ركبوا في السفينة وخرقها العبد الصالح، لم يصبر سيدنا موسى بل قال: { ... لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71] وهكذا أثبتت التجربة العملية أن موسى لم يصبر على أفعال العبد الصالح، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4458 وحين ذكره العبد الصالح بما وعد به من ألا يسأل، تراجع موسى، وتكرر السؤال، وتكرر التذكير. إلى أن أوضح العبد الصالح لموسى كل أسرار ما لم يحط به علما وهنا يقول الحق: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} لماذا؟ . لأن مشيئة الله مشيئة مطلقة، يفعل ما يريده، ولكنه سبحانه قد سبق منه أن جعل للاختيار جزاءً، لهذا لم يرفعه مع أنه مخالف، لأنها سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وسنة الله أن من عمل عملاً طيباً يثيبه الله عليه. ومن عمل سوءاً يعاقبه، ومشيئته سبحانه مطلقة، ولا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه. وبمقضى مشيئة الله فهو يعذب المذنب بعدله ويثيب الطائع بفضله، وله سبحانه مطلق الإرادة فهو عزيز، وحكيم في كل فعل. {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ ... } [الأعراف: 176] و {أَخْلَدَ إِلَى الأرض} ، أي أنه اختار أن ينزل إلى الهاوية، رغم أن الحق هدى الإنسان وبين له طريق الخير ليسلكه فيصعد إلى العلو، والحق يقول: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... } [الأنعام: 151] ونخطئ حين نفهم أن «تعالوا» بمعنى «أقبلوا» فقط وهذا فهم ناقص، إنها دعوة للقبول وإلى العلو، لأنه سبحانه وتعالى يشرع لنا حتى لا نلزم منهج الأرض السفلى. بل نرتقي ونأخذ منهج الله الذي يضمن لنا العلو. وكأنه سبحانه يقول: تعالوا وتساموا في أخذ منهجكم من الله العلي الأعلى وإياكم أن تأخذوا منهجكم مما وضعه البشر ويناقض ما جاء في شرع الله، لأن في هذا تسفلا ونزولا إلى الحضيض. {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ ... } [الأعراف: 176] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4459 ويقال: «حملت على الكلب» ، فأنت حين تجلس ويقبل الكلب عليك وتزجره وتطرده وتنهره، فهذا تفسير لقوله: «تحمل عليه» ، أي أنك تحمل عليه طرداً أو زجراً؛ لذلك يلهث، وأن تركت الكلب بدوح حمل عليه طرداً أو زجراً فهو يلهث، لأن طبيعته أنه لاهث دائماً، وهذه الخاصية في الكلب وحده، حيث يتنفس دائماً بسرعة مع إخراج لسانه. ونعلم أن الحيوانات لا تلهث إلا أن فزعت فتجري، لتفوت من الألم أو من العذاب الذي يترصدها من كائن آخر، وحين يجري الحيوان فهو يحتاج لطاقة، فيدق القلب بشدة ليدفع الدم بما فيه من غذاء إلى كل الجسم، ولابد للقلب أن يتعاون مع الرئة التي تمد الدم بالهواء. ونلحظ أن الكائن الحي حين يجلس برتابة فهو لا يلحظ تنفسه، لكن إذا جرى يلحظ أن تجويف الصدر أو سعة الصدر تنقبض وتنبسط لتسحب «الأوكسجين» من الهواء لتصل به للدم بكمية تناسب الحركة الجديدة، فيحاول أن يتنفس أكثر. ولا تفعل الحيوانات مثل هذه المسألة إلا إذا كانت جائعة أو متعبة أو مهاجمة، لكن الكلب وحده هو الذي يفعلها، جائعا أو شبعان، عطشان أو غير عطشان، مزجوراً أو غير مزجور، إنه يلهث دائماً. ولماذا يشبهه سبحانه بالكلب اللاهث؟؛ لأن الذي يظهر بهذه الصورة تجده مكروهاً دائماً؛ لأنه متبع لهواه، وتتحكم فيه شهواته. وحين تتحقق له شهوة الآن، يتساءل هل سيفعل مثلها غداً؟ وتتملك الشهوة كل وقته، لذلك يعيش في كرب مستمر، لأنه يخاف أن يفوته النعيم أو أن يفوت هو النعيم، ويصير حاله كحال الكلب يلهث آمناً أو غير آمن، جائعاً أو غير جائع، عطشان أو غير عطشان. { ... فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4460 هكذا يكون مصير من كذَّب بالآيات. وقول الحق: {فاقصص القصص} يوضح لنا أن الله لا يريد أن يعلمنا تاريخاً، لكنه يعلمنا كيف نأخذ العبرة من التاريخ، بدليل أنه يكرر القصة أكثر من مرة وكل مرة يأتي سبحانه بلقطة جديدة، لتعدد ما في القصة الواحدة من العبر، ولو أنه أراد أن يقص علينا التاريخ لقال لنا روايته مرة واحدة. ونجد في القرآن الكثير من قصص الحق مع الباطل، ومن قصص المبطلين مع المحقين، ومن قصص المعاندين مع الرسل؛ لأن القصة أمر واقعي، والتقنين للمناهج أمر لفظي، فيريد سبحانه وتعالى أن يوضح لنا المنهج المناسب للواقع؛ لأن واقع الحياة يعطي القصة القولية حرارة وسخونة فلا يظل المنهج مجرد كلام نظري معزول عن الواقع. وهكذا بَيّن الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الآية، أنه سبحانه قد أنزل علم منهجه بواسطة الرسل إلى بعض خلقه، فمنهم من يأخذ منهج الله بالاستيعاب أولاً، وتوظيف ما علم ثانياً، وبذلك يرتفع من منطق الأرض إلى منطق السماء. ومن يعطيه الله ذلك المنهج، ما كان يصح له أن يترك ارتفاعه إلى السماء، ليهبط إلى مستوى الأرض. وهذا ما يفعله البشر حين يقننون لأنفسهم، ويضعون نظم الحياة على وفق هواهم، وعلى وفق نظمهم، ويتركون منهج الله الذي خلقهم وصنعهم ووضع لهم قانون صيانتهم. وهذا كلام نظري له واقع في ابن «باعوراء» ، هذا الذي آتاه الله العلم، ولكنه أخلد في الأرض ولم يتبع ما علم، فانسلخ من المنهج كما تنسلخ الشاة من جلدها وقال فيه الحق: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ ... } [الأعراف: 176] ومن يريد أن يرفعه الله إلى السماء بالوحي بالمنهج ثم يهبط إلى الأرض نجد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4461 الحق سبحانه وتعالى يمثل حاله بحال الكلب، مع الفارق بين الاثنين؛ لأن الكلب يلهث غريزة. فهو غير مذموم حين يلهث وهو مطرود، ويلهث غير مطرود فهذه غريزة فيه، ولا يذم على هذه ولا على تلك، لكن الإنسان الذي فطره الله على حب الخير وميز غرائزه بمنهج عقلي يصون حركته ما كان يصح له أن يفعل ذلك ولا ينبغي أن تقولوا: وما ذنب الكلب في أنه يلهث، ويضرب به المثل في الكفر؟ لأن الكلب يفعلها غريزة، وهو بغير تكليف فيفعل ما يشاء، أما الإنسان الذي ارتفع بكفره وميزه الله بأن يختار بين البديلات ما كان يصح له أن يصل إلى هذا المستوى، ومثل هذا السلوك في الكلب محمود فيه لأن طبيعته هكذا، وإياك أن تقول: لماذا ربنا يضرب المثل بأشياء وما ذنبها هي؟ والحق - سبحانه - هو القائل عن اليهود: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً ... } [الجمعة: 5] هل الحمار حين يحمل أسفاراً يستحق الذم لأنه لم يفقه ما في الأسفار؟ الجواب لا؛ لأن مهمته ليس منها فقه وفهم ما في الأسفار، بل مهته أن يحمل ما عليه فقط، وكأن الحق يقول: لا تكونوا مثل الحمار الذي يكتفي من الخير بأن يحمله، ولكن أريد منكم أن تحملوا المنهج وأن تنتفعوا بما يحويه من التشريع. إذن فهذه الأمثلة ليست ذماً للكلب، ولا هي ذما للحمار. إنما ذم لمن يتشبه بهما؛ لأنه نزل إلى مرتبة لم يرده الله لها، وأراد الله المثل فيها بشيء لا تذم منه، ولكنه مذموم من الإنسان. والإنسان الذي لا يتبع منهج الله يكون مضطرب الحركة في الحياة، حتى وإن كان في نعمة، لأنه معزول عن الله، ومادام معزولاً عن الله تجده دائم التساؤل: أيدوم لي هذا النعيم أو لا يدوم؟ ويعيش دائما في قلق ورعب مخافه أن يفوت النعيم أو ألا يدوم له النعيم، ومثله كالكلب يلهث حال راحته ويلهث حال تعبه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4462 {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . إذن حين يضرب الله لنا مثلاً من الأمثال الواقعية في هذا الرجل المسمى «ابن باعوراء» ، فسبحانه يعطينا واقعاً لما حدث بالفعل. أي أن الذي يريد الله أن يرفعه بما علمه من منهج فانسلخ من دينه فهو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، ولستم بدعاً في هذا، فالله يريد أن يرفعكم بمنهج السماء وأنتم تخلدون إلى الأرض، وقد حدث هذا مع ابن باعوراء، وكلمة «مثل» إذا سمعتها هي من مادة ال «م» وال «ث» وال «لام» ، وتنطق كما يأتي: إما أن تنطقها مثْل «يكسر الميم وسكون الثاء» ، وإما أن تنطقها مَثَل «بفتح الميم والثاء» ، والمَثْلَ هو المشابه والنظير، فتقول: فلان مِثْل فلان في الكرم، في العلمَ، في الَطول، في العرض، وبذلك أعطيت تشَبيه ما هو مجهول للمخاطب بما هو معلوم له. والحق سبحانه يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11] أي لا أحد يشبهه في شيء؛ لأنه مَنَزّه في الذات والصفات والأفعال. وأيضاً نقول: هذا مَثَل هذا؛ أي أن فلاناً المشبه به يكون أعلى منه فيما يشبهه به، لكن الناس لا تعرف ذلك. وإن كان المشبه به ذائع الصيت؛ بحيث يجري اسمه على كل لسان؛ فنحن نقول: إنَّه مَثَلٌ؛ كقولنا عن الكريم: «هو حاتم» لأن شهرة حاتم في الكرم جعلته مَثَلاً. والفرق أنك إذا قلت في فلان إنه يشبه حاتماً في الكرم، فقد تكون أول من يخبر عنه، ولك أن تأتي بواحد له شهرة ذائَعة الصيت على كل لسان؛ فهذا مَثَل، كأن تقول: مَثَل حاتم في الكرم، أو مَثل عنترةَ في الشجاعة. والمَثَل في الذكاء إياس، لأن كل واحد منهم مشهور بصفة، ولذلك لما مدح الشاعر الخليفة قال فيه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4463 إقدام عمرو (في شجاعته) في سماحة حاتم (أي الطائي) في حلم أحنف (الأحنف بن قيس وكان مشهوراً بالحلم عند العرب) وفي ذكاء إياس. وقال رجل من القوم: كيف تُشَبَّهُ الأميرَ بصعاليك العرب؟ إن الأمير فوق من ذكرت جميعاً. ما عمرو بالنسبة للأمير؟ { وما حاتم بالنسبة للأمير؟} فقال الشاعر: وشبهه المدّاح في الباس والندى ... بمن لو رآه كان أصغر خادم ففي جيشه خمسون ألفاً كعنتر ... وفي خُزنه أُلف ألف كحاتم أي أن عنده أمثالَ حاتمٍ وأمثال عنترة. فما كان منه إلا أن أسعفته ذاكرته وبديهيته؛ فقال: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس وكأن الشاعر يقول: أنا ضربت بهم المَثل لأنهم أصبحوا المثل المشهور والأمثال لا تتغير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4464 وأنت تقدر في المثل، فقد تقول: فلان حاتم، وحاتم انقضى عمره، لكنه قد صار مثلاً مشهوراً في التاريخ، أو تقول: «فلان عنتر» ، أو «فلان إياس» ، وفي ذلك يرتقي التشبيه، بأن صار المشبَّه به مشهوراً معلوماً متوارداً على الألسنة وكل واحد يشبه به. ويُعَرفون المَثَل بأنه: قول شبِّه مورده بمضربه، أي أنك تشبه الحالة التي قيل فيها المثل أولاً، ومثال ذلك: حينما أرسلَ عظيمٌ من عظماء العرب خاطبةً اسمها «عصام» لتخطب له أمَّ إياس؛ فقد بلغه أنها جميلة وأنها وأنها، فقال: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف، فذهبت الخاطبة وخلَّت أم الفتاة بينها وبينها، وقالت لها: يا هذه، هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض أمرك فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه، من وجه وخلق، وناطقيها فيما استنطقتك به. ثم أرسلت إلى خباء، ونظرتها كلها وفحصتها فحصاً شاملاً. فلما عادت إلى من أرسلها، وكان ينتظرها في شوق وكأنه على أحر من الجمر، قال لها: «ما وراءكِ يا عصامُ؟» قالت: «أبدي المخض عن الزُّبد» أي أن الرحلة جاءت بفائدة. وأصبح العرب بعد ذلك كلما أرسلوا رسولاً ذكرا أو أنثى أو مثنى أو جمعاً؛ وبعد أن يعود إليهم ويستعملوا منه عن نتيجة رحلته، فهم يقولون له: «ما وراءَك يا عصام؟» ، ولو كان رجلاً، لأن الأمثال لا تغير. وكل شيء يجدي الجهد فيه يقال عنه: «أبدي المخض عن الزبد» . فحين ينجح الولد ويأتي بالمجموع المناسب يقال: «أبدي المخض عن الزبد» . والحق تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ... } [البقرة: 26] وكانوا قد قالوا: كيف يضرب الله المثل ببعوضة؛ وقال سبحانه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4465 {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ ... } [الحج: 73] لقد فهموا قوله: «فما فوقها» أنها أكبر منها، والمراد غير ذلك؛ لأنه سبحانه ضرب المثل بالأقل؛ لذلك قال: «فما فوقها» من باب فما فوقها في الاحتقار منكم والقلة في الحجم مما تنكرونه، وهو الضآلة. وحتى تفهم ذلك نسمع أحياناً: فلان مريض. ويراد السامع وفلان فوقه في المرض. ونجد «فوقه» هنا لا تعني المرض الأقل، بل المرض الأكثر شدة: { ... ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] والكلام موجه لليهود: أي أنتم يا بني إسرائيل مَثَلكم مثل الرجل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، ولقد جاءت لكم في التوراة بشارة بمحمد، ووصفته بسمات وعلامات، بحيث إذا رآه الإنسان يعرف أنه الرسول الذي جاء ذكره في التوراة، ويعرفه الواحد منكم كما يعرف ابناً له، لأنه مذكور لكم بنصه ونعته وشكله وطوله، وعرضه. وكنتم تستفتحون به على العرب. لكنكم امتنعتم عن التصديق بالآيات، وعندما جاءكم بما عرفتم عنه كفرتم به. وصار مثلكم كمثل الرجل الذي آتاه الله الآيات فانسلخ منها. {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} وهم بعنادهم وبغيهم وكفرهم قد كذبوا بالآيات الكونية التي يراها البصر؛ السماء والأرض والشمس، والآيات المعجزات التي يثبت بها الرسول صدق بلاغه عن الله، وكذلك آيات القرآن التي تحمل منهج الله. {فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وعليك يا محمد أن تقصص القصص وأن تقول ما حدث وما كان، وأنت لن تحكي الأمر التافه، بل ستحكي ما يقال له قصص ويكون فيه عبرة؛ تنتفع بها حركة المجتمع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4466 ويذيل الحق الآية بقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، ونعلم أن القرآن قد جاء فيه الأمر بالتفكر والتذكر والتدبر. والتفكر - كما نعرف - هو عمل العقل في المقارنات بين البديلات المتنوعة لِيُرَجّح بدلاً على بديل فتُعقلَ به القضايا. والتذكر يعني إن غفلت عن هذا فتذكره، حتى يزيح عنك الغفلة عن القضية المعلومة. أما التدبر فهو أيضاً بحث عقلي. فلا تنظر إلى واجهة الأشياء، بل إلى كلية الأشياء من جميع جهاتها بواجهة وجوانب وخلف، وما ينتج عنها. وعلى سبيل المثال يقال: انظر خلف العبارة، لتجد المعنى الخفي فيما يقال. والمثال في قول الحق: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ... } [البقرة: 26] وحين تفكرنا وتدبرنا وجدنا أن معنى «فما فوقها» لا يعني الأعلى منها في القوة، بل الأعلى منها في الضعف الذي أنكروه. لذلك لا يجب أن تنظر إلى معنى ومدلول اللفظ حسب ظاهره فقط، بل لما خلف اللفظ، ومعطياته. {فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي يتفكرون في أسلوب توجيه المنهج؛ لعلهم يؤمنون وهذه فائدة القصص. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {سَآءَ مَثَلاً القوم الذين ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4467 والحق قال فيهم من قبل: إنهم كذبوا بآياتنا، وضرب لهم المثل بابن باعوراء وكان مشهوراً في أيامهم، لكنهم فاقوا ابن باعوراء لأنه كان فرداً وهم جماعة؛ لذلك لا تقل إن في المسألة تكراراً؛ لأن المثل من قبل ما كان على فرد واحد، أوتي آيات الله فانسلخ منها، ولكنهم كانوا جماعة. لذلك فانسلاخهم عن المنهج يجعل موقفهم أشد سوءاً. {سَآءَ مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} و «ساء» أي قَبُح، وحين نقول: ساء فلان؛ أي قبح أمره، ولكن أي أمر من أموره هو القبيح؟ فنقول: ساء صحةً أي صار مريضاً أو ساء حالاً أي صار فقيراً، أو ساء خلقاً أي صار شرساً، وأنت حين تقول: ساء، فهذا السوء عام له جوانب متعددة، ويقتضي الأمر التمييز. و «ساء مثلاً» أي ساء من جهة المثل، والمثل في ذاته لا يسوء؛ لأن الله تعالى يضرب المثل لنا. والمثل إنما يجيء ليبين ويشرح ويوضح، والمعنى هنا: ساء مثلاً حال القوم. أو القوم أنفسهم هم الذين ساءوا. لأنهم حين كذبوا بالآيات ظلموا أنفسهم، فالتكذيب منهم لم يعرقل منهج الله في الأرض، ولم يعرقلوا بالتكذيب شيئاً في كون الله تعالى، فالكون بنظامه ونسقه يسير بإرادته سبحانه وآيات الكون سائرة. إذن كان تكذيبهم بآيات لن يضير أبداً في أي شيء. والخيبة إنما تقع عليهم. وإن كان التكذيب في الآيات المعجزات فقد بقي ذكر المعجزات إلى الآن. وهم الذين خابوا، وإن كانوا قد كذبوا بآيات المنهج فهم أيضاً الذين خسروا ولم يصب الآيات الإعجازية أو القرآنية أي شيء. وهم قد ظلموا أنفسهم ومثلهم في ذلك مثل المريض الذي لم يسمع كلام الطبيب فإنه يسيء إلى نفسه ولن يضر الطبيب شيء، والله سبحانه قد أعطانا المنهج لتستقيم به حركة الحياة، فمن يأخذه ينفع نفسه، ومن لا يأخذه لن يضر الله شيئاً. هم إذن ظلموا أنفسهم، ومن يظلم نفسه كان هو أول عدو لها ولن يضر الله شيئاً، ولا الرسول، ولا المجتمع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4468 { ... وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 177] وحين تجد معمولاً تقدم على عامله - قاعدة نحوية - فعلم أن هناك ما يسمى بالقصر في علم البلاغة، وقد نقول: «يظلمون أنفسهم» ويصح أن تعطف قائلاً: ويظلمون الناس. ولكن حين نقول: أنفسهم يظلمون، فمعنى ذلك أنه لا يتعدى ظلمهم أنفسهم، ويكون الكلام فيه قصر وتخصيص، مثلما نقول: «لله الأمر من قبل ومن بعد» ، أي أن الأمر لا يتعدى إلى غيره أبداً. ويقول المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4469 وهذه الآية هي الوحيدة التي جاء فيها سبحانه وتعالى: {المهتدي} - بالياء - بينما جاء المولى سبحانه وتعالى بكلمة «المهتد» - من غير ياء - في آيات متعددة عدا هذه الاية: واقرأ قوله تعالى: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد ... } [الإسراء: 97] ويقول الحق: { ... فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26] وكذلك تأتي الكلمة بدون «ياء» في قوله سبحانه: { ... مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} [الكهف: 17] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4469 والمعركة الخاصة بقضية الهداية والإضلال قائمة من قديم، ولا تزال أيضاً ذيول هذه المعركة موجودة إلى الآن، وأوضحنا هذه القضية من قبل ولكننا نكررها للتأكيد ولتستقر في الأذهان، لأن هناك دائماً من يقول: إذا كان الله هو الهادي والمضل، فلماذا يعذبني إن ضللت؟ . وشاع هذا السؤال وأخذه المستشرقون والفلاسفة ويراد منه إيجاد مبرر للنفس العاصية غير الملتزمة. ونقول لكل مجادل: لماذا قصرت الاعتراض على مسألة الضر والعذاب إن ضللت؟ ولماذا لا تذكر الثواب إن أحسنت وآمنت؟ . إن اقتصارك على الأولى دون الثانية دليل على أن الهداية التي جاءت لك هي مكسب تركته وأخذت المسألة التي فيها ضرر. ولا يقول ذلك إلا المسرفون على أنفسهم. وضرَبْنا من قَبْلُ أمثلةً كثيرة. لنفرق في هذه المسائل بين المختلفين؛ لأن الجهة عندهم منفكة وهم قد ناقشوا مسألة «خلق أفعال العباد» وتساءلوا: مَنْ خلق هذه الأفعال؟ هل خلقها الله أم أن العبد يخلق أفعاله؟ . ونسأل: ما هو الفعل؟ . إنه توجيه طاقة لإحداث حدث؛ فطاقة اليد أنها تعمل أيَّ عمل تريده منها؛ قد تضرب بها إنساناً أو تحمل بها إنساناً واقعاً على الأرض، أو تربت بها على اليتيم. إذن ففي اليد طاقة تصلح لأن تفعل الخير وتفعل الشر، وأنت لحظة أن تضرب إنساناً؛ فأي عضلة تحركها حين ترتفع اليد لتضرب؟ . إنك بمجرد رغبتك في أن تضرب؛ تضرب؛ عكس الإنسان الآلي حين يرفع شيئاً، فله أجزاء وأزرار تعمل. وكلها آلات. وأنت حين تربت على كتف يتيم، ما هي الأعضاء والأجهزة التي تحركها لتعمل هذا العمل؟ . إذن فالله هو الذي خلق فيك الانفعال للفعل. فإن نظرت إلى ذلك، فكل فعل من الله، ولكن توجيه الجارحة إلى الفعل هو محل التكليف. إذن فأنت تحاسب لأنك فعلت، لا لأنك خلقت؛ لأن خالق الأفعال هو الله سبحانه وتعالى، وأنت تفعل بمجرد الإرادة والاختيار، مثل اللسان فيه طاقة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4470 مخلوقة لبيان ما في النفس؛ إن أردت أن تقول بها «لا إله إلا الله» صلحت، وصلحت كذلك عند الملحد أن يقول - والعياذ بالله - لا يوجد إله. واللسان لم يعص في هذه ولا في تلك. إذن فالذي خلق قدرة الجارحة على الفعل هو الله. وأنت توجه الجارحة، إذن فكل الافعال مخلوقة لله، لكن توجيه الطاقة للفعل بالميل والاختيار إنما يكون من العبد. والحق سبحانه وتعالى يهدي الجميع بالمنهج، ومن يقبل عليه بنيَّة الإيمان، يعينه على ذلك، ولذلك لا يصح أن نختلف في مسألة مثل هذه، وأن نسأل من خلق الأفعال، بل علينا أن نحدد الأفعال وكيف توجد، وما دور الإنسان فيها؛ لأننا نعلم أن الله قد يسلب طاقة الفعل على الأحداث، مثل من يريد أن يؤذي إنساناً بيده لكنه يصاب بشلل فلا يقدر أن يرفع يده. ولو كان هو الذي يخلق لرفع يده وآذى بها من أراد، لكنه لا يخلق الطاقة الصانعة للفعل. وعلى ذلك تكون الهدايةُ نوعين: هداية دلالة، وهي للجميع؛ للمؤمن والكافر؛ لأن الحق لم يدل المؤمن فقط، بل يدل المؤمن والكافر على الإيمان به، فمن يُقْبل على الإيمان به؛ فإن الحق تبارك وتعالى يجد فيه أهلاً للمعونة. فيأخذ بيده، ويعينه، ويجعل الإيمان خفيفاً على قلبه، ويعطي له طاقة لفعل الخير، ويشرح له صدره وييسر له آمره: وسبحانه القائل: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله ... } [البقرة: 282] ويقول سبحانه وتعالى: { ... وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون} [الأعراف: 178] فإذا كان الله قد عمّم حكماً ثم خصّصه، فالتخصيص هو الذي يحكم التعميم. ويقول ربنا عَزَّ وَجَلَّ: إن من شاء هدايته فهو سبحانه وتعالى يعطيه الهداية، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4471 ومن شاء له الضلال زاده ضلالاً، وقد بيّن أن من شاء هدايته يهتدي وهذه معونة من الله، والكافر لا يهتدي وكذلك الظالم، والفاسق؛ لأنه سبحانه قد ترك كل واحد منهم لاختياره، وهكذا يمنع سبحانه وتعالى عنهم هداية المعونة. ونقرأ في القرآن الكريم ما يوضح هذه المسألة، فهو سبحانه يقول: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى ... } [فصلت: 17] والهداية التي كانت لقوم ثمود إنما هي هداية الدلالة، وليست هداية المعونة. ويقول سبحانه: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] أي أنه سبحانه قد زاد من اختاروا الهداية، بالمعونة وجعل بينهم وبين النار وقاية، والحق سبحانه وتعالى يقول لرسوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ... } [القصص: 56] أي أنك يا محمد لن تعين أحداً على الطاعة لأن هذا أمر يملكه ربك. ويقول سبحانه لرسوله: { ... وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] أي أنك يا محمد تهدي هدايةَ الدّلالة بالمنهج الذي أنزله الله إليك. إذن إذا رأيت فعلاً أو حدثاً مُثبتاً لواحد ومنفياّ عنه. . فاعلم أن الجهة منفكة، والكلام هنا لحكيم عليم. ولماذا يقول الحق سبحانه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4472 {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون} [الأعراف: 178] لأن الحق سبحانه وتعالى حين ينصرف عن معونة عبده، فعلى العبد أن يواجه حركة الحياة وحده بدون مدد من خالقه. ويعيش وحالته كرب، سواء كان في يسر مادي أو في عسر. هذا إن اعتبر أن الدنيا هي كل شيء، فإذا أضيف إلى ذلك غفلته عن أن الدنيا معبر للآخرة، فالخسارة تكون كبيرة حقاً. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4473 وذرأ، بمعنى بث ونشر، وقد قال الحق سبحانه وتعالى في أول سورة النساء: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} كما يقول الحق أيضاً: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس ... } [الأعراف: 179] ونعرف أن في الكون أشياء عابدة بطبيعتها وهي كل ما عدا الإنس والجن؛ لأن كلا منهما في سلك الاختيار، وهم من يقول عنهم ربنا في سورة الرحمن: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4473 وذرأنا معناها بثثنا ونشرنا وكثّرنا، وكلمة كثير لا تعني أن المقابل قليل، فقد يكون الشيء كثيراً ومقابله أيضاً كثير، والحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب ... } [الحج: 18] إذن كل الكائنات من جمادات ونباتات وحيوانات تسجد لله سبحانه وتسبحه، ولكن الأمر انقسم عند الإنسان فقط، حيث يقول الحق في ذات الآية: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ... } [الحج: 18] أي هناك كثير يسجدون ويخضعون لله. ومقابل ذلك كثير كفروا ولم يسجدوا وحق عليهم العذاب. وإذا كان المولى تبارك وتعالى يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} فقد يثور في الأذهان سؤال هو: هل أنت خالقهم يا رب لجهنم، ماذا تستطيعون إذن؟ ولا شيء في قدرتهم مادمت قد خلقتهم لذلك؟ ونقول: لا. ولنلفت الأنظار إلى أن في اللغة ما يسمى «لام العاقبة» ، وهو ما يؤول إليه الأمر بصورة تختلف عنا كنت تقصده وتريده؛ لأن القصد في الخلق هو العبادة مصداقاً لقوله الحق تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4474 ومعنى العبادة طاعة الأمر، والكف عن المنهي عنه، والمأمور صالح أن يفعل وألا يفعل، فالعبادة - إذن - تستدعي وجود طائع ووجود عاصٍ، وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى ومنزه سبحانه وتعالى: يأتي لك من يروي لمحة من سيرة إنسان ويقول لك: لماذا يقف منك هذا الموقف العدائي، أليس هو الذي أخذته معك لتوظفه؟ فترد عليه: «زرعته ليقلعني» . هل كان وقت مجيئك به كنت تريده أن يقلعك؟ لا. ولكن النتيجة والنهاية صارت هكذا. والحق سبحانه لم يخلق البشر من أجل الجنة أو النار، لكنه عَزَّ وَجَلَّ خلقهم ليعبدوه، فمنهم من آمن وأصلح فدخل الجنة، ومنهم من عصى فدخل النار وهذا اسمه «لام العاقبة» ، أي ما صار إليه غير مرادك منه، ومثال ذلك حينما قال الله سبحانه لأم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً ... } [القصص: 7 - 8] هل التقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً؟ لا، لأن زوجة فرعون قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا ... } [القصص: 9] فقد كانت علة الالتقاط - إذن - هي أن يكون قرة عين، لكنه صار عدواً في النهاية، وهذا اسمه - كما قلت - لام العاقبة. وهكذا لا تكون علة الخلق أن يدخل كثير من الجن والإنس النار، في قوله الحق: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} لأن علة الخلق في الأصل هي العبادة، والعبادة تقتضي طائعاً وعاصياً، فالذي يطيع يدخل الجنة، والذي يعصي يدخل النار، ولله المثل الأعلى، أذكركم بالمثل الذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4475 ضربته من قبل حين يسأل وزير التعليم مدير إحدى المدارس أو عميد كلية ما عن حال الدراسة والطلبة فيقول العميد أو المدير: إننا نعلم جيداً من هم أهل للرسوب ومن هم أهل للنجاح وإن شئت أقول لك عليهم وأحددهم. لم يقل العميد أو المدير لأنه يتحكم في إجابات الطلبة، ولكنه علم من تصرفاتهم ما يؤولون إليه، والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير. وعلى ذلك فإن قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} يعني أننا نشرنا وبثثنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، وهم من يعرضون عن منهجنا، ثم يأتي بالحيثيات لذلك وهي أولا: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ... } [الأعراف: 179] وثانياً: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ... } [الأعراف: 179] وثالثاً: {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ} [الأعراف: 179] ولقائل أن يقول: إن كانت قلوبهم مخلوقة بحيث لا تفقه فما ذنبهم هم؟ . ومادامت عيونهم مخلوقة بحيث لا ترى فما ذنبهم؟ وكذلك مادامت الآذان مخلوقة بحيث لا تسمع فلماذا يعاقبون؟ . ونقول: لا، لم يخلقهم الله للعذاب، لكنهم انشغلوا بما استحوذ عليهم من شهواتهم، وصارت عقولهم لا تفكر في شيء غيره وتخطط للحصول على الشهوة، وكذلك العيون لا ترى إلا ما يستهويها، وكذلك الآذان. وكل منهم يرى غير مراد الرؤية، ويسمع غير مراد السمع. والفرق بين فقه القلب ورؤية العين وسماع الأذان. . أن فقه القلب هو فهم القضايا التي تنتهي إليها الإدراكات. ونعلم أن الإدراكات تأتي بواسطة الحواس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4476 الخمس، فنحن نعرف أن الحرير ناعم باللمس، ونعرف أن المسك رائحته طيبة بالشم، ونعلم أن العسل حلو الطعم بالذوق. إذن لكل وسيلة إدراك، وهي من المحسَات، وبعد أن تتكون المحسَات يمتلك الإنسان خميرة علمية في قلبه وتنضج لتصير قضية عقلية منتهية ومسلماً بها. وكلنا يعرف أن النار محرقة؛ لأن الإنسان أول ما يلمس النار تلسعه، فيعرف أن النار محرقة، ويتحول الإدراك إلى إحساس ثم إلى معنى. إذن فالمعلومات وسائلها إلى النفس الإنسانية وملكاتها الحواس الظاهرة، وهناك حواس أخرى غير ظاهرة مثل قياس وزن الأشياء بالحمل. وقد انتبه العلماء لذلك واكتشفوا حاسة اسمها حاسة العضل؛ لأنك حين تحمل شيئاً قد تجهد العضلة أكثر إن كان الحمل ثقيلاً. وحينما ترى واحداً من قريب وواحداً من بعيد، فهذه اسمها حاسة البعد، وكذلك حاسة البين وهي التي تميز بها سمُك القماش مثلاً. كل الحواس - إذن - تربي المعاني عند الإنسان وحين تربي المعاني في النفس الإنسانية تتكون القضايا التي تستقر في القلب. ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على خلقه بأنه علمهم فقال تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] ونعود إلى قول الحق تبارك وتعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} والفقه هو الفهم ويصير الفهم قضية مرجحة انتهى إليها الاقتناع من المرائي والمحسّات، لكنّ هؤلاء الكافرين لا يرون بأعينهم إلى هواهم، وكذلك لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4477 تسمع آذانهم إلا ما يروق لهم، فلا يستمعون إلى الهدى، ولا يلتفتون إلى الآيات التي يستدلون بها على الخالق فتعيش قلوبهم بلا فقه، فهم إذن لهم قلوب وأعين وآذان بدليل أنهم فقهوا بها وسمعوا بها ورأوا بها الأشياء التي تروق لانحرافهم. ويصف الحق تبارك وتعالى هؤلاء فيقول: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} وهنا وقفة لإثارة سؤال هو: ما ذنب الأنعام التي تُشبه بها الكفار؟ إن الأنعام غير مكلفة وليس لأي منها قلب يفقه أو عين تبصر آيات الله أو آذان تسمع بها آيات الله. هي فقط ترى المْرعَى فتذهب إليه، وترى الذئب فتفر منه، وتتعود على أصوات تتحرك بها، وكافة الحيوانات تحيا بآلية الغريزة، ويهتدي الحيوان إلى أموره النافعة له وإلى أموره الضارة به بغريزته التي أودعها الله فيه، لا بعقله. والإنسان منا لا يبتعد عن الضرر إلا حين يجربه ويجد فيه ضرراً. لكن الحيوان يبتعد عن الضر من غير تجربة بل بالغريزة، لأن الحيوان ليس له عقل وكذلك ليس له قدرة اختيار بين البديلات، وفطره الله على غريزة تُسَيّرهُ إلى مقومات صالحة، ومثال ذلك: أنه قد يوجد الحيوان في بيئة ما، ويعطي الله له لوناً يماثل لون هذه البيئة ليحمي نفسه من حيوانات أقوى منه. ومثال آخر: نحن نعلم أن الحيوان مخلوق لينفع الإنسان، ولابد أن يتناسل ليؤدي ما يحتاج إليه الإنسان من ذرية هذا الحيوان ويمارس الحيوان العملية الجنسية كوسيلة للتناسل وليست كما هي في الإنسان، حيث تصير في بعض الأحيان غاية في ذاتها، بجانب أنها وسيلة للنسل. ولذلك نجد كثيراً من ظواهر الحياة المتعلقة بالإنسان قد تعلمها من الحيوان مثلما قال الحق تبارك وتعالى: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ... } [المائدة: 31] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4478 إذن فالغراب مَهْدِيّ بغريزته إلى كل متطلباته، ولذلك نجد من يقول: كيف نشبه الضال بالأنعام؟ نقول: إن الضال يختلف عن الأنعام في أنه يملك الاختيار وقد رفع فوق الأنعام، لكنه وضع نفسه موضع الأنعام حين لم يستخدم العقل كي يختار به بين البدائل. وبذلك صار أضل من الأنعام، وكلمة «أضل» تبين لنا أن الأنعام ليست ضالة، لأنها محكومة بالغريزة لا اختيار لها في شيء. لكن الكفار الذين ذرأهم ربنا لجهنم من الجن والإنس، لا يعرفون ربهم، بينما الأنعام، والجمادات والنباتات تعرف ربها لأن الحق يقول: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ... } [الإسراء: 44] إذن فالأنعام تعرف ربنا وتسبحه وتحمده. وفي آية أخرى يقول المولى تبارك وتعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ... } [النور: 41] وعلى ذلك فكل الجماد - إذن - بعلم صلاته وتسبيحه. ولذلك قصصنا قصة من قصص العارفين بالله حين يجلسون مع بعضهم البعض كوسيلة تنشيط إلى غايات وأهداف سامية. والعارف بالله من هؤلاء الصالحين يستقبل الأحسن منه في العبادة بالضحك، أما الأحسن منه في أمور الدنيا فيستقبله «بالتكشير» ، وقال واحد منهم لآخر: أتشتاق إلى ربك؟ فرد عليه: لا. تساءل الآخر: كيف تقول ذلك؟ . قال له: نعم. إنما يُشْتَاقٌ إلى غائب. { ... أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4479 ولا تظنن أن الضلال لعدم وجود منهج، أو لعدم مُذَكِّر، أو لعدم وجود مُنْذرٍ أو مُبَشِّر. بل هي غفلة منهم، فالأمور واضحة أمامهم، لكنهم يهملونها ويَغُفلون عنها. ويقول الحق بعد ذلك: {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4480 وحين يقول المولى سبحانه وتعالى {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى} نقول: أنه لا يوجد لغير الله اسم يوصف بأنه من الحسنى، إن قلت عن إنسان إنه «كريم» ، فهذا وصف، وكذلك إن قلت إنه «حليم» ، وكلها صفات عارضة في حادث، ولا تصير أسماء حسنى إلا إذا وصف الله بها. فأنت - مثلا - لك قدرة تفعل أفعالاً متعددة، ولله قدرة، لكن قدرتك حادثة من الأغيار، بدليل أنها تسلب منك لتصير عاجزاً، أما قدرة الله تعالى فلها طلاقة لا يحدها شيء. فهي قدرة مطلقة. وأنت قد تكون غنياً، لك غنى، ولله غنى، لَكنّ ثراءك محدود، وأمَّا غنى الله فإنه غير محدود. إذن الأسماء الحسنى على إطلاقها هي لله، وإن وجدت في غيره صارت صفات محدودةً مهما اتسعت. {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا} والحسنى. . تأنيث لكلمة «الأحسن» اسم تفضيل، وهي الأسماء الحسنى في صلاحية الألوهية لها، وصلاحيتها للألوهية. وحين تقول عنه سبحانه: إنه «رحيم» ، فهذا أمر أحسن عندي وعندك لأنني أنظر إلى رحمته لي، وأنت تنظر إلى رحمته لك. وحين تقول: «غفار» فأنت وأنا وكل من يسمعها تعود عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4480 وحين تقول: «قهّار» وأنت مذنب ستخاف، وهي صفة حسنى بالنسبة للإله؛ لأن الإله لابد أن تكون له صفات جمال وصفاتُ جلال، فصفات الجمال لمن أطاع، وصفات الجلال لمن عصى. ولذلك لا تأخذ النعم بمدلولها عندك، بل خذ النعم بمرادات الله تعالى فيها. وساعة يتكلم الحق سبحانه وتعالى قائلا: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان فبأي آلاء رَبِّكُمَا تكذبان يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 31 - 36] فهل إرسال الشواظ من النار والنحاس نعمة يقول بعدها: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟ نقول: نعم، هي نعمة كبيرة، لأنه سبحانه وتعالى ينبهنا قبل أن توجد النار، أن النار قوية، ويعطي لك نعمة العظة والاعتبار. وعظته وتنبيهه - إذن - قبل أن توجد النار نعمة كبرى، وأيضاً هي نعمة بالنسبة للمقابل، فحين يطيعه المؤمنون في الدنيا ويلزمون أنفسهم بمنهج الله، فلهم ثواب حق الالتزام، والمقابل لهم الذين لم يلتزموا وأخذوا الخروج عن المنهج غاية، يتوعدهم سبحانه بالعقاب، وهذه نعمة كبرى. {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا} والحق سبحانه وتعالى عرفنا اسمه بالبلاغ منه، لأننا قد نعرف مسماه من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4481 القوى القادرة وهي التي تعرف بالعقل، لكن العقل لا يقدر أن يعرف الاسم. وسبق أن قلت: لنفترض أن أناساً يجلسون في حجرة ثم طرق الباب. هنا يجمع الكل على أن طارقاً بالباب، لكن حين دخلوا في التصور اختلفوا، فواحد يقول: إن الطارق رجل، فيرد الآخر: لا إنها امرأة لأن نقرتها خفيفة، ويقول ثالث: هذه النقرة على الباب تأتي من أعلاه وهي دليل على أن الطارق ضخم، وهو نذير لأنه يطرق بشدة، ويختلف تصور كل الحضور عن الطارق، ولا أحد يعرف اسمه. إذن حين تريد أن تعرف من الطارق، فأنت تسأله من أنت؟ فيقول لك «اسمه» . إذن فإن الاسم لا يدرك بالعقل. ومن خلق الخلق كله قوي، قادر، حكيم، عليم، لأن عملية الخلق تقتضي كل هذا. أما اسم الله. فهذه مسألة لا يعرفها العقل وتحتاج إلى توقيف. إذن فأسماء الله تبارك وتعالى توقيفية، فحين يقول لنا: هذه أسمائي فإننا ندعوه بها، وما لم يقل لنا عليه لا دعوة لنا به، ولذلك يقول تعالى: {فادعوه بِهَا} فإذا أنت نقلت هذا إلى غيره. فأنت تدعو بالأسماء الحسنى سواه، مثلاً كذاب اليمامة مسيلمة سمى نفسه الرحمن، وبذلك ألحد في اسم الله حيث نقل أحد أسماء ربنا إلى ذاته، ومثله فعل غيره، ألم يسموا «اللات» من الله؟ . ألم يسموا «العزّى» من العزيز؟ . ألم يسموا «مناة» من المنان؟ . كل هؤلاء ألحدوا في أسماء الله التي لا ندعو غيره بها، ولذلك ورد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قوله في دعآئه: «اللهم أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي وذهاب حزني وغمي» إذن فهذه الأسماء وضعها ربنا لنفسه، لأنها لا تعرف بالعقل. أما إذا نظرت إلى الأوصاف المبدعة للخلق فأنت تتعرف على هذه الأوصاف؛ لأنه تعالى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4482 خلق الكون بحكمة وتدبير وقدرة. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نحن نؤسس مصانع كثيرة وكبيرة لتصنع المصابيح، فنصنع زجاجاً ونفرغه من الهواء، ونضع داخله أسلاكاً تتحمل ذبذبة الكهرباء، وبعد استخدام هذه المصابيح لفترة تفسد، بينما الشمس تضيء الكون كل هذا العمر، من بدء الخلق، ولا تحتاج منا إلى قطعة غيار. وحين نقول هو: «حكيم» ، نقولها ونرى أثر ذلك في حركة الكواكب التي تسير منسجمة، وكل كوكب يدور في فلكه ولا يصطدم بآخر، وهذا دليل على أن الكواكب قد خلقت بحكمة. وينبهنا الحق سبحانه وتعالى أن ندعوه بالأسماء الحسنى في قوله: {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا} لأنه يريد من خلقه دائماً أن يذكروه؛ لأنه هو الرب الذي خلق من عَدَم، وأمد من عُدْم. وصان الخلق بقيوميتة، وحين تأتي لك حاجة وجب عليك أن تذكر أسماء الله الحسنى وتنادي الله بها، وحين تريد أن تتقرب إلى الله لا تناديه إلا بالاسم الذي وضعه لنفسه وهو «الله» ، لأن هذا هو اسم علم على واجب الوجود، وأسماء الله الحسنى كلها صفات وصلت إلى مرتبة الأسماء، وهناك أسماء تدل على مجموع الصفات. ولله المثل الأعلى: أنت تقول: «زيد» فيعرف السامع أن هذا اسم علم على شخص اسمه زيد، ثم له صفات أخرى، كأن يكون تاجراً، أو عالماً متفقها في العلم، أو مهندساً. لكن الاسم العلم هو زيد وهو الذي لا يشترك معه أحد من معارفك فيه وهو زيد، لكن الصفات الأخرى قد يشترك معه فيها غيره. والأسماء لله نوعان، اسم يدل على ذات الله، الذات المجردة عن أي شيء وهو الله، ولكن هناك صفات لله مثل الرحمن والرحيم والملك والقدوس والسلام والمؤمن والمهيمن، وهذه صفات ارتقت في السمو والعلو لأنه لا أعلى منها، حتى أصبحت إذا أطلقت إطلاق الكمال الأعلى لا تنصرف إلا لله. فصارت أسماء. قد نقول فلان غني، وفلان كريم، وفلان حكيم، لكن الغنى على إطلاقه هو لله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4483 والأسماء الحسنى ناشئة من صفات مبالغة في العلو فيها، لأنه سبحانه الأكمل فيها وهي في الأصل صفات لها متعلقات فعلية، وهذه نوعان اثنان: نوع يطلق على الله منها اسم ومقابله، ونوع يطلق عليه الاسم ولا يطلق عليه المقابل، ونأتي بصفة شبيهة بالاشتقاق، فنقول: «غني» ، ونقول: «مغني» فهو غني في صفة ذاته قبل أن يوجد من يُغنيه، ومغني وجدت بعد وجود من يُغنيه من عباده، وسبحانه حي في ذاته، ومحيي لغيره، والإحياء صفة فعل في الغير. ولابد لها من مقابل، فنقول: محيي ومميت. ولم نقل حي ومقابله، الغير. إذن فالاسم الذي ترى له مقابلاً هو صفات الفعل، أما صفات الذات فهي التي لا يوجد لها المقابل. ويلحدون في أسماء الله أي يُميلونها إلى غير الله وينقلها الواحد منهم لغير الله أو يأتي باسِم للغير ويطلقه على الله، أو يطلق اسماً ليس له معنى أو لا يُفهَم منه أي معنى على الله. إذن «الإلحاد» يأتي في ثلاثة أشياء: إما أن ينقل أحد أسماء الله إلى غير الله، أو يأتي باسم للغير ويطلقه على الله، أو يطلق اسماً لله من غير أن يكون قد أنزله الله توقيفياً. {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ونعلم أن «العمل» هو اسم للحدث من أي جارحة؛ فنطق اللسان عمل، وشم الأنف عمل، ونعلم أن هناك ما يسمى ب [قول وفعل] ، والفعل عمل الجوارح ما عدا اللسان؛ والقول عمل اللسان، والاثنان يطلق عليهما عمل، ولذلك يقول الحق: تبارك وتعالى في سورة الصف: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الآية: 2] . إذن فالقول مقابله الفعل، والجزاء هنا على الفعل والقول لأن كليهما عمل. وإذا كان لله أسماءُ كثيرةٌ، فهل يجوز هنا لنا أن نأخذ من فعل الله في شيء اسماً له؟ وخصوصاً انه القائل: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ... } [البقرة: 31] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4484 وهو القائل أيضاً: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ... } [النساء: 113] هل يمكن أن نقول: إن الله معلم؟ وهل يصح أن نأخذ من قوله: {وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 16] اسماً هو كائد؟ لا يجوز ذلك لأن أسماء الله توقيفية، وإن رأيت فعلاً منسوباً لله فقف عند الفعل فقط ولا تأخذ منه اسماً لله تعالى. ويقول الحق بعد ذلك: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4485 وبعد أن قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} أراد أن يطمئن أهل منهج الله، فلم يقل: «كل الناس» ، بل كثير من الجن والإنس «، وعرفنا المقابل يكون كثيراً أيضاً بدليل قوله تعالى في سورة الحج: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} أي كثير من الناس يسجدون لله وكثير حق عليهم العذاب. ويعني قول الحق تبارك وتعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181] أن كون الله لا يخلو من هداة مهديين، لتستمر الأسوة السلوكية في المجتمع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4485 والأسوة السلوكية في المجتمع هي التي تربي عقائد المواجيد عند الصغار، فالصغير لا يعرف كيف يصلي، ولا كيف يصوم، ولا يميز بين الكذب والصدق ولكنَّه يتعلم بالتقليد لوالديه، فالطفل حين يرى والده وأمه ساعة يَؤَذَّنُ للصلاة يقوم كل منهما إلى الوضوء وأداء الصلاة، هنا يتعلم الطفل كيفية الصلاة، وحين يتكلم إنسان في سيرة آخر، يقول الأب أو الأم: لا داعي للخوض في سيرة الآخرين حتى لا نحبط حسناتنا؛ بذلك يتعلم الطفل كيف يصون لسانه عن الخوض في سيرة الغير، لأن الأسوة السلوكية تنضح عليه، بدليل أن الصغير الذي لم يبلغ مبلغ الفهم إذا سمع المؤذن بعد ذلك يقوم من نفسه ليُحضر سجادة الصلاة ويقلد والده ووالدته. ونفهم من قوله تعالى: {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} إنهم في حكمهم على الأشياء يقيمون العدل بالحق، أو أن يكون العدل هو نفي الشرك، وقد يكون العدل في مسألة الكبائر، أو يقيمون العدل في مسألة الحقوق بين الناس. {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ} وقوله في الآية الكريمة:» أمة «يعني أن صفات الكمال المنهجية أكثر من أن يحيط بها واحد لينفذها كلها، فكل واحد له جزء يقوم به، فهناك من يتميز بالصدق، وآخر في الشجاعة، وثالث في الكرم، وهكذا تبقى الأسوة في مجموع الصفات الحسنة، وقد ميز الله سيدنا إبراهيم - على نبينا وعليه السلام - فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120] أي أنه جامع لخصال الخير التي لا توجد إلا في مجتمع واسع، {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4486 وأي أمة من أمم الأرض - إذن - هي التي تهدي بالحق؟ لقد سبحانه في قوم موسى! {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق ... } [الأعراف: 159] ثم جاءت أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا رسول بعده، لذلك تظل هذه الأمة المسلمة مأمونة على صيانة منهج الله إلى قيام الساعة. فإذا رأيت إلحاداً انتشر فاعلم أن لله مدداً، وكلما زاد الناس في الإلحاد، زاد الله في المدد، وحتى إن صارت بلد مسلمة غارقة في الفسق فقد يكون فيها واحد يجمع كل هذه الصفات الكريمة الهادية إلى الحق لتبقى شريعة الله مصونة بالسلوكيين التابعين لمنهج الله. إذن فالحق سبحانه وتعالى ترك للفساد أن يصنع الشر، ولسائل أن يسأل: ما لزوم هذا الشر في كون خلقه الله على هيئة محكمة؟ نقول! لولا أن الناس يضارون بالشر؛ لما تنبهوا إلى حلاوة الخير، ولو أن الإنسان لم يصب من أصحاب الباطل بسوء؛ ما تحمس للحق أحدٌ، ولا عرف الناسُ ضرورة أن يتأصل الحق في الوجود، فللشر - إذن - رسالته في الوجود. وهو أن يهيج إلى الخير، فكما ذرأ الله لجهنم كثيراً من الجن والإنس؛ أوضح سبحانه وتعالى في قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} في الحكم، عدلاً في القمة؛ وهو ألا يشركوا بالله شيئاً، لأن أول مخالفة لقضية العدل هي مخالفة الشرك وهو ظلم عظيم، فالشرك والعياذ بالله ينقل الأمر من مستحقه إلى غير مستحقه، وكذلك تحريم ما أحل الله، أو حل ما حرم الله، وكل ذلك ظلم، وكذلك عدم حفظ التوازن في الحقوق بين الناس، فإن لم يحصن العدل بحفظ الحقوق بين الناس من حاكم وولي ومسلط؛ سنجد كل إنسان وهو يضن بجهده في الحياة يكتفي بأن يصنع على قدر حاجته بحيث لا يترك للظالم أن يأخذ منه شيئاً، فلا يتحرك في الحياة إلا حركة محدودة، ولا يعمل إلا بقدر ما يكفيه فقط، فإذا ما حدث ذلك؛ فلن يجد الضعاف الذين لا يقدرون على الحركة الإنتاجية أي فائض ليعيشوا به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4487 إذن أراد الله أن يضمن بالعدل عَرَق وتعب كل واحد. فأوضح له أن ما تكسبه من حل هو ملك لك. لَكِنْ لله حق فيه، وأنت لك الباقي، حتى يجد الضعيف الذي لا يقدر على حركة الحياة من يقيته، ولذلك يحذرك المنهج الإيماني بقوله: إياك أن تستكثر أن تدفع للضعيف، لأن قُوَّتَك التي استعملتها في تحصيل هذا المال إنما هي عرض لا يدوم لك، فإن أخذنا منك وأنت قويُّ قادر على الحركة، سنأخذ لك حينما تكون عاجزاً لا تقدر على الحركة، وذلك هو التأمين والعدالة. وبالنسبة للأمة في تلك الآية {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} فقد جاء في الآثار أن المراد بالأمة في هذه الآية الأمة المحمدية، قال قتادة: بلغني «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقول: إذا قرأ هذه الآية: هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها» ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون « ويخاطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صحابته بقوله: هذه لكم، أي في أمتكم ويؤكد ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر ... } [آل عمران: 110] وكلمة» للناس «هنا تفيد أن الله لم يجعل خيرية الأمة المحمدية وهي أمة الإجابة للمؤمنين فقط، بل جعل خيريتها للناس جميعاً؛ مؤمنهم وكافرهم. {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} وذكر» أمة «لأن خصال الخير لا يمكن أن تجتمع في إنسان واحد، بل كل واحد يأخذ لمسة من خير، هذا فيه ذكاء، وذاك فيه شجاعة، وذاك عنده مال، وذلك له خلق. فكأن الأمة المحمدية قد وجد في أفرادها ما يجمع المواهب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4488 الصالحة للخلافة في الأرض. ويأتي الحق بعد ذلك بمقابلهم، لأن مجيء الشيء بمقابله أدعى إلى أن يتمكن من النفس فيقول سبحانه: {والذين كَذَّبُواْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4489 وهؤلاء هم المقابلون للذين خلقهم الله أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، والآيات جمع آية، وقلنا: إن الآيات التي في الكون ثلاث؛ آيات تنظرها تهتدي بها إلى من صنع ذلك الكون المترامي الأطراف بتلك الدقة العظيمة، وذلك الإحْكام المتقن، آيات تلفتك مثل الليل والنهار والشمس والقمر، وكذلك آيات تخرق ناموس الكون لتثبت صدق الرسول بالبلاغ عن الله، وآيات قرآنية تحمل منهج الله. والذين كذبوا بآيات الله الكونية ولم يعتبروا بها، ولم يستنبطوا منها وجود إله قوي قادر حكيم، وكذبوا الآيات المعجزات لصدق النبوة، وكذلك كذبوا آيات القرآن فلم يعملوا بها، ولم يتمسكوا بها؛ هؤلاء يلقون الحكم من الله فلن يدخلهم الحق النار فقط، بل لهم عذاب أقرب من ذلك في الدنيا، لأن المسألة لو أجلت كلها للآخرة لاستشرى بغي الظالم الذي لا يؤمن بالحياة الآخرة، لكن من يؤمن بالآخرة هو من سيحيا بأدب الإيمان في الكون، وتكون حركته جميلة متوافقة مع المنهج. عكس من يعربد في الكون؛ لذلك لابد أن يأتي العقاب لمن يعربد في الكون أثناء الحياة الدنيا، وسبحانه وتعالى القائل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ ... } [الطور: 47] أي أن لهم عذاباً قبل الآخرة. ويقول الحق بعد ذلك عن العذاب في الدنيا: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4489 {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} وحين تقول: أنا استدرجت فلانا، فأنت تعني أنك أخذت تحتال عليه حتى يقر بما فعل، مثل وكيل النيابة حين يحقق مع المجرم، ويحاصره بالأسئلة من هنا، ومن هناك، إلى أن يقر ويعترف، وهذا هو الاستدراج. و «الاستدراج» من الدرج ونسميه في لغتنا اليومية «السلَّم» وهو وسيلة للانتقال من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل فمن المستحيل على الإنسان أن يقفز بخطوة واحدة إلى الدور الخامس مثلا في عمارة ما، ولذلك صمموا الصعود على درجات إلى مستويات متعددة على وفق الحركة العادية للنفس، وهناك من يجعل علو الدرجة مثلاً اثنى عشر سنتيمتراً بحيث يستطيع كل إنسان أن يرفع قدمه ويضعها على الدرج دون إرهاق النفس، وهذا يعني أننا نستدرج العلو لنصل إليه أو ننزل منه. وقد خصوا في الآخرة الجنة بالدرجات العليا، والنار بالدرجات السفلى. وهنا يقول الحق: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] أي نأخذهم درجة درجة، ونعطي لهم نعمة ثم نرهقهم بما وصلوا إليه، كما قال سبحانه من قبل: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ... } [الأنعام: 44] لأن الله حين يريد أن يعاقب واحداًَ على قدر جرمه في حق أخيه الإنسان في الدنيا يأخذه من أول جرم؛ لأن الأخذة في هذه الحالة ستكون لينة، لكنه يملي له ويعليه ثم يلقيه من عَلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4490 {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ... } [الأنعام: 44] وهكذا يكونُ الآخذ أخذ عزيز مقتدر. وحينَ يستدرج البشرُ، فإن الطرف المستدرج له أيضاً ذكاء، ويعرف أن هذا نوع من الكيد وفخ منصوب له، لَكنْ حين يكون ربنا القوي العزيز هو الذي يستدرج فلن يعرف أحد كيف يفلت. والعلة في قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} هي قوله: {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} ؛ لأن البشر يعلمون طرق استدراج بعضهم لبعض. ويقول الحق بعد ذلك: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4491 والإملاء هو الإمهال وهو التأخير، أي أنه لا يأخذهم مرة واحدة، فساعة يقوم الفاسد بالكثير من الشر في المجتمع، نجد أهل الخير وهم يزيدون من فعل الخيرات، ونسمع دائماً من يقول: لو لم يكن هناك إيمان لأكل الناسُ بعضهم بعضاً، فالإيمان يُعطي الأسوة واليقين. والإملاء للظالم الكافر ليس إهمالاً له من المولى تعالى، بلَ هو إمهال فقط، ثم يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وهنا يوضح الحق: إذا كنت سأستدرج وسأملي فاعلم أن كيدي متين. والكيد هو المكر، والمكر أخذهم من حيث لا يشعرون وهو عملية خفية تسوء الممكور به. وهو تدبير خفي حتى لا يملك الممكور به ملكات الدفع. وإذا كان البشر يمكرون ويدبرون تدبيراً يخفى على بعضهم، فماذا حين يدبر الله للكافرين مكيدة أو مكراً؛ أيستطيع واحد أن يكشف من ذلك شيئاً؟ . طبعاً لن يستطيع أحد ذلك. هذا هو معنى {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ؛ ومتين أي قوي، والمتانة مأخوذة من المتن وهو الظهر، ونعرف أن الظهر مُكوَّنٌ من عمود فقري وفقرات عظيمة، تحيط بها عضلات. فلو كان العمود الفقري من عظم فقط لكان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4491 أي حمل عليه يكسره. فشاءت تجلياتُ رَبنا عَزَّ وَجَلَّ واقتضت رحمتُه وقدرتُه أن يحاط هذا العظام بعضلتين كبيرتين، وهما ما نسميه في عرف الجزارين «الفلتو» لحماية الظهر وتقويته ووقايته. وإذا نظرنا إلى كلمة «متين» ، نجد «المتن» هو الشيء العمودي في الأشياء، وفي العلم مثلاً ندرس الفقه وندرس النحو، ويقال: هذا هو المتن في الفقه، أي الكلام الموجز الذي يختزل العلم في كلمات محددة، والذكي هو من يستوعبه. وغالباً مع المتن الموجز شرحاً للمتن، ثم حاشية للمتن. ويقول الحق بعد ذلك: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4492 وهنا يُنَبّه الحقُّ سبحانه وتعالى كلَّ الخلق أن يتفكروا في أمر الرسول المبلغ الذي ينقلُ عن القوة العليا مرادَها من الخلق. وأول ما يستحق التفكير فيه أن نعرف هل هذا الإنسان الذي يقول عنه رسول صادق أو غير صادق؟ ولقد ثبت صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قبل نزول الرسالة عليه، وجاءت الرسالة لتأخذ بيد الخلق إلى الإيمان بالله. لكنهم لا يريدون أن يسمعوا، ليوجدوا لأنفسهم مبررات بالنكوص عن المنهج، فقال بعضهم اتهاما للرسول: إنه مجنون، مثلما قال بعضهم من قبل: إنه ساحر، وكاهن، وقالوا: شاعر، ويرد ربنا على كل تلك الأقاويل. ونتساءل: من هو المجنون؟ . نعلم أن المجنون هو من فقد التوازن الفكري في الاختيار بين البدائل، وحين يأخذ منه هذه القدرة على التوازن الفكري، يصبح غير أهل للتكليف؛ لأن التكليف فيه اختيار أن تفعل كذا ولا تفعل كذا، والمجنون لا يملك القدرة على هذا الترجيح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4492 والحق سبحانه وتعالى لم يكلف الإنسان إلا حين يبلغ ويعقل؛ لأنه حين يبلغ تصير له ذاتية مستقلة عن أهله وعن أبيه وأمه؛ لذلك نلاحظ الطفل وهو صغير يختار له والدهُ أو والدتُه الملابس والطعام، وبعد أن يكبر نجد الطفل قد صار مراهقاً يتمرد ويقرر أن يختار لنفسه ما يريده لأنه قد صارت له ذاتية، والذاتية - كما نعلم - توجد في النبات وفي الحيوان والإنسان وذلك بمجرد أن يصير الفرد منها قادراً على إنجاب مثله، سواء كان هذا الفرد من النبات أو الحيوان أو الإنسان. أما إن كان الإنسان قد صارت له ذاتية في الإنجاب والنسل، وليست له ذاتية ناجحة عاقلة في التفكير؛ فهنا يسقط عنه التكليف؛ لأنه مكره بفقدان العقل. وهكذا نعرف أن التكليف يسقط عن الذي لم يَبْلغ، والمجنون والمكره بمن هو أقوى منه، وهذه عدالة الجزاء من الحق، وهكذا نجد أن التكليف لا يلزم إلا من بلغ جسمه ونضج عقله، وبهذا يحرس رَبُّنا الكون بِقَيُّومِيَّتِه. وإذا كان المجنون هو فاقد الميزان العقلي الذي يختار بين البديلات، فكيف يقولون ذلك على سيدنا محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهو قد عاش بينهم، ولم يكن قط فاقداً لميزان الاختيار بين البديلات، بل كانوا يعتبرونه الصادق الأمين، وكانوا يحفظون عنده كل غالٍ نفيس لهم حتى وهم كافرون به. وخلقه الفاضل ذاتي مستمر ودائم. لقد قالوا ذلك على محمد ظلماً له، وبغَوْغَائِيَّة، وكل واحد يلقى اتهاماً ليس له من الواقع نصيب؛ لذلك قال الحقَ تبارَك وتعالى لأصحاب هذه الاتهامات: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ... } [سبأ: 46] أي أن يجلس كل اثنين ويتدارسا: هل محمد عاقل أم مجنون؟ وسيجد كل منهما من واقع تجربته أنَّ محمدَّا هو أكثر الناس أمانة، وكان الجميع يسمونه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4493 الأمين، حتى قبل أن يتصل به الوحي، وليس من المعقول أن يضره الوحي، أو أن يفقد بالوحي توازنه الخلقي، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 - 4] كان خُلُق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خُلُقاً عظيماً؛ لأن الخُلق هو الصفات التي تؤهل الإنسان لأن يعيش في مجتمع سليم وهو مسالم. ومادام خُلُقه سليماً، فمعيار الحكم عنده سليم. وبعد ذلك قالوا عنه: إنه «ساحر» ، ونقول لهؤلاء: لماذا إذن لم يسحر كبار رجال قريش ليؤمنوا برسالته؟ إن كل ذلك جدل خائب، والمسألة ليس فيها سحر على الإطلاق. {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} الجنَّة التي تقولون عليها وتفترون بها على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هي منتَهى العقل ومنتهى الخلق، فمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نذير واضح، جاءكم أولاً بالبشارة لكنكم في غيكم لا تستحقون البشارة، بل تستحقون الإنذار. ويقول الحق بعد ذلك: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4494 وبذلك ينتقل الجدل من الرسول المباشر لهم الذي يأخذ بيدهم إلى الإيمان الأعلى، ينتقل الجدل إلى التفكير ومسئوليته: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4494 {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} والتفكير هو إعمال العقل حتى لا يقولَنَّ أحد: إن رسول الله مجنون، لأن مجرد النظر في الكون يجعل الإنسان رائيا للسماء مرفوعة بلا عمد، والأرض مبسوطة والهواء يتحرك في انتظام دقيق. {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} إذن فوقَنا سماء، وهناك ما فوق السماء، وتحتنا الأرض، وفيها ما تحت الأرض، وهناك بين السسموات والأرض. وما نراه في الظاهر هو ما يسمونه «مُلْك» أما الخفي عنك الذي لا تقدر أن تصل إليه بمعادلات تستخرج منها النتائج فاسمه «ملكوت» . ويقول سبحانه في سيدنا إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض ... } [الأنعام: 75] فكلمة «ملكوت» معناها مبالغة في الملك، مثل رهبوت أي الرهبة الشديدة، ورحموت أي الرحمة الشديدة، وكلها صيغة «فعلوت» وهي صيغة المبالغة. {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} ونحن نرى السماء والأرض بوضوح، ولكن العظمة والسر ليسا في السماء والأرض فقط، بل هناك أشياء دقيقة جداً، بلغت من اللطف أنها لا تدرك بالنظر، ومع ذلك فإن فيها الحكمة العليا للخلق. وأنت قد ترى ساعة «بيج بن» الشهيرة في لندن وتكاد أن تكون أضخم ساعة في العالم، لكن الصانع المحترف من البشر صنع ساعة يد صغيرة في حجم الخاتم، وننبهر ونعجب بدقة عمله وصنعته. فما بالنا بالخالق الأعظم الذي يعظم خلقه من السموات والأرض لأنها فوق إدراكات البشر، وخلق أيضاً مخلوقات دقيقة لطيفة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4495 لا تستطيع أن تدركها أنت بمجرد النظر، كالميكروب، أو تدركها بصعوبة كالذبابة والبعوضة وبكل هذه الكائنات كل مقومات حياتها، حتى الكائن الذي لا معدة له يجهزه خالقه بقدرة على امتصاص الدماء مباشرة بعقله أو غريزته ويسعى ليأكل ويملأ معدته وله أجهزة تحول غذائه ليكون دماً. إذن فليست العظمة مقصورة على خلق السموات والأرض فقط، لذلك يقول الحق: {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي من أول شيء يقال له شيء، صار محكوماً عليه وجودياً، بأنك إن نظرت إليه ستجد الأجهزة التي نعطي له الحياة، وتعينه، حتى وإن كانت حواس استشعارية في ذات هذا الكائن، ولا يقوى عليها صاحب العقل. مثال ذلك: نجد أن ما يفر قبل حدوث الزلازل هو الحمير التي نتهمها بالغباء. وحين يتأمل العقل ما وصل إليه العلم في البحث في عالم الحيوان وعالم البحار، سنجد الإيمان بضرورة وجود خالق حكيم. وإن كان الكافرون مصروفين عن النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من كائنات قد لا تراها العين المجردة، كان عليهم أن يراعوا مصلحتهم فعسى أن يكون قد اقترب أجلهم. إننا نعلم أن الإنسان جنس، وأن له نوعين: نوع ذكورة، ونوع أنوثة، وبينهما جنس مشتبه نسميه الخنثى، والأجناس لها أفراد متعددة. وكل واحد له خلق، وكل واحد له موهبة، وكل واحد له مهمة. وساعة يطلب منا الحق: إياك أن تستصغر شيئاً منك ضد فيرك، وإياك أن تستكثر شيئاً منك لغيرك، ويجب عليك أن تجعل كلمة «شيء» هذه هي المقياس، ولذلك يقول لك الشرع: إنك حين تقدم حسنة إياك أن تستكثرها، بل قل هي ليست بشيء ذي بال. وإن همّ واحد بعمل سيئة فلا يقل: وماذا ستفعل لي سيئة واحدة؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4496 مستصغراً شأن هذه السيئة. وهذا نقول له: لا، لأن كلمة «شيء» يجب أن تحكم الكون. إنك إن نظرت لهذه المسألة قد تجد واحداً مثلاً ضئيل التكوين، ولا بسطة له في جسمه، لكن من الجائز أن له موهبة كبيرة، وقد تجد إنساناً آخر متين التكوين وليست عنده أية موهبة؛ لأن الله قد يعطي الضئيل فكرا عميقاً، أو حيلة كبيرة، أو موهبة خاصة في أي شيء. فلا تنظر إلى شيء قليل في أي إنسان، بل انظر إلى الشيء الجميل الذي فيه وهو المخفي عنك في نفسك. {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ولماذا تأتي هنا حكاية اقتراب الأجل؟ وللإجابة عن التساؤل أقول: إنها هامة جداً؛ لأننا مادمنا أفراداً أي جنسين أو ثلاثة أجناس، وقال عنا ربنا إننا خلفاء في الأرض، فعلينا أن نعلم أن الخليفة في الأرض جاء ليخلف من سبقوه، وقد يُميت ربنا أي إنسان في سن شهر أو سنة، أو سنتين أو خمسين عاماً؛ لأن العمر بالنسبة لكل إنسان هو أمر قد اختص به الحق - تبارك وتعالى - نفسه ولا يعلمه أحد؛ لأن غاية المتساوي لابد أن تكون متساوية، وعلى سبيل المثال: إن سألنا طلبة كلية الحقوق عن غايتهم من دراسة الحقوق قالوا: لنيل إجازة الليسانس، وسنجد منهم الطويل، والقصير، والأبيض، والأسود، والذكي والغبي، والقوي والضعيف، وهم لا يتفقون إلا على دراسة الحقوق، وكذلك لا نتساوى جميعاً كبشر إلا أمام الموت، فهناك من يموت وهو في بطن أمه، ومن يموت وهو طفل، ومن يموت وهو فتى. وإن كنا نختلف فيما بقي بعد ذلك، والمؤمن أو الكافر يرى هذه الأحداث أمامه ولا يستطيع أن يقول: لا لن أموت. ومادمت ستموت فانظر إلى مصلحتك أنت، لتثاب على ما فعلت في الدنيا بدلاً من أن تعاقب، فعسى أن يكون قد اقترب أجلك وأنت لا تعرف متى يجيء الأجل، وإبهام الأجل من الله لنا إشاعة للأجل، والإبهام هو أوضح أنواع البيان، فحين يريد ربنا أن يوضح أمراً توضيحياً كاملاً فهو يبهمه. ومثال ذلك: لو جعل الله للموت سنّاً، لصار الأمر محدداً بلا أمل. لكنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4497 سبحانه لم يجعل للموت سنّاً أو سبباً، وأشاعة في كل زمن، والإنسان عرضة لأن يستقبل الموت في أي لحظة، ونزل الموت لا يتوقف على سبب، فقد يأتي بسبب وقد يأتي بغير سبب، ومادام الإنسان يستقبل الموت في أي وقت، فعلى العاصي ألا يستقبل الموت وهو على عصيان لله. وإياك أن تقول: كيف مات فلان وهو غير مريض؟؛ لأن هناك العديد من الأسباب للموت، واعلم أن الموت بدون أسباب هو السبب، فالإنسان الذي نفقده بالموت، مات لأن أجله قد انتهى، والحق هنا يوضح: أيها الكافرون ألا تعلمون أن منكم من مات وعمره سنة ومن مات وعمره سنتان، ومن مات وعمره ثلاث سنوات، ومن مات وهو ظالم، ومن مات وهو مظلوم، ولو لم تكن هناك حياة ثانية فماذا تساوي هذه الحياة؟ . وما ذنب الذي لم يعش في الدنيا إلا شهرا؟ لابد أن تعرفوا أن هناك غاية تنتظركم، غايات فردية هي آجال الناس بذواتهم، وآجال إجماعية تتمثل في يوم القيامة. وفي قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} يوضح الحق تبارك وتعالى: إنه إذا كان هذا الحديث الذي أنزلته إليهم وفيه ما فيه من الإعجاز ومن الإبداع، ويجمع كل أنواع الكمالات، فماذا يريدون أكثر من ذلك؟ وهل في اتباعهم للأهواء ولتقنينات بعضهم لبعض سعادة لهم؟ بالعكس إنهم يشقوْن بذلك. وكان يجب عليهم أن يتأدبوا مع الله ومع الرسول. ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {مَن يُضْلِلِ الله ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4498 وقد كرر الحق هذا كثيراً، لأن الأشياء التي قد يقف العقل فيها، أو تأخذه مذاهب الحياة منها، ويكررها الله، ليجعلها في بؤرة الاهتمام دائماً، لعل هذا التكرار يصادف وعياً من السامع. وانظر إلى الحق وهو يعدد نعمه في سورة الرحمن فيقول بعد كل نعمة: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إنه يكرر ذكر النعم ليستقر الأمر في ذهن السامع. {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} وسبحانه لا يرغم واحداً على أن يهتدي، فإن اهتدى فلنفسه، وإن لم يهتد فليشرب مرارة الضلال. وكلنا نعرف أن الطبيب يكتب أسلوب العلاج للمريض، ليتم الشفاء بإذن من الله، الدواء إذن وسيلة إلى العافية، فإن رفض المريض تناول الدواء فهل في ذلك إساءة للطبيب؟ لا. وكذلك منهج الله. {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} لكن هل يريد الله الضلال لأحد، لا، بل سبحانه دعا الناس جميعاً بهداية الدلالة، فمن اهتدى زاده بهداية المعونة، ومن ضل فليذهب إلى الكفر كما شاء. ولذلك يقول لنا الشرع: إياك أن تشرك بالله شيئاً في أي عمل؛ لأن ربنا يقول لنا في الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ربه فيقول: قال الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه» ومعنى الشركة في عرف البشر، أن مجموعة من الناس عرفوا أن عمل كل منهم ومال كل منهم، وموهبة كل منهم، لا تكفي لإقامة مشروع ما، لذلك يكونون شركة لإنتاج معين، فهل هناك ما ينقص ربنا ليستكمله من آخر؟ حاشا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4499 لله. بل إن مجرد توهم العبد بأن هناك شريكاً يجعل الله رافضاً لعبادة العبد المشرك. لذلك يقول في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه» . ومادام ربنا قد تنازل عن رعايته له فليتلق المتاعب من حيث لا يدري. ومن قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} نتبين أنه حين يحكم الله بضلال إنسان أو بهداية آخر فلن يستطيع البشر أن يعدِّل على الله، ليجعل شيئاً من ضلال هو هدى، أو شيئاً من هدى هو ضلال. كما يتضح من تلك الآية الكريمة أن من في قلوبهم مرض يزيدهم الله مرضاً ويتركهم في طغيانهم يعمهون، والعمه هو فقدان القلب للبصيرة، والعمى هو فقدان العين للبصر. ويقل الحق - تبارك وتعالى - بعد ذلك: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4500 والمسئول هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والسائل إما هم اليهود الذين سألوه عن الساعة، وعن الروح، وعن ذي القرنين، فكان الجواب منه مطابقاً لما عندهم في التوارة لأنهم ظنوا أن الكلام الذي يقوله محمد إنما يأتي منه جزافاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4500 بدون ضابط وليس من رب يُنْزلُه. فلما أجاب بما عندهم في التوراة، علموا أنه لا يقول الكلام من عنده، ولذلك سألوه أيضاً عن أهل الكهف وما حدث لهم، وكانوا جماعة في الزمن الماضي، واتفقوا معه على كل شيء حدث لأهل الكهف إلا على الزمن فنزل القرآن يحدد هذا الزمن بقوله سبحانه: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} [الكهف: 25] فقال اليهود: الثلاثمائة سنة نعرفها، أما التسعة فلا نعرفها، وما علموا أن الحق سبحانه وتعالى يؤرخ لتاريخ الكون بأدق حسابات الكون لأن ربنا هو القائل: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله ... } [التوبة: 36] إذن التوقيتات كلها حسب التوقيت العربي، ونعلم أن الذين يريدون أن يحكموا التاريخ حكماً دقيقاً فهم يؤرخون له بالهلال، والمثال أن كل عَالَم البحار تكون الحسابات المائية فيها كلها بالهلال، لأنه أدق، وأيضاً فالهلال آية تعلمنا متى يبدأ الشهر، ولا نعرف من الشمس متى يبدأ الشهر؛ لأن الشمس دلالة يومية تدل على النهار والليل، بينما القمر دلالة شهرية، ومجموع الاثنى عشر هو الدلالة السنوية. لكنهم لم يفطنوا إلى هذه، وأخذوا على الثلاثمائة سنة بالحساب الشمسي، وأضاف الحق: {وازدادوا تِسْعاً} لأنك إن حسبت الثلاثمائة سنة الشمسية بحساب السنة القمرية تزداد تسع سنين. ومادة السؤال في القرآن ظاهرة صحية في الإيمان؛ لأن الإيمان إنما جاء ليحكم حركة الحياة ب «افعل» و «لا تفعل» ، وساعة يقول الشرع: افعل، ففي ظاهر هذا الفعل مشقة، وساعة يقول: لا تفعل ففي ظاهر هذا الطلب أنه سهل ومرغوب، والمنع عنه يناقض شهوات النفس. وللتأكد من أن الأسئلة ظاهره صحية من المؤمنين نجد أسئلة كثيرة موجهة لرسول الله من أمته، حكاها القرآن بصور متعددة، ورد السؤال مرة بفعل مضارع مثل قوله: {ويَسْأَلُونَكَ} ؛ ومرة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4501 ورد بصورة فعل ماض «وإذا سألك» . وكثيراً ما جاء السؤال بهيئة المضارع {يَسْأَلُونَكَ} ، لأن المضارع يكون للحال وللاستقبال. وجاءت الأسئلة بالقرآن في صيغة المضارع خمس عشرة مرة، وجاءت بصيغة الماضي مرة واحدة. وإن نظرت إلى الخمس عشرة مرة تجد كل مرة مِنْها جاءت لتبين حكماً. وإذا نظرنا إلى مادة الفعل «يسأل» في القرآن وبترتيب المصحف، نجد القرآن يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ... } [البقرة: 189] ويقول سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين ... } [البقرة: 215] ويقول الحق تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل ... } [البقرة: 217] ويقول سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ... } [البقرة: 219] ومرة أخرى يقول في ذات الآية السابقة: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4502 {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو ... } ويقول سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ... } [البقرة: 220] ويقول عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض ... } [البقرة: 222] ويقول الحق تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} وبعد ذلك في سورة الأعراف يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ... } [الأعراف: 187] وأيضاً يقول سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ... } [الأعراف: 187] ثم يقول الحق: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول ... } [الأنفال: 1] ويقول الحق تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي ... } [الإسراء: 85] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4503 ويقول المولى سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} [الكهف: 83] ويقول الحق: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] ويختم هذه الأسئلة بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 42 - 43] تلك هي خمس عشرة آية جاء فيها الحق بقوله {يَسْأَلُونَكَ} ، وآية واحدة يقول فيها الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ ... } [البقرة: 186] والآيات الخمس عشرة التي جاء فيها الحق بصيغة المضارع {يَسْأَلُونَكَ} نجد كل جواب فيها مُصدرا ب «قل» وهو أمر للرسول: قل كذا، قل كذا، ولكن في الآية الواحدة التي جاء فيها الفعل الماضي {وَإِذَا سَأَلَكَ} ، لم يقل: فقل إني قريب، بل قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع} ، لأن الله يعلم حب محمد لأمته، وحرصه عليهم ولذلك يقول: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4504 ويقول سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] ولذلك حين علم الحق علم وقوع: أن رسول الله مهتم بأمر أمته ومشغول بها وحريص على أن يشملها الله بمغفرته ورحمته وألا يسؤوه فيها، أخبره المولى عَزَّ وَجَلَّ بأنه سوف يرضيه في أمته. وقد ورد في الحديث ما يؤيد ذلك، فقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قول الله عَزَّ وَجَلَّ في إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقول عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فرفع يديه فقال: أمتي أمتي وبكى فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فَسَلْهُ ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما قال وهو أعلم، فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك» وتأكيداً لعلم الحق تبارك وتعالى من حرص رسوله على أمته، أراد أن يكرم هذه الأمة من نوع ما كرّم به الرسول، فجاء الخطاب في آية الدعاء بدون «قل» . {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ... } [البقرة: 186] وأراد الله أن يبين لمحمد ولأمته أن الله يعلم لا بما تسألونه فقط، بل يعلم ما سوف تسألونه عنه. لذلك نجد أربع عشرة آية تأتي فيها {يَسْأَلُونَكَ} وتكون الإجابة «قل» ، والآية الخامسة عشرة جاء فيها {يَسْأَلُونَكَ} وكانت الإجابة «فقل» لتدل على «الفاء» على أن السؤال لم يقع بعد، فكأن الفاء دلت على شرط الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4505 مقدر هو: إن سألوك فقل ينسفها ربي نسفاً، وهنا يقول الحق سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] و «يجٌليها» أي يُظهرها، وهناك ما يسمى «الجلوة» وما يسمى «الخلوة» ، و «الجلوة» أن يظهر الإنسان للناس، و «الخلوة» أن يختلي عن الناس، و «لا يجليها» أي لا يظهرها، و «لوقتها» ترى أنها مسبوقة باللام، ويسمونها في اللغة العربية «لام التوقيت» ، مثلما يقول الحق سبحانه: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس ... } [الإسراء: 78] وهي بمعنى «عند» ، ومعنى دلوك الشمس، أنها تتجاوز نصف السماء، وتميل إلى المغرب قليلاً. وقوله: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} أي لا يُبَيّنُها عند وقتها إلا هو سبحانه وتعالى. {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} والثقل يعني أن تكون كتلة الشيء أكبر من الطاقة التي تحمله؛ لأن الكتلة إن تساوت مع الطاقة فهي لا تثقل على الحمل. أو أن الطاقة التي تحمل لم تقدر على جاذبية الأرض؛ فيكون الشيء ثقيلاً، وقد يكون هذا الثقل أمْراً ماديا، كما يحمل الإنسان - مثلاً - على ظهره أردباً من القمح فيقدر على حمله، لكنه إن زاده إلى أردب ونصف، فالحمل يكون ثقيلاً على ظهره لأن طاقته لا تتحمل مثل هذا الوزن «فينخ» به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4506 {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض} والثقل لا يكون مادياً فقط، بل هو فكري وعقلي أيضاً، مثال ذلك حين يقوم الطالب بحل هندسي أو تمرين في مادة الجبر، فالطالب يشعر أحياناً أن مثل هذا التمرين ثقيل على فكره، وصعب الحل في بعض الأحيان. وقد يكون الأمر ثقيلاً على النفس في ملكاتها، مثل الهم جاثم على الصدر وثقيل عليه، وهو أقسى أنواع الثقل، ولذلك فالشاعر القديم يقول: ليس بحمل ما أطاق الظهر ... ما الحمل إلا ما وعاه الصدر إذن هناك ثلاثة أثقال: ثقل مادي، وثقل فكري، وثقل نفسي. و {ثَقُلَتْ فِي السماوات} ، ونحن نعلم أن السموات فيها الملائكة. ونعلم أن الملائكة أيضاً لا تعرف ميعاد الساعة، ولا يحاول معرفتها إلا الإنسان بشهوة الفكر، أما الملائكة فهي ليست مكلفة لأنها لا اختيار لها، وبعضها يخدم البشر، وهم الملائكة الذين سجدوا لآدم وهم الموكلون بمصالحه، وبحياته، وقد رضخوا لأمر الحق بأن هناك سيداً جديداً للكون. فكونوا جميعاً مسخرين في خدمته، وهم الملائكة الحفظة الكرام الكاتبون، ولهم إلف بالخلق، إلف كاره للعاصي، وإلف محب للطائع. ومن يسير على منهج الله من البشر يفرحون به. وإن وقع من الطائع زلة، يأسون له ويتمنون ألا تقع منه زلة أخرى. ومن يسير ضد منهج الله يغضبون منه، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول فيما يرويه عنه أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «ما من يوم يصبح العياد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفاً» ونعلم أن المنفق سيأخذ ثواب إنفاقه، أما الممسك فإن تلف ماله وصبر عليه فهو أيضاً ينال ثواباً عليه. وهكذا تدعو لنا الملائكة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4507 و «ثقلت» هنا تعني أن ميعاد الساعة لا يعرفه إلا ربنا، فلا يعرف ذلك الميعاد من هم في السموات وكذلك من هم في الأرض، وكل من على الأرض خائف مما سوف يحدث لحظة قيام الساعة، وخصوصاً أن المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يعطي لها صورة توضح قوله الحق: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} ويخبرنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحالة التي تأتي عليها فيقول: «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» ومثل هذه التوقعات تخيف. وقوله الحق: {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} أي أن الواقع في هذا اليوم يكون فوق احتمال البشر وهو يأتي بغتة، أي يجيء من غير استعداد نفسي لاستقباله. ويتابع سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} وحفيَ من الحفاوة، والحفيّ هو المُلِحُّ في طلب الأشياء، مثل التلميذ الذي يتوقف عند درس لا يفهمه، فيسأل هذا، وذاك إلى أن يجد إجابة. والحفى بالسؤال عن أمر يحاول أن يصل إليه، والحفى أيضاً عالم بما يسأل عنه، وسبب العلم أنه ألحّ في السؤال عليها. والأمور التي يعالجها الإنسان إما أن يعالجها وهو مستقر في مكانه كالأمور الفكرية أو العضلية الموقوتهَ بمكان، وقد يكون أمراً بعيداً عن مكانه ويريد أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4508 يعالجه، فيقطع المسافة إلى المكان الثاني لتحقيق هذه المهمة، إنما يمشي ويسعى على رجليه، و «يدوب» النعل الذي يضعه في قدميه من المشي فيقال عنه إنه: «حافي» . ولذلك يقال: حفي فلان إلى أن وصل للشيء الفلاني، أي سار مرات كثيرة وقطع عدة مسافات، مزقت نعله حتى جعلته يمشي حافياً. وهنا يقول الحق على ألسنة القوم: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي أنك مُعْنى بها، ودائب السؤال عنها، وعارف لها. وتأتي الإجابة من الحق: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} وفي ذات الآية سبق أن قال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} والربوبية متعلقها الخلق، والرعاية بالقيومية لمصالح البشر، والأوهية متعلقها العبادة وتطبيق المنهج، وجاء الحق في هذه الآية، مرة بالربوبية، ومرة بالألوهية. والأولى هي علة الثانية، فأنت أخذت الله معبوداً، وأطعته لأنه خلقك ووضع لك المنهج، ولا يذخر وسعاً بربوبيته أن يقدم للعبد الصالح كل شيء ويمنحه البركة، وكذلك يعطي الكافر إن أخذ بالأسباب ولكن دون بركة وبغير ثواب في الدنيا أو الآخرة، لذلك هو الإله الحق الذي نتبع منهجه. {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} وأكثر الناس الذين يسألون عن موعد الساعة لا يعلمون أن ربنا قد أخفاها، وسبحانه هو القائل: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} [طه: 15] هم إذن لا يعلمون أن علمها عند الله. ويقول سبحانه وتعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4509 {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً ... } الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4510 ويقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسوله: أنتم تسألونني عن الساعة، وأنا بشر، ومتلقّ فقط، والإرسال بالمنهج يأتي من الله وأنا أبلغه، ولا علم لي بموعد قيام الساعة، ولا أملك لنفسي لا ضراً ولا نفعاً، أي لا أملك أن أدفع الضر عني أو أجذب النفع لنفسي، ولكن حين يسوق الله النفع أو يمنع الضر، فالإنسان يملك ما يعطيه الله، والعاقل حين يملك، يقول: إن هذا ملك عَرَضي، لا آمن أن ينزع مني. لذلك قال لنا الحق تبارك وتعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أيْ أنَّ أحداً لا يملك شيئاً إلا ما شاء الله أن يملكه، ورسول الله من البشر. ويضيف: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِيَ السواء ... } [الأعراف: 188] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4510 ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير، فقد حارب، وانتصر، وحارب وانهزم، وتاجر فربح، ويسير عليه ما يسير على البشر، ومرة يدبر الأمر الذي لم يكن فيه منهج من السماء، فمرة يصيب ومرة يخطىء. فيصحح له الله؛ لذلك يأتي القول على لسانه بأمر من الله: لو كنت أعلم الغيب لما وقعت في كل هذه المسائل، وكان أهل رسول الله من قريش قد قالوا: إننا أقاربك، فقل لنا على موعد الساعة. حتى نستعد لملاقاتها. ويتابع المولى سبحانه قوله: {وَمَا مَسَّنِيَ السواء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وساعة ترى «إن» فهي مرة تكون شرطية مثل: «إن ذاكرت تنجح» ، ومرة تكون للنفي وتجد بعدها اسما، والمعنى: ما أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون. والكلام موجه إلى المؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بالنذارة وبالبشارة، وما يُنذروا به لا يفعلوه، وما يبشروا به يفعلوه. ويقول الحق بعد ذلك: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4513 وقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} المقصود بها آدم، وقول الحق: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} المقصود بها حواء، ونلحظ في الأداء في هذه الآية أن الضمير عائد إلى مؤنث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4513 {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ثم جاء بالتذكير في قوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} إذن فصل الذكورة عن الأنوثة جاء عند {لِيَسْكُنَ} . فكأن الكلام في النفس معنىٌّ به جنس بني آدم وهو الذي نسميه «الإنسان» ومنه ذكورة ومنه أنوثة، ولذلك فسبحانه حينما يتكلم عن الذكورة كذكورة، والأنوثة كأنوثة، يأتي بضمير المذكر، أو بضمير المؤنث، وقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} . لأنه يريد أن يوضح أن المرأة جُعلَت للرجل سكناً، لا يقال: إنها له سكن إلا إذا كان هو متحركاً، كأن الحركة والكدح في الحياة للرجل، ثم يستريح مع المرأة ويسكن إليها بالحنان، بالعطف، بالرقة. أما إن لم تكن سكناً فهو يخرج من البيت لأن ذلك أفضل له. وقول الحق تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} . يذكرنا بما عرفناه من قبل من أن الله خلق آدم من الطين ومن الصلصال ثم نفخ فيه ربّنا الروحَ، أما حواء فقد ذكرها في هذه المسألة، وأوضح: أنا جعلت منها زوجها، و «منها» أي أنها قطعة منه، وقيل: إنها خلقت من ضلع أعوج، ومن يرجع هذا الرأي يقول لك: لأن الله يريد أن يجعل السكن ارتباطاً عضويا، فالمرأة بعض من الرجل، ونعرف أن الواحد منا يحب ابنه لأنه بعض منه. وعلى ذلك فهذا القول جاء لتقديم الألفة. وهناك من يقول: إن حواء خلقت مثل آدم فلماذا جاء ذكر آدم ولم يأت بذكر حواء؟ ونقول: إن آدم أعطى الصورة في خلق الإنسان من طين، لأن آدم هو الرسول وهو المسجود له. ونعلم أن المرأة دائما مبنية على الستر. ومثال ذلك نجد الفلاح في مصر لا يقول: زوجتي، بل يقول: «الجماعة» أو «الأولاد» أو يقول: «أهلي» ولا يذكر اسم الزوجة أبداً. والحق يقول هنا: {وَجَعَلَ مِنْهَا} ، فإن كانت مخلوقة من الضلع ف «مِنْ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4514 تبعيضية، وإن كانت مخلوقة مثل آدم تكون «مِنْ» بيانية، أي من جنسها، مثلها مثلما يقول ربنا: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ ... } [الجمعة: 2] . أي الرسول من جنسنا البشري ليكون إلف المبلغ عن الله، والمبلغ عن الله واحدا منا ونكون مستأنسين به، ولذلك قلنا: إن اختيار الله للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من البشر فيه رد على من أرادوا أن يكون الرسول من جنس آخر غير البشر، فقال الحق على ألسنتهم: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] . ويأتي الرد عليهم: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] . ثم لو كان الرسول من جنس الملائكة فكيف كانوا يرونه على حقيقته؟ كان لا بد أن يخلقه الله على هيئة الإنسان. ويتابع سبحانه: {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} و {تَغَشَّاهَا} تعبير مهذب عن عملية الجماع في الوظيفة الجنسية بين الزوج والزوجة، والغشاء هو الغطاء، وجعل الله الجماع من أجل التناسل ليبث منهما رجالاً كثيراً ونساء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4515 والمعنى هنا أنها حملت الجنين لفترة وهي لا تدري أنها حامل، لأن نموّ الجنين بطىء بطىء لا تشعر الأم به. {فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [الأعراف: 189] . ومرت به، مقصود بها أنها تتحرك حركة حياتها قياماً وقعوداً إلى أن تثقل وتشعر بالحمل في شهوره الأخيرة. وهنا عرف الزوج أن هناك حملا ورفع الاثنان أيديهما بالدعاء لله عَزَّ وَجَلَّ أن يكون الولد صالحاً بالتكوين البدني وصالحاً للقيام بقيم المنهج. {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] . أي أن الذكورة قد انفصلت عن الأنوثة، وصار الذكر يسكن عند الأنثى. وهكذا كان الأمر الخاص بآدم، ثم جاء الكلام للذرية، وخصوصاً أن حواء كانت تحمل بذكر وأنثى، وآدم وحواء وأولادهما هم أصل التواجد البشري وأصل التوالد. والقرآن قد يتكلم في موضوعات تبدو متباعدة. لكنها تضم قيماً ذات نسق فريد، فنجد الحق يتكلم في أمر ثم يتكلم في آخر، مثل قوله: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ... } [يونس: 22] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4516 ولم يأت بسيرة البر هنا، بل تكلم بالبر والبحر ثم انتقل إلى الحديث عن مجيء الموت، وأيضاً انظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً ... } [الأحقاف: 15] . هنا يوصي الحق الإنسان بوالديه، بالأب وبالأم، ثم يتابع: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ... } [الأحقاف: 15] . ولم تأت سيرة الرجل بل كل الحيثيات للأم. ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك: {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ ... } . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4517 ويروى أن هذه الآية قد نزلت في «قٌصَيّ» وهو جد من أجداده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد طلب «قُصَيّ» من الله أن يعطي له الذرية الصالحة، فلما أعطاه ربنا الذرية الصالحة سماها بأسماء العبيد، فلم يقل: عبد الله أو عبد الرحمن، بل قال: عبدمناف، عبد الدار، عبد العزى. وجعل لله شركاء في التسمية، ولهذا جاء قول الحق: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا} ؛ ليدلنا على أن الإنسان في أضعف أحواله، أي حينما يكون ضعيفاً عن استقبال الأحداث، يخطر بباله ربنا؛ لأنه يحب أن يسلم نفسه لمن يعطي له ما يريده، وبعد أن ينال مطلبه ينسى، ولذلك يقول الحق: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ ... } [يونس: 12] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4517 إذن فائدة الضر أنه يجعلنا نلجأ إلى ربنا، ولذلك نجد الإنسان أحسن ما يكون ذكراً لله وتسبيحا لله حينما يكون في الشدة وفي المرض، ولذلك لو قدر المريض نعمة الله عليه في مرضه وشدته، لا أقول: إنه قد يحب أن يستطيل مدة المرض والشدة. لا، بل عليه فقط ألا يضجر وأن يلجأ إلى ربه ويدعوه. وقد علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك حينما قال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدوّ مّلكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قول إلا بك» . والإنسان ساعة يوجد في المرض عليه أن يعرف النعمة فيه، فهو في كل حركة من حركاته يذكر الله، وكما تخمد فيه طاقات الاندفاعات الشهوانية، يمتلىء بإيجابيات علوية، ولذلك نجد الحديث القدسي يقول فيه ربنا سبحانه وتعالى: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب. كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب. كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي» . إذن ماذا عن حال مريض يستشعر أن ربه عنده، ويكون في المرض مع المنعم، وفي الصحة مع النعمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4518 {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190] . ومعنى هذا أن ربنا تبارك وتعالى ينزه نفسه عما يقول فيه المبطلون ويشركون معه ما يزعمون من آلهة. ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4519 أيشركون في عبادة الله من لا يخلقون شيئاً، وهم أنفسهم مخلوقون لله، إن من أشركوا بالله الأصنام فعلوا ذلك بالوهم وتنازلوا عن العقل، وكان الواجب أن يكونوا عقلاء فلا يتخذون من الأصنام آلهة. {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ولذلك فإن هناك آية أخرى تفضح زعمهم يقول فيها الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ ... } [الحج: 73] . ونعلم أن البشر في المعامل قد عرفوا العجز عن خلق خلية واحدة وهي التي لا ترى بالعين المجردة، ولذلك أوضح الحق أن المسألة ليست أمر خلق، بل إن الذباب لو وقع على طعام إنسان وأخذ على جناحه أو في خرطومه شيئاً، لن يستطيع أحد أن يسترد المأخوذ منه، فقد ضعف الطالب والمطلوب. والخلق - كما نعلم - أول مرتبة من مراتب القدرة، فإذا كانت الأصنام التي اتخذها هؤلاء شركاء لا تخلق شيئاً بإقرارهم هم، فكيف يعبدونها؟ إنها لا تخلق شيئاً بدليل أنها لا تتناسل. بل إذا أراد العابدون أن يزيدوا صنماً صنعه العابدون بأنفسهم. ونلحظ أن الحق جاء هنا بالقول: {أَيُشْرِكُونَ} بصيغة تعجب، والتعجب ينشأ عن إنكار ما به الاستفهام، أي تعجب منكراً على وفق الطباع العادية، مثلما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4519 يقول لنا: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله ... } [البقرة: 28] . أي قولوا لنا ما الطريقة التي بها تكفرون بالله وتسترون وجوده، مع هذه الآيات البينات الواضحات؟ فكأن ذلك أمْر عجب يدعو أهل الحق للدهشة والاستغراب والإنكار الشديد، وحينما يتكلم الحق بإنكار شيء لأنه أمر عجيب، يوجه الكلام مرة إليهم، ومرة أخرى يوجهه إلى غيرهم، مثل قوله هنا: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} والكلام للمؤمنين لأنه يريد أن يعطي لقطتين في الآية، اللقطة الأولى: أن ينكر ما فعله هؤلاء، وأن يزيد القوم الذين لم يفعلوا ثقة في نفوسهم، وفرحة بمواقفهم الإيمانية، حيث لم يكونوا مثل هؤلاء {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} . وفي الآية الكريمة وقفة لفظية في الأسلوب العربي نفسه قد تثير عند البعض إشكالا، في قوله تعالى: {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً} . و «ما» تعني الذي لم يخلق شيئاً، و «يخلق» هنا للمفرد، وسبحانه وتعالى جعل للمفرد هنا عمل الجمع فقال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً} . وأقول: إن الذي يقف هذه الوقفة، ويلاحظ هذا الملحظ إنسان سطحي الثقافة بالعربية، لأنه لا يعلم أن «ما» و «من» و «ال» تطلق على المفرد والمفردة، وعلى المثنى والمثناة، وعلى جمع الذكور وجمع الإناث، فتقول: جاءني من أكرمته، وجاءتني من أكرمتها، وجاءني من أكرمتهما، وجاءت من أكرمتهما، وجاء من أكرمتهم وجاء من أكرمتهن. وكذلك «ما» . إذن فقول الحق: {مَا لاَ يَخْلُقُ} في ظاهرها مفرد، ولكن اللفظ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4520 يطلق على المفرد والجماعة؛ لذلك جاء في الأمر الثاني وراعى الجماعة، إذن «يخلق» للمفرد، و «هم يخلقون» للجمع لأن قوله: «ما» صالح للجميع أي للمفرد وللمثنى وللجمع وللمذكر وللمؤنث. ومثال ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ ... } [محمد: 16] . وسبحانه قال هنا: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} ، ولم يقل: «حتى إذا خرج من عندك» بل قال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ} أي أنه جاء بالجماعة، فإذا رأيت ذلك في «ما» و «من» و «ال» فاعلم أن هذه الألفاظ يستوي فيها المفرد والمفردة والمثنى والمثناة وجمع الذكور وجمع الإناث. {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} . وهنا في هذه الآية وقفة لغوية أخرى في قوله: «هم» وهي لا تطلق إلا على جماعة العقلاء، فكيف يطلق على الأصنام «هم» وليست من العقلاء؟ وأقول: إن الحق سبحانه وتعالى لما علم أنهم يعتقدون أنها تضر، وأنها تنفع، فقد تكلم معهم على وفق ما يعتقدون، لكي يرتقي معهم في رد الإنكار لكل ما يستحق الإنكار. فأول مرحلة عرفهم أن الأصنام لا تخلق، وثاني مرحلة عرفهم أنهم هم أنفسهم مخلوقون والأصنام لا تقدر على نصرهم، إذن فهم معطلون من كل ناحية؛ لأنهم لا يخلقون. وهذا أول عجز، ومن ناحية أخرى أنهم يُخْلَون وهذا عجز آخر، لكن بعد هذا العجز الأول والعجز الثاني فهل هم قادرون على نصر غيرهم؟ ها هو ذا سبحانه يترقى في الحوار معهم ترقية أخرى فيقول: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4521 إذن فلا أحد من الأصنام قادر على أن ينصر نفسه أو يضمن نصر غيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4521 وهكذا نجد الترقي في الحوار على أربع مراحل، أولاَ: لا يخلقون، ثانياً: هم يُخلَقون، ثالثاً: لا ينصرونكم، ورابعاً: ولا ينصرون أنفسهم. ثم تأتي المرحلة الخامسة في قوله الحق: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4522 وعلى ذلك فهي خمس مراحل - إذن -، أكررها لتستقر في الذهن، أولها أنه من الجائز أنه لا يَخلُق، ومن الجائز أن يكون مخلوقاً، ومن الجائز أنه لا يقدر أن ينتصر لغيره لأنه ضعيف، ولا ينتصر لنفسه لأنه أضعف، ومع ذلك إن أردت أن تهديه إلى شيء من ذلك أو إلى شيء من العلم فلا يقبل منك. وكانوا في الجاهلية حين يفزعهم أمر جسيم ينادونهم ويقولون: يا هبل، يا لات، يا عزى. وإن لم يصبهم أمر سكتوا عن نداء الأصنام؛ لذلك يقول لهم الله من خلال الوحي لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون} [الأعراف: 193] . أي إن دعوتكم لهم لا تفيد في أي أمر تماماً كصمتكم. ونلحظ أن الأسلوب هنا مختلف {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} فلم يقل: «أدعوتموهم أم صَمَتّم» ؛ لأن الفعل يقتضي الحدوث، ولنا أن نعرف أنهم كانوا لا يفزعون إلى آلهتهم إلا عند الأحداث الجسام. أما بقية الوقت فقد كانوا لا يكلمونهم أبداً؛ لذلك جاءت «صامتون» لازمة، لأنها اسم، والاسم يقتضي الثبوت والاستمرار، أما الفعل فيقتضي الحدوث والتجدد. والحق هنا يبلغ المشركين: سواء عليكم أدعوتموهم أم لم تدعوا، فعدم الاستجابة متحقق فيهم وواقع منهم، وعدم النصر لأنفسهم ولغيرهم متحقق منهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4522 ثم يتكلم الحق عن قضية أخرى فيقول: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4523 و {تَدْعُونَ} لها معنيان، المعنى الأول يعني أنكم قد تتخذونهم آلهة وتعبدونهم، والمعنى الثاني هو أن يقال: «تدعونه» أي تطلب منه شيئاً. والمعنيان يجيئان في هذه الآية: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم} . وعنْدَما يسمع الإنسان كلمة «عباد» يفهم أنها من الجنس المتعقل الحي، فكيف تكون الأصنام عباداً؟ وأقول: نحن هنا نأخذها على شهرة اللفظ، أما إذا أردنا تحقيق اللفظ وتعقيده، فالبناء مأخوذ من التذلل والخضوع، ألم يقل موسى لفرعون:؟ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22] . أي أذللتهم. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تكون الأصنام عباداً أمثالهم في أنهم يُذلون؛ لأن السيل إذا نزل أو هبت الريح نجد هذه الأصنام قد وقعت وتكسرت رقابها، فيهرع المشركون ليأتوا بمن يعيد ترميم هذه الآلهة!! إذن فأنتم أيها المشركون؛ لأنكم مخلوقون بالله قد تملكون قدرة، وقوة تستطيعون بها إن جاء لكم ضر أن تدفعوا الضر عنكم، أما الأصنام فليست لها أدنى قدرة إن جاءها من يحطمها، أو يكسرها، أو يقبلها، فهي أضعف منكم. وبذلك تكون كلمة {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} لوناً من الترقي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4523 وعلى فرض أنهم عباد أمثالكم، فالعبد من الأحياء حينما يأتي شيء يستذله، قد يستطيع أن يدفع عن نفسه بعض الشيء إلا إن كان الشيء قويا فوق طاقته. فالمراد والمقصود أنهم عباد أمثالكم أي مذللون ومسخرون ولا يستطيعون دفع شيء عن أنفسهم. وأنت إذا ما نظرت إلى هذه المسألة وأخذت معنى عباد على معناها الإطلاقي، فأنت تعلم أن العبد هو كل مسخر مذلل من العباد. لكن هناك مذلل ومسخر فيما لا اختيار له فيه، وآخر مذلل ومسخر فيما له فيه اختيار أيضاً، والفرق بين الاثنين أن الكافر فيما له اختيار؛ إما أن يؤمن وإما أن لا يؤمن ويختار الكفر، بل إن الإنسان المؤمن له الاختيار في أن يطيع أو يعصي. ولكن هناك أشياء أخرى تجري على الإنسان لا اختيار له فيها، كأن يمرض ولا يقدر أن يقول: لا لن أمرض، أو قد يأتيه الموت فلا يقدر أن يقول: لن أموت. وقد يهلك ماله أو تحترق داره فلا يستطيع دفع القدر، وكل هذه أمور قهرية يكون الإنسان فيها مذللاً مسخراً، والكافر والمؤمن في هذه الأمور سواء. والمؤمن يتميز بأنه يتبع منهج الله فيما له فيه اختيار، وهذه فائدة الإيمان، وبذلك يخرج المؤمن عن الاختيار المخلوق لله، إلى مراد الله منه في الحكم، ويستوي بكل شيء مسخر لله، ولذلك نقول للذين يكفرون: كفرتم وتأبيتم بما خلق فيكم من الاختيار عن الإيمان بالله. وقد جعلها الله لكم بقوله: { ... فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وما دام الواحد منكم أيها الكافرون يتأبى ويستكبر على حكم الله، إذن فللواحد منكم أيها الكافرون رياضة على التمرد، فلماذا لا تقول للمرض لن أستسلم لك. ولن يستطيع أحد الكافرين ذلك، لأنه إنما يكفر بما له حق ممنوح من الله في منطقة الاختيار، أما في غير ذلك فالكل عباد مذللون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4524 {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} [الأعراف: 194] وقول الحق تبارك وتعالى: {فادعوهم} أي اطلبوا منهم أن يلبوا لكم أي طلب، وهم لن يستجيبوا لكم؛ لأنهم لا يقدرون أبداً. وفي هذا القول لون من التحدي {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} لكنهم لن يستجيبوا، فليست لهم قدرة لأن يخرجوا على أمر ربنا ويقولوا سنعطيكم ما تطلبون، لأن طاقتهم وطبيعتهم لا تقدر أن تستجيب. وبعد أن قال الحق عن الأصنام: إنهم عباد أمثالكم، أراد أن ينزلهم منزلة أدنى من البشر فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4525 وينبه الحق تبارك وتعالى كل مشرك، وكأنه يقول له: أنت لك رجل تمشي بها، ولك يد قد تبطش بها، ولك أذن تسمع، ولك عين تبصر، فهل للأصنام حواس مثل هذه؟ . لا، ليست لهم، إذن، فالأصنام أقل منك، فكيف تجعل الأقل إلهاً للأكبر؟ إن هذا هو جوهر الخيبة. وقوله: {يَمْشُونَ بِهَآ} ، و {يَسْمَعُونَ} و {يُبْصِرُونَ} جاءت لأن المشركين صوروا التمثال وله رجلان وله اذنان وله عينان ويضعون في مكان كل عين خرزة لتكون مثل حدقة العين، وحين ينظر إنسان منهم إلى التمثال يخيل إليه أن التمثال ينظر إليه. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4525 { ... يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] . وفي قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ... } [الأعراف: 195] . حين يعرض الحق مثل هذه الأمور بأسلوب الاستفهام. فإنما يريد أن يحقق المسائل عن أقوى طريق، لأن الاستفهام لا بد له من إجابة. والكلام من الله عند الكافر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب. وإجابة الكافر ستكون قطعاً بعدم استطاعة الأصنام المشي أو اللمس أو الرؤية أو السماع؛ لذلك أراد الحق ألا يكون الحكم من جهته. بل الحكم من جهة المشركين، وفي هذا إقرار منهم. ولذلك يقول الحق مخاطبا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1] . أما كان يستطيع سبحانه وتعالى أن يقول: شرحنا لك صدرك؟ كان يستطيع ذلك. ولكنه يأتي بالاستفهام الذي يكون جوابه: بلى لقد شرحت لي صدري. وينبه قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ... } إلى مقارنة الأصنام بالبشر. فالبشر لهم أرجل وأيْدٍ وأعين وآذان، وكل من هذه الجوارح لها عمل تؤديه، وهكذا يتأكد للمشركين أنهم أعلى مرتبة من أصنامهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4526 فكيف يجوز في عرف العقل أن يكون الأعلى مرتبة مربوباً للأدنى مرتبة؟ إن ذلك لون من الحمق. { ... قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} ورسول الله جاء بهذا القول ليدحض إيمانهم بهذه الأصنام التي اتخذوها آلهة وليسفه أحلامهم فيها، وبذلك أعلن العداوة ضدهم - العابدين، والمعبودين - وصارت خصومة واقعة، وسألهم أن يدعوا الشركاء ليكيدوا لرسول الله بالأذى أو التعب أو منع النصر الذي جاء للإسلام، إن كانت عندكم أو عندهم قدرة على ضر أو نفع {قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} . ويتحداهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكيدوا هم وآلهتهم، والكيد هو التدبير الخفي المحكم. وانظروا ما سوف يحدث، ولن يصيب رسول الله بإذن ربه أدنى ضر. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى قد أجرى على رسول الله أشياء، ليثبت بها أشياء، وقد قالوا: إن واحداً قد سحر النبي، ولنفرض أن مثل ذلك السحر قد حصل، فكيف ينسحر النبي؟ ونقول: ومن الذي قال: إنه سحر؟ . إن ربنا أعلمه بالساحر وبنوع السحر، وأين وضع الشيء الذي عليه السحر، ليبين لهم أن كيدهم حتى بواسطة شياطينهم مفضوح عند الله. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... } [الأنفال: 30] . وهم كانوا قد بيتوا المكر لرسول الله وأرادوا أن يضربوه ضربة واحدة ليتفرق دمه في القبائل، فأوضح ربنا: أنتم بيتم، ولكن مكركم يبور أمام أعينكم. وليثبت لهم أنهم بالمواجهة لن يستطيعوا مصادمته في دعوته. ولا بالتبييت البشري يستطيعون أن يصدموا دعوته، ولا بتبييت الجن - وهم أكثر قدرة على التصرف - يستطيعون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4527 مواجهة دعوته. وما داموا قد عرفوا أنهم لن يظهروا على الرسول، ولن يفيد مكرهم أو سحرهم أو كيدهم مع شياطينهم، إذن فلا بد أن ييأسوا، ولذلك تحداهم وقال: { ... قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195] . وأنظره يعني أخره، والقول هنا: لا تؤخروا كيدكم مع شركائكم، بل نفذوا الكيد بسرعة، وقد أمر الحق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول ذلك لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما آوى إلى ركن شديد؛ لذلك يقول رسول الله بأمر الحق: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4528 وما دام الوليّ هو الله، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يبالي بهم، و «الولي» هو الذي يليك، وأنت لا تجعل أحداً يليك إلا أقربهم إلى نفسك، وإلى قلبك، ولا يكون أقربهم إلى نفسك وإلى قلبك، إلا إذا آنست منه نفعاً فوق نفعك، وقوة فوق قوتك، وعلماً فوق علمك، وقول الرسول بأمره سبحانه وتعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله ... } أي أنه ناصري على أي كيد يحاول معسكر الشرك أن يصنعه أو يبيته لي. فالله هو ولي الرسول أي ناصره، والقريب منه بصفات الكمال والجلال التي تخصه سبحانه وتعالى، وعندما يكون لمؤمن خصلة ضعف فهو يذهب لمن عنده خصلة قوة، ولذلك قلنا في قصة موسى عليه السلام حين التفت قومه ووجدوا قوم فرعون فقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4528 أي أن جيش فرعون سيدركهم، لأن البحر أمامهم والعدو وراءهم. وليس أمامهم فسحة أمامية للهرب ولا منفذ لهم إلا أن يصمدوا أمام جيش فرعون وهم بلا قوة ولم يكذبهم موسى عليه السلام في قولهم. بل قال لهم يطمئنهم: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] . وهنا خرجت المسألة عن أسباب البشر وانتهت إلى الركن الشديد الذي يأوي إليه الرسل. ولا يقول هذا القول إلا وهو واثق تمام الثقة من نصرة الله، وسبق أن رويت لكم حكاية المرأة الأوروبية التي أسلمت لأنها كانت تقرأ سيرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كبطل من أبطال العالم، صنع أكبر انقلاب في تاريخ البشرية، ولما مرت في تاريخه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قرأت أن صحابته كانوا يحرسونه من خصومه وأعدائه، إلى أن فوجئوا في يوم ما بأن قال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اذهبوا عني. فإن الله أنزل عليّ: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ... } » [المائدة: 67] . واستوقفت هذه الواقعة هذه المرأة فقالت: إن هذا الرجل إن أراد أن يكذب على الناس جميعاً ما كذب على نفسه، ولا يمكن أن يُسلم نفسه لأعدائه بدون حراسة إلا إذا كان واثقاً من أن الله أنزل عليه هذا، وأنه قادر أن يعصمه، وإلا دخلَ بنفسه في تجربة. والباحثة من هذه الواقعة قد أخذت لفتة العبرة. وفي مثل هذا يقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: { ... قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4529 وكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستدعيهم إلى التحدي بالمعركة بالمكر والتبييت، وألا يتأخروا عن ذلك وهو واثق من أن الله عَزَّ وَجَلَّ ينصره. {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} [الأعراف: 196] وأنزل الحق تبارك وتعالى على رسوله الكتاب المبين ليبلغه للخلق، ولا يمكن أن يسلمه إلى عدو يمنعه من تمام البلاغ عن الله. لقد أنزل الحق الكتاب على رسوله ليبلغه إلى الكافة ولا يمكن أن يتخلى عنه. {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} وقوله: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} أي أنه لا يجعل الولاية خصوصية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بل يقول لكل واحد من أتباعه: كن صالحاً في أي وقت، أمام أي عدو، ستجد الله وهو يتولاك بالنصر، وساعة يعمم الله الحكم؛ فهو ينشر الطمأنينة الإيمانية في قلوب أتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكل من يحمل من أمر دعوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً ما سوف يكون له هذا التأييد، وسبحانه الذي جعل رسوله مُبلغاً عنه المنهج، وهو سبحانه يتولى الصالحين لعمارة الكون؛ لأن الله قد جعل الإنسان خليفة ليصلح في الكون، وأول مراتب الإصلاح أن يبقى الصالح على صلاحه، أو أن يزيده صلاحاً إن أمكن. ويقول سبحانه بعد ذلك: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4530 لأن الذي لا يستطيع نصرك. يجوز أن يكون ضنيناً بنصرتك؛ لأن حبه لك حب رياء، أو لأنه يرغب في أن يحتفظ بما ينصرك به لنفسه، أما حين يكون غير قادر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4530 على نصرتك؛ لأنه لا يملك أدوات النصر، فهذا يبين عجز وقصور من اتخذته وليا، وهكذا كان حال المشركين. وفي يوم الفتح جاء المسلمون بالمعاول وكُسرت الأصنام، ولم يقاوم صنم واحد. بل تكسرت كلها جميعاً. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4531 وبطبيعة الحال لو أن أحداً دعا هذه الأصنام إلى الهداية فلن تهتدي الأصنام لأنها من الجماد الذي لا تصلح معه دعوة أو فهم. رغم أن الصنم منها له عيون كالتي تراها حاليا في معابد الهندوس أو البوذيين، حين يضعون للتماثيل في مكان حدقة العين خرزاً ملوناً يشبه العين، وتوجه الحدقة بميلها وكأنه ينظر إليك وهو لا يرى شيئاً. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك مخاطباً نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4531 وهذه آية جمع فيها المولى سبحانه وتعالى مكارم الأخلاق. وبعد أن أبلغ الحق تبارك وتعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يدعو المشركين لأن يكيدوا له مع شياطينهم وأصنامهم ولن يستطيعوا. وبعد ذلك يوضح له: أنا أحب أن تأخذ بالعفو، وفي هذا تعليم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولمن يتبعه، وكلمة «العفو» ترد على ألسنتنا، ونحن لا ندري أن لها معنى أصيلاً في اللغة. وقد يسألك سائل: من أي أتيت بهذا الشيء؟ فتقول له: جاءني عفواً، أي بدون جهد، وبدون مشقة، وبدون سعي إليه ولا احتيال لاقتنائه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4531 ويقال أيضاً: إن هذا الشيء جاء لفلان عفو الخاطر، أي لم يفكر فيه، بل جاء ميسراً. هذا هو معنى العفو. والحق هنا يأمر رسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يأخذ العفو، أي أن يأخذ الأمر الميسر السهل، الذي لا تكلف فيه ولا اجتهاد؛ لأنك بذلك تُسهل على الناس أمورهم ولا تعقدها، أما حين تتكلف الأشياء، فذلك يرهق الناس، ولذلك يأمر الحق رسوله أن يقول: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} [ص: 86] . وقوله: {وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} أي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يتكلف الأمور حتى تصير الحياة سهلة ولا يوجد لدد بين الناس؛ لأن الذي يوجد اللدد هو التكلف وقهر الناس، ويجب أن تقوم المعاملة فيما بينهم بدون لدد أو تكلف. ولذلك يقال: إن المؤمن هو السمح إذا باع، والسمح إذا اشترى، والسمح إذا اقتضى، والسمح إذا اْقتُضِي منه: أي أنه في كل أموره سمح. وللأمر بأخذ «العفو» معنى آخر وهو أن تعفو عمن ظلمك؛ لأن ذلك ييسر الأمور. والعفو أيضاً له معنى ثالث، هو الأمر الزائد، مثل قوله الحق تبارك وتعالى من قبل أن تفرض الزكاة: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو ... } [البقرة: 219] . ثم حدد الحق بعد ذلك الزكاة وأوجه إنفاقها، ونلحظ أن الأمر بالإنفاق من قبل أن تفرض الزكاة، والإنفاق بعد أن نزل الأمر بالزكاة يلتقيان في السهولة؛ لأن المؤمن لا ينفق مما يحتاجه. بل من الزائد عن حاجته. وقول الله سبحانه وتعالى في الآية «خذ العفو» فيه أمر «خذ» ومقابله «أعْطِ» وقد تعطي إنساناً فلا يأخذ منك إن رأى أن ما تعطيه له ليس في مصلحته، لكن إذا قال الحق تبارك وتعالى: «خذ» فهذا أمر يعود نفعه عليك، فإن كان العفو عمن ظلمك في ظاهر الأمر ينقصك شيئاً، فاعلم أنك أخذت العفو لنفسك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4532 واعلم أن الحق سبحانه وتعالى يحب من عبده المؤمن أن يكون هينا ليناً مع إخوانه من المؤمنين. فإن عز عليه أخوه المؤمن فَلْيَهنْ له، فإن تعالى أو تعالم أخ مسلم عليك، فلا تتعال عليه أو تتعالم حتى لا تقوم معركة بينكما، بل تواضع أنت، ليزيدك الله رفعة وعزة. وكأن الله سبحانه وتعالى يؤكد لك: أنك حين تعطي العفو تأخذ الخير من خلاله. ودائماً أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت حين تدخل إلى منزلك وتجد ابناً لك قد أساء إلى أخيه فيتجه قلبك وحنانك إلى المظلوم. ونحن عيال ربنا، فإن ظلم واحدٌ آخرَ، فالظالم بظلمه يجعل الله في جانب المظلوم، ولذلك يحتاج الظالم إلى أن نحسن إليه حيث كان سببا في رعاية الله لنا فنفعل معه مثلما فعل سيدنا حسن البصري عندما قيل له: إن فلاناً اغتابك بالأمس. ونادى سيدنا حسن البصري الخادم وقال له: جاءنا طبق من باكورة الرطب. اذهب به إلى فلان - وحدد للخادم اسم من اغتابه - وتعجب الخادم: كيف تبعث بالرطب إليه وهو قد اغتابك؟ فقال: أفلا أحسن إلى من جعل الله بجانبي، قل له: «يقول لك سيدي بلغه أنك قد اغتبته فأهديت إليه حسناتك، وهو أهداك رطبه» . {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} وتتناول الآية الكريمة الأمر بالعرف: والعرف هو السلوك الذي تعرف العقول صوابه، وتطمئن إليه النفوس، ويوافق شرع الله، ونسميه العرف؛ لأن الكل يتعارف عليه، ولا أحد يستحيي منه، لذلك نسمع في شتى المجتمعات عن بعض ألوان السلوك: هذا ما جرى به العرف. وما يجري به العرف عند المجتمعات المؤمنة يعتبر مصدراً من مصادر الأحكام الشرعية. وخير مثال على ذلك: أننا نجد الشاب لا يخجل من أن يطرق باب أسرة ليطلب يد ابنتها، لأن هذا أمر متعارف عليه ولا حياء منه، بينما نجد المجتمع المسلم يستحي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4533 أن يوجد بين أفراده إنسان يزني، والغاية من الزنا الاستمتاع، والغاية من طلب يد الفتاة هو الاستمتاع، لكْن هناك فارق كبير بين متعة يحرمها الله عَزَّ وَجَلَّ، ومتعة يٌحلّها الله تعالى. وفي نهاية الآية يقول الله تعالى: { ... وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} وكيف يكون الإعراض عن الجاهلين؟ . يخطئ من يظن أن الجاهل هو الذي لا يعلم، لأن من لا يعلم هو الأمي، أما الجاهل فهو من يعلم قضية تخالف الواقع. ونلحظ أن المشكلات لا تأتي من الأميين الذي لا يعلمون، فالأمي من هؤلاء يصدق أي قضية تحدثه عنها وتكون مقبولة بالفطرة؛ لأنه لا يملك بديلاً لها، أما الجاهل فهو من يعلم قضية مخالفة للواقع ويحتاج إلى تغيير علمه بتلك القضية، والخطوة الثانية أن تقنعه بالقضية الصحيحة. والحق هنا يوضح: أعرضْ عن الجاهل الذي يعتقد قضية مخالفة للواقع ويتعصب لها، وأنت حين تعرض عن الجاهل، يجب ألا تماريه، أي لا تجادله؛ لأن الجدل معه لن يؤدي إلى نتيجة مفيدة؛ لذلك أقول لكل من يواجه قضية التدين ولم يقرأ عن الدين كتاباً واحداً، وقرأ في كتب الانحراف عن الدين المئات، أقول له: كما قرأت فيما يناهض الدين مئات الكتب فمن الحكمة يجب عليك أن تكون عادلاً ومنصفاً فتقرأ في مجال التدين بعض الكتب الخاصة به مثلما قرأت في غيرها. وإن أردت أن تبحث قضية الدين بحثاً منطقياً يصحح لك عقيدتك، فعليك أن تخْرِج كل الاقتناعات المسبقة من قلبك ووجدانك. وتدرس الأمرين بعيداً عن قلبك، ثم أدخل إلى قلبك الأمر الذي ترتاح إليه، لكن لا تحتفظ في قلبك بقضية وتناهض منطوقها بظاهر لسانك. والحق سبحانه وتعالى يقول: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ... } [الأحزاب: 4] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4534 فأنت لك قلب واحد، إما أن يمتلئ بالإيمان واليقين وإما بغير ذلك. والقلب حيز واحد فلا تشغله أنت بباطل، حين تبحث قضية الحق، بل أخرج الباطل من قلبك أولاً، واجعل الباطل والحق خارجه، وابحث بعقلك، والذي ييسرُ إليك أن تدخله إلى قلبك فأدخله. وفي بيان معنى هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها روى لنا أبيّ قال: لما أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ّ على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» . وسبحانه - إذن - يريد أن يعلمنا قضية إيمانية إنسانية؛ لأنك كمسلم تساعد المصاب في بدنه، فما بالك بالمصاب في قيمه، ألا يحتاج إلى معونتك؟ . ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4535 و «نزغ» تساوي كلمة «نخس» أي أمسك بشيء ووضع طَرَفَه في جسد من بجانبه أو من أمامَه. ويتضح من معنى «نخس» أن هناك مسافة بين الناخس والمنخوس ووسيلة أو أداة للنخس. وعملية النخس لا يدرك بها الناخس أو المنخوس حرارة بعضهما البعض، أما كلمة «مس» فقد يشعر الماس والممسوس كل واحد بحرارة الآخر منهما بسرعة، لكن أحدهما لا يدرك نعومة الآخر، أما اللمس ففيه إدراك لنعومة وحرارة اللامس والملموس. ومعارك الحرب كلها تدور في هذا النطاق، فحين يكون العدو بعيداً يحتاج خصمه إلى أن يبتعد عنه كيلا يصيبه بالنبال أو السهام، ويحاول هو أن يصيب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4535 خصمه بالنبال أو السهام. وكما تفعل الجيوش الحديثة حين ترسل طائراتها لترمي القنابل على قوات الخصم. وتقاس قوة الدول بقدرتها على ضرب القوات المعادية دون قدرة تلك القوات على الرد، لأنها تصيبه من بعد في عصر الصواريخ بعيدة المدى. ونجد الإشارة في قول الحق تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ ... } [الأنفال: 60] . وأوضح سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معنى القوة فيما رواهُ عنه عقبة ابن عامر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول وهو على المنبر: «إلا أن القوة الرمي» . لأن الرمي يُمَكّن قذيفتك من عدوك، وأنت بعيد عنه فلا يقدر أن يصيبك بما يرميه. وقديماً كانت الجيوش تزحف، فيُلقى الخصوم عليها النبال والسهام، وإذا ما اقتربت الجيوش أكثر من خصومها فكل فريق يوجه الرماح إلى ما يقرب من أجساد الفريق الآخر. وإذا حمى وطيس المعركة تتلاقى السيوف. إذن كلها من النخس، والمس، واللمس. وحينما خاطب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربه قائلاً: «يا رب كيف بالغضب؟» أي كيف يكون علاج الغضب؟ نزل قول الحق: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] . وقد يستفهم قائل فيقول: أينزغ الشيطان الرسول؟ . وأقول: إنّ الحق تبارك وتعالى لم يقل: «وإذ نزغك الشيطان» ، ولكنه قال: «وإما ينزغنك» أي إن حدث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4536 ذلك، وهو قول يفيد الشك - ثم لماذا يحرم الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من لذة مجابهة الشيطان؟ . ونعم عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» . وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله ... } . والاستعاذة تعني طلب العون والملجأ والحفظ وأنت لا تطلب العون ولا تلجأ ولا تستجير إلا بمن هو أقوى ممن يريد أن ينالك بشر. ومعلوم أن الشيطان له من خفة الحركة، وقدرة التغلغل، ووسائل التسلل الكثير؛ لذلك فينبغي ألا تستعيذ بمثله أو بمن هو دونه، ولكنك تستعيذ بخالق الإنس والجن وجميع المخلوقات، وهو القادر على أن يعطل فاعلية الشيطان. وسبحانه سميع عليم، والسمع له متعلق، والعلم له متعلق، فحين تستحضر معنى الاستعاذة وأنت مشحون بالإيمان وتلجأ إلى من خلقك. وخلق ذلك الشيطان؛ عندئذ لا بد أن يهرب الشيطان من طريقك لأنه يعلم أنك تلجأ إلى الخالق القوي القادر وهو ليست له قوة على خالقه، وسبحانه سميع لقولك: «أعوذ بالله» ، عليم بما في نفسك من معنى هذه الكلمة. وإذا كان الحق تبارك وتعالى هنا قد تكلم عن حضرة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وقال: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ} أي أن الشيطان بعيد، وهو يحاول مجرد النزغ، فماذا عن أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إزاء هذا؟ . هنا يقول الحق تبارك وتعالى: - {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف ... } . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4537 ومن رحمة الله تعالى بأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إذا مسّهم» ولم يقل: «لمسَهم» . لأنهم من الذين اتقوا، أي وضعوا بينهم بين صفات جلال الله وقاية تجعلهم يقفون عند حدوده ولذلك يقول: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ} . والطائف هو الخيال الذي يطوف بالإنسان ليلاً، وبما أن الشيطان لا يرى، لذلك نصوره على أنه خيال، فإذا ما طاف الشيطان بالمس للذين اتقوا وتذكروا خالق الشيطان وخالقهم، وتذكروا منهج الله الذي يصادم شهواتهم، وتذكروا أن عين الله تراهم ولا تغفل عنهم، وأن محارم الله واضحة وبينة، وسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: في الحديث الذي يرويه عنه النعمان بن بشير: «الحلال بيّن والحرامُ بيّن وبينهما مشَبهات لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» . وإذا ما تذكر المؤمنون العقوبة المترتبة على أي فعل شائن يزينه الشيطان لهم، هنا تزول عنهم أي غشاوة ويبصرون الطريق القويم. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ... } . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4538 ونحن حين نتتبّع كلمة «يمدونهم» في القرآن، نجدها مرة «يمدونهم» ومرة يمددكم كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ... } [نوح: 12] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4538 ونعلم أن الشياطين لن تترك المؤمنين في حالهم، بل تظل في محاولة الغواية، وتحاول الشياطين غواية المؤمنين الطائعين أكثر من محاولتهم غواية العاصين؛ لأن العاصي إنما يعاون الشيطان باتباعه شهوات نفسه، ولا يقصر العاصي أو الشيطان في ذلك، بل يحاول العاصي أو الشيطان غواية المؤمنين و «أقصر» من مادة «قصر» ، أي أنه قادر أن يطول المسافة لكنه يقصرها. وهكذا إلحاح الشياطين لغواية المؤمنين. فالشيطان - كما جاء في القرآن - يعترف بموقفه من ملاحقة المؤمنين بالوسوسة وتزيين المعاصي. { ... لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] . والشيطان يعلم أن من لا يتقي الله لا يحتاج إلى تزيين أو غواية؛ لأنه يرغب ويميل للمعاصي والعياذ بالله؛ لذلك لا يبذل الشيطان لغوايته جهدا كبيراً. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4539 وقد جاء الحق تبارك وتعالى من قبل بكلمة «آيات» ، والآيات - كما أوضحنا - إما آيات كونية وإما آيات المعجزات الدالة على صدق الرسل، وإما آيات الأحكام. والله سبحانه وتعالى جاء هنا بكلمة: «آية» لا «آيات» ، والكون أمامهم ملئ بآياته، والمنهج المنزل على الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ واضح، ولا ينقص إلا أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4539 تأتي الآية المعجزة - من وجهة نظرهم - وينبه الحق هؤلاء بقوله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 89 - 93] . إذن فالآياتُ المعجزاتُ التي طلبوها، لا يأتي بها الرسول من عنده، والآيات التي ينزل بها المنهج أيضاً ليست من عنده، بل هي تنزيل من لدن عزيز حكيم. وكانوا يتهمونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه يفتري القرآن. لذلك طلبوا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المعجزة الحسية متناسين ما جاءت به آيات القرآن الكريم من معجزة لم يستطيعوا هم أن يأتوا بآية واحدة من مثل آياتها؛ وقالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} يأمره هنا ربه أن يقول: {قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} أي أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكلف أن يبلغهم بما يأتي به الوحي يحمله الروح الأمين جبريل عليه السلام من آيات القرآن الحاملة للمنهج الإلهي، وهذا المنهج في حد ذاته معجزة متجددة العطاء، لذلك يضيف: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4540 { ... هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203] . ففي القرآن الكريم بصائرُ وهدىً رحمةُ، والبصائر جمع بصيرة، من الإبصار، إذا امتلأ القلب بنور اليقين الإيماني فإن صاحبه يعيش في شفافية وإشراق، ويسمى صاحب هذه الرؤية المعنوية صاحب بصيرة، أما البصر فهو مهمة العين في الأمور الحسية، لكنْ هناك أمور معنوية لا تكشفها إلا البصيرة، والبصيرة تضيء القلب بالنور حتى يستكشف تلك الأمور المعنوية، ولا يمتلك القلب البصيرة إلا حين يكونُ مشحوناً باليقين الإيماني. والقرآن الكريم بصائر؛ لأنه يعطي ويمنح من يؤمن به ويتأمله بصائر ليجدد الأمور المعنوية وقد صارت مُبصَرَةً، وكأنه قادر على رؤيتها ومشاهدتها وكأنها عينُ اليقين. وهذا القرآن المجيد بصائرُ وهدى، أي يدل الإنسان ويهديه إلى المنهج الحق وإلى طريق الله المستقيم، وهو رحمةٌ أيضاً لمن لا يملك إشراقات القلب التي تهدي للإيمان ولا يملك قوة أخذ الدليل الذي يوصله إلى الهداية، إذن فهو رحمة لكل الناس، وهدى لمن يسأل عن الدليل، وبصائر لمن تيقين أصول الإيمان مشهدياً. وكما قلنا من قبل: إنَّ الله قد أخبر المؤمنين بأمور غيبية، ومن هذه الأمور الغيبية أن له جنةً وأن له ناراً، وصدق المؤمنون بكل ما جاءهم من البلاغ عن ربهم، وعلموا أن ذلك من الله، وصار هذا العلم علم يقين كقدر مشترك فيما بينهم، فإذا جاءَ يوم القيامة ورأوا الصراط مضروباً عن متن جهنم مطابقاً لما صدقوه وصار عين يقين، وإذا ما دخل بعضهم النار - والعياذ بالله - تكفيراً لذنوب ارتكبوها، فهذا حق يقين. وضربت المثل من قبل - ولله المثل الأعلى - كان الجغرافيون يحدثوننا ونحن طلاب عن خريطة الولايات المتحدة، ويقولون: إن عاصمتها «واشنطن» ، والميناء الكبير فيها اسمه «نيويورك» ، وفي «نيويورك» توجد ناطحات السحاب وهي مبان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4541 ضخمة يزيد ارتفاع المبنى الواحد من هذه المباني على مائة طابق أي أكثر من مائتي متر، وصدقنا نحن أستاذ الجغرافيا، وعندما أتيحت للبعض منا فرصة السفر ورأوا واشنطن ونيويورك من الطائرة، صارت الرؤية عين يقين بعد أن كانت علم يقين. وعند هبوط الطائرة في مطار واشنطن صارت الرؤية حق يقين. وقد عرض الحق سبحانه وتعالى لنا الإيمان ببعض من الغيب في قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 1 - 7] . أورد سبحانه هناك «علم اليقين» «وعين اليقين» ، وأما «حق اليقين» فقد جاء في قوله: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 88 - 95] . والمؤمنون المصدقون بأخبار الغيب على درجات مختلفة. . فهناك من صدق الله في الخبر عن الغيب كعين يقين، وهناك من صدق قول الله حق اليقين، ولذلك فإننا نجد الإمام عليا - كرم الله وجهه - يقول: «لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4542 وفي الحوار الآتي الذي دار بين حضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والصحابي الجليل الحارث بن مالك ما يكشف لنا جوهر هذا اللون من الإيمان: «فقد روى الحارث بن مالك الأنصاري: أنه مرَّ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمناً حقّاً، قال:» انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظلمت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضارغون فيها. فقال يا حارث عرفت فالزم ثلاثاً «. هذا الصحابي الجليل وصل إلى أن كل ما قاله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد صار حق يقين، وامتلك البصيرة التي رأى بها كلَّ ذلك. {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203] . وهكذا نجد القرآن الكريم بصائر لأصحاب المنزلة والدرجات العالية، وهدى لأصحاب الاستدلال ورحمةً للجميع. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا ... } . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4543 وما دام قد أوضح لك المولى سبحانه وتعالى من قبل أن هذا القرآن بصائر من ربنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4543 وهدى ورحمة، ألا يستحق أن تحتفي به أيها المؤمن؟ . . ألا تجذبك هذه الحيثيات الثلاث لأن تعطي له أذنك وألا تنصرف عنه؟ . إذن لا بد أن تنصت للقرآن الكريم لتتلقى الفوائد الثلاث؛ البصائر، والهدى، والرحمة، وهو حقيق وجدير أن يُحْرَص على سماعه إن قُرئ. ولنلحظ أن الله تعالى قال: {فاستمعوا لَهُ} ولم يقل «اسمعوا» ، لأن الاستماع فيه تعمد أن تسمع، أما السمع فأنت تسمع كل ما يقال حولك، وقد تنتبه إلى ما تسمع وقد لا تنتبه، ومن الرحمة المحمدية يقول حضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ناهياً عن التسمع لأسرار الغير تجسساً عليهم بالبحث عن عوراتهم فيما يرويه عنه سيدنا أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حيث قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تجسَّسُوا ولا تحسّسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا» . وفي هذا تحذير من هذه الأمور الخمسة التي منها التلصص والتصنت إلى أسرار الناس. {وَإِذَا قُرِىءَ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] . والإنسان قد يصمت ويستمع ولكن بغير نية التعبد فيحرم من ثواب الاستماع، فاستمع وأنصت بنية العبادة، لأن الله هو الذي يتكلم، وليس من المعقول والتأدب مع الله أن يتكلم ربك ثم تنصرف أنت عن كلامه، وقد لفت أنظارنا سيدنا جعفر الصادق: ونبهنا إلى ما فيه الخير حيث يقول: «عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4544 الوكيل} ، فإني سمعت الله عقبها يقول: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} . وعجبت لمن اغتم، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فإني سمعت الله عقبها يقول: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} . وعجبت لمن مُكر به، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} . فإني سمعت الله عقبها يقول: - {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} . وعجبت لمن طلب الدنيا ولم يَفْزَع إلى قوله تبارك وتعالى: {مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} . فإني سمعت الله عقبها يقول: - {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} . ونحن حين نستمع لقراءة القرآن الكريم بنية التعبد فذلك هو حُسْن الأدب الذي يجب أن نستقبل به العبر التي تعود بالفائدة علينا. ووقف العلماء حول الإنصات سماعاً للقرآن؛ أيكون الإنصات إذا قرئ القرآن مطلقاً في أي حال من الأحوال، أو حين يُقرأ في الصلاة، أو حين يُقرأ في خطبة الجمعة؟ وقد اختلفوا في ذلك، فبعضهم قال: إن المقصود هو الإنصات للقرآن حين يُقرأ في الصلاة، والسبب في ذلك أن الأوائل من المسلمين كانوا حينما يقرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الصلاة، يعيدون بعده كل جملة قرآها فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم؛ قالوا: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا قال:» الحمد لله رب العالمين «، قالوا:» الحمد لله رب العالمين «فينبههم الله عَزَّ وَجَلَّ إلى أن يتركوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرأ وهم يستمعون إليه دون ترديد للقراءة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4545 وقال آخرون من العلماء: الإنصات للقرآن الكريم يكون في الصلاة، وفي خطبة الجمعة أو العيدين، لأنها تشتمل على آيات من القرآن، ولكن اشتمالها على الآيات أقل مما يقوله الخطيب، ونبه البعض إلى أن الإنصات للخطبة ثبت بدليل قول النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت» . إذن الإنصات للخطبة جاء بدليل من السنة. وهناك قول بأن الاستماع مطلوب للقرآن في أي وضع من الأوضاع حين يُقرأ؛ ففي هذا احترامٌ ومهابةٌ لكلام الله عَزَّ وَجَلَّ، وينسب هذا القول إلى إمامنا وسيدنا ومولانا سيدي «أبي عبد الله الحسين» ، فيقول: إذا قُرئ القرآن سواءٌ إن كنت في صلاة أو كنت في خطبة، أو كنت حرّاً فأنصت؛ لأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يميز القرآن على مطلق الكلام، فميزه بأشياءَ، إذا قُرئ ننصت له، وإذا مسّ المصحف لا بد أن يكون على «وضوء» حتى لا يجترئ الناس ويمسّوا المصحف كأي كتاب من الكتب، وهذا يربي المهابة فلا تمسك المصحف إلا وأنت متوضئ، فإذا علمنا أولادنا، نقول للواحد منهم: لا تقرب المصحف إلا وأنت متوضئ؛ فتنشأ المهابة في نفس الولد. وأيضاً في «الكتابة» شاء الحق تبارك وتعالى لبعض ألفاظه كتابة خاصة غير كتابة التقعيد الإملائي؛ حتى يكون للقرآن قداسة خاصة، فهو كتاب فريد وليس ككل كتاب وكلامه ليس ككل كلام. {وَإِذَا قُرِىءَ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] . وبعض العلماء قال: ليس المطلوب مجرد الاستماع بالآذان، بل المقصود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4546 بالاستماع هنا هو أن نستجيب لمطالبه، ألا تقولون لبعضكم حين يدعو بعضكم لبعض: «الله يسمع دعاك» ؟ إنك تقولها وأنت تعلم أن الله سامعك، ولكنك تقصد بها أن يستجيب سبحانه وتعالى لهذا الدعاء، إذن فالاستماع للقرآن يقتضي الاستجابة لمطلوبات القرآن. لماذا؟ لننال الرحمة من الحق فهو الرحمن الرحيم. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . ونعلم أن «لعل» «وعسى» حين تقال يقصد بها الرجاء، و «ليت» تعني التمني وهو مستحيل ولا يُتَوَقّع، ونحن نتمنى لنظهر أن هذا أمر محبوب لنا، لكننا نعلم أنه مستحيل، مثلما قال الشاعر العجوز: ألا ليت الشباب يعود يوما ... فأخبره بما فعل المشيب إنه يعلم يقيناً أن الشباب لن يعود ولكن قوله يدل على أن الشباب فترة محبوبة. ومثل قول الشاعر: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كَلِم ولن تدنو الكواكب. إذن ساعة تسمع «عسى» أو «لعل» يتبادر إلى ذهنك أن هذا رجاء لأن يحدث، وإذا كان رجاء من الله، فهو رجاء من كريم لا بد له من واقع. ويقول الحق بعد ذلك: والذكر مرور الشيء، إن كان بالبال، فهو ذكر في النفس، وإن كان باللسان ولا يُسْمِع الغير ويُسْمِعك أنت فهذا ذكر السر، وإن كان جهرا فهو قسمان؛ جهر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4547 مقبول، وجهر غير مقبول، والجهر غير المقبول هو أن يتحول الذِّكرُ إلى إزعاج والعياذ بالله، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: { ... وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [الإسراء: 110] . ولعل إخواننا القراء يتنبهون إلى هذه الآية؛ تنبهاً يجعلهم يلتفتون إلى أداء أمر الله في هذا المجال فلا يجهرون ولا يرفعون أصواتهم به لدرجة الإزعاج، لأني أقول لكل واحد منهم: إن ربك لم يطلب منك حتى الجهر، إنما طلب دون الجهر، وأقول ذلك خاصة لهؤلاء الذين يفسدون نعمة الله على خلقه؛ فيصيحون ليلا ويمنعونهم من رحمة الله ليلا التي قال عنها: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73] . فلا تفسدوا على الناس رحمة ربنا؛ لأن الدعوة إلى الله ليست صياحاً على المنابر، إلا إذا كنتم تصنعون لأنفسكم دعاية إعلامية على مساجد الله وعلى منابر الله. وهذا أمر مرفوض وغير مقبول شرعاً. {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} والحق تبارك وتعالى يقول مرة: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41] . ومرة يقول: {واذكر رَّبَّكَ} وقوله: «اذكر الله» يستشعر سماعها التكاليف؛ لأن الله هو المعبود، والمعبود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4548 هو المطاع في الأوامر والنواهي. أما قوله: «اذكر ربك» فهو تذكير لك بما حباك به من أفضال؛ خلقك ورباك وأعطاك من فيض نعمه ما لا يعد ولا يحصى. فاذكر ربك؛ لأنك إن لم تعشقه تكليفاً، فأنت قد عشقته لأنه ممدك بالنعم، وسبحانه يتفضل علينا ويوالينا جميعاً بالنعم. وأضرب لك هذا المثل - ولله المثل الأعلى وهو منزه عن التشبيه - وأنت لك أولاد، وتعطي لهم مصروفاً، وحين تعطي لهم المصروف كل شهر، تجدهم لا يحرصون على أن يروك إلا كل شهر، لكن إن كنت تعطي مصروفهم يوميا فأنت تلتفت لتجدهم حولك، فإن كنت نائماً يدخل ابنك لغرفة نومك يسير بجانبك ويتنحنح ليقول إنه يحتاج لشيء موجود بالغرفة، فما بالك وأنت بكل وجودك عبد لإحسان ربك؟ وما دمت عبد الإحسان فاذكر من يحسن إليك، اذكر ربك دائماً. واذكره على حالين: الأول تضرعاً. أي بذلة، لأنك قد تذكر واحداً بكبرياء، إنما الله الخالق المحسن يجب عليك أن تذكره بذلة عبودية لمقام الربوبية، واذكر ربك «خيفة» أي خائفاً متضرعاً؛ لأنك كلما ذللت له يعزك، ولذلك نجد العبودية مكروهة في البشر وهي استعباد، والناس ينفرون ممن يستعبدهم؛ لأن عبودية الإنسان لمساويه طغيان كبير وظلم عظيم فهي تعطي خير العبد للسيد، ولكن عبوديتك لله تعطي خير الله لك. ولذلك نجد الحق يمتن على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1] . وقد أخذ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منزلة كبرى بحادث الإسراء، وكان الحديث عنها بامتنان من الله على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4549 والشاعر المؤمن يقول: حسب نفسي عزَاً بأني عبد ... يحتفي بي بلا مواعيد رب هو في قدسه الأعز ولكن ... أنا ألقي متى وأين أحب وأنت أيها العبد المؤمن تلقى الله متى أردت، وإذا أسلمت زمامك للإيمان؛ فالزمام في يدك. يكفي أن تنوي الصلاة وتقول: الله أكبر فتكون في حضرته سبحانه سواء كنت في البيت أو في الشارع أو في أي مكان. وفي منتهى العزة لك. {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول ... } [الأعراف: 205] . ولم يقل هنا رب العالمين: بل ربك أنت يا محمد، وهذه قمة العطاءات التي جاءت للناس، فهذا العطاء الذي جاء بمحمد رسولاً، نعمةٌ ومنةٌ من الله على المؤمنين برسالته، وبعد ذلك ينسب لكل مسلم العطاء الذي جاء لمحمد. وقوله تعالى لرسوله: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي أنه سبحانه لم يجعل دليل عنايته بك مقصوراً على ما يشاهد في الخارج والبعيد عنك فقط؛ لأنك قد لا ترى شيئاً في الكون أو لا تسمع شيئاً في الكون؛ لأن الكون منفصل عنك، إنما انظر إلى نفسك أنت وستجد الآيات كلها تذكرك بخالقك، {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] . فقبل أن يجعل ربنا الدليل في الكون الذي حولك، جعل لك الدليل أيضا في نفسك؛ لأن نفسك لا تفارقك وأنت أعلم بملكاتها وبجوارحها، وبنوازعها، ولهذا كان التضرع إلى الله والخيفة منه لهما مجال هنا؛ لأنك تستطيع أن ترى سر صنعته فيك، وستجد الكثير من الآيات، وهي آيات أكبر منك، لذلك أنت تتضاءل أمام من وهب لك كل هذا، وتخاف ألا تؤدي حقه لديك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4550 ونعود إلى قول الله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول بالغدو والآصال} والذكر حَدَثٌ، والحدَثُ يحتاج إلى زمان وإلى مكان. والغدو والآصال زمنان يستوعبان النهار؛ فالغدو هو أول النهار، والآصال هو من العصر للمغرب، مثلما نقول «شمس الأصيل» . وهذه الآية الكونية تتكرر في القرآن الكريم كثيرا، فالحق تبارك وتعالى يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 41 - 42] . وكما يقول عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 8 - 9] . و «الأصيل» هنا مشترك، ومقابل الأصيل يطلق الحق عليه مرة بكرة، وأخرى يطلق عليه: الغدو، وسبحانه القائل: {الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 35 - 36] . إنك ساعة أن تقرأ «في بيوت» تعرف أن هنا حدثاً؛ لأن قوله: «في بيوت» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4551 شبه جملة «في معنى الظرف، وإذا استقرأت ما قبلها، لم تجد لها مُتَعَلَّقاً. والحظ إذن أن ما قبلها هو {نُّورٌ على نُورٍ} {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} فأنت حين تذهب إلى المسجد لتلقى الله، فذلك نور، وتصلى له فذلك نور، وتخرج من هذا النور بنور يهبط عليك في بيته، وكل هذا نور على نور، فمن أراد أن يتعرض لنفحات نور الله عَزَّ وَجَلَّ؛ فليكثر من الذهاب إلى بيوت الله، وللمساجد مهابة النور لأنها مكان الصلاة، ونعلم أن الصلاة هي الخلوة التي بين العبد وربه، وكان رسول الله إذا حز به أمر قام إلى الصلاة. وأنت إذا ما اتبعت حضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتصلي ركعتين لله فلن حز بك أمر وعزت عليك مسألة وكانت فوق أسبابك ثم ذهبت بها إلى الله فلن يخرجك الله إلا راضياً. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} . والغدو والآصال أو البكرة والأصيل كما عرفنا هي أزمنة أول النهار وأزمنة أول الليل. ولماذا أزمنة أول النهار وأزمنة أو الليل؟ لأن هذه الأزمنة هي التي يطلب فيها الذكر. فقبل أن تخرج للعمل في أول النهار أنت تحتاج لشحنة من العزيمة تقابل بها العمل من أجل مطالب الحياة، وفي نهاية النهار أنت تحتاج أن تركن إلى ربك ليزيح عنك متاعب هذا اليوم، لذلك إياك أن تشغلك الحياة عن واهب الحياة، ولك أن تذكر ربنا وأنت تعيش مع كل عمل تؤديه وتقوم به وأن تقابل كل نتيجة للعمل بكلمة: (الحمد لله) وعندما ترى أي جميل من الوهاب سبحانه وتعالى يجب عليك أن تقول:» ما شاء الله «وعندما ترى أي شيء يعجبك تقول: (سبحان الله) . ولذلك حينما دعا الله خلقه المؤمنين به إلى الصلاة قال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4552 وهذا التكليف في صلاة الجمعة المفروضة كصلاة للجماعة، والجماعة مطلوبة فيها، ومن الضروري أن نتواجد فيها كجمع؛ لأن الجماعة مشروطة فيها فلا تصح بدون الجماعة. ونعرف أن الصلاة إنما هي ذكر لربنا، فماذا بعدها؟ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] . أي إياك أن يشغلك انتشارك في الأرض وابتغاؤك من فضل الله، والأخذ بأسباب الدنيا عن واجبك نحو الله، بل عليك أن تذكره سبحانه وتعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ... } . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4553 أي لا تكن من الغافلين عن مطلوبات الله بالحدود التي بينها الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأن الغفلة معناها انشغال البال بغير خالقك، وأنت إن جعلت خالقك في بالك دائما فإنك لا تغفل عن مطلوباته في الغدو والآصال وفي كل وقت، سواء كنت في الصلوات الخمس، أو كنت تضرب الأرض في أي معنى من المعاني، وتأس أيها المؤمن بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان الملائكة والذين لم يرتكبوا أية معصية وليس لهم موجبات المعصية، ولا يأكلون ولا يتناسلون، وليس لهم شهوة بطن ولا شهوة فرج، وكل المعاصي جميعها تأتي من هذه الناحية، مع ذلك يجب عليك أن تتأسى بهم؛ لأنهم هم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحونه؛ وله يسجدون، لذلك يقول الحق بعد ذلك: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4553 {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4554 وإذا كنا عند ربنا وفي حضرة ما منحه لما من خَلْق وما أمدنا به من إيجاد من عُدم سواء، فلماذا خص هؤلاء بالعندية؟ . إياك أن تفهم من العندية أنها عندية المكان؛ لأن المكان مُحَيَّز، وربنا عَزَّ وَجَلَّ لا يتحيز في مكان، والعندية هنا عندية الفضل، وعندية الرحمة، وعندية الملك، وعندية العناية. أو إن كل خلق لله جعل لهم أسباباً ومسبَّبات، ولكن خلقاً من خلقه يسبحونه بذاته، وليس لهم عمل آخر، ويعرفون بالملائكة العالين، لا الملائكة المدبرات أمراً أو الحفظة. ولذلك قلنا سابقاً: إن الحق سبحانه وتعالى حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم، وامتنع إبليس، قال له: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] . و {العالين} هم الذين لم يشملهم أمر السجود، فهم ملائكة موجودون ولا عمل لهم إلا تسبيح الذات العلية ولا يدرون عن الخلق أو الدنيا شيئاً. وهم غير الملائكة المسخرين لخدمتنا؛ فالذين عند ربنا هم الملائكة المُهيَّمون الذين لا يعرفون شيئاً إلا الذات الإلهية وتسبيح الذات وعملهم يحدده الله هنا: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} واختلف العلماء في كيفية سجود الملائكة، أهو الخضوع؟ أهو الصلاة؟ أهو السجود الذي نعرفه نحن؟ والسجود عندنا هو منتهى ما يمكن من الخضوع لله عَزَّ وَجَلَّ وقت الصلاة. لأنه نزول بأشرف شيء في الإنسان وهو الوجه الذي يضعه المؤمن على الأرض خضوعاً لله عَزَّ وَجَلَّ. ولذلك علمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4554 أننا إذا مررنا على آية سجدة من آيات كتاب الله فيها مثل ذلك فعلينا أن نستجيب لها استجابة حقيقية ونسجد لها سجدة تسمى التلاوة، ويكون ذلك عند تلاوتها أو سماعها من القارئ، وحصرها العلماء فيما تجدونه في المصحف عند كل سجدة وجعلوا عندها علامة ووضعوا تحت الكلمة التي نسجد عندها خطاً. وحين قام العلماء ببيان المواضع التي تطلب فيها هذه السجدات وجدوها قد ابتدأت بسجدة آخر سورة «الأعراف» التي نتناولها بخواطرنا الآن، وانتهت بسجدة «العلق» : {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1] . وبينهما سجدات، وبعض العلماء عدّ في سورة الحج سجدتين وبعضهم أهمل السجدة الثانية في هذه السورة. فمن حسبها خمس عشرة سجدة، عدّ سجدة الحج الثانية المختلف عليها مع سجدة الحج الأولى - المتفق عليها - وبعض العلماء قال: إنها أربع عشرة سجدة؛ لأنه لم يحسب سجدة الحج الثانية. وهب أنك أردت أن تسجد لله شكراً في أي وقت، وعند أي آية فاسجد لله سجدة الشكر، وهي سجدة واحدة كسجدة التلاوة وتستحب عند تجدد نعمة أو انقشاع غمّه، أو زوال نقمة ولا تكون إلا خارج الصلاة. والسجود بطبيعة الحال تبدأه بالتكبير، ورفع اليدين كأنك تبدأ الصلاة، والمفترض أن تقول: «سبحان ربي الأعلى» ، إلا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علمنا ما نقوله في السجود للتلاوة، وروي عن ابن عباس قال: «كنت عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتاه رجل فقال: إنِّي رأيتُ البارحَة - فيما يرى النائم كأنِّي أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدةَ فسجدت الشجرةُ لسجودي فسمعتها تقول: اللهم احطُطْ عني بها وِزْراً، واكتُب لي بهاَ أَجْراً، واجْعْلها لي عندكَ ذُخْراَ. قال ابنُ عباس: فرأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ السجدة فسجد، فسمعته يقول في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4555 سجوده مثل الذي أخبره الرجلُ عن قولِ الشجرة» . وبذلك تختم سورة الأعراف، والتسمية للسورة في ذاتها متناسبة؛ لأن «الأعراف» هو المكان العالي البارز الذي يجلس عليه القوم ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم لينظروا إلى أهل الجنة وينظروا إلى أهل النار، وهكذا تكون الأعراف مكاناً يزيد في الارتفاع، وهي مأخوذة من «عرف الفرس» ، وعرف الفرس أعلى شيء فيه، والأنفال أيضاً هي الزيادة؛ ولذلك فإن التسمية متناسبة سواء بالنسبة لسورة الأعراف أو الأنفال، وأيضاً يوجد التناسب في المعنويات، وهذا التناسب نلحظه عندما نقرأ قول الحق تبارك وتعالى في أواخر سورة الأعراف: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] . ثم يأتي قوله سبحانه وتعالى في أول سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ... } [الأنفال: 1] . لأن من مهام الشيطان أن يفرق بين المؤمنين بوسوسته لهم، فإذا ما تذكروا الله وما أعده لأهل الإيمان؛ فهم يبصرون الحقيقة الأولى التي ترتفع على كل شيء وهي الإيمان بالله، وهذا الإيمان إنما يتطلب تصفية القلوب من كل ما يكدرها حتى تكون خالصة نقية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4556 يقول الحق سبحانه وتعالى مفتتحاً سورة الأنفال : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} السؤال يقتضي سائلاً: وهم صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويقتضي مسئولاً هو الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ويقتضي مسئولاً عنه وهو موضوع السؤال المطروح. والمسئول عنه قد يوجد بذاته، مثلما نسأل صديقنا: ماذا أكلت اليوم؟ هذا السؤال فيه تحديد لمنطقة الجواب، والجواب عنه أيضا يحدد المنطقة. وموضوع السؤال في قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . يدل عليه الجواب، فهم لم يسألوا عن أسباب المحيض، أو لماذا ينقطع عن الحامل أو من بلغت الكبر، لكن كان موضوع السؤال الذي هو واضح من إجابة الحق تبارك وتعالى: أيجوز أن يباشر الرجل المرأة أثناء المحيض أو لا؟ وسؤال آخر سألوه للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن اليتامى، ويحدد الجواب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4559 موضوع السؤال: يقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] . لأنهم كانوا يتخوفون من مخالطة اليتامى في الأموال ومن مؤاكلتهم، وغير ذلك من ألوان التعامل، ورعاً وبعداً عن الشبهات وجاءت الإجابة لتحدد موضوع السؤال: ومرة يأتي السؤال وفيه تحديد مناط الإجابة لأنها عامة مثل قوله الحق تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189] . هم سألوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لماذا يبدأ الهلال صغيراً ولماذا يكبر، ثم لماذا يختفي في المحاق؟ . وهذا سؤال في الفلك. ولم يجبهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا في الحدود التي يستفيدون منها وهي القيمة النفعية العملية، وجاءت الإجابة: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} . لأننا ورغم وجودنا في هذا القرن العشرين إلا أن البعض من الناس ما زال يكذب الحقيقة العلمية التي ثبتت بما لا يدع مجالاً لأي شك. ونقول للعامة: إن الهلال يشبه قلامة الظفر ثم يكبر ليستدير ثم يختفي قليلاً. وفي هذا يقول الشاعر: وغاية ضوء قمير كنت آمله ... مثل القلامة قد قدت عن الظفر ولو قال لهم: إن الهلال يظهر حين تتوسط الأرض بين الشمس والقمر ثم يبدأ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4560 في الاكتمال تباعاً، لما استطاعت عقولهم أن تستوعب هذه المسألة، فجاء لهم بالحكمة المباشرة النفعية التي تدركها عقولهم تماماً، ثم ارتقت العقول بالعلم ووصلنا إلى دراسة حركة الأفلاك التي توضح كل التفاصيل الفلكية. وهناك سؤال يجيء في أمر محدد، مثل قول الحق: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله} [البقرة: 217] . وهكذا عرفنا أن موضوع السؤال هو عن حكم القتال في الشهر الحرام، لا طلب تحديد الأشهر الحرم بالذات. ويقول الحق تبارك وتعالى هنا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} والأنفالُ جمعُ نَفَل (بفتح الحرف الأول والثاني) ، مثل كلمة سَبَب وأسباب، والمراد بالنَفل هنا الغنيمة؛ لأنها من فضل الله تعالى وهي من خصائص سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد اختصت بها هذه الأمة دون الأمم السابقة، والنفْل بالسكون الزيادة، ومنه صلاة النافلة؛ لأنها زيادة عن الفريضة الواجبة، وفي هذا المعنى يقول ربنا عَزَّ وَجَلَّ في آية ثانية: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} . ونافلة تعني أمراً زائداً غير مفروض، ولذلك نقول: إن النفل هو العبادة الزائدة، وشرطها أن تكون من جنس ما فُرض عليك؛ لأن الإنسان لا يعبد ربه حسب هواه الشخصي، بل يعبد ربه بأي لون من ألوان العبادة التي شرعها الله، وإذا أراد زيادة فيها فلتكن من جنس ما فرض الله، حتى لا يبتدع العبد عبادات ليست مشروعة. ولذلك قال الحق تبارك وتعالى لرسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4561 {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإسراء: 79] . النفل إذن هو أمر تعبدي زائد عن الأصل. وحينما ابتلى الله سيدنا إبراهيم عليه السلام بأن يذبح ولده إسماعيل، جاءه الابتلاء لا بوحي صريح، ولكن برؤيا منامية وهو ابتلاء شاق، فلم يكن الابتلاء - مثلا - أن يذبح إنسان آخر سيدنا إسماعيل، ثم يصبر سيدنا إبراهيم على فقده، لا بل هو الذي يقوم بذبح ولده إسماعيل. وهكذا كان الابتلاء كبيراً، خصوصاً أنه لم يأت إلا في آخر العمر. وكانت هذه المسألة من الملابسات القاسية على النفس. ولذلك أوضح ربنا عَزَّ وَجَلَّ أن سيدنا إبراهيم كان أمة، أي اجتمعت فيه صفات الإيمان اللازمة لأمة كاملة. {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] . ولنر رحموت النبوة في سلوك سيدنا إبراهيم عليه السلام حين جاء لينفذ أمر الرؤيا بذبح الابن لأن رؤيا الأنبياء وحي؛ لذلك لم يشأ أن يأخذ ولده أخذاً دون أن يطلعه على الحقيقة؛ لأنه لو فعل ذلك سيعرض ولده لحظة لها جس عقوق لأبيه، وقد يقول الابن: أي رجل هذا الذي يذبح ابنه؟ . وأراد سيدنا إبراهيم أن يشاركه ابنه كذلك في الثواب، وأن يكون الابن خاضعاً لأمر الحق تبارك وتعالى كأبيه فقال له: {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4562 وهكذا أوضح سيدنا إبراهيم عليه السلام الابتلاء الذي جاءه كرؤيا في المنام فماذا يقول الابن إجابة على سؤال أبيه؟ {قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] . أي أن إسماعيل عليه السلام أسلم زمامه لأمر الحق تبارك وتعالى، ويواصل المولى سبحانه وتعالى وصف ابتلاء سيدنا إبراهيم بذبح الابن فيقول تبارك وتعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} [الصافات: 103 - 105] . فبعد أن رضي كل من سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل وسلما أمرهما لله تعالى وامتثلا للأمر بالقضاء، رفع الله برحمته هذا القضاء؛ لذلك يصف الحق تبارك وتعالى هذا البلاء وتكرمه بالفداء فيقول: {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 106 - 107] . وتعلمنا هذه الواقعة أيها المسلم أنك إذا ما جاء لك قضاء من الله، إياك أن تجزع، إياك أن تسخط، إياك أن تغضب، إياك أن تتمرد؛ لأنك بذلك تطيل أمد القضاء عليك، ولكن سلم لقضاء الله فيُرفع هذا القضاء؛ لأن القضاء لا يُرفَع حتى يُرْضى به. وهكذا لم يكن جزاء الصبر على القضاء لسيدنا إبراهيم عليه السلام افتداء إسماعيل بذبح عظيم فقط، بل وزيادة على ذلك يسوق له المولى البشرى بمزيد من العطاء فيقول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4563 {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} [الصافات: 112] . أي أنه لم يرزقه بولد ثانٍ فقط، بل بولدٍ يكون نبياً وصالحاً. وتأتي زيادة أخرى في العطاء الرباني لسيدنا إبراهيم عليه السلام فيقول سبحانه وتعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء: 72] . هكذا يتجلى عطاء المولى سبحانه وتعالى لسيدنا إبراهيم عليه السلام فلا يعطيه الولد الذي يحفظ ذكره فقط، بل يعطيه الولد الذي يحفظ أمانة الدعوة أيضاً، وكل ذلك نافلة من الله، أي عطاء كريم زائد وفضل كبير لأبي الأنبياء. إذن النفل هو الأمر الزائد عن الأصل. ومثال ذلك ما خص الله به رسوله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركتْه الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» . إذن تشريع الله للغنائم في الإسلام أمر زائد عن الأصل؛ لأن الغنائم لم تحل لأحد من الأنبياء قبل رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهناك نفل، وهناك غنيمة، وهناك فيء، وهناك قبض. وسنوجز معنى كل منها: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4564 الغنيمة: هي ما يأخذه المسلمون من الأعداء المهزومين، وتقسم فيما بينهم بنسب معينة، فللرجل المقاتل سهم واحد، وللفارس سهمان، وهذا على سبيل المثال فقط وتقسيمها حسب تشريع الله عَزَّ وَجَلَّ، وسبق بيان النفَل والنفْل بفتح الوسط وسكونه، والفيء هو كل مال صار للمسلمين من غير حرب ولا قهر - «والقبَض» بتحريك الوسط بمعنى المقبوض وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم. لكن إذا جاء ولي الأمر وبين للمقاتلين مشجعاً لهم على حركة الحرب مثلما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «من قتل كافراً فله سلبه» . فلذلك أمر زائد في حصته في الغنيمة. وقد يبعث القائد سريةً ويشجعها على خوض الصعاب فيقول لأفراد تلك السرية: لكم نصف ما غنمتم، أو الربع أو الخمس، فهذا يعني أن من حقهم أن يأخذوا النسبة التي حددها لهم القائد كأمر زائد، ثم تقسم الغنائم من بعد ذلك، وساعة يأخذ المقاتلون الأسلاب والمتاع، والعتاد والأموال من الأسرى، فهذه تسمى غنائم، أما حين تُجْمع الغنائم عند ولي الأمر فيصير اسمها القبَض وقد سبق بيانه. وفي يوم بدر حدثت واقعة يرويها الصحابي الجليل سعد بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قائلاً: «قلت يا رسول الله: قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» إن هذا السيف لا لك، ولا لي، فضعه «، قال: فوضعته، ثم رجعت، فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي، قال: فإذا رسول الله يدعوني من ورائي. قال الصحابي: قد أنزل الله في شيئاً؟ . قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كنت سألتني السيف، وليس هو لي، وأنه قد وُهِب لي، فهو لك» ، قال: وأنزل الله هذه الآية: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4565 {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} [الأنفال: 1] أي أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن ليحكم في أمر السيف إلا بعد أن ينزل حكم الله عَزَّ وَجَلَّ. ونعلم جميعاً أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذهب إلى غزوة بدر ولم يكن يقصد القتال، بل كان الخروج للعير التي تحمل بضائع قريش القادمة من الشام، وليس معها إلا بعد أربعون رجلاً يحرسونها، ولذلك خرج المسلمون وكان عددهم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً وليس معهم عدة أو عتاد، بل لم يكن لديهم إلا فرسان اثنان لأنهم لم يخرجوا لقتال، بل خرجوا للعير بغية أن يعوضوا أنفسهم شيئاً مما سُلبوه في مكة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن أبا سفيان سلك طريق الساحل. أي سار في طريق بعيد عن المسلمين ولم يأت من جهة الرسول والذين معه، واستنفرت قريش كل رجالها ليحموا العير، وصار الأمر بين أن يرجع المؤمنون دون حرب، وإما أن يواجهوا النفير، وهو التعداد الكثير، وكانوا ألفاً ومعهم العُدّة والعتاد، فأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشجع الفتيان على الحرب فقال لهم: «من قتل كافراً فله سلبه» ، أي أنه خصّهم بأمر زائد عن سهمهم في الغنيمة. فلما علم الكبار من الصحابة والشيوخ، قالوا: يا رسول الله هم قاتلوا وقتلوا، لكن نحن كنا عند الرايات، يفيئون إلينا إن وقعت عليهم هزيمة فلا بد أن نتشارك، وحدث لغط وخلاف، فحسم الله سبحانه وتعالى هذا اللغط بأن أنزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله} . فبين سبحانه أن الحكم في قسمة الغنائم بين الجميع لله وللرسول وإياكم أن تخرجوا عن أمر الله فيها، واجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية. فلا تنازعوا ولا تختلفوا {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} . إن كان قد حصل بين الطرفين، الشبان والشيوخ الكبار قليل من الخلاف فأصلحوا ذات بينكم. وساعة تسمع {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} قد تسأل: ما هو البين؟ الجواب «البين» هو ما بين شيئين، فحين يجلس صف من الناس بجانب بعضهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4566 البعض، فما بين كل منهم هو ما يُسمى «البين» ، وقد يكون الذي يفصلنا عن بعض «بين مودة» أو بين جفوة، إذن فالبين له صورة وله هيئة، فإن كانت الصورة التي بينكم وبين بعضكم فيها شيء من الجفوة فأصلحوا السبب الذي من أجله وُجدَ «البين» حتى لا يكون بينكم جفوة ونزاع. ثم يقول تبارك وتعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 1] . وقلنا إن أمر الطاعة معناه الامتثال، والطاعة ليست للأمر فقط بل للنهي أيضاً، لأن الأمر طلب فعل، والنهي طلب عدم فعل، وكلاهما طلب. وحينما يقول الحق: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} . تفهم هذا القول على ضوء ما عرفناه من قبل وهو أن مسألة الطاعة أخذت في القرآن صورا ثلاثا، الصورة الأولى: يقول الحق تبارك وتعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} وفيها يكرر المطاع وهو الله والرسول، ولكنه يفرد الأمر بالطاعة. ومرة ثانية يقول المولى عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [المائدة: 92] . أي أنه سبحانه يكرر المطاع، ويكرر الأمر بالطاعة. ومرة ثالثة يقول سبحانه وتعالى: {وَأَطِيعُواْ الرسول} . لأن منهج الله فيه أمور ذكرها الله عَزَّ وَجَلَّ، وذكرها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتواردت السنة مع النص القرآني، فنحن نطيع الله والرسول في الأمر الصادر من الله. وهناك بعض من التكاليف جاءت إجمالية، والإجمال لا بد له من تفصيل، مثل الصلاة وفيها قال الحق تبارك وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4567 {فَأَقِيمُواْ الصلاة إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] . إذن فالله عَزَّ وَجَلَّ أمر بالصلاة إجمالاً وقدّم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهذا الإجمال تفسيراً وتطبيقاً فهي خمس صلوات، ركعتان للصبح، وأربع ركعات للظهر، وأربع ركعات للعصر، وثلاث ركعات للمغرب، وأربع ركعات للعشاء، وحدد الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الصلوات التي نجهر فيها بقراءة الفاتحة وبضع آيات من القرآن، وحدد الصلوات التي لا نجهر فيها بالتلاوة. إذن فحين يقول الحق تبارك وتعالى {أَطِيعُواْ الله} ، أي أطيعوه في مجمل الحكم، وحين يقول: {وَأَطِيعُواْ الرسول} أي أطيعوه في تفصيل الحكم، وإذا ما قال: {أَطِيعُواْ الله والرسول} فهذا يعني أن الحق قد أمر وأن الرسول قد بلغ، والمراد واحد، وإذا لم يكن لله أمر، وقال الرسول شيئاً فالحق يقول: {وَأَطِيعُواْ الرسول} ، وسبحانه قد أعطى رسوله تفويضاً بقوله: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . أي أن كل أمر من الرسول إنما يأتي من واقع التفويض الذي أكرمه الله به، وهنا يقول سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] . أي إن كنتم مؤمنين حقا فاتقوا الله الذي آمنتم به واتّبِعُوا الأمر الصادر من الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4568 ورسوله لكم، لأن مدلول الإيمان هو اقتناع القلب بقضية لا تطفو للمناقشة من جديد، وكذلك اقتناع بأن هذا الكون له إله واحد، وله منهج يبلغه الرسول المؤيد من الله عَزَّ وَجَلَّ بالمعجزة، وهذا الإيمان وهذا المنهج يفرض عليكم تقوى الله بإصلاح ذات البين، ويفرض عليكم طاعة الله والرسول في كل أمر، ومن هذه الأمور التي تتطلب الطاعة هو ما أنتم بصدده الآن، لأنه أمر في بؤرة الشعور. ويأتي الحق بعد ذلك ليبين من هم المؤمنون فيقول: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4569 وفي هاتين الآيتين الكريمتين خمسُ صفاتٍ لها ترتيب عقائدي وحركي وجوارحي، وبذلك يتحدد تشخيص كلمة «المؤمنين» ، هذه الصفات هي الأولى: أنه إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وثانية الصفات أنه: إذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيماناً، ثالثة الصفات: أنهم على ربهم يتوكلون، ورابعة الصفات: أنهم يقيمون الصلاة، وخامسة الصفات: أنهم ينفقون مما رزقهم الله. والصفة الأولى للمؤمنين هي: {إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] . والوجل هو الخوف في فزع ينشأ منه قشعريرة، واضطراب في القلب، وحينما أراد الشعراء أن يعطوا صورة بهذا الإحساس، نجد شاعراً منهم يقول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4569 كأن القلب ليلة قيل يغدي ... بليلي العامرية أو يراح قطاط غرها شرك تجا ... ذبه وقد علق الجناح فالشاعرُ يصور حالة قلبه حين سمع بنبأ سفر حبيبته، كأنه صار مثل حمامة تحاولُ أن تخلّص نفسها من شبكة أو مَصْيدة وقعت فيها، إنها تجاذب المصيدة حتى تخرج، وهي ترجف في مثل هذا الموقف، هكذا حال القلب لحظة فراق المحبوبة عند الشاعر. وإذا كان ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ يدفع قلوب المؤمنين إلى الوجل، ألا يتنافى ذلك مع قول الحق سبحانه وتعالى:؟ {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] . في الحقيقة لا يوجد تعارض بين القولين؛ لأن ذكر الله تعالى يأتي بأحوال متعددة، فإن كان الإنسان مسرفاً على نفسه، فهو يرجف حين يذكر الله الذي خالف منهجه. وإن كان الإنسان يراعي حق الله في كل عمل قَدْر الاستطاعة، فلا بد أن يطمئن قلبه لحظة ذكر الله؛ لأنه اتبع منهج الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا. إذن فالخوف أو الوجل إنما ينشأ من مَهابةِ وسطوة صفات الجلال. والاطمئنان إنما يجيء من إشراقات وحنان صفات الجمال. ولذلك تجمعها آية واحدة هي قول الحق تبارك وتعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23] . فالجلود تقشعر خوفاً ووجَلاً ومهابة من الله عَزَّ وَجَلَّ، ثم تلين اطمئناناً وطمعاً في حنان المنّان سبحانه وتعالى، لأن رّبنا قال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4570 {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} [الحجر: 49] . إذن فلا يقولن أحد إن هناك تعارضاً بين الوجل والاطمئنان، فكلها من ذكر الله بالأحوال المتعددة للإنسان، فإذا ما وجل الإنسان فهو يتجه إلى فعل الخير فيطمئن مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] . وهل يزيد الإيمان أو ينقص؟ اختلف العلماء في هذا الأمر. ونحن عندما ننظر إلى قول الحق نجده يؤكد زيادة الإيمان، وحينما نسأل ما الإيمان؟ وما الإسلام؟ ... . إلخ نجد الجواب في توضيح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورده على السائل في الحديث الآتي والذي يرويه الصحابي الجليل سيدنا أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حيث قال: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال يا رسول الله: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر، قال يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال يا رسول الله: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك. قال: يا رسول الله: متى الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها فذلك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاءُ البَهْم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4571 ردوا عليّ الرجل فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم» . وجبريل عليه السلام حين جاء يسأل ليعلم بعضاً من صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له الرسول عليه السلام عن الإيمان: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر» ، وفي رواية أخرى ذكر القضاء والقدر خيره وشره. وهذه كلها أمور غيبية، ولا يقال في الأمر المحسّ إيمان، فلا يقول واحد: أنا مؤمن أنى أتحرك على الأرض؛ لأن هذا أمر حسيّ. والإيمان لا يكون إلاّ بالأمور الغيبية وأولها أن تؤمن بإله واحد لا تدركه الأبصار وهو غيب، وبملائكته وهي غيب، وصدقنا وجودها لأنه أبلغنا بذلك الوجود. وكذلك أن نؤمن بالكتب المنزلة على الرسل. وبالرسل، وصحيح أن الكتاب أمر حسيّ والرسول كذلك له وجود حسيّ، لكن لم نشاهد الوحي وهو ينزل الكتاب على الرسول. إذن فهو أمر غيبي، وكذلك الإيمان باليوم الآخر أمر غيبي أيضاً، والايمان بالقضاء والقدر وهو ما غابت عنا حكمته، وكلها إذن أمور غيبية. هذا الإيمان في القمة، لكن هناك إيمان آخر يجيء لأننا نعلم أن التشريعات لم تأت مرة واحدة، بل كانت تأتي على مراحل، فتشريع ينزل أولاً بأن نؤمن أنه من الله. إذن فالذي يزيد وينقص من الإيمان هو الإيمان بالتكليفات، وأنها صادرة من الله عَزَّ وَجَلَّ، وكلما كانت تنزل آية بتشريع جديد كانت تزيد المؤمنين إيماناً، فعندما نزل الأمر بالصلاة آمنوا بإقامتها واستجابوا ونفذوا، ثم جاء الصوم فامتثلوا للأمر به، ثم يجيء الأمر بالزكاة فتكون الطاعة والتنفيذ، وطبعاً هناك فرق بين أن تؤمن بالشيء، وأن تفعل الشيء. فالإيمان شيء، وفعله شيء؛ لأن الإسلام هو الانقياد الظاهري للمنهج، وتطبيق كل ما يجيء به الإسلام هو إيمان مستمر متزايد؛ لأننا آمنا بأن ما يجيء من المنهج هو من الله. إذن فالذي يزيد هو توابع الإيمان من التكليفات والامتثال لهذه التكليفات، مثال ذلك: كلنا نعرف قول الحق: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4572 {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] . لكن هناك أناس يتمسكون بحرفية قوله الحق: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97] . والذين يتمسكون بحرفية القول الحق لم يتساءلوا: كفر بماذا؟ هل كفر لأنه لم يحج؟ لا، إن كفره في هذه المسألة لا يكون إلا بأن ينكر أن الحج ركن من أركان الإسلام، فالمطلوب منا إيمانياً أن نقر بالحج كركن من أركان الإسلام في حدود الاستطاعة، فإن فعله الإنسان كان قد نفذ الحكم، أما إن لم يفعله فقد يكون ذلك في حدود عدم الاستطاعة. ويذيل الحق تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها بقوله: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . ومُتَعلّق الجار والمجرور دائماً يكون متأخراً، بينما هنا يتقدم الجار والمجرور؛ لذلك ففي الأسلوب حصر وقصر، مثلما نقول: «لزيد المال» أي أن المال ليس لغيره، وقول الحق: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي لا يتوكلون على غيره، بل قصروا توكلهم على الله سبحانه وتعالى، والتوكل: أن تؤمن بأن لك وكيلاً يقوم لك بمهام أمورك، بدليل أن الشيء الذي لا تقوى عليه تقول بصدده: «وكلت فلاناً ينجزه لي على خير وجه» وحتى تختار الذي توكله ويكون مناسباً لأداء تلك المهمة فأنت تعلن باطمئنان: أنك قد وكلت فلانا. إذن معنى {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي أنهم يكلون أمورهم على من ائتمنوه على مصالحهم، وهو الحق سبحانه وتعالى القادر العظيم الذي خلق الكون، وخلق فيه أسباباً تؤدي إلى مسبَّبات الأسباب مقدمة، والمسبّبات هي النتيجة. وبعد ذلك ترك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4573 أموراً ليس فيها أسباب، إلا أن نلحظ دائماً المسبب وهو الله تعالى، فكل أمر يعز عليك في أسبابه؛ إياك أن تيأس من أنه لا يحدث، بل قل: تلك هي قضية الأسباب، أما أنا فلي رب خلق الأسباب. وهو القادر فوق كل الأسباب، وفي حياتنا اليومية نلحظ أن الناس يخلطون بين عمل الجوارح، وعمل القلوب، ويظن إنسان ما أنه متوكل ولا يأخذ بالأسباب ويركن إلى الكسل ويقول: أنا متوكل على الله، وهذا نقول له: لا، إن هذا منك تواكلٌ وليس توكلاً؛ لأن التوكل ليس عمل جوارح، التوكل عمل قلوب. والمؤمن الذي يستقبل منهج الله بالفهم يجد الأسباب التي يجب أن يأخذها، وسبحانه وتعالى هو المسبب الأعلى، والإيمان يؤكد أن الجوارح تعمل والقلوب تتوكل، فعلى الجوارح أن تحرث الأرض، وأن تختار البذرة الطيبة، وتنثرها في الأرض، ثم ترويها، وتتعهدها، وهذه العمليات اسمها الأسباب، ثم لا تركن إلى الأسباب فقط، بل عليك أن تقول: إن فوق كل الأسباب هناك المسبِّبُ. فمن الجائز أن يخضر الزرعُ وينمو، ثم تأتي له آفةٌ من مطر أو حر وتضيعه. ومن ينقل التوكل إلى الجوارح. نقول له: أنت تواكلت، أي نقلت عمل القلب إلى الجوارح. ومن يقول ذلك إنما يكذب على نفسه وعلى الناس. لأنه تكاسل عن الأخذ بالأسباب وادّعى أنه متوكل على الله. ولو كان الواحد من هؤلاء صادقاً في توكله على الله لأخذ بالأسباب. وعادة فإني دائماً أقول لمن يدّعي التوكل مع الكسل: لماذا لا تترك الطعام يأتي إلى فمك، لماذا تمد إليه يديك؟ . إن من يكسل إنما يكذب في التوكل، فلا أحد مثلاً يترك قطعة اللحم تقفز من طبق الطعام إلى فمه، لكنه يأخذها بيده. ويمضغها بأسنانه، ويبلعها بعد المضغ، ولو كان صادقاً في أن التوكل هو ألا تعمل جوارحه لما فعل شيئاً من ذلك، لكنه يكذب ويتواكل فيما يتعبه ويشغل جوارحه فيما يريحه، ولا يستعملها في الأمور التي تتعبه. وقول الحق تبارك وتعالى: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . هذا القول يعني أنهم يؤمنون بأن الأسباب من خلق الله. وحين يأخذ المؤمن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4574 بالأسباب فهو يؤمن أنه لاجىء إلى الله ومعتمد عليه، لكن إن عزت عليه الأسباب فهو يعلم أن له رباً، ولذلك قال: {وعلى رَبِّهِمْ} ، والرب هو الخالق من عَدَم، والممد من عُدْم، وما دام قد خلقك وأمدك من عُدْم قبل أن يكلفك، فهل من المعقول أن يظلمك؟ طبعاً لا. لكن عليك أن تفطن أنه لك جوارح، فاستعملْ الجوارح فيما خلقت من أجله. وتأتي الآية التالية لتوضح عمل الجوارح، وهي تحمل الصفتين الرابعة والخامسة من صفات المؤمنين: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال: 3] . والقيام والقعود والقراءة والتسبيح والتكبير في الصلاة عمل جوارح، وكذلك الزكاة هي عمل ناتج من عمل سبق، فحتى تخرج الزكاة لا بد أن تبذل الجهد وتأخذ بالأسباب لتنتج ما يعولك أنت ودائرتك القريبة من زوجة وأبناء ثم أقارب، ومن بعد ذلك يفيض من المال ما تستقطع منه الزكاة، وهذه بطبيعة الحال غير زكاة الزروع التي تُخْرَج في يوم الحصاد. {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . ودائما ما نجد الصلاة والزكاة وهما مقترنتان ببعضهما، ولا تجد آية فيها ذكر للصلاة إلا وفيها ذكر للزكاة أيضاً؛ لأن الصلاة تعني ترك أمورك الحياتية التي تسعى فيها لدنيا الأسباب، وتذهب إلى الحق سبحانه وتعالى وتقف بين يديه، أي أنك قد اقتطعت جزءاً من الزمن الذي كنت تقضيه في حركة حياتك لتقف فيه أمام ربك خالق الأسباب. والزكاة تعني أنك تقتطع جزءاً من مالك، ولذلك قلنا: إن الصلاة فيها زكاة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4575 وزيادة، فأنت تخرج مقدار اثنين ونصف في المائة مما يتبقى معك من مال يبلغ نصاباً ويكون زائداً عن الحاجة الأصلية، لكنك بالصلاة تضحي ببعض الوقت الذي تقضيه في العمل الذي يأتي لك بأصل المال، إذن ففي الصلاة زكاة وأكثر. وأنت في الزكاة تتنازل عن بعض المال، لكنك في الصلاة تتنازل عن الوقت الذي هو محل العمل، وهو الذي تنتج فيه الرزق، والرزق وعاء الزكاة. ويذيل الحق سبحانه وتعالى هذه الآية قائلاً: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ونعلم أن الرزق كما ذكر العلماء هو كل شيء ينتفع به الإنسان، وحتى اللص الذي يسرق وينتفع بسرقته يعد هذا بالنسبة له رزقاً لكنه رزق غير طيب وله عقاب في الدنيا إن تم ضبطه، ولن يفلت من عقاب الله الحاكم العادل في الدنيا والآخرة، وهو بطبيعة الحال غير الرزق الحلال الذي يأتي من عمل مشروع، والمؤمن الحق هو من ينفق من هذا الرزق الحلال؛ سواء لمتطلبات حياته أو رعاية المجتمع الإيماني. وبعد ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {أولائك هُمُ المؤمنون ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4576 و «أولئك» تشير إلى من أنعم الله عليهم بالصفات الخمس السابق ذكرها، وهؤلاء هم من وجلت قلوبهم من ذكر الله، وزادتهم الآيات في إيمانهم، وعلى ربهم يتوكلون ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، هؤلاء هم المؤمنون حقاً {أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} . ولنعلم أن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا تذهب به الأغيار، ويخضع له كل الناس لأنه يتعلق بمصالح حياتهم. وإن جاء الباطل ليزحزح الحق، نجد الحق ثابتاً لا يتزحزح لأنه قوي. ولنقرأ قول الحق تبارك وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4576 {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17] . وحين ينزل المطر من السماء، يأخذ من مائة كل وادٍ من الوديان على قدر اتساعه وعمقه، ويمتلىء، ترى الرغاوي وهي الزبد تطفو فوق السيْل، وهي عبارة عن هؤلاء سببه وجود الشوائب من قش وغيره، وهذا مثل نراه في حياتنا، ونجد الأرض والناس وكل المخلوقات تنتفع بالمياه، لكنها لا تنتفع بالزبد أو الرغاوي. ثم ينتقل الحق في ذات الآية من ضرب المثل بالماء، إلى ضرب المثل بالنار فيقول: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} [الرعد: 17] . وأنت حين ترى قطعة الحديد وهي تتحول إلى السيولة بالانصهار في النار، تجد شرراً يتطاير منها، ويطفو فوق سطح الحديد المصهور، وهو ما يسمى ب «خبث الحديد» وتتم إزالة هذا الخبث ليبقى الحديد صافياً لتصنع منه السيوف أو الخناجر وغيرها، وهذه الحالة تحدث في الذهب حين يصهره الصائغ ليزيل عنه أية شوائب ويعيد تشكيله ليكون حلياً. وزبد الماء وزبد الحديد وزبد الذهب يتجمع على الجوانب ويبقى الماء صافياً، وكذلك الحديد والذهب، ولهذا يقول الحق: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} [الرعد: 17] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4577 أي أن الحق يبقى صافياً ثابتاً، أما الباطل فيعلو ليتجمع على الجوانب ليذهب بغير فائدة. ويوضح الحق علو كلمته سبحانه وتعالى في آية أخرى فيقول: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} [التوبة: 40] . ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى جاء بالجعل لكلمة الكافرين، أما كلمته سبحانه وتعالى فلها العلو الثابت. والحق هنا يبين أن المؤمنين الذين يتصفون بهذه الصفات الخمس هم مؤمنون حق الإيمان فيقول عَزَّ وَجَلَّ: {أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} . ومعنى هذا أن هناك مؤمنين ليسوا على درجة عالية من الإيمان، أي أن هناك منازل ودرجات للإيمان متفاوتة، ولكل قدر من الصفات منزلة وعطاء مناسب. ونحن نرى البشر حينما يخصهم واحد بوده يفيضون عليه من خيراتهم، فنجد غير العالم يأخذ ممن يودهم من العلماء بعض العلم، والضعيف الذي يعطي وده لقوي، يعينه القوي ببعضٍ من قوته، والفقير الذي يعطي وده لغني، يعطيه الغني بعضاً من المال، والأرعن يأخذ ممن يودهم من العقلاء قدراً من التعقل للأمور. إذن أهل المودة والقرب والتقوى يفاض عليهم من المولى وهم ممن اختصهم الله بالعطاءات، فالذي وجدت فيه هذه الصفات، ومؤمن حقاً تكون له درجات عند ربه تناسب حظه من الحق وحظه من الصفاء، ولنعرف أن السير في درب الحق يعطي الكثير. والمثال الذي نقدمه على ذلك أننا نجد من يصلي الأوقات الخمسة في مواعيدها، وهذا هو المطلوب العام، إذا ما صلى ضعف ذلك بالليل، أو واظب على الصلاة في الجماعة ويلزم نفسه بمنهج الله، سوف يأخذ حظاً من الصفاء لم يكن موجوداً عنده من قبل ذلك، وسيجد في قلبه إشراقات وتجليات، وتسير أمور حياته بسهولة ويسر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4578 وقد يكون الإنسان من هؤلاء - على سبيل المثال - خارجاً من البيت وسألته زوجته: ماذا نطبخ اليوم؟ ويجيبها: لنقض هذا اليوم بما تبقى عندنا من الأمس. وعندما يعود قد يفاجأ بأن شقيقه قد قدم من الريف، وأحضر له هدية من البط، والقشدة والفطائر. فتسأله زوجته: أكنت تعلم بمجيء أخيك؟ فيقول: لم أكن أعلم، وهذا مجرد مثال، لكن عطاءات الصفاء تكون أكثر من ذلك مادياً ومعنوياً، ومن يستمر في العبادة ويزيد عليها ويؤدي كل ذلك بحقه، سيزيد عطاء الله له؛ لأن الله لا يمل عطاء أهل الصفاء أبداً. ومن يجرب مثل هذه العبادة ويزيدها سيجد عطاء الله وهو يزيد. ودائما أضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى وهو منزه سبحانه وتعالى عن التشبيه لنفترض أن إنساناً أراد أن يسافر من القاهرة إلى الإسكندرية، وسأل إنساناً آخر، فقال له: إن ذهبت من الطريق الفلاني ستجد استراحة طيبة، عكس الطريق الفلاني. ويتبع المسافر نصائح من أرشده، فيجده صادقاً، فيرتاح من بعد ذلك لرأيه، وكذلك أهل الصفاء، هم أهل العطاء، وعلى قدر صفائهم يكون هذا العطاء. والذي يشجع الناس الذين يبالغون في التعبد هو هذا الإشراق، وهناك من يصف الواحد منهم بأنه مجذوب وإن من يطلق على المتعبد الزاهد هذا الوصف يرى المنزلة العالية وهي تشد هذا المتعبد إليها، وهو من جهة أخرى ينظر هذا الزاهد إلى من يتعثرون في طلب الدنيا، ويصفهم بينه وبين نفسه بأنهم من «الغلابة» ويدعو لهم. وأقول لمن يرى واحداً من هؤلاء: لا شأن لك بأي إنسان من هؤلاء وإياك أن تتعرض لهم واتركهم في حالهم، ما دام الواحد منهم لا يسألك شيئا. {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} . والدرجات عند البشر هي ارتقاءات يسعى إليها، فما بالنا بالدرجات التي عند الرب؟ وما دام الله سبحانه وتعالى قد وعدهم بالدرجات العالية عنده فقد ضمنوا المغفرة؛ لأن الواحد منهم سيطهر بالمغفرة، وجاء الحق بعطاء الدرجات قبل المغفرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4579 لأنه سبحانه خلق الخلق ويعرف أنهم أهل أغيار، ويعلم أن هناك من أسرفوا على أنفسهم، ويحاولون فعل الخيرات لأنهم يؤمنون بأن الحسنات يذهبن السيئات، وسبحانه علمنا أن معالم الدين تأخذ حظها من المسرفين على أنفسهم، لأن من لم يسرف على نفسه تجده يطيع الله طاعة هادئة رتيبة فليس وراءه ما يلهب ظهره. أما من عملوا السيئات فإن هذه السيئات تقض مضاجعهم. والمسرف على نفسه لحظة الإسراف يظن أنه أخذ من الله شيئاً واحداً من خلف منهجه، فيوضح له ربنا: إياك أن تظن أن هناك من يخدع الله. فأنت ستعمل كثيراً وبشوق لخدمة منهج الله، ونجد المسرف على نفسه لحظة الإفاقة والتوبة، وهو يندفع إلى فعل الخيرات. مصداقاً لقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله تعالى ليؤيد الدين بالرجل الفاجر» . لأن فجر الفاجر يتجسد أمامه ويريه سوء المصير، فيندفع إلى فعل الخيرات ليمحو السيئات، أما من لم يخطىء فنجده هادىء القلب، مطمئن النفس، لا يلهب ظهره شيء. {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4] . وهل هذا الرزق ناشىء من كريم؟ الجواب لا؛ لأن الكرم تعدى من الكريم الأصيل، إلى أن صار الرزق نفسه كريماً، وكأن هذا الرزق يتعشق صاحبه؛ لأن ربنا ساعة يعطي إنساناً نعمةً، ثم يستعملها العبد في الطاعة، تحس النعمة أنها مسرورة بالذهاب إلى هذا الإنسان لأنه استعملها في طاعة وفيما يرضى الله عَزَّ وَجَلَّ. ولك أن تعرف أن الرزق أعلم بمكانك منك بمكانه. فلا أحد يعرف عنوان الرزق الذي قدره الله له، لكن الرزق يعرف عنوان صاحبه، ويبحث عنه في كل مكان إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4580 أن يجده. هكذا نفهم أن الكرم يتعدى إلى الرزق نفسه فيصبح الرزق كريماً. وجاء كل هذا الحديث بمناسبة الخلاف على الغنائم والأنفال، وفصل ربنا بالحكم وبين وأوضح أن الأنفال لله والرسول ولم يعد لأحد كلام بعد كلام الله، وهذه الحادثة في الأنفال حدثت في الخروج إلى الحرب، فحين أراد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يخرج للحرب، كان هناك فريق منهم كاره لهذا الخروج ثم رضي به. لكن حالهم اختلف في الغنائم فطالب بعضهم بأكثر مما يستحق؛ لذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4581 و «كما» تدل على تشبيه حالة بحالة، فهم قد رضوا بقسمة الله في الغنائم بعد أن رفضوها، وكذلك قبلوا من قبلُ أن يخرجوا لملاقاة النفير بعد كراهيتهم لذلك. لكنهم خرجوا وحاربوا وانتصروا ثم اختلفوا على الغنائم، ورضوا أخيراً بقسمة الله تعالى والرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. فهل ذكر مسألة كراهيتهم للخروج إلى الحرب هي طعن فيهم؟ لا، فهذا القول له حيثية بشرية؛ لأن الذي يريد أن يخوض معركة لا بد أن يغلب عليه الظن بأنه سوف ينتصر، وإلا سينظر إلى أن عملية الخروج إلى القتال فيها مجازفة. وكان المسلمون في ذلك الوقت قليلي العدد، وليس معهم عُدَد، بل لم يكن لديهم من مراكب إلا فرسان اثنان. وكان خروجهم من أجل البضائع والعير، لا لملاقاة جيش كبير، وهكذا لم تكن الكراهية لهذه المسألة نابعة من التأبي على أوامر الله تعالى، أو مطالب رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولكنهم نظروا إلى المسألة كلها بالمقاييس البشرية فلم يجدوا فيها التوازن المحتمل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4581 ويريد الله أن يثبت لهم أنهم لو ذهبوا وانتصروا على العير فقط، لقيل عنهم إنهم جماعة من قطاع الطرق قد انقضوا على البضائع ونهبوها، فلم يكن مع العير إلا أربعون رجلا، والمسلمون ثلاثمائة ويزيدون، ومن المعقول أن ينتصروا، ولكن ربنا أراد أن ينصرهم على النفير الذي استنفره الكفار من مكة، هذا النفير الضخم في العدد والعدة ويضم جهابذة قريش وصناديدها، وتتحقق إرادة الحق في أن يزهق الباطل. {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} . والخروج من البيت هنا مقصود به خروج الرسول من المدينة لملاقاة الكفار، وهذا الفريق من المؤمنين لم تخرجهم الكراهية عن الإيمان؛ لأن معنى «فريق» هم الجماعة الذين يفترقون عن جماعة ويجمعهم جميعاً رباط واحد، فالجيش مثلاً يتكون من فرق، يجمعهم الجيش الواحد. وهذه الفرق التي يأتي الحديث عنها هنا هي الفرق التي كرهت أن تخرج إلى القتال رغم أنهم مؤمنون أيضاً، ونعلم أن كراهية القتال أمر وارد بالنسبة للبشر، وسبحانه وتعالى القائل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] . ويقول الحق بعد ذلك: {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4582 و {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق} ، أي يجادلونك في مسألة الخروج لملاقاة النفير، بعد ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4582 تبين لهم الوعد الحق من الله عَزَّ وَجَلَّ وهو وعده سبحانه وتعالى بأن تكون لهم إحدى الطائفتين، وهما طائفة العير أو النفير الضخم الذي جمعته قريش لملاقاتهم. وما دام الحق قد وعدكم إحدى الطائفتين، فلماذا لا تأخذون الوعد في أقوى الطوائف؟ لماذا تريدون الوعد في أضعف الطوائف؟ {لقد وعدكم الحق سبحانه وتعالى أن إحدى الطائفتين ستكون لكم، فكان المنطق والعقل يؤكدان أنه ما دام قد وعدنا الله عَزَّ وَجَلَّ إحدى الطائفتين، فلنقدم إلى الأنفع للإسلام والحق الذي نحارب من أجله، وأن نواجه الطائفة ذات القوة والشوكة والمنعة؛ لأنه قد يكون من الصحيح أن النصر مؤكد على طائفة العير، لكن هذا النصر سيبقى من بعد ذلك مجرد نصر يقال عنه} إنه نصر لقطاع طريق، لا أهل قضية إيمان ودين. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} [الأنفال: 7] . فالمنطق إذن يفرض أن الله عَزَّ وَجَلَّ ما دام قد وعد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإحدى الطائفتين، طائفة في عير والأخرى في نفير، كان المنطق يفرض إقبال المؤمنين على مواجهة الطائفة القوية؛ لأن النصر على النفير هو أشرف من النصر على طائفة العير. {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ} . ونلحظ أن هناك «سوق» ، وهناك «قيادة» ، والقيادة تعني أن تكون من الأمام لتدل الناس على الطريق، و «السوق» يكون من الخلف لتحث المتقدم أن يقصر المسافة مع تقصير الزمن، فبدلاً من أن نقطع المسافة فى ساعة - على سبيل المثال - فنقطعها في نصف ساعة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4583 وقوله تعالى: {يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: 6] . أي أنهم غير منجزين للسير. بل هم مدفوعون إليه دفعاً، وهم ينظرون بشاعة الموت، لأنهم تصوروا أن مواجهتهم لألف فتى من مقاتلي قريش مسألة صعبة، فألف أمام ثلاثمائة مسألة ليست هينة؛ لأن ذلك سيفرض على كل مسلم أن يواجه ثلاثة معهم العدة والعتاد، فكأن الصورة التي تمثلت لهم صورة بشعة، لكنهم حينما نظروا هذه النظرة لم يلتفتوا إلى أن معهم ربّا ينصرهم على هؤلاء جميعاً. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4584 والوعد من الله عَزَّ وَجَلَّ يجب أن يستقبل من الموعود بأنه حق؛ لأن الذي يقدح في وعد الناس للناس أن الإنسان له أغيار، فقد تعد إنساناً بشيء، وقد حاولت أن تفي بما وعدت ولكنك لم تستطع الوفاء بالوعد. أو كانت لك قوة وانتهت. أو قد يتغير رأيك. إذن فالوعد من المساوي من الخلق غير مضمون، لكن الوعد من القادر القوي، الذي لا تقف عراقيل أمام إنفاذ ما يريد، هو وعد حق ويجب أن يتلقوا هذا الوعد على أنه حق. {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4584 أي إن كنتم تميلون وتحبون أن تكون لكم الطائفة غير ذات الشوكة التي تحرس العير - والشوكة هي شيء محدد من طرف تحديداً ينفذ بسهولة من غيره، وأنت تجد الشوكة مدببة رفيعة من الطرف ثم يزداد عرضها من أسفلها ليتناسب الغِلْظُ مع القاعدة لتنفذ باتساع. وذات الشوكة أي الفئة القوية التي تنفذ إلى الغرض المراد، ولا يتأبى عليها غرض، ولذلك يقال «شاكي السلاح» . فإن كتم تتمنون وتريدون عدم ملاقاة جيش الكفار في معركة فالمولى عَزَّ وَجَلَّ يقول لكم {وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} . أي أن الله تعالى يريد أن ينصر الإسلام بقوة ضئيلة ضعيفة بغير عتاد على جيش قوى فيعرفون أن ربنا مؤيدهم، وبذلك يحق الحق بكلماته أي بوعده. وهناك الكلمة من الله التي قال فيها: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها التي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى} [الأعراف: 137] . هكذا كان وعد الله الذي تحقق. {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} والدابر والدُبر هي الخلف، وتقول: «قطعت دابره» أي لم أجعل له خلفاً. ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك: {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4585 ونلحظ أنه سبحانه وتعالى قال من قبل ويريد الله أن {يُحِقَّ الحَقَّ} ، وهنا يقول: {لِيُحِقَّ الحق} والمراد بالحق الأول نصر الجماعة الضعاف، القلة الضعيفة على الكثرة القوية، هذا هو الحق الأول الذي وعد به الحق بكلماته، ليحق منهج الإسلام كله، ولو كره المجرمون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4585 ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4586 ومادة «استغاث» تفيد طلب الغوث، مثل «استسقى» أي طلب السقيا، و «استفهم» أي طلب الفهم، و «الألف» و «السين» و «التاء» توجد للطلب. و «استغاث» أي طلب الغوث من قوى عنه قادر على الإغاثة، وأصلها من الغيث وهو المطر، فحين تجدب الأرض لعدم نزول المطر ولا يجدون المياه يقال: طلبنا الغوث، ولأن الماء هو أصل الحياة؛ لذلك استعمل في كل ما فيه غوث، وهو إبقاء الحياة، وفي حالة الحرب قد يفنى فيها المقاتلون؛ لذلك يطلبون الغوث من الله عَزَّ وَجَلَّ {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} . و {تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} بضمير الجمع، كأنهم كلهم جميعاً يستغيثون في وقت واحد، وقد استغاث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين اصطف القوم وقال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره، ورفع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يديه واستقبل القبلة وقال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم ائتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» . ويدل قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أنه كان يستغيث بالخالق الذي وعد بالنصر، ورد القوم خلفه: آمين، لأن أي إنسان يؤمن على دعاء يقوله إمام أو قائد فهو بتأمينه هذا كأنما يدعو مثلما يقول الإمام أو القائد. فمن يقول: «آمين» يكون أحد الداعين بنفس الدعاء. والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4586 قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88] . وهذا ما جاء في القرآن الكريم على لسان موسى عليه السلام. ثم يقول الحق تبارك وتعالى بعدها: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] . مع العلم بأن سيدنا موسى عليه السلام هو الذي دعا، وقوله سبحانه من بعد ذلك {أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} دليل على أن موسى دعا وهارون قال: «آمين» فصار هارون داعياً أيضاً مثل أخيه موسى. {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ} [الأنفال: 9] . {فاستجاب لَكُمْ} الألف والسين والتاء - كما علمنا - تأتي للطلب، وقول الحق سبحانه وتعالى {فاستجاب} يعني أنه طلب من جنود الحق في الأرض أن يكونوا مع محمد وأصحابه؛ لأن الله سبحانه وتعالى، خلق الكون، وخلق فيه الأسباب. نراها ظاهرة، ووراءها قوى خفية من الملائكة. والملائكة هم خلق الله الخفي الذي لا نراه ولا نبصره، إلا أن الله أخبرنا أن له ملائكة. فالملائكة ليست من المخلوقات المشاهدة لنا، وإنما إيماننا بالله، وتصديقنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البلاغ عن الله تعالى جعلنا نعرف أنه سبحانه وتعالى قد خلق الملائكة، وأخبرنا أيضاً أنه خلق الجن وصدقنا ذلك، إذن فحجة إيماننا بوجود الملائكة والجن هو إخبار الرسول الصادق بالبلاغ عن الله تعالى ومن يقف عقله أمام هذه المسألة ويتساءل: كيف يوجد شيء ولا يرى، نقول له: هذه أخبار من الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4587 وهناك من أنكر وجود الملائكة والجن وقال: إنها القوى الميكانيكية في الأسباب، ولم يلتفتوا إلى أن الحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن أمر غيبي، فسبحانه يترك في مشهديات وجوده وكونه ما يقرب هذا الأمر الغيبي إلى الذهن، فيجعلك لا تعرف وجود أشياء تشعر بآثارها، ثم بمرور الزمن تدرك وجودها، وهذه الأشياء لم تُخلق حين اكتشفتها، وإنما هي كانت موجودة لكنك لم تتعرف عليها، وهناك فارق بين وجود الشيء وإدراك وجود الشيء. ومثال ذلك كان اكتشاف الميكروب في القرن السابع عشر وهو موجود من قبل أن يكتشف، وكان يدخل في أجسام الناس، وينفذ من الجلد، وحين اكتشفوه، دلّ ذلك على أنه كان موجوداً لكننا لم نكن نملك أدوات إدراكه. إذن فإن حُدثت بأن لله خلقاً موجوداً وإن لم تكن تدركه، فخذ مما أدركته بعد أن لم تكن تدركه دليل تصديق لما لا تدركه. وأخبرنا الحق تبارك وتعالى بوجود الملائكة، وكل شيء له ملائكة يدبرونه، وهم: «المدبرات أمرا» ، والملائكة الحفظة، وسبحانه القائل: {لَهُ معقبات مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] . وسبحانه أيضاً القائل: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] . وهؤلاء الملائكة هم الموكلون بمصالح الإنسان في الأرض، المطر مثلاً له ملكه، الزرع مثلاً له ملكه، وكل شيء له ملك. وهو سبب خفي غير منظور يحرك الشيء. {فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة} . والإمداد هو الزيادة التي تجيء للجيش، لأن الجيش إذا ووجه بمعارك لا يستطيع أن يقوم بها العدد الموجود من الرجال أو السلاح، حينئذ يطلب قائد الجيش إرسال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4588 المدد من الرجال والعتاد. {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ} ونعلم أنه ساعة أن أمر ربنا الملائكة أن تسجد لآدم، لم يكن الأمر لكل جنس الملائكة، بل صدر الأمر إلى الملائكة الموكلين بمصالح الأرض. أما الملائكة غير الموكلين بهذا، فلم يدخلوا في هذه المسألة، ولذلك قلنا إن الحق سبحانه وتعالى حينما عنف إبليس، قال له: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] . والمقصود ب «العالين» هم الملائكة الذين لم يشملهم أمر السجود. والحق تبارك وتعالى هنا في هذه الآية يبين أنه سبحانه وتعالى قد أمد المسلمين المحاربين في غزوة بدر ب: {بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ} والردْفُ هو ما يتبعك، ولذلك يقال: «فلان ركب مطيته وأرْدَفَ فلاناً» ، أي جعله وراءه. والمُردف هو من يكون في الأمام، والمردَف هو من يكون خلفه. والآية توضح لنا أن الملائكَة كانت أمام المسلمين؛ لأن جيش المسلمين كان قليل العدد، وجيش الكفار كان كثير العدد، وجاءت الملائكة لتكثير عدد جيش المسلمين، فإذا كان العدد مكوناً من ألف مقاتل، فقد أرسل الحق ملائكة بنفس العدد ويزيد بذلك جيش المؤمنين بعدد المؤمنين. وكان يكفي أن يرسل الحق ملكاً واحداً، كما تحكي الروايات عما حدث لقوم لوط، فقد روي أن جبريل عليه السلام، أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط، وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمار، ونباح الكلاب، وصياح الديوك، ولم تنكفىء لهم جرّة، ولم ينسكب لهم إناء، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض. وصيحة واحدة زلزلت قوم ثمود. لماذا إذن أرسل الحق تبارك وتعالى هنا ألفاً من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4589 الملائكة؟ . حدث ذلك لتكثير العدد أمام العدو وليفيد في أمرين اثنين: الأمر الأول: أن تأخذ العدو رهبة، والأمر الثاني: أن يأخذ المؤمنون قوة لكن أكان للملائكة في هذه المسألة عمل؟ أو لا عمل لهم؟ هنا حدث خلاف. ونجد الحق تبارك وتعالى يقول: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4590 أي أن الملائكة هي بشرى لكم، وأنتم الذين تقاتلون أعداءكم، وسبحانه وتعالى هو القائل: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] . قال الحق سبحانه وتعالى ذلك للمؤمنين وهم يدخلون أول معركة حربية، ويواجهون أول لقاء مسلح بينهم وبين الكافرين، لأنهم إن علموا أن الملائكة ستقاتل وتدخل، فقد يتكاسلون عن القتال ويدخلون إلى الحرب بقلوب غير مستعدة، وبغير حمية، فأوضح ربنا: أنا جعلت تدخل الملائكة بشرى لكم، و {لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} ، أي أن عدد الملائكة يقابل عدد جيش الكفار، والزيادة في العدد هي أنتم يا من خرجتم للقتال. واعلموا أن الملائكة هي لطمأنة القلوب. لكن الحق يريد أن يعذبهم بأيديكم أنتم، لأن الله يريد أن يربي المهابة لهذه العصبة بالذات، بحيث يحسب لها الناس ألف حساب. واختلفت الروايات في دور الملائكة في غزوة بدر، فنجد أبا جهل يقول لابن مسعود: ما هذه الأصوات التي أسمعها في المعركة؟ فقد كانت هناك أصوات تُفزع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4590 الكفار في غزوة بدر - ويرد ابن مسعود على أبي جهل: إنها أصوات الملائكة. قال: إذن بالملائكة تغلبون لا أنتم. . فإياكم أن تفتنوا حتى بالملائكة؛ لأن النصر لا منكم ولا من الملائكة، ولكن النصر من عندي أنا؛ لأن الذي تحب أن ينصرك، لا بد أن تكون واثقاً أنه قادر على نصرتك، والبشر مع البشر يظنون الانتصار من قبل الحرب، ومن الجائز أن يغلب الطرف الآخر، لكن النصر الحقيقي من الذي لا يُغْلَب وهو الله سبحانه وتعالى: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} وأنت حين تستنصر أحداً لينصرك على عدوك فهذا الذي نستنصر به إن كان من جنسك يصح أن يَغْلِب معك ويصح أن تنغلب أنت وهو، لكنك تدخل الحرب مظنة أنك تغلبَ مع من ينصرك وقد يحدث لكما معاً الهزيمة أمَّا الحقُّ سبحانه وتعالى فهو وحده الذ لا يُغَالَب ولا يُغْلَب. {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وهو سبحانه وتعالى الناصر، وهكذا يكون المؤمن الذي يقاتل بحمية الإيمان واثقاً من النصر، لكن إياكم أن تظنوا أن النصر من الله لا يصدر عن حكمة، إن وراء نصر الله للمؤمنين حكمةً، فإن تهاونتم في أي أمر يُسلب منكم النصر؛ لأن الله لا يغير سننه مع خلقه، وقد رأينا ما حدث في غزوة أحد حين تخاذلوا ولم ينفذوا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم ينتصروا؛ لأن الحكمة اقتضت ألا ينتصروا، ولو نصرهم الله لاستهانوا بعد ذلك بأوامر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولقال بعض منهم: خالفناه وانتصرنا، وهكذا نجد أن طاعة الله والرسول والأخذ بالأسباب أمر هام، فحين جاء الأمر من رسول الله في غزوة أحد بما معناه: يا رماة لا تتركوا أماكنكم، ولو رأيتمونا نفر إلى المدينة، فلا شأن لكم بنا، وعلى كل منكم أن يأخذ دوره ومهمته، فإذا رأى أخا له في دوره قد انهزم فليس له به شأن، وعلى كل مقاتل أن ينفذ ما عليه. لكنهم خالفوا فسلبهم الله النصر. وهكذا يتأكد لهم أن النصر من عند الله العزيز الذي لا يغلب. وقال البخاري عن البراء بن عازب قال: لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جيشا من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4591 الرماة، وأمَّر عليهم «عبد الله بن جبير» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا تبرحوا وإن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا» . ونلحظ أن المدد بالملائكة ورد مرة بألف، ومرة بثلاثة آلاف في قول الحق سبحانه {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بثلاثة آلاف مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} [آل عمران: 124] . فإن لم يكفكم ثلاثة آلاف سيزيد الله العدد، لذلك يقول المولى عَزَّ وَجَلَّ: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] . إذن المدد يتناسب مع حال المؤمنين، ويبين ذلك قوله سبحانه: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} فالصبر إذن وحده لا يكفي بل لا بد أيضا من تقوى اللخ، ولا بد كذلك من المصابرة بمغالبة العدو في الصبر؛ لذلك يقول المولى تبارك وتعالى في موقع آخر: {اصبروا وَصَابِرُواْ} [آل عمران: 200] . وذلك لأن العدو قد يملك هو أيضاً ميزة الصبر؛ لهذا يزيد الله الصابر، فإن صبر العدو على شيء فاصبر أنت أيها المؤمن أكثر منه. وقد جعل الله عَزَّ وَجَلَّ الإمداد بالملائكة بشرى لطمأنة القلوب وثقة من أن النصر من عند الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4592 وما أن بدأت المعركة حتى بدأ توالي النعم التي سوف تأني بالنصر، إمداد بالملائكة، بشرى لتطمئن القلوب، وثقة من أن النصر من عند الله العزيز الحكيم. ثم يأتي التذكير بالدلالة على ذلك فيقول المولى سبحانه وتعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4593 والنعاس عبارة عن السِّنة الأولى التي تأخذ الإنسان عندما يحب أن ينام، ويسميها العامة في مصر «تعسيلة» ويقولون: «فلان معسل» أي أخذته سِنَة النوم، وهي ليست نوماً بل فتور في الأعصاب يعقبه النوم، وهذا من آيات الله تعالى في أن يهب الإنسان راحة مؤقتة وليست نوماً. وسبحانه يقول عن ذاته العليا: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] . أي أنه - جل وعلا - لا يأخذه النومُ الخفيفُ ولا النوم الثقيل. لأنّ السِّنة هي إلحاح من الجسم في طلب النوم، ويكون نوماً خفيفاً، وسبحانه وتعالى ليس كمثله شيء فهو عَزَّ وَجَلَّ لا يتجسد أو يتمثل في شيء، لا السِّنة تأخذه ولا النوم يقاربه، ونلحظ أن الإنسان إذا ما تكلم بجانب من تأخذخ السِّنة فهو يصحو وينتبه. أما النائم بعمق فقد لا يصحو. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4593 فالسِّنة - إذن - هي الداعي الخفيف للراحة. أما النوم فهو الداعي الثقيل. وهنا أنزل الله عليهم النعاس بمثابة مقدمة للنوم ليستريحوا قليلاً. ونعلم أن النوم آية من آيات الله عَزَّ وَجَلَّ في كونه؛ لأن الجسم حين يعبر عن نفسه بالحركة والطاقة ويأكل الغذاء ويشرب الماء ويتنفس الهواء، كل ذلك يتحول إلى طاقة ثم إلى وقود للحركة. وهذه الطاقة تتكون بالتفاعل بين العناصر المختلفة، من تمثيل للغذاء وتحويل الطعام إلى نوعيات مختلفة لتغذية كل خلية من خلايا الجسم بما يناسبها، ثم استخلاص «الأوكسجين» عبر التنفس وطرد ثاني أكسيد الكربون، وعشرات الآلاف من التفاعلات الكيميائية لا توجد بها فضلات لتخرج، وهي تختلف عن التفاعلات الأخرى التي تخرج منها الفضلات من أحد السبيلين، أو من صماخ الأذن أو غير ذلك. ومثل هذه الفضلات إنما تنتج من الاحتراقات التي نقول عنها: «العادم» في الآلات الميكانيكية. والعادم هو نتيجة الاحتراق وهي غازات تنفصل لتسير الحركة. وفي الإنسان نجد العادم يتمثل في الغائط، وما خرج من صماخ الأذن، و «عماص العين» ، والعرة، كلها عوادم. لكنْ هناك لون من تركيبة هذه التفاعلات يُمثل لإيجاد الطاقة وليس له عادم. والوسيلة الأساسية لاستعادة التوازن الكيميائي المناسب للإنسان هي أن نريح الجسم، وتتفاعل مواد الجسم مع نفسها ويعود طبيعياً. وهذا لا يحدث إلا بالنوم. ولذلك نجد الإنسان حين يسهر كثيراً ويذهب إلى النوم يشعر برجليه وقد «خدلت» أو كما يقال: «نملت» . وهذا نتيجة عجز مواد الجسم عن التفاعل الذي تحتاجه نتيجة اليقظة، وهذه كلها مسائل لا إرادية. بدليل أن الإنسان يرغب أحياناً في أن ينام، ويتحايل أحيانا على النوم فلا يأتيه؛ لأن النوم من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4594 العمليات المختصة بالحق سبحانه وتعالى، وهو آية من آيات الله في هذا الكون، ومن ضمن الآيات العجيبة. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم: 23] . وحين حاول العلماء الباحثون أن يفسروا ظاهرة النوم، وضعوا عشرات النظريات، وآخر التجارب التي أجريت أنهم أحضروا إنسانا وعلقوه كالرافعة من وسطه، وكأنه عصا مرفوعة من وسطها بتوازن، وجعلوا كل نصف من النصفين متساوياً في الوزن، وحين جاء النوم لهذا الإنسان محل التجربة وجدوا أن جهة من النصفين مالت، وكأن ثقلاً ما جاءها من النصف الآخر فزادت كتلتها، وهذا آخر ما درسوه في النوم، هذه التجربة أثبتت أن النوم عجيبة من العجائب التي تستحق أن يقول الحق تبارك وتعالى عنها: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم: 23] . وانظر إلى كلمة «النهار» هذه تر فيها الرصيد الاحتياطي الموجود في آية النوم؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل} . وفي هذا القول رصيد احتياطي لمن جاء له ظرف من الظروف ولم ينم بالليل، فيعوض هذا الأمر وينام بالنهار، ومن حكمة الله تعالى أنه ذيل هذه الآية بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} . وهذا بسبب أن النوم يعطل كل طاقات الجسم، فعندما ينام الإنسان لا يقدر جسمه على أن يتحرك التحرك الإداري، إلا السمع فهو باق في وظيفته؛ لأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4595 به الاستدعاء، وإنَّ العين - مثلاً - لا ترى أثناء النوم، إنما الأذن تسمع ولا تتخلى عن السماع أبداً؛ لأن بالأذن يكون الاستدعاء، فإذا ما نادى الأب ابنه وهو نائم فهو يسمع النداء. لذلك قلنا سابقاً: إنَّ الحق سبحانه وتعالى حينما أراد أن ينيم أهل الكهف ثلثمائة سنة وازدادوا تِسْعا، قال تعالى: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11] . لأنه لو لم يضرب على آذان أهل الكهف لظل السمع باقياً، فإذا ظل السمع، أهاجته الأعاصير، وعواء الذئاب، وزئير الأسود، ولما استطاعوا النوم طيلة هذه المدة. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11] . وقد يتبادر إلى الأذهان سؤال هو: وهل هناك نعاس غير أمنة؟ والجواب نعم؛ لأنه مجرد الراحة من تعب لتنشط بعدها، هذا لنفهم أن «أمنة» جاءت لمهمة هي تهدئة أعماق المؤمنين في المهيجات المحيطة، فهذا عدو كثير العدد، وهو بلا عتاد؛ لذلك شاء الحق تبارك وتعالى ألا يضيع منهم الطاقة اللازمة للمواجهة، ولا تتبدد هذه الطاقة في الفكر؛ لذلك جعل نعاسهم مخصوصاً يغلبهم وهو «نعاس أمنة» ، وجعل المولى عَزَّ وَجَلَّ من هذا النعاس آية، حيث جاءهم كلهم جميعا، وهذه بمفردها آية من آياته سبحانه وتعالى ولو غلبهم النوم العميق لمال عليهم الأعداء مَيْلًة واحدة، ولكنهم أخذوا شيئاً من الراحة التي فيها شيء من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4596 اليقظة. {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً} . وهنا النعاس مفعول به، وهو أمنة من الله، وسبحانه يقول في آية أخرى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} [آل عمران: 154] . هنا في آية الأنفال نعاس وأمنة، وهناك في آية آل عمران أمنة ونعاس؛ لأن الحالتين مختلفتان - فتوضح آية آل عمران أن التعاس قد غشى طائفة واحدة من المقاتلين في غزوة أحد بعد أن أصابهم الغم في هذه الغزوة، وهؤلاء هم المؤمنون الصادقون الملتفون حول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أما في سورة الأنفال فتبين الآية أن النعاس قد غشى الجيش كله حيث كان الجميع على قلب رجل واحد والإيمان يملأ قلوبهم جميعا ولا يوجد بينهم منافق أو مرتاب فغشيتهم جميعا هذه الأمنة بالنعاس؛ لأنه يزيل الخوف، ومن دلائل الأمن والطمأنينة والثقة بنصر الله. ويقول الحق تبارك وتعالى متابعاً في ذات الآية: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} [الأنفال: 11] . ومعنى التطهير أن هناك حادثاً يستحق التطهر منه وهم لم يجدوا ماءً ليتطهروا به حيث كان المشركون قد غلبوا المسلمين على الماء في أول الأمر، فظمئ المسلمون وانشغلوا بالعطش، وبالرغبة في تطهير أجسامهم، وهذا يدل على أن المؤمن يجب أن يظل نظيفاً، رغم الوجود في المعركة التي لو استمر فيها الواحد منهم يوماً أو اثنين دون استحمام، لما لامه أحد على ذلك، وجاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4597 هذا القول ليدل على حرص المؤمن على النظافة إن خرج شيء من الإفرازات والعرق، أو كان التطهر من رجز الشيطان؛ لأن الشيطان خيل لهم منامات جنسية، وأخذ يوسوس قائلا لهم: أنتم تقولون إنَّكم على حق، فكيف تصلون وأنتم جنب؟ وكان مجرد حدوث هذا الأمر لهم جميعاً هو آية أخرى من الآيات. فأغاظ الله الشيطان وأنزل عليهم الماء ليشربوا ويتطهروا. ويقول المولى سبحانه وتعالى في ذات الآية: {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام} وأراد الحق تبارك وتعالى أن يطمئن المؤمنين فلا تتوزع أو تتشتت مشاعرهم، وما أن نزل المطر حتى حفروا الحفر ليتجمع فيها الماء، وهكذا حماهم سبحانه وتعالى من نقص الماء، كما أن نزول المطر على الأرض الرملية نعمة كبرى - من جهة أخرى - حيث يثبت الرمال على الأرض فلا تثير غباراً، ونعلم أن الإنسان حين يسير على الأرض، فإن ثقلة يدك ما تحته مما يحتمل الدك على قدر وزنه، فالطفل الصغير حينما يمشي على الرمال، فأثر سيره يكون بسيطاً، عكس الرجل الضخم، وإن قستها بالنسبة لوزن الصبي أو الغلام، وبوزن الرجل الممتلئ، تجد أن الأرض قد غاصت بنسبة الكتلة التي سارت عليها، وحين يسير الناس دون عمل ولا يقصدون غير السير، يكون الثقل خفيفاً، أما حين يدخل الرجال الحرب فالأقدام قد تغوص في الرمال وقد يصير جزءٌ من جسد المقاتل معطلاً عن الحركة؛ لأن القدم هي التي تحقق التوازن. إن هذه من حكمة الله تعالى، ونحن نرى ذلك في حياتنا، فنجد أهل الريف يضعون فوق جداول الماء جزع نخلة أو «عرقاً» من الخشب ليسير عليه الإنسان بين الشطين، وإن فكّر السائر في هذه المسألة قد يقع في الماء، لكنه إن ترك رجليه للسير تلقائيا، فهو يمشي محققاً التوازن، ومثل الأمر يحدث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4598 في صناعة سلالم البيوت، إننا نجدها متساوية في ارتفاع درجاتها ليصعد الإنسان صعوداً رتيباً من غير تفكير، فإذا اختلت درجة واحدة في السلم بأن كا ارتفاعها مختلفا عن بقية الدرجات يختل التوازن ويقع الإنسان؛ لأن الساق ضبطت نفسها آليا على هذا الوضع. ولذلك نجد الصعود على السلالم الحلزونية متعباً لأن السلالم الحلزونية فيها جهة واسعة وأخرى ضيقة. وقد يرتبك الإنسان أثناء الصعود، ولهذه الأسباب نجد الجيوش تكشف طبيّاً على المجندين، ولا يختارون إلا الشخص المستوي القدمين لتستقبل أقدامه كل الظروف ويكون قادراً على مواجهة الظروف غير العادية، ومن عظمة الخالق سبحانه وتعالى أن جعل كل عضو من الأعضاء له مواصفات خاصة. وسبحانه يذيل هذه الآية بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام} وتثبيت الأقدام من جهة يمثل أمراً معنويّاً، ومن جهة أخرى يكون تثبيت الأقدام «بمعنى أن نزول المطر جعل الأرض ثابتة» ولا تثير الغبار أو الرمال، وسبحانه هو القائل في مناسبة أخرى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قاتل مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران: 146 - 147] . وهكذا نفهم أن تثبيت الأقدام له ألوان متعددة، حسيّة ومعنوية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4599 ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4600 والمولى سبحانه وتعالى هنا يبين أنه أوحى إلى الملائكة بالإلهام: أني معكم بالنصر والتأييد {فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ} . أي قوُّوا عزائم المؤمنين وثبتوا قلوبهم. أي اجعلوا قلوبهم كأنها مربوطة عليها فلا يخافون أية أغيار من عدوهم، ويزيد الإيضاح للمؤمنين: إياكم أن تظنوا أن كثرةَ العدَدِ أو قوةَ العُدَدِ هي التي تصنع النصر. بل النصرُ دائماً من عند الله تعالى وسبحانه القائل: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] . وذلك لأن النسبة بين المؤمنين والكافرين غير متوازنة وتحتاج إلى مدد عال من الله تعالى. وقلنا إن السماء تتدخل إذا كان الأمر فوق أسباب الخلق، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4600 وإن قال قائل: أنا أدعو الله أكثر من مرة ولا يجيبني. . نرد عليه ونقول له: أنت لم تدع دعوة المضطر، بل دعوت دعوة المترف، مثلما يدعو ساكن في شقة بأن يرزقه الله بقصرٍ صغير. أو يدعو من يسير على أقدامه وتحمله سيارة العمل طالباً سيارة خاصة، أو يدعو من يملك «تليفزيونا» بأن يهبه الله جهاز «فيديو» ، هذه كلها ليست دعوة اضطرار؛ لأن المضطر هو من فقد أسبابه. ويتابع الحق القول في ذات الآية: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] . وإذا ألقى الله عَزَّ وَجَلَّ الرعب والخوف في قلوب العدو مهما كان عَدَدُه ومهما كانت عُدَدُه، فسيترك هذا العدو كل ما معه ويفر من حالة الرعب والفزع، وقد فعل بعض من الكفار ذلك. وقد امتنَّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين بأن أمدهم بالملائكة بشرى واطمئناناً، وهيأ لهم الماء، وطهرهم، وأذهب عنهم رجز الشيطان، وكل هذه مقدمات المعركة مستوفاة من جانب الحق تبارك وتعالى إمداداً لكم، وما عليكم أيها المؤمنون سوى أن تُقبلوا على المعركة بعزيمة صادقة، عزيمة المقاتل الشجاع المحارب الذي له من العقل ما يفكر به ويدبر في التخطيط، وفي الكر والفر. وكانت أدوات القتال قديماً هي السيوف والرماح والنبال، وكان المقاتل يحتاج رأسه ليخطط به، ويحتاج يديه وأنامله ليمسك بها السيف، ولذلك ينبه الحق المؤمنين إلى هاتين النقطتين المؤثرتين فيقول: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4601 والضرب لما فوق الأعناق هو ضرب الرأس فيفقد القدرة على التفكير، أو تذهب حياته لينتهي، وإن بقي على قيد الحياة فسوف يشاهد مصارع زملائه وذلتهم. والضرب منهم في كل بنان. . أي ضربهم بالسيوف في أيديهم؛ لأن الضرب في الأيدي إنما يجرحها ويجعلها عاجزة عن القتال. لماذا؟ . يجيب الحق في الآية التالية: {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4602 وهنا يوضح الحق سبحانه وتعالى: أن هذا النصر المؤزر للنبي وصحبه والهزيمة للمشركين؛ لأنهم شاقوا الله ورسوله، و «شاقوا» من «الشق» ومعناه أنك تقسم الشيء الواحد إلى اثنين. وكان المفروض في الإنسان منهم أن يستقبل منهم الله الذي نظم له حركته في هذا الكون، ولم يكن هناك داع لتبديد الطاقة بالانشقاق إلى جماعتين؛ جماعة مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجماعة مع الكفر والشرك؛ لأن الطاقة التي كانت معدة لإصلاح أمر الإنسان والكون للخلافة؛ إنما يتبدد جزء منها في الحروب بين الحق والباطل، ولو توقفت الحروب لصارت الطاقة الإنسانية كلها موجهة للإصلاح والارتقاء والنهوض وتحقيق الخير لبني الإنسان، لكنهم شاقوا الله ورسوله، فجعلوا أنفسهم في جانب يواجه جانب المؤمنين بالله ورسوله، فجعلوا أنفسهم في جانب يواجه جانب يواجه جانب المؤمنين بالله والرسول؛ لذلك استحقوا عذاب الله وعقابه، وبسبب أنهم شاقوا الله ورسوله، عليهم أن يتحملوا العقاب الشديد من الله، فيقول سبحانه وتعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 13] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4602 وهذه قضية عامة، وسنة من الله في كونه تشمل هؤلاء الذين شاقوا الله ورسوله من بدء الرسالة، وإلى قيام الساعة. ويقول المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك: {ذلكم فَذُوقُوهُ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4603 وذلكم إشارة للأمر الذي حدث في موقعة بدر من ضرب المؤمنين للكافرين فوق الأعناق، وضرب كل بنان كافر، وإن ربنا شديد العقاب، وهذا الأمر كان يجب أن يذوقه الكافرون. والذوق هو الإحساس بالمطعوم شراباً كان أو طعاماً، إلا أنه تعدى كل محسّ به ولو لم يكن مطعوماً أو مشروبا ويقول ربنا عَزَّ وَجَلَّ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] . أي ذق الإهانة والمذلة لا مما يُطعم أو مما يُشرب، ولكن بالإحساس؛ لأن ذوق الطعام هو الحاسة الظاهرة في الإنسان؛ قد يجده بالذوق حريفاً، أو حلواً، أو خشناً أو ناعماً إلى غير ذلك. وها هو ذا الحق يضرب لنا المثل على تعميم شيء: فيقول عَزَّ وَجَلَّ: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] . والجوع سلب الطعام، فكيف تكون إذاقة الجوع؟ الجوع ليس مما يذاق، ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4603 اللباس مما يذاق، ومن قول الحق تبارك وتعالى نفهم أن الإذاقة هي الإحساس الشديد بالمطعوم، واللباس - كما نعلم - يعم البدن، فكأن الإذاقة تتعدى إلى كل البدن، فالأنامل تذوق، والرجل تذوق، والصدر يذوق، والرقبة تذوق؛ وكأن الجوع قد صار محيطاً بالإنسان كله. وهنا يقول المولى سبحانه وتعالى: {ذلكم فَذُوقُوهُ} . والذوق غير البلع والشبع، ونرى ذلك في عالمنا السِّلعي والتجاري؛ فساعة تشتري - على سبيل المثال - جوافة، أو بلحاً أو تيناً، يقول لك البائع: إنها فاكهة حلوة، ذق منها، ولا يقول لك كل منها واشبع، إنه يطلب منك أن تجرب طعم الفاكهة فقط ثم تشتري لتأكل بعد ذلك حسب رغبتك وطاقتك. وما نراه في الدنيا هو مجرد ذوق ينطبق عليه المثل الريفي «على لساني ولا تنساني» ، والعذاب الذي رآه الكفار على أيدي المؤمنين مجرد ذوق هيّن جدًا بالنسبة لما سوف يرونه في الآخرة من العقاب الشديد والعذاب الأليم، وسيأتي الشبع من العذاب في الآخرة، لماذا؟ {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 13] . وهذا اللون من إذاقة الذل والإهانة في الدنيا لهؤلاء الكفار المعاندين، مجرد نموذج بسيط لشدة عقاب الله على الكفر، وفي يوم القيامة يطبق عليهم القانون الواضح في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} إذن فالهزيمة لمعسكر الكفر والذلة هي مجرد نموذج ذوق هين لما سوف يحدث لهم يوم القيامة من العذاب الأليم والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4604 وعذاب الآخرة سيكون مهولاً، و «العذاب» هو إيلام الحس، إذا أحببت أن تديم ألمه، فأبق فيه آلة الإحساس بالألم، ولذلك تجد الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن سليمان والهدهد يقول: {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 20 - 21] . كأن الذبح ينهي العذاب، بدليل أنّ مقابل العذاب في هذا الموقف هو الذبح. وماذا عن عذاب النار؟ . إن النار المعروفة في حياتنا تحرق أي شيء تدخله فيها، لكنّ نار الآخرة تختلف اختلافا كبيرا لأن الحق هو القائل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} [النساء: 56] . ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4605 ونعلم أن نداء الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين بقوله: {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا} ، إما أن يكون بعدها أمر بمتعلق الإيمان ومطلوبه، وإما أن يكون بعدها الإيمان نفسه، ومثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4605 وبعضهم يقول: كيف ينادى مؤمنين ثم يقول لهم: «آمِنوا» ؟ ، وهؤلاء المستفهمون لمْ يلتفتوا إلى أن الحق حين يكلم المؤمنين يعلم أنهم مؤمنون بالفعل، ولكن الأغيار في الاختيار قد تدعوهم إلى أن يتراخى البعض منهم عن مطلوبات الإيمان. و «آمنوا» الثانية معناها: أنشئوا دائما إيماناً جديداً أي مستمراً يتصل بالإيمان الحاضر والإيمان المستقبل، ليدوم لكم الإيمان. فإذا كان ما بعد {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا} أمراً بمطلوب الإيمان، من حكم شرعي، أو عظة أخلاقية. يكون أمرها واقعاً، والمعنى: يا من آمنتم بي إلهاً قادراً حكيماً، ثقوا في كل ما آمركم به لأني لا آمركم بشيء فيه مصلحة لي؛ لأن صفات الكمال لي أزلية، فخلقي لكم لم ينشئ صفة كمال، فإن كلفتكم بشيء، فتكليفي لكم يعود عليكم بالنفع والمصلحة لكم، وضربنا المثل - ولله المثل الأعلى منزّه عن كل مثل - أنت تذهب إلى الطبيب بعد أن تتشاور مع أهلك وزملائك وتكون واثقاً بأن هذا هو الطبيب الذي ينفع في هذه الحالة التي تشكو منها، وساعة تذهب إليه يشخص لك المرض ويكتب لك الدواء، وسواء استخدمت الدواء أم لم تستخدمه فأنت حر وأثر ذلك يعود عليك وعود استعمالك الدواء لن يضر الطبيب شيئاً، بل أنت الذي تضر نفسك، كذلك منهج الله الذي جعله لصلاحية حركة الحياة. إن اتبعته وطبقته تنفع نفسك، وإن تركته فلم تطبقه فسوف تضر نفسك، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] . إذن فالاختيار لك والله سبحانه وتعالى قد خلقك، وخلق الكون الذي يخدمك من قبل أن توجد، وأنت طارىء على هذا الكون، طارىء على الشمس وعلى القمر، وعلى الأرض، وعلى الجبال، وعلى الماء وعلى أي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4606 شيء في هذا الوجود. والذي خلق ما سبقك لا بد أن تكون له صفات الكمال المطلق. فهو سبحانه وتعالى قد خلق كل شيء بالحكمة والنظام، وما دامت له سبحانه وتعالى صفات الكمال المطلق المستوعبة، فهو لا يطلب منك بالتكاليف أن تنشىء له صفات كمال جديدة، وهو غني عنك. فإذا اقتنعت بالإيمان فلمصلحتك أنت، ولم يكلفْك إلا بالأحكام التي تصلح من حالك. وحيثية كل حكم هو تصديره ب {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا} . إياك أن تبحث عن علة في الحكم؛ لأنك لو ذهبت إلى الحكم لعلته، لاشتركت مع غير المؤمنين، فالمؤمن - مثلا - حين سمع الأمر باجتناب الخمر، امتثل للحكم لأنه صادر من الله، من بعد ذلك عرف غير المؤمنين - بالتحليل العلمي - أن الخمر ضارة فامتنعوا عنها، فهل امتناعهم هو امتناع إيماني؟ لا. إذن فإن المؤمن يأخذ الأمر من الله عَزَّ وَجَلَّ لا لعلة الأمر بل لمجرد أنه قد صدر من الله؛ لذلك يمتثل للأمر وينفذه. . فالمسلم يمتثل لأوامر الله ويؤدي العمل الصالح دون بحث أو تساؤل عن علته، فحين يقال - على سبيل المثال - إن من فوائد الصيام أن يذوق الغني ألم الجوع، ويعطف على الفقير، حين أسمع من يقول ذلك أقول له: قولك صحيح لأن فيه لمسة من فهم، لكن ماذا عن صوم الفقير الذي ليس عنده ما يعطيه لغيره، ألا يصوم أيضاً؟ . إن المؤمن يصوم لأن الأمر جاء من الله بالصيام. ومعظم أحكام الله تأتي مسبوقة بقوله: {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا} ، أي: يا من آمنتم بي إلهاً أقبلوا عليّ، فإنكم إن بحثتم عن العلة، ثم نفذتم الحكم لعلته فأنتم غير مؤمنين بالإله الآمر والمشرع، لكنكم مؤمنون بعلة المأمور به، والله يريدك أن ترضخ له فقط، ولذلك يأمرك بأوامر وينهاك بنواهٍ، فأنت - مثلا - حين تحج بيت الله الحرام، تسلم على الحجر الأسود بأمر من الله، وقد تتيح لك الظروف أن تقبِّل هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4607 الحجر كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنت في كل ذلك لا ترضخ للحجر. بل للآمر الأعلى الذي بعث محمداً بحرب على الأصنام وعلى الأحجار، وأنت تتبع رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمنتهى التسليم والإيمان، وتذهب بعد ذلك لترجم الأحجار التي هي رمز إبليس. وتفعل ذلك تسليماً لأوامر الله تعالى التي بلغتك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} [الأنفال: 15] . فما دمت قد آمنت بالإله، لا بد أن تدافع عن منهج الإله؛ لأن هذا أيضاً لمصلحتك؛ لأنك بإيمانك بالله أيها المؤمن ينتفع المجتمع كله بخيرك، ولن يأمرك سبحانه إلا بالخير، فلن تسرق، ولن تزني، ولن تشرب خمراً، ولن تعربد في الناس، ولن ترتشي، وبكل ذلك السلوك ينتفع المجتمع؛ لأن المجتمع يضار حين يوجد به فريق غير مهتدٍ. وأنت حين تقاتل لتفرض الكلمة الإيمانية هلى هؤلاء، فهذا يعود إلى مصلحتك، ولذلك فإن اتصافك بالإيمان لا يتحقق إلا إن عديته لغيرك، ومن حبك لنفسك، أن تعدى الإيمان بالقيم التي عندك إلى غيرك لتنتفع أنت بسلوك من يؤمن، وينتفع غيرك بسلوكك معه، ومن مصلحتك أن يؤمن الجميع. وحين يكلفك الحق تبارك وتعالى بالجهاد في سبيل الله فأنت تفعل ذلك لصالحك. {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً} [الأنفال: 15] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4608 وزحفاً مصدر زَحَف، والزحْف في الأصل هو الانتقال من مكان إلى مكان آخر بالنصف الأعلى من الجسم. وتقول: «الولد زحف» أي تحرك من مكانه بنقل يديه وشد بذلك بقية جسمه. كما نقول: «حبا» . أي استعمل الوركين والركبتين ليتحرك بجسده على الأرض، ثم نقول: «مشى» أي وقف على قدميه وسار، فتلك إذن مراحل تبدأ من زَحْف ثم حَبْو ثم مَشْى، والطفل يبدأ حركته الأولى بالزحف، بعد أن يتمكن من السيطرة على رأسه، ويمتلك القدرة على تحريكها بإرادته، ويقوى نصفه الأعلى، فيقعد، ثم يزحف، وبعد ذلك تقوى فخذاه فيحبو، ومن بعد ذلك تقوى الساقان فيمشي. إذن قوة الطفل تبدأ من أعلى. ولكن ما حكاية «زحفا» هنا في هذه الآية الكريمة؟ ولماذا لم يقل هًرْولوا إلى القتال؟ . ونقول: إن الزحف هو انتقال كتلته لا ترى الناقل فيها، فمن يراها يظن أن الكتلة كلها تتحرك. وكأن الحق تعالى يقصد: أريد منكم أن تتحركوا إلى الحرب كتلة واحدة متلاصقين تماماً فيظهر الأمر وكأنكم تزحفون. وزحفاً أصلها زاحفين، وقد عدل سبحانه وتعالى عن اسم الفاعل وجاء بالمصدر، مثلما نقول عن إنسان عادل: إنه إنسان عدل، أي أن عدله مجسم. ولذلك نجد الشاعر يقول عن الجيش الزاحف: خميس بِشَرْقِ الأرضِ والغربِ زحفُه ... وفي أذنِ الجوزاءِ منه زمازم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4609 والخميس هو الجيش الجرار، ويريد الشاعر أن يصوّر الزحف كأنه كتلة واحدة متماسكة ومترابطة، بحيث لا تستطيع أن تميز حركة جندي من حركة جندي آخر، حتى ليخيّل إليك أن الكتلة كلها تسير معاً. ومن يريد أن يتأكد من ذلك ندعو الله أن يكتب له الحج ويصعد إلى الدور الثاني من الحرم المكي الشريف ويرى الطائفين، ويجدهم ملتحمين جميعاً كأنهم كتلة واحدة تسير، ولذلك سمّوها «السيل» . و «سالت بأعناق المطي الأباطح» مَثلُهم مثل السيل في تدفقه لا تفرق فيه نقطة عن أخرى. والحق تبارك وتعالى يوضح لنا هنا أن لقاء الكفار يجب أن يكون زحفاً أي كتلة واحدة متماسكة، فيصيب المشهد الكافرين بالرعب حين يرون هذه الكتلة الضخمة التي لا يفرق أحد بين أعضائها، وهكذا تكون المواجهة الحقيقية. ويواصل الحق سبحانه وتعالى التنبيه فيقول: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} [الأنفال: 15] . أي لا تعطوهم ظهوركم، وهو سبحانه وتعالى في آية أخرى يقول: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21] . ويريد الله أن يعطي صورة بشعة في أذن القوم؛ لأن «الأدبار» جمع «دبر» والدبر مفهوم أنه الخلف ويقابله القُبُل، وهذا تحذير لك من أن تمكن عدوك من ظهرك أي دبرك، لأن هذا أمر مستهجن، ولذلك نجد الإمام عليا - كرّم الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4610 وجهه - يرد على من قالوا له إن درعك له صدار وليس له ظِهار، أي مغطى من الصدر، وليس له ظهر. وهنا يقول الإمام على رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «ثكلتني أمي إن مكّنت عدوي من ظهري» ، وكأن شهامة وشجاعة الإمام تحمله على أنه يترك ظهره من غير وقاية. وفي قول الحق جل وعلا {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} تحذير من الفرار من مواجهة العدو. ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4611 ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة لم يرتب الغضب منه إلا على من يولي الدبر هَرباً وفراراً من لقاء الأعداء. أما الذي يولي الدبر احتيالاً ولإيهام العدو بأنه ينسحب وفي ذات اللحظة يعاود الكرّة على العدو مطوّقاً له، فهذا هو المقاتل الحق والصادق في إيمانه الذي يمكر بالعدو. وكذلك من يولي الدبر متحيزاً إلى فئة مؤمنة ليعاود معها الهجوم على الأعداء حتى لا تضيع منه حياته بلا ثمن، فهذا أيضاً من أعمل فكرة ليُنزل بالعدو الخسارة؛ لأن المؤمن يحرص دائما على أن يكون موته بمقابل، فإذا ما وعده الله بالجنة. ألا يقاتل هو ليصيب الأعداء بالهزيمة؟ . وكان ثمن المؤمن من قبل عشرة كافرين، بمعنى أن الله تعالى منح كل مؤمن قوةً تغلب عشرة، مصداقاً لقوله عَزَّ وَجَلَّ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4611 {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] ولكن علم الله أن بالمؤمنين ضعفاً فجعل مقابل المؤمن في المعركة اثنين من الكفار، مصداقاً لقوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66] ولذلك فإننا نجد الذي يفر أمام ثلاثة من الأعداء لا يسمى فارًا في الحكم الشرعي. لكن من يفر من مواجهة اثنين، يعد فارّاً؛ لأن الحق تعالى قال قبل أن يوجد فينا الضعف: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 65] أي أن المقاتل المؤمن كان يمكنه أن يواجه عشرة من الكافرين. فإن كان المقابل أقل من عشرة كافرين، فعلى المؤمن أن يحافظ على نفسه حتى لا يموت رخيص الثمن. ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى أن الضعف سيصيب المؤمنين؛ لذلك قال: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4612 وهكذا انتقلت النسبة بين المؤمنين والكافرين من واحد لعشرة، إلى مؤمن مقابل اثنين من الكفار، وهذا من رحمة الله تعالى، فمن رأى نفسه في مواجهة أكثر من اثنين من الأعداء يوضح له الحق تعالى: عليك أن تنحاز إلى فئة من المؤمنين تعصمك من نيلهم منك بلا ثمن. {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] . وعرفنا أن المتحرف للقتال هو صاحب الحيلة، ونقول في ألفاظنا التي تجري على ألسنتنا في حياتنا اليومية: «فلان حريف» أي لا يغلبه أمر ويحتال عليه، وهكذا يكون المتحرف في القتال الذي يكيد للكافرين ويدبر لهم أشياء فيظنون الانهزام، وهي في الواقع مقدمات للنصر، وقوله سبحانه: «أو متحيزا» مأخوذ من «الحيز» ، وهو المكان الذي يشغله الجسم، وكل واحد منا له «حيز» في مكان يشغله، أي أن كل واحد منا متحز، والحيز هو الظرف المكاني الذي يسع الإنسان منا واسمه ظرف مكان، وكل واحد من المخاطبين له مكان وهو متحيز بطبيعته، وجاءت كلمة «متحيز» في هذه الآية لتوجه كل مؤمن مقاتل أن يأخذ لنفسه حيزاً جيداً يمكنه من إصابة الهدف، وكذلك تفيد ضرورة انضمام المقاتل دائما إلى فئة مع إخوانه بهدف تقوية المواجهة مع العدو. ومن لا يفعل ذلك فعليه أن يتلقى العقاب من الله، وقد بينه تعالى في قوله سبحانه: {فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [الأنفال: 16] . و «باء» تعني رجع، والتعبير الأدائي في القرآن الكريم مناسب لما فعلوه؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4613 لأن من يعطي الأعداء دبره فهو الراجع عن الزحف والقتال. لكن من يرجع بهدف الكيد للأعداء والمناورة في القتال أو لتقوية جماعة أخرى من المؤمنين، فهذا له وضع مختلف تماما، إنه ناصر لدين الله، عكس المنسحب الفار الذي يصحبه في انسحابه غضب من الله، والغضب من الله - كما نعلم - هو سبب من أسباب إنزال العذاب، ولهذا يقول الحق تبارك وتعالى: {فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} [الأنفال: 16] . والمأوى هو المكان الذي يأوي إليه الإنسان، ونعلم أن الواحد منا حين يرغب في الراحة فهو يأوي إلى المكان الذي يجد فيه الراحة والأمن من كل سوء. والفارُّ من مواجهة العدو في معارك الإسلام لن يجد مأوى إلا النار، بل وترحب به النار ويدور حوار بينها وبين الحق عَزَّ وَجَلَّ يوم القيامة توضحه الآية الكريمة: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] . ويُثْبتُ الحق في قرآنه الكريم أن النار تغتاظُ من الكافرين لأنها جندٌ من جنود الله تعالى ومسخرة لتنفيذ حكم الله، فمن خالف المنهج في الدنيا تتلقاه النار بتغيظ وزفير، ويسمع الكافرون تغطيتها حين تراهم من بعد، والحق سبحانه هو القائل: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4614 وحين تكون النار هي المأوى، أليس ذلك هو بئس المرجع؟ . كأن الراجع من الزحف والفارَّ من مواجهة الأعداء ومخافة أن يُقتل، سيذهب إلى شيء شر من القتل. ثم يربب الحق في المؤمنين ويطلب منهم ألاّ يفتتنوا بالأسباب فيقول سبحانه: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4615 وقول الحق تبارك تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] . مثل قوله تعالى في آية أخرى: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 126] . وفي هذا ترتيب من الحق تبارك وتعالى للمؤمنين، فكما أن النصر من عند الله عَزَّ وَجَلَّ لمن أخذ بالأسباب، كذلك قتل الكافرين كان بإرادته سبحانه لمن كفر ووقع هذا القتل بيد المؤمن، فالمؤمن يضرب بالسيف، وينجرح العدو وينزف، لكن ألم تر جريحاً لم يمت، وألم تر غير مجروح يموت؟ . إذن فالقتل هو من الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4615 سبحان ربي إن أراد فلا مرد له يفوت ... كم من جريح لا يموت وغير مجروح يموت إذن فالمؤمنون حين حاربوا أهل الكفر. إنما يجرحونهم فقط، أما الموت فهو واقع بهم من الله سبحانه وتعالى. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] . ولقائل أن يقول: إن الحق تبارك وتعالى قال في موقع آخر: {قاتلوهم يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] . إذن فللمؤمن المقاتل مظهرية القتال، وللحق حقيقة القتل. ولذلك يأتي سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] . وفي هذا القول الكريم عطاء لشيء كان مجهولا لهم بشيء عُلِم لهم، وبذلك قاس غير معلوم بمعلوم. وعرفنا من قبل أنك إذا رأيت حدثاَ أو فعلاً منفياً ومثبتا له في وقت واحد، قد يبدو لك أن في الكلام تناقضاً. وهنا - على سبيل المثال - ينفي الحق الحدث في قوله: «وما رميت» وثبته في قوله: «إذ رميت» . والرمي معروف. والفاعل هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكيف ينفي عنه الفعل أولاً، ويثبته له ثانياً؟ . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4616 ونعلم أن القائل هو رب حكيم، وأسلوبه على أعلى ما يكون. وحتى نفهم هذه المسألة، نحن نعرف أن كل حدث له هيئة يقع عليها وله غاية ينتهي إليها، فمرة يوجد الحدث، لكن الغاية منه لا تتحقق، مثلما يقول الوالد لولده: لقد قرب الامتحان فاجلس في حجرتك وذاكر. ويجلس الولد في حجرته وأمامه كتاب ما يقلب صفحاته، وبعد ساعة يدخل الأب حجرة ابنه ليقول: هات كتابك لأسألك فيما ذاكرته. ويسأل الأب ابنه سؤالاً ثم ثانياً فلا يعرف الابن الإجابة عن الأسئلة، فيقول الأب: ذاكرت وما ذاكرت. أي كأنه لم يذاكر، بل فعل الفعل شكليّاً، بأن جلس إلى المذاكرة، ولم يؤد ما عليه لأن أثر الفعل وهو المذاكرة لم يتحقق. وفي غزوة بدر استنجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بربه واستغاث ودعا الله ورفع يديه فقال: « (يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً، فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم) فأخذ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلاّ أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين» ومعلوم أنه ساعة تأتي ذرة تراب في عيني الإنسان يشتغل بعينيه عن كل شيء. إذن فقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] . أي أنك يا رسول الله ما أرسلت بالرمية الواحدة - حفنة التراب - إلى عيون كل الأعداء؛ لأن هذه مسألة لا يقدر عليها أحد، ولكنك «إذ رميت» أي أديت نصيحة جبريل لك، أما الإيصال إلى عيون العدو فهذا من فعل الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4617 القويّ القادر. ويتابع سبحانه وتعالى قوله: {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17] . والبلاء الحسن هنا هو خوض المعركة وحسن أداء القتال فيها. ويخطىء الإنسان حين يظن أن البلاء هو نزول المصائب، لا، إن البلاء هو الاختبار بأية صورة من الصور. فالطالب الذي استذكر دروسه يكون الامتحان بالنسبة له بلاءً حسناً، ومن لم يستذكر يكون الامتحان بالنسبة له يلاءً سيئاً. إذن فالابتلاء غير مذموم على إطلاقه، ولا ممدوح على إطلاقه، لكن بنتيجة الإنسان فيه هل ينجح أم لا. وحتى نعرف أن القرآن يفسر بعضه بعضا فلنقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] . فالخير بلاء، كما أن الشر بلاء، وحين تستخدم الخير في خدمة منهج الله تعالى ولا تطغى به، وحين تصبر على الشر ولا تتمرد على قدر الله، فهذا كله اختبار من الله عَزَّ وَجَلَّ، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15] . وهذا هو الابتلاء بالخير، أما الابتلاء بالشر فيقول عنه الحق سبحانه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4618 {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أهانن} [الفجر: 16] . والابتلاء بالخير أو بالشر هو مجرد اختبار، والاختبار كما وضحنا غير مذموم على إطلاقه، ولا ممدوح على إطلاقه، ولكنه يذم ويمدح بالنسبة لغايته التي وصل إليها المبتلي أو من يمر بالاختبار، فإن نجح، فهذا ابتلاء حسن، وإن فشل، فهو ابتلاء سيىء. ونلحظ - على سبيل المثال - أن الطالب الذي ركز فكره ووقته وحبس نفسه وبذل كل طاقته في التحصيل والاستذكار طوال العام الدراسي، هذا الطالب حين يدخل الامتحان. فهو يحاول أن يثأر من التعب الذي عاناه في التحصيل والإحاطة؛ لذلك يجيب على الأسئلة بدقة، وكلما انتهى من إجابة سؤال إجابة صحيحة، يشعر ببعض الراحة، وإن حاول زميل له أن يشوش عليه فهو يصده ولا يلتفت إليه، بل قد يستدعي له المراقب. والمؤمن الذي يشترك مع المؤمنين في البلاء الحسن فهو التلميذ الذي يؤدي ما عليه بإخلاص. والذي يسمع همسة كل مؤمن ويرى فعله هو الحق سبحانه وتعالى، ولذلك جاء بعد الحديث عن البلاء الحسن بقوله تعالى: {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17] . إذن فالله سبحانه وتعالى سميع بما تجهرون به وعليم بما تخفونه في صدوركم. وهو جل وعلا يعلم من حارب بقوة الإيمان، ومن خالطته الرغبة في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4619 أن يرى الآخرون مهارته في القتال ليشيدوا ويتحدثوا بهذه المهارة. ولا أحد بقادر على أن يدلس على الله عَزَّ وَجَلَّ. ويقول سبحانه وتعالى من بعد ذلك: {ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4620 و «ذلكم» إشارة إلى أن الأمر كان كذلك، وسبحانه وتعالى هنا يخبرنا أنه موهن كيد الكافرين، أي يضعف هذا الكيد، ولسائل أن يقول: لماذا لا ينهاهم؟ ولماذا يضعف الكفر فقط؟ ونقول: إن إضعاف الكفر يُهَيّج على الإيمان ويحبب المؤمنين في الإيمان حين يرون آثار الكفر التي تفسد في الأرض وهي تضعف، ولأن الحمية الإيمانية تزيد حين يهاج الإسلام من خصومه. إذن فبقاء الكفر لون من استبقاء الإيمان. ويقول سبحانه بعد ذلك: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4620 و «تستفتحوا» من الاستفتاح وهو طلب الفتح؛ لأن الألف والسين والتاء تأتي بمعنى الطلب، فنقول: استفهم أي طلب الفهم، و «إن تستفتحوا» ، أي تطلبوا الفتح، ونعلم أن المعنويات مأخوذة كلها من الأمر الحسيّ؛ لأن أول إلف للإنسان في المعلومات جاء من الأمور الحسّية؛ ثم تتكون للإنسان المعلومات العقلية. ومثال ذلك قولنا: «إن النار محرقة» ، وعرفنا هذا القول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4620 من تجربة حسّية مرت بأكثر من إنسان ثم صارت قضية عقلية يعرفها الإنسان وإن لم ير ناراً وإن لم ير إحراقاً. وعندما تجتمع المحسات تتكون عند الإنسان خمائر معنوية وقضايا كلية يدير بها شئونه العامة، ومثال ذلك: إننا نعرف جميعاً أن المجتهد ينجح، وأخذنا هذه الحقيقة من الواقع، تماماً كما أخذنا الحقيقة القائلة: إن المقصر والمهمل كل منهما يرسب. وسبحانه وتعالى ينبهنا إلى هذه فيقول: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل: 78] . أي أن الإنسان منا مخلوق وهو خالي الذهن، وخلو الذهن يطلب الامتلاء، وكل معلومة يتلقاها الذهن الصغير يستطيع أن يستظهرها فوراً، ولذلك نجد التلمذ الصغير أقدر على حفظ القرآن الكريم من الشاب الكبير؛ لأن هذا الشاب الكبير قد يزدحم ذهنه بالمعلوم العقلي. وقد شرح لنا علماء النفس هذه المسألة حين قالوا: إن لكل شعور بؤرة هي مركز الشعور. والأمر الذي تفكر فيه تجد المعلومات الخاصة به في ذهنك فوراً. وقد تتزحزح هذه المعلومات من ذاكرتك إذا فكرت في موضوع آخر، كما تتزحزح المعلومات الخاصة بالموضوع السابق إلى حافة الشعور لتحل مكانها المعلومات الخاصة بالموضوع الجديد في بؤرة الشعور. والحيز في المعنويات مثله مثل الحيز في الحسِّيات، فأنت حين تملأ زجاجة بالمياه لا بد أن تكون فوهة الزجاجة متسعة لتدخل فيها المياه ويخرج الهواء الذي بداخل الزجاجة. لكن إن كانت فوهة الزجاجة ضيقة كفوهة زجاجة العطر مثلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4621 فهذه يصعب ملؤها بالمياه إلا بواسطة أداة لها سن رفيع كالسرنجة الطيبة حتى يمكن إدخال المياه وطرد الهواء الموجود بداخل الزجاجة ذات الفوهة الضيقة. وهكذا نرى أن الحيز في الأمور المحسة لا يسع كميتين مختلفتي النوعية، ويكون حجم كل منهما مساوياً لحجم الحيز. وتقترب المسألة في المخ من هذا الأمر أيضاً، فأنت لا تتذكر المعلومات الخاصة بموضوع معين إلا إذا كان الموضوع في مركز الشعور، فإذا ما ابتعد الموضوع عن تفكيرك بعدت المعلومات الخاصة به إلى حاشية الشعور البعيدة. والطفل الصغير يكون خالي الذهن لذلك يستقبل المعلومات بسرعة ويكون مستحضرا لها. ولذلك لا يجب أن نتهم إنساناً بالغباء وآخر بالذكاء لمجرد قدرة واحد على سرعة التَّذكر وعجز الآخر عن مجاراة زميله في ذلك، فالذكاء له مقاييس متعددة ما زال العلماء إلى الآن يختلفون حولها. لكن في موضوع التذكر اتفق جانب كبير من العلماء على أن الذهن كآلة التصوير يأخذ المعلومة من أول لقطة شريطة أن تكون بؤرة الشعور خالية لهذه المعلومة. أما إن كانت بؤرة الشعور مشغولة بأمر آخر فهي لا تلتقط المعلومة. والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . والسمع والأبصار هما عمدة الحواس، نأخذ بهما محسّات ونُكَوّنُ منها معلومات عقلية. والحق تبارك وتعالى هنا يقول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4622 {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} [الأنفال: 19] . والفتح يُطلق إطلاقات متعددة، منها الحسّي، مثل فتح الباب أو فتح الكيس ويقصد إزالة إغلاق شيء يصون شيئاً، مثل فتح الباب، والباب إنما يصون ما بداخل الغرفة. والفتح الحسّي يمثله القرآن الكريم بقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} [يوسف: 65] . أي إن إخوة يوسف حين فتحوا الأخراج - وكانت هي بديلة الحقائب - وجدوا البضاعة التي كانوا قد أخذوها معهم ليستبدلوا بها سلعاً أخرى. وهذا هو الفتح الحسّي. وقد يكون الفتح في الأمور المعنوية كالفتح في الخير وفي العلم مثل قول الحق تبارك وتعالى: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] . إذن ففتح الرحمة فتح معنوي. وقد يكون الفتح في الحكم؛ لأن الحكم يكون بين أطراف مشتبكة في قضية، وكل طرف يدّعي على الآخر، ويأتي الحكم ليزيل خفاء القضية ويَفْتَحها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4623 ومثال ذلك ما حدث بين سيدنا نوح عليه السلام وقومه. فقومه قالوا: {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} [الشعراء: 116] . فماذا قال سيدنا نوح عليه السلام؟ : {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين} [الشعراء: 117 - 118] . أي أن سيدنا نوحاً عليه السلام قد دعا الله أن يفصل في القضية التي بينه وبين قومه بالحق وهو يعلم أن الله تعالى معه. لذلك طلب منه النجاة لنفسه ولمن معه من المؤمنين. وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد أن الفتح يأتي بمعنى الحكم الذي يفصل بين المتنازعين، وهو صلب حكم يفصل بين فريقين، فريق الهدى والداعي إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتباعه من المؤمنين، وفريق الضلال وهم كفار قريش. وقد استفتح الفريقان، فقد قال أبو جهل حين التقى القوم: «اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة» . لقد ظن أبو جهل أن سيدنا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقطع رحمهم، ويجعل الولد يترك أباه وأمه، وأيضاً كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4624 بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: «اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين وخير القبيلتين» هكذا كان دعاء الكفار. أما دعاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو قوله: «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً» . والاستفتاح من الطرفين يدل على أن كلا منهما مجهد بأمر الآخر، فلو كان أحدهما مرتاحاً والآخر متعباً لطلب المتعب الفتح وحده. وجاء الحكم من الله سبحانه وتعالى في القضية هذه، حيث حكم تبارك وتعالى على الكافرين بأن يُسلبوا ويقتلوا ويصبحوا مثار السخرية من أنفسهم وممن يرونهم وقد استحقوا ذلك بسبب كفرهم وضلالهم وعنادهم ومحاربتهم للحق، والذي رجح أن الفتح جاء أيضاً من المؤمنين أن الحق قال: {فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} [الأنفال: 19] . أي إن كنتم قد استفتحتم وطلبتم الفصل والحكم فقد جاءكم الفتح، وهذا الفتح كان في صالح المؤمنين، وأيضاً في صالح دعاء الكافرين، إنه جاء في الأمرين الاثنين؛ فتح للمؤمنين، وفي صالح دعاء الكفار. فأنتم - أيها الكافرون - قد دعوتم، فإما أن تكونوا قد دعوتم والله أجاب دعاءكم وهو شر عليكم، وهذا دليل على أنكم أغبياء في الدعاء، وما دام الفتح قد جاء، كان الواجب أن ينتهي كل فريق عند الحد الذي وقع، وكان على الكافرين أن يقتنعوا بأنهم انهزموا، وعلى المؤمنين أن يقتنعوا بأنهم انتصروا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4625 {وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 19] . و «تنتهوا» هذه صالحة أولاً بظاهرها للكفار، أي إن تنتهوا عن معاداة الرسول وخصومته، واللجج في أنكم جعلتموه عدوا، وتتكتلون وتتآمرون عليه، فإن تنتهوا فهذا خير لكم في دنياكم لأنكم قد رأيتم النتيجة. حيث قتل البعض من صناديدكم، وأسر البعض الآخر، وأخذت منكم الأسلاب والغنائم. فإن انتهيتم عن العمل الذي سبب هذا فهو خير لكم في دنياكم، وخير لكم أيضاً في أخراكم؛ إذا كان الانتهاء سيئول بكم إلى أن تنتهوا عن مخاصمة الدين الذي تخاصمونه وتصبحوا من المنتمين إليه. ويتابع سبحانه وتعالى قوله: {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ} [الأنفال: 19] . وإن لم تنتهوا وعدتم إلى العداء ومحاربة هذا الدين فسنعود لنصرة المؤمنين، وإياكم أن تقولوا إنكم فئة كثيرة؛ ففئتكم لن تغني من الله عنكم شيئاً، والدليل على ذلك أنكم هزمتم في بدر وأنتم كثرة، وأصحاب عدد، وأصحاب عدة. فما أغنت عنكم كثرتكم ولا عدتكم شيئا. {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} [الأنفال: 19] . وكان المؤمنون قلة ورغم ذلك كانوا هم الغالبين. وما تقدم إنما يعني الكلام بالنسبة للكفار، فماذا إذا كان الكلام والاستفتاح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4626 بالنسبة للمؤمنين، ففي أي شيء ينتهون؟ . إن عليهم أن ينتهوا عن اللجاج والخلاف في الغنائم، الذي جاء فيه قول الحق تبارك وتعالى: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} [الأنفال: 1] . وهم قد اضطروا أن يسأل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربه، فإن عادوا للنزاع والجدل فيما بينهم وكأنهم فريقان متعارضان غير مجموعين على إيمان، فلن تغني فئة عن أخرى شيئا، وعليكم أن تعلموا يا أهل الإيمان أنه إن عزت طائفة منكم، فلتهن أمامها الطائفة الأخرى، ولا تظنوا أنكم بالنصر قد صرتم كثيراً لأن النصر لم يكن لا بالفئة ولا بالملائكة، ولكن النصر كان من عند الله العزيز الحكيم. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4627 وهذا نداء واضح من الله عَزَّ وَجَلَّ للمؤمنين، وأمر محدد منه بطاعة الله والرسول؛ لأن الإيمان هو الاعتقاد الجازم القلبي بالله وبملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وعلى المؤمنين أن يؤدوا مطلوب الإيمان. ومطلوب الإيمان - أيها المؤمنون - أن تنفذوا التكاليف التي يأتي بها المنهج من الله عَزَّ وَجَلَّ، ومن المبلغ عنه سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، في الأوامر وفي النواهي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4627 وقد فصلنا من قبل مسألة الطاعة، الطاعة لله تكون في الأمر الإجمالي، وطاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تكون في اتباع الحكم التفصيلي التطبيقي الذي يأتي به رسول الله للأمر الإجمالي. وكذلك تكون طاعة الرسول واجبة في أي أمر أو حكم؛ لأن الله قد فوض رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذلك: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] . ويتمثل التفويض من الحق سبحانه وتعالى إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الملحظ الجميل في الأداء القرآني: {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20] . والتولي - كما نعلم - هو الإعراض، والأمر هنا بعدم الإعراض، وما دمتم قد آمنتم فلا إعراض عما تؤمنون به. والملحظ الجميل أنه سبحانه لم يقل: ولا تولوا عنهما. قياساً بالأسلوب البشري. لكنه قال: {وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي أنه سبحانه وتعالى قد وحد الكلام في أمرين اثنين؛ طاعة الله وطاعة الرسول، ولأن الرسول مبلغ عن الله فلا تقسيم بين الطاعتين؛ لأن طاعة الرسول هي طاعة لله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4628 أو نقول: إن التولي لا يكون أبداً بالنسبة إلى الله، فلا أحد بقادر على أن يتولى عن الله؛ لأن الله لاحقه ومدركه في أي وقت. لذلك نجد الحق تبارك وتعالى يقول في آية ثانية: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] . وهو سبحانه وتعالى في هذا القول يوحد بين رضاء الله والرسول فيجعله رضاءً واحداً، فالواحد من هؤلاء يقسم أنه لم يفعل الفعل المخالف للإيمان إرضاءً للمؤمنين، وليبرىء نفسه عند البشر، لكن هناك رضاء أعلى هو رضاء مراعاة تطبيق المنهج الذي أنزله الله عَزَّ وَجَلَّ وجاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهناك قيوم أعلى يرقب كل سلوك، ويعلم ما ظهر وما بطن. فلو كنا متروكين لبعضنا البعض لكان لأي إنسان أن يواجه الآخر، كل بقوته، لكن نحن في الإيمان نعلم أننا تحت رقابة المقتدر القيوم، فمن ظلم أخاه؛ وغفر المظلوم لظالمه، فالله سبحانه وتعالى رب الظالم ورب المظلوم - لا يغفر للظالم بل يؤاخذه. وسبحانه وحد أيضاً في هذه الآية بين رضاء الله ورضاء الرسول ولم يقل: والله ورسوله أحق أن يرضوهما بظاهر الأسلوب في لغة البشر، لكنه شاء أن يوحد الرضاء؛ لأنه يدور حول أمر واحد بطاعة واحدة، وحول نهي واحد بانتهاء واحد. {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4629 وهذا الأمر بطاعة الله تعالى والرسول بلاغ من الله، والبلاغ أول وسيلة له الأُذن، لأن الأُذن أول وسيلة للإدراكات، ولذلك فإنّ الرسول يبلغ الأوامر بالقول للناس، ولم يبلغهم بالكتابة؛ لأن كل الناس لا تقرأ، فأبلغ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الناس قولاً كما أمر أن يكتب القرآن ليظل محفوظا. ونعلم أن السماع هو الأصل في القراءة. وأنت لا تقرأ مكتوباً، ولا تكتب مسموعاً إلا إذا عرفت القواعد، وعرفت كيفية نطق الحروف. والمعلم يعلم طالب المعرفة القراءة والكتابة عن طريق السماع أولاً، إذن فالسماع مقدم في كل شيء، ولن يستطيع واحد أن يقول في عصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لم تبلغني الدعوة؛ لأن الدعوة أبلغت للناس بالسماع، وقوله: {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} تعطينا أن الإنسان إن لم تبلغه الدعوة، فليس مناطاً للتكليف، لأن ربنا سبحانه وتعالى هو القائل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] . والمجتمعات التي تعيش في غفلة وليس عندهم رسول ولم يبلغهم المنهج، لن يعذبهم الله، وهذا أمر وارد الآن في البلاد النائية البعيدة عن الالتقاء بالإسلام وبمنهج الإسلام، وبالسماع عن الإسلام؛ لأنهم ما سمعوا شيئاً عن الدين ولم يعرفوا منهجه. وهؤلاء ناجون من العذاب طبقاً لقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] . فثمرة بعث الرسول أن يبلغ الناس، ولذلك أخذنا حكما هاماً من الأحكام من قوله الحق تبارك وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4630 {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20] . أخذنا من هذا القول أن من لم يبلغهم المنهج لا يحاسبون. ولكن أيكفي السماع في أن نعلم المنهج. لا، لا يكفي في السماع أن نعلم أن هناك رسولاً جاء ليعقب على رسول سبق، ولكن عليك أن تبحث أنت. فإن كان في الأرض من لم يبلغه هذا فهو ناجٍ، وإن كان قد بلغه خبر رسول ولم يبلغه المنهج الكامل فعليه أن يبحث بنفسه، بدليل أن الإنسان يبحث عن أهون الأشياء بمجرد أن يسمع عنها، ويشغل نفسه بالبحث. ولنفرض أن إنساناً قال في قرية: إن الدولة ستغير بطاقة التموين، ألا يتجه كل فرد في القرية ليسأل عن هذا الأمر ويهتم به كل الاهتمام؟ . إذن كان يكفي في وصول البلاغ أن يسمع الإنسان رسولاً في العرب قد جاء للناس كافة برسالة عامة، وأن هذه الرسالة تعقب الرسالات السابقة، ومن سمع هذا السماع كان عليه أن يعامل هذا الخبر معاملة المصالح الدنيوية الأساسية لأنه اذا كان أمر الدنيا هاماً فما بالنا بأمر صلاح الدنيا والآخرة؟ . وجزء من التبعة في ذلك يقع على المسلمين الذين لم يجدُّوا ويبلغوا منهج الله ودين الله إلى غيرهم. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4631 ففي هذه الآية الكريمة ينهانا الحق جل وعلا أن نكون مثل من قالوا: « الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4631 سمعنا» وحكم الله بأنهم لا يسمعون، وهؤلاء هم من أخذوا السمع بقانون الأحداث الجارية على ظواهر الحركة فسمعوا ولم يلتفتوا؛ لأن المراد بالسماع ليس أن تسمع فقط، بل أن تؤدي مطلوب ما سمعت، فإن لم تؤد مطلوب ما سمعت، فكأنك لم تسمع. بل تكون شرّاً ممن لم يسمع؛ لأن الذي لم يسمع لم تبلغه دعوة، أماَّ أنت فسمعت فبلغتك الدعوة ولكنك لك تستجب ولم تنفذ مطلوبها. إذن قول الله تعالى: {سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] . يفسر لنا أن هذا السماع منهم كان مجرد انتقال الصوت من المتكلم إلى أذن السامع بالذبذبة التي تحدث، ولم يأخذوا ما سمعوه مأخذاً جاداً ليكون له الأثر العميق في حياتهم. فإذا لم يتأثروا بالمنهج، فكأنهم لم يسمعوا، وياليتهم لم يسمعوا؛ لأنهم صاروا شرّا ممن لم يسمع. {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] . أو أن السمع يراد ويقصد به القبول، مثلما نقول: اللهم اسمع دعاء فلان، وأنت تعلم أن الله سميع الدعاء وإن لم تقل أنت ذلك، لكنك تقول: اللهم اسمع دعاء فلان بمعنى «اللهم اقبله» ، فيكون المراد بالسمع القبول. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4632 {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4633 وكلمة «دابَّة» تعني كل ما يدب على الأرض، ولكنها خُصَّتَّ عرفاً بذوات الأربع. وجمع دابة دوابّ. و «الدواب» كما نعلم هي القسم الثالث من الوجود، لأن الوجود مرتقي إلى حلقات؛ أولها الجماد، وثانيها النبات، وثالثها الحيوان، ورابعها الإنسان، ويجمع هذه الأشياء الأربعة رباط واحد، فنجد أن أعلى مرتبة في الأدنى، هي أول مرتبة في الأعلى، فالأدنى هو الجماد، وفوقه النبات، وأعلى شيء في الجماد، يُمثل أول شيء في النبات، مثل المرجانيات، كأن الجماد نفسه له ارتقاءات في ذاته تتوقف عند مرحلة معينة لا يتعداها، فلا ترتقي إلى أن تصير نباتاً، أو أن يصبح النبات حيواناً، لا، إن كل قسم يظل مستقلا بذاته وفيه ارتقاءات تقف عند حد معين. وإذا كان أعلى شيء في الجماد يكاد أن يماثل أول شيء في النبات، فهو لا يتحول نباتاً مثل ظاهرة نمو الشعاب المرجانية التي أخذت ظاهرة النبات، لكنها لا تنتقل إلى نبات، بل تظل أعلى قمة في الجماد. وكذلك النبات، نجده يرتقي إلى أن ينتهي إلى أعلى مرحلة فيه. فالنبات مراحل، وآخر مرحلة فيه أن يوجد نبات يُحسّ، لأن الإحساس فرع الحياة، وهذا ما نراه في نباتات الظل التي نشاهدها وهي تتجه بطبيعة تكوينها إلى نور النهار. وكأن فيها نوْعاً من الإحساس. وإن تغير مكان الضوء، فإنها تُغيِّر اتجاهها إلى المكان الجديد. وهناك نوع من النبات يذبل فور أن تلمسه. ونسمع عن نبات يسمى في الريف «الست المستحية» وهي تغلق أوراقها على ثمرها فور اللمس، وأخذت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4633 أعلى مرتبة في النبات، وهي أول مرتبة في الحيوان، لكنها لا ترتقي إلى حيوان. بل تظل في حلقتها كنبات. ونأتي إلى الحيوانات لنجدها ترتقي، فهناك حيوانات تستأنس، وحيوانات لا تستأنس، بل تظل متوحشة، وقد خلقها ربنا لحكمة ما. فالإنسان يستأنس الجمل ولا يستطيع أن يستأنس الثعبان، ولا البرغوث، كأن الله يريد بذلك أن يعلمنا أننا لم نستأنس الحيوانات التي نستأنسها بقدرتنا وبذكائنا؛ بل هو الذي جعلك تأنس بها، فأنت أنست بالجمل، وقد ترى البنت الصغيرة وهي تقوده، وتأمره بالقيام والقعود، بينما البرغوث الصغير قد يجعل الإنسان ساهراً طوال الليل لا يعرف كيف يصطاده. إذن هذه الأمور تعطينا حكمة أوجزها الحق تبارك وتعالى في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71 - 72] . ولو لم يذلل الحق تبارك وتعالى هذه المخلوقات، لما استطاع الإنسان تذليلها، ونرى المخلوق الصغير وقد عجز الإنسان أمام تذليله، ليعرف أن المذلل ليس الإنسان، بل المذلل هو الله سبحانه وتعالى. وفي المستأنس من الحيوانات تجد نوعاً تُعوده على بعض الأشياء فيعتادها ويقوم بها مثل القرد الذي يقول له مدربه اعجن عجين الصبية، أو العجوزة، فيقلد القرد الصبية أو «العجوزة» ؛ لأن فيه قابلية التقليد، فهو يملك درجة من الفهم وهو أعلى مرتبة في الحيوان، ويقف عندها ولا يتطور إلى خارجها، بدليل أنك إن علمت قرداً كل شيء، فهو يصنع ما تعلمه له من الحركات ويضحك الناس منه، لكن القرد لا يستطيع أن يعلمها لبني جنسه. وكذلك نجد من يدرب الأسد والنمر ليؤدي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4634 فقرات ترفيهية في السيرك، لكن الأسد لا يعلم أولاده من الأشبال ما تعلمه من مدرب السيرك. إذن فالوجود بحلقاته الأربع؛ جماداً ونباتاً وحيواناً وإنساناً لا ترتقي فيه حلقة إلى الأعلى منها؛ بل تقف عند حد معين، وتلك هي الشبهة التي أصابت بعض المفكرين في أن يظنوا أن أصل الإنسان قرد؛ لأن المخلوقات حلقات يسلم بعضها لبعض، وأدنى مرتبة في الأعلى لكل حلقة هي أعلى مرتبة في الأدنى وتقف في حدودها. والذي يهدم نظرية داروين من أولها هو هذا الفهم لطبيعة التطور: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] . أي أن كل الكائنات مخلوقة ابتداءً من الله، ولا يوجد جنس قد نشأ من جنس آخر. ونقدم هذا الدليل العقلي لغير المتدينين، فنقول: لماذا لم تؤثر الظروف التي أثرت في القرد الأول ليصير إنساناً، في بقية القرود لتكون أناساً؟ وهكذا تنهدم النظرية - نظرية داروين - من أولها لآخرها، وعلماء الأجناس يهدمونها الآن. والحق تبارك وتعالى أخبرنا أن هذه المخلوقات التي تقع في المرتبة تحت الإنسان، لا تستطيع أن ترتب المقدمات، وتأخذ منها النتائج. ولا تعرف البديلات في الاختيار، والحيوان وهو أرقى الأجناس ليس عنده بديلات؛ إنه يتعلم مهمة واحدة وتنتهي المسألة؛ لأنها دواب لا تعقل، لكن الإنسان يملك القدرة على الاختيار بين البديلات. وجرب أن تعاكس قطة فإنك تجدها تهاجمك وتجرحك بمخالبها إلا إن كنت أنت مستأنسها وتعرف أنك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4635 تداعبها. أمَّا المؤمن العاقل المكلف فهو يتصرف في المواقف بشكل مختلف. فإن قام إنسان بإيذائه فقد يعاقبه بمثل ما عوقب، وقد يعفو عنه، وقد يكظم غيظه. {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس} [آل عمران: 134] . إذن فأنت أيها المؤمن عندك بديلات كثيرة، لكن الحيوان لا يملك مثل هذه البديلات. ولذلك ضربنا من قبل المثل: لو أنك علفت حيواناً إلى أن أكل وشبع ثم جئت إليه بعد شبعه بشيء زائد من أشهى طعام عنده؛ تجده لا يأكله. بينما الإنسان إن شبع فقد لا يمانع أن يأكل فوق الشبع من صنف يحبه. ومثال آخر: نرى في الريف أن الحمار حين يرى جدولاً من المياه ويكون اتساع الجدول فوق قدرته على أن يقفز عليه ليعبره، نجد الحمار قد توقف رافضاً القفز أو المرور فوق هذا الجدول. فهل قاس الحمار المسافة بنظره ووازنها بقدرته؟! إنه يقفز فوق الجداول التي في متناول قدرته، لكنه يرفض ما فوق هذه القدرة، رغم أننا نصف الحمار بالبلادة. وهذا يبين لنا أن كل جنس يسير في ناموس تكوينه ليؤدي مهمته التي أرادها له الله. ولقائل أن يقول: كيف يقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} بينما الحيوانات كلها مسخرة؟ ونقول: إذا كنت أيها الإنسان تأخذ وظيفة الأدنى فأنت تختار أن تكون شرًا من الدابة؛ لأن الأدنى مسخر بقانونه ويفعل الأشياء بغرائزه لا بفكره، فكأن فكر الاختيار بين البديلات غير موجود فيه، لكنك أيها الإنسان ميزك الله بالعقل الذي يختار بين البديلات، فإن أوقفت عقلك عن العمل، وسلبت قدرتك على القبول لما تسمع من وحي ألا تكون شر الدواب؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4636 وحين نتأمل كلمة «شر وخير» نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] . فالخير يقابله الشر، وحين يقابل الخير الشر، فالإنسان يميز الخير، لأنه نافع وحسن، ويميز الشر؛ لأنه ضار وقبيح. ولكن كلمة «خير» تستعمل أحياناً استعمالاً آخر لا يقابله الشر، بل يقال: إن هذا الأمر خير من الثاني، رغم أن الثاني أيضاً خير، مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما رواه عنه أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير» . إنّ كلاً منهما - أي المؤمن القوي والمؤمن الضعيف - فيه خير، لكن في الخير ارتقاءات، هناك خير يزيد عن خير، ويخبر المولى في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدوآب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ} . أي أن الكفار شر ما دبَّ على الأرض لأنهم قد افتقدوا وسيلة الهداية وهي السماع، وبذلك صاروا بكماً أي لا ينطقون كلمة الهدى. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4637 فهو سبحانه وتعالى قد علم أنه ليس فيهم خير، فلم يسمعهم سماع الاستجابة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4637 والمولى سبحانه وتعالى منزه من أن يبتدئهم بعدم إسماعهم؛ لأنهم لم يوجد فيهم خير، والخير هنا مقصود به الإيمان الأول بالرسول، وهم لم يؤمنوا. فلم يستمعوا لنداء الهداية منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كمبلغ عن الله تعالى. إذن فعدم وجود الخير بدأ من ناحيتهم، وسبحانه وتعالى القائل: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264] . وهم - إذن - سبقوا بالكفر فلم يهدهم الله. {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258] . وهم سبقوا بالظلم فلم يهدهم الله. وسبحانه وتعالى القائل: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108] . وهم سبقوا بالفسق فلم يهدهم الله. والله منزه عن الافتئات على بعض عباده، فلم يسمعهم سماع الاستجابة لنداء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} وعلم الله تعالى أزلي، لكنه لا يحاكم عباده بما علم عنهم أزلاً. بل ينزل لهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4638 حق الاختيار في التجربة الحياتية العملية. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - تجد أباً يعاني من مأساة فشل ابنه في الدراسة أو في الاعتماد على نفسه في الحياة، ويحيا الولد لاهياً غير مقدر لتبعات الحياة، فيقول أصدقاء الوالد له: لماذا لا تقيم لابنك مشروعاً يشغله بدلاً من اللهو، فيرد الأب: إنني أعرف هذا الولد، سيأخذ المشروع ليبيعه ويصرف ثمنه على اللهو. والأب يقول ذلك بتجربته مع الابن. لكنْ ألا يُحتمل أن يكون هذا الابن قد ملَّ الانحراف واللهو وأراد أن يتوب، أو على الأقل ليثبت للناس أن رأى والده فيه غير صحيح؟ لذلك نجد الأب يفتح لابنه مشروعاً، لكن الولد يغلبه طبعه السيىء فيبيع المشروع ليصرف نقوده في الفساد. هل حدث ذلك من نقص في تجربة الوالد؟ لا، بل عرف الأب عدم الجد عن ابنه، وسهولة انقياده لهواه. فما بالنا بالحق الأعلى العليم أزلاً بكل ما خفي وما ظهر من عباده؟ . ولكنّه سبحانه وتعالى شاء ألا يحاسب عباده بما علمه أزلاً، بل يحاسبهم سبحانه وتعالى بما يحدث منهم واقعاً، فهو القائل: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} [العنكبوت: 11] . فسبحانه وتعالى العالم أزلاً، لكنه شاء أن يعلم أيضاً علم الإقرار من العبد نفسه؛ لأن الله لو حكم على العباد بما علم أزلاً، لقال العبد: كنت سأفعل ما يطلبه المنهج يا رب. لذلك يترك الحق الاختيار للبشر ليعلموا على ضوء اختياراتهم ويكون العمل إقراراً بما حدث منهم. {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4639 وحتى لو أسمعهم الله عَزَّ وَجَلَّ لتولوا هم عن السماع وأعرضوا عنه؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم أنهم اختاروا أن يكونوا شرّاً من الدواب عنده، وهو الصم الذين لا يسمعون دعوة هداية، وبُكْم لا ينطقون كلمة توحيد، ولا يعقلون فائدة المنهج الذي وضعه الله تعالى لصلاح دنياهم وأخراهم. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4640 وهنا نقل المسألة من سماع إلى استجابة؛ لأن مهمة السماع أن تستجيب. {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي استجيبوا لله تعالى تشريعا، وللرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلاغاً، وغاية التشريع والبلاغ واحدة، فلا بلاغ عن الرسول إلا بتشريع من الله عَزَّ وَجَلَّ، بل وللرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تفويض بأن يشرع. ورسول الله لم يشرع من نفسة، وإنما شرع بواسطة حكم من الله تعالى حيث يقول: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى -: نسمع أن فلاناً قد فُصل لأنه غاب خمسة عشر يوماً عن عمله في وظيفته، ويعود المحامي إلى الدستور الذي تتبعه البلد فلا يجد في مواد الدستور هذه الحكاية، ويسمع من المحامي الأكثر خبرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4640 أن هذا القانون مأخوذ من تفويض الدستور للهيئة التي تنظم العمل والعاملين. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مفوض من ربه بالبلاغ وبالتشريع. {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} [الأنفال: 24] . ونجد هنا أيضاً أن الحق تبارك وتعالى قال: {إِذَا دَعَاكُم} ولم يقل: إذا دعَوَاكُمْ، وفي ذلك توحيد للغاية، فلم يفصل بين حكم الله التشريعي وبلاغ الرسول لنا. ونعلم أن الأشياء التي حكم فيها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حكماً ثم عدّل الله له فيها الحكم، هذا التعديل نشأ من الله، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم ينشىء حكماً عدّله الله تعالى إلا فيما لم يُنزِل الله فيه حكماً. وحين ينزل الله حكماً مخالفاً لحكم وضعه الرسول، فمن عظمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه أبلغنا هذا التعديل، وهكذا جاءت أحكامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا وافقت حقّاً فلا تعديل لها، وإن لم يكن الأمر كذلك فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعدل لنا. وبذلك تنتهي كل الأحكام إلى الله تعالى. فإذا قال قائل: كيف تقول إن قول الرسول يكون من الله؟ نجيب: إنه سبحانه القائل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3 - 4] . و «الهوى» - كما نعلم - أن تعلم حكماً ثم تميل عن الحكم إلى مقابله لتخدم هوًى في نفسك، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما عمد إلى أي حكم شرعه ولم يكن عنده حكم من الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن جاءه تعديل أبلغنا. إذن ما ينطق عن الهوى. أي من كل ما لم ينزله الله، وحكم فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببشريته، ولم يكن له هوى يخدم أي حكم، ونجد في قول الله تعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4641 {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} [الأنفال: 24] . أنَّ كلمة «دعاكم» مفردة، مثلها مثل كلمة «يرضوه» في قوله لكم: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] . ومثلها مثل الضمير في «عنه» في قوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: 20] . وفي هذه الآيات الكريمة توحيد للضمير بعد المثنى، وهذا التوحيد كان مثار شبهة عند المستشرقين، فقالوا: كيف يخاطب اثنين ثم يوحدهما؟ ونقول لمن يقول ذلك: لأنك استقبلت القرآن بغير ملكة العربية. فلم تفهم، ولو وجد الكفار في أسلوب القرآن ما يخالف اللغة لما سكتوا، فهم المعاندون، ولو كانوا جربوا في القرآن كلمة واحدة مخالفة لأعلنوا هذه المخالفة. وعدم إعلان الكفار عن هذه الشبهات التي يثيرها الأعداء، يدل على أنهم فهموا مرمى ومعنى كل ما جاء بالقرآن، وهم فهموا - على سبيل المثال - الآية التي يكرر المستشرقون الحديث عنها ليشككوا الناس في القرآن الكريم، وهي قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4642 وتساءل المستشرقون - مستنكرين -: كيف يتحدث القرآن عن طائفتين، ثم يأتي الفعل الصادر منهما بصيغة الجمع؟ . ونقول: إن «طائفتان» هي مثنى طائفة، والطائفة لا تطلق على الفرد، إنما تطلق على جماعة، مثلما نقول: المدْرَسَتان اجتمعوا؛ وصحيح أن المَدْرسة مفرد. لكن كل مدرسة بها تلاميذ كثيرون، وكذلك «طائفتان» ، معناها أن كل طائفة مكونة من أفراد، وحين يحدث القتال فهو قتال بين جمع وجمع؛ لذلك كان القرآن الكريم دقيقاً حين قال: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} ولم يقل القرآن الكريم: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلا؛ لأن هذا القول لا يعبر بدقة عن موقف الاقتتال لأنهم كطائفتين، إن انتهوا فيما بينهم إلى القتال. فساعة القتال لا يتحيز كل فرد لفرد ليقاتله، وإنما كل فرد يقاتل في كل أفراد الطائفة الأخرى، وهكذا يكون القتال بين جمع كبير من أفراد الطائفتين. وبعد ذلك يواصل الحق تبارك وتعالى تصوير الموقف من الاقتتال بدقة فيقول سبحانه: {فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] . وهنا يقول سبحانه وتعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} ، ولم يقل: أصلحوا بينهم. وهكذا عدل عن الجمع الذي جاء في الاقتتال إلى المثنى؛ لأننا في الصلح إنما نصلح بين فئتين متحاربتين، ونحن لا نأتي بكل فرد من الطائفة لنصلحه مع أفراد الطائفة الأخرى. ويمثل كل طائفة رؤساؤها أو وفد منها، وهكذا استخدم الحق المثنى في مجاله، واستخدم الجمع في مجاله، وسبحانه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4643 وتعالى منزه عن الخطأ. وهنا في الآية التي ما زلنا بصدد خواطرنا عنها وفيها يقول المولى سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . وفي أولها نداء من الله للمؤمنين، والنداء يقتضي أولاً أن يكون المنادى حيّاً؛ لأنه سبحانه وتعالى القائل: {وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور} [فاطر: 22] . إذن: كيف يقول سبحانه لمن يخاطبهم وهم أحياء: {دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} ؟ . وهنا نقول: ما هي الحياة أولاً؟ . نحن نعلم أن الحياة تأخذ مظهرين، مظهرَ الحسّ ومظهرَ الحركة، ولا يتأتى ذلك إلا بعد أن توجد الروح في المادة فتتكون الحياة، وهذه مسألة يتساوى فيها المؤمن والكافر. وثمرة الحياة أن يسعد فيها الإنسان، لا أن يحيا في حرب وكراهية وتنغيص الآخرين له وتنغيصه للآخرين، والحياة الحقيقية أن يوجد الحسّ والحركة، شرط أن تكون حركة كل إنسان تسعده وتسعد من حوله، وبذلك تتآزر الطاقات في زيادة الإصلاح في الأمور النافعة والمفيدة، أما إذا تبددت الطاقات الناتجة من الحسّ والحركة وضاعت الحياة في معاندة البعض للبعض الآخر، فهذه حياة التعب والمشقة، حياة ليس فيها خير ولا راحة. وهذا ما يخالف ما أراده الحق سبحانه وتعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4644 للخلق، فقد جعل الله عَزَّ وَجَلَّ الإنسان خليفة له في الأرض ليصلح لا ليفسد، وليزيد الصالح صلاحاً، ولا تتعاند حركة الفرد مع غيره؛ لأن كل إنسان هو خليفة لله، وما دمنا كلنا خلفاء لله تعالى في الأرض. فلماذا لا نجعل حركاتنا في الحياة متساندة غير متعاندة؟ وعلى سبيل المثال: إن أراد إنسان أن يخدم نفسه ومن حوله بحفر بئر، هنا يجب أن يتعاون معه جميع من سوف يستفيدون من البئر؛ فمجموعة تحفر، ومجموعة تحمل التراب بعيداً، ليخرج الماء ويستفيد منه الجميع، لكن أن يتسلل إنسان ليردم البئر، فهذا يجعل حركة الحياة متعاندة لا متساندة. وقد نزل المنهج من الله عَزَّ وَجَلَّ ليجعل حركة الحياة متساندة؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . والنداء هنا من الله للمؤمنين فقط، فإذا قال الله: يأيها الذين آمنوا استجيبوا لما آمنتم به؛ فهو لم يطلب أن تستجيب لمن لم تؤمن به، بل يطلب منك الاستجابة إذا كنت قد دخلت في حظيرة الإيمان بالله، واهتديت إلى ذلك بعقلك، وبالأدلة الكونية واقتنعت بذلك، وصرت تؤمن أنه إذا طلب منك شيئاً فهو لا يطلب منك عبثاً؛ بل طلب منك لأنك آمنت به تعالى إلهاً، وربّاً، وخالقاً، ورازقاً، وحكيماً، وعادلاً. حين يأمرك من له هذه الصفات، فمن الواجب عليك أن تستجيب لما يدعوك إليه. ولله المثل الأعلى؛ نجد في حياتنا الأب والأم يراعيان المصالح القريبة للغلام، ويأمره الأب قائلا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4645 اسمع الكلام لأني والدك الذي يتعب من أجل أن تنعم أنت. وتضيف الأم قائلة له: اسمع كلام والدك، فليس غريباً عنك، بل لك به صلة وهو ليس عدوّاً لك، وتجربته معك أنه نافع لك ويحب لك الخير، هنا يستجيب الابن. وكلنا عيال الله، فإذا ما قال الله: يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول المبلغ عن الله لأنه سيدعوكم لما يحييكم فعلينا أن نستجيب للدعوة. الداعي - إذن - هو الله تعالى وقد سبقت نعمه عليك قبل أن يكلفك، وهو سبحانه قد أرسل رسولاً مؤيداً بمعجزة لا يستطيع واحد أن يأتي بها، ويدعو كل إنسان إلى ما فيه الخير، ولا يمنع الإنسان من الاستجابة لهذا الدعاء إلا أن يكون غبيا. ونلحظ في حياتنا اليومية أن الإنسان المريض، المصاب في أعز وأثمن شيء عنده وهو عافيته وصحته، وهو يحاول التماس الشفاء من هذا المرض ويسأل عن الطبيب المتخصص فيما يشكو منه، وهناك لكل جزء من الجسم طبيب متخصص، فإذا كان له علم بالأطباء فهو يذهب إلى الطبيب المعين، وإن لم يكن له علم فهو يسأل إلى أن يعرف الطبيب المناسب، وبذلك يكون قد أدى مهمة العقل في الوصول إلى من يأمنه على صحته. فإذا ما ذهب إلى الطبيب وشخص له الداء وكتب الدواء، في هذه اللحظة لن يقول المريض: أنا لا أشرب الدواء إلا إن أقنعتني بحكمته وفائدته وماذا سيفعل في جسمي؛ لأن الطبيب قد يقول للمريض: إن أردت أن تعرف حكمة هذا الدواء، اذهب إلى كلية الطب لتتعلم مثلما تعلمت. وطبعاً لن يفعل مريض ذلك؛ لأن المسألة متعلقة بعافيته، وهو سيذهب إلى الصيدلية ويشتري الدواء ويسأل عن كيفية تناوله، والمريض حين يفعل ذلك إنما يفعله لصالحه لا لصالح الطبيب أو الصيدلي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4646 والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يدعونا لما يحيينا به، إنما يفعل ذلك لأن الله تعالى أوكل له البلاغ بالمنهج الذي يصلح حالنا، وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة، بعد أن تأتي الروح في المادة، يواجه الإنسان ظروف الحياة من بعد ذلك إلى الممات. وهذه حياة للمؤمن والكافر. وقد يكون في الحياة منغصات وتمتلىء بالحركات المتعاندة، وقد يمتلىء البيت الواحد بالخلافات بين الأولاد وبين الجيران، ويقول الإنسان: هذه حياة صعبة وقاسية. والموت أحسن منها. والشاعر يقول: كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وشاعر آخر يقول: ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحِمام والحِمام هو الموت، وكأن الموت - كما يراه الشاعر - أخف من الحياة المليئة بالمنغصات. إذن فليس مجرد الحياة الأولى هو المطلوب، بل المطلوب حياة خليفة يأتي في مجتمع خلفاء لله في الأرض. وكل منا موكل بالتعاون وإصلاح المجال الذي يخصه. ولا يصح للوكلاء أن يتعاندوا مع بعضهم البعض، بل عليهم أن يتفقوا؛ لأنهم وكلاء لواحد أحد. كذلك خلف الله الإنسان، خلفه خليفة له في الأرض وأنجب الخليفة خلفاء؛ ليؤدوا الخلافة بشكل متساند لا متعاند. إننا - على سبيل المثال - حين نرغب في تفصيل جلباب واحد، نجد الفلاح يزرع القطن، والغزّال يغزله، والنسّاج ينسجه، ومن بعد ذلك نشتريه لنذهب به إلى الخيّاط الذي يأخذ المقاسات المناسبة للجسم، ثم يقوم بحياكة الجلباب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4647 على آلة اشتراها بعد أن صنعها آخرون. إذن فجلباب واحد يحتاج إلى تعاون بين كثير من البشر، هكذا تتعاضد الحياة. وإذا نظرنا إلى العالم الذي نحيا فيه نجده مليئاً بالتعب، خصوصاً الأمم المتخلفة، وأيضاً نجد التعب في الأمم المتقدمة؛ لأننا نجد صعاليك من أية دولة يصعدون إلى طائرة تتبع دولة كبرى ويهددون بتفجير الطائرة بمن فيها ويفرضون الشروط، وَيُزِلُّون الدولة الكبرى. إذن فالحياة حتى في الدول الراقية متعبة. وعلى سبيل المثال: الحروب التي قامت في منطقتنا منذ عام 1948 مع إسرائيل واستمرت كل هذه المدة الطويلة، ثم الحرب الأهلية في لبنان، ثم الحرب التي دارت بين العراق وإيران؛ هذه الحروب تكلفت المليارات التي لو استخدمت في وجه آخر لرفعت من شأن تقدم بلادنا. إذن الذي يتعب العالم هو الحركة المتعاندة، والحق سبحانه وتعالى أنزل لنا المنهج القويم ليجعل حركة حياتنا متساندة. فإن اتبعنا المنهج صرنا نأخذ الأوامر من إله واحد، وصار كل منا مكلفاً بالتعاون مع غيره، وهذا لن يحدث إلا إذا استجبنا لما يدعونا الله تشريعاً والرسول بلاغاً، وبهذا تتساند الحياة وتصبح حياة لها طعم. وينطبق عليها قول الحق تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] . أمَّا من يحيا بغير منهج فتكون حالته كما يبينها قول الله تعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4648 {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124] . وعلى هذا: فالعقاب على عدم اتباع المنهج الإلهي لا يتأخر إلى يوم القيامة، ولكن الحياة في الدنيا تكون مرهقة، والمعيشة ضنكا. إذن إياكم أن تفهموا أن المنهج الديني لله غايته الآخرة فقط، لا. بل إن اتباع المنهج الديني لله جزاؤه في الآخرة، وأما ثمرته ففي الدنيا. فمن يوفق في هذه الدنيا، وحركته متساندة مع غيره، يعطي له الله الجزاء في الحياة المستريحة في الدنيا بالإضافة إلى جزاء الآخرة. وهكذا نفهم أن موضوع الدين هو الدنيا، أما الآخرة فهي جزاء على هذا الاختبار الدنيوي. وقوله سبحانه وتعالى: {إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . أي يعطيكم منهجاً من إله واحد؛ لا يعود بالخير عليه ولا على المبلغ عنه وهو الرسول، وإنما يعود بالخير عليكم أنتم، وتلك هي حيثيات الاستجابة، ومن لا يستجيب لهذه فهو الأحمق. {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . إذن فالخير يأتي من أمر إله واحد؛ فلا يجعل كل منا إلهه هواه، حتى لا تتعدد الأهواء: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4649 {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] . ولذلك لا يتعرض التشريع من الله سبحانه وتعالى إلا ما للأهواء فيه مدخل، أمَّا الشيء الذي ليس للأهواء فيه مدخل فهو يترك الإنسان ليواجهه بملكاته التي خلقها الله له، والشرع يتدخل فقط فيما يمكن أن يخضع للهوى، أما الأمور التي لا تخضع للهوى فألد الأعداء يتفقون فيها. والحياة الآن فيها موجة ارتقاء طموحي علمي، وهذا الطموح العلمي نشأ عن التجربة في المعمل حيث يجلس العلماء الوقت الطويل ليخترعوا ويطوروا، مثال ذلك: «أديسون» الذي قضى وقتاً طويلاً ليخترع المصباح الكهربي، وغيره من العلماء طوروا مخترعاته وجاءوا باختراعات جديدة، ولم ندر عنهم شيئاً إلا أننا نفاجأ بمخترع قد أتى منهم، والعالمُ من هؤلاء تجده أشعث أغبر، لا يفكر في العناية بحسن مظهره وقد لا يأكل ولا يشرب، ولا تدري أنت به إلا إذا الثمرة من عمله واختراعه جاءت، ويقال: فلان اخترع الشيء «الفلاني» . وتنتفع أنت بما اخترع رغم أنك لم تَشْقَ شقاءَه حين أخذت الخير الناتج منه. ونرى المعسكرات المتضادة في عالمنا المعاصر تحاول أن تسرق تجارب غيرها في العلوم، وهذه المعسكرات تختلف فقط في الأهواء، فذلك شيوعي، وآخر رأسمالي، وثالث وجودي. الخلاف - إذن - في الأهواء غير المحكومة بالمادة أو بالتجربة. ومن المؤسف حقًا أن ما اتفقنا عليه كالعلوم المادية الكونية التي هي وليدة التجربة، هذه المخترعات نستعملها في فرض ما نختلف فيه، وهكذا تجد أن التعب في العالم إنما يأتي من الطموح الأهوائي لا الطموح المادي العلمي؛ لذلك يتدخل الشرع في الأهواء ويحسمها؛ ليكون كل منا عبداً لله تعالى، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4650 وكل منَّا حر أمام غيره. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمنهجه الذي جاء به من الله يدعو الحيّ - صاحب الحس والحركة - إلى أن تكون حياته حياة طيبة ليس فيها ضنك؛ هذا إن نظرنا إلى كيفية الحياة. فإن قسنا الحياة بعمر الآخرة، فهي لا تساوي إلا القليل؛ لأن ما لا نختلف فيه كأفراد في الخلافة يجب أن يكون غاية للخلفاء، فربنا قد يخلق واحدا ليموت في بطن أمه، وواحدا يموت بعد ساعة من مولده، وثالثا يموت بعد شهر من ميلاده، ومنا من يعمر مائة سنة، ولا يمكن أن يكونَ الأمر المُخْتَلَف فيه غاية للمتحدين في الجنس، فالغاية أن نعمر الدنيا بالعمل الصالح لنسعد بها، ونعبر منها إلى ما هو أجمل وهي الآخرة، ومأمون فيها أننا لا نموت، ومأمون فيها أننا لن نتعب أبداً، لأنه كلما اشتهيت شيئاً ستجده أمامك. وهذه قمة الحياة الطيبة. وعلى فرض أنك ستتعب في سبيل منهج الله حين تبلغه للناس، دفاعاً عنه بالحرب والقتال وبالتضحية بالأموال، فأنت رابح لحياة طيبة أبدية، ويبين القرآن الكريم لنا هذه الحياة في قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] . فالدار الآخرة ليست مجرد حياة، بل أكبر من حياة؛ لأن حياتك الدنيا موقوتة ومحددة، ونعيمك فيها على قدر إمكانياتك وتصوراتك، ولكن الحياة الأخرى ليست موقوته بل ممتدة، ونعيمك فيها على قدر إمكانيات خالقك المنعم القادر. وهكذا نتأكد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد دعانا إلى ما يحيينا. والحق سبحانه وتعالى حينما دعانا إلى الحياة الطيبة سمى المعيشة في منهجه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4651 حياة، لأنها حياة سعيدة، وتسلم إلى حياة خالدة. ولذلك سمى الحياة الأولى التي تأتي إذا نفخ الله الروح في المادة، وقال عن آدم وكل بني آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [ص: 72] . وأعطى الله سبحانه وتعالى هذه الحياة للمؤمن والكافر. وسمى سبحانه وتعالى ما يحمل المنهج للناس وهو القرآن روحاً: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] . والمنهج - إذن - روح من أمر الله سبحانه وتعالى نزل به الروح الأمين، وهذه هي الحياة المطلوبة لله سعادة، وتسانداً، وخلوداً في الجنة. ولذلك أنزل المنهج ليمنع التعاند والتعارض والتضاد بين المؤمنين، وليحمي كل مؤمن نفسه من الزلل، فيقاوم المعصية وهي صغيرة قبل أن تكبر وتستفحل. ثم يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] . وماذا يعني قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} ؟ . وأقول: إياك أن تظن أن الكافر - على سبيل المثال - يعلن أن قلبه قد انعقد على الكفر؛ لأنه قد يجرب أن يخلع نفسه من هواه وينظر إلى حقيقة الإيمان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4652 فيقتنع به، ولن يسيطر على هواه، وقد انقلب أكثر من قلب شرير إلى قلب خير، مثل صناديد قريش من الكفار الذين آمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقد كانت قلوبهم معقودة على الشر، لكنها لم تستمر على الشر، بل حال الحق بين كل إمرىء منهم وقلبه. والقلب هو محل التمنيات والأماني، وأول الأماني أن تطول حياة الإنسان، خصوصاً وهو يرى أن من في مثل عمره يموت، ومن في مثل عمر والده يموت. وأن جده يموت، ولأن الإنسان يحب أن تطول حياته، يرغب في أن ينجب ولداً ليمتد ذكره، إنه يريد الحياة ولو من غيره، ما دام منسوباً له. كما أن الإنسان يحب الآمال، ويبني في أحلامه الكثير مما يريد أن يحققه، والواجب عليه ألاَّ ينسى أن لهذا الكون إلهاً قادراً، قد ينهى حياة أي منا رغم أن كل إنسان يحلم أن تطول حياته، وقد يقف بين الإنسان وبين آماله التي يريد أن يحققها، ولا أحد منا معزول عن خالقه، وكل منا في يد الخالق، وسبحانه وتعالى لم يخلق الخلق ثم يترك النواميس لتعمل دون إرادته، بل كل النواميس في يده. وما دام الحق يحول بين المرء وتمنيات قلبه؛ استطالة حياة، وتحقيق آمال، وستراً للموت وأسبابه وزمنه، كل ذلك لنتجه دائماً إلى فعل الخير لنحيا في ضوء المنهج وأنت لا تعرف متى ينتهي الأجل، وإلى الله المصير. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ... } . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4653 ويأمرنا الحق عَزَّ وَجَلَّ أن نتقي الفتن من بدئها قبل أن يستفحل شأنها. وأن يتجنب الإنسان المعصية، وأن يضرب المجتمع على يد أي انحراف، فمن يسرق الآن الخزائن قد بدأ أولا بسرقة اليسير، سرق من أخيه أو من البيت ثم من الجيران ثم من البنك. ولو أن كل انحراف عوجل بالضرب على يد من فعله وهو صغير لما كبر المنحرف والانحراف. ولتم وأد الجرائم الكبيرة في مهدها؛ لأن من ارتكب الصغيرة قد عوقب. وإياكم أن يقول أحدكم ما دام مثل هذا الانحراف لا يمسني فليس لي به شأن؛ لأن الذي اجترأ على مثلك، من السهل أن يجترىء عليك. ونحن نعرف جميعاً قصة الثيران الثلاثة؛ الأحمر والأبيض والأسود، فقد هاجم الأسد الثور الأبيض فأكله، ولم يدافع عنه الثور الأحمر أو الأسود. وهاجم الأسد الثور الأحمر بعد ذلك فقال الثور الأسود لنفسه: ما دام الأسد لم يأكلني فلا دخل لي بهذا الأمر. وجاء الأسد إلى الثور الأسود، بينما هو يقترب منه قال: لقد أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض. إذن فقول الحق تبارك وتعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25] . هذا القول يدلنا على أن اتقاء الفتنة يبدأ من الضرب على أيدي صانع الفتنة وهي في بدايتها. وأضرب هذا المثل ليبقى في الذاكرة دائما؛ إن الأم التي قسمت الأكل بما فيه من لحم وخضر وفاكهة على الأبناء، فأكل أحد الأبناء نصيبه، ثم احتفظت الأم ببقية أنصبة إخوته في الثلاجة، ومن بعد ذلك لاحظت الأم أن الابن الذي أكل نصيبه يأكل نصيب أحد إخوته من خلف ظهرها ودون استئذانها، وهنا يجب أن تؤنبه وتعاقبه على مثل هذا الفعل حتى لا يتمادى في ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4654 كذلك إن دخل الابن بلعبة أو بشيء يفوق قدرة مصروف يده على الشراء، فعلى الأب أن يضرب على يد الابن حتى لا يتمادى الولد في إفساد نفسه. ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى جعل الدية في القتل الخطأ على العاقلة وهم العصبة أي قرابة القاتل من جهة أبيه، ويطلق عليهم العائلة - أي عائلة القاتل - لأن أفراد العائلة حين يرون أن كلاً منهم سوف يصيبه جزء من الغرم، فإنه يضرب على يد من يتمادى في إرهاب الغير وتهديدهم إن كان من عائلته. ولذلك ترى أن الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يضربوا على يده فإن الله يعمهم بغضب من عنده؛ لأن الظالم يتمادى في ظلمه وطغيانه ويعربد في الآخرين. فيستشري الظلم في المجتمع ويحق على الجميع عقاب الله. ولذلك نجد سيدنا أبا بكر رضوان الله عليه - يقول، يبين لنا ذلك فيما رواه عنه الإمام أحمد. فقد روى الإمام أحمد قال: قام أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس أنتم تقرأون هذه الآية: {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} وإنكم تضعونها على غير موضعها. وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه، يوشك الله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يعمهم بعقابه» . ويبين لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الطريق الفاصل في القضايا العقدية والحكمية ويأتي بمثال واضح يتفق عليه الكل، فيقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فيما يرويه عنه النعمان بن بشير: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4655 سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها إذا استقوْا من الماء مرُّوا على مَنْ فوقهم، فقالوا لو أنّا خرقنا خرقاً في نصيبنا ولم نؤذ منْ فَوْقنا. فإن يَتْركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوْا ونَجَوْا جميعا» . والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يضرب لنا المثل بقوم ركبوا سفينة، وأجروا فيما بينهم القرعة لينقسموا إلى جماعتين؛ جماعة تجلس في النصف الأعلى من السفينة أي على سطحها، وجماعة تسكن في بطن السفينة، حسب ما تأتي به قسمة القرعة وهي ما تسمى بالاستهام. وهذا يدلنا على أنهم أناس طيبون، ولا توجد فيهم جماعة قوية تفرض شيئاً على جماعة ضعيفة. وكان الذين يسكنون أسفل السفينة حين يريدون الماء يصعدون إلى أعلى لينزلوا الأواني من فوق سطح السفينة إلى النهر. ولو تُرك الذين في أسفل السفينة لتنفيذ رغبتهم في خرق السفينة ليأخذوا الماء من النهر لغرقت السفينة، لكن إن ضرب الذين يعيشون فوق السفينة على يد من يريدون خرقها لنجوا جميعاً. وهكذا يكون فهمنا لقول الحق تبارك وتعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 25] . ولسائل أن يسأل ويقول: إن العقاب يقع هنا على الظالم والمظلوم، والظالم هو الذي يستحق العقاب على ما وقع منه من ظلم، ولكن ما ذنب المظلوم؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4656 والجواب: أن المظلوم قد كان في مكنته أن يرد الظلم لكنه سكت عن ذلك فاستحق أن يشمله العقاب. وإن لم تنتبه المجتمعات إلى مقاومة الفتن، أنزل الله بها العقاب، وعقاب الحق تبارك وتعالى أشد من عقاب الخلق. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4657 وبعد كل ما حدث من وقائع، يذكّر الحق عَزَّ وَجَلَّ هنا صاحب الحال الأعلى بالماضي الأدنى، ليثبت له: أن الذي نقلك من أدنى حياة إلى أعلى حياة، موجود ولا يزال موجوداً، وما دام قد شاءت قدرته أن ينقلك من الأدنى للأعلى، فقدرته سبحانه وتعالى - إن شاءت - نقلتك من الأعلى إلى الأدنى. فإذا كنت في حال أعلى؛ إياك أن تنسى أنك كنت في حال أدنى. وعليك أن تعترف بجميل عطاء الخالق المنعم المتفضل وتقول: إن ربي القوي العظيم هو الذي وهبني ورفع مكانتي ولم أفعل ذلك بمهارتي، وحتى إن كنت قد ارتقيت بالمهارة، فالمهارة عطاء منه سبحانه وتعالى، لذلك يقول المولى عَزَّ وَجَلَّ هنا: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض} . أي اجعلوا هذا الأمر على بالكم دائما وإياكم أن تخافوا أية قوة مهما بلغت هذه القوة، ولكن أعدوا لكل قوة ما يناسبها من أسلوب المواجهة الكثير؛ لأنكم حملة دعوة، ومن يحمل الدعوة قد يعاني من المصاعب والمتاعب والمشقات؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4657 لكن يجب ألاَّ يفت ذلك في عضدكم. لقد كان المسلمون الأوائل قلة تعاني من إذلال واضطهاد الكافرين الأقوياء. وكان المسلم من الأوائل لا يجد أحياناً من يحميه من اضطهاد المتجبرين، فيلجأ إلى كافر يتوسم فيه الرحمة ويقول له: أجرني من إخوانك الكفر. وحين بلغ الضعف بالمسلمين الأوائل أشده، ولم يجدوا حامياً لهم من ظلم وتعذيب الكفار، عرض عليهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يهاجروا إلى الحبشة؛ لأنَّ فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد. وكانت الهجرة إلى الحبشة هرباً من قوة الخصوم، ولم يظل حال المسلمين كذلك، بل نصرهم الله لا بقوتهم، ولكنه سبحانه وتعالى شاء لهم أن يأخذوا بأسباب منهجه فانتصروا وعلت كلمة الله عَزَّ وَجَلَّ. إننا نتخذ من هذه المسألة حجة ومثلاً نواجه به من يشككون في قدرة المسلمين على إدارة الحياة والارتقاء بها؛ لأن العالم كله قد شهد ألف عام كان المسلمون فيها هم قادة العلم والفكر والابتكار، وكانت غالبية الدول تخضع لحكم دولة الإسلام. لقد سبق أن قلت: إن هارون الرشيد الخليفة المسلم بعث لشارلمان ملك فرنسا بهدية هي ساعة دقاقة بالماء؛ تم تصميمها بدقة عالية تفوق طاقة خيال الناس في فرنسا، ولحظة أن شاهدوها في فرنسا ظنوا أن الشياطين هي التي تحركها؛ لأن التقدم العلمي والتطبيقي في بغداد في ذلك الوقت فاق كل التصور الأوروبي حيث كانوا يعيشون في تخلف علمي شديد. لكن المسألة انعكست في زماننا هذا وصرنا نعاني من تخلف في الأخذ بأسباب الله للاستفادة بالعلم، فحين جاء «الراديو» وجاء «التليفزيون» إلى بعض البلاد الإسلامية، وجدنا من يقول عن الراديو: إن بداخله شيطاناً يتكلم ويلوّن ويغير من صوته. ولم يغير أصحاب هذا الرأي اندهاشهم ورفضهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4658 لوجدوا محطة الإذاعة وأجهزة الاستقبال في بلادهم إلا بعد أن قلنا لهم: حرّكوا مؤشر الراديو وستجدونه يذيع القرآن الكريم، وحين فعلوا ذلك استمعوا إلى صوت الشيخ محمد رفعت، وكان يقرأ في سورة مريم، وقلنا لأصحاب هذا الرأي: إن الشيطان لا يقرأ القرآن، بل إن الإذاعة وأجهزة الاستقبال هي اختراعات علمية توصل إليها من أخذوا بأسباب الله في العلم التطبيقي. وحين جاء اختراع «الميكروفون» وطالب الكثير بوضعه في المساجد وقت صلاة الجمعة، وجدنا البعض يرفض دخول الميكروفون إلى المسجد، متجاهلاً أن هناك مساجد كبيرة يحتاج إسماع الناس فيها لخطبة الجمعة وجود أكثر من «ميكروفون» . وقلت لواحد من هؤلاء: ليصلح الله حالك وبالك، لماذا ترتدي نظارة طبية وتضعها على عينيك؟ أجابني: لأن نظري ضعيف والنظارة تكبر لي الكتابة. فقلت: وهكذا «الميكروفون» يكبر الصوت ليسمعه من يجلس بعيداً عن المنبر والإمام، أثناء صلاة الجماعة وصلاة الجمعة. فإذا كان بعض من الدول الإسلامية قد وصل بها الحال إلى هذا الحد من العجز في تقبل العلم، فهذا تنبيه لنا لأن نعيد الأخذ بأسباب الله في الكون، ولنطور العلوم، ونخدم بها منهج الله، بدلاً من أن نظل متخلفين رغم أن منهج الله يحضنا على الأخذ بالأسباب الموجودة في الكون، وكلنا يعلم أن كون الله في يده والنواميس في يده، يسخرها سبحانه وتعالى لمن يأخذ بالأٍباب. ويذكرنا الحق تبارك وتعالى بقوله: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} [الأنفال: 26] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4659 والخطف هو أخذ بسرعة، أي أن يأخذ إنسان أو جماعة غير الحق، وعرفنا من قبل أنَّ أخذ غير الحق له صُوَر متعددة، والمثال: نجد تاجراً يعرض أيْ يفرش بضاعته من تمر أو تفاح، ويأتي أحد المارة لينظر إلى البضاعة المعروضة والمفروشة وليس معه نُقُود يشتري بها فيخطف تفاحة أو بعضاً من التمر ويجري بسرعة، ويحاول صاحب البضاعة أن يلحق به وحاول اللص أن يتخلص ويفلت منه؛ فهذا اسمه «غصب» ، أما السرقة، فهي أخذ المال خفيةً من حرز وصاحبه غير موجود. ويختلف كل ذلك عن الاختلاس؛ لأن الاختلاس هو أن تأخذ مما في حوزتك وأنت مأمون عليه؛ إذن أخذ غير الحق له عدة صور هي: خطف، أو غصب، أو سرقة أو اختلاس. والحق تبارك وتعالى يقول: {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 26] . أي يأخذونكم دون أن يدافع عنكم أحد. وها أنتم أولاء قد صرتم أقوياء باستقرار الإيمان في قلوبكم، وبمدد من الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لذلك يجب أن تذكروه دائماً امتناناً وتقديرا وعبادة، وشكراً، وخشوعاً. فهو سبحانه وتعالى قد أعطاكم الاستقرار في المأوى الجديد - المدينة المنورة - ورحب بكم مجتمع الإيمان في المدينة المنورة. وعندما دخلتم إلى المدينة أقمتم المسجد وهو سمة استمرار النور من السماء هداية للأرض. كان هذا هو أول عمل لكم ولم تنشغلوا من قبله بأي عمل آخر. واعتبركم الأنصارُ إخوةً، فصرتم أقوياء بأخوة الإيمان، وصاروا هم أيضا أقوياء بهذه الأخوة بعد أن كان اليهود هناك يستفتحون عليهم بالرسول القادم، جاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4660 الرسول وكان في نصرة المستضعفين وصار منهجه قوة لكم وللأنصار، وكان المهاجر منكم يجد الدعوة من الأنصارى إلى بيته، لا للطعام ولا للشراب فقط، بل للإقامة أيضاً. ثم حدث الملحظ العجيب، فالإنسان إذا أنعم الله عليه بنعم شتى، فقد يحب أن يمتع صاحبه من هذه النعم، إلا المرأة، فالزوج يغار على نسائه. لكن الأنصاري من هؤلاء إن كان متزوجاً من اثنين، يقول للمهاجر: لقد جئت من مكة إلى المدينة دون أهلك. فانظر إلى زوجتيَّ، فأيهما تعجبك أطلقها وتتزوجها بعد انقضاء عدتها، هذا هو الملظ العجيب، وهي مسألة لا يمكن أن تمر على خيال العربي أبداً. ويذيل الحق تبارك وتعالى الآية الكريمة بقوله: {وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26] وقد رزقهم المولى سبحانه وتعالى وأمدهم بالخيرات والأسلحة والنفائس وهزموا صناديد قريش، ولم تكن الغنائم تحل لأحد من الأنبياء من قبل، لكنها أحلت لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن فالذي صنع لكم كل ذلك حقيق أن يُذكر فلا ينسى وأن يشكر دائما. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4661 والخيانة مقابلها الأمانة، والأمانة هي الشيء يستودعه واحد عند آخر بدون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4661 وثيقة عليه، ولا شهود. بل الأمر متروك إلى من عنده الأمانة، إن شاء أقر بها وإن شاء أنكرها؛ لأن الأمانة ليس عليها صك ولا عليها شهود. ولا عليها «كمبيالة» ، وغير محكومة بأي شيء إلا بذمة من ائْتُمن، والحق سبحانه تعالى يقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] . وكل الأجناس التي في الوجود ودون الإنسان من حيوان ونبات وجماد، كلها مُسخرة، ولا تملك الاختيار في أن تفعل أو لا تفعل. الشمس ليس لها اختيار في أن تقول: سأشرق اليوم على هؤلاء الناس، أو لن أشرق اليوم. والهواء لا يملك إرادة الاختيار، كل الكائنات التي أوجدها الله في هذا الوجود ما عدا الإنسان مسخرة للمؤمن وللكافر. ورفضت هذه الكائنات أن تحمل أمانة الاختيار، لكن الإنسان قال: أنا لي عقل يختار بين البديلات وأقبل تحمل الأمانة وسوف أؤدي كل مطلوبات الأمانة لأني أقدر على الاختيار. لكن الإنسان ادّعى لنفسه القدرة على أداء الأمانة. وكأنه قد وثق من نفسه أنه سيؤديها، وهو لا يعلم بأي شيء حكم ذلك الحكم على أمر غيبي مستقبلي. صحيح أنه ساعة التحمل كان في نيته أن يؤدي الأمانة، لكن ماذا عن ساعة الأداء؟ . وأنت لا تعرف ماذا تجيء به الأحداث والأغيار معك، فقد يأتي لك ظرف تضطر أن تبدد فيه الأمانة؛ لذلك تجد العاقل هو من يقول: ابعد عني أمانة الاختيار، لأني لا أعلم ماذا ماذا ستفعل بي الأغيار لحظة الأداء. وكل ما دون الإنسان أعلن عدم تحمل الأمانة وقبل التسخير، أما الإنسان فأعلن قبول الأمانة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4662 وأنه سيؤديها. ووصفه القرآن الكريم بقوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] . «ظلوماً» لنفسه لأنه حمّل نفسه شيئاً ليس في يده. و «جهولاً» لأنه قاس وقت التحمل ولم يذكر وقت الأداء. فلم يضع في الاعتبار ما سوف تفعل به الأغيار. ويقول الحق عَزَّ وَجَلَّ هنا: {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وكثير من التصرفات السلوكية للإنسان تكون مستترة عن أعين الخلق؛ لأن أعين الخلق حين ترى جريمة ما، فهي تستدعي رجال القانون ليأخذوا حق المجتمع من المجرم، لكن ماذا عن الجرائم المستترة؟ . نحن نعلم أن كل جريمة تطفو وتظهر واضحة إنما توجد تحتها جرائم مختفية؛ لأن الذي يقتل إنما يخفي جرائم أخرى؛ مثل شرائه السلاح بدون ترخيص، وإن كان لا يملك نقوداً فقد يسرق ليشتري السلاح، ثم يقوم بتجنيد غيره لمساعدته في القتل، وكل ذلك جرائم مستترة، وبالتأكيد هناك سلوكيات باطنة يأتي بعدها السلوك المقلق للمجتمع وهو الجريمة الظاهرة، وقصارى قانون البشر أن يحرس المجتمع من الجرائم الظاهرة فقط، لكن عين القانون لا ترى الجرائم الباطنة والخفية، أما عين الدين فتختلف، إنها ترشد الأعماق إلى الصواب؛ لأن الدين أمانة وضعها الحق - الذي خلق الخلق - في ضمير الإنسان. فإياك أن تخون الأمانة في الأمور السرية التي لا يعرفها أحد سوى الله؛ لأن الأمور التي يعرفها الناس يمكن أن تدافع عنها أمام هؤلاء الناس، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4663 بخلاف الأمور الباطنة وهي المهمة؛ لأنها هي التي تسيطر على إيجاد السلوك. فإياك أن تخون الله والرسول، وتخون الأمانة التي وضعت لك. ولا حجة لك - في ذلك - إلا اختيارك. إن شئت فعلت وإن شئت تركت، وعلى الإنسان ألا يخون الأمانة التي بينه وبين ربه وإذا لم تتوافر الحراسة الإيمانية من ضميره على الأعمال الباطنة قد ينحرف؛ لأن كل جريمة ظاهرة إنما تتم بتبييت أمرٍ باطن. وما دمت قد آمنت بالله تعالى ربّا بمحض اختيارك، فالتزم بالأشياء التي جاء لك بها من آمنت به، وأنت تعلم: أن الإيمان هو علة كل تكليف، وعلى سبيل المثال؛ أنت تصلي خمسة فروض لأن المشرع أمرك بذلك؛ تصلي في الصبح ركعتين، وفي الظهر أربع ركعات، وفي العصر أربع ركعات، وثلاث ركعات في المغرب، وأربع ركعات في العشاء؛ لأن المشرع وهو المولى سبحانه وتعالى أمرك بذلك. وأنت تصوم لأن الله أمرك أن تصوم، فإن أدركت من بعد الصيام أن فيه منافع لك، فهذا موضوع آخر، ومع ذلك تظل علة الصيام أن الله أمرك به، وهكذا تكون علة كل حكم هي الإيمان بمن حكم بهذا الحكم. {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} [الأنفال: 27] . وما الخيانة؟ . إن مادة الخيانة كلها الانتقاص؛ وضده التمام، والكمال، والوفاء. ويقابل كل ذلك الاختيان والغدر. فإذا كان الله يقول لنا: لا تخونوا الله والرسول، فعلينا أن نلتزم؛ لأن التشريع وصلنا من الله بواسطة الرسول، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله؛ لأن الله لم يخاطبنا مباشرة، بل خاطب رسولاً اصطفاه من خلقه وأيده بمعجزة. وكل بلاغ وصلنا إنما كان بواسطة الرسول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4664 {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} . فلا تخن الله فيما جاء في القرآن، وجاء من الرسول المفوَّض من الله بأن يشرع. وتشريع الرسول واتباعه جاء في قوله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . فلله أمانة فيما نص عليها قرآناً، وللرسول أمانة فيما لم ينص عليه القرآن إلا بتفويض قائل القرآن للرسول بأن يشرع، فإن أطعت هذا الرسول، فقد أطعت الله. وعرفنا أن الاختيانَ هو الانتقاص، ومعنى الانتقاص هو الوقوف بعيداً عن الكمال والإتمام المطلوب. والإنسان حين آمن يصبح للإيمان في النفس أمانة. فأنت قد آمنت أنه لا إله إلا الله، وأمانة هذا الإيمان تقتضيك ألاَّ تجعل لمخلوق ولاية عليك ولا ولاء له إلا أن يكون هذا الولاء نابعاً من اتباع منهج الله تعالى. وهذه هي أمانة الشهادة، أما أمانة الرسالة فهي الحرص على تطبيق كل ما بلغه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ربه قدر الاستطاعة. إذن فالأمانة مع الله تعالى أن تلتزم بكلمة الإيمان في أنه لا إله إلا الله، وإياك أن تعتقد في أن أحدا يمكنه أن يتصرف فيك، أو يملك لك ضرّاً أو نفعاً، أو أن مصالحك ممكن أن تقضى بعيداً عن الله، فكل شيء بيد الله سبحانه صاحب الحول والطول ولا إله إلا الله، وإياك أن تفهم أن حكماً يجيء لك عن غير طريق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنك إن خرجت عن هذا الإطار تكون إنساناً لم يؤد أمانة الله ولا أمانة الرسول. والقمة في الأمانة هي إيمان بالله، وإيمان بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4665 والله قد أمر بأحكام وحين تقبلها فلها أمانة، وأمانتها هي أداؤها من غير نقص في شيء سواء كان عاماً أو خاصاً، ولو في الحديث يجري أمامك، وتمتد أمانة الإيمان إلى كل شيء، مثل أمانة أي مجلس توجد فيه، فلا يحق لك ان تنقل أسرار غيرك إلى هذا المجلس أو أسرار المجلس إلى آخرين. ونعرف رجلاً من قادة العرب هو زياد بن أبيه وكان شديد الحزم، فوشى واش بهمام بن عبد الله السلولي إلى زياد، وتوقع القوم عقاباً صارماً بهمام؛ لأن زياداً كان يأخذ بالظن، لكن الله ألهم همَّاماً كلمة ظلت دستوراً يطبق، وحين استدعى زياد هماماً، قال زياد: بلغني أنك هجوتني. قال همام: كلا أصلحك الله. ما فعلت ولا أنت لذلك بأهل. فقال: إن هذا الرجل - وأخرج الرجل من الخباء - أخبرني. فنظر همام إليه فوجده جليساً وصديقاً ومؤنساً، فلما رآه كذلك أقبل عليه وقال: أنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً فخنت، وإما قلت قولاً بلا علم فأبت - رجعت - من الأمر الذي كان بيننا بمنزلة الخيانة والإثم، أي إما أنك خائن أو آثم، فإن كنت قد ائتمنتك على كلمة نفست بها عن نفسي فأنت خائن، وإن كنت اختلقتها عليّ فأنت كاذب، فأعجب زياد هذا المنطق، وأقصي الواشي ولم يتقبل منه. ويقال إنه خلع همام الصلة والعطايا. فكان همام حين يرى الواشي يقول له: هل لك في وشاية أخرى تغنيني؟!! وفي سيرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقائع حدثت في تاريخه حتى من بعض الصحابة، وعلى سبيل المثال: نحن نعلم أنه حينما قدم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة، جعل عهداً بينه وبين اليهود، فاستقام لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما استقاموا للعهد، فلما خالفوا هم العهد؛ أراد رسول الله أن يؤدبهم، فأدبهم، وكان أول ذلك في بني النضير وأوضح لهم أنه لن يقتلهم، بل سيكتفي بإخراجهم من ديارهم وإبعادهم إلى الشام. ثم حدثت خيانة من بني قريظة، وحاصرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مدة من الزمن. فبعثوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4666 إلى رسول الله من يقول: يا رسول الله إن بني قريظة يريدون ان تصنع بهم ما صنعته مع بني النضير، أي أن بني قريظة يعرضون ترك البلاد إلى الشام، فرفض الرسول ذلك إلا بعد أن يحكّم فيهم سعد بن معاذ، وكان يحب بني قريظة وبينه وبينهم صلة، وعرف بنو قريظة أن رسول الله يطمئن إلى حكم سعد بن معاذ فقالوا: لا ولكن أرسل لنا أولاً أبا لبابة، وهذه كُنْيته، أما اسمه فهو مروان بن عبد المنذر، وكان ماله في يد اليهود يتاجرون له فيه، أي أن بينه وبينهم صلةً مالية. ذهب أبو لبابة إلى اليهود، فاسْتَشاروه في الأمر متسائلين: أنرضى بحكم سعد بن معاذ؟ فماذا قال أبو لبابة؟ قال: إنه الذبح، وأشار إلى حلقومه، وبعد ذلك لام أبو لبابة نفسه وقال: والله ما جالت قدماي حتى تيقنت أني خنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولكن انظروا إلى الإيمان، ويقين الإيمان، وترجيح أمر الآخرة على أمر الدنيا، والنظر إلى أن افتضاح الإنسان في الدنيا أمر هين بالنسبة لافتضاحه في الآخره. ذهب إلى سارية المسجد - أي عمود في وسط المسجد - على مرأى ومشهد من الناس، وحكم على نفسه بأن يربط نفسه بالسارية بيده، وظل لا يَطْعَم ولا يَشْرَب سبعة أيام، حتى خارت قواه وغشي عليه وسقط، فعطف الله عليه، وأبلغه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن الله قد تاب عليه. فقالوا له: حل نفسك بنفسك لأنك أنت الذي ربطت نفسك، فقال: والله لا أحلها حتى يحلني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحله من السارية. لماذا فعل أبو لبابة ذلك بنفسه؟ لأنه شعر بأنه خان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أنه قال لليهود إنه الذبح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4667 وهناك صحابي آخر هو حاطب بن أبي بلتعة وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جمع أمره لفتح مكة وأراد أن يستر مقدمه حتى تفاجأ قريش. وتكون المفاجأة سبباً في عدم تولد اللدد وليتم الصلح. لذلك كتم الأمر، وبعد ذلك جلس رسول الله بين صحابته وأعلمه الله أن حاطبا قد أرسل إلى قريش يخبرها. فانتدب عليّاً ومعه صحابيان وأمرهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يذهبوا إلى مكان حدَّده لهم في الطريق إلى مكة ليجدوا فتاةً معها كتاب إلى قريش، فلما ذهبوا إلى المكان المحدد وجدوا الفتاة، فقال لها الإمام عليّ: أخرجي ما معك، فقالت: ليس معي شيء. فمسك عليّ بن أبي طالب عقيصتها وأخرج الكتاب من المكان الذي تخبىء فيه أشياءها، فوجد رسالة تحذير لقريش، وعاد عليّ - كرّم الله وجهه - بالرسالة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وسأل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حاطبا: ما حملك على هذا يا حاطب؟ قال: والله يا رسول الله لقد علمت أن ذلك لا يضرك في شيء، وأن الله ناصرك. . ناصرك، ولكني أردت أن أتخذ لي يداً عند قريش، لأنني رجل ضعيف ولا مال لي ولا أهل. فعفا عنه رسول الله صلى الله وسلم رغم أن هذا نوع من اختيان الرسول. ولكنْ عليك أن تعلم أن كل مخالفة لحكم قبلته من الله الذي آمنت به يعتبر خيانة للأمانة. {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] . أي لا تخونوا الله والرسول في المنهج ولا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وأنتم تعلمون، أي ألا يخون أحدكم قومه عن عمد، ويؤخذ من هذا القول ثبوت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4668 المغفرة في حالة الخطأ والنسيان، والممنوع أن تخون وأنت تعلم وتقصد، لكن إن حدث أمر بسبب فلتة لسان، فاعلم أن ربنا سبحانه وتعالى غفور رحيم، وله فضل عظيم، لا يأخذك بالسهو، وأنتم تعلمون بالفطرة أن مثل هذا الفعل رذيلة لا يقبل عليها إنسان كريم، ولو لم يكن متديناً، وعليك أن تقيس الأمر بمقياس واضح هو: أتحب أن يفعل أحد معك نفس ما تفعله مع غيرك؟ . وهذا سؤال تكون إجابته دليل الفطرة. فإن عرفت أن الفطرة ترفض الفعل ولا تقبله، فعليك ألا تفعله، لأنه مناف لهذه الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، وعلى سبيل المثال: إن اللص لو تخيل نفسه مسروقاً لما رضي أن يسرق، والمعتدي على العرض، لو تخيل أن هناك من يعتدي على عرضه لما اقترف الاعتداء على عرض الغير بهدف تحقيق شهوة في النفس. وما لا ترضاه لنفسك يجب عليك ألا ترضاه لغيرك. أتحب أن يخونك أحد في حديث أو في أمانة؟ لا؛ لذلك عليك أن تقيس كل أمر لا من الطرف الآخر، بل من طرفك أنت. إذن فقول الحق تبارك وتعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي متعمدون، غير ناسين أو ساهين، أو جاء الأمر كفلتة لسان؛ لأنكم إذا كنتم تعلمون، ففي ارتكاب هذه الأفعال خيانة والله ينهي عن ذلك فيقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] . ونلحظ أن الخطاب هنا لجماعة المؤمنين، وجاءت الأمانات أيضاً جماعة، وأنت حين تُفصِّل الأمانات المجموعة على القوم المخاطبين بذلك، تعلم أنَّ على كل إنسان تكليفاً محدوداً هو ألا يخون أمانته مثلما يقول الأستاذ للتلاميذ: أخرجوا أقلامكم. فعذا أمر لجماعة التلاميذ بأن يخرج كل واحد قلمه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4669 ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4670 وإذا بحثنا عن علاقة هذه الآية بالآية السابقة عليها نجد أن العلاقة واضحة؛ لأن خيانة الله، وخيانة الرسول، وخيانة الأمانات إنما يكون لتحقيق شهوة أو نفع في النفس، وعليك أن تقدر أنت على نفسك لأنك قد لا تقدر على غيرك، ومثال ذلك: أنت قد لا تقدر على مطالب أولادك، وقد لا يكفي دخلك لمطالبهم، فهل يعني ذلك أن تأخذ من أمانة استودعها واحد عندك؟ لا. هل يعني ذلك أن تخون في البيع والشراء لتحقيق مصلحة ما؟ لا. هل تخون أمانات الناس من أجل مصالح أولادك أو لتصير غنيّاً؟ . لا. وقد جاء الحق هنا بالأمرين، والأولاد وأخبرنا أنهما فتنة، والفتنة - كما علمنا من قبل - لا تذم ولا تمدح إلا بنتيجتها؛ فقد تكون ممدوحة إذا نجحت في الاختبار، وتكون مذمومة حين ترسب في ذلك الاختبار المبين في تلك الآية الكريمة. والمتتبعون لأسرار الأداء القرآني يعرفون أن لكل حرف حكمة، وكل كلمة بحكمة، وكل جملة بحكمة؛ لذلك نجد من يتساءل: لماذا قدم الحق تبارك وتعالى الأموال على الأولاد؟ . ونقول: لأن كل واحد له مال ولو لم يكن له إلا ملبسه. وبطبيعة الحال ليس لكل واحد أولاد. ثم إن الأبناء ينشأون من الزواج، ومجيء الزوج، يحتاج إلى المال؛ لذلك كان من المنطق أن يأتي الحق بالأموال أولاً ثم يأتي بذكر الأولاد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4670 وأساليب القرآن الكريم تتناول هذا الموضوع بألوان مختلفة؛ فيقول الحق سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} [آل عمران: 14] . وفي هذا القول نجد أن القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تأخرت هنا عن النساء والبنين. ولم يأت بذكر الأموال أولاً ثم الأولاد كفتنة. وعلينا أن ننتبه أنه سبحانه وتعالى جاء هنا بالقناطير المقنطرة، وهي تأتي بعد تحقيق الشهوة الأولى؛ وهي النساء، والزينة الثانية وهي الأبناء، ونعلم أن من عنده مال يكفيه للزواج والإنجاب قد يطمع في المزيد من المال، فإن كانت الوحدة من القناطير المقنطرة هي القنطار، فمعنى ذلك أن الإنسان الذي يملك قنطاراً إنما يطمع في الزيادة مثلما يطمع من يملك ألف جنيه في أن يزيد ما يمتلكه ويصل إلى مليون جنيه، وهكذا. إذن فالقناطير المقنطرة تعني الرغبة في المبالغة في الغنى. وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] . ويقول في آية ثانية: {ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم} [التغابن: 14] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4671 وفي هذا القول نجد أن العداوة تأتي من الأزواج قبل الأولاد، ونعلم أن الزوجة في بعض الأحيان هي التي تكره أولاً ثم يتأثر بكراهيتها ويتشبه بها الأبناء، وهذا كلام منطقي؛ لأن الذي يتكلم هو رب حكيم. {واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} . وفي هذا القول تحذير واضح: إياكم أن ترسبوا في هذا الاختبار؛ فمن يجمع المال من حرام لترف أبنائه فهو خائن للأمانة، وهذا له عقاب، ولذلك يذكرنا الحق تبارك وتعالى في آخر هذه الآية بما يحبب إلينا النجاح في الاختبار فيقول سبحانه: {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} . ونعلم أن النفس البشرية مولعة بحكم تكوينها الفطري من الله بحب النفع لنفسها، ولكن المختلف فيه قيمة هذا النفع؛ وعمر هذا النفع؛ لأن الذي يسرق إنما يريد أن ينفع نفسه بجهد غيره، ومن لا يسرق يريد أيضاً أن ينفع نفسه ليبارك الله له في المال وأن يعطيه الرزق الحلال. وهكذا تكون النفعية وراء كل عمل سواء أكان إيجاباً أم سلباً، والمثال الذي أضربه دائماً لذلك هو الطالب الذي يهمل في دروسه، ويوقظه أهله كل صباح بصعوبة، ثم يخرج من المنزل ليتسكع في الشوارع، والطالب الثاني الذي استيقظ صباحاً وذهب إلى مدرسته وانكب على دروسه، إنَّ كلاً من الطالبين قد أراد نفع نفسه، الفاشل أراد النفع الأحمق، والناجح أراد النفع في المستقبل. ونعرف أن النفع غاية مطلوبة لكل نفس. والمهم هو قيمة النفع، وعمر النفع. فإذا كانت الخيانة ستؤدي لك نفعاً في أولادك أو أموالك؛ فاذكر ما يقابل الأمانة من الأجر عند الله عَزَّ وَجَلَّ، وضع هذه في كفة، وضع تلك في الكفة الأخرى، وانظر أي كفة ترجح، ولا بد أن ترجح كفة الأجر عند الله عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4672 ولذلك قال المتنبي: أرى كلنا يبغي الحياةَ لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صبًا فحُبُّ الجبانِ النفسَ أوْرَده التقى ... وحُبُّ الشجاعِ النفسَ أوْرَده الحَرْبَا فكلنا نحب الحياة؛ الجبان الخائف من الحرب يحب الحياة، والشجاع الذ يحب نفسه ويعلم قيمتها عند خالقها يخوض الحرب رغبة في حياة الاستشهاد، وهي حياة عند الله إلى أن تقوم الساعة، ثم تتلوها حياة الجنة حيث يخلد فيها أبداً. إذن فالمعيار الذي نقيس به النفع هو محل الاختلاف. وفي عرف البشر نجد أن الأجر يساوي قيمة العمل، لكن الأجر عند الله لا يساوي العمل فقط، بل هو عظيم بطلاقة قدرة الحق سبحانه وتعالى: ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4673 ويستهل الحق تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة بنداء الإيمان، ثم يضع شرطاً هو: {إِن تَتَّقُواْ الله} ، ويكون جواب الشرط أن يجعل لنا فرقاناً، ويكفر عنا السيئات، ويغفر لنا وسبحانه هو الكريم وصاحب الفضل العظيم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4673 والمراد بالتقوى هنا أن تكون التزاما بالأحكام؛ وقمة الالتزام بالأحكام هي الإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ، وإذا وجد الاثنان؛ الإيمان بالله والالتزام بالأحكام، لا بد أن يتحقق وعد الله المتنثل في قوله تعالى {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم} [الأنفال: 29] . والفرقان من مادة «فرق» «الفاء والراء والقاف» ، وتأتي دائماً للفصل بين شيئين، مثلما ضرب موسى البحر بعصاه فكان كل فِرْق كالطود العظيم. وسبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50] . أي نزع الله سبحانه الاتصال بين متصلين فصار بينهما فرق كبير. وافرض - على سبيل المثال - أنك أحضرت ثوباً من قماشٍ مُتَساوٍ في النسيج واللون، ثم شققت من الثوب جزءاً منه؛ هنا لا يقال إنك فرقت بين القطعتين، بل فصلت بينهما، لكن لا يقال فِرْق إلا إذا كان الفصل يؤدي إلى فرقتين؛ فِرقة هنا، وفِرقة هناك وهذه أشياء ومتعلقات، وتلك لها أشياء ومتعلقات. إذن فالفرق ليس هو الفصل بين متلاحمين فقط، بل هو فصل يؤدي إلى أن يكون لكل فرقة منهج، ومذهب، ورأي. و {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} أي يفصل بين شيئين لم يكن يوجد بينهما اتفاق؛ لأنه لو كان بينهما اتفاق لصارا فرقة واحدة، لكن لأنهما مختلفات لذلك لا بد من وجود تناقض بينهما. وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: إنه يجعل لكم فرقاناً، مثال ذلك، هناك من يهتدي، وهناك من يضل. وبطبيعة الحال يوجد فرق بين الهدى وبين الضلال. فالله شرح صدر المتهدي للإسلام، وجعل صدر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4674 الكافر ضيقاً حرجا؛ فيه غل وحقد وحسد ومكر، وخديعة؛ لذلك يفصل ربنا بين من بقلبه طمأنينة الإيمان وبين من يمتلىء صدره بالضغينة، فالمؤمن من فرقة تختلف عن فرقة أصحاب القلوب الحقودة. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29] . أي أنه سبحانه وتعالى يفصل بينكم أو يفصل بين عموم الحق وعموم الباطل؛ لأنه يريد أن تكون حركة الحياة وحدة متكاملة منسجمة، لا يسودها هوى جماعة ضد جماعة لها هوى آخر؛ لأنهم كلهم خلفاء لله في الأرض، وكلهم مخلوقون لله، وكلهم متمتعون بخيرات الله؛ لذلك يجب أن تكون حركاتهم متساندة ومتناسقة غير متعاندة. والتفرق - كما نعلم - إنما ينشأ عن اشتباك؛ بين فريقين اثنين، واحد منهما يمثل فريق الهدى، والثاني هو من حق عليه عذاب الله. {إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29] . ويتمثل الفرقان في هدى القلب، والبصيرة والعلم؛ وأي شيء يفصل بين الحق والباطل، وأحوال الإنسان - كما نعلم - قسمان: أحوال الدنيا، وأحوال الآخرة، وأحوال الدنيا فيها أمور قلبية مستترة، وفيها أمور ظاهرة، وإن نظرنا إلى حالات الدنيا نجد منها الظاهر وهو الحركة المحسة، ومنها القلبي الذي لا يعرفه من بعد الله إلا صاحب القلب. والفرقان في أحوال الدنيا القلبية تلمسه حين تجد من اهتدى، ومن ضل؛ ونجد أن المهتدي قد شرح ربنا صدره للإسلام. ونجد أن الضال هو من لم يشرح الله صدره للإسلام والمهتدي يعيش ضمن الفريق الذي لا غل فيه ولا حقد، والضال هو من يعيش في فريق يتصف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4675 بالغل والحقد، هذا في الأمور القلبية. أما في الأعمال الظاهرة، فالحق يجعل الفرقان بين أهل الإيمان وأهل الكفر؛ بالنصر، والغلبة، والعزة. وماذا عن الفرقان في الآخرة؟ . إن الحق يجعل الفرقان في الآخرة بحيث يكون لأهل الإيمان النعيم المقيم والثواب العظيم، ويجعل لأهل الكفر العذاب الشديد والمقت الكبير. {إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: 29] . وإذا كنا سنتقي الله فهل سيكون لنا سيئات؟ . وأقول: إن أردت بقوله: {إِن تَتَّقُواْ الله} إيماناً به، فسبحانه يُكَفِّر عنكم سيئاتكم؛ صغائرها وكبائرها. ولا يضر مع الإيمان معصية، بل تدخل في عفو الله وغفرانه. وإن أردت بالتقوى «التزام أمر» فتكفير السيئات يعني أن نتقي الله بترك الكبائر فيكفر عنا السيئات وهي الصغائر. والتكفير على نوعين؛ أولا أن يسترها عليك في الدنيا، أو يذهب عنك عقوبة الآخرة، ولذلك يقول سبحانه في ختام جميل للآية: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم} [الأنفال: 29] . وحين يوصف الفضل بأنه عظيم، فمعنى ذلك أنَّ هناك فَضْلاً أقل من عظيم، كما أن هناك فَضْلاً يعلوه تميزاً. نعم، ونعلم أن التفاضل موجود عند البشر؛ هذا يتفضل على هذا بطعام، أو يتفضل عليه بِمَلْبَس، أو يتفضل عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4676 بشراب، أو يتفضل عليه بمسكن، أي أن هناك أنواعاً متعددة من الفضل، لكنها لا توصف بالعظمة؛ لأن الفضل العظيم يكون من الله تعالى فقط لأنه سيؤول إليه كل فضل من دونه، فمن أعطى آخر رغيف خبز فلنعلم أن وراءه من أحضر الخبز من المخبز، ووراءه من جاء بالدقيق من المطحن، ووراءه من زرع وحصد. إذن كل فضل هو من الله ومآله مردود إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا هو الفضل العظيم. وأيضاً نجد أن الذي يتفضل على واحد لا بد أنه يبغي من وراء هذا الفضل شيئاً، مثل كمال الذات، وأنه يود الحمد والثناء، ويبغي راحة نفس إنسانية، ونرى أناساً يؤدون الفضل لغيرهم ليقللوا من آلامهم، لا لأنهم يطبقون منهج الله، بل يرغبون في مجرد راحة النفس، مثل الكفار الذين يصنعون أشياء تفيد الناس، فهم يفعلونها وليس في بالهم الله، بل في بالهم راحة النفس وانسجامها. إذن فالذي يتفضل إنما يريد شيئاً، إما كمال مال أو ثناء وإطراء، وراحة نفس من مناظر الإيلام التي يراها، وهذا دليل على أنه يعاني من نقص ما ويريد أن يكمله. فإذا كان الله عَزَّ وَجَلَّ هو صاحب الفضل، ألله نقص في كمال؟!! لا. إذن فهذا هو الفضل العظيم ويمنحه لعباده تفضلاً منه دون رغبة في كمال أو ثناء، وأيضاً فكل فضل من دون الله يتضمّن المنّ، لكن فضل الله تعالى ليس فيه منّ وليس فيه ذِلة لأحد. وقد يستنكف إنسان أن يأخذ شيئا من إنسان آخر. لكن من الذي يستنكف على فضل الله؟ . لا أحد. لأنَّ الحياة كلها هبة منه، ولذلك يُضرب المثل بالفتاة التي قالت لمعن بن زائدة: فَعُدْ إنَّ الكريَم له معاد ... وظنِّي بِابْن أروى أن يعودا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4677 وكانت الفتاة تطالب ابن زائدة أن يعود إلى التفضل عليهم، فنهرها أبوها، فقالت له: يا أبي إن الملوك لا يُسْتَحَى من الطلب منهم. {والله ذُو الفضل العظيم} [الأنفال: 29] . ويريد الحق سبحانه وتعالى أن تنتبه إلى أن كل مظهر من مظاهر وجودك في الحياة ومظاهر استبقاء حياتك، ومظاهر نعيمك كلها، إن نسبتها فستصل إلى الله، فإن كنت تشتري - على سبيل المثال - أثاثاً لبيتك، واخْتَرت خَشَب الورد ليكون هو الخشب الذي يصنع لك منه النجار هذا الأثاث، فأنت تأتي بهذا الخشب من أندونيسيا أو باكستان مثلاً؛ لأن الغابات هناك تنتج مثل هذا النوع من الخشب، وكل شيء في حياتك إن سلسلته ستجد أن أيدي المخلوقات من البشر تنتهي عند خلق لله وهبه للإنسان، وهذا هو الفضل العظيم من الله تبارك وتعالى. وبعد أن أوضح الحق سبحانه وتعالى بهذا التوجيه: لا تخونوا الله، ولا تخونوا الرسول، ولا تخونوا أماناتكم، من أجل أولادكم أو أزواجكم، واعلموا أن مرد كل الفضل إلى الله تعالى، واذكروا واقع الدنيا معكم، أصدقت هذه المسائل أم لم تصدق؟ لقد صدقت كلها، كما قال الحق سبحانه وتعالى من قبل: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} [الأنفال: 26] . وكان هذا القول بالنسبة للمسلمين، فماذا عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ . هنا يقول المولى سبحانه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4678 {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4679 ونلحظ أنه سبحانه وتعالى لم يأت بمادة الذكر في جانب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولم يقل له: واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا؛ لكنه في جانب الصحابة جاء بمادة الذكر حيث قال: واذكروا إذ أنتم قليل، فما السبب؟ ذلك لأنه لا يطرأ على البال أن يغفل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذكر الله تعالى؛ لأن الذكر هو مهمته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وسبحانه وتعالى القائل: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] . هذا الذكر والتذكير هما وظيفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويختلف هذا عن مهمة الإيمان في حياة المؤمنين؛ لأن الإيمان بالنسبة لهم إنما ليعدل من حياتهم. لذلك جاء هنا بالظرف فقط. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] . وهذا كله شرط وحيثية لقولة تعالى: {والله ذُو الفضل العظيم} [الأنفال: 29] . والمكر هو التَّبْييت بشيءٍ خفِيً يضرّ بالخَصْم. والذي يمكر ويبيت شيئاً خفيّاً بالنسبة لعدوه، لا يملك قدرة على المواجهة، فيبيت من ورائه، ولو كانت عنده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4679 قدرة على المواجهة فلن يمكر؛ لذلك لا يمارس المكر إلا الضعيف. ونجد ربنا سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76] . ثم نجده سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] . وما دام كيدهن عظيما فضعفهن أعظم. ولذلك نجد الشاعر العربي يقول: وضعيفة فإذا أصابَتْ فرصةً ... قَتَلتْ كذلك قُدْرَةُ الضُّعفاءِ لأن الضعيف إن أصاب فرصة استغلها حيث يظن أنه قد لا تتاح له فرصة ثانية؛ لذلك يندفع إلى قتل خصمه. أمَّا القوي فهو يثق في نفسه وقدراته ولذلك يعطي خصمه فرصة ثانية وثالثة، ثم يعاقب خصمه على قدر ما أساء إليه. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] . أي يذكرون الكيد والتبييت لك بالمكر، لكنهم لا يعلمون أن مَنْ أرسلك يا رسول الله لا تخفى عليه خافية، فقد يقدرون على المكر لمن هم في مثلهم من القدرة، لكنك يا رسول الله محاط بعناية الله تعالى وقدرته وحامل لرسالته فأنت في حفظه ورعايته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4680 إذن فلست وحدك لأنك تأوي إلى الله، ويكشف الله لك كل مكرهم، وهذا المكر والتبييت مكشوف ومفضوح من الله؛ لذلك يقول لك المولى سبحانه وتعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] . والمكر منهم له وسائل وغايات، هم يمكرون ليثبتوك، ويمكرون ليقتلوك، ويمكرون ليخرجوك. وكل لقطة من الثلاثة لها سبب. فحين علم كفار قريش أن أهل المدينة من الأوس والخزرج قد بايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أن ينصروه؛ هنا فزع كفار قريش وأرادوا أن يضعوا حّداً لهذه المسألة، فاجتمعوا في دار الندوة يريدون أن يجدوا حلاً يوقف رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ودخل عليهم أعرابي فوجدهم يتشاورون؛ وقالوا لنثبته، والتثبيت ضد الحركة، وقوله: «ليثبتوك» أي ليقيدوا حركتك في الدعوة؛ لأن هذه الدعوة تزلزلهم. ولولا الرسالة، لظلوا على الترحيب بك يا رسول الله، فقد كنت في نظرهم الصادق والأمين، ولم يرهقهم إلا التحرك الأخير لإشاعة منهج الله تعالى في الأرض، لذلك أرادوا أن يقيدوا حركته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والتقييد إما أن يكون بأن تمنع المتحرك عن الحركة، وإمّا أن تقيد المتحرك نفسه فتحدد مجال حركته. إذن فالتثبيت يكون بالقيد أو السجن، وقيل لهم: إن هذا رأي غير صائب لأنكم لو قيدتموه أو سجنتموه فسوف يقوم قومه ويغيرون عليكم، أو يحتالون ليفكوا عنه القيد أو السجن، وقد سبق لكم أن حاصرتموه فلم تفلحوا، وقال آخر: نخرجه من بلادنا، وناقشوا هذا الأمر فلم يجدوه صواباً، وقالوا: إنه إن خرج، فلسوف يؤثر فيمن يخرج إليهم تأثيراً يجعل له منهم أتباعاً، يأتون إلينا من بعد ذلك ليقاتلونا، وأشار الأعرابي بقتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن كبار قريش قالوا: نخاف من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4681 قومه أن يأخذوا بثأره، فاقترح أبو جهل قائلا: نأخذ من كل قبيلة من قبائلنا فتى جلداً قويّاً، وبعد ذلك يذهبون إلى محمد وهو في فراشه ويضربونه ضربة رجل واحد، فإذا مات تفرق دمه في القبائل، ولن تستطيع قبيلة محمد أن تواجه القبائل كلها، فيرضون بالدية، وندفعها لهم وننهي هذا الأمر. هكذا ناقش القوم تثبيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتقييد حركته أو إخراجه من بلده أو قتله، وكل هذا بمكر وتبييت. وكشف الله لرسوله كل ذلك وأخرجه من مكة مهاجراً إلى المدينة ليوضح لهم أنه سبحانه خير الماكرين حقّاً وصدقاً. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4682 وقول الحق: «آياتنا» يعني آيات القرآن؛ لأننا عرفنا من قبل أن الآيات إما أن تكون الآيات الكونية التي تلفت إلى وجود المكوِّن الأعلى مثل الليل والنهار والشمس والقمر، وإمّا أن تكون الآيات بمعنى المعجزات: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها} [الأعراف: 203] . وهذه الآيات المعجزة علامة على أنه صادق. أو الآيات التي هي قسط من القرآن وهو المنهج. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4682 وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [الأنفال: 31] . ونفهم من التلاوة أن المقصود هو آيات القرآن الكريم. فماذا قالوا؟ {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 31] . وقولهم: «لو نشاء» هذا يدل على أنهم لم يقولوا؛ لأن «لو» حرف امتناع لامتناع، مثلما تقول: لو جئتني لأكرمتك، فامتنع الإكرام مني لامتناع المجيء منك، فهذا يعني امتناع لامتناع، ومثلما يقول قائل: لو عندي مال لاشتريت قصراً، ولأنه لا يملك مالاً، فهو لم يشتر القصر - إذن هم لم يشاءوا ولم يقولوا؛ لذلك كان كلامهم مجرد «تهويش» وتهديد لا محل له. فلم يحصل منهم هذا ولا ذاك. إذن ثبت الإعجاز. لقد ثبت لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طلب منهم أولاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وحين قالوا: إن القرآن كثير ولا يقدرون أن يأتوا بمثله، تحداهم بأن يأتوا بعشر سور، وحين فشلوا، تحداهم بأن يأتوا بسورة، فلم يأتوا، وكان هذا تدرجاً في الإعجاز. لقد تحداهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومعنى التحدي حفز المُتَحدّى أن يُجند كل ما يقوى عليه ليرد التحدي. فإن لم تتجمع لهم المواهب التي تكفل قبول التحدي انسحبوا؛ لكن واحداً منهم «النضر بن الحارث» ذهب لفارس، ورأى كتاباً هناك يضم أساطير وحكايات، وجاء ليقول وسط قريش: هأنذا أقول مثل محمد. لكن كلامه لم يكن له هدف ولا يحمل منهجاً ولا توجد لكل كلمة فيه قدرة جذب لمعنى، ولم يوجد في قوله أي معنى جاذب للكلمة، لذلك انصرف عنه القوم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4683 {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [الأنفال: 31] . وهذا قولهم، وسبق أن اعترفوا بأنه قرآن، وسبق لهم أن قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 90 - 93] . وحين نقرأ هذه الآيات الكريمة ونقوم بتعداد ما طلبوا منه، نجد أنهم طلبوا تفجير الأرض بينبوع ماء، وطلبوا أن تكون له جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، وطلبوا أن تسقط السماء كما زعم عليهم كسفا، وطلبوا أن يأتي بالله والملائكة قبيلا، وطلبوا أن يكون له بيت من زخرف، وطلبوا أن يرقى في السماء، وكل هذا كلام طويل أثبته القرآن الكريم، فهل ما قالوه يعد قرآنا؟ لا، ولنلتفت إلى دقة أداء القرآن، فلم يقل كل هذه الطلبات إنسان واحد، بل قال كل منهم طلباً، وبأسلوب مختلف، ولكن بلاغة القرآن الكريم جمعت كل الأساليب فأدتها بتوضيح دقيق وبإعجاز بالغ، ولذلك لنا أن نلتفت أننا ساعة نسمع نقلا لكلام الغير من القرآن، فعلينا ألا نأخذه على أن هذا الكلام الذي قيل هو معانٍ قيلت، وجاء القرآن الكريم بها بأسلوب الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4684 وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - إذا جئت لابنك وقلت له: يا بني اذهب إلى عمك فلان وقل له: إن أبي يدعوك غداً مساءً لتناول العشاء معه؛ لأن عنده ضيوفاً ويحرص على أن تشاهدهم ويشاهدوك وتقوي من مكانته. وحين ذهب الولد لعمه، هل قال له نفس الكلام؟ طبعا لا؛ لأن الأب قد يكون متعلماً، ولا يستطيع الابن أن يقول ذات الكلمات. أو قد يكون الأب أميّاً، والابن مثقفا ناضجا فينقل الابن رسالة أكثر بلاغة. إذن فأنت إذا سمعت أو قرأت كلاماً من غير الله على لسان أحد، فاعلم أن هذا أداء الله لمطلوبات المتكلم. {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [الأنفال: 31] . والأساطير جمع أسطورة، أي الحوادث والأحاديث الخرافية مثل ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والإلياذة وغيرها من كتب الأساطير. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4685 و «إذ» تأتي للظرف أيضاً، ولم يقل سبحانه وتعالى: واذكر أن قالوا، بل قال: «إذ قالوا» . وقد بلغ بهم العجز إلى أن قالوا إن كان هذا القرآن هو الحق القادم من عندك فأمطر علينا حجارة، أو ائتنا بعذاب أليم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4685 أليس هذا الكلام دليلاً على غباء قائليه؟ بالله لو كان عندهم عقل ومنطق وتفكير، أكانوا يقولون ذلك؟ ألم يكن من المناسب أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، أو فاجعلنا نقبله؟ . وما داموا قد قالوا: «اللهم» فالمنادى هو الله. {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] . إذن هم يعلمون أن لله عَزَّ وَجَلَّ عنديةً، وفيها حق، وهكذا نرى أنهم اعترفوا بوجود الله، وأنَّ عند الإله حقًا. فكيف إن جاء إنسان وقال لكم: إنني رسول من عند الله، وهذا هو المنهج، وهو منهج ومعجزة في وقت واحد، ألم يكن من الواجب أن تستشرف آذانكم إلى من يبلغ عن الله هذا الحق وأن تستجيبوا له؟ . لكن ما داموا قد استمطروا على أنفسهم اللعنة والعذاب، فهذا دليل كراهيتهم لمحمد، ومن أجل هذه الكراهية دعوا الله أن ينزل عليهم العذاب كما فعل بالأمم السايقة - وطلبهم هذا للعذاب يدل على أنهم علموا أن من يكذب الرسل ويرفض المنهج إنما يتلقى العذاب من الله. وهكذا يتبين لنا أن ما ينقصهم لإعلان الإيمان هو عدم قبولهم لرسول الله شخصياً، ويتمثل هذا في قول الحق تبارك وتعالى في آية أخرى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . إذن لو أن القرآن نزل على شخص آخر؛ لآمنوا به. وفي هذا اعتراف بأن القرآن معجزة، ومنهج. وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ورد على لسان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4686 أبي جهل وهذا يدل على كثرة جهله وشدة تكذيبه وعناده وعتوه هو ومن معه من المشركين المكذبين. فعن أنس بن مالك: قال أبو جهل بن هشام: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فنزلت: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وهؤلاء المعاندون قالوا أيضا: {أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 92] . وهذا دليل على التخبط في الكلام، وفقدان الوعي العقلي. {أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . والحق سبحانه وتعالى قادر على أن يصيب بالعذاب قوماً بعينهم وقادر على نجاة المؤمنين، وشاء الله سبحانه ألا ينزل العذاب؛ لأن رؤية المتألم حتى ولو كان عدوّاً، فيه إيلام - لذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4687 لأن سنة الله مع خلقه المكذبين للرسل، أنه سبحانه وتعالى قبل أن ينزل العذاب يخرج الرسول والمؤمنين به، مثال ذلك أمْره نُوحاً عليه السلام بأن يصنع السفينة؛ لينجو من الطوفان. وكل رسول لم تستجب أمته أصابها شيء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4687 من هذا، وعلى ذلك يخرج الرسول أولا، ثم ينزل الحق عذابه، كما أنه يقول سبحانه وتعالى موضحا فضل اللجوء إلى الله بالاستغفار: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] . وهم إن استغفروا الله فمعنى ذلك أنهم آمنوا به، ولكن الحق جاء بهذا القول ليدلهم على المنقذ الذي يخلص الإنسان منهم من جريمة الكفر، وفي ذلك رحمة منه سبحانه وتعالى، وكأنه يحضّهم على أن يستغفروا حتى لا ينزل بهم العذاب. ويرسم لهم وسيلة النجاة. {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . وتسمى اللام في «ليعذبهم» ب «لام الجحود» ، نجحد أن يعذبهم الله وفيهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إذن فوجود الرسول فيما بينهم أمر له تقدير خاص، أما هم فالحق تبارك وتعالى يقول بشأنهم: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] . وهكذا نرى الحقائق الإيمانية، فالنفس المؤمنة الصافية حين يكون لها عدو، ثم تحل بالعدو مصيبة، لا تأتي أبداً كلمة الشماتة على بال المؤمن، هذا هو الخلق الإيماني الذي قد يؤلمه مظهر الضعف والمهانة للعدو، فيضنّ الله على أن يعذب قوماً وفيهم من يستغفر، وكأنه يُوضَّح لنا: هب مسيئنا لمحسننا، أي أن يداري المحسن على المسيء. ولذلك نجد «أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صلح الحديبية صُدَّ عن البيت الحرام، وهذا الصد تسبب في أنهم يعقدون معه معاهدة هي صلح الحديبية، وكان هناك من المؤمنين من يعارض هذه المعاهدة، ومنهم من قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ . والقائل لذلك هو عمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4688 ابن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وفي التفاوض، جاء علي بن أبي طالب ليكتب المعاهدة وفي بدئها» هذا ما صالح عليه رسول الله «فاعترض المفاوض عن معسكر الشرك قائلاً: لو كنا مؤمنين بأنك رسول الله لما حاربناك، بل اكتب:» هذا ما تعاهد عليه محمد بن عبد الله «، فامتنع عليّ عن الكتابة، وقال: لا أكتبها إلا رسول الله. فأمره الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكتبها كما يقولون لينهي الموقف، وليعطي معجزة، فينظر لعلي وهو مغتبط به، فيقول له: » اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد «ويتحقق ذلك بعد حياة النبي، وخلافة أبي بكر، وخلافة عمر، وخلافة عثمان، ثم تجيء الخلافة لعلي وحدث فيها ما حدث. ويتحقق قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: » اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد « أي سيقفون منك موقفاً مثل هذا وسوف تقبله، ولما جاء الخلاف بين معاوية وجنوده، وبين علي وجنوده، أرادوا أن يوقعوا معاهدة فيما بينهم ليمنعوا النزاع بين المسلمين، فقال علي - كرم الله وجهه -: هذا ما تعاهد وتعاقد عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقال المفاوض عن معاوية: لو كنت أميرا للمؤمنين أكنّا نحاربك؟ ، فتذكَّر علي كرم الله وجهه ما قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم صلح الحديبية: «أُكتب فإن لك مثلها ... . . إلخ» . ومعنى ذلك أن السياسة تقتضي ألا تتجمد كمن يكون في قالب حديدي، بل تفترض السياسة فيمن يعمل بها شيئاً من الليونة وبعد النظر لتنتهي المواقف الصعبة؛ لأن كل طرف لو أصرّ على موقفه لما وقعت المعاهدة، وكانت معاهدة صلح الحديبية مطلوبة ومناسبة ليتفرغ المسلمون - بعد الأمن من قريش - للدعوة إلى منهج الله في الأرض، وهذا ما حدث خلال السنوات العشر التي تلت هذه المعاهدة، وانتشر الإسلام في ربوع الجزيرة العربية، ومن بعدها إلى آفاق الأرض كلها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4689 إذن فوليّ الأمر عليه أن يملك البصيرة التي لا تجعله جامداً، لأنه لو تجمد لأنهى الخير الموجود فيه وفي قومه، وهكذا أراد رسول الله أن يعلمنا عدم الجمود بصلح الحديبية على الرغم من أن بعض المسلمين ومنهم عمر ابن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قالوا: لا، علام نعطي الدنية في ديننا؟ وبعضهم قالوا متسائلين، بل وعاتبين: ألم تعدنا يا رسول الله أننا سندخل البيت الحرام؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أقلت لكم هذا العام؟ . ولم ينتبه المسلمون حين سمعوا ذلك إلى أهمية أن تنضج القرارات السياسية لتأخذ طريقها إلى التنفيذ. وكادت الفُرقة أن تحدث بين المسلمين، ودخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى زوجه أم سلمة مكروباً. وقال لها: يا أم سلمة هلك المسلمون. أمرتهم فلم يمتثلوا. ونرى موقف أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وهي الزوجة الأمينة المشيرة الناصحة، لقد قالت: يا رسول الله إنهم مكروبون، لقد جاءوا وفي نيتهم أن يذهبوا إلى البيت الحرام بعد طول فرقة واشتياق، ثم حُرموا من ذلك وهم بمرأى من البيت، ولكن قم يا رسول الله فاعمد إلى ما أمرك الله به، ولا تقل لهم شيئاً، بل اذبح هديك، وهم إذا رأوك فعلت فَعَلوا. وبالفعل خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذبح الهدي، وفعل المسلمون مثله. ونجد سيدنا أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول عن الحديبية: هي الفتح في الإسلام. وما كان فتح الحديبية، ولكن الناس لم تتسع ظنونهم إلى السر من الله. والعباد دائماً يعجلون، والله لا يعجل بعجلة عباده حتى تبلغ الأمور ما يراد لها. وقد كان المخالفون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غيورين على دينهم، على قدر علمهم لا علم الله. وشاء الحق تبارك وتعالى أن يبين لهم السبب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4690 في أنه لم يجعل من الحديبية أرض قتال أو التحام؛ فقال: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] . نعم فقد كان هناك مؤمنون ومؤمنات يختفون بين الكفار، فلم يكن في مكة قبل الفتح - حيّ للمسلمين الذين يخفون إيمانهم، وحيّ للكفار، بل كان الناس يسكنون معاً، فإذا ما قامت الحرب بين أهل مكة وبين الجيش القادم إلى الحديبية، لقتل المسلم أخاه المسلم الذي لم يعلن إسلامه، ولو أمكن التفريق بين المسلمين الذين لم يعلنوا إسلامهم وبين الكفار، لعذب الله الكفار بأيدي المؤمنين عذاباً أليماً. وهنا في هذه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] . ويعني بذلك أن بعضهم هو الذي يستغفر فيمنع الله عَزَّ وَجَلَّ العذاب عن الكل، مثلما منع تعذيب الكافرين بصلح الحديبية؛ لأن هناك مؤمنين مستخفين فيما بينهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4691 ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4692 وهنا نتساءل: أي شيء يمنعهم من أن يعذبهم الله؟ . إن تعذيبهم هو عدالة؛ لأنهم فعلوا ما يستحقون عليه التعذيب. لقد صدوا الرسول والمسلمين عن زيارة المسجد الحرام؛ لأنهم ظنوا أن لهم الولاية عليه، رغم أن منهم من سمع خبر أبرهة الأشرم حين جاء بالأفيال ليهدم الكعبة. واستولى أبرهة الأشرم على مائة من الإبل كانت لسيد قريش عبد المطلب جد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فذهب إليه عبد المطلب وقال له: إنك قد أصبت لي مائة بعير فأرجو أن تردها إليّ. فقال أبرهة الأشرم: جئت لأهدم بيتكم، وبيت آبائكم، ثم لا تكلمني فيه وتكلمني في مائة من الإبل أصبتها منك؟ فقال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل، أما البيت فله رب يحميه. وهذه كلمة لا يقولها إلا واثق من أن للبيت الحرام ربّاً يحميه. وجاءت طير أبابيل ترمي بحجارة من جهنم فجعلته هو وجيشه كعصف مأكول. إذن فكيف تصد قريش محمداً والمؤمنين معه عن البيت الحرام، وهم بإقرار سيدهم قديماً يعلمون أنَّ للبيت ربّاً يحميه، فكيف تكون لكم على البيت ولاية؟ وكان عليهم أن يعلموا أن ولاية أمر بيت الله باختيار الله ولا تكون إلاَّ للمتقين، ولم تكن قريش من المتقين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4692 وحيثيَّات التعذيب إذن هي صدهم عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه. لماذا؟ {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34] . وإذا كان أكثرهم لا يعلم، فأقلهم يعلم علم اليقين حقيقة البيت الحرام، فقداسة هذا البيت التي تعلمها الأقلية ونسيتها الأكثرية من كفار قريش هو قول الحق تبارك وتعالى على لسان سيدنا إبراهيم: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات} [إبراهيم: 37] . لقد جعلهم الله عَزَّ وَجَلَّ في هذا المكان ليقيموا الصلاة؛ لأنه سبحانه وتعالى يحب أن يعبد في الأرض ولو بواحد في هذا المكان، ولتظل عبادته دائمة. ومهما علت فئة من البشر مثل قريش فهي بصدها عن البيت الحرام قد اتبعت أهواءها، وسبحانه يحقق ما يريد، فهزم قريشا ونصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعادت للكعبة حرمتها وصارت مكانا للعبادة لله بصفة مستمرة. وإننا نجد تشريعات الحق سبحانه في أوقات الصلاة، فالصبح عند قوم هو ظهر عند قوم آخرين، والظهر عند قوم هو صبح عند قوم آخرين، والعصر عند قوم هو صبح أو ظهر أو مغرب أو عشاء عند أقوام آخرين، وهكذا نجد كل أجزاء النهار مشغولة بأوقات الاتجاه إلى الله، وهناك في كل لحظة من يتجه إلى بيت الله الحرام بصلاة ما في ميقاتها، ولا تخلو بقعة في الأرض من قول: «الله أكبر» ، وقد تم بناء البيت الحرام من أجل هذه الصلاة. لكن قريشاً حولت الصلاة من خضوع وخشوع وعبادة لله تعالى واستحضار لعظمته وجلاله إلى ما يقول عنه الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4693 {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4694 حيث كانت صلاتهم مظهرا من مظاهر اللهو واللعب يؤدونها بالمكاء والتصدية، والمكاء هو التصفير الذي يصفرونه، والتصدية هي التصفيق، وكانت صلواتهم هي صفير يسبب صدى للآذان، بالإضافة إلى التصفيق بإيقاع معين، فكيف تكون الصلاة هكذا؟ . وكيف يصدون عن البيت الحرام ولا ولاية لهم عليه؛ لأن الذي يلي أمر البيت الحرام لا بد أن يكون متقياً لله، لكن هؤلاء لم يكونوا أهلاً للتقوى؛ لأنهم لم يقوموا بالصلاة المطلوبة للبيت الحرام والتي يجب أن يذكر فيها الله ويُعبد؛ لذلك كان التعذيب لمن أصر على ذلك بعد أن نزل منهج الله الخاتم على سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ... . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4694 ويبين المولى في هذه الآية أن هؤلاء المشركين قد كفروا بالله وصرفوا المال ليصدوا عن سبيل الله فلم يتحقق لهم ما أرادوا ولم يأت ذلك الأمر بأدنى نتيجة، وكأن الحق يغري الكافر بأن يتمادى في الإنفاق ضد الإيمان، فيخسر الكافر ماله ويتجرع آلام الحسرة؛ لأن الله يغلبه من بعد ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4694 وحين سمعوا قول الله سبحانه وتعالى: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36] . لم ينتبهوا إلى أن الحق سبحانه يتحدث عن المستقبل، وأنه مهما أنفق الكفار ضد دين الله فلن يصلوا إلى أية نتيجة، ومصداق الأحداث يؤكد أن كلَّ ما يجيء به القرآن الكريم حق. ولماذا لم ينتبهوا إلى ذلك؟ ولم يدخروا أموالهم؛ وقد نصر الله دينه؟ . إذن هذا هو فعل من فقد البصيرة والذكاء. وحين يأتي القرآن الكريم بقول الله تعالى: «فسينفقونها» أي أن الإنفاق سيكون في المستقبل، والاستقبال له مرحلتان؛ استقبال قريب، واستقبال بعيد. فإن كان الاستقبال قريباً فهو يقول: «فسينفقونها» ، وأما إن كان بعيداً فيقول: فسوف ينفقونها مثلما قال القرآن أيضاً: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] . وقد أعلمنا القرآن صلاة من رسول الله، وجهرا من الصحابة بالخبر، وأعلمهم القرآن الكريم أيضا، ولكنهم لم يلتفتوا إلى التحذير الذي صار من بعد ذلك خبراً يروي دليل افتقادهم لصفاء الفطرة.؛ لذلك تجيء لهم الحسرة بعد أن أنفقوا المال، وخسروه فلم يستفيدوا شيئاً ولم يحققوا مرادهم ولا آمالهم. ويتابع سبحانه وتعالى تذييل هذه الآية فيقول: {والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4695 وحينما يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن الأمور التي تحدث للكفار من عذاب عظيم في جهنم، فسبحانه لا يريد بهذا الحديث أن يجعل مأواهم النار، لكنه يخوفهم ويرهبهم من الكفر ويدعوهم إلى الإيمان، ويحضهم على ألا يكونوا كافرين حتى لا يحشروا في جهنم. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ ... ] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4696 وهذه الآية الكريمة تكشف لنا أن المعارك التي تنشأ بين الإسلام وأتباعه من جهة، وبين خصوم الإسلام وأتباعهم من جهة أخرى: هذه المعارك إنما هي أمر مراد من الله تعالى: لأن الزلزلة التي تحدث، حتى لمن آمن، إنما هي تصفية لعنصر الإيمان، ومثال ذلك ما حدث في الإسراء، حيث وجدنا من كان إيمانه ضعيفاً يتساءل: أمعقول أن يذهب محمد إلى بيت المقدس في ليلة؟! بينما نجد ثابت الإيمان مثل الصديق أبي بكر يقول: إن كان قد قال فقد صدق. إن الثابت والقوي إيمانه يصدق، أما من لم يثبت إيمانه فهو يكذب. وهكذا كانت أحداث الإسلام، فقد جاءت كلها لتميز الخبيث من الطيب، وتجمع الخبيث بعضه إلى بعض ليصير ركاماً ثم يضعهم الله في النار. لقد جاءت أحداث الإسلام للتمحيص، مثلما تضع الحديد في النار لتستخرج منه الخبث ويصير صافياً، وهكذا جاء الإسلام لتصفو به قلوب المؤمنين، ويقوي إيمانهم؛ لأنهم يحملون رسالة الله تعالى إلى الأرض كلها، بعد أن مروا بالتصفيات الكثيرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4696 ومثل هذه التصفيات تحدث في المجال الرياضي، فحملة الأثقال - على سبيل المثال - يدخلون في مباريات أولية، ومن يستطيع حمل الوزن الأثقل هو الذي يكون مؤهلا لأن يدخل المباريات الدولية، ليبقى الأقوى. {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أولئك هُمُ الخاسرون} [الأنفال: 37] . والحق سبحانه وتعالى أعطانا أمثالاً لأحداث تميز الخبيث من الطيب، فالناس في الأحوال العادية الرتيبة لا تظهر معادن نفوسهم؛ لأن الناس إذا كانوا آمنين لا يواجهون؛ خطراً، ادعوا الشجاعة والكرم والشهامة، وادَّعوا الإيمان القوي المستعد لأي تضحية في سبيل الله، فإذا جاءت الأحداث فهي الاختبار الحقيقي لما في القلوب. فقد يقول إنسان لصديقه: أنا ومالي لك. وإذا ما أصابت هذا الصديق كارثة، يتهرب منه. فما الذي يحدد - إذن - صدق الحديث عن النفس؟ إنها الأحداث. وهكذا أراد الله تعالى أن يميز الخبيث من الطيب فعركت المؤمنين الحوادث، وزال الطلاء عن ذوي العقيدة الهشة؛ ليكون الناس شهداء على أنفسهم، ويبقى المؤمنون أصحاب صفاء القلب والعقيدة. وحين يميز الله الخبيث من الطيب، فهو سبحانه وتعالى: يريد تمييز الطيب حتى لا يختلط بالخبيث. والخبيث إنما يكون على ألوان مختلفة وأنواع متعددة، فهذا حبيث في ناحية، وذلك خبيث في ناحية أخرى، وثالث خبيث في ناحية ثالثة، وغيرهم في ناحية رابعة، وخامسة إلى ما شاء الله، ويجمع الله كل الخبيث فيركمه في النار جميعاً. ثم يقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4697 {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4698 و «قل» أمر من الله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وما دام قد وجد أمر، فلا بد من وجود المبلغ للأمر، أي أن هناك مخاطِباً ومخاطَباً، والمخاطِب هنا هو الله سبحانه، والمخاطَب هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ لأن الله تعالى قال له: «قل» ، والبلاغ المطلوب منه إبلاغه للناس هو ما يتضمنه قول المولى سبحانه: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . أي إن انتهوا عن الكفر غفرت لهم ذنوبهم التي ارتكبوها أيام كفرهم، ونلاحظ هنا اختلافاً في أسلوب الكلام لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يخاطب الكافرين كان الذي يفرضه السياق أن يقول لهم: إن تنتهوا يغفر لكم؛ لأن الخطاب لا بد أن ينسجم مع المخاطب، وعادة عندما توجه الخطاب لشخص تكون هناك «لام التوجيه» ، تقول: وجهت الخطاب لفلان، وتخاطبه بشكل مباشر، ولكن الله يقول هنا لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ} [الأنفال: 38] . وكان سياق الكلام يقتضي القول: إن تنتهوا يغفر لكم، ولكن الله سبحانه وتعالى عدل عن إن تنتهوا إلى «إن ينتهوا» ، والكلام مخاطب به الكفار، والكفار حاضرون فكيف يخاطبهم بصيغة الغائب؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4698 لقد أراد الله تعالى أن يأتي الخطاب ليعم كل متكلم يقال له هذا الكلام من أي مؤمن، فكأنه قد عمم الخطاب ليقطع المعاذير. ومثل ذلك مثل قول الحق تبارك وتعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] . وإذا أخذنا ذات المقياس لكان الكلام يقتضي أن يقال: لو كان خيراً ما سبقتمونا إليه، ولأن هذه العبارة قيلت من أكثر من كافر في أماكن متعددة للمؤمنين، وأراد الله سبحانه وتعالى: أن يلفتنا لذلك، فعمم الخطاب حتى يشمل جميع الحالات ولا ينطبق على حالة واحدة فقط، بل ينطبق على كل حالة مماثلة؛ لذلك قال سبحانه: {إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وهذا يدلنا على أنهم إن انتهوا عن مقاومة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعنادهم معه فهو سبحانه وتعالى يغفر لهم، لأن العناد والمقاومة ناشئان عن الكفر، فإن انتهوا عنهما، صاروا مؤمنين. والإسلام يَجُبُّ ما قبله. ولذلك عندما أعلن محارب عن إيمانه واعتنق الإسلام وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم دخل المعركة فاستشهد صار شهيدا؛ لأنه قد غُفر له بشهادة الإسلام كل ذنوبه التي حدثت منه أثناء الكفر، وهي الذنوب التي تتعلق بحقوق الله تعالى، أما ما يتعلق بحقوق الناس، فعلى ورثته أن يؤدوها عنه. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4699 وقوله هنا: {وَإِنْ يَعُودُواْ} أراد الله أن يعلمنا أن تجري هذه الكلمة على اللسان، فإن عادوا مرة أخرى إلى الكفر والعناد، يطردوا من رحمة الله ومغفرته، إذن فشرط الغفران لهم أن يستمروا في إيمانهم وألا يعودوا للكفر مرة أخرى، وقوله تعالى: {مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} . والسنة هي الطريقة أو الكيفية أو الحالة التي يكونون عليها ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62] . أي الطريقة التي اختارها الله لمعالجة الأمور بالحق والعدل، ومعنى قوله تعالى: {مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} : أي الطريقة التي عرفتموها وعالج بها الله عَزَّ وَجَلَّ أمر من عاند الرسل ووقف منهم موقف المنازعة والمعارضة. ومثل ذلك حدث للكفار في بدر، فكأن من يقف أمام دعوة الله ومنهجه لا بد أن يتعرض للهلاك كما حدث مع كل من قاوم الأنبياء، فأنتم تعرفون ما صنعه الله بقوم هود وقوم عاد وقوم ثمود وقوم فرعون. ومر كل ذلك عليكم، كسنة عامة تشمل كل من قاوم الأنبياء ووقف في طريق دعوتهم إلى الله. والخطاب هنا إما أن يكون خطاباً لهم على حالهم في وطنهم وما حدث للمخالفين في بدر وقد رأوا مصارعهم، وإما أن يكون الخطاب مبيناً لسنة الله تعالى وقد شاءت سنته سبحانه إبادة كل مخالف لسنته. ثم يقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4700 {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4701 وهذا أمر من الله عَزَّ وَجَلَّ بالقتال، والقتال مفاعلة تحدث بين اثنين أو أكثر، أي اشتباك بين مقاتل ومقاتل. ولذلك عندما تسمع كلمة «قتال» يتبادر إلى ذهنك وجود طرفين اثنين وليس طرفاً واحدا، أو بين فريق وفريق آخر. وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ} نفهم أن هذا أمر للمؤمنين ليقاتلوا الكفار، ولا بد أن يكون الكفار قد فعلوا شيئا يستحق أن يقُاتلوا عليه، أو أنهم يبيتون للمؤمنين القتال وعلى المؤمنين أن يواجهوهم ويقاتلوهم. ولم يقل الله سبحانه وتعالى: اقتلوهم بل قال: «قاتلوهم» ؛ أي مواجهة فيها مفاعلة القتال. والتفاعل معناه أن الحدث لا يأتي من طرف واحد بل لا بد من مقابل معه. فأنت تقول: «قابلت» أي أنك قابلت شخصاً، وهو قابلك أيضاً، وهذه مفاعلة. أو تقول: «شاركت» أي أنك اشتركت أنت وآخر في عمل ما. وهنا قال الحق سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39] . ومعنى ذلك أن هناك قتالاً يؤدي للقتال. وجاء القتال ليحسم الأمر؛ لأن ترك هؤلاء الكفار يعتدون على المسلمين، ويأخذون أموالهم بالباطل، فيرى الناس المؤمنين أذلة مستضعفين، والكفار عالين أقوياء فتحدث فتنة في الدين، أي يفتن الناس في دينهم وهم يرون الذل دون أي محاولة أو تحرك لدفعه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4701 ويريد الله سبحانه وتعالى أن تنتهي الفتنة. والفتنة هي الاختبار. وكما قلنا: إن الاختبار ليس مذموماً لذاته، ولكنه يُذم بنتيجته. فإن رسب الطالب في الاختيار تكون نتيجة الاختيار مذمومة. وإن نجح تكون محمودة. ولقد كان كفار قريش يفتنون الناس في دينهم بتعذيبهم تعذيباً شديداً حتى تخور قواهم ويخضعوا لأحكامهم. وأراد الله سبحانه وتعالى أن يضع نهاية لهذا الظلم. فإذن بقتالهم؛ لأنهم هم الذين فعلوا ما يستوجب قتالهم. ونجد قوله سبحانه وتعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} [الأنفال: 39] . بينما نجد أنه قد ذكر في سورة البقرة بدون «كله» ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى فيها: {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} [البقرة: 193] . دون أن تذكر كلمة «كله» ولكل آية لقطة ومعنى؛ لأن كل لفظ في القرآن له معنى، فقوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} يعني أنه لا يجب أن يجتمع دينان في جزيرة العرب وقد حدث. وأما قوله تعالى: {الدين للَّهِ} فقد أعطتنا لقطة أخرى، فالأولى تخص العرب والجزيرة العربية، والثانية تعني أن الإسلام للعالم كله، ويقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصددها: {فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] . وقوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} أي استجابوا وأطاعوا، وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي فليحذروا أن يتم هذا خداعاً لأن الله بصير بهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4702 ومطلع عليهم، وما داموا قد انتقلوا من حظيرة الكفر إلى حظيرة الإيمان فالله يمحو سيئاتهم ويبدلها حسنات؛ لأن قوما عاشوا على الكفر وألفوا خصاله ثم تركوا ذلك إلى الإيمان فهذا أمر صعب يحتاج إلى جهاد شديد مع النفس، ويثيبهم الله تعالى بقدر مجاهدتهم لأنفسهم، ويثيبهم المولى سبحانه وتعالى بسخاء. وهناك معنى ثان في قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] . أي: فيا من وقفتم موقف العداء من الإيمان، وتعرضتم للكافرين التعرض الذي أعاد لهم التهذيب وحسن التعامل مع المؤمنين، اعلموا أنه سبحانه وتعالى بصير بما عملتم ليكون الدين كله لله. وهكذا نرى أن كلا من المعنيين يكمل الآخر. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4703 والله سبحانه وتعالى يرغب الناس حتى يؤمنوا، ولكنه في ذات الوقت يبين لهم أن كثرة عدد المؤمنين ليست هي التي تعلي راية الإسلام وتصنع النصر للإيمان، فيقول سبحانه: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} . وهنا شبهة في أن الله تعالى يحنن هؤلاء على أن يؤمنوا، وأن يسلموا، وأن يعودوا إلى حظيرة الحق، وربما ظن ظان أن الإسلام يريد أن يقوى بهم، ولذلك قال الحق: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي إياكم أن يفت ذلك في عضدكم، أو أن يقلل هذا الأمر من همتكم وشجاعتكم؛ لأنكم إنما تنتصرون بمدد من الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4703 العلي القدير، فهم إن لم يؤمنوا، فاعلموا أن الإسلام لا ينتصر بهم، وانتشاره ليس بكثرة المسلمين أو قلتهم؛ لأن النصر من عند الله، وسبحانه ليس محتاجاً لخلقه، وكثرة جنود الإسلام لا تصنع النصر؛ لأن نصر الله للمسلمين إن اتبعوا منهجه يتحقق سواء قلوا أم كثروا. ولذلك يلفت نظرهم وينبههم إلى أنه إن تولى هؤلاء ولم يؤمنوا، فإياكم أن يؤثر ذلك على شجاعتكم؛ لأنكم لا تنتصرون بمدد من هؤلاء الذين رفضوا الإيمان، ولكن بمدد من الله سبحانه وتعالى، فالله هو مولاكم. وإذا كان الله مولى لكم أي ناصراً ومؤيداً فهو سبحانه وتعالى: {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الأنفال: 40] . لماذا؟ . لأن المولى إذا كان غير الله فهو من الأغيار، قد يكون اليوم قويّاً قادراً على أن يأخذ بيدنا وينصرنا، ولكنه قد يموت غداً؛ لذلك فهو لا يصلح مولى. وقد يسقط عنه سلطانه وقوته ويصبح ضعيفاً محتاجاً لمن ينصره فلا ينفع وليا ولا معيناً لأحد. والمولى الحق الذي يجب أن نتمسك به هو الذي لا تصيبه الأغيار لأنه دائم الوجود لا ينتهي بالموت وهو دائم القوة والقدرة لا يضعف أبداً، هذا هو المولى الذي تضع فيه ثقتك وتتوكل عليه. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أننا يجب ألا نضع ثقتنا وأملنا إلا فيه وتوكلنا إلا عليه سبحانه وتعالى فيقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58] . أي إذا أردت فعلاً أن تتوكل، فتوكل على من هو موجود دائما قوي دائماً، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4704 فتوكل على الله. وقوله تعالى: {نِعْمَ المولى} يؤكد أن الله قوي قادر دائم الوجود، وقوله تعالى: {وَنِعْمَ النصير} . يؤكد أنه سبحانه وتعالى محيط بكل ما يدبره لك أعداؤك، فلا يغيب عنه شيء. أنت تحاربهم بما تعرفه من الحيل وفنون القتال وهم يفعلون ذلك. ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم حيلهم فيبطلها، ويحقق لكم النصر بأن يلهمكم من الحيل ما لا يستطيعون مواجهته.، يعطيكم مددا من السماء وهذا المدد هو الذي يحقق لكم النصر. ويتحدث الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك عن الغنائم فيقول: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4705 ما سبب ذكر الغنيمة هنا؟ . وما المناسبة؟ . ونقول: إن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن القتال. ونهاية كل معركة ينتصر فيها المسلمون يكون فيها غنائم. وهذه مناسبة الحديث عن الغنائم، وبما أن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن مدده للمؤمنين. وأنه ناصرهم، وأنه نعم النصير، ولكن الغنائم لا تجيء إلا نتيجة للنصر، فكأن الله يريد من المؤمنين أن يتأكدوا أن النصر سيكون من نصيبهم؛ بدليل أن الحديث انتقل إلى الغنائم. والغنيمة هي كل منقول يأخذه المسلم المقاتل من الكافر، والثابت أن الغنائم لم تكن تحل لأحد من الأنبياء قبل رسول الله صلى عليه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4705 ويقول الحق: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . إذن فلله الخمس وتبقى أربعة أخماس توزع على المقاتلين. والخمس الذي هو لله كيف نقسمه؟ لقد ذكر القرآن أسلوب توزيع هذا الخمس بطريقة اختلف فيها العلماء؛ فالآية تقول: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] . ثم تزيد: {وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41] . وقد قال بعض العلماء تمسكاً بظاهر الآية الكريمة: إن خمس الغنائم يوزع على من سماهم الله تعالى في كتابه العزيز وهم ستة: (الله، الرسول، ذو القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل) فتكون الأسهم ستة، وجمهور العلماء على أنّ خمس الغنائم يقسم خمسة أسهم فيكون لله وللرسول سهم واحد لأنه لا يوجد فصل بين الله ورسوله، والأسهم الأربعة الباقية من هذا الخمس توزع على الأنواع الأربعة (ذي القربى - اليتامى - المساكين - ابن السبيل) لكل نوع منهم سهم. واختلفوا أيضاً في معنى {وَلِذِي القربى} هل هم القربى من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أم ممن؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4706 ثم بعد ذلك جاء نصيب اليتامى والمساكين وابن السبيل فلم يحدث خلاف فيه - والخلاصة: أن الغنائم كلها تقسم خمسة أقسام خمسها لهؤلاء الخمسة وأربعة أخماسها الباقية للجيش المقاتل؛ لأن الله تعالى بين حكم الخمس وسكت عن الباقي فدل ذلك على أنه للغانمين ثم يقول الحق: {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله} [الأنفال: 41] . وهم بطبيعة الحال الحال مؤمنون بالله، وكأن هذا القول جاء ليراجعوا إيمانهم إذا اعترضوا على هذا التقسيم. فإن طمع أحد منهم في الخمس الذي هو لله ورسوله ولم يقنع بأربعة الأخماس المقسمة - كما قال الله تعالى - يكون قد خدش إيمانه بمن أصدر هذا الأمر، وسبحانه هو الذي أنزل هذا التقسيم. فمن زاغ وتطلعت عينه إلى شيء فليرد هذا الزيغ؛ لأن الذي قسم هو الله الذي نصر المقاتلين. وإذا كان النصر هو الذي جاء بالغنائم، فالذي أعطى النصر هو الله سبحانه وتعالى، والنصر سبب من الله، وما يوهب للإنسان من الحق، على العبد أن يقبل فيه قسمة الله. ومثال ذلك ما أراده الله للإنسان المسلم من حسن التصرف في ماله، فهو في حياته حر ويملك حق التصرف في هذا المال، واحتراماً لمشاعرك الاجتماعية والإنسانية والعاطفية في البيئة التي تحيا فيها، جعل الله لك الحق في الوصية بأن تخصص ثلث مالك لما تريد ومن تريد، فقد ترى أن هناك إنساناً من غير أقربائك وهو بطبيعة الحال لن يرثك، ولكنه خدمك في حياتك أو في مرضك أو في شيخوختك، وأنت تريد أن تترك شيئاً من ثروتك له، اعترافاً بجميله، أو لعل هناك أناساً من معارفك تعرف أنهم أحوج من أبنائك، فتخصص لهم بعضاً من المال، شرط ألا يتعدى الثلث، فيشاء الحق سبحانه وتعالى أن يضع للعواطف الإيمانية الإنسانية في الناس مجالاً، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4707 فترك لك الحرية في أن تتصرف في ثلث التركة ثم قسم سبحانه الثلثين على الورثة. إذن فقول الحق تبارك وتعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله} [الأنفال: 41] . أي أنه سبحانه قد جعل من الإيمان أن يتم توزيع الغنائم بالشكل الذي حدده الله عَزَّ وَجَلَّ، ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان} [الأنفال: 41] . والفرقان هو الشيء الذي يفرق بين الحق والباطل؛ فرقاً واضحاً بشدة بحيث يكون ظاهراً للجميع. وقد أطلق الله الفرقان على القرآن الكريم في سورة آل عمران فيقول تبارك وتعالى: {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان} [آل عمران: 3 - 4] . فحينما أنزل الله تعالى التوراة والإنجيل جاءت التوراة لتفرق بين الحق والباطل، وأيضاً جاء الإنجيل ليفرق بين الحق والباطل، وشاء الله سبحانه وتعالى ألا تطلق كلمة «الفرقان» إلا على القرآن الكريم؛ لأن القرآن هو الفارق النهائي الذي لن يأتي فارق من بعده، فلن ينزل كتاب سماوي آخر. {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41] . الله سبحانه وتعالى يقصد هنا بيوم الفرقان يوم بدر الذي كان فرقاً بين حق وباطل؛ فرقاً لافتا للأنظار، وقد أخذت كلمة الفرقان المعنى العام وهو أن يفرق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4708 بين الحق والباطل، فالمسلمون كانوا قلة والكفار كانوا كثرة، والمسلمون كانوا خارجين للاستيلاء على القافلة والعير ولم يكن لديهم أي عدة أو عتاد للحرب، بينما استعد الكفار للحرب والقتال بالعدد والعتاد والفرسان، وكان المسلمون يتمنون أن تكون قافلة قريش لهم، وهي قافلة لا يحرسها إلا عدد قليل من الرجال، لا شوكة لهم، وأراد الحق تبارك وتعالى أن يواجه المسلمون وهم قلة جيشاً له شوكة أي له عدة وعتاد؛ لأن المسلمين ظنوا أن الاستيلاء على القافلة لن يستغرق منهم وقتا طويلا أو جهداً كبيراً، فحراس القافلة عدد محدود وبلا سلاح قوي. لكن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ أن يخوض المؤمنون المعركة وهم قلة وأن ينتصروا، حتى يعلم الجميع أن هذه القلة المؤمنة انتصرت بلا عددٍ ولا عُدَّة على من يملكون العدد والعدة، وبذلك يظهر الفرق بين الإيمان والكفر، وبين نصر الله وزيف الشيطان، ولو استولى المسلمون على قافلة قريش لقيل: إن أية مجموعة من المسلحين كانت تستطيع أن تنهب هذه القافلة، ولذلك لم يعطهم الله العير بل ابتلاهم بالنفير وهو الجيش الخارج من مكة بقصد الحرب وهو مستعد لها ليلفت النظر إلى هؤلاء المؤمنين الذين خرجوا بغير قصد الحرب وقد انتصروا على الكفار الذين خرجوا للحرب واستعدوا لها. وكان المؤمنون ثلاثمائة وجيش الكفار ألفاً، فإذا جاء النصر، تأكد الكل أن كفة المؤمنين قد رجحت، وإذا تعجب أحد كيف ينتصر هذا العدد القليل غير المسلح على هذا العدد الكثير والمسلح، يمكن أن يرددوا قول الله تعالى: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41] . وهذه المشيئة الإلهية هي التي قلبت الموازين. وفي أول سورة البقرة يحكي الحق سبحانه وتعالى لنا قصة طالوت وجالوت، ويروي كيف طلب بنو إسرائيل من نبي لهم أن تحدد السماء شخصاً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4709 يكون ملكاً عليهم، ليقودهم في معركة ضد طاغية اسمه جالوت؛ أخرجهم من ديارهم وشردهم، فلما جاء الأمر بأن يكون طالوت هو الملك، جادل بنو إسرائيل في قيادته لهم. {قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال} [البقرة: 247] . كانوا هم الذين طلبوا أن يكون لهم ملك، فلما جاء طالوت باختيار الله اعترضوا عليه. ثم خرج طالوت مع الذين اتبعوه وابتلاهم الله بنهر وهو عطاش، ويقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 249] . وابتلاهم الله سبحانه وتعالى بأن مروا على نهر وهم عطاش، وطلب منهم ألا يشربوا إلا أن يأخذ كل منهم قليلاً من الماء في كف يده ليرطب به فمه، فلما وصلوا إلى النهر، اندفعت أغلبيتهم ليعبوا ويشربوا ما شاء لهم، والأقلية فقط هي التي امتثلت لأمر الله تعالى ولم تشرب، وهؤلاء هم الذين بقوا مع طالوت وعبروا النهر، لكنهم حين رأوا جيش الأعداء، قالت أغلبيتهم ما جاء في القرآن الكريم وحكاه لنا: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} [البقرة: 249] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4710 أي أنهم خافوا من مواجهة جيش جالوت ورفضوا القتال، إلا الأقلية منهم، وهكذا حدثت لهم التصفية مرتين بالاختيار والابتلاء؛ الأولى بالصبر على العطش، والثانية بمواجهة جيش العدو، وهذه هي الأقلية الصافية التي رسخ إيمانها، وقالوا ما جاء بالقرآن الكريم: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [البقرة: 249] . أي أن هذه الفئة المؤمنة التي بقيت والتي تخشى حساب الله في الآخرة لم تخفهم قلتهم ولا كثرة جنود جالوت، بل قالوا: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وانتصروا بالفعل، وكان هذا فرقاناً ظاهراً من الله عَزَّ وَجَلَّ. وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان} [الأنفال: 41] . أي يوم التقاء جمع المؤمنين وجمع الكفار، وتحقق نصر المؤمنين، رغم قلة العدد والعتاد. ولذلك يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية بالقول الكريم: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41] . أي أن الله عَزَّ وَجَلَّ قادر على أن ينصر المؤمنين وهم قلة وغير مستعدين للقتال. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4711 {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4712 ساعة تسمع «إذ» تعرف أنها ظرفٌ، ومعناها: اذكر هذا الوقت، اذكر إذ أنتم بالعدوة الدنيا، والعدوة شاطيء الوادي وجانبه. وهي جبل مرتفع؛ لأن الجبال إن كان بينها فضاء نسمي هذا الفضاء وادياً، فيكون الوادي هو الفضاء بين جبلين، ويكون المكان العالي الذي على يمين الوادي وعلى شماله عدوة. وقوله تعالى: {بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى} [الأنفال: 42] . توضيح وبيان لجغرافية المعركة، وأهل الإسلام كانوا من ناحية المدينة، وقوله تعالى: «دنيا» تأنيث الأدنى أي الأقرب، فالمسلمون كانوا قريبين من المدينة. وكان الكفار قادمين من مكة، ونزلوا في المكان الأبعد. فقوله تعالى: {أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا} [الأنفال: 42] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4712 أي في مكان قريب، وموقع غزوة بدر - كما نعلم - قريب من المدينة، أما كفار قريش فقد جاءوا من مكة. وبذلك جاءوا من مكان بعيد عن المدينة لذلك سماه الحق تبارك وتعالى هنا: {بالعدوة القصوى} أي في المكان البعيد عن مكة، ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله: {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} والركب هو العير أي الجمال التي تحمل التجارة، وكان المسلمون قد خرجوا ليأخذوها. ولما عرف أبو سفيان بذلك غيّر سير القافلة واتجه إلى ساحل البحر، ويتكلم الحق سبحانه وتعالى عن سلوك أبي سفيان حينما أمر أن تسير القوافل بجانب ساحل البحر. وساحل البحر - كما هو معلوم - يكون دائماً أسفل من أي أرض يابسة. ويُتخذ سطح البحر إلى الآن مقياساً للارتفاعات والانخفاضات بالنسبة للمقاييس البشرية، فيقال: هذا ارتفاعه مائة متر أو مائتا متر أو أكثر أو أقل بالنسبة لمستوى سطح البحر. وساحل البحر بالنسبة لسطح البحر متساو، أما الأرض والجبال والوديان فهي تختلف في العلو والانخفاض فلا تصلح مقياساً للارتفاعات والانخفاضات، بينما سطح البحر مستطرق استطراقاً سليماً، بحيث لا توجد في سطح الماء بقعة عالية وأخرى منخفضة. وهكذا يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن أسفل ما في الأرض هو ساحل البحر وقد اتخذ الناس سطح البحر مقياساً للارتفاعات. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 42] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4713 أي لو أن المؤمنين اتفقوا مع الكفار على موعد ومكان، لجاء بعضهم متأخراً عن الموعد أو منحرفاً عن المكان، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي حدد موعد المعركة ومكانها بدقة تامة فتم اللقاء في الموعد والمكان المحددين ليتم الأمر كما قدره الله سبحانه وتعالى، والأمر هو معركة بدر، وليلقى المؤمنون الكافرين، لينتصروا عليهم. {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] . وهل يعني قول الحق {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} أن الهلاك هنا هو الموت؟ لقد مات أيضاً بعض المؤمنين واستشهدوا. وقول الحق: {ويحيى مَنْ حَيَّ} وهل الحياة هنا تعني مجرد البقاء على قيد الدنيا؟ . لقد عاش أيضاً من الكفار كثير رغم أنهم خاضوا معركة بدر. إذن فليس معنى الهلاك هنا الموت، وليس معنى الحياة النجاة، ولكن قول الحق {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} تنطبق على الكفار سواء الذين ماتوا أو الذين نجوا؛ لأن الهلاك هنا هلاك معنوي، فمن قتل من الكفارهلك. ومن نجا هلك أيضاً؛ لأنه بقتاله المؤمنين قد أورد نفسه مورد التهلكة بالعذاب الذي ينتظره في الآخرة، إلا إذا أدركته رحمة الله وآمن قبل أن يأتي أجله. والذين حيوا هم المؤمنون، والمراد - إذن - ليكفر من كفر، ويؤمن من آمن عن يقين. ولقد قلنا من قبل: إنَّ الحق سبحانه وتعالى أطلق الحياة على معان متعددة، فهناك الحياة التي فيها الحركة والحس، وهذه تتحقق ساعة أن تدخل الروح الجسد ليكون للإنسان حياة. وهذه الحياة هي للمؤمن والكافر. ولكن الحياة بهذا الشكل؛ حياة منتهية إلى موت غير موقوت ننتظره في أي لحظة. ولكن الحياة المطلوبة لله هي الحياة التي لا يأتي فيه موت. ولا يكون فيها تعب وشقاء، تلك هي الحياة الآخرة، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4714 {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] . أي أنها الحياة الحقيقية. إذن فالذي يؤمن إيماناً حقيقيا يعطيه الله تعالى حياة الخلود في الجنة. ولذلك نستمع جميعاً إلى قول الحق تبارك وتعالى: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 42] . ومنا من يتساءل: كيف يخاطب الله الناس وهم أحياء ويقول لهم: إذا دعاكم لما يحييكم؟ ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد لنا بالإيمان حياة خالدة في الجنة. ثم يختم الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} ومعنى سميع وعليم أنه سبحانه وتعالى مدرك لكل الأشياء والخواطر، فما بالسمع يسمعه، وما بالعين يراه، وما في الصدر يعلمه، وما هو في أي حس من أحاسيس الإنسان هو عليم به؛ لأنه أحاط بكل شيء علما. ووسائل الإدراك العلمي في الإنسان هي السمع والبصر والذوق واللمس والشم، هذه هي الحواس التي تعطي العلم للإنسان الذي لم يكن يعلم شيئاً. وهو سبحانه وتعالى القائل: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4715 أي أن هذه الحواس هي التي تعطي الإنسان ما لم يكن قد علمه، وكلما علم شيئاً، فليقل: الحمد لله. ويعلمنا الله سبحانه وتعالى كيف يتم قدره فيقول: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4716 والحق سبحانه وتعالى إذا أراد معركة فاصلة، يجعل الخواطر في كل قوم مهيجة على الحرب؛ لأنه سبحانه وتعالى يريد للفئتين أن يشتبكوا، ويفصل الحق في المسألة، وهذا الاشتباك لو حدث بالمقاييس العادية ربما جَبُنَتْ الفئة القليلة عن أن تواجه الفئة الكثيرة. ولكي تتم المعركة لا بد أن يكون كل من الفريقين المتحاربين واثقا من النصر؛ لأنه لو أيقن أحدهما أنه سيهزم لما دخل إلى المعركة. والله سبحانه وتعالى يُعلم رسوله والمؤمنين كيف أعد الله الإعداد النفسي للمعركة، فأرى النبي في الرؤيا أن عدد الكفار قليل حتى يؤمن أن المؤمنين سينتصرون عليهم بسهولة، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى في منامه رؤيا توضح أن عدد الكفار قليل في أعين المؤمنين، وأخبر قومه بذلك وقد قلل عدد المؤمنين في أعين الكفار، ليتم اللقاء وتحدث المعركة. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4716 إذن رأى المؤمنون الكفار قليلاً، ولو كثَّر الله الكفار في أعين المؤمنين، أو كثّر المؤمنين في أعين الكفار ما حدثت المعركة. ولكنه سبحانه وتعالى شاء أن يقلل كل فريق في نظر الآخر ليبدأ القتال، ويحكي سيدنا عبد الله بن مسعود: لقد قلت لجار لي أظنهم سبعين، فقال: لا بل مائة. وهكذا كان عدد الكافرين قليلاً في نظر المؤمنين، وكان عدد المؤمنين بالفعل قليلاً في عيون الكافرين. وأيضاً شاء الحق سبحانه أن يجعل في ذلك بلاغاً من إعلامات النبوة في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد رأى النبي عدد الكافرين في المنام وهم قليل، وأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قومه بذلك. ودار القتال الذي أراده الله تعالى: {لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} [الأنفال: 44] . والأمر الحاسم هو التقاء الفئتين المتقاتلتين في معركة بدر ليفصل الله بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر؛ حتى ترجع الأمور إلى الله، فلكل واحد من جنود المعركة جزاءٌ من عند الله سبحانه وتعالى؛ المؤمنون لهم جزاء على قدر نياتهم وإخلاصهم في الجهاد، الكافرون عليهم غضب من الله تعالى. والغضب منازل، كل منزلة من الغضب حسب أحوال صاحبها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4717 وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} نجد فيه كلمة «الأمور» وهي جمع أمر، وفي المعارك ألوان مختلفة من الأوامر؛ فلكل جندي أمر، وهناك أمر عام تنتهي إليه المعارك وهو انتصار طرف وانهزام طرف آخر. ولكي يتم النصر للمؤمنين فإن الله يطلب منهم أن يثبتوا في المعركة؛ فيقول سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4718 وساعة تسمع كلمة «فئة» فاعلم أن معناها جماعة اختصت بخوض المعارك في ميدان القتال، فليست مطلق جماعة، بل هي جماعة مترابطة من المقاتلين؛ لأن كل مقاتل يفيء لغيره من زملائه، أي جماعة أخرى غير مترابطة تستطيع تفريقهم بصرخة أو عصا، أما المقاتلون فأنت لا تصرفهم إلا بقوة أكبر منهم، ويحاول كل منهم أن يحمي زميله، إذن فكل منهم يفيء إلى الآخرين. والحق تبارك يقول: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] . ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] . إذن فالفئة هي جماعة في الحرب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4718 وقوله تعالى: {لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} [الأنفال: 45] . يُقصد به ساعة حدوث المعركة ونشوب القتال؛ لأن الحرب تقتضي أولاً إعداداً، ثم تخطيطاً يتم قبل الالتحام ثم ذهاباً إلى مكان المعركة. وقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ} أي أن المسألة قد وصلت إلى الواجهة مع الكفار ويقول الحق تبارك وتعالى {فاثبتوا} والثبات هنا معناه المواجهة الشجاعة، لأن الإنسان إذا ما كان ثابتاً في القتال، فالعدو يخشاه ويهابه، وإن لم يكن كذلك فسوف يضطر إلى النكوص، وهذا ما يُجريء الكفار عليكم. وما دمتم قد جئتم إلى القتال، فلا بد أن يشهد الأعداء شجاعتكم؛ لأنكم إن فررتم فهذه شهادة ضعف ضدكم. ولذلك لا بد من التدريب على الثبات والقتال، وهذا هو الإعداد المسبق للحرب؛ بالتدريب القوي والتخطيط الدقيق، وألا يتولى أحد منكم ويفر لحظة الزحف لأن هذا العمل هو من أكبر الكبائر، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [الأنفال: 16] . {يُوَلِّهِمْ} أي يعطيهم، و {دُبُرَهُ} أي ظهره، وهذا تقبيح لعملية الفرار، لأن الدبر محل الصيانة ومحل المحافظة. ونعلم أن هناك من قال للإمام عليّ - كرم الله وجهه -: إن درعك له صدار وليس له ظهر، أي أن الدرع يحمي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4719 صدرك إنما وراءك لا يوجد جزء من الدرع ليحمي ظهرك. فقال: (لا كنت إن مكنت خَصمي من ظهري) ، أي أنه - كرّم الله وجهه - يفضل الاستشهاد على أن يُمَكِّن خصمه من ظهره، فلو أنَّ درعه من الأمام ومن الخلف، ففي هذه الحالة يكون في نيته أن يمَكِّن خصمه من ظهره، ولذلك جعل الدرع يحمي الصدر فقط، وهو على يقين أنه لن يدير ظهره لعدوه، ويسمون تلك الحالة الأخرى «ظاهرة ضبط النفس» أي أنها طريق لمنع الشيء أن يحدث ولو في ساعة الشدة؛ لأن المقاتل حين يدخل المعركة، وهو يحمي صدره فقط فهو لا يتولى ليفر؛ لأنه يعلم أنه لو تولى فسيكشف لهم ظهره وسيتمكن منه عدوه وسوف يُقتل. والحق سبحانه وتعالى حين يقول: {فاثبتوا} لا يطلب هذا الثبات على إطلاقه، ولكن يريد من المؤمنين الثبات والقوة في القتال. أما غذا كانت الفئة التي يواجهها المؤمنون كبيرة العدد أو كثيرة العتاد فذلك يتطلب الدراسة والاستعداد، وهنا طلب الحق الثبات ليعلم المؤمنون يقيناً؛ أنهم لا يواجهون عدوهم بقوتهم ولكن بقوة الله الذي يجاهدون من أجله. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {واذكروا الله كَثِيراً} ، أي تذكروا وأنتم تقاتلون أن الله معكم بعونه ونصره، فإن لم تستطع أسبابكم أن تأتي بالنصر، فإن خالق الأسباب يستطيع بقدرته أن يأتي بتالنصر. وكلنا نعلم أن الحق تبارك وتعالى قد وضع في كونه الأسباب، فإذا استنفدنا أسبابنا، اتجهنا إلى خالق الأسباب، ولذلك نجد أن من لا يؤمن بالله إذا خانته الأسباب ينتحر أو ينهار تماماً أو يصاب بالجنون، ولكن المؤمن يقول: إذا خانتني الأسباب فمعي رب الأسباب وخالقها، ويأوي إلى ركن شديد. إن الطفل الصغير إذا اعتدى عليه أحد يقول: إن لي أباً أو أخاً سيرد عني الإيذاء؛ لأن الأسباب لا تعطيه قدرة الرد، فكيف لمن له رب قدرته فوق قدرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4720 الكون كله، وقوته موجودة دائماً. ولذلك نجد قوم موسى حين وصلوا إلى شاطيء البحر ووجدوا أمامهم الماء، ونظروا خلفهم ورأوا جنود فرعون مقبلين من بعيد، قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} وكانوا منطقيين فيما قالوه، فالبحر أمامهم والعدو وراءهم. وليس لهم من طريق للنجاة باستخدام الأسباب العادية في هذا الكون، ولكن موسى عليه السلام بقوة إيمانه بالله تعالى يقول ما جاء على لسانه في القرآن الكريم: {قَالَ كَلاَّ} [الشعراء: 62] . أي إن فرعون وجنوده لن يدركونا، ولم يفهم قوم موسى؛ لأن البحر أمامهم وجنود فرعون وراءهم، وأضاف سيدنا موسى عليه السلام بملء فيه قوله: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] . أي أنه رفع الأمر من الأسباب إلى المسبب، وإذا بالله يأمره أن يضرب بعصاه البحر؛ فينفلق؛ وتظهر الأرض اليابسة. ويعبر بنو إسرائيل البحر، وعندما وصل موسى وقومه إلى شاطيء البحر بعد أن عبروا، أراد موسى أن يضرب البحر مرة أخرى حتى يعود الماء إلى الاستطراق. فلا يتمكن جنود فرعون من اللحاق بهم، ولكن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: {واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24] . أي لا تتعجل وتضرب البحر ليعود مرة أخرى لاستطراق الماء بل اتركه على حاله ساكناً فما أنجى الله به بني إسرائيل سيغرق به آل فرعون، وبذلك أنجي وأهلك بالشيء الواحد، وهذا لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4721 وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: 45] . وسبحانه وتعالى هو خالق النفس البشرية وهو العليم بها حين تكون أمام قوة لم تحسب حسابها وكيف تعاني النفس من كرب عظيم، خصوصاً إذا كان ذلك في ميدان القتال، ولذلك طلب من المؤمنين لأن يتذكروا دائماً أنهم ليسوا وحدهم في المعركة وأنه سبحانه وتعالى معهم، فليذكروا هذا كثيراً ليوالي نصرهم على عدوهم؛ لأنهم إذا ما داوموا على ذكر الله تعالى فسيقوي هذا الذكر إيمانهم، ويجعل في قلوبهم الشجاعة اللازمة لتحقيق النصر. وذِكْرُ الحق كلمة {كَثِيراً} هنا يعني أن الإنسان قد يذكر الله عند اليأس فقط، فإن جاءت الحياة بعد ذلك بالرخاء فقد ينسى ذكر الله؛ لذلك يؤكد سبحانه وتعالى هنا أن يكون ذكر الله كثيراً، ليوالي الله نصر المؤمن على عدوه. ومثال ذلك: أننا نجده سبحانه وتعالى حينما يستحضر الخلق المؤمنين للصلاة في يوم الجمعة يقول: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9 - 10] . يطلب الحق سبحانه وتعالى ذلك من المؤمنين وهو العليم بأنهم يداومون الولاء له سبحانه كل يوم خمس مرات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4722 ثم بعد صلاة الجمعة يطالبهم بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله تعالى، وينبهنا أن نداوم على ذكره فكأنه يقول؛ إياكم أن تلهيكم أعمالكم ومصالحكم الدنيوية عن ذكر الله، أو تعتقدوا أن ذكر الله في المسجد أو وقت الصلاة فقط، بل داوموا على ذكر الله في كل أحداث الحياة. فإن فعلتم ذلك وذكرتم الله كثيراً فستكونون من المفلحين. وذكر الله كثيراً معناه أنك تشعر في كل لحظة أن الله سبحانه وتعالى معك فتخشاه وتحمده وتستعين به. وهكذا تكون الصلة دائمة بينك وبين الله عَزَّ وَجَلَّ في كل وقت. مثال ذلك ما حدث في عام 1973 في معركة العاشر من رمضان، كان ذكر الله يملأ القلوب واستمد الجند من قولهم: {الله أكبر} طاقة هائلة واجهوا بها العدو، واقتحموا خط «بارليف» . وأعانهم الحق بمدد الإيمان من عنده، وأوجد في نفس كل منهم طاقة هائلة تحقق بها النصر؛ وذلك بإجادة التدريب ومداومة الذكر لله تعالى. ثم يقول الحق بعد ذلك: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصبروا ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4723 وعرفنا من قبل أن طاعة الله تعالى تتمثل في تنفيذ ما أمر به في المنهج، وطاعة الرسول هي طاعة تطبيقية في السلوك، وهي طاعة لله أيضاً؛ لأن الرسول مبلغ عن ربه، ولا بد للطائع أن يتعبد عن التنازع مع إخوته المؤمنين؛ لأن التنازع هو تعاند القوي، أي توجد قوة تعاند قوة أخرى، والقوى المتعاندة تهدر طاقة بعضها البعض، فالتعاند بين قوتين يهدر طاقة كل منهما فتصبح كل قوة ضعيفة وغير مؤثرة. فكونوا يداً واحدة؛ لأنكم إن تنازعتم فستضيع قوتكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4723 وتقابلون الفشل، أي لن تحققوا شيئاً مما تريدون لأنكم أهدرتم قوتكم في التنازع، ولم تعد لكم قوة تحققون بها ما تريدون وستذهب ريحكم في هذه الحالة. والفشل هو إخفاق الإنسان دون المهمة التي كان يرجوها من نفسه. وانظروا إلى عبارة الحق تبارك وتعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] . نحن نعرف أن الريح يُطلق على الهواء الذي حيزه الفضاء على سطح الأرض، إذن فمكان الهواء هو أي مكان خال على سطح الأرض، ولذلك نجد العمود المكون من الأسمنت والحديد مثلاً، لا يوجد فيه هواء لأنه لا يوجد فيه فراغ، أما الفواصل التي بين الأعمدة فيوجد فيها هواء لأن فيها فراغاً. ونعلم أن مقومات الحياة طعام وشراب وهواء، ولكن الهواء هو المقوم الأول للحياة؛ لأنك لا تستطيع أن تصبر على الهواء مقدار شهيق وزفير. إذن فالهواء هو المقوم الأول لحياتك وحياة كل من في هذا الكون، وما دام الهواء محيطاً بالشيء بحيث يتساوى الضغط من جميع نواحيه يكون الشيء ثابتاً، فإذا فرّغت الهواء من ناحية قام ضغط الهواء بتحطيم هذا الشيء. وفي التجارب المدرسية شاهدنا تأثير ضغط الهواء، وكانوا يأتوننا بصفيحة وضع فيها ماء ويتركونها تغلي على النار، فيطرد بخار الماء الهواء الموجود في الجزء الفارغ من الصفيحة ليملأ البخار هذا الفراغ، ثم يغلقون الصفيحة بإحكام ويسكبون عليها من الخارج ماءً بارداً؛ فيتكثف البخار، ويقل حجمه، ويصبح جزء من الصفيحة خالياً من الهواء، فتنهار جدران الصفيحة إلى الداخل بسبب ضغط الهواء خارج الجدران، وتفريغ الهواء داخل الصفيحة. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما يعذب قوماً أو ينزل بهم عقاباً، فهو يرسل عليهم ريحاً. ويقول جل وعلا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4724 {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 6 - 7] وكذلك نجده سبحانه وتعالى يقول: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 24 - 25] وأيضاً يقول الحق سبحانه عن الريح التي تغرق بأمواجها العالية: {إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22] إذن فكلمة ريح تعبر عن القوة المدمرة للهواء؛ لأن الريح إذا اتحدت قوتها واتجاهها أصبحت مدمرة. ولكن إن قابلتها ريح ثانية فالتوازن يحدث بين القوتين. ولذلك حين يستخدم الحق كلمة الريح لا يتكلم عنها إلا للتخريب والتدمير. أما إن تكلم عنها للخير فسبحانه يأتي بكلمة «رياح» ؛ لأن تعدد اتجاهات الرياح هو الذي يوجد التوازن في الحياة. فإذا أراد الله أن يهلك بالريح جاء بها من جهة واحدة فتصير قوة الريح من ناحية لا تعادلها قوة أخرى للريح من الجهة المقابلة لتتعادل القوتان. {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4725 ويقول سبحانه وتعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] . أي أن الرياح تنقل اللقاح بين النبات، فيتم التلقيح وتنبت الثمار ويأتي الخير. ولكن هناك آية واحدة جاءت فيها كلمة «ريح» وكانت تحمل الخير في قوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} [يونس: 22] . وسبحانه وتعالى عندما استخدم كلمة {ريح} في هذه الآية وصفها بأنها {طَيِّبَةٍ} . وهنا في الآية سبحانه وتعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] . و «ريحكم» أي قوتكم؛ لأن الريح هنا معناها القوة التي تدمر عدوكم. ونعلم أن السفن في الماضي كانت تُبحر بقوة الريح. وعندما تقَّدم العلم وجاء البخار والكهرباء أُلِغي شراع المراكب واستخدم بدلاً منه ماكينات تدفع حركة السفينة. وتطلق كلمة {الريح} على الرائحة، فيقال: (ريح عطرة) ، وهذه الرائحة تبقى في المكان حتى بعد أن يغادره من استخدم هذه الرائحة، ولكل إنسان من رائحة خاصة، تماماً كما أنّ لكل إنسان بصمة خاصة، ولكننا لا نستطيع أن نميزها، ولكن الكلاب المدربة تميز الرائحة الخاصة بالإنسان، فيأتي الكلب ويشم رائحة الإنسان ويتتبعه إلى المكان الذي ذهب إليه. أو يستطيع أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4726 يخرجه من بين عشرات الأشخاص. ولا تختلط رائحة أحد بأحد رغم وجودهم في مكان واحد، وإلا لما استطاع الكلب المدرب لأن يميز رائحة شخص معين ضمن عشرات الأشخاص الموجودين. وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} يعني بأن تنتهوا ولا يكون لكم أثر؛ لأنه ما دام لكم أثر في الأرض فلكم ريح تميزكم. وتلك التي - كما قلنا - أن الكلاب المدربة تميزها، ولكن الإنسان إذا مات ودفن فلا رائحة له. ويدلنا القرآن الكريم على ذلك حين يتكلم عن قصة يوسف عليه السلام حين ألقاه إخوته في الجب. وعثرت عليه قافلة، ثم اشتراه ملك مصر، ثم دخل السجن وخرج وأصبح هو عزيز مصر. وجاءه إخوته وأعطاهم يوسف عليه السلام قميصه ليلقوه على وجه أبيه يعقوب؛ ليرتد بصيراً، بعد أن أذهب الحزن بصره، يقول الحق عن خروج العير من مصر إلى الشام حيث كان يعيش سيدنا يعقوب: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94] . أي أن القافلة حين خرجت من بين المباني التي يمكن أن تكتم الريح بقوة كتلتها؛ لأن المباني لها إشعاعات قد تكتم الريح وتحجبه، وبعد أن صارت القافلة في الخلاء عرف يعقوب عليه السلام ريح ابنه يوسف من القميص الذي يحملونه: {قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} ثم يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 46] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4727 وهذه تتمة الصورة التي يريدنا الله أن نلتفت إليها، فقد أمرهم الله أن يثبتوا في القتال، والقتال يحتاج إلى قوة وإلى عدم تنازع وإلى صبر على الشدائد؛ خصوصاً إذا كان عدوك صابراً شديد البأس. إذن ففي المعركة يريد الله عَزَّ وَجَلَّ من المؤمنين الثبات في القتال وعدم الفرار، وذكر الله كثيراً، وعدم التنازع حتى لا تضيع قوة المؤمنين، ويوصيهم سبحانه بالصبر؛ لأن عدوهم قد يكون عنده صبر وجلد، فلا بد أن يمتلك المؤمن رصيداً من الجلد والصبر؛ يُمَكّنه من هزيمة عدوه، وصفة الصبر تدل على المنافسة. وهي مأخوذة عندما كانوا يغطسون في الماء، فالذي يبقى تحت الماء أكثر من الآخر يكون نفسه أطول. ولذلك فسيدنا عباس وسيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - دخلا في منافسة في الغطس. وقال له: نافسني، أي لنرى من الذي سيمكث تحت الماء أكثر - ويكون {صابراً} أي يتحمل أكثر في المواقف الصعبة ويصبر صبراً فوق صبر الخصوم. وقوله الحق عَزَّ وَجَلَّ هنا: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 46] . يثبت به سبحانه وتعالى أن كل مؤمن عليه أن يشعر أن الله تبارك وتعالى هو الذي انتدبه ليقوم بهذه المهمة القتالية وهو معه، فلا تخور نفسه؛ لأن الضعيف إذا ما تحصن بالقوي؛ أعطاه الجرأة والقدرة على الاحتمال، تماماً كالولد الصغير، إذا مشى في الشارع وحده قد يعتدي عليه الأولاد الآخرون، ولكن إذا كان يسير مع أبيه لا يقترب منه أحد، فما بالك بالإنسان الذي هو مع ربه؛ لذلك يوصي الحق كل مقاتل أن يتذكر أنه في معية ربه وأن أي حدث ضار في الكون لا يستطيع أن يناله مهما كان ضعيفاً لأن قوة الله معه. ولذلك يروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: إن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول يوم القيامة: « الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4728 يابن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده. . أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه. . أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يابن آدم استسقيتك فلم تسقني؟ قال يا رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي» فإذا مرض إنسان فقد سُلبت منه العافية فلا يستطيع أن يسير ولا أن يتحرك، بل يرقد في فراشه ليتألم، ويوضح لنا الحق سبحانه وتعالى: أنا إن سلبت منه العافية، وهي نعمة فأنا عنده. ولذلك إياك أن تفزع إذا تركتك النعمة ما دام المنعم معك. والمريض المؤمن يستشعر أن الله معه. وحين يكون المسلم في معيّة الله فإن مقاييس المادة والبشريات لا تجيء أبداً، والمثال هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر في الغار، وقد جاء الكفار عند باب الغار فرآهم أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. هذا كلام منطقي مع النظرة المادية، فلو انحنى أحد هؤلاء الكفار ونظر من باب الغار لرأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبا بكر، وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يطمئن أبا بكر وينفي عنه ما جاء في باله من خوف أن يراهما الكفار. كان المفروض أن يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا أبا اطمئن، إنهم لن ينظروا داخل الغار، ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما وفي ذلك قال الإمام أحمد عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: «قلت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونحن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4729 في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» . وما دام الله ثالثهما تكون المعيّة موجودة، وإذا كنت في معيّة من لا تدركه الأبصار، أتدركك الأبصار؟ . طبعاً لا تدركك أبصار الأعداء والخصوم. اللهم اجعلنا في معيّتك دائماً. ثم يكمل الحق سبحانه وتعالى ما يريد ألا يكون عليه المؤمنون في ساعات الشدة فيقول تبارك وتعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4730 والذين خرجوا من ديارهم بطراً هم الكفار عندما علموا أن أبا سفيان قد نجا بالقافلة ولم يتمكن المسلمون من الاستيلاء عليها، وهم قد خرجوا من مكة ليخلصوا القافلة من أيدي المسلمين، فلما قيل لهم إنَّ القافلة نجت يقيادة أبي سفيان فارجعوا. قالوا: لا يكفينان هذا، بل لا بد أن نخرج ونقاتل محمدا ومن معه، وننتصر عليهم وندق الطبول ونذبح الذبائح ليعلم أهل الجزيرة بخبر هزيمة محمد ومن معه فلا يجرؤ احد أن يتعرض لقافلة من قوافلنا. إذن فهم لم يكتفوا بأن أموالهم قد رجعت إليهم، بل أرادوا أكثر مما يقتضي الموقف، أرادوا أن يخرجوا في مظاهرة ضلالية للمفاخرة والتكبر تُثبت أن لهم قوة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4730 وكان يكفيهم نجاة القافلة وينتهي الأمر. وكان عليهم أن يرجعوا، ولكنهم أرادوا أن يقوموا بمظاهرة لا لزوم لها. إذن فالمسألة شماتة، وهذا لون من البطر؛ أن تكون عندك نعمة فلا تقدرها حق قدرها، وتحب أن تعلو عليها. ويقال فلان بطران إذا أحضروا له الإفطار من الفول مثلاً ويقول: إنه يريد المربى والزبد وعسل النحل. وهكذا فعل كفار قريش، فلم يكتفوا بنجاة القافلة، بل استخفوا هذه النعمة فلم يكتفوا بها وطلبوا المزيد. وقوله سبحانه وتعالى: {وَرِئَآءَ الناس} أي يريدون بالحرب مع رسول الله والذين آمنوا؛ السمعة بين الناس، وأن يعرف العرب أنهم خرجوا إلى المدينة وقاتلوا محمداً وصحبه لتكون لهم سمعة وهيبة بين الناس في الجزيرة العربية. وقوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [الأنفال: 47] . لأن الناس حين يرون الكفار المعاندين لمنهج الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد صارت لهم اليد العليا، وهم يرقصون ويغنون لانتصارهم، ويرون المسلمين وهم مختفون خائفون من مواجهة الكفار، فسوف يغري ذلك الناس باتباع منهج الكفر، فكأن الكفار برغبتهم في قتال رسول الله وصحبه إنما يصدون عن سبيل الله. ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى ليوضح: لا تحسبوا أنهم بعيدون عن علمي. {والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4731 أي أن الله سبحانه وتعالى محيط بكل أعمالهم، لا يغيب عنه عمل واحد مما يفعلونه، هو محيط بهم تماماً وهم لا يستطيعون أن يفلتوا منه. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى دور الشيطان وأعوانه وما يفعله بالكافرين؛ فيقول تبارك وتعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4732 وقد رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في منامه الكفار وهم قليل وذلك من صنع الله تعالى لتتم المعركة، وبدأ الشيطان يزين للكافرين أعمالهم ويمتدحها، ويغويهم: أنتم كثيرون ولا أحد مثلكم في فنون القتال وستحصلون على النصر في لمح البصر. لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يثبت المؤمنين ويقويهم، ولذلك شاء الله سبحانه أن يرى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الكفار وهم قليل. والواقع أنهم قليل؛ لأن النصر ليس هنا بالعدد ولكن بتأييد الله تعالى، ومهما كثر الكفار فهم أمام تأييد الله قليل. ويحاول الشيطان أن يزين للكفار قتال المؤمنين، أي يجعله محبباً إلى نفوسهم وأنهم سيحققون النصر، ويصبحون حديث الجزيرة العربية كلها، وتخافهم الناس وتهابهم ويصبحون هم الكبراء وأصحاب الكلمة. وهكذا صور الشيطان لهم عملية قتال المسلمين في صورة محببة إلى قلوبهم. وهنا نرى بوضوح غباء الشيطان وعجزه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4732 عن أن يعلم قضاء الله، فلو علم ما ستنتهي إليه معركة بدر ما زين للكفار دخول المعركة؛ لأن المعركة انتهت بنصر المسلمين وقتل صناديد قريش، وعلت صورة المؤمنين في الجزيرة العربية كلها. ولم يكن النصر هو ما يريده الشيطان، ولكنه لجهله زين للكافرين المعركة. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48] . أي أن وسوسة الشيطان للكفار كانت في صورة تضخيم قوتهم وأن أحداً لن يغلبهم في قتالهم ببدر، وأنه - أي الشيطان - سيناصرهم في المعركة ويجيرهم إن حدث لهم سوء، ولكن هل للشيطان سلطان على أن يُعين الكفار؟ نحن نعلم أن الشيطان ليس له سلطان إلا التزيين فقط، فكيف يكون له سلطان على نتيجة المواجهة بين الحق والباطل؟ . إن الشيطان يأتي في الآخرة فيطلب منه الكفار أن يجبرهم من عذاب الله تعالى؛ لأنه هو الذي أغواهم وزين لهم سوء أعمالهم وجرهم إلى طريق النار، فيتبرأ منهم ويقول لهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] . أي أنه يقول للكافرين: أنا لم أجبركم على المعاصي، فلم يكن لي عليكم سلطان القهر؛ لأقهركم على أن تفعلوا شيئاً ولا سلطان الحجة لأقنعكم بأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4733 تفعلوا المعاصي، ولكني بمجرد أن دعوتكم استجبتم لي؛ لأنكم تريدون المعصية واتباع شهواتكم. وقوله: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} وأصرخ فلاناً أي سمع صراخه فذهب إليه لينقذه، والإنسان عندما يواجه قوة أكبر منه يلجأ إلى الصراخ لعل أحداً يسمع صراخه ويأتي لنجدته. والذي يسمع الصراخ إما أن يكون ضعيفاً فلا يستجيب؛ لأنه لا يستطيع أن ينقذ ذلك الذي يواجه الخطر، وإما أن يكون قوّياً فيذهب لنجدته، فيقال: (أصرخه) أي أنقذه وأزال سبب صراخه، وقوله تعالى: حاكيا ما يقوله الشيطان {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} أي أن الشيطان لا يستطيع أن ينجيهم من العذاب وينقذهم منه، فيزيل سبب صراخهم: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي أنتم لا تستطيعون دفع العذاب عني. وقد أخذ الشيطان يزين لهم أعمالهم ويعدهم كذباً بأنه سيجيرهم ويؤازرهم ويعمل على نصرهم حتى اقترب المؤمنون والكفار من بعضهم البعض وأصبحوا على مدى رؤية العين. {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ} [الأنفال: 48] . أي أنه بمجرد الترائي بين المؤمنين والكفار، وقبل أن يلتحموا في المعركة ويبدأ القتال هرب الشيطان وتبرأ من الكفار وجرى بعيداً، وهذا ما يشرحه الله تعالى في قوله: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [الحشر: 16] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4734 وهذا كلام منطقي مع موقف الشيطان حينما طرده الله ولعنه؛ لأنه رفض تنفيذ أمر السجود لآدم؛ فقال له الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين} [ص: 78] . حينئذ تضرع الشيطان إلى الله تعالى أن يبقيه إلى يوم القيامة: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14] . وهكذا أقر الشيطان بطلاقة القدرة لله تعالى وبأنه عاجز لا يقدر على شيء أمام قوة الله، فقال الحق تبارك وتعالى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 37 - 38] . إذن فالشيطان لا قدرة له ولا قوة على فعل شيء، وكل ما يمكنه هو الخداع والتزيين والكذب، ولذلك أخذ يخدع الكفار ويكذب عليهم، وما أن صار المؤمنون والكفار على مدى رؤية العين بعضهم لبعض، هرب الشيطان وفزع ونكص على عقبيه، وأعلن خوفه من الله؛ لأنه يعلم أن الله شديد العقاب. إذن فمصدر خوف الشيطان هنا هو الخوف من العقاب ومن العذاب الذي سيصيبه حتماً، ولم يفزع الشيطان - إذن - حبّاً لله تعالى. ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى: {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4735 «المنافق» كلمة مأخوذة من نافقاء اليربوع، وهو حيوان يشبه الفأر يعيش في الجبال في سراديب، وحين يتتبعه حيوان آخر ليفترسه، فهو يسرع إلى جحره الذي يشبه السرداب، وهو يفتح أكثر من فتحة لهذا الجحر لتكون مخارج له، ومثل هذه الفتحات كالأبواب الخلفية، فينجو من الافتراس، فكأنه فتح لنفسه نفقاً، ينافق منه غيره فلا يقوى على اللحاق به. ولذلك نجد المنافق متعارضاً مع نفسه؛ ينطق لسانه بما لا يؤمن به، وبينما المؤمن منسجم النفس؛ ينطق لسانه بما في قلبه، والكافر أيضا كذلك منسجم ينطق لسانه بما في قلبه من الكفر، ولكن المنافق متخبط مع نفسه، لسانه يقول كلمات الإيمان وقلبه يضمر الكفر، وهكذا تتعاند ملكات المنافق، وحينما يكون القلب واللسان متعاندين لا توجد راحة نفسية، وحسبك من المنافق أنه متعاند في الملكات. ويصف الحق سبحانه وتعالى المنافقين بقوله: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] . إذن فالذاتية ضائعة؛ لأن الإنسان لا يفقد ذاته حينما تكون ملكاته منسجمة ولا توجد ملكة تعارض ملكة أخرى ويكون عمله متوازناً، ولكن الذي تتعاند ملكاته يعيش دائما في قلق نفسي وحيرة. ولذلك يحاول أن يهرب من واقعه، فيلجأ إلى المخدرات أو غيرها، وليس الحل بأن يخدر الإنسان نفسه أمام الأحداث، ولكن لا بد أن يواجه الإنسان الأحداث ويحاول إيجاد حل لها، والمنافق لا يقدر على ذلك فينهار، ويقول الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} [الأنفال: 49] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4736 وبعد أن ينتصر المؤمنون نجدهم وهم يزدادون إيماناً وثقة في أنفسهم، وتملؤهم عزة الإيمان، فينظر إليهم المنافقون بحسد وحقد؛ لأنهم يكرهون المؤمنين؛ ولا يتمنون لهم خيراً، فهم في نفاقهم كفار، في قلوبهم غل للمؤمنين يخاطب بعضهم البعض ويقولون: أصاب هؤلاء الغرور بدينهم. ولكن ما أصاب المؤمنين ليس غروراً؛ لأن معنى الغرور أن تغار بخصلة فيك تجعلك متفوقاً على غيرك؛ والمؤمن ساعة النصر لا يغتر بنفسه ولكنه يعتز بالله القوي العزيز، ويزداد تواضعاً له ويكون مشغولاً بشكر الله على ما حققه له من نصر، أما المغرور فهو من يعزل النعمة عن المنعم وينسبها لنفسه. والمؤمنون ينسبون كل شيء لله تبارك وتعالى؛ لأنهم يعلمون أن النعمة عطاء من يد الله الممدودة بالنعم التي لا تعد ولا تحصى وما دامت النعمة لم تبعد الإنسان عن الله، فإن الله يزيده منها؛ لأنه مأمون على النعمة وينسبها لصاحبها، والمغرور يستعلي بأي خصلة يتميز بها عكس المؤمن الذي لا يستعلي أبداً بها؛ لأنه يعلم أنه لا ذاتية له، وأن الفضل لله تعالى، وذلك يقول الحق تبارك وتعالى وهو يصف المؤمنين: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] . والشدة هنا ليست غروراً، ولكنها طبع وملكة، ولو كانت غروراً لبقيت كما هي، ولكن المؤمن شديد على الكفار ذليل على المؤمنين لا يتكبر عليهم أبداً، ولا يمكن أن يجعله إيمانه في قالب جامد؛ لأن الإيمان يعطي المؤمنين مرونة أمام الأحداث، لذلك نجد المؤمن لا هو شديد على إطلاقه، لأن هناك مواقف تتطلب الرحمة في التعامل مع المؤمنين، ولا هو رحيم على إطلاقه؛ لأن هناك مواقف تتطلب الشدة في مواجهة الكفار. وكان سيدنا أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - معروفاً بأنه كان كثير البكاء من خوفه وخشيته لله؛ وقلبه مليء بالرحمة على المؤمنين. ولكن عندما جاءت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4737 حرب الردة لمانعي الزكاة ماذا حدث؟ . جلس هو وعمر بن الخطاب، والمعروف عن عمر أنه كان شديدا، وجلسا يتشاوران، وكان رأي عمر ألا يقاتلوا من ارتدوا بإنكارهم ومنعهم الزكاة؛ لأنهم قالوا: لا إله إلا الله، فقال له أبو بكر: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقاتلتهم على منعه» . هذا هو أبو بكر الذي عُرف عنه أنه كان كثير البكاء من خشية الله تعالى، وكان قلبه يمتلىء بالرحمة للمؤمنين. إنه يعلن في قوة وشدة في الحق أنه سوف يقاتل الخارجين على حدود الله والمانعين المنكرين للزكاة. ولو أن هذا الأمر حدث من عمر لقال الناس: شدة ألفناها، ولكن أن يحدث هذا الأمر من هذا الرجل الطيب الرحيم المطبوع على الرقة وعلى اللين؛ فهو أمر يبين لنا شدة المؤمن في مواجهة الكفر. المؤمن - إذن - لا هو مطبوع على الشدة المطلقة ولا هو مطبوع على الرحمة المطلقة، لكنه شديد حين تكون الشدة مطلوبة للدين، ورحيم حينما تكون الرحمة مطلوبة للدين، وعزيز حين تكون العزة للدين، وذليل حين تكون الذلة للدين. إذن فقول المنافقين: {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} لا يستند إلى حكم صحيح، بل هو مما يمليه عليهم نفاقهم، لماذا؟ . لأن المؤمنين يتوكلون على الله دائما وينسبون كل الفضل لله تعالى: {فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49] . وما دام الله عزيزاً فالذي آمن به عزيز، وسبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4738 وما دام الله حكيماً فهو يعطي الحكمة للمؤمنين، والتوكل على الله معناه أن تكل كل أمورك إليه سبحانه وتعالى، وأول هذه الأمور أنه أمرك بالأخذ بالأسباب، فلا تترك الأسباب أبداً، بل خذ بها دائما مع التوكل عليه فإذا لم تسعفك فهناك المسبب. فقد قال الحق تبارك وتعالى لعباده المؤمنين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] . وأمرنا سبحانه وتعالى: بالسعي فقال عَزَّ وَجَلَّ: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} [الملك: 15] . فهو سبحانه وتعالى كما أمر المؤمنين بأن يقاتلوا ويأخذوا بالأسباب؛ لأنه سبحانه يريد أن يعذب الكفار بأيدي المؤمنين، أمرهم سبحانه وتعالى كذلك أن يسعوا في سبيل الرزق. وأنت حين تتواكل تنقل صفة إلى صفة؛ لأن التوكل عمل القلوب، والعمل تقوم به الجوارح، فلا تجعل التواكل عمل الجوارح؛ لأن الجوارح تعمل بالأسباب. والقلوب تتوكل على الله، وهكذا نفهم أن التوكل الحقيقي للجوارح هو أن تعمل ولذلك فلا بد من العمل والأخذ بالأسباب مع التوكل، ولا بد لنا أن ننتبه إلى المنافقين في بدر الذين قال عنهم الله سبحانه وتعالى: {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} [الأنفال: 49] . والمنافقون - كما قلنا - هم القوم الذين تتصارع ملكاتهم، وما على ألسنتهم يتناقض مع ما في صدورهم، أما الذين في قلوبهم مرض فهم ضعيفو الإيمان؛ مسلمون ساعة الرخاء؛ فارون من الدين ساعة الشدة. إذن فهناك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4739 فريقان ذكرهما الحق سبحانه وتعالى؛ المنافقون وهؤلاء كانوا من الأوس والخزرج ملكاتهم متضاربة؛ لأنهم كانوا يريدون السيادة على المدينة. وواحد منهم كان ينتظر أن يلبس تاج الملك، وبمجيء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة تنتهي منه هذه الفرصة وتضيع فرصة الملك والزعامة، وقد أوجد ذلك في نفسه حقداً وغيظاً. ولكن ظاهرة الإقبال من أهل المدينة كلهم على الإيمان والدخول في الإسلام؛ جعلت هؤلاء المنافقين لا يستطيعون المقاومة؛ لذلك نطقوا الشهادتين بألسنتهم وبقي في قلوبهم حقد وضغينة على الإسلام، فالواحد منهم تتجاذبه ناحيتان متعارضتان. والذين في قلوبهم مرض ليسوا منافقين ولكنهم ضعيفو الإسلام، وقد دخلوا إلى الدين ليأخذوا وهم لا يعطون، فإذا أعطاهم الإسلام بعضاً من نعم الدنيا فرحوا بها، وإذا أصابتهم شدة هربوا. ومن هؤلاء بعض الذين أسلموا في مكة. ولكن إسلامهم لم يصل بهم إلى أن يهاجروا إلى المدينة؛ خوفا من أن يتركوا أموالهم وأولادهم فظلوا في مكة، ومرضى القلوب هؤلاء لا يعدمون الحياة؛ لأن المرض لا يعدم الحياة، لكنهم كانوا يعانون من عدم صحة الإيمان، ولما جاءت عملية القتال في غزوة بدر تشاوروا: أيذهبون مع الكفار أو لا يذهبون؟ ومع أي من الفريقين يقاتلون؟ . وقالوا: نخرج مع الكفار فإن وجدنا أنهم أقوى كنا معهم، وإن وجدنا المسلمين هم الأقوياء انضممنا إليهم. ومن هؤلاء قيس بن الوليد المغيرة وعلي بن أمية بن خلف والعاصي ابن منيه بن الحجاج والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب وأبو القيس بن الفاكه ابن المغيرة. وتجمع هؤلاء مع بعضهم وذهبوا إلى المعركة لينضموا إلى المنتصر، مؤمنا كان أو كافرا. وهم أخذوا هذا الموقف؛ لأن صحة الإيمان في قلوب هؤلاء غير موجودة فهم أصحاب قلوب مريضة ومتعلقة بحب الدنيا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4740 وما قاله المنافقون والذين في قلوبهم مرض يدل على الرغبة في اتقاء الضرر، مع أن هؤلاء في المدينة وهؤلاء في مكة ولكنهم قالوا شيئاً واحداً، وهذا دليل على أن إغواء الشيطان للفريقين كان واحداً. ولذلك اتحدت العبارة. وقال هؤلاء وهؤلاء: {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} قالها الفريقان (فريق المنافقين وفريق الذين في قلوبهم مرض) مع اختلاف المكان، فبعضهم - كما علمنا - من مكة وبعضهم من المدينة. إذن فلا بد من وجود قاسم مشترك دفعهم أن يقولوا قولاً واحداً، أي أن الشيطان وسوس إليهم بهذه العبارة. ولذلك كان الوجب أن ينتبهوا إلى أن اتفاق القول دليل إغواء الشيطان لهم. وما معنى: {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} . غررت فلاناً أي زينت له الأمر تزييناً بحيث يقبل عليه إقبالاً لا ترشحه قوته له، وقويت استعداده لكي يقوم به، فإذا جئت لإنسان محدود الدخل مثلاً وأردت أن تغريه بشراء سيارة. فأنت تقول لتزين له المسألة: اقترض من فلان وفلان وادفع الباقي بالتقسيط، كأنك تغريه أن يتخذ موقفاً غير موقفه الذي كان ينوي القيام به. ولكن ما وجه الغرور في الدين؟ . إن المؤمنين المغترين بدينهم قد أحسوا بكثرتهم رغم أن عددهم قليل. فأقبلوا على الحرب بالرؤيا التي أراها الله سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن عدد الكفار قليل، وبوعد الله لهم بالنصر، أو غرهم بأن أوضح لهم أنَّ الذي يموت مقتولاً في هذه الحرب يصير شهيداً وتكتب له حياة خالدة، وقد جعل ذلك القوي منهم والضعيف يقاتلان بقوة؛ لأن الشهيد سيذهب إلى الجنة. وهكذا - في رأي المنافقين - اغتر المؤمنون بدينهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4741 ويرد الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم بقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49] . هذا هو الرد عليهم في أن المؤمنين لم يغرهم دينهم، بل إنهم متوكلون على الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه، وسبحانه عزيز لا يغلب، وحكيم يضع الهزيمة في موضعها والنصر في موضعه. إذن فالمسألة أن هؤلاء المؤمنين قد اختاروا الله فأعزهم ونصرهم. ولكن هل قيلت هذه العبارة من المنافقين علناً؟ . لا، إنهم لم يجرءوا أن يعلنوها بل قالوها سّراً في أنفسهم، فأعلم الله سبحانه وتعالى رسوله بما حدث في نفوسهم، وكانت هذه لفتة من الله سبحانه وتعالى بأن فضح حقيقتهم لعلهم ساعة يسمعون ما يدور في نفوسهم؛ قد يتركون نفاقهم ويعودون إلى حظيرة الإيمان الصحيح، خصوصاً إذا انتبهوا إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52] . ففي هذه الآية الكريمة يوضح الله سبحانه وتعالى موقف المؤمنين في كل معركة يخوضونها، فهم إما أن ينتصروا ويهزموا الكفار ويقتلوهم ويأخذوا غنائمهم، وإما أن يستشهدوا فيدخلوا الجنة، وكلّ من الأمرين خير. وكشف الحق ما يدور في صدور المنافقين، وكان ذلك تنبيهاً للمؤمنين بألا يؤثر فيهم كلام المنافقين؛ لأن المؤمنين قد توكلوا على الله والله غالب على أمره. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4742 {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4743 والذي يُوجه إليه هذا الخطاب هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومعناه لو كشفنا لك الغيب لترى، وتلاحظ أن الله سبحانه وتعالى ترك الجواب، فلم يقل ماذا يحدث لهذا الكافر الملائكة يضربونه، وإذا ما حذف الجواب فإنك تترك لخيال كل إنسان أن يتصور ما حدث في أبشع صورة، ولو أن الحق سبحانه وتعالى جاء بجوابه لحدد لنا ما يحدث، ولكن ترك الجواب جعل كلا منا يتخيل أمراً عجيباً لا يخطر على البال، ويكون هذا تفظيعاً لما سوف يحدث. والصورة هنا تنتقل بنا من عذاب الدنيا للكفار إلى ساعة الموت. و {يَتَوَفَّى} أي لحظة أن تقبض الملائكة أرواح الكافرين، والتوفي وهو قبض الأرواح يجيء مرة منسوباً لله سبحانه وتعالى مصداقاً لقوله: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم} ومرة يأتي منسوباً لرسل من الله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} ومرة يأتي منسوباً إلى ملك الموت وهو عزرائيل: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} وبذلك يكون التوفي في أسند مرة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ ومرة إلى عزرائيل ومرة إلى رسل الموت، ونقول: لا تعارض في هذه الأقوال؛ لأن الأمر في كل الأحوال يصدر من الله سبحانه وتعالى، إما أن يقوم عزرائيل بتنفيذه وإما جنوده وهم كثيرون. الأمر الأصيل - إذن - من الله، وينسب إلى المتلقي المباشر من الله وهو عزرائيل، ويُنسب إلى من يطلب منهم ملك الموت أن يقوموا بهذه العمليات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4743 وهذا العذاب يحدث ساعة الاحتضار وهي اللحظة التي لا يكذب الإنسان فيها على نفسه؛ لأن الإنسان قد يكذب على نفسه في الدنيا، وقد يكون مريضاً بمرض لا شفاء منه فيقول: سأشفى غداً، ويعطي لنفسه الأمل في الحياة، وقد يكون فقيراً لا يملك من وسائل الدنيا شيئاً ويقول: سوف أغتني؛ لأن الإنسان دائما يغلب عليه الأمل إلا ساعة الاحتضار، فهذه لحظة يوقن فيها كل ميت أنه ميت فعلاً ولا مفَّر له من لقاء الله، ولذلك تجد أن الذي ظلم إنساناً لحظة يموت يقول لأولاده: أحضروا فلاناً لقد ظلمته فردوا له حقوقه نحوي وما ظلمته فيه، والإنسان لحظة الاحتضار يرى كل شريط عمله. فإن كان مؤمناً رأى شريطاً منيراً؛ فيبتسم ويستقبل الموت وهو مطمئن. وإن كانت أعماله سيئة فهو يرى ظلاماً، ويتملكه الذعر والخوف لأنه عرف مصيره. وحينما زين الشيطان للكفار أن يقاتلوا المؤمنين ووعدهم بالنصر، وقال: إنني سأجيركم إذا دارت عليكم الدائرة، فلما أصبح المؤمنون والكفار على مدى الرؤية من بعضهم البعض هرب الشيطان؛ لأنه رأى من بأس الله ما لم يره الكفار، وهذا هو موقف الشيطان دائماً، إذا رأى بأس الله أسرع بالفرار، ويعترف أن كل حديثه لابن آدم إنما هو وعد كاذب سببه الحقد الذي في قلبه؛ لأنه تلقى العقاب من الله عَزَّ وَجَلَّ بعد أن رفض تنفيذ أمر الله له بالسجود لآدم، وهو الذي أوجب عليه العذاب الذي سيلاقيه. ونرى الشيطان مثلاً كما يخبرنا الحق سبحانه وتعالى بقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] . أي أنه أقسم بجلال الله وعزته. ومعنى عزة الله أنه غني عن خلقه جميعاً لا يحتاج لأحد منهم، فهو الله بجلال وجمال صفاته قبل أن يوجد أحد من خلقه قد خلق هذا الكون وأوجده ولم يستعن بأحد، ولو آمن به الناس جميعاً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4744 ما زاد ذلك في ملكه شيئاً. ولو كفر به الناس جميعاً ما نقص ذلك من ملكه شيئاً. وقسم إبليس بعزة الله إقرار منه بها. وقد أقسم بعزة الله أن يطلب الغواية للإنسان؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما دام لا يزيد ملكه ولا ينقص بإيمان خلقه؛ لذلك أعطاهم حرية الاختيار، ولو أراد الله الناس مؤمنين ما استطاع إبليس أن يقترب من أحد منهم، ويحاول إبليس بحقده على الإنسان وكرهه له أن يصرفه عن طريق الإيمان، ولكن هل يملك إبليس قوة إغواء على مؤمن؟ . لا، ولذلك فهناك استثناء: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83] . أي أن إبليس لا يستطيع أن يقترب من عبد مؤمن مخلص في إيمانه. ولذلك لا بد أن نلتفت إلى قول الشيطان الذي جاء على لسانه في الآية الكريمة: {إني أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 48] . إذن فما دام إبليس يخاف الله، وما دام يعلم أن الله شديد العقاب فما الذي أذهب عنه هذا الخوف حين أمره الله بالسجود لآدم فعصى؟ . خصوصاً وهو يعلم أن الله شديد العقاب، ولو كان قد عرف أن الله لا يعاقب أو يعاقب عقاباً خفيفاً لقلنا أغرته بساطة العقاب بالمعصية. ولكن علمه بشدة العقاب كان يجب أن يدفعه إلى الطاعة من باب أولى. ونقول: إنه في ساعة الكبر نسي إبليس كل شيء!! فأنت في حين يأخذك الكبر تتعالى ولو في مواقع الشدة، حتى وإن علمت أنه قد يصيبك عقاب شديد، ولكن يختفي كل هذا من نفسك إذا دخل فيها الكبر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4745 ولذلك قد تجد إنساناً يُعذب بضرب شديد ولكن الكبر في نفسه يجعله لا يصيح ولا يصرخ. ونجد إنساناً قد يتخذ في لحظة كبر قراراً له عواقب وخيمة ولكنه يتحمله. وإبليس ساعة رفضه تنفيذ أمر السجود كان يمتلىء بالكبر والغرور، فتكبر على أمر الله وملكه الغرور فقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] . إذن ففي لحظة الكبر نسي إبليس كل شيء، واندفع في معصيته يملؤه الزهو وأصر على المعصية رغم علمه أن الله شديد العقاب. وفي قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الأنفال: 50] . نجد أنه قد حذف جواب «لو» والمعنى لو كشف الحجاب لترى الملائكة وهم يتوفون الذين كفروا لرأيت أمرا عظيما فظيعا، وهل يحدث هذا ساعة القتال عندما يُقتل الكفار في المعركة وتستقبلهم الملائكة بالضرب، أم يحدث هذا الأمر لحظة الوفاة الطبيعية؟ . كلاهما صحيح والعذاب هذا أخذ صفة الإقبال ومحاولة الهرب، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ. .} [الأنفال: 50] . فالمقبل منهم يضربونه على وجهه، فإذا أدار، وجهه ليتقي الضرب، يضربونه على ظهره، وكان الكفار يعذبون المؤمنين بهذه الطريقة؛ فالمقبل عليهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4746 من المؤمنين يضربونه على وجهه، فإذا حاول الفرار ضربوه على ظهره وعلى رأسه. ويذيق الله الكافرين ما كانوا يفعلونه مع المؤمنين. ولكن الفارق أن الضارب من الكفار كان يضرب بقوته البشرية المحدودة. أما الضارب من الملائكة فيضرب بقوة الملائكة. ويقال: إن الملائكة معهم مقامع من حديد. أي قطع حديد ضخمة يضربون بها وجوه الكفار وأدبارهم. ومن شدة الضربة واحتكاك الحديد بالجسم تخرج منه شرارة من نار لتحرق أجساد الكفار. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الأنفال: 50] . إذن فهم يضربون الكفار ساعة الاحتضار ضرباً مؤلماً جدا هذا الضرب رغم قسوته، والشرر الذي يخرج منه لا ينجيهم في الآخرة من عذاب الحريق. ولذلك «أقبل صحابي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال له: يا رسول الله. . لقد رأيت في ظهر أبي جهل مثل شراك النعل. أي علامة من الضرب الشديد ظاهرة على جسده، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ذلك ضرب الملائكة، وجاء صحابي آخر وقال: يا رسول الله. . لقد هممت بأن أقتل فلانا فتوجهت إليه بسيفي، وقبل أن يصل سيفي إلى رقبته رأيت رأسه قد طار من فوق جسده. فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: سبقك إليه الملك» وذلك مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4747 وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50] . أي أن الضرب فيه إهانة أكثر من العذاب، ولو أن العذاب قد يكون أكثر إيلاماً. فقد يقوم مجرم بارتكاب جريمة ما فإذا أُخِذَ وعُذب ربما تحمل العذاب بجلد، ولكنَّه إذا ضُرب أمام الناس كان ذلك أشدَ إهانة له، فإذا كان الضرب من الذي وقعت عليه الجريمة كانت الإهانة أكبر. ولكن هذا الضرب والعذاب لا ينجيهم من عذاب النار، بل يدخلون إلى أشد العذاب يوم القيامة، وهذه نتيجة منطقية لما يفعله الكفار من عدم الإيمان بالله ومن قيامهم بإيذاء المؤمنين به والإفساد في الأرض. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4748 نحن نعلم أن معظم أعمال الإنسان يزاولها بيده، وقد يفعل أشياء بقدميه أو بلسانه؛ لكن معظم الأعمال تتم باليد؛ لأن اليد تحمل القدرة على الفعل. فسبحانه لم يفتئت عليهم. و «ذلك» إشارة إلى الضرب والعذاب الذي ينالونه جزاء ما قدمت أيديهم. ويقول سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4748 أي أن العذاب الذي يصيب الكفار يكون نتيجة أمرين؛ ما قدمت أيديهم أي بما كسبت من الآثام والمعاصي، وعدل الله سبحانه وتعالى. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 181 - 182] . ويقول سبحانه وتعالى في سورة الحج: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 10] . وهكذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: إنه ليس بظلام للعبيد ثلاث مرات في القرآن الكريم، والذين يحبون أن يستدركوا على كتاب الله يقولون: إنَّه جاء في القرآن أكثر من مرة أنه سبحانه وتعالى ليس بظلام للعبيد. فهل هذا يعني أن الله - معاذ الله - ظالم؟ . ونقول: لا، فسبحانه ينفي الظلم عن نفسه على إطلاقه. والإنسان حين يظلم فهو ظالم، فإذا اشتد ظلمه وتعدد، يقال: «ظلاَّم» . إذن فهذه صيغة مبالغة في الظلم، مثلما تقول: فلان «آكل» وفلان «أكّال» أي كثير الأكل مبالغة في تناول الطعام. وتقول: فلان «ناجر» أي أمسك قطعة خشب بدون خبرة وصنع منها شيئاً. ولكنك إذا قلت: «نجَّار» كانت هذه صيغة مبالغة تبين إاتقانه في صنعته، كذلك «خائط» و «خيَّاط» ، ونقول: فلان «جازر» أي يستطيع أن يذبح، فإذا قلت: «جزَّار» أي عمله هو أن يذبح بإتقان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4749 إذن «فعَّال» صيغة مبالغة في الفعل. وصيغ المبالغة لها حالتان، حالة إثبات وحالة نفي. فأنت حين تقول: فلان «أكّال» أثبت له صفة المبالغة في الأكل - أي كثرة الأكل، ومن باب أولى صفة الأكل مطلقاً، وما دمت قد أثبت له الصفة الأعلى تكون الصفة الأدنى ثابتة، فإذا قلت: إن فلاناً «خياط» أثبت له أنه يعرف الخياطة ويجيدها. وإن قلت: إنه «نجَّار» أثبت له أنه ناجر متقن للنجارة، أما من ناحية النفي فإذا قلت: إن فلاناً ليس أكَّالاً تنفي المبالغة ولكنها لا تنفي أنه يأكل، فإذا قلت: إن فلاناً ليس نجاراً نفيت عنه إتقانه للنجارة ولكنك لا تنفي عنه أنه قد يكون ناجراً، وإذا قلت: إن فلاناً ليس علاّمة فقد يكون عالماً. وأنت عندما تثبت الأعلى تثبت الأدنى، وعندما تنفي الأعلى لا تنفي الأدنى. وعندما تقول: إن فلاناً ليس ظلاَّماً، تكون قد نفيت الأعلى. ولكن لا يلزم نفي الأدنى فقد يكون ظالماً فقط وليس ظلاَّما. إذن فكلمة «ليس ظّلاماً» نفت المبالغة فقط ولكنها لم تنف الظلم. وهذا ما قاله المستشرقون: إن آيات القرآن يناقض بعضها بعضاً، ففي آية مثلاً يقول: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ} فنفي الأعلى ولا يلزم من نفي الأعلى نفي الأدنى. ويقول سبحانه وتعالى في آية أخرى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] . فنفي الأدنى والأعلى. وهذا في رأيهم تضارب. نقول: هل إذا نفي الأعلى يلزم أن يثبت الأدنى؟ طبعاً لا، إن نفي الأعلى لا يمنع أن يوجد الأدنى ولكنه لا يلزم بوجوده. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4750 نفي مبدأ الظلم، وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51] . نفي مبدأ المبالغة، والقرآن يكمل بعضه بعضاً، فإذا قيل: إن الله نفى الأعلى وهذا إثبات للأدنى نقول: إن نفي الأعلى لا يلزم منه إثبات الأدنى ولا يمنع من وجود الأدنى، فإذا جاءت آية أخرى ونفت الأدنى، إذن فلا هو بظلاَّم ولا هو بظالم. ولا بد أن نلتفت إلى الإعجاز القرآني في الأسلوب، فالمتكلم هو الله. نقول: هل قال الله سبحانه وتعالى: ليس بظلاَّم للعبد أم ليس بظلاَّم للعبيد؟ لقد قال الحق: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} وهي هنا صيغة مبالغة، والمبالغة مرة تكون في قوة الحدث وإن لم يتكرر، ومرة تكون في المبالغة في تكرار الحدث، والإنسان حين يظلم ظلماً بيّناً مبالغاً فيه يقال عنه: إنه ظلاَّم؛ لأنه بالغ في الظلم، فإذا لم يبالغ في الظلم وكان ظلماً بسيطاً ولكنه شمل عدداً كبيراً من الناس يكون ظلاَّما نظراً لتعدد المظلومين. وما دام الحق سبحانه وتعالى قال: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ؛ ولم يقل: ليس بظلاَّم للعبد، وبما أن الظلم يتناسب مع القدرة. نجد مثلاً قدرة الحاكم على الظلم أكبر من قدرة محدود النفوذ؛ وهذه أكبر من قدرة الشخص العادي، فلو كان الله سبحانه وتعالى مع كل واحد من عباده ظالماً ولو مثقال ذرة لقيل: ظلاَّم. وقد أراد الله سبحانه وتعالى بهذه الآية الكريمة أن يخبرنا أنه لا يظلم أحداً ولو مثقال ذرة، إذن فهو ليس بظلاَّم للعبيد؛ لأنه لو ظلم كل عبد من عباده ذرة لكانت كمية الظلم هائلة لكثرة العباد. ولكن حتى هذه الذرة من الظلم لا تحدث من الله سبحانه؛ لأن الله ليس بظلاَّم للعبيد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4751 ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى أمثلة قمة الكفر في الحياة الدنيا فيقول تبارك وتعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4752 و {الدأب} هو العادة التي تتكرر مع الإنسان ويقال: دؤوب على كذا؛ أي يفعله باستمرار. ويوضح الله سبحانه وتعالى هنا لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: دأب هؤلاء الكفار معك يا محمد، أي عادتهم معك، كدأب آل فرعون مع رسولهم، أي أنهم يفعلون معك يا محمد، أي عادتهم معك، كدأب آل فرعون مع رسولهم، أي أنهم يفعلون معك كما فعل آل فرعون مع موسى عليه السلام. وقوله تعالى: {والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم، ما الذي حدث لهؤلاء؟؛ هلاك أو اسئصال أو تعذيب أو إغراق أو خسف. إذن فالكفار الذين يعادون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويحاربونه، ويقفون موقف الأذى منه، هذا الدأب والموقف منهم معه مثل دأب وموقف آل فرعون مع موسى عليه السلام، وقوم لوط مع لوط عليه السلام، وكذلك الذين من قبلهم، ويقول الحق تبارك وتعالى: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} [الأنفال: 52] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4752 فهل تركهم الله؟ . لا. {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} فمنهم من أُغرقوا، ومنهم من أصابتهم الصاعقة، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، وما دام الله سبحانه وتعالى قد فعل ذلك مع الكفار السابقين كما هو ثابت. فسبحانه سوف ينزل عقابه على الكفار الذين يكذبون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهم لن يخرجوا عن قاعدة التعامل مع المكذبين للرسل، وقد حدثت سوابق مشابهة في الكون وقضايا واقعية. فآل فرعون مثلاً بلغوا قمة التقدم والحضارة في عصرهم وسبحانه وتعالى يقول عن حضارة الفراعنة: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 10] . وبالنسبة لثمود إذا ذهبنا إلى مدائن صالح في السعودية نجد آثار ثمود وقد حفروا بيوتهم في صخور الجبال، ويقول الحق عن حضارة ثمود: {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد} [الفجر: 9] . وكل الحضارات القديمة قد زالت في غالبيتها ولا أثر لها، وإن وجد أثر، فهو أثر قليل وبسيط لا يحمل كل سمات الحضارة، إلا آثار الفراعنة؛ حيث تحوي مسلات ضخمة وأعمدة عالية وأهرامات كبيرة وهي باقية، أما حضارة قوم عاد فالحق سبحانه قد طمس آثارها فلم نعثر منها على شيء حتى الآن. لقد انطمست غالبية آثار الحضارات إلا آثار حضارة آل فرعون التي يأتي إليها الناس من أنحاء الدنيا كلها؛ ليتعجبوا من جمال البناء وروعة الفن وقمة التقدم في التصميم الهندسي، وكيف نُقِلت هذه الأحجار الضخمة إلى الأماكن العليا بدون سقالات، وكيف ارتبطت الأحجار كلها مع بعضها البعض كل هذه السنوات الطويلة دون استخدام الأسمنت أو غيره من مواد التثبيت للأحجار، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4753 بل تم ذلك بتفريغ الهواء. فكيف استطاعت هذه الهندسة العجيبة أن تفرغ الهواء بين حجرين كبيرين ضخمين؛ ليلتصقا ببعضهما التصاقاً محكماً بغير لاصق ولا يستطيع أحد أن يزحزحه، فإذا كانت حضارة الفراعنة قد وصلت إلى هذا الفن الهندسي باستخدام تفريغ الهواء بين أثقال ضخمة فهي حضارة راقية جدا. هذا إن نظرت إلى فن البناء فقط، وكذلك إن نظرنا إلى تحنيط الجثث التي لا يعرف أحد سرها حتى الآن، وكيف أمكن المحافظة على المومياوات آلاف السنين دون أن تتحلل. وكذلك إن نظرت إلى الألوان التي طليت بها المعابد والرسومات وبقيت زاهية كما هي رغم كل ذلك الزمن الطويل، وإلى الحبوب التي حُنطت وبقيت آلاف السنين دون أن يصيبها أي تلف، بل وصالحة للطعام، هذه الحضارة التي احتفظت بأسرار هذه الأشياء فلم تصل إليها البشرية حتى الآن، لا بد أن تكون حضارة قوية وعالية، ولكنها رغم قوتها وعلوها لم تستطع أن تحفظ نفسها من الانهيار لتصبح أثراً وتظل آثارا. أين ذهب صناع هذه الحضارة وقد بلغوا شأواً كبيرا وملكوا زمام الدنيا في عصرهم؟ لا بد - إذن - من وجود قوة أعلى منهم، قد دكتهم. ولماذا أتى الله بآل فرعون في هذه الآية بالاسم بينما أتى بالحضارات التي كانت قبلهم إجمالاً؟ ، فقال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} [الأنفال: 52] . لأن آثار آل فرعون قد كشف الله عنها ورَغّبَ فيها البشرية كلها؛ ليأتوا ويروا تلك الحضارة الهائلة التي لم تستطع أن تحمي نفسها، وذلك الفرعون الذي ادعى أنه إله يستطع أن يضمن لنفسه البقاء. وشاء الله سبحانه أن تبقى آثار هذه الحضارة ليشاهدها الناس جميعاً، ثم يروا أن الله عَزَّ وَجَلَّ قد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4754 أهلك أصحابها وأصبحوا أثراً بعد عين؛ ليعرفوا أن القوة لله جميعاً، وأن الألوهية لله وحده، وأن كل شيء هالك إلا الله؛ لذلك ذكرت حضارة آل فرعون مخصصة، وهذا الذكر لآثار قوم فرعون من إعجازات القرآن؛ لأنه ذكر هذه الحضارة تخصيصاً ثم جاء الحق بخير الحضارات الأخرى إجمالاً؛ قوم نوح وعاد وإرم وثمود. وكلهم: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} وعرفنا أن الآيات تطلق ثلاث إطلاقات: الآيات الكونية التي تثبت وجود الخالق الأعلى مثل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37] . وكذلك المعجزات التي يؤتيها الله رسله لإثبات صدق بلاغهم عن الله مثل انشقاق البحر لموسى عليه السلام، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى عليه السلام، ثم آيات القرآن الكريم التي هي محكم منهج الله في الأرض. وقول الحق: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} ، نعلم منه أنهم أنكروا وجود الخالق، والأصل في الكفر هو الستر، وكفر يعني ستر. ولذلك يسمون الزارع بالمعنى اللغوي: كافر؛ لأنه يحضر الحب ويستره بالتراب، ويسمون الليل لغويا: كافر؛ لأنه يستر الأشياء. والشاعر يقول: لي فيك أجر مجاهد ... إن صح أن الليل كافر ومعنى «كفروا» أي ستروا وجود الله تعالى، إذن فالله عَزَّ وَجَلَّ موجود ثابت الوجود قبل أن يستروه بالكفر؛ لأن الإيمان أصل في وجود الخلق، والخلق قد وجدوا على الإيمان، ثم جاء أناس ستروا هذا الإيمان. إذن فكلمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4755 الكفر التي معناها الستر دليل من أدلة الإيمان، وإلا لو لم يكن الله موجوداً فكيف يسترون ما ليس له وجود؟ ، فإذا قال لك أحد: إنه كفر - والعياذ بالله - تقول: الكفر هو الستر؛ فماذا سترت؟ لا بد أنك سترت ما هو موجود، وقول الحق سبحانه وتعالى: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} أي كفروا بآياته الكونية فلم يؤمنوا رغم الآيات الظاهرة التي تملأ الكون، وكفروا بآيات الرسل فكذبوا رسلهم رغم أنهم جاءوهم بمعجزات تخرق قوانين الحياة، ولم يصدقوا آيات الكتاب التي أنزلت من السماء لتبين لهم منهج الله تعالى: وقوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} [الأنفال: 52] . إيجاز معبر يذكر لك لماذا أخذهم الله بذنوبهم: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 52] . والأخذ في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ} كان بسبب ما ارتكبوه من ذنوب وإفساد في الأرض. والإنسان حين يجد سوءاً يحيط به وعذاباً أليماً يأتيه فهو يحاول أن يفّر منه، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى: {أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 42] . أي أن قدرة الله تعالى تمسك الكافر مسكة محكمة فلا يستطيع فرارا أو هروبا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4756 وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} [الأنفال: 52] . أي أن الله أقوى من كل ما تصنعون في كونه، وعقابه تعالى شديد وأليم. ونعلم أن العقاب لا يعم الناس إلا بقدر ذنوبهم، فليس معنى أن الله شديد العقاب أن تصيب شدة العذاب مَنْ فعل ذنباً بسيطاً، ولكنْ لكلٍ جزاؤه على قدر ذنبه؛ وهذا العقاب مهما كان بسيطاً فهو شديد أليم، وقول الحق سبحانه وتعالى: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} هذا القول لا يدخل في الجبرية التي يقول عنها الشاعر: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء ويخطىء من يظن أن الله قد كتب جبرا على إنسان أن يكون كافراً ثم يلقى به في نار جهنم، لا؛ لأن مثل هذا الأمر يتنافى مع عدالة الله سبحانه وتعالى، فأنت أيها الإنسان مخير بين الطاعة وبين المعصية، بين الإيمان وبين الكفر. وعلى هذا نفهم قول الحق: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} [الأنفال: 52] . أي بسبب ذنوبهم، وما دام الحق تبارك وتعالى قد توعدهم بعقاب شديد فهذا دليل على شدة ظلمهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4757 ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى الحيثية لذلك فيقول تعالى: {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4758 و «ذلك» إشارة إلى ما تقدم، وأنت إن نظرت إلى بداية البشرية تجد أن الله تعالى خلق آدم ليجعله خليفة في الأرض، وخلق حواء لإبقاء النوع الإنساني. وقبل أن ينزل آدم على الأرض أعطاه الله سبحانه وتعالى المنهج، ومن آدم وحواء بدأت ذريتهما، ولو ساروا على المنهج الذي علمه آدم لهذه الذرية، لصارت البشرية إلى سعادة. ولكن الذرية تغيرت، وجحدوا النعمة وأنكروا أنَّ للنعمة خالقاً، فهل يبقي الله عليهم الأمن والسلامة والنعم ما داموا قد تغيروا؛ لا. بل لا بد - إذن - أن يغير الله نعمه عليهم، وإلا لما أصبح هناك أي منطق للدين؛ لأن الإنسان قد طرأ على النعم، بمعنى أن الله لم يخلق الإنسان ثم خلق له النعم. بل خلق النعم أولاً ثم جاء الإنسان إلى كون أعد له إعداداً كاملاً؛ وفيه كل مقومات الحياة واستمرار الحياة. وظل الإنسان فترة طويلة في طفولة الحياة يرتع في نعم الله، فقبل أن يعرف الزراعة؛ وجد الثمار التي يأكلها. وقبل أن يعرف كيف يبحث عن الماء وجد الماء الذي يشربه، وعلمه الله كيف يعيش. وذلل له من الحيوان ما يعطيه اللبن واللحم، وكل هذه النعم وغيرها كان لا بد أن يأخذها الإنسان بالشكر واستمرار الولاء لله الخالق المنعم. ولكن الإنسان جحد نعمة الله تعالى وجحد المنعم، أتبقى له سعادة وحياة مطمئنة في الأرض؟ طبعاً لا، وما دام الإنسان قد غير، لا بد أن يغير الحق النعمة إلى نقمة، ومن رحمته سبحانه أنه شاء أن يكون الإنسان هو البادىء، فالحق سبحانه منزّه أن يكون البادىء بالظلم، بل بدأ الإنسان يظلم نفسه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4758 ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] . إذن فذرية آدم بدأت أولاً بتغيير نعمة الإيمان إلى الكفر، ومن شكر النعمة إلى جحودها، فجزاهم الله تعالى بالطوفان وبالصواعق وبالهلاك؛ لأنهم غيروا ما بأنفسهم، ولو أنهم عادوا إلى شكر الله وعبادته؛ لأعاد لهم الله نعَم الأمن والاستقرار والحياة الطيبة. ويلفتنا المولى سبحانه وتعالى إلى أن اتباع المنهج يزيد النعم ولا ينقصها، فيقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96] . وطبقاً لهذا القانون الإلهي نجد أن تغير الناس من الإيمان إلى الكفر لا بد أن يقابله تغيير من نعمة الله عليهم وإلا لأصبح منهج الله بلا قيمة، والمثال أن كل طالب يدخل امتحاناً، ولكن لا ينجح إلا من ذاكر فقط، وأما من لم يستذكر فإنه يرسب؛ حتى لا تكون الدنيا فوضى. ولو أن الله سبحانه وتعالَى أعطى لمن اتبعوا المنهج نفس العطاء الذي يعطيه لمن لا يتبعون المنهج فما هي قيمة المنهج؟ . إذن لا بد أن يدخل الإنسان إلى الإيمان، وأن يكون هذا الإيمان متغلغلاً في أعماقك وليس أمراً ظاهريا فقط، فلا تدَّع الإصلاح وأنت تفسد، ولا تدع الشرف والأمانة وأنت تسرق، ولا تدع العدل وأنت تظلم الفقير وتحابي الغني؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يعطي نعمه الظاهرة والباطنة إلا لمن يتبعون منهجه. وإذا رأيت قوماً عمّ فيهم الفساد فاعلم أن نفوسهم لم تتغير رغم أنهم يتظاهرون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4759 باتباع المنهج الإلهي. وإن شكونا من سوء حالنا فلنعرف أولاً ماذا فعلنا ثم نغيره إلى ما يرضي الله عَزَّ وَجَلَّ فيغير الله حالنا. ولذلك إذا وجدت كل الناس يشكون فاعلم أن هذا قد حدث بسبب أن الله غير نعمه عليهم؛ لأنهم غيروا ما بأنفسهم. أي أن حالتهم الأولى أنهم كانوا في نعمة ومنسجمين مع منهج الله، فغيروا انسجامهم وطاعتهم فتغيرت النعمة، أي أن هناك تغييرين أساسيين، أن يغير الله نعمة أنعمها على قوم، وهذا لا يحدث حتى يغيروا ما بأنفسهم. وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53] . أي أن الله تعالى يعلم حقيقة ما يفعلون ويسمع سرّهم وجهرهم، ولذلك إذا غيروا، سمع الله سبحانه وعلم؛ لأن التغيير إما أن يكون بالقول وإما أن يكون بالفعل، فإن كان التغيير بالقول فالحق سبحانه يسمعه ولو كان مجرد خواطر في النفوس، وإن كان التغيير بالعمل فالحق يراه ويعلمه ولو كان في أقصى الأرض. يعود الحق سبحانه وتعالى إلى آل فرعون فيقول: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4760 يتساءل البعض: لماذا عاد الحق سبحانه وتعالى إلى آل فرعون ولم يأت بها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4760 مع الآية الأولى؟ . نقول: لأن هناك فرقا دقيقا بين كل منهما. فالآية الأولى يقول فيها الحق تبارك وتعالى: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} [الآنفال: 52] في الآية الثانية يقول فيها: {كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الأنفال: 54] . والآية الأولى تدل على أنهم كفروا بالآيات الكونية المثبتة لوجود الله تعالى وآيات الرسل وآيات الكتب التي أنزلت إليهم، وفي هذه الآية كذبوا بآيات ربهم أي لم يصونوا النعم التي أعطاها الله لهم، فنعم الله عطاء ربوبية، وتكاليفه ومنهجه عطاء ألوهية، وهم في الآية الأولى كذبوا بعطاء الألوهية، أي كفروا بالله. وفي الآية الثانية كذبوا بعطاء الربوبية أي بنعم الله، فعطاء الربوبية هو عطاء رب خلق من عَدم وأمَد من عُدم لتكتمل للإنسان مقومات حياته. والله يساوي في عطاء الربوبية بين المؤمن والكافر وبين العاصي والطائع، ولا يفرّق بينهم بسبب الإيمان أو الكفر. وهنا يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأنفال: 54] . أي لم يكن بينهم مؤمن وكافر بحيث يكون هنا تفرقة بأن ينجي المؤمنين ويغرق الكافرين، بل كلهم ظلموا أنفسهم بالكفر؛ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} ، وذكر سبحانه آل فرعون بالتخصيص؛ لأنهم الأمة الوحيدة التي بقيت حضارتها تدل على مدى تقدمها، هذا التقدم الذي لم نصل إلى كل أسراره حتى الآن. ولا يمكن أن تنتهي مثل هذه الحضارة إلا بقوة أعلى من قوتها. فكأن الحق قد أراد أن يلفتنا إلى آل فرعون بالذات؛ لأنه قدر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4761 للبشرية أن تكتشف آثار آل فرعون، وآثارهم لافتة للعالم أجمع، ووضع في قلوب البشر حب أن يأتوا ليروا حضارة آل فرعون، ويتعجبوا كيف وصلوا إلى هذه المنزلة العالية من الحضارة، ثم انهارت هذه الحضارة كدليل على وجود قوة أعلى وهي الله سبحانه وتعالى، وقد أهلكهم الحق لأنهم كفروا بالألوهية واتخذوا فرعون إلها وربا من دون الله، وكفروا بنعمة الربوبية التي أعطاها الله لهم، والتي يذكر الله جزءا منها في قوله الكريم: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25 - 27] . إذن فالله تعالى قد أعطاهم الزرع والماء ولم يعطهم بتقتير، بل أعطاهم بوفرة وسعة؛ لذلك قال تعالى: {جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وأعطاهم الثروة والقوة التي تحفظ لهم كرامتهم؛ وتجعلهم أسياد الأرض في عصرهم، وحققت لهم مقاماً كريماً ولم يجرؤ أحد على أن يهينهم، ولا أن يعتدي عليهم، فقد كان عندهم كنوز الأرض؛ وعندهم القوة التي تحفظ لهم الكرامة في قوله تعالى: {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 26 - 27] وأعطاهم من العلم ما يوفر لهم الترف والحياة الطيبة الرغدة المريحة في كل شيء، ولكنهم كفروا بنعم الربوبية هذه، كما كفروا بنعمة الألوهية؛ فاستحقوا العقاب، وبقيت آثارهم تدل عليهم؛ نجد فيها الذهب والكنوز، وقد دفنت مع موتاهم، ونجد فيها الحضارة والقوة في المعارك التي صوروها على معابدهم بتوضيح وإتقان. ونرى فيها النعمة الهائلة التي كان يعيش فيها فرعون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4762 وقومه، ولكنهم لم يؤدوا حقها وكفروا بالخلق واهب النعم. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4763 {الدوآب} جمع دابة، والدابة هي كل ما يدب على وجه الأرض، فإذا كان هذا هو المعنى يكون الإنسان داخلاً في هذا التعريف، ولكن العرف اللغوي حدد الدابة بذوات الأربع، أي الحيوانات. وشرف الخالق سبحانه وتعالى الإنسان بأن جعله لا يمشي على أربع، فلا يدخل في هذا التعريف. وقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 55] . يبين لنا أن الله سبحانه وتعالى قد ألحق الكفار بالدواب واستثنى المؤمنين فقط، فسبحانه خلق الدواب وباقي أجناس الكون مقهورة تؤدي مهمتها في الحياة بالغريزة وبدون اختيار؛ والشيء الذي يحدث بالغرائز لا تختلف فيه العقول، ولذلك نجد كثيراً من الأشياء نتعلمها نحن أصحاب العقول من الحيوانات والحشرات التي لا عقول لها؛ لأن الحيوانات تتصرف بالغريزة، والغريزة لا تخطىء أبداً، فإذا قرأنا قول الحق سبحانه وتعالى: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] . نجد أن الغراب الذي لا اختيار له، ولا عقل؛ علم الإنسان الذي له عقل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4763 واختيار. وقد حدث ذلك لأن الغراب محكوم بالغريزة. إذن فكل ما يقوم به الحيوان من سلوك هو باختيار الله سبحانه وتعالى؛ لأن الحيوان مقهور على التكاليف. ومن رحمة الله تعالى أن المخلوقات باستثناء الإنسان خلقت مقهورة؛ تفعل كل شيء بالغريزة وليس بالعقل، ولكن الإنسان الذي كرمه الله بالعقل يكفر ويعصي. رغم أن الحق أنعم على الإنسان بنعمة الاختيار. ومن العجيب أننا نجد الحيوان المحكوم بالغريزة لا يخرج سلوكه عن النظام المجبول عليه ويؤدي مهمته كما رسمت له تماماً، فالدابة مثلاً تلد ويأخذون وليدها ليذبحوه فلا تنفعل؛ لأن هذه مهمتها في الحياة أن تعطي للإنسان اللحم. والحمامة ترقد على بيضها وعندما يخرج الفرج الصغير تتولاه لفترة بسيطة جداً حتى يعرف كيف يطير وكيف يأكل ثم بعد ذلك تتركه؛ ليؤدي مهمته؛ لأنه محكوم بالغريزة. والغرائز لا تخطىء. ويتصرف بها الحيوان بدون تعليم له. فإذا جئنا للإنسان نجد أن ألوان السلوك المحكومة بالغريزة فيه لا يتعلمها؛ إذا جاع طلب الطعام دون أن يعلمه أحد كيف يشعر بالجوع، فهذه غريزة. وإذا عطش طلب الماء دون يعلمه أحد معنى العطش ولا كيف يشرب. وكل واحد منا في الغرائز متساو مع الآخر. ونجد الغني والفقير والحاكم والغفير إذا شعروا بالجوع طلبوا الطعام، وإذا شعروا بالعطش طلبوا الماء. فكل شيء محكوم بالغرائز لا يوجد فيه تغيير. ومن العجيب - مثلاً - أن الحمار حين يريد أن يعبر مجرى مائيا ينظر إليه، وبمجرد النظرة يستطيع أن يعرف هل سيعبره أو لا، فإن كان قادراً قفز قفزة واحدة ليعبر، وإن لم يقدر بحث عن طريق آخر. ولا تستطيع أن تجبر حماراً على أن يعبر مجرى مائيا لا يقدر على عبوره، ومهما ضربته فلن يستجيب لك ولن يعبر. أما الإنسان إن طلبت منه أن يعبر قناة مائية فقد يقول لنفسه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4764 سأجمع كل قوتي وأقفز قفزة هائلة، وإن لم يكن قياسه صحيحاً، يسقط في الماء، ذلك لأنه أخطأ وصورت له أداة الاختيار أنه يستطيع أن يفعل ما لا يقدر عليه. إذن فالمحكوم بالغريزة هو الأوعى. وعندما نأتي إلى الأكل، نجد الحيوان المحكوم بالغريزة أكثر وعياً؛ لأنه يأكل فإذا شبع لا يذوق شيئاً. ولو جئت له بأشهى الأطعمة. فأنت لا تستطيع أن تجعل الحيوان يأكل عود برسيم واحداً، أو حفنة تبن، أو حبة فول بعد أن يشبع، وتجده يدوس على زاد عن حاجته بقدميه. وتعال إلى إنسان ملأ بطنه وشبع وغسل يديه، ثم قالوا له مثلا: أنت نسيت الفاكهة، أو نسيت الحلوى، تجده يعود مرة أخرى ليأكل وهو شبعان؛ فيتلف معدته ويتلف جسده. ولذلك تجد الإنسان مصاباً بأمراض كثيرة لا تصيب الحيوان؛ لأنه يسرف في أشياء كثيرة، بل تجد أن الأمراض التي تصيب الحيوان معظمها من تلوث بيئة الحيوان مما يفعله الإنسان. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يخبرنا أن الدابة المحكومة بالغريزة خير من الكافر؛ لأن الدابة تؤدي مهمتها في الحياة تماماً. بينما لا يؤدي الكافر مهمته في الأرض، بل يفسد فيها ويسفك الدماء، وبذلك يكون شرا من الدابة. ولقد قلنا: إن الدّابة تحملك من مكان إلى مكان ولا تشكو، وتَحمل أثقالك ولا تتبرم. وتظل سائرة فترة طويلة وأنت جالس فوقها فلا تضيق بك وتلقيك على الأرض، لقد خُلِقت لهذه المهمة وهي تؤديها كما خلقت لها دون شكوى أو ضجر؛ لأنها محكومة بنظام دقيق تتبعه وتنفذه. ولكن الإنسان اخترع السيارة وطور فيها، وقد يجلس أمام مقعد القيادة ويصيبه التعب فينعس ويقع في حادثة فيصاب فيها ويصيب غيره أيضاً. وكان من المفروض أن يتبع الإنسان في حياته منهج ربه الذي أنزله إليه، لكن من البشر من كفر وأخذ يعربد في الكون، وبذلك يكون شراً من الدابة؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4765 لأن الكافر لا يستخدم عقله في أولويات الوجود، وهو لو استخدم عقله لعرف أنه أقبل على كون قد أعد إعداداً دقيقاً؛ شمس تضيء نصف الكون لتعطيه النهار، وتغرب ليطل قمر يضيء بالليل يؤنسه في الظلام؛ ونجوم تهديه الطريق في البر والبحر، ومطر ينزل لينبت الزرع. وحيوان مسخر له يعطيه اللبن واللحم ويحمل أثقاله. كان لا بد - إذن - للإنسان صاحب العقل أن يفكر: من الذي خلق له كل هذه النعم؟ لأن هذه هي من أولى مهمات العقل الذي يفكر، ويدلنا على الخالق. وكان لا بد في هذه الحالة أن يعرف الإنسان بعقله أن الذي صنع له كل هذه النعم وسخرها له لا بد أنه يريد به خيراً. ولذلك إذا جاءه المنهج من السماء عليه أن يتبعه؛ لأنه يعلم أن هذا المنهج خير ما يصلح له؛ لأنه جاء من خالقه. وفي هذه الحالة كان لا بد لأمور الكون أن تستقيم. ولكن بعضاً من بني الإنسان ستروا وجود الله وكفروا به ولذلك يوضح لنا الحق تبارك وتعالى أنهم شرّ من الدواب، لأنهم لا يؤمنون. ثم يقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4766 وبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الكافرين الذين حاربوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ينتقل هنا للكلام عن الجماعة التي عاهدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أن يكفوا عنه شرهم، وألا يتعرض لهم الرسول، وهم اليهود، فهل ظلوا على وفائهم بالعهد؟ لا. بل نقضوا العهد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4766 بنو قريظة - مثلا - عاهدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ألا يعينوا عليه أحدا، ولما جاءت موقعة بدر مدوا الكفار بالسلاح ونقضوا العهد، ثم عادوا وأعطاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عهداً ثانياً، وعندما جاءت غزوة الخندق اتفقوا على أن يدخل جنود قريش من المنطقة التي يسيطرون عليها ليضربوا جيش المسلمين من الخلف في ظهره، فأرسل الله ريحاً بددت شمل الكفار، إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} [الأنفال: 56] . وهم قد فعلوا ذلك؛ لأنهم تركوا منهج الله وخافوا من رسول الله فحاولوا أن يخدعوه بنقض المعاهدات. وقوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} إنهم لا يتقون الله - عَزَّ وَجَلَّ - الذي يؤمنون به إلها؛ لأنهم أهل كتاب؛ جاءتهم التوراة، وجاءهم رسول وهو موسى عليه السلام، وهم ليسوا جماعة لم يأتها كتاب بل نزل عليهم كتاب سماوي هو التوراة، ومع ذلك لا يتبعون ما في كتابهم ولا يتقون الله تعالى، فهم أولاً ينقضون العهد، والنقض ضد الإبرام، والإبرام هو أن تقوي الشيء تماماً كما تبرم الخيط أي تقويه، وعندما تقوي الخيط فأنت تجعله ملفوفاً على بعضه ليصبح متيناً. فالخيط الذي طوله شبران عندما تبرمه يصبح طوله شبراً واحداً ويصبح قويا، فإذا فككته أي نقضته أصبح ضعيفاً، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} [النحل: 92] . ويعطينا الحق سبحانه وتعالى الحكم في هؤلاء؛ أولئك الذين لا يؤمنون، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4767 ولا يتقون وينقضون عهدهم؛ فيأتي فيهم القول الحق: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4768 أي إن وجدتهم في أي حرب فشرد بهم من خلفهم. ولنا أن نلحظ أن كلمة «إما» هي إن الشرطية المدغمة في «ما» إذا ما حذفنا منها ما، نجد أنها تصبح إن، كأنه يقول: «إنْ مَا» ، وأدغمت نون «إن» في «ما» ، مثلها مثل أن نقول: إن جاءك زيد فأكرمه؛ هذه جملة شرطية فيها شرط وجواب وأداة شرط، ولكنه إذا تم مرة واحدة يكون قد انتهى. ولكن «ما» مع إن الشرطية تدلنا على أنه كلما حدث ذلك فإننا نفعل بهم ما أمر الله تعالى به، كما نقول: كلما جاءك زيد فأكرمه؛ لأن إما هذه تتضمن ما يفيد الاستمرارية، مثل «كلما» فكلما جاءك تكرمه ولو جاء مائة مرة، ولو لم تجيء «ما» لكان يكفي أن تصنعها مرة واحدة. وقوله تعالى: {تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب} ، ثقف بمعنى وجد، أي كلما وجدتهم في الحرب: فشرد بهم من خلفهم، أي اجعلهم أداة لتشريد من خلفهم. وعليك أن تؤدبهم أدباً يجعل الذين وراءهم يخافون منكم، ويبتعدون عنكم، وكلما رأوكم أصابهم الخوف والهلع، وكما يقول المثل العامي: «اضرب الربوط يخاف السايب» . أي أن المطلوب أن نجاهدهم بقوة وبدون شفقة، حتى لا يفكر في مساندتهم من جاءوا خلفهم لينصروهم أو يؤازروهم بالدخول معهم في القتال، ولا تحدثهم أنفسهم في أن يستمروا في المعركة، فشرد بهم، والتشريد هو التشتيت والتفريق والإبعاد ولكن بقسوة. فحيثما يريدوا أن يذهبوا؛ امنعهم وشتتهم على غير مرادهم. وقول الحق سبحانه وتعالى: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لكي تكون هذه التجربة درساً لهم؛ كيلا يفكروا مرةً أخرى في حربٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4768 معك؛ لأنهم سوف يتذكرون ما حدث لهم فيبتعدون عن مواجهتك. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4769 وسبحانه وتعالى يبدأ هذه الآية بقوله: «وإما» ومثلها مثل «فإما» في الآية السابقة وقد تم التوضيح فيها، وهنا يتحدث عن الآخرين الذين لا يواجهون بالحرب، بل يدبرون لخيانة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونقول: هل هذه الخيانة مقطوع بها؟ أو أنت أخذت بالشبهات؟ . الله سبحانه وتعالى هنا يفرق بعدالته في خلقه بين الخيانة المقطوع بها والخيانة غير المقطوع بها، فالخيانة المقطوع بها لها حكم، والخيانة المظنون بها لها حكم آخر. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] . أي بلغك أنهم سيخونونك، ماذا تفعل فيهم؟ . يقول الحق سبحانه وتعالى: {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58] . أي أنه ما دام هناك عهد والعهد ملك لطرفين، هذا عاهد وذاك عاهد، فإياك أن تأخذهم على غرة، بل انبذ إليهم، والنبذ هو الطرح والإبعاد، أي عليك أن تلغي العهد الذي بينك وبينهم، وتنهيه، وتبعده بكراهية. فساعة تخاف الخيانة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4769 أبعدهم، ولكن لا تحاربهم قبل أن تعلِمَهُم أنك قد ألغيت العهد بسبب واضح معلوم. وقد علم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن قبيلة خزاعة - كانت من حلفائه بعد صلح الحديبية - وكان الصلح يقضي ألا تهاجم قريش حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وألا يهاجم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حلفاء قريش، وذهب بعض من أفراد قريش إلى قبيلة خزاعة وضربوهم، أي أن قريشاً خانت العهد، ونقضت الميثاق الذي كان بينها وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وذلك بمعاونتها بني بكر في الاعتداء على خزاعة حلفاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فماذا فعل الناجون من خزاعة؟ . أرسلوا عنهم عمرو بن سالم الخزاعي يصرخ عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة وقال: إن قريشاً أخلفتك الوعد ونقضت ميثاقك، ولما حدث هذا لم يبق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المسألة سرّاً، بل أبلغ قريشاً بما حدث. وأنه طرح العهد الذي تم في صلح الحديبية بينه وبين قريش. وعندما جاء أبو سفيان إلى المدينة ليحاول أن يبرر ما حدث. رفض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقابله. إذن فإن وجدت من القوم الذين عاهدتهم بوادر خيانة فانبذ العهد، أما إن تأكدت أنهم خانوك فعلاً وحدثت الخيانة ففاجئهم بالحرب، تماماً كما فَعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع اليهود بعد أن خانوه في غزوة الخندق ونقضوا العهد والميثاق. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 58] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4770 فكأن الله تعالى بريء، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بريء، والمسلمون أبرياء أن يخونوا حتى مع الذين كفروا؛ وهذه تؤكد لنا أن الإسلام جاء ليعدل الموازين في الأرض؛ ليس بالنسبة للمؤمنين به فقط بل بالنسبة للناس جميعاً. ولذلك إن قرأت قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} [النساء: 105] . تلاحظ أن الآية لم تقل: بين المؤمنين.، ولكن قالت: {بَيْنَ الناس} ؛ حتى لا تكون هناك تفرقة في العدل بين مؤمن وغير مؤمن، فغير المؤمن مخلوق لله، استدعاه الله إلى هذا الوجود، وسبحانه قد أعد له مكانه في هذا العالم؛ لذلك لا بد أن تراعي العدل معه في كل الأمور ولا تظلمه بل تعطيه حقه؛ لأنك بذلك تكون أنت مددا من إمدادات الله. وقد كان هذا السلوك العادل الذي أمر به الله سبباً في دخول عدد كبير في الإسلام. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105] . أي لا تناصر - يا محمد - الخائنين حتى وإن كانوا من أتباعك. وقد نزلت هذه الآية عندما سُرق درع من قتادة بن النعمان وهو من الأنصار، وحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من بيت يقال لهم: بنو أبيرق. فجاء صاحب الدرع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما علم السارق بما حدث، وضع الدرع في جوال دقيق وأسرع وألقاه في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين. وقال لعشيرته: إني وضعت الدرع في منزل اليهودي زيد بن السمين، فانطلقوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: يا رسول الله إن صاحبنا بريء. والذي سرق الدرع هو فلان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4771 اليهودي. وذهب الصحابة فوجدوا الدرع في جوال دقيق في بيت اليهودي. ولكن اليهودي أنكر أنه سرق الدرع وقال: لقد أتى به طعمة بن أبيرق ولم يلحظ طعمة أثناء نقل جوال الدقيق أن بالجوال ثقباً صغيراً، تسرب منه الدقيق ليصنع علامة على الأرض، وذلك من غفلته؛ لأن الله لا بد أن يترك دليلاً للحق يهتدي به القاضي حتى لا يضيع الحق؛ فتتبع المسلمون علامة الدقيق حتى أوصلتهم إلى بيت طعمة بن أبيرق وأصبحت القضية أن السارق مسلم. ولكنه اتهم اليهودي كذباً بالسرقة. وقال أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن حكمت لليهودي على المسلم يكون المسلمون في خسة ودناءة وحرج، وإذا بالوحي ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليعصمه من تعدي خواطره في هذه المسألة: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105] . أي لا تكن لأجل ولصالح الخائنين مدافعا عن أي واحد منهم ولو كان هذا الخائن مسلماً. وهكذا كان عدل الإسلام في أن حكم الله تعالى لا ينصر مسلماً على باطل ولا يظلم يهوديا، ألا يرون هذا الدين وما فيه من قوة الحق؟ ألا يدفعهم ذلك إلى أن يتجهوا إلى هذا الدين الإسلامي دين العدالة والإنصاف ليكونوا في أحضانه؟! وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4772 أي قل لهم إني ألغيت هذا العهد الذي بيني وبينكم وأصبحت في حل منه. وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} يبين أنه سبحانه وتعالى لا يحب الخائنين حتى ولو كانوا من المنسوبين للإسلام. ثم يقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4773 حين دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع الكفار في حرب، قُتل فريق من الكفار، وأُسر فريق آخر منهم، وفر فريق ثالث، وأما الذين قتلوا والذين أسروا فقد أخذوا جزاءهم، والذين فروا نجوا من القتل ومن الأسر، فكأنهم سبقوا فلم يلحق بهم المسلمون الذين أرادوا أن يقتلوهم أو يأسروهم. والسبق أن يوجد شيء يريد أن يلحق بشيء أمامه فيسبقه؛ ولا يستطيع اللحاق به. فكأن الكفار عندما فروا سبقوا المسلمين الذين لو لحقوا بهم لقتلوهم أو أسروهم. الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن هذا هو ظاهر ما حدث، ولكن الحقيقة التي يريدنا الله عَزَّ وَجَلَّ أن نفهمها هي أن هؤلاء الكفار الذين فروا وسبقوا، ولم تلحقهم أيدي المسلمين، هؤلاء لا يعجزون الله تعالى ولا يخرجون عن قدرته سبحانه وتعالى وسوف يأتيهم العذاب في وقت لاحق، إما بانقضاء الأجل وإما في معركة ثانية. وعادة نجد أن كلاً من السابق والمسبوق يستخدم أقصى قوته، الأول ليفر والثاني ليلحق به. ولذلك عندما تراهما فقد تتعجب من القوة التي يجري كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4773 منهما بها، وهذه هي الطبيعة الإنسانية، فساعة الأحداث العادية يكون للإنسان قوة وقدرة. وساعة الأحداث المفاجئة تكون له أي للإنسان ملكات أخرى. فإذا غرقت سفينة في البحر مثلاً وتعلق واحد من ركابها بقطعة خشب من حطام السفينة، تجده يسبح لفترة طويلة دون أن يشعر بالتعب. فإذا وصل إلى الشاطيء خارت قواه. ولقد عرفنا سر ذلك عندما اكتشف علم وظائف الأعضاء أن الإنسان عنده غدة فوق الكلي هي الغدة الكظرية، إذا وقع في مأزق مفاجيء تفرز مادة «الادرينالين» وهذه مادة يمكن أن تعطيه عشرة أضعاف قوته، ولكن إذا زال الخطر تتوقف الغدة عن إفراز هذه المادة إلا بالنسبة التي يحتاجها الجسم، ولذلك تجد الإنسان الذي يضارع الموج في البحر تمده هذه الغدة بالوقود، فإذا وصل إلى الشاطيء توقفت الغدة عن الإفراز الزائد المناسب للخطر فتخور قواه وربما يظل ثلاثة أيام نائماً من التعب. وهناك قصة خيالية رمزية تروى عن صائد أرسل كلبه يجري وراء غزال ليأتيه به، والكلب يجري يريد اللحاق بالغزال، والغزال يجري طلباً للنجاة، وفجأة التفت الغزال إلى الكلب وقال له: لن تلحقني؛ لأني أجري لحساب نفسي وأنت تجري لحساب صاحبك. فمن يفعل شيئاً لينجو بنفسه يكون قوياً. وقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59] . أي إنهم في قبضة المشيئة لا يخرجون عن قدرة الله الذي سيحضرهم ويحاسبهم. وبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عمن حارب، ومن عاهد وغدر، ومن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4774 فر وسبق، ومن يريد أن يلحق به، أراد أن ينبهنا إلى حقيقة هامة وهي ألا نقصر في إعدادنا للقوة التي تعيننا على ملاقاة الأعداء وقت الحرب أو حتى تأتينا الحرب؛ لأننا قد نفاجأ بها فلا نستطيع أن نستعد، ولذلك لا يجب أن يقتصر استعدادنا للقتال إلى أن تأتي ساعة القتال ذاتها، لا، بل يجب أن نستعد سلماً وحرباً. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4775 وقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ} يعني أن يكون الإعداد لكل من تحدث عنهم، وهم الذين قاتلوا وقتلو وأصاب أهلهم ضرورة الثأر لمقتلهم، والذين أسروا، والذين نقضوا العهد نقضاً أكيداً أو نقضاً محتملاً، كل هؤلاء لا بد أن تعد لهم ما جاء به قول الحق تبارك وتعالى: {مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل} وهذا تكليف من الله تعالى لعباده المؤمنين الذين يجاهدون لإعلاء كلمته بضرورة أن يعدوا دائماً قدر إمكانهم ما استطاعوا من قوة. ولماذا قدر استطاعتهم؟ لأن الإنسان محدود بطاقة، ووراء قدرة المؤمنين قدرة الله سبحانه. ولذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4775 أنت تعد قدر ما تستطيع ثم تطلب من الله أن يعينك. وإذا ما صنعت قدر استطاعتك، إياك أن تقول: إن هذه الاستطاعة لن توصلني إلى مواجهة ما يملكه خصمي من معدات يمكن أن يهاجمني بها، فخصمك ليس له مدد من السماء إنما أنت لك المدد السماوي، وما دام لك هذا المدد فقوتك بمدد الله تجعلك الأقوى مهما كان عدوك، ولذلك عندما يحدث الله تعالى المؤمنين يوضح لهم: إياكم أن تخافوا من كثرة عدد عدوكم، والمطلوب منكم أن تعدوا له ما استطعتم من قوة وحتى أطمئنكم أني معكم، تذكروا آية واحدة أنزلتها، وهي: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [آل عمران: 151] . وساعة يلقي الله عَزَّ وَجَلَّ في قلوب الذين كفروا الرعب سيلقون سلاحهم ويفرون من ميدان القتال ولو كانوا يحاربون بأقوى الأسلحة، وسيتمكن المؤمنون منهم وينتصرون عليهم بأية قوة أعدوها. وقوله تعالى: {مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} هذه القوة قد تكون ذاتية في النفس بحيث لا تخاف شيئاً، فجسم كل مقاتل قوي ممتليء بالصحة وله عقل يعمل باقتدار وإقبال على القتال في شجاعة، بالإضافة إلى قوة السلاح بأن يكون سلاحاً حديثاً متطوراً بعيد المدى، وأن يحرص المؤمنون على امتلاك كل شيء موصول بالقوة. وكان الهدف قديماً وحديثاً أن يمتلك المقاتل قوة تمكنه من عدوه ولا تمكن عدوه منه. وفي عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان مدى رمي السهام هو رمز القوة. فأول ما تبدأ الحرب يضربون العدو بالنبال، فإذا زحف العدو وتقدم يستخدمون له الرماح، فإذا تم الالتحام كان ذلك بالسيوف. وكانت أحسن قوة في الحرب هي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4776 السهام التي ترمي بها خصمك فتناله وهو بعيد عنك، ولا يستطيع أن ينالك أو يقترب منك. ولذلك عندما فسر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القوة قال فيما يرويه عنه عقبة بن عامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو على المنبر يقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} ثم قال:» ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي «» . لأنك بالرمي تتمكن من عدوك ولا يتمكن هو منك، فإذا تفوقت في الرمي كنت أنت المنتصر عليه. ولكن كيف ينطبق ذلك على الحرب في العصر الحديث بعد أن تطورت الأسلحة الفتاكة؟ لقد صارت المدفعية لفترة من الزمن هي السلاح؛ لأنها المحقق للنصر لبعد مداها، ثم جاءت الطائرات لتصبح هي السلاح الأقوى؛ لأنها تستطيع أن تقطع مسافة طويلة وتلقي بقنابلها وتعود. وصارت قوة الطيران هي التي تحدد المنتصر في الحرب؛ لأنها تلحق بالعدو خسائر جسيمة دون أن يستطيع هو أن يرد عليها ما دام غير متفوق في الطيران، ثم بعد ذلك جاءت الصواريخ والصواريخ عابرة للقارات، إلى آخر الأسلحة المتطورة التي تتسابق على اختراعها الدول الآن، وكلها أسلحة بعيدة المدى، والهدف أن تنال كل دولة أرض عدوها ولا يستطيع هو أن ينال أرضها. ويضيف الحق تبارك وتعالى: {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60] . ورباط الخيل هو القوة التي تحتل الأرض، فمهما بلغت قدرتك في الرمي فأنت لا تستطيع أن تستولي على أرض عدوك، ولكنَّ راكبي الخيل كانوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4777 يدخلون المعركة في الماضي بعد الرمي ليحتلوا الأرض. وهذه عملية تقوم بها المدرعات الآن. فالمعركة تبدأ اولاً رمياً بالصواريخ والطائرات حتى إذا حطمت قوة عدوك انطلقت المدرعات لتحتل الأرض، فالطائرات والصواريخ تهلك العدو وتحطمه ولكنها لا تأخذ الأرض. ولكن الذي يمكننا من الأرض والاستيلاء عليها هو: رباط الخيل، أو المدرعات، ورباط الخيل هو عقده للحرب، أي أن الخيل تُعد وتُعلف وتدرب وتكون مستعدة للحرب في أية لحظة، تماماً كما تأتي للمدرعات وتعدها إعداداً جيداً بالذخيرة، وتصلح ماكيناتها وتتدرب عليها لتكون مستعداً للقتال في أي لحظة. ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يرويه عنه أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «من خير معاش الناس لهم رجل يمسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعةً أو فَزْعةً طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانَّه، ورجل في غنيمة في شَعَفَة من هذه الشعفاء وبطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير» . أي أنه لا ينتظر بل ينطلق لأي صيحة. ومن الإعجاز في الأداء القرآني أنه أعطانا ترتيباً للحرب، فالحرب أولاً تبدأ بهجوم يحطم قوى العدو بالرمي، سواء كان بالصواريخ أم بالطائرات أم بغيرهما، ثم بعد ذلك يحدث الهجوم البري، ولا يحدث العكس أبداً. ورتب الحق سبحانه وتعالى وسائل استخدام القوة أثناء القتال، فهي أولاً الرمي، وبه نهلك مَكيناً ثم نستولي على المكان، وكان ذلك يتم برباط الخيل الذي تقوم مقامه المدرعات الآن. ونجد أن الحق سبحانه وتعالى جاء في القرآن الكريم بالأداء الذي يعلم ما تأتي به الأيام من اختراعات الخلق، ونجد في زماننا هذا كل قوة للسيارة أو المدرعة أو الدبابة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4778 إنما تقاس منسوبة إلى الخيل، فيقال قوة خمسة أحصنة أو خمسمائة حصان. ويقول المولى سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . فالقصد - إذن - من إعداد هذه القوة هو إرهاب العدو حتى لا يطمع فيكم؛ لأن مجرد الإعداد للقوة، هو أمر يسبب رهباً للعدو. ولهذا تقام العروض العسكرية ليرى الخصم مدى قوة الدولة، وحين تبين لخصمك القوة التي تملكها لا يجتريء عليك، ويتحقق بهذا ما نسميه بلغة العصر «التوازن السلمي» . والذي يحفظ العالم الآن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي هو التوازن السلمي بين مجموعات من الدول، بالإضافة إلى العامل الاقتصادي المكلف للحرب، فالقوة الآن لا تقتصر على السلاح فقط، ولكن تعتمد القوة على عناصر كثيرة منها الاقتصاد والإعلام وغيرهما. وصار الخوف من رد الفعل أحد الأسباب القوية المانعة للحرب. وكل دولة تخشى مما تخفيه أو تظهره الدولة الأخرى. وهكذا صار الإعداد للحرب ينفي قيام الحرب. {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . ولا تظنوا أن من يواجهونكم هم أعداء الله فقط وقد سلطكم سبحانه عليهم، لا بل عليكم أن تعرفوا أت أعداء الله هم أعداؤكم أيضاً؛ لأنهم يفسدون الحياة على المؤمنين. وعدو الله دائماً يحاول أن ينال من المؤمين. وأن ينكل بهم، وأن يجبرهم إن استطاع على الكفر وأن يغريهم على ذلك. فالحق سبحانه وتعالى لا يغضب؛ لأنهم لم يؤمنوا به، بل لأنهم لا يطبقون المنهج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4779 الذي يسعد الإنسان على الأرض، فسبحانه وتعالى لا يكرههم ولكن يعاقبهم بسبب الإفساد في الأرض وبغيهم وطغيانهم. {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] . وهذه لفتة من الحق سبحانه وتعالى إلى أن أعداء المسلمين ليسوا هم فقط الذين ظهروا أثناء الرسالة من كفار قريش واليهود والمنافقين وغيرهم، ولكنَّ هناك خلقاً كثيراً سيأتون بعد ذلك لا تعلمونهم أنتم الآن ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يعلمهم، كما يلفتنا سبحانه إلى أن أعداء المسلمين ليسوا هم الذين يظهرون في ميدان القتال فقط ليحاربوا المسلمين، ولكنَّ هناك كثيراً ممن لا يظهرون في ميدان القتال يحاربون دين الله ويحاربون المسلمين. وقد ظهر معنى هذه الآية الكريمة، ولا يزال يظهر للمسلمين، فظهرت عداوة الفرس والروم وحربهم ضد المسلمين، وظهرت عداوة الصليبيين وغيرهم. ومع الزمن سوف يظهر من يعلمهم الله ولا نعلمهم نحن. وقد جاءت أحداث الحياة لتؤكد دقة تعبير القرآن الكريم. ثم يتناول الحق سبحانه وتعالى هواجس النفس البشرية، وهي تنصت لهذه الآيات من الإعداد العسكري، فالذي يخطر على البال أولاً أن مثل هذا الإعداد يتطلب مالاً، ويتطلب جهداً، ويتطلب زمناً فوق الزمن لقضاء المصالح والحوائج. فإياكم أن تنكصوا عن الاستعداد؛ لأن كل ما تنفقونه في سبيل الله محسوب عند الله. وإياكم أن تقولوا: إنّ الإعداد لقوة المجتمع يحتاج مالاً ويقتر على الأبناء؛ لأن الله يرزقكم. ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4780 أي أن ما تنفقونه مما يقال له: شيء سواء أكان قليلاً أم كثيراً يرد إليكم، ولقد جاء التعبير ب {مِّن شَيْءٍ} في قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} أي مما يقال له شيء. ولو جاءت الآية: غنمتم شيئاً، لما شملت الأشياء البسيطة، ولكن قوله تعالى: {مِّن شَيْءٍ} أي من بداية ما يقال له شيء، حتى قالوا: إن الخيط الذي يوجد عند العدو لا بد أن يذهب للغنائم، وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله} [الأنفال: 60] . يعني أي شيء تنفقونه في سبيل الله تعالى مدخر لكم ما دمتم أنفقتموه وليس في بالكم إلا الله عَزَّ وَجَلَّ. أما الإنفاق الذي ظاهره لله وحقيقته للشهرة أو الحصول على الثناء أو للتفاخر أو لقضاء المصالح. فكل ذلك اللون من الإنفاق خارج عن الإنفاق في سبيل الله، لكن الإنفاق في سبيل الله سيرده الله لكم مصداقاً لقوله تعالى: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونََ} أي أن ما تنفقونه في سبيل الله لا ينقص مما معكم شيئاً. على أن الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نأخذ طريق العدل وليس طريق الافتراء؛ لذلك يطلب منا عَزَّ وَجَلَّ ألا يطغينا هذا الاستعداد للحرب على خلق الله، فما دام لدينا استطاعة وأعددنا قوتنا وأسلحتنا فليس معنى ذلك أن نصاب بالغرور ونجترىء على خلق الله؛ ولهذا فإن الله عَزَّ وَجَلَّ ينبهنا إلى ذلك بقوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4781 أي أن الله لم يطالبنا بأن نكون أقوياء لنفتري على غيرنا، فهو لا يريد منا إعداد القوة للاعتداء والعدوان، وإنما يريد القوة لمنع الحرب ليسود السلام ويعم الكون؛ لذلك ينهانا سبحانه وتعالى أن يكون استعدادنا للقتال وسيلة للاعتداء على الناس والافتراء عليهم. ولهذا فإن طلب الخصم السلم والسلام صار لزاماً علينا أن نسالمهم. وإياك أن تقول: إن هذه خديعة وإنهم يريدون أن يخدعونا؛ لأنك لا تحقق شيئاً بقوتك، ولكن بالتوكل على الله عَزَّ وَجَلَّ والتأكد أنه معك، والله عَزَّ وَجَلَّ يريد الكون متسانداً لا متعانداً. وهو سبحانه وتعالى يطلب منك القوة لترهب الخصوم. لا لتظلمهم بها فتقاتلهم دون سبب. وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} [الأنفال: 61] . أي إن مالوا إلى السلم ودعوك إليه فاتجه أنت أيضاً إلى السلم، فلا داعي أن تتهمهم بالخداع أو تخشى أن ينقلبوا عليك فجأة؛ لأن الله تعالى معك بالرعاية والنصر، وأنت من بعد ذلك تأخذ استعدادك دائماً بما أعددته من قوتك. وقول الحق: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [الأنفال: 61] . أي إياك أن تتوكل أو تعتمد على شيء مما أعددت من قوة؛ لأن قصارى الأمر أن تنتهي فيه إلى التوكل على الله فهو يحميك. ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى حيثية ذلك فيقول: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الأنفال: 61] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4782 أي أنه لا شيء يغيب عن سمعه إن كان كلاماً يقال، أو عن علمه إن كان فعلاً يتم. وإياك أن تخلط بين التوكل والتواكل، فالتوكل محله القلب والجوارح تعمل؛ فلا تترك عمل الجوارح وتدعي أنك تتوكل على الله، وليعلم المسلم أن الانتباه واجب، وإن رأيت من يفقد يقظته لا بد أن تنبهه إلى ضرورة اليقظة والعمل، فالكلام له دور هنا، وكذلك الفعل له دور؛ لذلك قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الأنفال: 61] . ولنلحظ أن قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} [الأنفال: 61] . هذا القول إنما جاء بعد قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . وهي آية تحض على الاستعداد للقتال بإعداد العدة له. ويريد الحق تبارك وتعالى أن ينبهنا إلى قوة المؤمنين واستعدادهم الحربي يجب ألا يكونا أداة للطغيان، ولا للقتال لمجرد القتال. ولذلك ينبهنا سبحانه وتعالى إلى أنهم لو مالوا إلى السلم فلا تخالفهم وتصر على الحرب؛ لأن الدين يريد سلام المجتمع، والإسلام لا ينتشر بالقوة وإنما ينتشر بالإقناع والحكمة. فلا ضرورة للحرب في نشر الإسلام؛ لأنه هو دين الحق الذي يقنع الناس بقوة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4783 حجته ويجذب قلوبهم بسماحته، وكل ذلك لشحن مدى قوة الإيمان، لنكون على أهبة الاستعداد لملاقاة الكافرين، ولكن دون أن تبطرنا القوة أو تدعونا إلى مجاوزة الحد، فإن مالوا إلى السلم، علينا أن نميل إلى السلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يريد سلامة المجتمع الإنساني. وإن كنتم تخافون أن يكون جنوحهم إلى السلم خديعة منهم حتى نستنيم لهم، ثم يفاجئونا بغدر، فاعلم أن مكرهم سوف يبور؛ لأنهم يمكرون بفكر البشر، والمؤمنون يمكرون بفكر من الحق سبحانه وتعالى؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4784 فإذا أحسست أن مبادرة السلم التي يعرضونها عليك هي مجرد خديعة حتى يستعدوا لك ويفاجئوك بغدر ومكر، فاعلم أن الله تعالى عليم بمكرهم، وأنه سيكشفه لك، وما دام الله معك فلن يستطيعوا خداعك، وإذا أردت أن يطمئن قلبك فاذكر معركة بدر التي جاءك النصر فيها من الله تعالى وتمثلت أسبابه المرئية في استعداد المؤمنين للقتال ودخولهم المعركة. وتمثلت أسبابه غير المرئية في جنود لم يرها أحد، وفي إلقاء الرعب في قلوب الكفار، وكان النصر حليفك بمشيئة الله تعالى: والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ} والخداع هو إظهار الشيء المحبوب وإبطان الشيء المكروه، وتقول: «فلان يخادعني» أي يأتي بشيء أحبه، ويبطن لي ما أكرهه، ولأن الخداع في إخفاء ما هو مكروه، وإعلان ما هو محبوب، فهل أنت يا محمد متروك لهم، أم أن لك ربا هو سندك، وهو الركن الركين الذي تأوي إليه؟ . وتأتي الإجابة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4784 من الحق سبحانه وتعالى: {وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} [الأنفال: 62] . إذن فالله سبحانه وتعالى حسبك وسندك وهو يكفيك؛ لأنه نصرك وآزرك. وأنت ترى أن هذه قضية دليلها معها، فقد نصرك ببدر رغم قلة العدد والعُدد. والتأييد تمكين بقوة من الفعل ليؤدى على أكمل وجه وأحسن حال، وما دام الله عَزَّ وَجَلَّ هو الذي يؤيد فلا بد أن يأتي الفعل على أقوى توكيد ليؤدي المراد والغاية منه. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4785 والتأييد هنا عناصره ثلاثة: الله يؤيد بنصره، والله يؤيد بالمؤمنين، والله يؤلف بين قلوب المؤمنين. والتأليف بين القلوب جاء لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرسل لقوم لهم عصبية وحمية، وهم قبائل متفرقة تقوم الحروب بينهم لأتفه الأسباب؛ لأن عناصر التنافر موجودة بينهم أكثر من عناصر الائتلاف. إن القبيلة مجتمعة تهب للدفاع عن أي فرد فيها مهما كانت الأسباب والظروف، حتى إنه ليكفي أن يسب واحد من الأوس مثلاً واحداً من الخزرج لتقوم الحرب بين القبيلتين، ولو أن القلوب ظلت على تنافرها لما استطاعت هذه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4785 القبائل أن تواجه أعداء الإسلام، ولشغلتها حروبها الداخلية عن نصرة الدين والدفاع عنه ومواجهة الكفار. ولكن الله ألف بينهم، وبعد أن كانوا أعداءً أصبحوا أحباباً. وبعد أن كانوا متنافرين أصبحوا متوادين. وهكذا ألف الله بين قلوب المسلمين بحيث أصبح الإسلام في قلوبهم وأعمالهم وأسلوب حياتهم هو أقوى رابطة تربط بينهم. فأصبحت أخوة الدين أقوى من أخوة النسب. وحين تتآلف القلوب؛ فهذا أقوى رباط؛ لأن كل عمل يقوم به الإنسان إنما ينشأ عن عقيدة في القلب. إن القلب هو مصدر النية التي يتبعها السلوك، فالذي يحرك إنساناً مَوْتوراً منك ويثير جوارحه ضدك، إنما هو القلب، فإن وجدت إنساناً يعبس في وجهك فافهم أن في قلبه شيئاً، وإن لقيته وحاول أن يضربك فافهم أن في قلبه شيئاً أكبر، وإن حاول أن يقتلك، يكون في قلبه شعورٌ أعمق بالبغض والكراهية. إذن فالينبوع لكل المشاعر هو القلب. ولذلك نرى الإنسان يُضَحِّي بكل شيء وربما ضحَّى بحريته وبماله في سبيل ما آمن به واستقر في قلبه، ونحن نرى العلماء في معاملهم يعيشون سنوات طويلة ويحرمون أنفسهم من متع الحياة الدنيا لأن العلم قد تحول إلى عقيدة في قلوبهم سواء أكانوا مسلمين أم غير ذلك، فكانما نية القلب وما يستقر فيها هي أقوى ما في الحياة. ثم يبين الله سبحانه وتعالى لنا أن هذا فضل عظيم منه أن ألف بين قلوب المؤمنين؛ فيقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4786 والتأليف بين القلوب هو جماع التواد والمساندة، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول في الحديث الذي يرويه عنه النعمان بن بشير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله» . والحديث بتمامه: «انّ الحلال بِّين وإن الحرام بَيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» . ولم تكن المسألة في تأليف القلوب مسألة احتياج إلى مال؛ لأن المال لا يمكن أن يعطي الحب الحقيقي، ولذلك فهناك بين الناس ارتباط مصالح وارتباط قلوب، وارتباط المصالح ينتهي بمجرد أن تهتز أو تنتهي هذه المصالح، لكن ارتباط القلوب يتحدى كل الأزمات، وأنت لا تستطيع أن تجعل إنساناً يحبك حقيقة مهما أعطيته من مال؛ لأن الحب الحقيقي لا يشترى ولا يباع، إنما يشترى النفاق والتظاهر وغير ذلك من المشاعر السطحية. والعرب الذين ألف الله بين قلوبهم لم يكن يهمهم المال بقدر ما تهمهم الحمية والعصبية، فغالبيتهم يملكون الثروات، ولكن الفُرْقة فيما بينهم نابعة من الحمية والعصبية التي تجعل في القلوب غلاً وحسداً وحقداً؛ لذلك تنفعل جوارحهم. يقول الحق تبارك وتعالى: {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] . وما دام الله سبحانه وتعالى له عزة فهو لا يغلب، وما دام حكيماً فهو يضع الأمور في مكانها السليم، والله سبحانه وحده هو القادر على أن يجعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4787 القلوب تتآلف؛ لأن القلوب في يد الرحمن يقلبها كما يشاء، لذلك ندعو بدعاء رسول الله: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ، فعن شهر بن حوشب قال: قلت لأم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها يا أم المؤمنين ما أكثر دعاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» . وسبحانه وتعالى يقول: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] . ثم يعطينا الله سبحانه وتعالى قضية إيمانية فيقول: {ياأيها النبي حَسْبُكَ الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4788 وإياك أن تظن أن الله عَزَّ وَجَلَّ يعاقب الكفار لأنهم لم يؤمنوا برسل الله فقط، ولكن لأن الكون يفسد بسلوكهم، وهو سبحانه غير محتاج لأن يؤمن به أحد، ثم إن دين الحق سينتصر سواء آمن الناس به أم لم يؤمنوا، وسبحانه يريد بالمنهج الذي أنزله كل الخير والسعادة لعباده؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: 17] . فإذا دخل أحد في الإسلام فلا يمن على الله أنه أسلم؛ لأن إسلامه لن يزيد في ملك الله شيئاً، وليعلم أن الله سبحانه وتعالى قد منّ عليه بهدايته للإسلام وهي لصالحه. ويريد الله من رسوله ألا يلتفت إلى عدد الكفار أو قوتهم؛ لأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4788 معه الأقوى، وهو الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول: {حَسْبُكَ الله} [الأنفال: 64] . أي يكفيك الله. وقوله تعالى: {وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] . هي داخلة في {حَسْبُكَ الله} . لأن الله هو الذي هدى هؤلاء المؤمنين للإيمان فآمنوا. ويكون المعنى: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، أي يكفيكم الله، وعلى ذلك فلا تلتمس العزة إلا من الحق سبحانه وتعالى. ويمكن أن يكون المعنى يكفيك الله فيما لا تستطيع أن تحققه بالأسباب. ويكفيك المؤمنون فيما توجد في أسباب. ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {ياأيها النبي} [الأنفال: 64] . وهذا النداء إنما يأتي في الأحداث؛ أما البلاغ فيقول الله تعالى: {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 67] . إذن فالحق سبحانه وتعالى ينادي الرسول ب {ياأيها النبي} حين يكون الأمر متعلقا بالأسوة السلوكية، أما إذا كان الأمر متعلقا بتنزيل تشريع، فالحق سبحانه يخاطبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: {ياأيها الرسول} ذلك أن الرسل جاءوا مبلغين للمنهج عن الله، ويسيرون وفق هذا المنهج كأسوة سلوكية. على أننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قد ذكر كل رسول باسمه في القرآن الكريم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4789 فقال: «يا موسى» ، وقال: «يا عيسى بن مريم» ، وقال: «يا إبراهيم» . إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فقد خاطبه ب: «يأيها النبي» ، وب «يأيها الرسول» ، وهذه لفتة انتبه إليها أهل المعرفة، وهذا النداء فيه خصوصية لخطاب الحضرة المحمدية، فالله سبحانه وتعالى يقول: {يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35] . وينادي سيدنا نوحاً قائلاً سبحانه: {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ} [هود: 48] . وينادي سيدنا موسى فيقول: {أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين} [القصص: 30] . وينادي سيدنا عيسى فيقول: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] . فكل نبي ناداه الحق تبارك وتعالى ناداه باسمه مجرداً إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم يقل له قط: يا محمد، وإنما قال: «يأيها النبي» ، و «يأيها الرسول» . والحق سبحانه وتعالى في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها أراد أن يلفت نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن يعلم أنه يكفيه الله والمؤمنين مهما قل عددهم لينتصروا على الكفار. ثم يأتي النداء الثاني من المولى تبارك وتعالى في قوله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4790 {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4791 وساعة تسمع أن فلانا يحرض فلاناً، فهذا يعني أنه يحثه، ويثير حماسه ويغريه على أن يفعل، وأنواع الطلب كثيرة، فهناك طلب نسميه نداء، أي تناديه، وطلب نسميه أمراً أي تفعله، وطلب نسميه نهياً، أي لا تفعله. هذه كلها أفعال طلب يسبقها النداء. هناك مثلاً طلب أن يُقبل عليه، وطلب آخر أن يبتعد عنه، وطلب ثالث أن يقضي له حاجة، كل هذا يعني أن المتكلم يعرض على السامع أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا. وهناك لون من الطلب لا يحمل الإلزام، بل هو عَرْض فقط (وهو الطلب برفق ولين) كقولك لمن تعلوه: أنا لا آمرك، بل أعرض عليك فقط. وهناك لون ثالث من الطلب تحمله كلمة «حض» وهو الطلب بشدة؛ لأن المعروض معه دليل الإقبال عليه. فأنت حين تحض ابنك على المذاكرة مثلاً فهناك مبرر الإقبال على المذاكرة وهو النجاح. وأنت حين تحض الإنسان على فعل، فأنت لا تنهاه أو تأمره لأنك تريد أن يقبل على الشيء بحب، ولكن حين تأمره بقسوة قد يكره هذا الشيء. وقد تعرض على إنسان شيئاً فتجده يحب أن يفعله ولو بدون أمر منك. إذن فقول الله تعالى: {حَرِّضِ المؤمنين} [الأنفال: 65] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4791 أي حثهم وحضهم وحمسهم، والفعل يتكون من الحاء والراء والضاد، ومنها «حرض» و «يحرض» ومادة هذه الكلمة معناها القرب من الهلاك. ونجد قول الحق تبارك وتعالى على لسان إخوة يوسف لأبيهم: {قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} [يوسف: 85] . أي أنك ستستمر في ذكر يوسف حتى تقترب من الهلاك أو تهلك بالفعل. ولكن هل معنى «حرِّض» هنا يعني: قرب المؤمنين من الهلاك؟ نقول: لا؛ لأن ما يسمونه الإزالة، وهي أن يأتي الفعل على صورة يزيل أصل اشتقاقه، عندما تقول: «قشرت البرتقالة» أي أزلت قشرتها. وكذلك قولنا: «مرّض» الطبيب فلانا وليس المعنى أن الطبيب قد أحضر له المرض، ولكن معناها أزال المرض، إذن فهناك أفعال تأتي وفيها معنى الإزالة. ويأتي معنى الإزالة مرة بتضعيف الحرف الأوسط مثل «حرَّض» و «قشَّر» ومرة تأتي بهمزة، فتعطي معنى الإزالة، فإذا قلت: «أعجم الكتاب» . فمعناها أنه أزال عجمته، ولذلك نسمي كتب اللغة «المعاجم» ، أي التي تزيل خفاء اللغة وتعطينا معاني الكلمات. ومن قبل شرحنا معنى «قسط» و «أقسط» ؛ وقسط تعني «الجور» أي الظلم مصداقاً لقوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] . وأقسط أي أزال الظلم. إذن فهناك حروف حين تزاد على الكلمة؛ تزيل المعنى الأصلي لمادتها. وهناك تشديد يزيل أصل الانشقاق مثل «قشّر» أي أزال القشر، و «مَّرض» أي أزال المرض. و «حرَّض» أي أزال الحرض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4792 ومعنى الآية الكريمة: اطلب منهم يا محمد أن يزيلوا قربهم من الهلاك بالقتال. وهذه القاعدة اللغوية تفسر لنا كثيراً من آيات القرآن الكريم. ففي قوله تعالى: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] . الذين يأخذون بالمعنى السطحي يقولون: «أكاد أخفيها» أي أقرب من أن أسترها ولا أجعلها تظهر، ونقول: الهمزة في قوله: «أكاد» هي همزة الإزالة، فيكون معنى «أكاد» أي أنني أكاد أزيل خفاءها بالعلامات الصغرى والعلامات الكبرى التي أخبرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بها. وبعضهم قد أرهق نفسه في شرح «أكاد أخفيها» ولم ينتبهوا إلى أن إزالة الاشتقاق تأتي إما بتضعيف الحرف الأوسط، وإما بوجود الهمزة. وقول الحق تبارك وتعالى هنا: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} [الأنفال: 65] . أي أن الله سبحانه وتعالى يطلب من رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تحريض المؤمنين على الجهاد وكأنه يقول له: ادع قومك إلى أن يبعدوا الدنو من الهلاك عن أنفسهم؛ لأنهم إن لم يجاهدوا لتغلب عليهم أهل الكفر، فأهل الكفر يعيشون في الأرض بمنهج السيطرة والغلبة والجبروت، وحين يجاهدهم المؤمنون إنما ليوقفوهم عند حدهم. ولذلك قال الحق تبارك وتعالى: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} [الأنفال: 65] . فكأنهم إن لم يحاربوا أهل الكفر سوف يحيط بهم الهلاك في الدنيا وفي الآخرة. والله سبحانه وتعالى يريد لهم الحياة الآمنة الكريمة في الدنيا والجنة في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4793 الآخرة. ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قد وضع معياراً إيمانيا في القتال بين المؤمن والكافر، والمعيار هنا وضعه خالقهم، وخالق قواهم وملكاتهم وعواطفهم. والمعيار الإيماني هو في قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 65] . إذن فالمعيار الإيماني باختصار يساوي واحداً إلى عشرة، أي أن القوة الإيمانية تجعل من قوة المؤمن ما يعادل قوة عشرة من الكفار، هذا هو المقياس. وهنا يأتي بعض الناس ليقول: أساليب القرآن مبنية على الإيجاز وعلى الإعجاز، فلماذا يقول الحق سبحانه وتعالى: «عشرون يغلبوا مائتين» . ثم يقول «مائة يغلبوا ألفا» ؛ ألم يكن من الممكن أن يقال: إن الواحد يغلب عشرة وينتهي القول؟ . نقول: إنك لم تلاحظ واقع الإسلام؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يذهب مع المؤمنين في قتالهم ويحضر معهم بعضاً من أحداث القتال التي نسميها «غزوات» . أما البعثات القتالية التي لم يخرج فيها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان يكتفي فيها بإرسال عدد من المؤمنين، فقد كانت تسمى سرايا، وهذه السرايا كانت لا تقل عن عشرين مقاتلاً ولا تزيد على مائة، فذكرها الله تعالى مرة بالعشرين ومرة بالمائة. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 65] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4794 ونحن نرى أن المقياس هنا ليس بعدد المقاتلين فقط، ولكن لا بد أن يكونوا موصوفين بالصبر، وفي آية أخرى بالصبر والمثابرة، فمن الجائز أن يصبر عدوك فعليك حينئذ أن تصابره، أي إن صبر قليلاً، تصبر أنت كثيراً، وإن تحمل مشقة القتال، تتحمل أنت أكثر. إذن فالقوة القتالية لكي يتحقق بها ولها النصر لا بد أن تكون قوة صابرة قوية في إيمانها قادرة على تحمل شدة القتال وعنفه. ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى تعليل هذا الحكم الإيماني الذي أبلغنا به فيقول عز من قائل: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] . إذن فالسبب في أن المؤمن يغلب عشرة من الكفار، هو أن الكفار قوم لا يفقهون، وما داموا لا يفقهون، يكون المقابل لهم من المؤمنين قوما يفقهون. وهنا نقارن بين المؤمنين الذين يفقهون، والكفار الذين لا يفقهون ونقول: إن الكافر حين يقاتل لا يعتقد في الآخرة، وليس له إلا الدنيا ويخاف أن يفقدها، ولذلك حين يوجد الكافر في ساحة الحرب فهو يريد أن يحافظ على حياته ولو بالفرار، ولكن الدنيا بالنسبة للمؤمن رحلة قصيرة والشهادة هي الفوز برضوان الله ودخول الجنة بلا حساب، ولذلك فإنه يقبل على القتال بشجاعة من يريد الاستشهاد. ونجد خالد بن الوليد يقول للفرس: أتيتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة. فلو أن الكفار فقهوا أي فهموا أن الدنيا دار ممر ومعبر للآخرة، وأن الآخرة هي المستقر لأنها الدار الباقية، لامتلكوا قوة دافعة للقتال، ولكنهم يريدون هذه الحياة لأنها بالنسبة لهم هي كل شيء. ولذلك يعلمنا القرآن الكريم فيقول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4795 {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} [التوبة: 52] . أي لن يحدث لنا في هذه الحرب إلا ما هو حسن، فإما أن ننتصر ونقهركم ونغنم أموالكم، وإما أن نُسْتَشْهَدَ فندخل الجنة وكلاهما حسن. ويكمل الحق سبحانه وتعالى: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52] . أي أنكم أيها الكفار لن يصيبكم إلا السوء والخزي. إما عذاب شديد من عند الله بغير أسباب، وإما عذاب بأيدينا أي بالأسباب. إذن فالكافر حين يدخل المعركة لا ينتظر إلا السوء، إما أن يقتل ويذهب إلى جهنم - والعياذ بالله -، وإما أن يصيبه الله بعذاب يدفع الخوف في قلبه أثناء المعركة. والكفار في القتال لا يعتمدون إلا على قوتهم وعددهم وعُدتِهم؛ أما المؤمنون فيعتمدون أولاً على الله القوي العزيز ويثقون في نصره. ولذلك يقبلون على القتال ومعهم رصيد كبير من طاقة الإيمان وهي طاقة تفوق العدد والعدة، ويكون المقاتل منهم قويا في قتاله متحمساً له؛ لأنه يشعر أنه مؤيد بنصر الله. ونعلم أن كل إنسان يحرص على الغاية من وجوده؛ وغاية الكفار متاع الحياة الدنيا المحدود، أما غاية المؤمنين فممتدة إلى الآخرة. ولذلك فالكافر يحارب بقوته فقط وهو مجرد من الإيمان. ونلاحظ أن النصوص خبرية في قوله الحق تبارك وتعالى: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4796 والنصوص الخبرية ليس فيها طلب،، وإن كان الطلب يخرج مخرج الخبر ليوهمك أن هذا أمر ثابت. وعندما قام بعض المتمردين من سنوات ودخلوا الحرم بأسلحتهم وحاصروا الناس فيه قال بعض السطحيين: إنَّ القرآن يقول: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] . وأن هذا خبر كوني معناه أن كل من دخل الحرم كان آمناً، وقلنا: إن قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] . هذا كلام الله؛ فمن أطاع الله فليؤمِّن من يدخل الحرم. وقد تطيعون فتؤمِّنون من يدخل الحرم وقد تعصون فلا تؤمِّنونهم. إذن فالمسألة هي حكم تطيعونه أو لا تطيعونه، كذلك قول الحق سبحانه وتعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] . هذا كلام خبري. فإن أطاعت المطلقة الله؛ انتظرت هذه الفترة، وإن عصت لم تنتظر، وكذلك قوله تعالى: {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] . وقد نرى في الكون زيجات عكس ذلك؛ تجد رجلاً لئيماً يتزوج بامرأة طيبة؛ وامرأة لئيمة تتزوج رجلاً طيباً، وقد تتساءل: لماذا لم يتزوج الطيب طيبة مصداقاً لقول الحق، ولماذا لم يتزوج الخبيث خبيثة؟ ونقول: لقد أخطأت الفهم لقول الله تعالى، فما قاله الله ليس خبراً كونيا، ولكنه خبر تشريعي ومعناه: زوجوا الطيبات للطيبين، وزوجوا الخبيثات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4797 للخبيثين، فإن فعلتم استقامت الحياة، وإن عصيتم لا تستقيم الحياة؛ لأن الرجل الخبيث إن عاير امرأته وأهانها فهي ترد عليه الإهانة بالمثل ويكون التكافؤ موجوداً حتى في القبح. ولكن الشقاء في الكون إنما يأتي من زواج الطيب بالخبيثة، والخبيث بالطيبة، وليس معنى الآية - إذن - أنك لا تجد طيباً إلا متزوجاً من طيبة، ولا خبيثاً إلا متزوجاً من خبيثة؛ لأن هذا أمر تكليفي تشريعي، فإن فعلت تكون قد أطعت، وإن لم تفعل تكون قد عصيت. ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4798 وفي هذا الحكم تخفيف عن الحكم السابق، الذي جاء فيه أن عشرين صابرين يغلبوا مائتين، ونعلم أن هناك شروطا للقتال، أولها أن يكون المقاتل قوي البدن وقوي الإيمان وعلى دراية بحيل الحرب وفنونه بحيث يستطيع أن يناور ويغير مكانه في المعركة ويخدع عدوه؛ لأن نتيجة المعركة لا تحسمها معركة واحدة، بل لا بد من كرّ وفرّ وإقبال وإدبار وخداع للقتال ومناورات مثلما فعل خالد بن الوليد في كثير من المعارك. إذن فلكي تضمن أن عشرين صابرين يغلبون مائتين لا بد أن يتحقق في هؤلاء جميعاً قوة وصبر وجلد، ولكن قد لا تكون قوة البدن متوافرة والجلد ضعيفاً. وقد تأتي للإنسان فترات ضعف، وتأتيه أيضاً فترات قوة. ومن رحمته سبحانه وتعالى بالمؤمنين أنه خفف عنهم؛ لأنه يعلم أن هناك فترات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4798 ضعف تصيب الإنسان؛ لذلك جعل النسبة واحداً إلى اثنين. وقال سبحانه وتعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66] . وهل معنى ذلك أن الآية الأولى قد نسخت؟ نقول: لا، ولكن الآية الثانية أعطت حالات الأغيار والضعف البشري وحسب لها حساباً. ولذلك نجد الحكم الأول قائما وهو الحد الأعلى، كما أن الحكم الثاني - أيضاً - قائم وهو الحد الأدنى، فإذا لقي مؤمن ثلاثة كفار وفر منهم لا يعدُّ فارّاً يوم الزحف، ولا يؤاخذه الله على ذلك. لكن إن واجهه اثنان فانسحب وتركهما يعتبر فارّاً؛ لأن الحد الأدنى هو واحد لاثنين. وتكون هذه أقل نسبة موجودة. والنسب تتفاوت بين واحد إلى اثنين حتى واحد إلى عشرة، حسب قوة الصبر وقوة الجسم وعدم التحيز إلى فئة. وبطبيعة الحال نعلم أن القوي قد يصير ضعيفاً. وكذلك فإن بعضاً من النفوس قد تضيق بالصبر، وأيضاً حين زاد عدد المؤمنين، فمن المحتمل أن يتكل بعضهم على بعض. ولكنهم عندما كانوا قلة، كان كل واحد منهم يبذل أقصى قوته في القتال للدفاع عن عقيدته. والمشرع لا يشرع للمؤمنين بما يحملهم ما لا يطيقون، ولكنه يشرع لهم ليخفف عنهم، والمثال على ذلك نجد أن الله قد أباح الإفطار في رمضان إذا كان الإنسان مريضاً أو على سفر، وكذلك شرع الحق تبارك وتعالى قصر الصلاة أثناء السفر، إذن فالمشرع قد عرف مواطن الضعف في النفس البشرية التي تجعلها لا تقوى على التكليف. وفي هذه الحالة يقوم المشرع ذاته بالتخفيف، ولا يتركنا نحن لنخفف كما نشاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4799 وبعض الناس يقول: إن الحياة العصرية لم تعد تتحمل تنفيذ هذه التشريعات، وأنه ليس في وسعنا في هذا العصر أن نلتزم، وأن ربنا سبحانه وتعالى يقول: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا. .} [البقرة: 286] . ونقول لكل من يقول ذلك: لقد فهمت وسع النفس خطأ، وكان عليك أن تقيس وسعك بالتكليف، ولا تقيس التكلف بوسعك. والسؤال: هل كلَّف الله سبحانه وتعالى أو لك يكلف؟ فإن كان قد كلف فذلك تأكيد على أنه في استطاعتك، ولا تقل: أنا سأقيس استطاعتي. ثم ابحث هل التكليف في نطاق هذه الاستطاعة أو لا؟ وعليك أن تبحث أولاً: هل كلفت بهذا الأمر أو لم تكلف؟ فإذا كنت قد كلفت به يكون في استطاعتك أداء ما كلفت به؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا يكلف نفساً إلا ما آتاها؛ لا تفرض أنت استطاعة ثم تُخْضع التكليف لها، ولكن اخضع استطاعتك للتكليف. وقول الحق سبحانه وتعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً. .} [الأنفال: 66] . و «الآن» تعني الزمن، وقد خفف الله أي هو سبحانه وتعالى الذي رفع المشقة، وأنت تقول هذا الشيء خفيف وهذا الشيء ثقيل. لكن أتعرف بأي شيء حكمت بمقدار المشقة التي تتحملها في أدائه؟ . فإن رفعت قلماً تقول: هذا خفيف، وإذا رفعت قطعة حجر كبيرة تقول: هذه ثقيلة، بأي شيء حكمت؟ هل بمجرد النظر؟ لا. فأنت لا تستطيع أن تفرق بالنظر بين حقيبتين متماثلتين لتقول هذه ثقيلة وهذه خفيفة؛ لأن إحداهما قد تكون مملوءة بالحديد، والثانية فيها أشياء خفيفة؛ ولا تستطيع أن تحكم باستخدام حاسة السمع ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4800 حاسة اللمس؛ لأنك باللمس لا تستطيع أن تحكم على حقيبة بأنها خفيفة والأخرى ثقيلة، ولا بحاسة الشم أيضاً. إذن فكل وسائل الإدراك عاجزة عن أن تدرك خفة الشيء أو ثقله، فبأي شيء ندرك؟ . ونقول: قد اهتدى علماء وظائف الأعضاء أخيراً إلى أن الثقل والخفة لهما حاسة هي حاسة العضل، فحين يجهد ثقل ما عضلات الإنسان ويحملك مشقة أنه ثقيل، فهو يختلف عن تقل لا يؤثر على العضل ولا تحس فيه بأي إجهاد؛ لأن هذا الثقل يكون خفيفاً. إذن فهناك وسائل للإدراك لم نكن نعرفها في الماضي واكتشفها العلم الحديث. أنت مثلاً حين تمسك قماشاً بين أصابعك تقول: هذا قماش كثيف أو سميك وهذا خفيف أو رقيق، ما هي الحاسة التي عرفت بها ذلك؟ نقول: إنها حاسة «البين» فقد ابتعدت أصابعك قليلاً في القماش الثقيل، وقربت من بعضها في القماش الرقيق، وقد يصل الفرق إلى ملليمتر واحد أو أقل لا تدركه بالنظر؛ ولكن تدركه بحاسة البين. وإياكم أن تحسبوها رياضيا وعدديا وتقولوا إن النصر بالعدد؛ لأنكم بذلك تعزلون أنفسكم عن الله، أو إنَّما تفتنون بالأسباب، فكل نصر هو بإذن الله ومن عند الله تبارك وتعالى. ولماذا لم يقل الحق سبحانه: علم فيكم ضعفاً وخفف عنكم؟ لأنه سبحانه وتعالى أراد أن يكون الترخيص في الحكم أثبت من الحكم، على أن هذا التخفيف قد يعود إلى عدة أسباب؛ منها أن حكم الله أزلي. ولذلك وضع الله سبحانه وتعالى حدا أعلى يتناسب مع قوة الإيمان في المسلمين الأوائل، وحدا أدنى يتناسب مع ضعف الإيمان الذي سيأتي مع مرور الزمن، أو يتناسب مع العزوف عن الدنيا بالنسبة للمسلمين الأوائل، وعلى الإقبال على الدنيا بالنسبة لأولئك الذين سيأتون من بعدهم، أو مع قلة الفتن التي كانت في عصر النبوة وكثرة الفتن في عصر كالذي نعيش فيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4801 ويذيل الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله: {والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66] . وأنت قد تقول: فلان سافر إلى الخليج ومعه عشرون جنيهاً. فإذا اندهش من يسمعك وتساءل: «ماذا يفعل بهذا المبلغ الصغير» ؟ تقول له: إن معه فلاناً «المليونير» فيطمئن السائل. فإن قلت: إن فلاناً وهو رجل كبير السن ذهب إلى الجبل ليحضر صخرة. . نتساءل: كيف؟ . يقال لك: إن معه فلاناً القوي فتطمئن. إذن فمعية الضعيف للقوي أو الأدنى للأعلى تصنع نوعاً من الاستطراق، وتعطي من القوي للضعيف، ومن الغني للفقير، ومن العالم للجاهل، إذن فالمعية تعطي من قوة التفوق قدرة للضعيف. وهنا يوضح المولى سبحانه وتعالى للمؤمين: إن قوتكم وقدرتكم على الصبر محدودة لأنكم بشر، فلا تعزلوا هذه القوة المحدودة عن قدرة الله غير المحدودة، واصبروا لأن الله مع الصابرين. ولأنه سبحانه معكم فهو يعطيكم من قوته فلا تستطيع أي قوة أن تتغلب عليكم وتقهركم. ولقد تعرضنا لهذا وقت أن تكلمنا عن الغار، حين دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسيدنا أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الغار في طريق الهجرة إلى المدينة وجاء الكفار ووقفوا على باب الغار فماذا قال أبو بكر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. وهذا كلام منطقي مع الأسباب. فماذا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له ليطمئنه؟ . قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ولكن ما وجه الحجة في ذلك؟ . لقد قال: ما دام الله ثالثهما، والله لا تدركه الأبصار، فالذين في معيته لا تدركهم الأبصار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4802 وفي هذه الآية مثل سابقتها؛ يتحدث المولى سبحانه وتعالى عن المعارك والنصر. ومن الطبيعي أن يكون من معايير النصر كسب الغنائم. والغنائم التي تمت في بدر قسمان؛ منقولات، وقد نزل حكم الله فيها بأن لله ولرسوله الخمس، بقي جزء آخر من الغنائم لم ينزل حكم الله فيه وهم الأسرى، ففي معركة بدر قتل من قريش سبعون وأسر سبعون، فاستشار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الناس. فقال: ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ إنَّ الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس. فقال أبو بكر: يا رسول الله أهلك وقومك، قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم، هؤلاء بنو العمّ والعشيرة والإخوان استبقهم، وإني أرى أن تأخذ الفداء منهم، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم بك، فيكونوا لك عضدا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما تقول يابن الخطاب؟ قال: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان - أخيه - حتى يضرب عنقه، حتى ليعلم الله تعالى أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين، هؤلاء صناديد قريش وأئمتهم وقادتهم فاضرب أعناقهم، ما أرى أن يكون لك أسرى، فإنما نحن راعون مؤلفون. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أنظر وادياً كثير الحطب فأضرمه عليهم ناراً. فقال العباس وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك. قال أبو أيوب: فقلنا - يعني الأنصار - إنما يحمل عمر على ما قال حسد لنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4803 فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البيت، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج فقال: إن الله تعالى ليلين قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله تعالى ليشد قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة. مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم قال: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى بن مريم إذ قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118] ، ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله تعالى، ومثلك في الأنبياء مثل نوح إذ قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] ومثلك في الأنبياء مثل موسى، إذ قال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88] لو اتفقتما ما خالفتكما، أنتم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق، ومن بين الأسرى كان عدد من أغنياء قريش. وسبق له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن استشار الصحابة في معركة بدر. وحدث أن اختار رسول الله صلى الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أماكن جيش المسلمين، فتقدم أحد الصحابة وهو الحباب بن المنذر بن الجموح إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال له يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ . فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فأشار الحباب بن المنذر بتغيير موقع المسلمين ليكون الماء وراءهم فيشربوا هم ولا يشرب الكفار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4804 إذن فلو أنه منزل أنزله الله لرسوله لما جرؤ أحد على الكلام؛ لأن لله علماً آخر لا نعلمه، فنحن ببشريتنا لنا علم محدود؛ والله له علم بلا نهاية. وكذلك في مسألة الأسرى؛ لم يكن فيها حكم قد نزل من الله. ولذلك استشار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صحابته، وكان أمامه رأي فيه شدة لعمر بن الخطاب ومعه عبد الله بن رواحة، ورأي لين يخالف الرأي السابق وكان لسيدنا أبي بكر الصديق. وكان قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوجز ما قاله الفريقان؛ فريق اللين بقيادة أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وفريق الشدة بقيادة عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. ثم مال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى رأي الفداء. وجعل فدية الواحد من ألف درهم إلى أربعة آلاف درهم، وكان في الأسر العباس وهو عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فسمع النبي أنينه من قيده فقال: فكوا عنه قيده. وفسر بعض الناس هذا على أنه ميل من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى عمه، ولكنه كان ردا على جميل فعله العباس في بيعة العقبة؛ حينما حضر وفد من أهل المدينة إلى مكة ليبايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإسلام. وقد حضر العباس هذه البيعة، وكان أول من تكلم فيه رغم أنه كان ما زال على دين قومه. فقال: يا معشر الخزرج وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج. . خزرجها وأوسها. قال العباس: إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة من بلده، أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج به إليكم؛ فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4805 إذن فالعباس قد وقف موقفاً لا بد أن يجازى بمثله، ورغم أنه كان كافراً وقتئذ، إلا أن الكفر لم يمنع عاطفة العباس أن ينجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكذلك رد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الموقف بمثله؛ لأن المبدأ الإسلامي واضح في قول الحق: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} [النساء: 86] . فلا يؤخذ هذا التصرف - إذن - على أنه مجاملة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعمه، ولكنها حق على رسول الله من موقف العباس في بيعة العقبة. وقال له الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا عباس افد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عقبة بن عمرو بن جحدم أخا بني الحارث بن فهر؛ فإنك ذو مال. فقال: يا رسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني. فقال رسول الله: الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تذكر حقا فالله يجزيك به. أما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك. وكان المسلمون قد أخذوا من العباس عشرين أوقية من ذهب كغنيمة، فقال العباس: يا رسول الله احسبها لي في فدائي، فقال الرسول: لا، ذلك شيء أعطاناه الله عَزَّ وَجَلَّ منك. قال العباس: فإنه ليس لي مال. لقد جعلتني يا محمد أتكفف قريشاً، فضحك النبي وقال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد، ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا؛ فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا. قال العباس: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله. ففدى العباس نفسه بأربعة آلاف درهم، وفدى كلا من ابني أخيه وحليفه بألف لكل منهم. إذن ففي التقييم المادي دفع العباس أربعة أمثال ما دفعه الأسير العادي كفدية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4806 ثم ماذا فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع زوج ابنته زينب وكان في الأسارى أبو العاص بن الربيع ختن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وزوج ابنته زينب، أسرة خراش بن الصمة، فلما بعثت قريش في فداء الأسرى بعثت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في فداء أبي العاص وأخيه عمرو ابن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها، فلما رآها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رق لها رقة شديدة، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوا وردوا عليها الذي لها. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب إليه، وكان فيما شرط عليه في إطلاقه، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيعلم. ما هو، إلا أنه لما خرج بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، مكانه، فقال: كونا ببطن يأجح حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها، فخرجا مكانهما، وذلك بعد بدر بشهر أو شيعة، فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فخرجت تجهز. ومن بعد ذلك نزل قول الحق تبارك وتعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4807 و «أسرى» جمع كلمة «أسير» ، وتعريف الأسير أنه مشدود عليه الوثاق ممن أخذه بحيث يكون في قبضة يده، والأسير في الإسلام هو نبع العبودية والرق؛ لأن الأسير يقع في قبضة عدوه الأقوى منه ويمكنه أن يقتله أو يأخذه عبداً. إذن ففي هذه الحالة لا نقارن بين أسير أصبح عبداً وبين حر، وإنما نقارن بين قتل الأسير وإبقائه على قيد الحياة. وأيهما أنفع للأسير أن يبقى على قيد الحياة ويصبح أسيراً أم يقتل؟ . إن بقاءه على قيد الحياة أمر مطلوب منه ومرغوب فيه. وبذلك يكون تشريع الله سبحانه وتعالى في تملك الأسرى إنما أراد الله به أن يحقن دماءهم ويبقي حياتهم؛ لأن الأسير مقدور عليه بالقتل، وكان من الممكن أن يترك الأسرى ليقتلوا وتنتهي المشكلة. ولكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يحفظ حتى دم الكافر؛ لأن الله هو الذي استدعاه إلى هذه الحياة وجعله خليفة، ولذلك يحفظه. ولعله من بعد ذلك أن يهتدي ويؤمن. ونعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد لعن من يهدم بنيان الله إلا بحقه. على أن الإسلام قد اتهم زوراً بأنه هو الذي شرع الرق، ولكن الحقيقة أنه لم يبتدع أو ينشيء الأسر والرق، ولكنه كان نظاماً موجوداً بالفعل وقت ظهور الإسلام، وكانت منابع الرق متعددة بحق أو بباطل، بحرب أو بغير حرب، فقد يرتكب أحد جناية في حق الآخر ولا يقدر أن يعوضه فيقول: «خذني عبداً لك» ، أو «خذ ابنتي جارية» ، وآخر قد يكون مَديناً فيقول: خذ ابني عبداً لك أو ابنتي جارية لك «. وكانت مصادر الرق - إذن - متعددة، ولم يكن للعتق إلا مصرف واحد. وهو إرادة السيد أن يعتق عبده أو يحرره. ومعنى ذلك أن عدد الرقيق والعبيد كان يتزايد ولا ينقص؛ لأن مصادره الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4808 متعددة وليس هناك إلا باب واحد للخروج منه، وعندما جاء الإسلام ووجد الحال هكذا أراد أن يعالج مشكلة الرق ويعمل على تصفيته. ومن سمات الإسلام أنه يعالج مثل هذه الأمور بالتدريج وليس بالطفرة؛ فألغي الإسلام كل مصادر الرق إلا مصدراً واحداً وهو الحرب المشروعة التي يعلنها الإمام أو الحاكم. وكل رق من غير الحرب المشروعة حرام ولا يجوز الاسترقاق من غير طريقها، وفي ذات الوقت، عدد الإسلام أبواب عتق العبيد، وجعله كفارة لذنوب كثيرة لا يكفر عنها ولا يغفرها سبحانه وتعالى إلا بعتق رقبة، بل إنه زاد على ذلك في الثواب الكبير الذي يناله من يعتق رقبة حبا في الله وإيماناً به فقال سبحانه وتعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11 - 13] . فإذا لم يرتكب الإنسان ذنباً يوجب عتق رقبة ولا أعتق رقبة بأريحية إيمانية، فإنه في هذه الحالة عليه أن يعامل الأسير معاملة الأخ له في الإسلام. فيقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما رواه عنه سيدنا أبو ذَر رَضي الله عنه. «إخوانكم خولكم جعلهم الله فتنة تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه» . إذن فقد ساوى هذا الحديث الشريف بين العبد والسيد، وألغي التمييز بينهما؛ فجعل العبد يلبس مما يلبس سيده ويأكل مما يأكل أو يأكل معه؛ وفي العمل يعينه ويجعل يده بيده، ولا يناديه إلا ب «يا فتاي» أو «يا فتاتي» . إذن فالإسلام قد جاء والرق موجود وأبوابه كثيرة متعددة ومصرفه واحد؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4809 فأقفل الأبواب كلها إلا باباً واحداً، وفتح مصارف الرق حتى تتم تصفيته تماماً بالتدريج. وبالنسبة للنساء جاء التشريع السماوي في قول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] . وكان ذلك باباً جديداً من ابواب تصفية الرق؛ لأن الأمة إن تزوجت عبداً مثلها تظل على عبوديتها وأولادها عبيد، فإن أخذها الرجل إلى متاعه وأصبحت أم ولده يكون أولادها أحراراً، وبذلك واصل الإسلام تصفية الرق، وفي ذات الوقت أزاح عن الأنثى الكبت الجنسي الذي يمكن أن يجعلها تنحرف وهي بعيدة عن أهلها مقطوعة عن بيئتها، وترى حولها زوجات يتمتعن برعاية وحنان ومحبة الأزواج وهذه مسألة تحرك فيها العواطف، فأباح للرجل إن راقت عواطفهما لبعضهما أن يعاشرها كامرأته الحرة وأن ينجب منها وهي أمَة، وفي ذلك رفع لشأنها لأنها بالإنجاب تصبح زوجة، وفي ذات الوقت تصفية للرق. إن هذه المسألة أثارت جدلاً كثيراً حول الإسلام، وقيل فيها كلام كله كذب وافتراء. والآن بعد أن ألغي الرق سياسيا بمعاهدات دولية انتهت إلى ذات المبادئ التي جاء بها الإسلام وهي تبادل الأسرى والمعاملة بالمثل. وهو مبدأ أول ما جاء، إنما جاء به الإسلام، فليس من المعقول أن يأخذ عدو لي أولادي يسخرهم عنده لما يريد، وأنا أطلق أولاده الأسرى عندي، ولكن المعاملة بالمثل فإن منّوا نُمنّ، وإن فدوا نفد. ويشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الرق الناشيء عن الأسر مقيداً في قَوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4810 ونقول: إن هناك فرقاً بين حكم يسبق الحدث فلا يخالفه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحكم يجيء مع الحدث، ولا بد أن نفرق بين الحكمين؛ حكم يسبق الحدث إن خولف تكون هناك مخالفة ولكنَّ حكماً يأتي مع الحدث، فهذا أمر مختلف، لنفرض أنك جالس وجاء لك من يقول إن قريبك فلان ذهب إلى المكان الفلاني، وأنه ينفق على كذا، وأعطي كمبيالة على نفسه بمبلغ كذا. اذهب إليه لتمنعه، فتذهب إليه وتمنعه، هنا جاء الحكم مع الحدث، فلا تكون هناك مخالفة. وقول الحق سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67] . قد جاء هذا الحكم بعد أن تم أسر كفار قريش وأخذوا إل المدينة، وتشاور رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع الصحابة بشأنهم ووصلوا إلى رأي. إذن فالحكم جاء بعد أن انتهت العملية، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يغير الحكم، فظل الأسر والفداء. إذن: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} أي ما ينبغي لنبي أن يكون له أسرى حتى يقسو على الكفار في القتال. ويريد الحق سبحانه وتعالى هنا أن ينبه المؤمنين إلى أنهم لو كانوا يريدون الأسرى لعرض الدنيا، كأن يطمع أي واحد في من يخدمه، أو يطمع في امرأة يقضي حاجته منها، أو في مال يبغي به رغد العيش، كل ذلك مرفوض؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يريد من المؤمن أن يجعل الدنيا أكبر همه، بل يريد الحق من المؤمنين أن يعملوا ويحسنوا الاستخلاف في الأرض؛ ليقيموا العدل على قدر الاستطاعة؛ وليجزيهم الله من بعد ذلك بالحياة الدائمة المنعمة في الجنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4811 ولذلك قال الحق تبارك وتعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67] . وسبحانه العزيز الذي لا يغلب، والحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه. ويجيء من بعد ذلك قوله سبحانه وتعالى: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4812 هذه الآية الكريمة تشرح وتبيِّن أن الحق سبحانه وتعالى لا يحاسب أحداً إلا بعد أن ينزل التشريع الذي يرتب المقدمات والنتائج، ويحدد الجرائم والعقوبات، ولولا ذلك لنزل بالمؤمنين العذاب لأخذ الأسرى، من قبل أن تستقر الدعوة، وبما أن الحق تبارك وتعالى لا ينزل العذاب إلا بمخالفة يسبقها التشريع الذي يحددها، لولا ذلك لأنزل العذاب بالمؤمنين، ولكن بما أن هذا الفعل لم يجرَّم من قبل فلا عقاب عليه. وينتقل الحق سبحانه وتعالى إلى الغنائم التي حصل عليها المؤمنون في غزوة بدر فيقول تبارك وتعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4812 أي إياكم أن تنفقوا ما غنمتموه بسفاهة في أي شيء لا لزوم له، بل اتقوا الله فيما أعطاكم ومنحكم من غنائم. سواء كانت منقولات أم مالا أم أسرى تجعلونهم يقومون بأعمال يعود نفعها وعائدها إليكم. اتقوا الله في كل هذا ولا تنفقوه بحماقة، وقوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي أن الله تعالى قد غفر لكم ما فعلتم قبل أن تنزل هذه الآية الكريمة: ثم يخاطب الحق سبحانه وتعالى الأسرى بعد ذلك فيقول: {ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4813 أي إن صح كلام العباس في إسلامه وأنه كتم الإسلام؛ فالله يعلم ما في قلبه وسوف يعطيه الله خيراً مما أخذ منه. وبالفعل فاء الله على العباس بالخير. فقد أسند الطبري إلى العباس أنه قال: فيّ نزلت - أي هذه الآية - حين أعلمت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي أخذت مني قبل المفاداة فأبى وقال: «ذلك فَيْءٌ» فأبدلني الله من ذلك عشرين عبداً كلهم تاجر بمالي. وفي الرواية التي ذكرها ابن كثير (قال العباس فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجوه من مغفرة الله عَزَّ وَجَلَّ) ، وهكذا تحقق قول الله عَزَّ وَجَلَّ {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ. .} [الأنفال: 70] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4813 وبعد أن نزلت هذه الآية الكريمة، وكانت موافقة لما اتخذه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قرارات، وأبلغ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأسرى بالحكم النهائي من الله: لا تفكون إلا بالفداء أو بضرب الرقاب. وهنا قال سيدنا عبد الله بن مسعود: يا رسول الله إلا سَهْل بَن بيضاء فإنني عرفته يذكر الإسلام ويصنع كذا وكذا، فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليَّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إلا سَهْل بن بيضاء، وقول الحق تبارك وتعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال: 70] . أي ما دام في قلوبكم الخير وقد آمنتم أو ستدخلون في الإسلام؛ فالله يعلم ما في وسيغفر لكم لأنه غفور رحيم. وعندما استقر الأمر قال بعض من الأسرى: يا رسول الله: إن عندنا مالاً في مكة، اسمح لنا نذهب إلى هناك ونحضر لك الفداء، وخشي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تكون هذه خدعة واحتيال، فماذا يفعل؟ أيطلق سراحهم ويصدقهم فيحضروا الفدية؟ أم هذه حيلة وقد أضمروا الخيانة والغدر؟ . فنزل قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4814 ويوضح الحق سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا توافقهم على ما يريدون، فهم إن أضمروا لك الخيانة فقد خانوا الله من قبل فمكنك منهم فلا تأمن لهم، وسبحانه يعلم ما في صدورهم. وبعد أن تكلم سبحانه عن قصة بدر وأسرى بدر، والمواقف التي وقفها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4814 رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحابته في هذه القصة، أراد سبحانه وتعالى أن يصنف الأمة الإسلامية المعاصرة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى عناصرها، ونعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صاح بالدعوة الإسلامية في مكة، ومكة هي مركز سيادة العرب، وكانت قبيلة قريش هي سيدة جميع قبائل العرب وسيدة الجزيرة كلها، لأن قريشاً سيدة مكة، ومكة فيها بيت الله الحرام، وكانت كل قبيلة من قبائل العرب يكون بعض من أبنائها في بطن سيادة قريش خلال الحج، وما دامت كل قبيلة تذهب إلى مكة فهي تطلب حماية قريش، ولم توجد قبيلة تعادي قريشاً أو تجرؤ على مهاجمتها؛ لأنها تعلم أنه سيجيء يوم تكون فيه تحت حماية قريش وتحت رحمتها حين الحج إلى بيت الله الحرام. إذن فسيادة قريش نشأت من وجود البيت. ولو أن هذا البيت لم يكن موجوداً لكان مركز قريش كمركز أي قبيلة من العرب، ولو أن البيت قد هدم من أبرهة، لكانت سيادة قريش قد انتهت. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1 - 5] . ثم تأتي بعدها مباشرة السورة الكريمة التي توضح لنا أن الله سبحانه وتعالى حين حفظ بيته وفتك بجيوش المعتدين فجعلهم كعصف مأكول، قد أكد هذه السيادة لقريش فيقول تبارك وتعالى في السورة التي سميت باسمها: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 - 4] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4815 إذن فالذي أعطى السيادة لقريش هو بيت الله الحرام. ولذلك تذهب قوافلهم بالتجارة لليمن والشام ولا يجرؤ أحد من القبائل أن يتعرض لها. ولو لم يكن بيت الله الحرام في مكة وقريش سادة مكة؛ لما كان لهم هذا الوضع المتميز والمكانة العالية، إذن فعز قريش في بيت الله الحرام، وأمنهم وسيادتهم في أنهم جالسون في راحة وتنتقل قوافلهم إلى الشام وإلى اليمن. ثم تعود محملة بالخير والربح وهم آمنون مطمئنون. وحين أعلن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعوته كان ذلك الإعلان في مكة، وقد أعلنها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في وجه الجبابرة وأقوياء الجزيرة العربية كلها. ولو كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد بدأ دعوته في قبيلة ضعيفة خارج مكة لقالوا: استضعفهم وغرر بهم، أو لقالوا يريدون به السيادة، أي أنهم كقبيلة مستضعفة لم يأخذوا رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إيمانا، ولكنهم أخذوها سلماً ليسودوا بها الجزيرة العربية. ولكن شاء الحق تبارك وتعالى أن يكون ميلاد الرسالة في مكة وأول من سمعها هم سادة قريش؛ لتأتي في مركز السيادة ويكون المراد بها هو الحق، وإعلاءه في وجه سادة الجزيرة العربية. ثم كانت المعركة بين سادة قريش والإسلام وآذوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والذين معه وحاولوا إيقاف الدعوة بكل الطرق وشتى الحيل. لكن هل انتصروا؟ ثم هل امتد الإسلام وانتشر من مكة؟ . لا، بل كانت الهجرة إلى المدينة، ومن هناك امتد الإسلام. إذن فقد بدأ الإسلام من مكان السيادة في الجزيرة العربية، ولكنه انتشر من مكان لا سيادة فيه، لماذا؟ لأن الإسلام لو انتشر من مكة لقالوا: قوم ألفوا السيادة على الناس، وتعصبوا لواحد منهم؛ ليمدوا سيادتهم من الجزيرة العربية إلى أماكن أخرى في العالم. ولكن النصر جاء من المدينة لتعلم الدنيا كلها: أن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد، وهو الذي حقق النصر لمحمد، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4816 ولم يخلق العصبية لرسول الله أنه من قريش، أو أنه من قبيلة اعتادت سيادة الجزيرة العربية. ويصنف الحق سبحانه وتعالى لنا المؤمنين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وهؤلاء منهم المهاجرون. ومنهم الأنصار، ومنهم جماعة مؤمنة لم يهاجروا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكنهم هاجروا بعد ذلك. ومنهم جماعة آمنوا ولم يهاجروا من مكة وبقوا فيها حتى الفتح. إذن: هناك أربع طوائف: الذين هاجروا مع الرسول إلى المدينة، والأنصار الذين استقبلوهم وآووهم. وطائفة لم يهاجروا مع رسول الله ولكنهم هاجروا بعد ذلك، وطائفة بقيت في مكة حتى الفتح. ويقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4817 الفئة الأولى في هذه الآية هم المهاجرون وقال فيهم الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} [الأنفال: 72] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4817 والفئة الثانية هم الأنصار الذين قال فيهم الحق تبارك وتعالى: {والذين آوَواْ ونصروا} [الأنفال: 72] . ثم يوحد الله تعالى بين المهاجرين والأنصار فيقول عَزَّ وَجَلَّ: {أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] . وبعض من العلماء فسر قول الحق: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} على أنها تشمل الالتحام الكامل، لدرجة أنه كان يرث بعضهم بعضا أولاً - حسب قول العلماء - إلى أن نزلت آيات الإرث فألغت ذلك التوارث الذي كان بينهم. وقول الحق تبارك وتعالى: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} [الأنفال: 75] . أبعدت هذا المعنى، وبعض العلماء قال: إن الولاية هي النصر، وهي المودة، وهي التمجيد، وهي الإكبار، فقالوا: هذه صفات الولاية، وهناك آية أخرى عن الأنصار يقول فيها الحق تبارك وتعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . وقد عرفنا الكثير عن الإيثار من الأنصار الذي قد بلغ مرتبة لا يتسامى إليها البشر أبداً إلا بصدق الإيمان، ذلك أن الرجل الذي يعيش في نعمة وله صديق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4818 أو حبيب يحب أن يتحفه بمشاركته في نعمته، فإذا كان عنده سيارة مثلاً يعطيها له ليستخدمها، وإذا كان له بيت جميل قد يدعوه للإقامة فيه بعض الوقت، وإذا كان عنده ثوب جميل أو فاكهة نادرة قد يعطيه منها، إلا المرأة فهي النعمة التي يأنف الرجل أن يشاركه فيها أحد. ولكن عندما وصل المهاجرون إلى المدينة وتركوا نساءهم في مكة، كان الأنصاري يجيء للمهاجر ويقول له: انظر إلى نسائي والتي تعجبك منهن أطلقها لتتزوجها. هذه مسألة لا يمكن أن يصنعها إلا الإيمان الكامل، وحين يصنعها الإيمان، فهذا الإيمان يجدع أنف الغيرة ويمنعها أن تتحرك، ولا يكون هناك من له أكثر من زوجة ومن هو محروم من المرأة. وقد حدد الحق لنا ميزة كل طائفة من طوائف المؤمنين وبين أحكامهم: فالطائفة الأولى المهاجرون الذين آمنوا وتركوا دينهم الذي ألفوه، ثم هاجروا وتركوا أوطانهم وبيوتهم وأموالهم وزوجاتهم وأولادهم وجمالهم وزروعهم، ثم بعد ذلك عملوا لينفقوا على أنفسهم بمال يكتسبونه وينفقون منه أيضاً على الجهاد؛ مع أنهم تركوا أموالهم وكل ما يملكون في مكة، فكأنهم ضحوا بالمال وضحوا بالنفس. ودخلوا وهم قلة بلغت ما بلغت فلن تزيد عن ثلاثمائة ودخلوا في معركة مع الكثرة المشركة، ولم يكونوا واثقين من النصر ولكنهم كانوا يطلبون الشهادة. إذن فهم آمنوا، هذه واحدة، وهاجروا، وهذه الثانية، وجاهدوا بأموالهم هذه الثالثة، وجاهدوا بأنفسهم هذه الرابعة، وكانوا أسوة لأنهم سبقوا إلى الإيمان والجهاد فشجعوا غيرهم على أن يؤمنوا، ولذلك فلهم أجر من سن سنة حسنة، ولهم أجر من عمل بها، وهؤلاء هم السابقون الأولون ولهم منزلة عالية وعظيمة عند الله عَزَّ وَجَلَّ. والطائفة الثانية الأنصار وهم الذين آووا هذه واحدة، ونصروا هذه الثانية، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4819 وأحبوا من هاجر إليهم، هذه الثالثة. وهؤلاء جمعهم الله في الولاية أي النصرة والمودة والتعظيم والإكبار. ثم يأتي القول من الحق تبارك وتعالى: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72] . وهؤلاء هم الطائفة الثالثة الذين آمنوا وتركوا دينهم الذي ألفوه. ولكنهم لم يهاجروا ولم يتركوا أوطانهم ولا أولادهم ولا أزواجهم ولا أموالهم، إذن فيهم خصلة تمدح وخصلة ثانية ليست في صالحهم؛ فموقفهم بين بين، ولكن لأنهم لم يهاجروا لذلك يأتي الحكم من الله: {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72] . إذن فهذه الطائفة آمنت ولم تهاجر، ولكن عدم هجرتهم لا يجعل لهم عليكم ولاية، إلا أن قوله تبارك وتعالى: {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72] . وفي هذا تشجيع لهم حتى يهاجروا، كأن تقول لابنك: ليس لك عندي مكافأة حتى تذاكر. وفي هذا تشجيع له على المذاكرة. ولم يقطع الله سبحانه وتعالى أمامهم الطريق إلى الهجرة لأنهم ربما فهموا أن الهجرة لم تكن إلا في الأفواج الأولى لأنه قال: و {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ} أي أن الباب مفتوح. وكلمة «هاجروا» مأخوذة من الفعل الرباعي «هاجر» ، والاسم «هجرة» والفعل «هاجر» . وهجر غير هاجر. فقد يترك الإنسان مكاناً يقيم فيه فيكون هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4820 معناه «هجر» أي ترك وهو عن قلة وضيق تدفع إلى الهرب، إنما هاجر لا بد أن يكون هناك تفاعل بين اثنين ألجأه إلى أن يهاجر، إذن فهناك عمليتان، اضطهاد الكفار للمسلمين؛ لأنهم لو لم يضطهدوهم وعاشوا في أمان يعلنون إيمانهم وإسلامهم، ما حدثت الهجرة. ولكن الاضطهاد الذي لاقاه المسلمون كان تفاعلاً أدى إلى هجرتهم، والمتنبي يقول: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون همو أي أنك إذا تركت قوماً دون أن يكرهوك على ذلك تكون أنت الذي رحلت عنهم، ولكن المهاجرة التي قام بها المسلمون كانت بسبب أن الكفار ألجأوهم إلى ذلك، إذن هجر تكون من جهة واحدة، واسم الهجرة مأخوذ من هاجر، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: إن الدار التي اضطهدتم فيها كان يصح أن تهجروها. ويوضح الحق سبحانه وتعالى: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} [الأنفال: 72] . أي لا بد أن يكون هناك التضامن الإيماني دون الولاية الكاملة للمؤمنين الذين لم يهاجروا. فالإيمان له حقه في قوله تعالى: {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} [الأنفال: 72] . ولكن النصر هنا مشروط بشرط آخر هو: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4821 {إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} [الأنفال: 72] . فاحفظوا هذا الميثاق لأن نقض العهود الميثاقية ليس من تعاليم الدين الإسلامي. ولكن ما دام بينكم وبينهم ميثاق فيجب أن تتم التسوية عن طريق التفاهم. فعليكم احترام ما اتفقتم وتعاهدتم عليه. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} [الأنفال: 72] . أي يعلم ويرى كل ما تصنعون وقد جمعهم الله سبحانه وتعالى كمؤمنين في آية واحدة وكلهم في مراتب الإيمان وهم قسم واحد. ثم يأتي الحديث بعد ذلك عن القسم الثاني المقابل فيقول سبحانه وتعالى: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4822 فالكفار - كما نعلم - وكما تحدثنا الآية الكريمة بعضهم أولياء بعض. فإن لم يتجمع المؤمنون ليترابطوا ويكونوا على قلب رجل واحد، فالكفار يتجمعون بطبيعة كفرهم ومعاداتهم للإسلام. وإن لم يتجمع المسلمون بالترابط نجد قول الحق تحذيراً لهم من هذا: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4822 فسبحانه يريد لنا أن نعلم أننا إن لم نعش كمسلمين متحدين ننحاز لبعضنا البعض في جماعة متضامنة، وتآلف وإيمان، إن لم نفعل ذلك فسوف تكون هناك فتنة شديدة وفساد كبير. لماذا؟ . لأن المؤمنين إن لم يتجمعوا ذابوا مع الكافرين، وستوجد ذبذبة واختلال في التوازن الإيماني جيلاً بعد جيل. ولو حدث مثل هذا الذوبان، سيتربى الأولاد والأطفال في مجتمع يختلط فيه الكفر بالإيمان، فيأخذوا من هذا، ويأخذوا من ذاك، فلا يتعرفون على قيم دينهم الأصيلة، وقد يضعف المسلمون أمام إغراء الدنيا فيتبعون الكافرين. ولكن إن عاش المسلمون متضامنين متعاونين تكون هناك وقاية من أمراض الكفر، وكذلك لا يجتريءعليهم خصومهم. أما إذا لم يتجمعوا ولم يتحدوا فقد يتجرأ عليهم الخصوم ويصبحون قلة هنا، وقلة هناك وتضيع هيبتهم، ولكن إذا اتحدوا كانوا أقوياء، ليس فقط بإيمانهم، ولكن بقدرتهم الإيمانية التي تجذب غير المسلمين لأهذا الدين. وينشأ الفساد الكبير حين لا يتضامن المسلمون مع بعضهم البعض فيجتريء عليهم غير المسلمين ويصبحون أذلةً وهم أغلبيةٌ، ولا يهابهم أحد مع كثرة عددهم، ولا يكونون أسوة سلوكية. بل يكونون أسوة سيئة للإسلام. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] . فهل هذا توجيه من الله جل جلاله لهم، أو إخبار بواقع حالهم؟ لقد طلب الحق سبحانه وتعالى من المؤمنين أن يكونوا أولياء بعض، ولكن هل قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} هو طلب للكافرين، كما هو طلب من الله للمؤمنين؟ نقول: لا، لأن الذين كفروا لا يقرأون كلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4823 الله عَزَّ وَجَلَّ، وإذا قرأوه لا يعملون به. إذن فهذا إخبار بواقع كوني للكافرين. فعندما يطلب الله سبحانه وتعالى من المؤمنين أن يكونوا أولياء بعض، فهذا تشريع يطلب الله لأن يحرص عليه المؤمنون، أما إذا قال إن الكفار بعضهم أولياء بعض. فهذا إخبار بواقع كوني لهم. إن الإسلام جاء على أهل أصنام من قريش، ويهود في المدينة هم أهل كتاب، وكذلك كان الأوس والخزرج كفاراً مثل قريش؛ ولكن الإسلام جمعهم وجعل بعضهم أولياء بعض، وكان بين الأوس والخزرج وبين اليهود قبل الإسلام عداء، وإن لم يصل إلى الحرب؛ لأنهم كانوا يحتاجون لمال اليهود وعلمهم وأشياء أخرى، وكان اليهود يستفتحون على الأوس والخزرج بمجيء النبي محمد المذكور عندهم في التوراة ويقولون لهم: أطل زمان نبي سنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم. إذن كان اليهود يتوعدون الكفار، لما بينهم من عداء عقدي وديني، فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كفر اليهود برسالته والتحموا مع كفار قريش وقالوا: {هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: 51] . أي أن كفار قريش أهدى من الذين آمنوا بمحمد، فالولاء بين الكافرين واليهود جاء لهم بعد أن كانوا أعداء، لكنهم اتحدوا بعد ذلك ضد المؤمنين، فإذا كان هذا حدث بين الكفار واليهود؛ فيجب على المؤمنين أن يكون بعضهم أولياء بعض؛ لأنهم اجتمعوا على شيء يعاديه الجميع. وهذا ينفي مسألة الإرث التي قال بها بعض العلماء من أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض أي يرث بعضهم بعضا؛ لأنه لو كان هذا صحيحاً فكأن الله شرع للكافرين - أيضا - أن يرث بعضهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4824 بعضاً؛ لأنه استخدم كلمة أولياء بالنسبة لهم أيضاً. والحق سبحانه وتعالى لم يشرع للكافرين. وبعد أن بينا أقسام المؤمنين الذين عاصروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعرفنا أنهم أربعة، ذكرنا ثلاثة منهم هم المهاجرون والأنصار والذين آمنوا ولم يهاجروا، وبقي من هذه الأقسام الذين آمنوا وهاجروا بعد ذلك، ويقول الحق تبارك وتعالى: {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4825 أي إياكم أن تقولوا بأنهم لم يهاجروا معكم. وتنكروا أنهم منكم. بل هم منكم وأولياؤكم فهم قد اتبعوكم بإحسان. وما الذي جعل الحق سبحانه وتعالى يذكر هذا مرة أخرى؟ . لقد تكلم سبحانه وتعالى عن الذين آمنوا وجاهدوا في سبيل الله والذين نصروا، ولننتبه إلى أن هذا ليس تكراراً لأنه سبحانه وتعالى يذكر لنا هنا أنهم جاهدوا بالمال والنفس. وقد جاءت هذه الآية لتثبيت الحكم الشرعي. وانظر إلى عجز كل آية لتعرف. ففي عجز هذه الآية: {أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4825 والحكم الشرعي بالنسبة لهم هو أن يكونوا أولياء بعض، وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة حيث يقول: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] . أي أعطانا الحكم الشرعي في ولاية بعضهم لبعض. وأوضح أن هؤلاء لا بد أن يكونوا أولياء، وهذا هو الحكم المطلوب منهم، ولكنه سبحانه في هذه الآية الكريمة: {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً} [الأنفال: 74] . فلم يتكلم الحق سبحانه وتعالى هنا عن الولاية ولم يعط حكماً بها، وإنما قال سبحانه وتعالى: {هُمُ المؤمنون حَقّاً} وهذا حصر يسمونه قصراً، أي أن غيرهم لا يكون مؤمنا حقا، مثلما تقول: فلان هو الرجل، يعني أن غيره لا تعد رجولته كاملة من كل نواحيها. وهذه مبالغة إيمانية. ثم يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله الكريم: {لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74] . وهنا يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن الجزاء. والجزاء إما أن يكون في الدنيا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4826 ولذلك حكم الله لهم بأنهم هم المؤمنون حقا، وإما أن يكون الجزاء في الآخرة. وجزاء الآخرة يمحو السيئات ويرفع الدرجات فقوله: {لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ} أي تمحي سيئاتهم. وقوله تعالى: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي تضاعف لهم الحسنات في الجنة. فكأن الآية الأولى كان مقصوداً بها حكم الولاية. وهو حكم مطلوب منهم. والآية الثانية تكلمت عن الجزاء وبينت جزاءهم في الدنيا والآخرة. والجزاء في الدنيا أنهم هم المؤمنون حقا، أمَّا الجزاء في الآخرة فهو محو الذنوب حتى لا يعاقبوا. ورفع درجاتهم بإعطائهم الثواب؛ وهو رزق كريم. والمغفرة لهم على قليل الذنوب؛ لأنه لا يوجد أحد بلا كبوة في شيء من الأشياء ولا أحد معصوم مثل الرسل فهم وحدهم الذين عصمهم الله من الوقوع في المعاصي، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يغفر لمن ذكرهم في هذه الآية النزوات الصغيرة، ولهم رزق كريم أيضاً. والرزق هو ما انتفع به الإنسان، وإن كان الناس ينظرون إلى الرزق على أنه المادة فقط؛ من مال وأرض وعقار وطعام ولباس، ولكنَّ الحقيقة أن الرزق مجموع أشياء متعددة؛ منها ما هو مادي وما هو معنوي. فالاستقامة رزق، والفضيلة رزق، والعلم رزق، والتقوى رزق، وكلما امتد نفع الرزق يوصف بأنه حسن وجميل. وهنا وصف الحق الرزق بأنه كريم. والكرم هو مجموع الأشياء التي فيها محاسن. وإذا جاء الرزق بلا تعب يكون كريماً، فالهواء رزق لا عمل لك فيه؛ يمر عليك فتتنفس، والماء رزق لا عمل لك فيه لأنه يهبط عليك من السماء، والطعام رزق لك فيه عمل قليل، فأنت بذرت ورويت وانتظرت حتى جاء الثمر. إذن فهناك رزق لا عمل لك فيه مطلقاً وهو رزق في قمة الكرم، وهناك رزق لك فيه عمل ضئيل وهو رزق كريم لأنه أكبر من العمل. وأنت حين تعطي إنساناً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4827 أجره ليس هذا مناّ أو كرما منك لأنه مقابل عمل، ولكن الكرم أن تعطيه بلا مقابل. ورزق الجنة بلا مقابل لأنه بمجرد أن يخطر الشيء على بالك وتشتهيه تجده أمامك. إذن فهو رزق في قمة الكرم، والحق سبحانه وتعالى قد جعل الكرم من صفات الرزق، فالرزق يعرف عنوانك ومكانك وأنت لا تعرف عنوانه ولا مكانه لأنك قد تبذل جهداً كبيراً في زراعة أرضك ثم تأتي آفة وتصيب الزرع فلا يعطيك رزقاً. وقد تذهب إلى مكان وأنت خالي الذهن فتأتيك صفقة فيها رزق وفير. إذن فالرزق يعرف مكانك ويأتي إليك ولكنك لا تعرف أين هو. وقد حدد الله سبحانه وتعالى الرزق وقسمه على عباده، وكل رزق مقسوم لك سيصل إليك ولن يذهب إلى غيرك، وأنت قد تأكل طعاماً تلتذ به ثم يهيج معدتك فتفرغ معدتك منه، ويأتي طائر ليلتقط بعضه؛ هذا رزق الطائر تعافه أنت. وقد تأكل الطعام ويتحول إلى مكونات في دمك ثم تذهب تتبرع بهذا الدم إلى غيرك. إذن فهذا الطعام الذي أكلته وتحول إلى دم في جسدك ليس رزقك ولكنه رزق من نقل إليه الدم. ولذلك إذا قرأت القرآن تجد أن الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4828 ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4829 إذن فمن آمن بعد هؤلاء الأولين وهاجر وجاهد له أيضاً مغفرة ورزق كريم. هكذا حدد الحق سبحانه وتعالى فئات المؤمنين وجعل لكل فئة مقامها، فالذين آمنوا هم جميعاً قد انتموا انتماء أوليا إلى الله، ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان مقهوراً في أشياء ومختاراً في أشياء يفعلها أو لا يفعلها، والمؤمن يختار ما أراده الله تعالى له؛ ففعل ما قال له: «افعل» ، ولم يفعل ما قال له: «لا تفعل» ، فكأنه اختار مرادات الله في التشريع. إن معنى الإيمان أن يستقر في قلبك وأن تؤمن أن الله تعالى بكل صفات كماله خلق لنا هذا الكون وخلقنا، وأننا جئنا إلى هذا الكون فوجدناه قد أعد لنا إعداداً جيداً، كل ما فيه مسخر لخدمة الإنسان، وأعطانا الله سبحانه وتعالى الاختيار في أشياء، وجعلنا من رحمته مقهورين في أشياء. مثلا دقات القلب والدورة الدموية وأجزاء جسمك الداخلية مقهورة لله عَزَّ وَجَلَّ لا دخل لاختيارك فيها، وكذلك التنفس فأنت تتنفس وأنت نائم ولا تعرف كيف يحدث ذلك، ولكن الأفعال التي تصدر منك بعد فكر، تلك هي الأفعال التي جعل الله لك فيها اختياراً. ولو أرادك الخالق أن تكون مقهورا لفعل، ولو أراد أن يؤمن الناس جميعاً لفعل؛ ولكنه سبحانه وتعالى ترك لهم الاختيار؛ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر؛ ليعرف مَنْ مِن عباده أحب الله فأطاعه في التكليف، ومَنْ مِن الخلق قد عصاه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4829 إذن فالانتماء الأول للمسلم هو انتماء الإيمان، وللإنسان انتماءات أخرى؛ ينتمي لوطنه ولأهله ولأولاده ولماله، ولمن الانتماء الأول يجب أن يكون لله تعالى، بحيث يترك الناس أوطانهم وأموالهم وأهلهم إذا كان الإيمان يقتضي ذلك. والإنسان المؤمن هو الذي يترك اختياره فيختار ما أمر به الله عَزَّ وَجَلَّ، ويجعل كل ما يملكه في خدمة ذلك؛ فيجاهد بنفسه لأن الله أمره بذلك، ويجاهد بماله لأن الله أمره بذلك. إذن فالمؤمن الحق لا انتماء له إلا لله. فالذين هاجروا والذين آووا ونصروا، تركوا أموالهم وأولادهم وكل ما يملكون حبا في الله وطاعة له. فالأنصار لم يهاجروا ولكنهم وضعوا كل إمكاناتهم في إيواء المهاجرين حبا لله؛ فتنازلوا عن مساكن لهم وأموال لهم، وتنازلوا عن زوجاتهم في سبيل الله كل منهم مؤمن حقًا، أما الفئة الثانية فهناك نقص في إيمانهم؛ ذلك أنهم لم يهاجروا رغم إسلامهم وفضلوا أن يبقوا مع أولادهم وأهلهم. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عنهم: {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} [الأنفال: 72] . أي ليس مطلوباً أن توالوهم، لكن إذا استنصروكم في الدين فعليكم النصر، لماذا؟ لأنهم لم يتركوا الانتماءات الأخرى مثل المال والولد والأهل ومكان الإقامة. والفئة الثالثة هم الذين جاءوا بعد ذلك، لم تكن هناك هجرة ليهاجروا ولكن من آمن منهم وجاهد وترك اختياره وخضع لاختيار الله خضوعاً تاما يكون كالمؤمنين الأوائل؛ لأنهم تركوا كل الانتماءات من أجل الله تعالى. ثم يختتم الحق سبحانه سورة الأنفال بهذه الآية الكريمة: {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمِْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4830 والبراءة - كما قلنا - هي انقطاع العصمة، والعصمة استمساك، والحق تبارك وتعالى يقول: {وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] . وهو أيضا يقول: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 43] . إذن فالبراءة يلزم منها أنه كان هناك عهد واستمساك به، وجاءت البراءة من الاستمساك بهذا العهد الذي عهده رسول الله معهم، وكانوا معتصمين بالمعاهدة، ثم جاء الأمر الإلهي بقطع هذه المعاهدة. وكلمة «براءة» تجدها في «الدَّيْن» ويقال: «برىءَ فلانٌ من الدَّيْن» . أي أن الدَّيْنَ كان لازماً في رقبته، وحين سَدَّده وأدَّاه يقال: «برىء من الدَّين» . ويُقال: «برىء فلان من المرض» إذا شُفِي منه أي أن المرضَ كان يستمسك به ثم انقطع الاستمساك بينه وبين المرض. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد عاهد قريشاً وعاهد اليهود، ولم يُوَفِّ هؤلاء بالعهود، وكان لزاماً أن ينقض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه العهود. وإذا سأل سائل: لماذا لم ينقض هذه العهود من البداية، ولماذا تأخر نقضه لها إلى السنة التاسعة من الهجرة. رغم أن مكة قد فتحت في العام الثامن من الهجرة؟ لقد حرر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الكعبة من الأصنام والوثنية، وبعد أن استقرت دولة الإسلام بدأ تحرير «المكين» وهو الإنسان الذي يحيا بجانب البيت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4858 الحرام، وكان لا بد من تصفية تجعل المؤمنين في جانب، والكفار وأهل الكتاب والمنافقين في جانب آخر، وقد حدث هذا في العام التاسع من الهجرة حتى لا يحج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا والمكان محرر والمسجد محرر والناس محررون، ولذلك أوضح سبحانه وتعالى بهذه الآية لأصحاب العهود التي كانت بينهم وبين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنتم لستم أهلاً للأمان ولا للوفاء بالعهود؛ لذلك نحن قد قطعنا هذه العهود. وهذه القطيعة ليست من إرادة بشرية من محمد وأصحابه ولكنها قطيعة بأمر الله تعالى، فقد يجوز أن يعرف البشر شيئاً ويَغيب عنهم أشياء. لكن العالم الأعلى قال: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] . ولم يقل براءة من الله وبراءة من الرسول، ذلك لأنها براءة واحدة، والبراءة صادرة من الله المشرع الأعلى، ومبلغة من الرسول الخاتم، والبراءة موجهة إلى المشركين الذين عاهدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان له حلف مع قبيلة خزاعة، وكانت هناك قبيلة مضادة لها اسمها قبيلة بكر متحالفة مع قريش. وقد أعانت قريش قبيلة بكر على قبيلة خزاعة، فذهب إلى المدينة شاعر من خزاعة هو عمرو بن سالم الخزاعي وقال القصيدة المشهورة ومنها هذه الأبيات: يا رب إنّي ناشدٌ مُحَّمدا ... حلف أبينا وأبيه الأ تلَدا كُنت لنا أباً وكنَّا ولدا ... ثُمَّتَ أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك الله نَصْراً عتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددَا إن قريشاً أخلفُوك الموعدا ... ونَقَضُوا ميثاقَك المؤكَّدا هم بيتونا بالوتير هُجَّدا ... وقتلونا ركَّعاً وسُجَّدا فلما سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك قال: نصرت يا عمرو بن سالم، لا نصرت إن لم أنصرك. إذن فالمشركون هم الذين نقضوا العهد أولاً، وصاروا لا يؤمن لهم جانب لأنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4859 لا يحترمون عهداً أو معاهدة، ونزل قول الحق سبحانه وتعالى: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} [التوبة: 1] . الخطاب هنا للمسلمين، والبراءة من المشركين. ونزل بعد ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4860 والخطاب هنا للمشركين. وتساءل البعض: كيف يتأتى أن يكون خطاب الحق في الآية الأولى للمسلمين بالبراءة من المشركين، ثم يأتي خطاب من الله للمشركين؟ . وقال بعض العلماء إنه ما ما دامت البراءة قد صدرت من الله، فكأن الله تعالى يقول للمؤمنين قولوا للمشركين: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] . ولكننا نرد على هذا بأن المعاهدة تكون بين اثنين، ولذلك لا بد أن يكون هناك خطاب للذين قطعوا، وخطاب للمقطوعين، ويتمثل خطاب الذين قطعوا في قوله تعالى: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} [التوبة: 1] . وخطابه للمقطوعين يتمثل في قوله سبحانه وتعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] . ومن سماحة هذا الدين الذي أنزله الحق تبارك وتعالى؛ أن المولى سبحانه يعطي مهلة لمن قطعت المعاهدة معهم، فأعطاهم مهلة أربعة أشهر حتى لا يقال إن الإسلام أخذهم على غرة، بل أعطاهم أربعة أشهر ومن كانت مدة عهد أكثر من أربعة أشهر فسوف يستمر العهد إلى ميعاده. {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4860 وكلمة «فسيحوا» تعطي ضماناً إيمانيا، ف «ساح» معناها سار ببطء، وهناك «ساح الشيء» و «سال الشي» عندما تقول: «سال الماء» أي تدفق وسال، وأنت تشاهده سائلا. وإن قلت: «ساح السمن» أي سار ببطء لا يدرك حتى صار سائلا. ولماذا قال الحق سبحانه وتعالى {فَسِيحُواْ فِي الأرض} ؟ . والإجابة: أن سماحة الإسلام تمنع أن نأخذكم على غرة، وعلى الذين قطع الإسلام معهم العهد أن يسيروا وهم مطمئنون وفي أمن وأمان ولا يتعرض لهم أحد. ووقف العلماء عند تحديد أربعة الأشهر، ونظر بعضهم إلى تاريخ النزول، وقد نزلت هذه الآية في شوال؛ إذن فتكون الأشهر الأربعة هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وقال علماء آخرون: إن ساعة النزول لا علاقة لها بالأشهر الأربعة، وإن الأشهر الأربعة تبدأ من ساعة الإبلاغ أي في الحج؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر} [التوبة: 3] . وعلى ذلك فتكون من يوم العاشر من ذي الحجة إلى يوم العاشر من ربيع الآخر. وقال بعض العلماء: إن نزول هذه الآية كان في عام النسيء الذي كان الكفار يؤخرون ويقدمون في الأشهر الحرم، والذي قال فيه الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} [التوبة: 37] . وأضاف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديثه الذي رواه أبو بكرة حيث قال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطب في حجته فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4861 أي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حسب من بداية الكون إلى هذا الوقت فرجع بالأمر إلى نصابه وألغي النسيء؛ هذا النسيء الذي كانوا يقررونه أيام الشرك لتقديم أو لتأخير الأشهر الحرم؛ لأنهم كانوا إذا أتت الأشهر الحرم ويريدون الحرب يؤجلون الشهر الحرام حتى يمكنهم الاستمرار في الحرب. ولذلك كان الحج في هذه السنة في شهر ذي القعدة. وما دام الحج في شهر ذي القعدة، تنتهي الشهور الأربعة في العاشر من ربيع الأول. وقيل إن اختيار أربعة الأشهر جاء ليوافق ما شرعه الله في قوله سبحانه تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] . فيكون عدد الأشهر مناسبا لعدد الأشهر الحرم. ولكن هذه المرة فيها ثلاثة أشهر حرم فقط هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والشهر الرابع هو رجب فكيف يقال أربعة؟ ونقول: إن الأشهر الأربعة الحرم التي فيها رجب هي الأشهر الحرم الدائمة، أمّا الأشهر الأربعة التي ذكرت في هذه الآية فهي أربعة أشهر للعهد تنتهي بانتهائها، ولكن أربعة الأشهر الحرم الأصلية تبقى محرمة دائماً، ولقد شرع الله عَزَّ وَجَلَّ الأشهر الحرم ليحرم دماء الناس من الناس؛ ذلك أن الحروب بين العرب كانت تستمر سنوات طويلة دون نصر حاسم. فجعل الله الأشهر الحرم حتى يجنح الناس إلى السلم، ويتحكم فيها العقل وتنتهي الحروب. وهنا يبلغنا الحق تبارك وتعالى أنه قد أعطى المشركين أربعة أشهر يسيرون فيها آمنين، لماذا؟ لأن الذي يكون ضعيفا مع خصمه ينتهز أي فرصة يقدر عليه فيها ليستغلها ويقضي عليه، ولا يمهله أربعة أشهر حتى ولا أربعة أيام. ولكن القوي لا يبالي بمد الأجل لخصمه لأنه يستطيع أن يأتي به في أية لحظة. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} [التوبة: 2] . ويقال فلان أعجز فلاناً، أي جعله ضعيفا عاجزاً. ولذلك فإن كلّ شيء مُعجز شرف للمُعْجَز، والمثال: عندما جاء القرآن الكريم معجزاً للعرب وكان ذلك شرفا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4862 لهم لأنهم كانوا أمة بلاغةٍ وفصاحةٍ. والله لا يتحدى الضعيف وإنما يتحدى القوي، فلغة القرآن أعجزت الفصيح والبليغ. وحين يعطي الحق سبحانه وتعالى هذه المهلة للمشركين إنما كانت ببنود معينة، وكان أمير الحج في هذا العام سيدُنا أبو بكر وكان هو الذي سيبلغ البراءة. وهي أنه لا يدخل المسجد الحرام مشرك ولا يحج مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولن يدخل الجنة إلا من آمن، هذه هي البنود. ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفطنته النبوية كان يعرف أن العرب لا يقبلون نقض العهود والمواثيق إلا من أهلها: فأرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيدنا عليا بن أبي طالب ليعلن نقض العهود؛ لأنه علم أن الكفار كانوا سيقولون: لا نقبل نقض العهد من أبي بكر، بل لا بد أن يكون من واحد من آل الناقض. وحينما قال المولى سبحانه وتعالى: {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} [التوبة: 2] . أعطى هذه المهلة الطويلة، لأنهم مهما فعلوا في هذه المهلة، فالله غالب على أمره. فلن يفوت أو يغيب شيء عنه سبحانه وتعالى، ومهما حاولوا أن يجدوا حلفاء لهم فلن يستطيعوا شيئا مع الله، صحيح أنهم ضعاف في هذه الفترة، وصحيح أنَّ الضعيف قد تكون قدرته على القوي مميتة لأنه يعرف أن فرصته واحدة، وإن لم يقدر على خصمه فسوف ينتهي، لكن الله غالب على أمره. وأراد الشاعر العربي أن يعبر عن ذلك فقال: وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت كذلك قدرة الضعفاء لأن الضعيف ينتهز الفرصة ليقضي على خصمه. أما القوي فيعرف أنه قادر على خصمه في أي وقت، ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين} [التوبة: 2] . الإخزاء هو الإذلال بفضيحة وعار ولا يكون ذلك إلا لمن كان متكبراً متعالياً. أي أن الله قادر على أن يخزي الكفار بفضيحة وعار مهما بلغت قوتهم وكبرهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4863 ويقول الحق عَزَّ وَجَلَّ بعد ذلك: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4864 وبعض الناس يقول ما دام الله تعالى قد قال: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] . فلماذا يعيد سبحانه وتعالى: {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] . ونقول: إن البراءة جاءت إعلاماً بالمبدأ، والأذن جاء لإبلاغ البراءة، و «أذان» معناها إعلام يبلغ للناس كلهم، تماماً كأذان الصلاة؛ فهو إعلام للناس بدخول وقت الصلاة. والأذان مأخوذ من الأذن. لأن الإنسان حين يعلم الناس بشيء لا بد أن يخطب فيهم فيسمعون كلامه بآذانهم، ولذلك تجد الأذن هي الوسيلة الأولى للإدراك، فقبل أن ترى تسمع، وقبل أن تتكلم لا بد أن تسمع، فإن لم تسمع من يتكلم لا تقدر أنت على الكلام. ولذلك يقول الحق جل جلاله: {صُمٌّ بُكْمٌ} [البقرة: 18] . أي لا يسمعون، وما داموا لا يسمعون لا يتكلمون. وقد يأتي بعض الناس ويقول: إنَّ وسيلة الإعلام قد تعتمد على العين ويقرأ منها الإنسان. ولكن من يقول ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4864 ينسى أن الإنسان لا يستطيع أن يقرأ إلا إذا سمع ألفاظ الحروف، وحين يقال له: هذه ألف وهذه باء وهذه تاء فهو يتعلم. إذن كل بلاغ إنما يبدأ بالأذن، والأذن هي أول آلة إدراكية تؤدي مهمتها فور ولادة الإنسان؛ لأنك إن أشرت بأصبعك إلى عيني طفل مضى على ولادته أيام لا يتأثر. ذلك أن العين لا تبدأ في أداء مهمتها قبل بضعة أيام، ولكن إذا صرخت بجوار الطفل يسمع وينزعج. والله سبحانه وتعالى حين يتحدث عن وسائل الإدراك يأتي بالسمع أولاً فيقول جل جلاله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78] . لأن الأذن تبدأ عملها فوراً - كما قلنا - والعين لا تبدأ عملها إلا بعد أربعة أو خمسة أيام. والأذن تستقبل بها أصواتاً متعددة في وقت واحد. ولكن مجال الرؤية محدود. وأنت حين لا تريد أن ترى شيئا تبعد عينيك عنه. ولكن الأصوات تصل إلى أذنك من كل مكان دون أن تستطيع منعها. ولذلك يأتي السمع مفرداً، والأبصار متعددة؛ لأن هذا يرى شيئاً وهذا يرى شيئاً. لكنك بالأذن تسمع نائماً أو متيقظاً، وتأتيك الأصوات ويتوحد المدرك من السمع؛ فهي آلة الاستدعاء والإيقاظ. ولذلك حين تكلم الله عن أهل الكهف يريد أن ينيمهم ثلثمائة سنة وازدادوا تسعا. رغم أن أقصى ما ينامه الإنسان هو يوم أو بعض يوم، قال سبحانه وتعالى عنهم في هذا الشأن: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11] . وكان الضرب على الآذان حتى لا يوقظهم صوت عال لإنسان أو حيوان. وهم عندما قاموا: {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] . لأن الإنسان عادة لا ينام أكثر من هذه المدة، وهذا يدل على أنهم حين استيقظوا كانوا على الهيئة التي ناموا عليها لم يتغير فيهم شيء، مما يدل على أن الله أوقف تأثير الزمن عليهم، ولولا أن الله قد ضرب على آذانهم لأيقظهم صوت الرعد أو الحيوانات المفترسة أو غيرها من الأصوات. وأثبت لنا العلم الحديث أن مَنْ يرقد في الفراش بسبب المرض مدة طويلة يخاف الأطباء من إصابته بقروح الفراش، فلا يخاف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4865 الطبيب على المريض من المرض فقط، بل يخاف أيضاً من آثار الرقود على الجسد. والله يلفتنا إلى هذه الحقيقة فيقول: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} [الكهف: 18] . ولأن الأذن هي وسيلة السمع، نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1 - 2] . وهذا القول يدل على أن السماء فور سماعها من الله أمره بأن تنشق؛ تستجيب على الفور وتطيع أمره بالانشقاق وذلك يوم القيامة، وإذا كان الذي بلغ الأذان من الله ورسوله إلى كل الناس يوم الحج هو علي بن أبي طالب؛ فكيف يقال؟ {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] . نقول: إن الله تعالى أعلم رسوله، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلم عليا، وعلي هو الذي نادى وبلَّغ، لكن هناك من يقول: إن الله طلب البلاغ إلى الناس. مع أن البراءة كانت للمشركين. ونقول: إن الإعلام كان لكل الناس للمؤمن وغير المؤمن حتى يعرف جميع الناس موقفهم؛ فيعرف المؤمن أن العهد قد قطع، ويعرف غير المؤمن أن العهد قد قطع، فلا يؤخذ أحد على غرة، وليرتب كل إنسان موقفه في ضوء البلاغ الصادر من الله عَزَّ وَجَلَّ؛ والله سبحانه وتعالى أراد اعتدال الميزان بأيدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لذلك فهو لا يخاطب المؤمنين وحدهم، بل كان الخطاب للعالم كله، وإن كان المؤمنون هم الذين سيجاهدون لتنسجم حركة الأرض مع منهج السماء. ومن هذا يستفيذ المؤمن والكافر؛ لأن الكل سينتفع بالعدل والأمانة والنزاهة التي يضعها المنهج على الأرض. ولذلك يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4866 بالمنهج لإصلاح الكون كله فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} [النساء: 105] . أي أن الحكم بين الناس جميعاً هو المطلوب من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حسب منهج السماء. وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر} [التوبة: 3] . وهذا القول فيه تعميم في المكان وتعميم في المكين، فيوم الحج يجتمع الناس كلهم في مكان واحد. وقد يتساءل البعض: لماذا سمي الحج الأكبر؟ نقول: لأنه الحج الوحيد الذي اجتمع فيه الكفار والمؤمنون. وبعد ذلك لم يعد هناك حج للكفار أو المشركين. وبعض المفسرين يقولون: إن كلمة الحج الأكبر جاءت لتميز بين الحج الأصغر وهي العمرة وبين الحج الذي يكون فيه الوقوف بعرفات، ونقول: إن العمرة لا يطلق عليها الحج الأصغر. وقيل إنَّ يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة. ولكن بعض العلماء قالوا: إنه يوم النحر؛ لأن فيه مناسك كثيرة: رمي الجمرات والتقصير وطواف الإفاضة؛ لذلك سمي يوم النحر بالحج الأكب لكثرة مناسكه، وقيل: إنها أيام الحج كلها وأنها قد سميت بيوم الحج على طريقة العرب في أداء الحدث الواحد بظرفه الملائم، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى: يوم حنين؟ . وحنين استغرقت أياماً فكأن اليوم يراد به الظرف الجامع لحدث كبير، فكأن أيام الحج كلها يطلق عليها «يوم الحج» . أو أن الإعلان قاله سيدنا علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يوم عرفة، وبلغ هذا الإعلام كل من سمعه إلى غيره، والآية الكريمة تقول: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4867 وهذا إذن من الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومن رسوله إلى علي كرم الله وجهه، ومن علي للمؤمنين، ومن المؤمنين؛ من سمع لمن لم يسمع، أن الله بريء من المشركين، وكان هذا إعلانا بالقطيعة، ولكن الله برحمته لا يغلق الباب أمام عباده أبداً، ولذلك يقول: {فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [التوبة: 3] . أي فتح لهم باب التوبة فإن تابوا عفا الله عنهم، وإن لم يتوبوا فالقول الفصل هو: {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3] . إذن فالحق سبحانه وتعالى قادر عليهم وقادر أن يأتي بهم مهما كانوا، وعلى النبي والمبلغين عنه أن يبشروا الكفار بالعذاب الأليم، والبشارة إعلام بخبر سار، والإنذار إخبار بسوء. فهل العذاب بشارة أم إنذار؟ . نقول: إن هذا هو جمال أسلوب القرآن الكريم، يبشر الكفار فيتوقعون خبراً سارا: ثم يعطيهم الخبر السيىء بالعذاب الذي ينتظرهم؛ تماماً كما تأتي إلى إنسان يعاني من العطش الشديد، ثم تأتي بكوب ماء مثلج وعندما تصل به إليه ويكاد يلمس فمه تفرغه على الأرض، فيكون هذا زيادة في التعذيب وزيادة في الحسرة، فالنفس تنبسط أولاً ثم يأتي القبض. وفي هذا يقول الشاعر: كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامةٌ ... فَلَمَّا رَأَوْها أقْشَعتْ وتَجلَّتِ وهكذا تكون اللذعة لذعتين، ابتداء مطمع، وإنتهاء ميئس بينما في الإنذار لذعة واحدة فقط. وانظر إلى قوله الحق تبارك وتعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29] . حين تسمع «يغاثوا» تتوقع الفرج فيأتي الجواب: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4868 {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29] . وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3] . والعذاب من الله يوصف مرة بأنه عظيم ومرة أخرى يوصف بأنه مهين وثالثة يوصف بأنه أليم، والسبب هو أن الوصف يختلف باختلاف المُعَذَّبين، وسيأخذ كل مسيء وعاص وكافر من العذاب ما يناسبه، فهناك إنسان يحتمل العذاب ولا يحتمل الإهانة، وهناك إنسان يحتمل الإهانة ولا يحتمل الألم، فكأن كل واحد من الناس سيأتيه العذاب الذي يتعبه، فإن كان لا يتعبه إلا العذاب العظيم جاءه، وإن كان لا يتعبه إلا الإهانة جاءته، وإن كان لا يتعبه إلا الألم جاءه. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {إِلاَّ الذين عاهدتم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4869 هذا استثناء، ولكنه استثناء مشروط بأن هؤلاء كانوا أمناء على العهد وموفين به ولم ينقصوا منه شيئا، أي لم يصدوا لكم تجارة ولم يستولوا على أغنام ولم يسرقوا أسلحتكم ولم يغروا بكم أحداً ولم يظاهروا عليكم أحداً؛ وهؤلاء هم بنو ضمرة وبنو كنانة، فلم يحث منهم شيء ضد المؤمنين فجاء الأمر بأن يستمر العهد معهم إلى مدته. ولقائل أن يقول: إن المستثنى يقتضي مستثنى منه،، ونقول: المستثنى منه هم المشركون في قوله الحق تبارك وتعالى: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً} [التوبة: 4] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4869 والإنقاص معناه تقليل الكمّ إمَّا في الذوات، وإما في متعلقات الذوات، والإنقاص في الذوات يكون بالقتل، والإنقاص في متعلقات الذوات يكون بمصادرة التجارة أو الماشية، وسرقة السلاح. إذن ففي الإنقاص هنا مرحلتان؛ مرحلة في الذوات أي بالقتل، ومرحلة في تابع الذوات وهي الأشياء المملوكة، ولذلك قال: {لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} أي شيء كان، سواء في الذوات أو متعلقات الذوات، وأيضا لم يغروا عليكم أحداً ولم يشجعوا أحداً على أي عمل ضد الرسول. {وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً} [التوبة: 4] . ويظاهر أي يعادل، وكلها مأخوذة من مادة الظهر، وهو يتحمل أكثر من اليد، فالإنسان لا يقدر أن يحمل جوال قمح بيده مثلا، ولكنه يقدر أن يحمله على ظهره. ولذلك يقول المثل العامي: من له ظهر لا يضرب على بطنه. إذن فالظهر للمعونة. والحق يقول: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] . أي عالين. والحق سبحانه وتعالى حين قص علينا نبأ تآمر بعض من نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليه، قال: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] . فظهير في الآية الكريمة أي معين. ويأتي الحق هنا إلى منطقة القوة في الإنسان، لذلك يقال: فلان يشد ظهري. أي يعاونني بقوة. ويقال: ظهر فلان على فلان. أي غلبه وتفوق عليه، ويقال: وعلا ظهره. أي استولى على منطقة القوة منه؛ لذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في سورة الكهف عن ذي القرنين ذكر بعض اللقطات وقال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4870 {حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} [الكهف: 93 - 95] . فالله سبحانه وتعالى لفتنا هنا إلى حقيقة علمية لم نعرفها إلا في العصر الحديث. فالسد إذا كان كله من مادة صلبة؛ يتعرض للانهيار إذا ما جاءت هزة أثرت في كل جوانبه، أما إن كان هناك جزء من بناء صلب على الحافة، وجزء صغير في المنتصف وجزء ثالث، ثم رابع، ويفصل بين كُلٍّ جزء ردم من تراب فالردم فيه تنفسات بحيث يمتص الصدمة، وهي نفس فكرة الإسفنج التي نحيط بها الأشياء التي نخاف عليها من الكسر لنحفظها، فلو أن الصندوق من الخشب أو الحديد أو أي مادة صلبة لتحطم الشيء الموضوع فيه بمجرد اصطدامه بالأرض صدمة قوية، ولكن إذا أحطناه بوسادة من الإسفنج فهي تمتص الصدمات. وأنواع السدود التي تتلقى الصدمات يقال عنها: السد الركامي. ونلتفت إلى قول الحق سبحانه: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95] . وهذا يدلنا على أن القوي يجب أن يعين الضعيف معونة لا تحوجه له مرة أخرى؛ لذلك يقال: لا تعط الجائع سمكة؛ ولكن علمه أن يصطاد السمك ليعتمد على نفسه بعد ذلك، وهذه هي المعونة الصحيحة، ولذلك نجد أن ذا القرنين رفض أن يأخذ مقابلا لبناء الردم؛ لأن مهمة الأقوياء في الأرض من أصحاب الطاقة الإيمانية أن يمنعوا الظلم بلا مقابل حتى يعتدل ميزان الحياة؛ لأن الضعيف قد لا يملك ما يدفعه للقوي. ولو أن كل قَوِيٍّ أراد ثمناً لنصرة الضعيف لاختل ميزان الكون وطغى الناس، ولكن الأقوياء في عالمنا يريدون أن يظلموا بقوتهم؛ لذلك يختل ميزان الكون الذي نعيش فيه. ولننظر إلى تفويض الله لذي القرنين وكيف أحسن ذو القرنين الحكم بين الناس، وأقام العدل فيهم وكيف ترصد الظالمين، قال القرآن الكريم على لسان ذي القرنين: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4871 {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف: 87 - 88] . هكذا أقام ذو القرنين العدل، بتعذيب الظالم وتكريم المؤمن صاحب العمل الصالح. وقول الحق سبحانه وتعالى على لسان ذي القرنين: «أعينوني» يعطينا كيفية إدارة العدل في الكون، فذلك الذي أعطاه الله الأسباب إن أراد أن يعين الضعفاء فعليه أن يشركهم في العمل معه، ولا يعمل هو وهم يتفرجون وإلاَّ تعودوا على الكسل فتفسد همة كل منهم. ولكن إذا جعلهم يعملون معه سيتعلمون العمل ثم يتقنونه فتزداد مهارتهم وقوتهم في مواجهة الحياة؛ لذلك نجد أن ذا القرنين أشرك معه الضعفاء، وقال لهم: {آتُونِي زُبَرَ الحديد} [الكهف: 96] . إذن فقد جعلهم يعملون معه ويبنون، وهذه أمانة القوي فيما آتاه الله تعالى من القوة، بل إننا نجده قد تفاهم معهم رغم أن الحق تبارك وتعالى قال فيهم: {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف: 93] . كيف تفاهم معهم؟ لعله استخدم لغة الإشارة وتحايل ليفهموا مقصده. ويدلنا القرآن على تفهمهم له أن قال الحق على لسانهم: {قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} [الكهف: 94] . قد تَمَّ بناء السد بمعاونة هؤلاء الضعفاء، وكان بناء هذا السد بصورة تتحدى طاقة العدوان في كل من يأجوج ومأجوج، وقد حاول كل منهما أن يصعد فوق السد ليتغلب عليه، ولكنه كان فوق طاقة كل منهما فلم يستطيعا اختراقه، وهذا وضحه لنا المولى سبحانه وتعالى في قوله: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} [الكهف: 97] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4872 إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] . أي لم يعينوا ولم يساعدوا أحداً من أعدائكم حتى يتغلب عليكم، وسماحته سبحانه وتعالى بإتمام مدة العهد تعني أن هذه المدة كانت أكثر من أربعة أشهر. وهكذا يعطينا سبحانه جلال عدالته، فسمح لمن كان العهد معهم أقل من أربعة أشهر، أن يأخذوا مهلة أربعة أشهر، والحق سبحانه لا يحب نقض العهد؛ لذلك طلب من المؤمنين أن يعطوا المشركين الذين عاهدوهم مدة العهد ولو كانت أكثر من أربعة أشهر؛ حتى يتعلم المؤمن أن يُوفِيَ بالعهد ما دام الطرف الآخر يحترمه. وزيادة المدة هنا؛ أو زيادة المهلة نابعة من قوة الله تعالى وقدرته؛ لأن كل من في الأرض غير معجزي الله، فإن طالت المدة أو قصرت فلن تعطي المشركين ميزة ما، فالله يستطيع أن ينالهم في أي وقت وفي أي مكان. ويختم الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 4] . والمتقون هم الذين يجعلون بينهم وبين أي شيء، يغضب الله وقاية. وإن تعجب بعض الناس من قول الحق سبحانه وتعالى: {واتقوا الله} وقوله: {واتقوا النار} فإننا نقول: إن معنى {اتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجبروت لله وقاية، اتقوا صفات الجبروت في الله حتى لا يصيبكم عذابه، فلله صفات جلال منها المنتقم والجبار والقهار، وله صفات جمال مثل الرحيم، والوهاب، الرزاق، الفتاح، إذن اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية لكم وحماية من أن تتعرضوا لغضب الله تعالى، والإنسان يتقي صفات الجلال في الله بأن يتبع منهجه ويطيعه في كل ما أمر به لينال من فيض صفات الجمال. وقوله الحق سبحانه وتعالى: {واتقوا النار} أي اجعلوا بينكم وبين النار وقاية حتى لا تمسكم النار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4873 ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4874 و «انسلخ» يعني انقضت وانتهت الأشهر الحرم، ومادة «سلخ» و «انسلخ» تدور كلها حول نزع شيء ملتصق بشيء، فتقول: «سلخت الشاة» أي نزعت الجلد عن اللحم، والجلد يكون ملتصقا باللحم شديداً. فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن الأشهر الحرم هي زمان، والزمان ظرف، فالناس مظروفون في الزمان والمكان، فكأن الأشهر الحرم تحيطهم كوقاية لهم من المؤمنين، فإذا مرت الأشهر الحرم تزول هذه الوقاية عنهم بعد أن كانت ملتصقة بهم، والانسلاخ له معنيان: فمرة يقال ينسلخ الشيء عن الشيء، ومرة يقال: ينسلخ الشيء من الشيء، ولذلك تجد في القرآن الكريم تبارك وتعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا} [الأعراف: 175] . وهذه الآية الكريمة التي نزلت في ابن باعوراء الذي أعطاه الله العلم والحكمة والآيات، ولكنه تهاون فيها وتركها، فكأنه هو الذي انسلخ بإرادته وليست هي التي انسلخت منه، وصار بذلك مقابلا للشاة، ونحن نسلخ جلد الشاة من الشاة. والحق سبحانه وتعالى أيضا يقول: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4874 فكأن الليل مثل الذبيحة، ثم يأتي النهار فيسلخ منه الظلمة وبزيلها عنه ويأتي بالضياء، فكأن الليل ثوب أسود يأتي عليه ثوب أبيض هو النهار، فإذا جاء ميعاد الليل رفع الثوب الأبيض أو سلخ النور عن ظمة الليل؛ لتصبح الدنيا مليئة بظلام الليل، وكأن النور هو الذي يطرأ على الظلمة فيكسوها بياضا، أي أن الضوء هو الذي يأتي ويذهب، بينما الظلمة موجودة، فإذا جاءها ضوء الشمس صارت نهارا، وإذا انسلخ منها صارت ليلاً. وماذا يحدث عندما تنتهي الأشهر الحرم؟ يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] . فكأن الله سبحانه وتعالى بعد أن أعطى المشركين مهلة أربعة أشهر، والذين لهم عهد أكثر من ذلك يتركون إلى أن تنتهي مدة العهد، ومن بعد ذلك يكون عقاب المشرك هو القتل، لماذا؟ لأنه لا يجتمع في هذا المكان دينان. ولقائل أن يقول: وأين هي حرية التدين؟ ونقول: فيه فرق بين بيئة نزل فيها القرآن بلغة أهلها؛ وعلى رسول من أنفسهم، أي يعرفونه جيدا ويعرفون تاريخه وماضيه، وبيئة لها أحكامها الخاصة بحكم التنزيل، فأولئك الذين نزل القرآن في أرضهم وجاءت الرسالة على رسول منهم وهو موضع ثقة يعرفون صدقة وأمانته ويأتمنونه على كل نفيس وغال يملكونه، وكان كل ذلك مقدمة للرسالة، وكانت المقدمة كفيلة إذا قال لهم إنني رسول الله لم يكذبوه؛ لأنه إذا لم يكن قد كذب عليهم طوال أربعين سنة عاشها بينهم، فهل يكذب على الله؟ الذي لا يكذب على المخلوق أيكذب على الله؟ هذا كلام لا يتفق مع العقل والمنطق؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] . أي ليس غريبا عليكم، تعرفونه جيدا حتى إنكم كنتم تأتمنونه على أغلى ما تملكون، وتلقبونه بالأمين في كل شئون الدنيا، فكيف ينقلب الأمين غير صادق عندكم؟ كما أن القرآن الكريم وهو معجزة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4875 بلغتكم وأسلوبه من جنس ما نبغتم فيه، فكان إعجازاً لكم، وتحداكم الله تعالى بأن تأتوا بسورة من مثله فعجزتم وأنتم ملوك البلاغة والفصاحة، فكأن الإعجاز من أمانة الرسول وصدقه، والإعجاز من بلاغة القرآن وتحديه يقتضي منكم الإيمان فيكون عدم الإيمان هنا مكابرة تقتضي عقاباً صارماً. فإن سأل سائل: أين هي حرية التدين؟ وأين تطبيق قول الحق تبارك وتعالى؟ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] . نقول: نعم، لا إكراه في أن تؤمن بالله وتؤمن بدينه، ولكن ما دمت قد آمنت فلا بد أن تلتزم بما يوجبه هذا الإيمان، أما عند التفكير في مبدأ التدين فأنت حر في أن تؤمن بالله أو لا تؤمن. ولكن إذا آمنت فالواجب أن نطلب منك أن تلتزم. ثم إن الحق سبحانه وتعالى شاء ألاَّ يجتمع في الجزيرة العربية دينان أبداً. ولكن في أيِّ مكان آخر مثل فارس، الروم، فهم لن يعرفوا إعجاز القرآن الكريم كلغة، ولكن يسمعون أنَّه معانٍ سامية بقوانين فعالة تنظم الحياة وترتقي بها. أما الذين يعرفون الرسول وفصاحة المعجزة التي جاء بها، فلن يُقبل منهم إلاَّ أن يسلموا، ولا يُقبل منهم أن يظلوا في أرض الرسالة دون إسلام، وإن أرادوا أن يظلوا على الشرك فليرحلوا بعيداً عن هذه الأرض. وهناك من يقول: إنَّ الإسلام انتشر بالسيف أو الجزية، ونقول: إن الإسلام انتشر بالقدوة، أما السيف فكان دفاعاً عن حق اختيار العقيدة في البلاد التي دخلها الإسلام فاتحاً، والجزية كانت لقاء حماية من يريد أن يبقى على دينه. ونجد في حياتنا اليومية من يستخدم {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} في غير موضعها، فحين يقول مسلم لآخر: لماذا لا تصلي؟ يرد عليه بهذا القول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} . ونقول: إن {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} مسألة تخص قمة التدين، أي مسألة اعترافك بأنك مسلم أو غير ذلك، لكن ما دمت قد أعلنت الإسلام وحُسبت على المسلمين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4876 فعليك الالتزام بما فرضه عليك الدين فلا تشرب الخمر ولا تزن، إذن ف {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} تعني لا إكراه على اختيار الإسلام، ولكن لا بد من الحرص ممن أعلنوا الإسلام على مطلوبات الدين. إذن فلماذا أُكْرِه العرب على الإسلام؟ قيل في ذلك سببان: الأول أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم، والثاني أنَّ المعجزة جاءت بلسانهم. ويتابع الحق سبحانه وتعالى قوله: {وَخُذُوهُمْ واحصروهم} [التوبة: 5] . فإن عز عليكم أن تقتلوهم فخذوهم أسرى؛ ما داموا لم يدافعوا عن أنفسهم بقتالكم، ولم يهددوكم في حياتكم، وهنا يحقن الدم ويستفاد بهم كأسرى. وإن خفتم من شرورهم فاحصروهم في مكان مراقب. إذا قاموا بأي حركة معادية يكون من السهل عليكم كشفها، وإنزال العقاب بهم. والحصر هنا تقييد الحركة مع السماح لهم بحركة محدودة بحيث لا يغيبون عن نظركم. ثم يتابع المولى سبحانه وتعالى قوله: {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] . أي ارصدوا حركاتهم حتى تأمنوا مكرهم؛ وحتى لا يتصل بعضهم بالبعض الآخر، وينشئوا تكتلاً يعادي الإسلام. ارصدوا حركاتهم، وارصدوا كلامهم، وارصدوا أفعالهم، ولا تجعلوهم يخرجون عن رقابتكم وافعلوا ما بوسعكم لتكونوا في مأمن من شرورهم، ولكن لا تخوجوا بالاستطلاع إلى حيز استذلالهم، فالاستدلال غير الاستذلال. وقد يتساءل البعض: لماذا هذا الاختلاف في العقوبة حيث هناك القتل وهناك الحصر وهناك الرصد لهم في طرقهم ومسالكهم،؟ . نقول: إن العقوبة تختلف باختلاف مواقع المشركين من العداء للإسلام، فهناك أئمة الكفر الذين يحاربون هذا الدين؛ ويدعون الناس لعدم الإيمان، ويحرضون على قتال المسلمين وقتلهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4877 وإيذائهم ولا ينصلحون أبداً، ولا يكفون أذاهم عن المؤمنين أبداً: أولئك جزاؤهم القتل. وهناك من لا يؤذون المسلمين، وإنما يجاهرون بالعداء للدعوة، هؤلاء شأنهم أقل؛ فنأخذهم أسرى. وهناك من الكفار من لا يفعل شيئا إلا أنه غير مؤمن؛ فهؤلاء نراقب حركاتهم ليتقي المسلمون شرّهم ليكونوا على استعداد بصفة دائمة لمواجهتهم إذا ما انقلبوا ليؤذوا المسلمين ويهاجموهم ويقاتلوهم. إذن فلم توضع عقوبة واحدة تشمل الجميع. لأن الجميع غير متساوين في عدائهم للإسلام؛ فأئمة الكفر لهم حكم، والذين عداوتهم للإسلام أقل لهم حكم آخر. ثم تأتي رحمة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى رحيم بعباده فلا ييئسهم أبداً من الرجوع إليه فيقول: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5] . ويفتح سبحانه باب التوبة أمام عباده جميعاً ولا يغلقه أبداً، ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فيما يرويه عنه أبو حمزة أنس بن مالك - خادم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لله أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» . أي أنك وأنت مسافر في صحراء جرداء بعيدة تماماً عن أي عمران ثم جلست لتستريح ومعك الجمل الذي تسافر عليه؛ عليه الماء والطعام وكل ما تملك من وسائل الحياة، ثم غفلت عن الجمل فانطلق شارداً وسط الصحراء، وتنبهت فلم تجده ولا تعرف مكانه، وفجأة وأنت تمضي على غير هدى وجدت الجمل أمامك، فكيف تكون فرحتك؟ إنها بلا شك فرحة كبيرة جدا لأنك وجدت ما ينجيك من الهلاك، وهذه الفرحة تملأ النفس وتغمرها تماماً، كذلك يفرح الله بتوبة عباده، لذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4878 يوضح سبحانه وتعالى بأنه إن تاب هؤلاء الكفار من عدائهم لدين الله ورسوله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فَلْيُخَلِّ المسلمون سبيلهم وليتركوهم أحراراً. وهنا نجد ثلاثة شروط: أولها التوبة والعودة إلى الإيمان. وإقامة الصلاة، هذا هو الشرط الثاني، ثم يأتي الشرط الثالث وهو إيتاء الزكاة، ولا بد أن يؤدي الثلاثة معاً؛ لأن التوبة عن الكفر هي دخول في حظيرة الإيمان، والدخول إلى حظيرة الإيمان يقتضي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ثم إقامة الصلاة ثم إيتاء الزكاة ثم صوم رمضان ثم حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. ولو نظرت إلى أركان الإسلام الخمسة تجد أن المسلم قد يؤدي بعضها ولا يؤدي البعض الآخر، فالمسلم الفقير الذي لا يجد إلا ضروريات الحياة تسقط عنه الزكاة ويسقط عنه الحج، والمسلم المريض مرضاً مزمناً يسقط عنه الصوم، وتبقى شهادة أن لا الله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ وهذه يكفي أن يقولها المسلم في العمرة مرة، ويبقى ركن إقامة الصلاة لا يسقط أبداً، لا في الفقر ولا في الغنى ولا في الصحة ولا في المرض؛ لأن الصلاة هي الفارقة بين المسلم وغير المسلم، وهي عماد الدين لأنه تتكرر كلَّ يوم خمس مرات، فالمريض عليه أن يصلي بقدر الاستطاعة. فإن لم يستطع أن يؤديها واقفا فجالساً وإن لم يستطع أن يؤديها جالساً فراقداً. إننا نعلم أن كل صلاة إنما تضم كل أركان الإسلام؛ ففي كل صلاة نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ وكل صلاة فيها زكاة؛ لأن الزكاة إخراج بعض المال للفقراء، والمال يأتي من العمل، والعمل محتاج لوقت، والصلاة تأخذ بعض وقتك الذي يمكن أن تستخدمة في العمل فيعطيك رزقاً تزكي به، فكأنك وأنت تصلي أعطيت بعض مالك لله سبحانه وتعالى؛ لأنك أخذت الوقت الذي كان يمكن أن تعمل فيه فتكسب مالاً للزكاة، فكأن الصلاة فيها زكاة الوقت. إن الوقت هو ما نحتاج إليه في حركة الحياة للحصول على المال فتكون في الصلاة زكاة. ونأتي بعد ذلك للصوم وأنت في الصوم إنما تمتنع عن شهوة البطن وشهوة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4879 الفرج بعضاً من الوقت؛ من قبيل الفجر إلى المغرب، وكذلك في الصلاة. وفي الصلاة أنت لا تستطيع أن تأكل أثناء الصلاة. فكأنك لا بد أن تصوم عن شهوة البطن وأنت تصلي، كما أنك لا بد أن تصوم عن شهوة الفرج أثناء الصلاة، فلا تستطيع وأنت تصلي أن تفعل أي شيء مع زوجتك، ولا تستطيع زوجتك أن تفعل معك شيئا، بل أنت في الصلاة تكون في دائرة أوسع من الإمساك، لأنك ممنوع من الحركة وممنوع من الكلام. فإذا جئنا إلى حج بيت الله الحرام؛ نقول إنَّك ساعة تصلي لا بد أن تتجه إلى بيت الله الحرام، وتتحرى القبلة، إذن فكأن بيت الله الحرام في بالك وفي ذكرك وأنت تتجه إليه في كل صلاة. وعلى ذلك فقد جمعت الصلاة أركان الإسلام كلها. ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يرويه عنه سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «الصلاة عماد الدين» وإذا كانت الصلاة هي عماد الدين كما بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمن أقامها فقد أقام الدَّين - ومن عجائب ترتيب آيات القرآن أنك تجد الصلاة مقرونة دائما بالزكاة؛ لأن الزكاة بالمال، والصلاة زكاة بالوقت، نحن محتاجون إلى الوقت لنعمل فيه حتى نأتي بالمال، والحق سبحانه وتعالى يقول: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] . ومعنى ذلك أنهم إذا لم يؤدوا الثلاثة معاً لا نخلي سبيلهم، وما دمنا لا نخلي سبيلهم فهم يدخلون تحت العقوبات التي حددها الله وهي: «اقتلوهم» أو «خذوهم» أو: {واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] . وأول العقوبات هو القتل وذلك لأئمة الكفر، فإذا آمن كافر وترك الصلاة لا يكون قد تاب وآمن: وإذا لم يؤد الزكاة لا يكون قد تاب وآمن؛ لذلك إذا لم يقوموا بالعبادات الثلاث لا نخلي سبيلهم، ولقد أفتى بعض الأئمة بأن تارك الصلاة يقتل، ونقول: لا، تارك الصلاة إمَّا أن يكون قد تركها إنكاراً لها وجحودا بها، وإما أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4880 يكون قد تركها عن كسل. فإن كان يتركها عن كسل لأنه لا يقدر على نفسه والدنيا تجذبه بمشاغلها فعلينا أن نحاول بالحكمة والموعظة الحسنة أن ننصحه ونستحثه حتى يعود إلى الصلاة ويؤديها في وقتها، ثم من بعد ذلك إن تركها عمداً كسلاً، يعاقب بالضرب الشديد، ولكن بعض الأئمة يقولون: لقد قاتل أبو بكر أولئك الذين ارتدوا ومنعوا الزكاة، ونقول: إنه لم يقاتلهم لأنهم عصاة، بل لأنهم قد ردوا الحكم على الله، وأنكروا الزكاة فكانوا بذلك قد ارتدوا كفاراً؛ لأن هناك فارقاً بين أن ترد الحكم على الله وتنكره؛ وبين أن تسلم بالحكم لله، وتعلن أنك مع إيمانك بهذا الحكم لا تقدر على التنفيذ، أو تعترف أنك مقصر في التنفيذ. ولذلك نقول للذين يحاولون أن يدافعوا عن الربا ويحلوه: قولوا هو حرام ولكننا لا نقدر على أنفسنا حتى لا تعودوا كفاراً: لأنك إذا قلت إن الربا ليس حراماً تكون قد رددت الحكم على الله ووقفت موقف الكافر، ولكنك إن قلت إن الربا حرام ولكن ظروفي قهرتني فلم أستطع، تكون بذلك عاصياً. وهذا كما قلنا هو الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم عليه السلام، فقد أمر الله تعالى إبليس بالسجود فعصى، وآدم أمره الله فعصى، فلماذا قضى الله على إبليس عليه اللعنة إلى يوم القيامة، بينما تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه وغفر له؟ نقول: لأن إبليس رد الحكم على الله؛ فقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] . وقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76] . فكأن إبليس رد الحكم على الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن آدم لم يقل ذلك. وإنما قال: حكمك يا ربي صحيح وما أمرتني به هو الحق، ولكني لم أقدر على نفسي فظلمتها فتب عليّ واغفرلي وذلك مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4881 وهذا هو الفرق بين المعصية والكفر. إذن فالتعامل مع المشركين إن لو يتوبوا ولم يُصَلُّوا ولم يُزكُّوا، ولم يقدر عليهم المسلمون، ماذا يحدث؟ . إن على المسلمين أن يحاولوا تطبيق ما أمر به الله سبحانه وتعالى بشأنهم. ولكن ماذا إن استجار واحد من المشركين بالمسلمين؟ . وهنا ينزل قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كلام الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4882 وبعد أن بَيَّن الله سبحانه وتعالى المهلة التي هي الأشهر الأربعة أو مدة العهد إذا كان هناك عهد. وبعد أن بين أن الكفار إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وقرنوا الإيمان بالعمل؛ فالحق سبحانه وتعالى يغفر لهم ما قد سلف منهم، وبين الله سبحانه وتعالى عظمة الإسلام والرحمة التي نزل بها هذا الدين؛ فيخبرنا أن الذين لم يتوبوا من الكفار وظلوا على حالهم ولم نقدر عليهم بأي عقوبة من العقوبات التي جاءت، ثم جاء أحدهم مستجيراً بالمؤمنين فماذا يكون سلوكنا معه؟ جاء الحكم من الله تعالى بأنه ما دام قد استجار بك فأجره، وإذا أجرته أسمعه كلام الله تعالى وحاول أن تهديه إلى الإيمان وإلى الطريق المستقيم؛ فإن آمن واقتنع وأعلن إسلامه أصبح واحداً من المسلمين، وإن لم يسمع كلام الله ولم يقتنع فلا تقتله؛ ولكن أبلغه مأمنه، أي اسأله من أين جاء؟ فإذا قال لك اسم القبيلة التي ينتمي إليها أو حدد المكان الذي جاء منه فتأكد أنه سوف يكون آمناً حتى يبلغ المكان الذي يجد فيه الأمان. وهذه هي المرحلة الأخيرة من علاقة الإيمان بالكفر، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4882 وهي مرحلة الإجارة والتأمين للمستجيرين بالمؤمنين. فالله سبحانه وتعالى تفضل على خلقه في الأرض فأرسل إليهم رسوله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان ذلك بعد أن مرت فترة طويلة على إرسال من سبقوه من الرسل. وكان الناس قد نسوا منهج السماء، بل وحرَّف أهل الكتاب ما نزل إليهم من تعاليم. وكان لا بد أن تتدخل السماء بإرسال خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد جعل في الإيمان مناعات متعددة، توجد أولا في النفس، فحين تستشرف النفس إلى معصية، فالضمير الإيماني ما زال موجوداً فيها، وهذا الإيمان هو الذي يكبح الشهوة ويمنع النفس من الركون إلى المعصية ويرد صاحبه إلى الطريق الصحيح والمنهج السوي. وهب أن نفساً ولعت بمخالفة المنج ولم تعد نفسا لوامة، وتظل ترتكب المعاصي حتى تعتاد على المعصية، ويموت فيها الوازع الإيماني، فتجدها قد عشقت - والعياذ بالله - مخالفة المنهج، بل أصبحت نفساً أمارة بالسوء، وهنا ينقل الله المناعة الإيمانية من النفس إلى المحيطين بها من عباد الله، فتجد المحيطين بمرتكب المعاصي يردعونه عن المعصية، ويقفون منه مواقف الإيمان من الردع والمقاطعة والجفوة حتى يفيء إلى ربه يعود إلى رشده. وتلك مرحلة ثانية من مراحل الإيمان. أما إن فسد المجتمع كله ولم تعد هناك طائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلا بد أن تتدخل السماء برسالة جديدة وبرسول جديد مؤيد بمعجزة من السماء ليوقظ الناس من هذا السبات العميق الذي شمل الأفراد والمجتمعات. وعندما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وواجه هذا المجتمع الذي انتشر فيه الكفر أفراداً وجماعات كان لا بد أن يحدث تصادم بين الإيمان ومجتمع الكفر؛ ذلك أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4883 العداوة الشرسة واجهت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهذه المواجهة للرسول إنما جاءت من المنتفعين بالفساد في الأرض. والمنتفعون بالفساد هم السادة الذين استفادوا من ضياع الحق وانتشار الباطل فأخذوا حقوق غيرهم واستعبدوا الناس، واستأثروا هم بالمنافع وبما فيه الخير لهم ومنعوا ذلك عن باقي عباد الله. والمنتفعون بالفساد يكرهون أي مصلح جاء ليعدل ميزان حركة الحياة في الكون. فلا بد أن يقفوا في وجهه؛ ليدافعوا عن سيادتهم وعن منافعهم وأموالهم التي حصلوا عليها بالباطل والظلم، ومن استعبادهم للناس. وكانت الجزيرة العربية في ذلك الوقت مكونة من قبائل متعددة، وكان لكل قبيلة قانونها الذي يضعه شيخها ليستأثر لنفسه بكل شيء. ومعنى ذلك أنه لا توجد رابطة تربط بين هذه القبائل، ولا يوجد قانون عام يحكمها، وكل قبيلة لها عزوتها ولها شوكتها ولها حروبها. وكل فرد في قبيلة لا بد أن يكون مقاتلا يحمل سلاحه مستعدا للحرب في أي وقت، لأنه مهدد في أي لحظة أن تغير عليه قبيلة أخرى، إلا قبيلة واحدة هي قريش. فقد أخذت السيادة ولا يعتدي عليها أحد ولا تُهَاجَم قوافلها، ولا تستطيع قبيلة في الشمال أو في الجنوب أن تهاجم تجارتها؛ لأن هذه القبائل كلها ستأتي في يوم من الأيام قاصدة حج بيت الله الحرام في مكة. وخلال الحج تكون هذه القبائل في حاجة إلى الأمان من قريش؛ ولذلك حرصت كل قبائل العرب أن تحافظ على علاقتها مع قريش، لأن السيادة على بيت الله الحرام التي جعلها الله لقريش هي الضمان. وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحماية البيت الحرام من أي عدوان، حتى عندما جاء أبرهة بأفياله ليهدم الكعبة؛ جعله الله هو وجيشه كعصف مأكول مصداقاً لقوله الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1 - 5] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4884 فإذا قرأت السورة التي بعد سورة الفيل مباشرة تجد أنها: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 - 4] . فكأن حفظ الكعبة من الهدم كان حفظاً من الله سبحانه وتعالى لسيادة قريش. ولذلك كان من الواجب أن تستقبل قريش رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالإيمان والشكر وفهم هذه النعمة وتقديرها، بدلاً من أن تقف من الإسلام هذا الموقف المتعنت وتحاربه هذه الحرب الرهيبة، ولكن بدلاً من ذلك فقد حدث العكس، وأحست قريش كذباً بأن الإسلام جاء ليهدد سيادتها فقامت تحاربه. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تكن النداءات بالإسلام بعيدا عن هذه السيادة؟ لأن الحق قد أراد أن تكون صيحة الحق في جبروت الباطل وأن يواجه الإسلام في أول أيامه جبروت سادة الجزيرة العربية كلهم جميعا حتى يمحص الله قلوب المسلمين الأوائل. فهم من يحملون من بعد ذلك دعوة الإسلام في العالم؛ فلا يعتنق الإسلام منافق أو ضعيف الإيمان، بل يعتنقه أولئك الذين في قلوبهم إيمان حقيقي، ويتحملون كل مظاهر الاضطهاد والتعذيب بقوة إيمانهم. لقد شاء الحق تبارك وتعالى أن يبدأ الإسلام في مكة ولم يجعل الله له النصر من مكة، وشاء سبحانه وتعالى أن يجعل نصر الإسلام من المدينة؛ لأن قريشا لو انتصرت دعوة واحد منها فهم سيحاولون احتواءه ليسودوا به الدنيا، وحينئذ سيقال: هم قوم قد تعصبوا لواحد منهم لتظل لهم السيادة، ويكون اعتناق الإسلام نفاقاً وليس إيماناً حقيقيا. ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى انتصار الإسلام من المدينة ليعلم الناس جميعاً؛ أن العصبية لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم تخلق الإيمان برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولكن الإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي خلق العصبية لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. ولذلك شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هناك مواجهة شرسة بين حملة الإيمان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4885 وبين سادة الكفر. وهذه المواجهة أخذت عدة مراحل: المرحلة الأولى كانت الدعوة للإيمان، والدعوة الى المحبة، والدعوة إلى المساواة. وعدم مقابلة التعذيب والقتل بالعنف. وهذه البداية لم تعجب سادة قريش بل جعلتهم يستهينون بالمؤمنين ويمنعون في إيذائهم وتعذيبهم ويعتقدون أنهم سيقضون عليهم، فلما وجدوا الدعوة تقوى رغم كل ما تواجهه من مراحل التعذيب والبطش؛ ازدادوا تنكيلاً بالمؤمنين، فهاجر بعض من المؤمنين إلى الحبشة، وأصبحوا يبحثون عمن يحميهم ويستجيرون به؛ وشاء الحق تبارك وتعالى ذلك حتى لا يدخل الإسلام إلا من أُشرب قلبه حب الإسلام واستهان بكل الصعاب والاضطهاد والقتل والتشريد؛ وهؤلاء هم الذين سيصبحون مأمونين على الدعوة. وبعد ذلك ظل الكفر على كفره، وظل الإيمان يأخذ إليه بهدوء بعض الأفراد، وحاول الكفار أن يستميلوا المؤمنين بالحيلة بعد أن فشلت القوة والبطش والإرهاب؛ فقالوا: نعبد إلهكم فترة وتعبدون إلهنا فترة، فأنزل الله سبحانه وتعالى سورة فيها ما يسمى بالعرف الحديث «قطع العلاقات» ، فقال الحق عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 - 6] . وكان هذا إعلاناً بمرحلة ثانية تتسم بأنه لا مهادنة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4886 ولا حلول وسط بين الكفر والإيمان؛ لأنه لو قبل المؤمنون عبادتهم لآلهة - الكفار؛ فهذا اعتراف منهم بأن آلهتهم حق، ولو قبلوا أن يعبدوا الإله الواحد ويشركوا به آلهة أخرى لكان ذلك تفريطاً، ولا يمكن أن يحدث ذلك. وكان النهي هنا في هذه الآية الكريمة يشمل الحاضر والمستقبل. وهذا ما يسمى في السياسة الدولية باسم قطع العلاقات، بل إن قطع العلاقات الدولية إنما يكون بسبب طارئ، أما الخلاف بين المسلمين الأوائل وأهل الشرك فلم يكن صراعاً بين فكر بشر وفكر بشر آخرين، ولكن المسألة كانت صراعات بين منهج تريده السماء لأهل الأرض، وبين المنتفعين بالفساد في الأرض؛ لذلك كان لا بد أن يكون القطع نهائياً، فلا لين ولا مهادنة. ولا حلول وسط بين الكفر والإيمان، وهكذا فشلت حيلة الكفار في تمييع وتضييع قضية الدين، وضاع مكرهم، وبقي الوجود الإيماني قويا متحداً في مواجهة جبروت الكفار بعد أن كان مهدداً. ثم جاءت بعد ذلك المرحلة الثالثة؛ مرحلة اعتراف الكفر بقوة الإيمان، فقد كان الكفار يواجهون المؤمنين بالقهر والتعذيب، والمؤمنون يواجهون هذا بالصبر والاحتمال حتى هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة، وحدثت المواجهة المسلحة بين الإيمان والكفر في غزوة بدر، وانتصر المؤمنون وأصبح لهم كيان يحميهم، فلم يعودوا هم القلة الضعيفة المستذلة والمستكينة، بل أصبحت لهم قوة ولهم قدرة، وإن لم تصبح لهم سيطرة. ولكنهم أصبحوا قوة قادرة على مواجهة الكفار أو قوة مساوية لهم؛ تستطيع أن تصد الاعتداءات وتواجه الضربة بالضربة. وحين أصبح للإيمان هذه القوة والقدرة على حماية أنفسهم والمساواة والكيان تجاه الكفار؛ كانت هذه بداية المرحلة التي أعطت الإسلام تفرغاً لنشر الدعوة خارج محيط مكة، وأمن المسلمون وهم ينشرون دعوتهم من هجوم الكفار وتنكيلهم بهم بعد صلح الحديبية، وكان مجرد التعاقد والتعاهد هو اعتراف بدولة الإيمان، وهي المسألة التي فطن لها سيدنا أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقد ظن البعض لأول وهلة أن معاهدة الحديبية كان فيها إهدار لحق المؤمنين، حتى إن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: علام نعطي الدنية في ديننا. هذه المسألة أخذت جدلاً كبيراً كاد يصل إلى أن يصادم المؤمنون أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعندما رأت أم سلمة رضوان الله عليها خوف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على المؤمنين من عدم إطاعة ما قاله لهم، ووجدت الحزن الشديد على وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قالت: «يا رسول الله لا تحزن. إن القوم مكروبون لأن أملهم أن يطوفوا بالبيت الحرام، وها هم أولاء الآن على مقربة من البيت ولكنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4887 ممنوعون من الطواف به؛ إن خير ما تفعله الآن ألا تكلم منهم أحداً، وتنفذ ما أمرك به الله؛ فإن فعلت عرفوا أن الأمر عزيمة لا نزاع فيه» ، هذا ما حدث. فقد قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذبح الهدي وتحلل من إحرامه وفعل المسلمون مثلما فعل، وشاءت قدرة الله سبحانه وتعالى قبل أن يعود المؤمنون إلى المدينة، أن يبين لهم سبب قبول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لصلح الحديبية مع ما يبدو ظاهراً وليس حقيقة من أن فيه إجحافاً بالمسلمين. لقد كان الصلح ينص على أنه إن جاء أحد هارباً من قريش والتجأ إلى المدينة ردوه إلى قريش مرة أخرى. وإن فر أحد بعد إسلامه والتجأ إلى كفار مكة لا يردونه. وقد وجد البعض في هذا إجحافاً وعدم مساواة، وكان الموقف غاية في الدقة، وعندما جاء سهيل بن عمرو ليتفاوض على المعاهدة، وكان على بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يكتب عن رسول الله وأملى: هذا ما تعاقد عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو. اعترض سهيل قائلا: لو كنا نؤمن بأنك رسول الله ما حدث بيننا هذا القتال، ولكن اكتب: هذا ما تعاقد عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو. هنا ثار علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وقال: لا، لا بد أن نكتب هذا ما تعاقد عليه محمد رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورفض سهيل بن عمرو. وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينهي الموقف فنظر إلى علي وقال: «يا علي اكتب فإنَّ لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد» أيْ أنه سوف يحدث لك نفس الشيء الذي ترفضه الآن فتقبل، وكان هذا من علامات النبوة لأن عليا وقف فعلا هذا الموقف عندما جاءت معاهدة صفين وأراد أن يكتب فيها هذا ما تعاقد عليه علي بن ابي طالب أمير المؤمنين فقالوا له: لو كنت أمير المؤمنين ما حاربناك، اكتب هذا ما تعاقد عليه علي بن أبي طالب. وتذكر علي بن أبي طالب قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد» . على أن الحق سبحانه وتعالى أراد ألا يدخل المسلمون المدينة إلا وقد صفت نفوسهم دون إحساس بأن منهم من انكسر وأن الآخرين قد انتصروا، فنزل قول الحق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4888 تبارك وتعالى الذي يزيل من النفوس المرارة: وينزل عليها السكينة والطمأنينة: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] . وهكذا أخبر الله المؤمنين بسبب عدم السماح لهم بدخول مكة لأن فيها عددا من المؤمنين والمؤمنات الذين يكتمون إيمانهم، وهؤلاء غير مميزين لأنهم مختلطون بالكفار؛ وليس لهم مكان محدد بحيث يستطيع المؤمنون معرفتهم وتمييزهم، فلا يتعرضون لهم في قتالهم داخل مكة، ولو نشب القتال فعلاً لتم قتل عدد كبير من هؤلاء المؤمنين والمؤمنات المقيمين في مكة بأيدي المؤمنين، ولكان عاراً أن يقتل مؤمن مؤمنا أو مؤمنة. هنا عرف الصحابة العلة وهي صيانة دم المؤمنين. وفي الوقت ذاته نجد أن صلح الحديبية جعل الدعوة الإسلامية تنتشر في الجزيرة العربية كلها. وقد اعتبره بعض الصحابة رضوان الله عليهم الفتح الحقيقي للإيمان، وجاء في ذلك تلك المقولة المأثورة: «لا فتح في الإسلام بعد فتح الحديبية» ولكن الناس لم يتسع فكرهم إلى الحكمة مما حدث، والعباد دائما يعجلون. والله لا يعجل لعجلة عباده حتى يبلغ الأمر ما أراد. وقد انتشر الإسلام في الجزيرة العربية بالدعوة، وزاد عدد المسلمين زيادة كبيرة. إذن فمراحل الإيمان بدأت بمرحلة التعذيب والاضطهاد، ثم مرحلة محاولة الخداع للقضاء على هذا الدين، ثم المرحلة الثالثة وهي التعاهد والتعاقد، ولقد وفَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعهده، ولكن قريشاً نقضت العهد بأن أعانت قبيلة بني بكر وهم حلفاؤها على قبيلة خزاعة حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقام بنو بكر بمهاجمة قبيلة خزاعة وقتلوهم وهم يصلون، وذهب مندوب قبيلة خزاعة مستنجدا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأعلن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنهاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4889 المعاهدة التي أبرمت بينه وبين قريش لنقض قريش العهد وأعد جيشاً لفتح مكة وتطهير البيت الحرام من الأصنام، وبعد أن تم فتح مكة في العام الثامن الهجري، أراد الله سبحانه وتعالى أن يطهر بيته من المشركين وأن يعلن أنه لا مهادنة بين الإيمان والكفر. لقد أراد الله أن يحرر «المكان» وهو أرض الكعبة أولاً، ثم يحرر «المكين» وهم البشر فلا بد - إذن - أن تتطهر الكعبة من الأوثان، وأن يُمنع العراة من الطواف حول البيت الحرام ويُمنع المشركون من الوجود في البلد الآمن بالإسلام. وسبق حج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قطع العلاقات وإنهاء المعاهدات، لكن سماحة الإيمان وحب الله لخلقه جميعا لم يجعله يأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقطع المعاهدة فوراً، أو أن يقاتل المؤمنون المشركين ويأسروهم فوراً، لا، بل منحهم أربعة أشهر لعلهم يفيئون إلى الإسلام وأن يتوبوا إلى بارئهم. لقد بين سبحانه وتعالى للكافرين أن هذه المدة لن تفيدهم في حربهم ضد الإسلام؛ لأنهم غير معجزي الله في الأرض، أي لن يعجز الله استعدادهم أو مكرهم أو أي شيء يفعلونه خلال هذه الأشهر الأربعة، فإذا انتهت هذه الأشهر وقعت العقوبة على الكفار إما بالقتل وإما بالحصار، أو بالترصد، أو عليهم أن يدبروا أمر حياتهم بالسياحة في الأرض ما داموا قد أصروا على الكفر؛ لأن حكماً من الله قد نزل بعدم وجود المشركين في هذه البقعة المقدسة. وأراد الحق سبحانه وتعالى برحمته أن يبقي الباب مفتوحاً للكفار لكي يعودوا إلى منهجه فقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6] . وبعد انقضاء مدة الأشهر الأربعة، اذا استجار بك أحد من المشركين فأجره، ونحن نعلم في اللغة العربية أنّ «إِنْ» الشرطية لا تدخل إلا على فعل ولا تدخل على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4890 اسم أبداً؛ فتقول: إن قام زيد قام عمرو، وأما «إنْ» في قوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] . فهذه ليست «إن» الشرطية؛ ولكنها «إنْ النافية» وهي مع «إلا» التي بعدها لإفادة التأكيد والقصر، أي قصر الأم على الوالدة، إلا أنه من بلاغة إعجاز القرآن الكريم جاء بعد «إن» الشرطية اسم في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] . وكان القياس أن يقال: «إن استجار بك أحد المشركين فأجره» ؛ ولكن الله سبحانه وتعالى جاء ب «أحد» بعد «إن» في أول الكلام، ولذلك فعندما نعرب كلمة «أحد» في الآية الكريمة السابقة نعربها فاعلاً ونقدر له فعله من جنس المتأخر، والتقدير هو: وإن استجارك أحد من المشركين فأجره. ولماذا هذه اللفتة من القرآن الكريم؟ نقول: إن هناك مستجيراً وهنا طلب استجارة؛ فهل الاستجارة عرف بها المستجير، أم عُرفت الاستجارة منه؟ . وأقول: لنفرض أن واحداً من المؤمنين قد جلس على الحدود قرب أماكن الكفار، ثم سمع صوتاً يقول: أنا مستجير بمحمد، ومستجير بالمؤمنين، ومن بعد ذلك ظهر المستجير بجسده أمام المؤمنين، هنا تكون الاستجارة قد سبقت ظهور المستجير، وكأن الأذن هي التي استجيرت أولاً ثم رأت العين جسد هذا المستجير، وقد يختلف الأمر؛ فيظهر المستجير أولاً، ثم يصرخ طالباً الأمان والاستجارة، وبذلك تكون العين قد رأت أولاً ثم سمعت الأذن طلب الاستجارة ثانياً. وهنا يريد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهنا إلى أهمية الالتفات إلى صدق الاستجارة، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يصرخ المستجير أولاً، ويظهر من بعد ذلك، ولا بد أن يأخذ المؤمن حذره حتى لا ينقلب عليه المستجير أو يكون قد خدعه بطلب الاستجارة. والاستجارة تعني طلب الجوار والحماية، ولهذا فعادة ما يكون المستجير ضعيفاً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4891 لا يقدر على حماية نفسه. وحين يستجير إنسان بآخر في مثل تلك الظروف، فعلى المجير أن يملك الفطنة ليتعرف على الهدف من الاستجارة؛ أهي استجارة لمجرد تطويل أمد البقاء على الكفر؟ أم هي رغبة في معرفة أسس الإيمان كما وردت في كتاب الله تعالى، أو أنه يريد أن يسمع حكم الله على الكفار في سورة براءة. أو يريد أن يسمع كلام الله بما يقذف في قلبه الإيمان، أو أنه يريد أن يسمع شيئا فيما يطلب فيه الدليل، أو يسمع كلام الله فيما يرد عليه الشبهة؟ . إن فطنة المؤمن يجب أن تتسع لتسبر أغوار المستجير، وطلب الجوار أو الاستجارة كان معروفاً عند العرب، فإذا استجار شخص بعدوه فعليه أن يجيره، وهذا دليل على شهامته. وإذا كان الإيمان قد فرض على المسلمين إجازة من يطلب الجوار، فهذا دليل على قوة الإيمان وعظمته وسماحته، ولعل خميرة الإيمان الفطري في نفس الكفار قد استيقظت وتطلب معرفة قواعد الإسلام. إن على الوالي أو أي واحد من المسلمين أن يجير المستجير، ولماذا لا نسمعه ونتكلم معه عله يؤمن، ويدخل حظيرة الإسلام وفي الإسلام يجير الوالي أو أي واحد من المسلمين؛ لأن المسلمين تتكافأ دماؤهم ولا يوجد دم سيد ودم عبد، ولا دم شريف ودم رخيص؛ وإنما يسعى بذمتهم أدناهم، ولذلك إذا أجار أي مسلم إنساناً غير مسلم أو إنساناً كافراً يجار من جميع المسلمين؛ حتى الصبي الذي لم يبلغ الحلم وحتى المجنون الذي لا يعقل. لهذا أو لذاك أن يجير بشرط أن يوافق الوالي أو المسلمون على ذلك. لماذا؟ لأننا نأخذ على الكفر أنه يغدر بالتعاهد ويتناسى المروءة، فلا بد أن نتمسك نحن المؤمنين بالعهد، فإذا استجار أحد من الكفار فلا بد أن نفي بالعهد. ولكن كيف يكون للصبي والمجنون حق الإجارة؟ . نقول: إن الصبي من المؤمنين انتفع بالإسلام لأنه تمت تربيته تربية إيمانية وفقاً لمنهج الله ونشأ في ضوء قول الحق تبارك وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4892 {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] . بل إن الإسلام يعطي التربية الإيمانية للابن حتى قبل الحمل، فيأمر الأب أن يختار الأم ذات الدين لتكون وعاء صالحاً، ويأمر الأم أن تختار الرجل المتدين ليكون أباً صالحاً. إذن فالإسلام يخدم الصبي قبل أن يولد باختيار الأب الصالح والأم الصالحة، ويخدمه بعد أن يولد بتربيته التربية الإسلامية السليمة، وعلى ذلك فالصبي قد استفاد بكل هذه القيم من الإسلام، والذي بلغنا منهج الإسلام هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومن هنا فالتربية الإسلامية لنا جميعاً؛ لذلك يجب علينا أن نرد التحية إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي علمنا أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم. فلو أن صبيا أعطى الأمان لكافر جاء ليسمع كلام الله؛ قبلت منه هذه الإجارة أو هذا الأمان، ذلك أن الصبي استفاد من تربية إسلامية جاء بها المنهج المنزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، واستفاد من أمه التي تحملت حمله وآلام وضعه، ولولا أن الإسلام حمى النفس حين توجد في الرحم لأمكن للمرأة حين يتعبها الحمل أن تجهض نفسها أو أن تطرح الصبي بعيداً، ولكن الإسلام حمى الطفل وهو في بطن أمه، وحماه حتى تكتمل رضاعته، وتتمثل الأم المسلمة لكل أحكام الإسلام: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] . لقد احترم الإسلام الطفل، وسانده، وطلب من الأب والأم أن يحسنا تسمية أولادهما وأن يحسنا تربيتهما. وقبل أن يوجد هذا الطفل في رحم أمه حماه الإسلام - كما قلنا - بأن أمر الرجل أن يختار الأم الصالحة؛ لتكون وعاء صالحاً، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فيما يرويه عنه أبو حاتم المزني قال: «» إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4893 وفساد كبير «قالوا يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال» إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه «ثلاث مرات» . وكذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: في حديث له: «فاظفر بذات الدين تربت يداك» . والحديث فيما يرويه عنه أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» . فإذا كان الإسلام قد احترم هذا الصبي في كل حقوقه، ألا يحترمه المسلمون؟ . وقد يقال إن الصبي منتفع بالإسلام، أما المجنون فلا عقل له حتى إن الله عَزَّ وَجَلَّ قد أعفاه من التكاليف، ونقول: انظروا إلى المجنون بالنسبة لأصحاب العقول، صاحب العقل قصارى ما يصل إليه أن تكون كلمته نافذة لا يعترض عليه أحد، وأن يقول ما يريد ولا يحاسبه أحد، أما المجنون فهو يصل إلى هذا؛ لأنه إن قال قولاً فلا أحد يعترض عليه، وإن فعل فعلاً غير لائق فلا أحد يحاسبه، بل إنه سبحانه وتعالى لا يحاسبه يوم القيامة. إذن فالمجنون قد أخذ حظا أكثر مما يأخذه العقلاء، وصار جنونه حماية وحصانة له إن قال كلمة الحق التي قد تؤذي ذوي النفوذ فلا يعاقبه أحد، ويكفي أن يقال إنَّه مجنون حتى يعفى من العقاب، ورب كلمة حق واحدة تصدر من مجنون؛ تكون أرجح عند الله عَزَّ وَجَلَّ من أصحاب عقول كثيرة ظلوا طوال حياتهم ينافقون ويكذبون ويفعلون ما يغضب الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4894 إذن فهناك مهمة في الحياة قد يؤديها المجنون ولا يؤديها العاقل، لأن بعض الناس يعتقد أنه إذا سلب الله أحد البشر شيئا فإنه يميز عنه الآخرين، نقول: لا، لأن عدل الله يأبى إلا أن يعوضه، ولذلك تجد من فقد عينيه يجعل الله عَزَّ وَجَلَّ عيون الناس في خدمته؛ هذا يأخذ بيده؛ وهذا يقوده في الطريق، وهذا يحضر له الطعام والشراب، وهذا يسقيه ... إلخ وإن كان الإنسان أعرجَ مثلاً، تجد هذا يعاونه، وهذا يأخذه معه في سيارته، وقد تقف له سيارة أجرة تأخذه إلى حيث يريد. بينما يقضي السليم الساعات يبحث عن سيارة الأجرة بلا فائدة. بل إنك إن نظرت إلى الفقير تجد أنَّ الله قد جعل له عدداً من الأغنياء في خدمته، ففلان يحرث ويعزق ويعطيه الله خير الزراعة ليبيعه ويفيض منه على الفقير، وآخر يصنع ويتعب ويشقى ليعطي بعضاً من دخله للفقير، بل إنه يشقى مرة أخرى ليعثر على الفقير حقا ليعطيه بعضاً من ماله، والفقير بالفعل يستحق أن يأخذ شريطة ألا يكون مدعيا للفقر. فما دام قد قبل حكم الله بالفقر والعجز، يوضح له ربه: لقد رضيت بأني أعجزتك، فخذ من قدرة الأغنياء ما يعينك في حياتك، فهذا مُلْكٌ كَوْني له نظام، وأقول ذلك حتى نفهم أن الغنى والفقَر، والصحة والمرض، والقوة والضعف، إنما هي أغيار، ولذلك لا أحد يضمن غَدَهُ، وعلى الواحد منا إن كان قادراً أن يعطي الفقير، حتى إذا ضاع منا المال وجدنا من يعطينا، وأن نساعد المريض، حتى يكونوا في خدمتنا وقت شدتنا. وفي نفس الوقت حين نرى من رَحِمَهُ اللَّهُ من البصر يجب علينا أن نشكر نعمة الله علينا، ولو رأينا إنساناً يعاني في مشيه تنبهنا إلى نعمة الله في أن أعطانا قدرة المشي. وهكذا فالإنسان لا يتنبه إلى النعمة إلا إذا رأى من هو محروم منها. وكذلك أراد الحق أن يرضي كل ذي آفة قَبل آفته ولم يتمرد عليها؛ لذلك يفيض عليه بالخير. إذن فكل إنسان أسلم يستفيد من الإسلام حتى الصبي والمجنون استفادا من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4895 الإسلام، ولذلك فلا بد أن نرد التحية لمن بَلَّغنا هذا المنهج الذي أعطانا الحماية، فنقرأ المنهج ونعمل به. وحين نستقرئ حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، نجده يرد جميل كل من ساعده، ومثال ذلك حليمة السعدية التي نالت شرف إرضاعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو صغير، ثم أكرمها الرسول هي وأسرتها بعد أن صار نبيا. ثم ألم يذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الطائف ليطلب النصير له في تبليغ الدعوة بعد وفاة خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ووفاة عمه أبي طالب، وعز عليه النصير وفكر في العودة إلى مكة، والتمس من يجيره حين يدخلها فأجاره واحد من الكفار هو المطعم بن عدي، فإذا كان كافرٌ قد أجار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي يدعو لمحاربة الكفر؛ أفلا نجير واحداً من الكفار لنرد التحية بخير منها؟ وإذا كان واحد من الكفار قد أجار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مكة فلا بد أن يرد المؤمنون كلهم التحية بأن يجيروا من يستجير بهم من الكفار. وبعد أن يجير المسلمون من استنجد بهم من الكفار على أن يسمعوه كلام الله. وبعد ذلك هناك أحد أمرين إما أن يعلن الكافر الإيمان، وفي هذه الحالة أصبح من المؤمنين، وإما أن يصر على كفره وعناده، وفي هذه الحالة يصبح على المسلمين مسئولية أن يبلغوه مأمنه، وذلك بأن يساعدوه على الوصول إلى المكان الذي يصبح آمنا فيه على نفسه وماله، وبعد أن يبلغ مأمنه ويسمع كلام الله فليس على المسلمين أن يطلقوا سراحه كما كان الأمر من قبل: {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] . لا، بل على المسلمين أن يبلغوه مأمنه، ثم ينفذون فيه حكم الله إما أسراً، وإما حصاراً، أو قتلاً؛ حسب الحكم النازل من الله. وعلة تأمين الكافر هي أنه من قوم لا يعلمون حسبما قال الله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4896 إذن فالإيمان ليس بالفطرة فقط؛ لأن العلم له وسائل كثيرة؛ علم بالفطرة، وعلم بالاكتساب، ومرة تكون أداة العلم الأذن، ومرة بالعين، ومرة بالعقل، والمعلومات كلها تنشأ عند الإنسان إما بالإذن مما يسمع، وإما بالعين مما يرى، ثم بعد ذلك تستقر المعاني في نفس الإنسان. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78] . وهكذا حدد لنا القرآن الكريم وسائل العلم بالسمع والبصر، فإذا استقرت هذه المعلومات في الفؤاد، لأنه الذي يحفظ كل القضايا العقلية والفكرية. وإذا كان الإنسان يسمع ولا يفقه شيئا فهو لا يعلم. إذن فالمستجير جاء ليطلب وسائل العلم وأدلة الإيمان؛ وعذره أنه لا يعلم. وعلينا أن نحسن الظن وأن نعتبر المستجير طالب علم بالحقيقة، ويريد أن يأخذ أدلة الإيمان. ثم يعود الحق سبحانه وتعالى إلى مسألة العهد فيقول: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4897 أي لقد جربتم العهود مع المشركين، وفي كل مرة يعاهدونكم ينقضون عهدهم، وقد نقضوا عهدهم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في معاهدة الحديبية، إذن فالله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أننا يجب ألا نأمن لعهود المشركين لأنهم لا يحفظون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4897 العهد ولكنهم ينقضونه، وعلى ذلك فعلة نقض العهد أنهم لم يستقيموا للعهد من قبل. ويكون بقاء العهد هو الأمر العجيب. و «كيف» هنا للاستفهام عن الحالة، كيف حالك؟ . تقول: بخير والحمد لله. إذن ف «كيف» يُسأل بها عن الحال، والحال قد يكون عاما، أي كيف حالك وحال أسرتك وأولادك ومعيشتك إلى آخره، وقد يكون خاصا أن تسأل عن مريض فتقول: كيف حال فلان؟ . فيقال: شُِفي والحمد لله. أو تسأل عن معسر فتقول كيف حاله؟ . فيقال: فرّج الله ضائقته. أو تسأل عن ابن ترك البيت هارباً فيقال: عاد والحمد لله. إذن ف «كيف» إن أطلقت تكون عامة، وإن خصصت تكون خاصة، ولكنها تُطلق مرة ولا يراد بها الاستفهام، بل يراد بها التعجب؛ إما تعجب من القبح، وإما تعجب من الحسن. كأن يقال لك: كيف سب فلان أباه؟ . هنا تعجب من القبح لأن ما حدث شيء قبيح ما كان يصح أن يحدث. وتأتي لإنسان اخترع اختراعاً هاماً وتقول: كيف وصلت إلى هذا الاختراع؟ . وهذا تعجب من الحسن. والتعجب من القبح يكون تعجب إنكار والتعجب من الحسن تعجب استحسان كأن نقول: كيف بنيت هذا المسجد؟ وفي هذه الآية الكريمة يقول سبحانه وتعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} [التوبة: 7] . وهذا تعجب من أن يكون للمشركين شيء اسمه عهد؛ لأنهم لا يعرفون إلاَّ نقض العهد، ولا يتمسكون بالعهود ولا يحترمونها، إذن يحق التعجب من أن يكون لهم عهد بينما في الحقيقة لا عهد لهم. وهذا التعجب للاستهزاء والإنكار، فأنت مثلا إذا جاء أحد يهددك، فقلت له: من أنت حتى تهددني؟ . يكون هذا استهزاء واستنكارا لأنك تعرفه، وأيضا تستهزىء أن يملك القدرة على أن ينفذ تهديده لك. ومرة تكون استفهاما حقيقيا، كأن تسأل إنسانا لا تعرفه: من أنت؟ . فيقول لك: أنا فلان بن فلان. وأحيانا تكون الإجابة عن الكيفية بالكلام، وأحيانا لا ينفع الكلام فلا بد أن يجاب بالفعل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4898 واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260] . كيف هذه تحمل معنى التعجب الاستحساني؛ لأنك إذا بعثت الحياة في ما لا حياة فيه؛ فهذه مسألة عجيبة تستوجب الاستحسان. ولم يجب سبحانه وتعالى على سيدنا إبراهيم باللفظ، بل أجاب بتجربة عملية، ودار حوار بين الحق سبحانه وتعالى وخليله إبراهيم عليه السلام فسأله المولى سبحانه: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} [البقرة: 260] . رد إبراهيم عليه السلام: {قَالَ بلى} [البقرة: 260] . أي أنني يا رب آمنت، وأضاف القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . والإيمان هو اطمئنان القلب، فكيف يقول إبراهيم آمنت؟ أليس في ذلك تناقض؟ . وأقول: إن إبراهيم واثق من أنَّ الله سبحانه خلق الكون كله ولكنه يريد أن يعرف كيفية الإحياء وكيف يحدث، حينئذ لم يجبه الحق سبحانه وتعالى بالكلام، بل أراه تجربة عملية، فقال له: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260] . أي عليك أن تختار أربعة طيور وتضمها إليك وتتأكد من شكلها حتى إذا ماتت وأحييت تكون متأكدا من أنها هي نفس الطير. {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] . أي قطّع هذه الطيور بنفسك، وضع على كل جبل قطعة، وبعد ذلك ادْعُها أنت تأتك سعياً أي مشياً، حتى لا يقال إنها طيور قد جاءت من مكان آخر، بل تجيئك نفس الطيور سيراً، فإذا كان الله سبحانه وتعالى يعطي القدرة لمخلوق عندما يستدعي الميت أن يأتيه حيا، فما بالك بقدرة الله عَزَّ وَجَلَّ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4899 إذن فقول الحق: سبحانه وتعالى {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} [التوبة: 7] . وهذا استفهام للإنكار والتعجب من أن المشركين ليس لهم عهد، بل تمردوا وتعودوا دائما على نقض العهود ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 7] . أي أن الله عَزَّ وَجَلَّ وهو يخبر المؤمنين بأن هؤلاء الكفار لا عهد لهم، لا يطالب المؤمنين أن يواجهوا المشركين بالمثل، بل يأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يحافظوا على العهد ما دام الكافرون يحافظون عليه، إلى أن يبدأ الكافرون في نقض العهد وهنا يلزم سبحانه المؤمنين أن يقابلوا ذلك بنقض مماثل وهذا ما يفسره قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 7] . والمتقي هو الطائع لله فيما أمر وفيما نهى ويجعل بينه وبين صفات الجلال من الله وقاية، إذن فأساس التقوى هو ألا ينقض المؤمن عهداً سواء مع مؤمن أم مع كافر، وإنما الذي يبدأ بالنقض هو الكافر، وعلى المؤمن أن يحترم العهد والوعد. ويقول الحق تبارك وتعالى من بعد ذلك: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4900 نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى لم يقل كيف يكون للمشركين عهد، بل اكتفى ب «كيف» ، لأن غدرهم صار معروفا، وكانت «كيف» الأولى استفهاما عن أمر مضى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4900 والتساؤل هنا يوضح لنا أنهم سيخونون العهد دائما، كما فعلوا في الماضي، فكأن الذي يخبر في الماضي يخبر عن المستقبل ويعلم ما يكون منهم. ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله: {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [التوبة: 8] . ومعنى «يظهروا» ، أي يتمكنوا منكم، وهم إن تمكنوا من المؤمنين لا يرقبون فيهم إلاّ ولا ذمّة، و «يرقب» من الرقيب الذي يراقب الأشياء. إذن فهم لا يراقبون بمعنى لا يراعون، أي أنهم لو تمكنوا من المؤمنين لا يراعون ذمة ولا عهدا ولا ميثاقا، بل يستبيحون كل شيء. وهذا إخبار من الحق سبحانه وتعالى عما في نفوس هؤلاء الكفار من حقد على المؤمنين. ونلاحظ أن كلمة «يرقبون» غير «ينظرون» ، وغير «يبصرون» ، وهي أيضا غير «يلمحون» وغير «يرمقون» ، مع أنها كلها تؤدي معنى الرؤية بالعين، ولكن يرقب تعني يتأمل ويتفحص باهتمام حتى لا تفوته حركة، لذلك إذا قلنا: إن فلانا يراقب فلاناً، أي لا تفوته حركة من حركاته وهو ينظر لكل حركة تصدر منه. أما كلمة «نظر» فتعني رأى بجميع عينيه، وكلمة «لمح» تعني رأى بمؤخر عينيه، «رمق» أي رأى من أعلى. وقوله سبحانه وتعالى {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} يعني لا يراعون فيكم عهداً، ولا يمنع الواحد منهم وازع من أن يفعل أي شيء مهما كان قبيحا؛ والمثال: أن يرفع الرجل القوي يده ليضرب طفلاً صغيراً لا يتحمل ضربته، هنا يمسك أحدهم بيده ويطلب منه أن يراعي أن الطفل صغير لا يتحمل ضربته، وأنه ابن فلان قريبه، وأنهم جيران؛ فلا يراعي هذا كله، وإنما ينهال على الطفل ضرباً. وقوله سبحانه وتعالى: «إلاًّ» هي في الأصل اللمعان أي البريق، و «إلاّ» أيضاً هي الصوت العالي، واللمعان والصوت العالي لافتان لوسائل الإعلام الحسّية، وهي الأذن والعين، والإنسان إذا عاهد عهداً فهذا العهد يصبح أمراً واضحاً أمامه يلفت عيونه كما يلفتها الشيء اللامع، ويلفت أذنه كما يلفتها الصوت العالي، وسُمي العهد والكلام «إلاّ» لأنه معلوم بالعين والأذن. هذا هو المعنى اللغوي، لكن المعنى الاصطلاحي لكلمة «إلاّ» هو الغصب، بأن تشد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4901 شيئا كأنك تغصبه على عدم الالتصاق بشيء آخر، ولذلك سُمِّي سلخ جلد الشاة غصباً؛ لأن صاحب المال متمسك بماله تمسك الشاة الحية بجلدها. وإذا أطُلق الغصب في الفقه لا ينصرف إلى المعنى اللغوي وهو اللمعان والصوت العالي، وللعلماء في هذا المعنى أكثر من رؤية، وكل واحد منهم أخذ لقطة من ال «إل» وأصله اللمعان، أَلَّ. . يؤلّ. . إِلاًّ، بمعنى لمع. . يلمع. . لمعاً. وال «إل» أيضاً هو الصوت العالي، وقال ابن عباس والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إن «إلاّ» هي القرابة؛ لأن القرابة سبب للتراحم، فأنت يعز عليك أن تخون قريباً لك؛ لأن القرابة لا تحتاج إلى عهد، وقيل إن «إلاّ» هي العهد. وقال سيدنا الحسن: إن «إلاّ» هي الجوار وما يوجبه من حقوقه. وقال قتادة: إن «إلاّ» هي الحلف والتحالف. وقال أبو عميرة: إن «إلاّ» هو اليمين أو القسم. والمعاني كلها تلفتنا إلى وجود نوع من التراحم، بحيث لا تتملك الإنسان القسوة أو انفلات الانفعال، وليجعل الإنسان لنفسه من يقول له: «اهدأ إنه جارك أو من قوم بينهم وبين من تعاهون صلة قرابة» ؛ لأن الذي يجعل الإنسان لا يميل إلى الشر ولا يشتري فيه ساعة يحفزه الأمر؛ هو مراعاة الملابسات كلها، وهكذا يتدخل الحوار، ولكن قد توجد قرابة أو عهد أو قسم أو جوار ليمنع البطش بقسوة، أي إن «إلاّ» هو الأمر الذي يمنع الرد بقسوة على شيء قد يكون وقع خطأ. والمعنى أيضا هو عدم احترام لكل القيم؛ عدم احترام للقرابة أو الجوار أو العهد أو القسم، فإذا تمكن رجل قوي من طفل صغير لم يراع فيه أيا من هذه الأشياء. ويريد الحق أن نعلم أن المشركين إذا تمكنوا من المؤمنين فهم لا يراعون فيهم قرابة ولا عهداً ولا حلفاً ولا جواراً ولا قسماً ولا أي شيء. إذن فكيف يكون للمشركين عهد؟ وهم إن تمكنوا من المؤمنين لا يراعون فيهم شيئا أبداً. ثم يضيف الحق سبحانه وتعالى قوله: {وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 8] . والذمة هي الوفاء بالأمانة التي ليس عليهما إيصال ولا شهود، فإذا اقترض واحد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4902 مبلغاً من شخص آخر إيصالاً عليه بذلك الملبغ، فهذا الإيصال هو الضامن للسداد، وكذلك إن كان هناك شهود فشهادتهم تضمن الحق لصاحبه. ولكن إن لم يكن هناك إيصال ولا شهود، يصبح الأمر موكولاً إلى ذمة المقترض؛ إن شاء هذا المدين اعترف بالقرض، وإن شاء أنكره، وهناك ذمة أخرى هي التي بينك وبين نفسك، والمثال على ذلك قد تعاهد نفسك بأن تعطي فلاناً كل شهر مبلغاً من المال، وهذا أمر ليس فيه عهد مكتوب أو شهود لكنه متروك لذمتك، إن شئت فعلته، وإن شئت لم تفعله. وما في الذمة - إذن - هو شيء إنْ لم تفعله تُفضَح، مثال ذلك: أن تقرر بينك وبين نفسك أن تساعد أسرة ما، وهذا أمر خاضع لإرادتك، فلا عهد يجبرك على ذلك ولا قرابة ولا جوار، لا شيء إلا ذمتك، ولذلك فأنت تراعي الوفاء بما وعدت نفسك به لتحافظ على سمعتك ورؤية الغير لك. وكذلك أيضاً حين تأخذ ديناً بلا إيصال منك أو شهود عليك، ولكنك تحرص على أن ترده لأنه في ذمتك. {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8] . وهكذا نعرف أن «كيف» هنا تعجب من أن يكون للمشركين الآن أو في المستقبل عهد لأنهم يحترفون نقض العهود ولو تمكنوا من المؤمنين فهم ينكلون بهم أبشع تنكيل دون مراعاة لأي اعتبار، وقد يقول قائل: إنهم معنا على أحسن ما يكون؛ بشاشة وجه وحسن استقبال إلى آخره، فكيف إذا تمكنوا منا انقلبوا إلى وحوش لا ترحم؟ . ونقول: إن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يظهر وما يخفي، وقد علم ما يدور في خواطر المؤمنين فرد عليهم حتى لا يترك هذه الأشياء معلقة داخل نفوسهم، ولذلك يريد سبحانه وتعالى على هذا الخاطر: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8] . أي أن الله عَزَّ وَجَلَّ ينبه المؤمنين ويحضهم ألا يصدقوا الصورة التي يرونها أمامهم من المشركين؛ لأنها ليست الحقيقة، بل هو خداع ونفاق؛ فهم يقولون القول الحسن، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4903 ويقابلونك بوجه بشوش وألفاظ ناعمة، لكن قلوبهم مليئة بالحقد عليكم أيها المسلمون بحيث إذا تمكنوا منكم تظهر مشاعرهم الحقيقية من البغض الشديد والعداوة، ولا يرقبون فيكم إلاّ ولا ذمّة. فإذا قال الله سبحانه وتعالى: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 8] . فعلى المؤمنين أن يصدقوا ما جاء من الحق، ويكتشفوا أن اللسان الحلو وحسن الاستقبال ليس إلا خداع، من هؤلاء الأعداء، وهو سبحانه بهذا الكشف إنما يعطينا مناعة بألاَّ ننخدع بما نراه على وجوههم؛ فهذا مجرد أمر استقبالي، لا يمثل ماضياً أو حاضراً، وحين يبرم سبحانه وتعالى أمراً استقباليا فهو يخبر به عباده المؤمنين، ولذلك نجده سبحانه وتعالى يرد بنفس الأسلوب على هذه الخواطر والمثال: في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] . والبلاغ هنا نهي عن دخول المشركين المسجد الحرام أو اقترابهم منه، ومن الطبعي أن تدور الخواطر هنا في نفوس عدد من المؤمنين الذين يستفيدون من المشركين في مواسم الحج، لأنهم أمة تعيش على اقتصاد الحج، حيث يبيعون السلع لهؤلاء القوم ليكسبوا قوت العام، فإذا ما تم منع المشركين من الحج أو الاقتراب من المسجد الحرام، فمن أين يأتي الرزق الذي يحصلون عليه من البيع لهم؟ ولا بد أن يفكر المؤمنون: من أين سنأكل؟ . نحن نحضر بضاعتنا وننتظر طوال الموسم حتى الحج؛ فإذا نقص عدد الحجاج فلمن نبيع؟ . فيرد الله سبحانه وتعالى على هذه الخواطر بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 28] . أي لا تخافوا الفقر، لأن الله يعلم ما سوف يحدث، والله هو الغني وعنده مفاتيح كل شيء وسوف يغنيكم من فضله ويفتح لكم باب الرزق مما يعوضكم وزيادة. وهكذا يرد الله سبحانه وتعالى على الخواطر التي تدور في نفس المؤمن ساعة نزول القرآن؛ حتى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4904 تطمئن قلوب ونفوس المؤمنين فيقول عَزَّ وَجَلَّ: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8] . وفي هذا القول رد على الخواطر التي دارت في نفوس المؤمنين؛ وهم يرون المشركين يستقبلونهم بألفاظ ناعمة ووجوه تملؤها البشاشة، فأوضح لهم الحق سبحانه وتعالى: لا تنخدعوا فما في القلوب عكس ما هو على الوجوه. وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8] . يبين أنهم بعيدون عن المنهج، فالفسق هو الخروج عن الطاعة، وهل الكافر والمنافق له طاعة؟ . نقول: إنك إن نظرت لهؤلاء تجدهم خارجين حتى عن المنهج الذي اتخذوه لأنفسهم؛ فهم لا يلتزمون بمنهج الباطل الذي يعتنقونه، إذن فهم فاسقون حتى في المنهج الذي ينتسبون إليه، فإذا كانوا كذلك مع منهج الباطل، فكيف بهم مع منهج الحق؟ . وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} يوضح بأنه قد تكون هناك قلة ملتزمة، وهذا احتياط قرآني جميل، كما أنها ردت على السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن أن هؤلاء كافرون - وليس بعد الكفر ذنب - فكيف يقال إنَّهم فاسقون أي عاصون أو خارجون عن الطاعة وهم غير مؤمنين أصلا؟ . نقول: إنهم خارجون حتى عن مناهج الكفر التي اختاروها لأنفسهم، ولذلك يبين الله سبحانه وتعالى وضعهم حين يقول: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4905 وهكذا يرينا الله عَزَّ وَجَلَّ انقلاب المعايير عندهم، فما الشراء؟ . الشراء هو: الحصول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4905 على سلعة مقابل ثمن، فإذا قلت: اشتريت ساعة مثلاً، تكون أنت المشتري ما دمت تدفع الثمن، والذي أخذ الثمن هو البائع، وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} [التوبة: 9] . وكان المفروض - إذن - أن يكونوا قد دفعوا الثمن، لأن المشتري هو الذي يدفع الثمن، ولكن هنا عُكست القضية؛ فجعل الحق سبحانه وتعالى الثمن هو ما يشترونه، مع أن الثمن هو الذي يدفع، فتكون القضية مخالفة لواقع البيع والشراء، والذي يجب أن نلاحظه أيضاً هو أن الثمن يساوي السلعة. فأنت تأخذ السلعة وتعطي للبائع ثمناً يساويها، لأن ثمن كل شيء يجب أن يكون مناسباً له، فإذا اشتريت شيئا بسيطاً دفعت له ثمناً بسيطاً، وإذا اشتريت شيئا ثميناً دفعت فيه ثمناً غالياً. هذا كله ملحوظ حتى في الأعمال، وقد تكون ممن يرغبون في مشاكسة الغير، وقد تجد من يشاكس غيره؛ يطلب من أحد أتباعه أن يسب فلاناً ويعطيه عشرة جنيهات، فإذا أراد أن يجعل التابع يضرب خصمه، يقول له: اضرب وأعطيك خمسين، وإن أراد أن يقتل التابع خصمه فهو يعطيه الألوف من الجنيهات، وغالبا ما يقول هؤلاء الذين بلا إيمان: كل ذمة قابلة للانصهار بالذهب، لكن المختلف قيمة هو الكمية التي تصهر أي ذمة، فهناك من تنصهر ذمته بريال، وآخر تنصهر ذمته بعشرين أو ثلاثين، وهناك من تنصهر ذمته بملايين. ويلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن هؤلاء الكفار قد حوّلوا الإيمان إلى سلعة تباع وتشترى، فهم قد باعوا إيمانهم، وبدلا من أن يتقاضوا عنه ما يساوي الإيمان والإيمان أغلى من كنوز الدنيا؛ باعوا إيمانهم بثمن قليل، أي أنهم حتى لم يقدروا قيمة الإيمان فباعوه رخيصاً. كيف باعوا الإيمان بثمن رخيص؟ . نقول مثلاً: إن الذي يرتشي يفعل ذلك ويريد أن يعوجّ ميزان الحق، والذي يغير ميزان الحق يشكك الناس في العدالة، وإذا شك الناس في العدالة؛ فقدوا سندهم الأمني؛ لأن كل مظلوم أمله أن يرفع الأمر للقضاء فينصفه، أو أن يرفع أمره للمسئول فيعطيه حقه، فإذا أحس الناس بأن الحق قد ضاع نتيجة أنه أصبح هناك ثمن للإيمان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4906 وإن دفع اختلت الموازين، في هذه الحالة يفسد المجتمع كله، فكأنهم باعوا فساد المجتمع كله بثمن قليل جدا. كما أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى الحساب يوم القيامة؛ وكيف أن المؤمنين سيخلدون في الجنة وينعمون بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وسيدخل هؤلاء الكافرون النار وبذلك يكونون قد باعوا إيمانهم مقابل ثمن رخيص مهما كان المال الذي سيحصلون عليه؛ لأن مال الدنيا كلها لا يساوي يوماً في الجنة؛ لأن الدنيا موقوتة بزمن، ومتاعها محدود وقليل، فكأنهم باعوا الخلود في النعيم بمتعة وقتية قد لا تستمر إلا أياماً أو سنوات. وحينئذ يعرف الكافرون أن الثمن الذي تقاضوه قليل جدا بالنسبة لما خسروه. وليتهم جعلوا الإيمان ثمناً يدفعونه للحصول على متاع قليل في الدنيا، ولكنهم زادوا على ذلك أنهم صدوا عن سبيل الله. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} [التوبة: 9] . والصد يحدث حين تكون هناك دعوة معروضة بأدلتها فتمنع الناس من أن يستمعوا إليها، لأنك تعرف أنهم لو سمعوها لاعتنقوها واقتنعوا بها، ولذلك نجد الكفار مثلاً حين نزل القرآن والعرب أمة بلاغة وأمة بيان؛ عرفوا أنه لو سمع الناس القرآن لأحسوا بإعجازه وبلاغته وحلاوته ولآمنوا به، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى على ألسنتهم في القرآن: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون} [فصلت: 26] . لأن الكفار يعرفون أن الناس لو استمعوا للقرآن لآمنوا به، ولذلك فهم ينهونهم عن السماع، وإن قرأ أحد القرآن يأمرون بعضهم البعض باللغو فيه حتى لا يفهم شيئا، وهذه شهادة من الكفار بأن الآذان لو استقبلت القرآن لآمنت، واللغو هو نوع من الصد عن سبيل الله، وكان هناك نوع آخر من الصد عن سبيل الله أنهم كانوا يمنعون الناس من الاستماع إلى دعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأنهم يعرفون أن حلاوة الدعوة ستجعل من يستمع إلى دعوة الرسول يؤمن بها. ولذلك فهم يصدون الناس عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4907 كلام الله تعالى وعن الاستماع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكانوا يقولون لأهل الحجيج: لا تصدقوا الرجل الذي يقول إنه نبي، وهذه شهادة منهم أن الآذان لو استقبلت القرآن لسحبت أفئدتهم إلى الإيمان، وهذه شهادة ضدهم وليست لهم؛ لأنهم واثقون أن سماع الحجيج لدعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ستبعدهم عن الكفر؛ لذلك كانوا يخافون من أن يتأثر الناس بهذا الدين الذي هو دين الحق فيؤمنوا به وهذا ما جعلهم يصدونهم عنه. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9] . وساء أي قبح، وليس هو قبح الآن فقط، ولكنه قبح حاليا وعظمت العقوبة عليه مستقبلاً. وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9] . يرينا دقة القرآن الكريم في أن السيىء منهم ليس عملاً واحداً ولكنه أعمال متعددة؛ قول وفعل، أي هم يصدون الناس بالكلام ويمنعونهم باستخدام القوة في بعض الأحيان. وباستخدام الحق لكلمة «يعملون» ؛ يلفتنا إلى أن أعمالهم ليست قولاً وليست فعلاً فقط، فهناك القول وهناك الفعل وكلاهما عمل؛ القول عمل اللسان، والفعل عمل الجوارح. فلو قال الحق: ساء ما كانوا يفعلون، لقلنا فعلوا ولم يقولوا. ولو قال: ساء ما كانوا يقولون، لقلنا: قالوا ولم يفعلوا. وسبحانه أوضح لنا أن القول والفعل كلاهما عمل، وقال سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] . ليبين لنا أن هناك فرقاً بين القول والفعل؛ القول أداته اللسان، والفعل أداته بقية الجوارح، والمعنى في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ساء قولهم وفعلهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4908 ويتابع المولى سبحانه وتعالى فيقول: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4909 ومن لا يرقب إلاّ ولا ذمة في غيره إنما يظلمه، فإذا كان بيني وبينك قرابة، أو عهد، أو إيمان، فإن لم تراع ذلك تكون قد اعتديت على حقوقي عندك، وليتك قد اقتصرت في الاعتداء على حقوق الغير، لكنك - أيضا - اعتديت على نفسك، لأنك أعطيتها متاعاً قليلاً في الدنيا، وتصلى في الآخرة ناراً، إذن فقد ظلمت نفسك. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] . ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] . وأليس الذي فعل فاحشة، يظلم نفسه؟ بلى، ظلمها في الآخرة بعد أن أعطاها شهوة في الدنيا، أي أنه أخذ متعة عاجلة بعذاب آجل. لكن الذي يظلم نفسه ظلما شديدا وبيِّناً هو الذي يرتكب إثما دون أن يأخذ متعة في الدنيا، فلا هو أخذ متعة دنيا ولا أخذ متعة آخرة، مثل الذي يتطوع لشهادة الزور، هو يأخذ عذاباً في الآخرة ولم يأخذ متعة في الدنيا. وقد يقول قائل: إن هذه الآية مكررة لأن الله تعالى قال من قبل: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 8] . ونقول: إن الموضوع يختلف، ففي الآية الثامنة من سورة التوبة يبين الحق أنهم إن تمكنوا من المؤمنين فلن يراعوا قرابة ولا جواراً ولا حلفاً، وإن أظهروا عكس ذلك. أما في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فهم يظلمون أنفسهم ويبيعون إيمانهم بثمن قليل، وهناك فرق بين ظلم الغير وظلم النفس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4909 وهم في صدهم عن سبيل الله تعالى وعدوانهم على المؤمنين، لم يحصلوا على فائدة دنيوية، بل حاربوا الإيمان وحاربوا الدين فأخذوا الإثم ولم يستفيدوا شيئا، فكأنهم لا يرقبون إلاّ ولا ذمة حتى مع أنفسهم. ولذلك وصفهم الحق سبحانه وتعالى بأنهم هم المعتدون، لأنهم دون أن يُعتدى عليهم تطوعوا بالعدوان على دين الله وعلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى المؤمنين ثم قاموا بالعدوان على أنفسهم. ومن بعد ذلك تأتي رحمة الله لترينا كيف أن الله تعالى رحيم بعباده وخلقه، فالحق سبحانه وتعالى يخبرنا بأنهم مهما فعلوا فإنهم إن تابوا يقبل الله توبتهم، لذلك يقول الحق جل جلاله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4910 وهذه الآية الكريمة تؤكد لنا أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وأن الباب مفتوح دائما لتوبة المشركين والكافرين مهما كانت ذنوبهم، وهكذا تكون رحمة الله تعالى. ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: {فَإِن تَابُواْ} ولم يقل إذا تابوا، لأنه لو قال: إذا تابوا تكون توبتهم مؤكدة، ولكن قوله: {فَإِن تَابُواْ} فيها شك، لأن ما فعلوه ضد الإيمان كثير، والذي نأمله فيهم قليل، ولكن التوبة تفترض أن يباشر التائب بعدها مهمته الإيمانية. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة} [التوبة: 11] . إذن فالمهمة الإيمانية بعد التوبة إنما تكون بشهادة أن «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، وبطبيعة الحال لا بد من مباشرة الصلاة لأنها تجمع كل أركان الإسلام، وهي عمل يومي، وليست عملاً مطلوباً من الإنسان مرة واحدة كالحج، وليست كالصوم، فالصوم مدته شهر واحد من السنة. إذن لكي تتأكد التوبة فلا بد أن يؤدي التائب الصلاة في وقتها كل يوم فهي العمل اليومي الذي لا يؤجل ولا يتأخر عن وقته، والصلاة قرنت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4910 غالباً بالزكاة في آيات القرآن الكريم؛ لأن الزكاة تضحية بالمال، والمال ناتج العمل، والعمل ناتج الوقت، والصلاة تضحية بالوقت، فكأن الصلاة - كما قلنا - فيها زكاة. والحق سبحانه وتعالى يقول: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11] . إنه لا بد أن نلاحظ في التفصيل هنا المراحل الإيمانية التي بينها الله عَزَّ وَجَلَّ لنا؛ المرحلة الأولى وهي تحمل الاضطهاد والصبر، والمرحلة الثانية أنه لا مهادنة بين الإيمان والكفر، وهذه حسمت محاولة الكفار تمييع قضية الإيمان بأن نعبد إلهكم فترة وتعبدون إلهنا فترة، وكانت هذه عملية مرفوضة تماماً الآن وفي المستقبل وحتى قيام الساعة. ثم جاءت مرحلة المعاهدات ثم نقض العهود ثم مهلة الأشهر الأربعة الحرم التي أعطيت للكافرين. وكل هذه مسائل مقننة، ولم تكن الأمة العربية تعرف التقنينات. إذن فكل هذه التقنينات جاءت من السماء، والتقنينات في الأمم تأخذ أدوارا طويلة، ولا يوجد قانون بشري يولد سليماً وكاملا، بل كل قانون يوضع ثم تظهر له عيوب في التطبيق، فيعدّل ويطور ويفسر ويحتاج إلى أساطين القانون الذين يقضون عمرهم كله في التعديلات والتفصيلات، فكيف ترتب هذه الأمة العربية الأمية التي لم يكن لها حظ من علم ولا ثقافة كل هذه التقنينات؟ . نقول: إنها لم ترتب، وإنما رتب لها ربها الذي أحاط بكل شيء علماً، فكل هذه المراحل التي مر بها الإيمان نزلت فيها تقنينات من السماء تبين للمؤمنين ما يجب أن يفعلوه. {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} [التوبة: 11] . ونحن عادة نعرف أخوة النسب، فهذا أخي من أبي وأمي، أو هذا أخي من الأب فقط، أو هذا من الأم فقط، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} [يوسف: 58] . هذه أخوة النسب، ونحن نعلم أن مادة الأخوة تأتي مرة لتعبر عن أخوة النسب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4911 وتأتي مرة كلمة «إخوان» لتعبر عن الأخوة في المذهب والعقيدة، وشاء الحق سبحانه وتعالى أن يرفع الإيمان إلى مرتبة النسب، فقال عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] . ليدلنا على أنهم ما داموا قد دخلوا معنا في حظيرة الإيمان فلهم علينا حق أخوة النسب فيما يوجد من تواد وتراحم، وترابط وحماية بعضهم البعض دائما، وحب ووفاق إلى آخر ما نعرفه عن حقوق الأخوة بالنسب. ولكن نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} [التوبة: 11] . ولم يقل إخوانكم، لماذا؟ . نقول: ليس من المعقول أن يخرجوا من كل ما كانوا فيه من آثام بالتوبة، ثم يصبحوا في نفس التو واللحظة إخوة، لكن ذلك يحدث عندما يتعمق إيمانهم، ويثبت صدق توبتهم حينئذ يصبحون إخوة. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11] . كيف يكون التفصيل لمن يعلم؟ . وما دام يعلم فلماذا التفصيل؟ . ونقول: إن المعنى هنا أن الله سبحانه وتعالى يفصل الآيات لمن يريدون أن يعلموا العلم الحقيقي الذي يأتي من الله، لأن هذا العلم له أثر كبير على مستقبل الإيمان، ولذلك فغير المسلمين الذين يهتمون بدراسة الدين الإسلامي دراسة جادة للبحث عن العلم الحقيقي ينتهون إلى إعلان إسلامهم، لأنهم ما داموا أهل علم وأهل مواهب وأهل طموح في فنونهم، وما دامت شهوة العلم قد غلبتهم، وأرادوا أن يدرسوا منهج الإسلام بموضوعية، لذلك تجدهم يعلنون الإسلام لأنهم ينظرون النظرة الحقيقية للدين الذي يدرسونه، وهم يأخذون الإسلام من منبعه الإيماني وهو القرآن الكريم والسنّة النبوية، ولا يأخذون الإسلام من المنسوبين للإسلام، أي من المسلمين؛ لأن المسلمين قد يكون فيهم عاص، وقد يكون فيهم سارق، وقد يكون فيهم مُرْتشٍ، وقد يكون فيهم كذاب، وقد يكون غيهم منافق، ولو أخذوا الإسلام عن المسلمين لقالوا: ما هذا؟ معصية وسرقة وكذب ورشوة ونفاق؟! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4912 إنني أقول دائماً لمن لم يدرس الإسلام من أهل البلاد الأخرى: لا تنظر إلى المنسوبين للإسلام، ولكن انظر إلى الإسلام في جوهره ومنهجه: (القرآن والسنة) ؛ هل جرم الرشوة والسرقة والكذب والنفاق وجعل لها عقوبة أو لا؟ نعم جرّمها. إذن فهذه الأفعال كلها التي وجدتها في عدد من المسلمين واستنكرتها ليست من الإسلام في شيء، ولكنك إذا ذهبت إلى الإسلام لتعرفه من منابعه العلمية وهي معزولة عن المنسوبين إليه لانتهيت إلى الإيمان. ولذلك لو عرف المسلمون الذين ينحرفون عن المنهج، ماذا يفعلون بالإسلام وكيف يسيئون إليه؛ لعلموا أنهم يفعلون شيئا خطيراً؛ لأن الإسلام منهج وسلوك، وليس منهجا نظريا فحسب، بل هو منهج عملي يطبق في الحياة، ولذلك فإذا كان القرآن الكريم يمثل قواعد المنهج، فسيرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تمثل المنهج العملي التطبيقي للإسلام. ويقول الحق سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} [الأحزاب: 21] . والمسلم حين يطبق منهج الإسلام يلفت نظر غير المسلم إلى هذا الدين ويحببه فيه، وحين يفعل ما لا يرضاه الإسلام يُنَفَرِّ غير المسلم من الدين، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] . لأن فعلك حين يختلف مع الدين الذي تدعو إليه وتؤمن به، فهو يتحول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4913 إلى حجة ضد الدين، فيقول غير المسلم: لقد رأيت المسلم يغش، ورأيته يسرق، ورأيت يده تمتد إلى الحرمات، إذن فكل منحرف عن الدين إنما يحمل فأساً يهدم بها الدين، ويكون عليه وزر عمله، ووزر من اتخذوه قدوة لهم. ولقد قلنا: إننا حين ننظر إلى التمثيل الدبلوماسي في العالم الإسلامي، نجد اثنتين وسبعين دولة إسلامية لها سفارات في معظم دول العالم، وأتساءل: كم من أفراد هذه السفارات يتمسك بالمظهر الإسلامي؟ . أقل القليل. وكم من الجاليات الإسلامية في الدول الأجنبية يتمسكون بتعاليم الدين؟ . أقل القليل. ولو أنهم تمسكوا جميعا بتعاليم الإسلام لعرفت دول العالم أن لهذا الدين قوة ومناعة تحميه. وأن هذه المناعة هي التي منعت الحضارة المادية المنحرفة من أن تؤثر في هؤلاء، ولكان لفتة قوية لشعوب العالم لكي تدرس هذا الدين، ولكنك تجدهم يذوبون ويتهافتون على الحضارة المادية للدول التي يقيمون فيها، مما يجعل شعوب هذه الدول تقول: لو كان دينهم قويا لتمسكوا به، ولم يتهافتوا على حضارتنا. وإذا درسنا تاريخ الإسلام نجد أنه لم ينتشر بالقتال أو بالسيف؛ لكنه انتشر بالأسوة الحسنة، وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11] . أي نبينها لقوم يبحثون عن العلم الحقيقي، الذي بينه الله عَزَّ وَجَلَّ في منهجه، ولذلك نجد مثلا أنه إذا وصلت أمة من الأمم إلى كشف جديد فأهل العلم في الإسلام يعرفون أنه ليس كشفا جديداً؛ لأن الإسلام ذكره منذ وقت طويل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4914 فمثلا في القانون في ألمانيا وصلوا إلى مادة في القانون سموها: «سوء استغلال الحق» فأنت لك حقوق، ولكنك قد تسيء استغلالها. وبدأت الدولة في ألمانيا تتجه نحو تشريع قوانين تهدف لمنع إساءة استغلال الحقوق ووضع شروح لهذه القوانين وتطبيقها إلى آخره، وذهب محام مسلم من بني سويف ليحصل على الدكتوراه من ألمانيا، فاطلع على هذه المسألة، وقد كان يحضر محاضرة يلقيها صاحب قانون نظرية «سوء استغلال الحق» ، فقام المحامي المسلم وقال له: أنت تقول إنَّك واضع هذه النظرية؟ . فقال المحاضر الألماني: نعم. فقال المحامي: لقد جاءت هذه النظرية منذ أربعة عشر قرناً في منهج الإسلام. وارتبك المحاضر الألماني ارتباكا شديداً، وجاء بالمستشرقين؛ ليناقشوا هذا المحامي المسلم، وجاءوا بكتب السيرة النبوية، وأخرج المحامي للمستشرقين قصة من سيرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تقول: إن رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان جالسا فجاءه صحابي يشكو من أن أحد الصحابة له نخلة في بيته، والبيت مملوك للصحابي الشاكي، والنخلة مملوكة لصاحبي آخر، وقد تعوَّد أن يأتي الصحابي صاحب النخلة إليها كثيراً ليشذبها ويلقحها ويطمئن عليها، وكأنه قد جعلها «مسمار جحا» كما يقول المثل الشعبي، فتعرضت عورة أسرة الصحابي صاحب البيت إلى الحرج، فذهب يشكو الأمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأحضر الرسول صاحب النخلة وأوضح له بما معناه: «إما أن تهب النخلة لصاحب البيت، وإما أن تبيعها له بالمال، أو أن تقطعها» . لقد أوضح له الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أن النخلة حقك ولكنك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4915 أسأت استعمال الحق بكثرة ذهابك إلى مكانها بسبب وبغير سبب، مما عرَّض عورة صاحب البيت للمتاعب. وكان هذا الفعل هو المثل الحي لسوء استغلال الحق. وكان من أمانة العلم أن يعدل أستاذ القانون الألماني في محاضرته ويقول: لقد ظننت أنني قد جئت بشيء جديد، ولكن الإسلام سبقني إليه منذ أربعة عشر قرنا. وفعلا تم التعديل. واعترف القانون الألماني بأن الإسلام قد سبقه في نظرية «سوء استغلال الحق» منذ ألف وأربعمائة سنة. ولذلك تجد أن صفة الأمية في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي أمته، كانت شهادة تفوق؛ لأنها لم تأخذ علمها بالقراءة عن حضارات الأمم السابقة، وإنما أخذته عن الله؛ لأن أقصى ما يصل إليه غير الأميين في علمهم أن يجيء إليهم العلم من بعضهم البعض، ولكن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء لها العلم من الله، وسادت الدنيا أكثر من ألف عام. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4916 ونكثوا الأَيمان: أي لم ينفذوا بنود العهود، والله سبحانه وتعالى يعطينا هنا حيثية قتال الكفار بعد كل المراحل التي حاربوا فيها الإيمان، فهم قد نقضوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4916 العهود، ولم يكتفوا بذلك بل طعنوا في الدين. أي عابوا في الدين عيباً مقذعا. وعندما يقال: إنَّ فلاناً طعن في فلان، فلا بد أنه قد تجاوز مرحلة السب إلى مرحلة أكبر بكثير. وهنا يأمرنا الحق - سبحانه وتعالى - إما بقتالهم، وإما أن يعلنوا الإيمان. وهذا حق للمسلمين لأنهم قدموا من قبل كل سبل المودة، لكن أئمة الكفر رفضوها. وقول الحق سبحانه وتعالى: {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} ، أي: أن القتل يأتي أولاً لزعماء الكفار الذين يحرضون أتباعهم على محاربة دين الله، فالأتباع ليسو هم الأصل، ولكن أئمة الكفر؛ لأنهم هم الذين يخططون وينفذون ويحرضون. وهم - كما يقال في العصر الحديث - مجرمو حرب؛ والعالم كله يعرف أن الحرب تنتهي متى تخلص من مجرمي الحرب؛ لأن هؤلاء هم الذين يضعون الخطط ويديرون المعارك ويقودون الناس إلى ميادين القتال، تماماً كأئمة الكفر، هؤلاء الذين اجترأوا على أساليب القرآن الكريم، ومنعوا القبائل التي تأتي للحج من الاستماع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحاربوا الدين بكل السبل من إغراء وتحريض، وتهديد ووعيد. والأمر العجيب أنك ترى من يبرر لك قتل مجرمي الحرب ويستنكر قتل أئمة الكفر، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة: 12] . ويقول الحق عَزَّ وَجَلَّ في ذات الآية: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12] . وفي هذا يأتي المستشرقون ومن يميلون إليهم بقلوبهم ويُحسَبون علينا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4917 بقوالبهم وظواهرهم ليقولوا: إن هناك تناقضاً، فالله يقول: {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم} أي أثبت أن لهم أيماناً، ثم قال: {لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} . فكيف يثبت لهم الأيمان ثم ينفيها عنهم؟ . والنفي والإثبات لا يجتمعان في وصف الشخص الواحد؛ ونقول: إنهما لا يجتمعان عند من يفكر تفكيرا سطحيا، أو يأخذ الأمور بظواهرها. ولكن من يعرف مرامي الألفاظ، يعلم أن نفي الشيء وإثباته في القرآن الكريم يعني: أن الجهة منفكة. فالله سبحانه وتعالى يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزوة بدر: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] . فقوله: {وَمَا رَمَيْتَ} نفي للرمي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، و {إِذْ رَمَيْتَ} إثبات للرمي. ويجيء نفي الشيء وإثباته في آية واحدة، والفاعل والفعل واحد. وهذه تسمى في الأسلوب انفكاك الجهة، أي أن كل جهة تطلب معنى مختلفاً عن الجهة الأخرى، تماماً مثلما يقال: إن فلاناً يسكن أعلى مني. فهذا قول صحيح، ولكنه في ذات الوقت يسكن أسفل بالنسبة لمن فوقه، إذن فهو عالٍ وأسفل في نفس الوقت؛ عالٍ عمن تحته وأسفل ممن فوقه. أو تقول: - كمثال آخر - فلان أب وابن. هنا يبدو تناقض ظاهري، أي أنه أب لا بنه، وابن لأبيه، فهو أب من جهة الابن، وابن من جهة أبيه، ولا يوجد تعارض. وهذا ما نسميه انفكاك الجهة. إذن فلا يوجد أدنى تعارض بين نفي الرمي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإثباته له؛ لأن رسول الله أخذ حفنة من الحصى ورمى بها جيش الكفار، هذا ما فعله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو من البشر، لكن قدرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4918 الله سبحانه وتعالى أخذت هذا الحصى وأوصلته إلى كل جندي من جيش الكفار، وفي قول الحق سبحانه وتعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياوة الدنيا} [الروم: 6 - 7] . لقد قالوا: إن الله نفى العلم وأثبته لنفس الأشخاص، ونقول: لا، إنه نفى العلم الحقيقي، وأثبت لهم ظاهر العلم، وهذا مختلف عن ذلك تماماً، وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم} [التوبة: 12] . أثبتت الآية أن لهم أيماناً، وفي آخر الآية ينفي عنهم الأيمان فيقول: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12] . ونقول: فائدة الأيمان أو العهد أن يُحافظ عليه، ومن لا يحافظ على يمينه أو عهده يكون لا أيمان له؛ لأن أيمانه أي عهده لا قيمة له؛ لأنه مجرد من الوفاء. وعندما يحلف الكذاب نقول: هذا لا يمين له. وهؤلاء أيمانهم لم تأخذ قداسة الأيمان، فكأنهم لا أيمان لهم، كأن يكون لك ابن اقترب امتحانه وتجبره على المذاكرة، وتجلس تراقبه فيقلب الكتاب ولكنه لا يفهم شيئاً. وإن حاولت أن تحسب حصيلة المذاكرة لم تجد شيئا، فتقول: ذاكرت وما ذاكرت، وهذا نفي للفعل وإثباته ولا تناقض بينهما: لأن الجهة منفكة. ونفي الأيمان في آخر الآية معناه: أنهم لا وفاء لهم، وما داموا بلا وفاء فلا قيمة لأيمانهم. وقوله تعالى: {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة: 12] . هذا أمر بقتالهم لا بقتلهم، فيكون المعنى: قاتلوهم، فإن لم يقتلوا فقد يجعلهم القتال ينتهون عن عدائهم للدين؛ لأنهم حين يرون البعض منهم قد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4919 قتل وهم أضعف من المواجهة، هنا ستخف حدة محاربتهم للإسلام، وتنتهي اللجاجة في أمر الدين. ثم يقول الحق من بعد ذلك: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4920 في هذه الآية الكريمة يحض المولى سبحانه وتعالى على جهاد، وقتال أئمة الكفر، وعدم تركهم يستشرون في حربهم للدين، ومنع الناس عن الإيمان، وصدهم عن سبيل الله. و «أَلاَ» تسمى أداة تحضيض، مثل قولنا: ألا تذهب إلى فلان، وهي حث على الفعل؛ لأن التحضيض نوع من أنواع الطلب. وقوله تعالى: {نكثوا أَيْمَانَهُمْ} أي نقضوا عهودهم، وقوله تعالى: {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} أي: هم الذين بدأوا بالعداوة ومحاولة إخراج الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة، وَ {هَمُّواْ} ، أي عقدوا النية على العمل، وقوله تعالى: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: أنهم هم الذين بدأوا بعداوة المسلمين والصد عن الإسلام من أول أن بدأ يدعو إليه سيد الخلق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والبدء هو: العمل الأول، و «المرة» هو فعل لا يتكرر؛ لأنه إن تكرر نقول: {مَرَّتَيْنِ} ، مثل قول الحق سبحانه: {الطلاق مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . هم إذن الذين بدأوا الفعل الأول بالعداوة. والإسلام - كما نعلم - قد واجه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4920 قوتين في مرحلتين مختلفتين من مراحل الدعوة للإسلام: قوة المشركين من قريش، وقوة اليهود، وأما قريش فقد هموا بأن يخرجوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة، وقد يقول قائل: لكن المؤمنين هم الذين بدأوا القتال في بدر. وأقول: لم يذهب المسلمون إلى بدر للقتال، بل ذهبوا من أجل العير تعويضا عن مالهم الذي تركوه في مكة، ولكن الكفار قالوا: لن نرجع حتى نستأصل محمداً ومن معه، وجاءوا بالنفير ليقاتلوا في بدر. إذن فعلى الرغم من سلامة العير بحيلة من أبي سفيان إلا أن قريشا هي التي أرادت القتال فجمعوا الجند والفرسان؛ ليقاتلوا المسلمين. وكذلك فعل اليهود، فقد نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول من المدينة. كما حاول المشركون إخراجه من مكة، وكان بينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبين اليهود معاهدة، وهذه المعاهدة كانت من أوائل أعمال رسول الله في المدينة، فهل حافظ اليهود على هذه العهود؟ . لا، فقد تعهدوا ألا يعينوا عدوا عليه، ونكثوا أيمانهم ونقضوا العهد فأعانوا قريشا على المسلمين. وكذلك فعل بنو النضير، فقد أرادوا اغتياله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وذلك بإلقاء صخرة عليه، بل وتمادى اليهود في غزوة الأحزاب وأعانوا قريشا ضد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، واتفقوا معهم على أن يدخلوهم من أرضهم بالمدينة ليفاجئوا رسول الله وجيش المسلمين من الخلف. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} لها أكثر من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4921 حيثية، ونقضهم العهود وبدْؤُهم القتال يجعلكم تقاتلونهم؛ لتأمنوا شرهم. {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13] . وقوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ} حث على القتال، أي: ما الذي يمنعكم من قتالهم إلا أن تكونوا خائفين منهم، ولذلك يقول تبارك وتعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} [التوبة: 13] . وهنا يلفت الحق سبحانه نظر المؤمنين إلى أنهم إن كانوا أمام حالين، خشية من البشر وإيذائهم، وخشية من الله، فالأحق بالخشية هو الأشد والأعظم والأدوم عقاباً. ولأنكم إذا ما قارنتم قوة هؤلاء بقوة الله، فالله أحق بالخشية قطعاً. وإذا كنت بين اختيارين فأنت تقدم على أخف الضررين، فكيف يخاف المؤمنون ما يمكن أن يصيبهم على أيدي الكفار؟ ولا يخشون ما يصيبهم من الله. وأوضح الله سبحانه وتعالى أنه لا خشية من الكفار في آية أخرى من ذات السورة، هي قوله سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52] . وهكذا أزال الحق سبحانه وتعالى الخوف من نفوس المؤمنين، فماذا سيحدث لكم من جنود الكفر؟ إما أن تستشهدوا فتدخلوا الجنة وإما أن تنتصروا. وقوله تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} استفهام استنكاري معناه: ما كان يصح أبدا أن تخشوهم وتخافوهم؛ لأنهم لو كانوا أقوى منكم وتغلبوا عليكم فزتم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4922 بالشهادة، ولو كانوا أضعف منكم وتغلبتم عليهم فزتم بالنصر. وكلاهما أمر جميل مُحبَّب لنفوس المؤمنين بالله يحدث تثبيتا لقلوبهم وأقدامهم في مواقف القتال والنزال. ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بالحكم النهائي فيقول: {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} [التوبة: 13] . أي: راجعوا إيمانكم، فإن كنتم مؤمنين بالله فأنتم راغبون في الشهادة. وإن كنتم مؤمنين بالله القادر القوي القهار فأنتم تعرفون الله وقدرته وقوته، وهي لا تقارن بالقوة البشرية. فإما أن تنتصروا عليهم فتكون لكم فرحة النصر، وإما الاستشهاد وبلوغ الجنة، وكلتا النتيجتين خير، أما ما يصيب الكفار فهو ينحصر في أمرين: إما أن يصيبهم الله بعذاب بأيدكم، وإما أن يصيبهم بعذاب من عنده. إذن ففي أي معركة يدخلها الإيمان مع الكفر، نجد أن الجانب الفائز هم المؤمنون، سواء استشهدوا أم انتصروا. والخاسر في أي حال هم الكفار؛ لأنهم إما أن يعذبوا بأيدي المؤمنين، وإما أن يأتيهم عذاب من الله تعالى في الدنيا أو في الآخرة. وهكذا وضع الله المقاييس التي تنزع الخشية من نفوس المؤمنين في قتالهم مع الكفار، فلا تولوهم الأدبار أبدا في أي معركة؛ لأنه مهما كبرت قوة الكفار المادية، فقوة الحق تبارك وتعالى أكبر. ويقول المولى سبحانه: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] . وهكذا لا يحسب حساب للفارق في القوة المادية، فهذه خشية لا محل لها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4923 في قلوب المؤمنين في جانب الإيمان؛ لأن الله مع الذين آمنوا. ثم يؤكد الحق سبحانه وتعالى حثه للمؤمنين على القتال فيقول: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4924 وقوله تعالى: {فقاتلوا} في الآية السابقة كانت حثا للمؤمنين على القتال، و {قَاتِلُوهُمْ} الثانية التي في هذه الآية؛ للتحريض والترغيب في القتال، وأمر إيماني للمؤمنين بأن يقاتلوا الكفار. ثم يأتي المولى سبحانه وتعالى في هذه الآية بالحكمة من الأمر بالقتال فيقول: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} ونتساءل: إذا كان الله يريد أن يعذبهم فلماذا لا يأتي بآية من عنده تخضعهم للعذاب؟ نقول: لو انتصر المؤمنون بحدث كوني غير القتال لقال الكفار: حدث كوني هو الذي نصرهم. ويشاء الله سبحانه وتعالى أن ينهزم هؤلاء الكفار بأيدي المؤمنين؛ لأن الكفار ماديون لا يؤمنون إلا بالأمر المادي، ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله لانتهت المسألة، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يُرِيَ الكفار بأس المؤمنين لتمتلىء قلوبهم هيبة وخوفاً من المؤمنين، ويحسبوا لهم ألف حساب، فلا تحدثهم أنفسهم بأن يجترئوا على الإيمان وعلى الدين أو أن يستهينوا بالمؤمنين. ولقائل أن يقول: إن الحق هنا يأمر فيقول: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4924 وفي آية أخرى يقول: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . فكيف يثبت الله العذاب وينفيه؟ . ونقول: لقد نزلت الآيتان في الكفار. وسبحانه وتعالى يقول: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} ولو قال: قاتلوهم تعذبوهم بأيديكم لاختلف المعنى، ولكن الآيتين تثبت إحداهما العذاب والأخرى تنفيه، ونقول: إن الجهة منفكة، فقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} أي: لا ينزل الله تعالى عليهم عذابا من السماء ما دمت فيهم، وقد وضح هذا في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 32 - 33] . فقد سبق أن طلب الكفار عذابا من السماء ينزل عليهم إن كان القرآن هو الحق؛ فرد الحق سبحانه وتعالى بأنه لا يعذبهم ما دام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيهم؛ لأنه أرسله رحمة للعالمين. ولكن عدم تدخل السماء بالعذاب بعد بعث رسول الله بالرسالة، لا يعني أن العذاب قد انتهى بالنسبة للكفار. وائتمن سبحانه المؤمنين على نصرة منهجه ودينه وهو معهم. ولكن العذاب يتم بالأسباب الأرضية، ولا يوجد تناقض. لأن العذاب من السماء قد يكون استئصالا لكل الكافرين؛ صغارا وكبارا، كأن يغرقهم الطوفان، أو تأتي الصيحة فتبيدهم عن آخرهم، أو تجيئهم ريح صرصر عاتية تدمرهم، أو تصيبهم الرجفة فتجمدهم، وفي كل هذه الحالات لا يبقى أحد من الكفار، ولكن القتال البشري لا يقضي على الكفار نهائيا، فالإسلام يمنعنا من قتال النساء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4925 والصبيان، ومن قتال الذين لم يقاتلونا. إذن فالعذاب بعد رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس عذاب استئصال وإبادة كما كان في الأمم السابقة. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد عذَّب الأمم السابقة بتلك الوسائل، فكان على الرسول من السابقين على رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يبلغ الرسالة، وإن لم يؤمن قومه برسالته تتدخل السماء ضدهم بألوان العذاب السابقة. ولكن الحق تبارك وتعالى أمر محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمته من بعده أن تدعو لدين الله، وتؤدب من يختصم الإيمان، ويدخل في عداوة مع المؤمنين فمنهم من يفر أو يقع في الأسر ويبقى الطفل والمرأة دون تعذيب. {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} [التوبة: 14] . وما الفرق بين العذاب والخزي؟ نقول: قد نجد واحدا له كِبْرٌ وجَلَدٌ، وإن أصابه العذاب فهو يتحمله ولا يظهر الفزع أو الخوف أو الضعف، ويمنعه كبرياؤه الذاتي من أن يتأوه، ولمثل ذلك هناك عذاب آخر هو الخزي، والخزي أقسى على النفس من العذاب؛ لأن معناه الفضيحة، كأن يكون هناك إنسان له مهابة في الحي الذي يسكن فيه، مثل فتوة الحي، ثم يأتي شاب ويدخل معه في مشاجرة أمام الناس ويلقيه على الأرض، هذا الإلقاء لا يعذبه ولا يؤلمه، وإنما يخزيه ويفضحه أمام الناس، بحيث لا يستطيع أن يرفع رأسه بين الناس مرة أخرى، والخزي هنا أشد إيلاما لنفسه من العذاب. ولا يريد سبحانه أن يعذب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4926 الكفار بأيدي المؤمنين فقط، بل يريد لهم الافتضاح أيضا، بحيث لا يستطيعون أن يرفعوا رءوسم. وجاء الحق سبحانه وتعالى بنتيجة ثالثة لهذا القتال فقال: {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14] . وعلى هذا فعندما يقاتل المؤمنون الكفار يصيب الكفارَ العذاب والخزي والهزيمة. إذن {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} مرحلة، {وَيُخْزِهِمْ} ، مرحلة ثانية {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} مرحلة ثالثة، ثم تأتي المرحلة الرابعة: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] . أي: أن النصر الذي سيحققه المؤمنون بعون الله تعالى في قتالهم مع الكفار سيشفي صدور المؤمنين الذين استذلهم الكفار واعتدوا عليهم، فكأن هذا النصر يشفي الداء، الذي ملأ صدور أولئك المؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، أي: يخرج الغيظ والانفعال المحبوس في الصدور، فكأن قتال المؤمنين للكفار لا يحقق فقط العذاب والخزي للكفار والنصر للمؤمنين عليهم، ولكنه يعالج - أيضا - قلوب المؤمنين التي ملأها الألم والغيظ من سابق اعتداء الكفار عليهم ومحاولتهم إذلالهم وأخذ حقوقهم. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4927 وهكذا يرى الذين غدروا بالعهد وتعاونوا ضد أنصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يرون انتقام الله تعالى لهم، فتشفي صدور المؤمنين ويذهب منها الغيظ. والشفاء - كما نعلم - إنما يكون من داء، والدواء ضرورة للشفاء، وكأن انتقام الله عَزَّ وَجَلَّ فيه شفاء لصدور المؤمنين من كفار قريش الذين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4927 أعانوا أبناء بكر على أبناء خزاعة حلفاء سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيعذبهم الله بأيديكم، وينصركم عليهم، ويخزيهم سبحانه وتعالى. ونلمس أنه - سبحانه وتعالى - رغم تعذيبه لهم، وتشديد النكير عليهم، إلا أنه يفتح باباً للتوبة، وهي مسألة لا يقدر عليها إلا رب حكيم؛ لأن الكل عبيد له؛ مؤمنهم وكافرهم، هو خالقهم، وسبحانه يغار على صنعته، فبعد أن يشتد عليهم بالعذاب والخزي، ويشفي بهذا صدور القوم المؤمنين، بعد ذلك يفتح باب التوبة، وبهذا يعطي المؤمنين قوة سماحة إيمانية، فلا يصطحبوا التعالي على هؤلاء إن جاءوا تائبين مؤمنين فيقول سبحانه وتعالى: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 15] . أي: أنه سبحانه يعلم كل متطلبات الأحكام، ولكل أمر عنده حكمة، فالقتال أراده الله عَزَّ وَجَلَّ لِيدُكَّ به جبروتهم، والتوبة حكمتها لمنع تمادي الكفار وطغيانهم في الشر؛ لأن مشروعية التوبة هي رحمة من الحق سبحانه وتعالى بخلقه، ولو لم يشرع الله التوبة لقال كل من يرتكب المعصية: ما دامت لا توجد توبة، وما دام مصيري إلى النار، فلآخذ من الدنيا ما أستطيع، وبذلك يتمادى في الظلم ويزيد في الفساد والإفساد؛ لأنه يرى أن مصيره واحد ما دامت لا توجد توبة، ولكن تشريع التوبة يجعل الظالم لا يتمادى في ظلمه، وبهذا يحمي الله المجتمع من شروره، ويجعل في نفسه الأمل في قبول الله لتوبته والطمع في أن يغفر له؛ فيتجه إلى العمل الصالح عَلَّهُ يُكفِّر عما ارتكبه من الذنوب والمعاصي؛ وفي هذا حماية للناس ومنع لانتشار الظلم والفساد. إذن فالقتال له حكمة، والتعذيب له حكمة، والخزي له حكمة، والتوبة لها حكمة، وسبحانه وتعالى حين يعاقب، إنما يعاقب عن حكمة، وحين يقبل التوبة فهو يقبلها عن حكمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4928 ثم يقول الحق عَزَّ وَجَلَّ بعد ذلك: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4929 ساعة تسمع «أم» فاعلم أنها إضرابية، أي: ما كان الله سبحانه ليترككم حتى يعلم - علم الواقع - من منكم يؤمن إيمانا يؤهله للجهاد في سبيل الله؛ فإن ظننتم أن الله تارككم بدون ابتلاء وبدون أن يختبركم ويمحصكم، فيجب أن تعرضوا عن ذلك وتفهموا ما يقابله. إذن فالابتلاء أمر ضروري لمن أراد الله تعالى له أن يتحمل أمر الدعوة ليواجه شراسة التحلل والفساد، لذلك يُصفِّي الله من آمنوا حتى يقف كل واحد منهم موقف الانتماء إلى الله مضحيا في سبيل الله. وساعة يقول الحق عَزَّ وَجَلَّ في شيء كلمة {وَلَمَّا يَعْلَمِ} فليس معنى ذلك أنه لم يعلم وسيعلم، لا، فسبحانه يعلم كل شيء أزلا، ولكن العلم الأزلي لا يكون حجة على البشر. ودائماً أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نجد عميد إحدى الكليات أحيانا يعلن عن جائزة علمية يريد أن يعطيها للمتفوقين؛ فيقول له المدرس الذي يشرف على تحصيل التلاميذ: إن فلاناً هو الأول وهو يستحق الجائزة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4929 فيقول العميد: ولكني أريد أن تعقد امتحاناً؛ ليكون حجة على غير المتفوقين؛ وهذا هو علم الواقع العملي الذي أراده الحق عَزَّ وَجَلَّ من الابتلاء، وسبحانه وتعالى يعلم كل شيء أزلا، ولكن العلم الواقعي هو حجة على المخالفين. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} [التوبة: 16] . أي بدون ابتلاء أو تمحيص. وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} [التوبة: 16] . «ولمَّا» للنفي، ومثلها مثل قولنا: «لما يأت» أي: أنه لم يتحقق المجيء حتى الآن، وتختلف «لما» عن «لم» ، ف «لم» لا تؤذن بتوقع ثبوت ما بعدها، فما يأتي بعدها لن يتحقق أبدا، أما «لما» فتؤذن بتوقع ثبوت ما بعدها، أي أن ما بعدها. . لم يتحقق إلى لحظة نطقها، ولكنه قد يتحقق بعد ذلك. فإن قلت: «لما يثمر بستاننا» أي: أن البستان الذي تملكه لم يثمر، ولكنه قد يثمر بعد ذلك. وسبحانه وتعالى يقول: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] . ومعنى القول الكريم: أن الإيمان لم يدخل في قلوبهم إلى الآن، ولكنه سوف يدخل بعد ذلك، وهذه بشارة لهم. فقد قالت الأعراب: «آمنا» فأوضح الحق سبحانه وتعالى: بل أسلمتم ولم يدخل الإيمان قلوبكم؛ لأن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، والإسلام انقياد لما يتطلبه إيمان القلب من سلوك، أي: أنتم قد سلكتم سلوك الإسلام، ولكنه سلوك سطحي لم يأت من ينابيع القلب. وقول الحق هنا: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} [التوبة: 16] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4930 لا يعني أن علمه متصل بوقت الكلام، فعلم الله تعالى موصول أزلي وسبحانه مُنزَّهٌ عن الأغيار. إذن فالعلم المراد هنا هو علم الواقع الذي سوف يكون حجة عليكم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو لم يختبركم لقلتم: لو أمرتنا يا رب بالقتال لقاتلنا، ولو أمرتنا بالصبر في الحرب لصبرنا، وَلَكُنَّا أكبر المجاهدين. ولذلك جاءت الابتلاءات كتجربة عملية، ومن هذه الابتلاءات مواجهة العدو في حرب، فمن هرب ثبت له التقصير في المواجهة، ومن لم يصبر على الابتلاءات، عرف تقص إيمانه وأصبح ذلك علما واقعا. {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} [التوبة: 16] . إذن فالله يريد بعلم الواقع التمييز بين صدق الجهاد وبين الفرار منه، وأن يكون هناك سلوك إيماني واضح؛ يبين أن هؤلاء القوم لم يتخذوا من دون الله ولا رسوله وليجة، و «الوليجة» من فعلية، بمعنى فاعل، و «والجة» يعني «داخلة» . {ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} [الحج: 61] . أي: يُدخْل الليل على النهار ويُدخل النهار على الليل، والمراد ب «الوليجة» الشيء الذي يدخل في شيء ليس منه، وهي من الكلمات التي تطلق ويستوي فيها المفرد المذكر والمؤنث، والمثنى والمثناة وجمع المذكر وجمع المؤنث، وتقول: «امرأة وليجة» و «رجال وليجة» . كما تقول: «رجل عدل» و «امرأة عدل» ، و «رجلان عدل» ، «امرأتان عدل» ، و «رجال عدل» و «نساء عدل» ، لا تختلف في كل هذه الحالات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4931 والمراد بالوليجة هنا بطانة السوء التي تدخل على المؤمنين الضعاف، وتتخلل نفوسهم ليفشوا أسرار المؤمنين ويبلغوها للكفار. ولذلك شاء الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ} أي: أن يعلم سبحانه علما واقعيا من جاهدوا، ولم يتخذوا بطانة سوء من الكفار يدخلونهم في شئونهم دخولا يكتشفون أسرارهم. {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} [التوبة: 16] . فالممنوع هنا - إذن - أن يتخذ المؤمنون الكفار وليجة؛ لأن الكافر من هؤلاء سيأخذ أسرارهم ويفشيها لعدوهم. وبذلك يتعرض المؤمنون للخطر. وعلى المؤمن أن يجعل الله عَزَّ وَجَلَّ هو وليجته، وأن يجعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو وليجته، وأن يجعل المؤمنين هم وليجته، ويسمح لهم أن يتداخلوا معه، وهم مأمونون على ما يعرفونه من بواطن الأمور، أما الأعداء والخصوم من الكفار فهم غير مأمونون على شيء من أسرار المؤمنين. ويذيل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 16] . والمعنى: إن كنتم تحسبون أنكم تتداخلون مع الكفار وتعطونهم أسرار المؤمنين ولا أحد يعرف، فاعلموا أن الله تعالى يسمع ويرى، وأن الله خبير لا تخفى عليه خافية، فلا تخدعوا أنفسكم وتحسبوا أنكم إن أخفيتم شيئا عن عيون الخلق قد يخفى على الله أبدا؛ فلن يخفى شيء عن عيون الخالق؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4932 لأنكم إن عمَّيتُم على قضاء الأرض، فلن تُعمُّوا على قضاء السماء. وينقلنا الحق سبحانه وتعالى إلى قضية أخرى في قوله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4933 وكأن هذه الآية قد جاءت حيثية للبراءة التي حَمَّلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ليعلنها يوم الحج الأكبر؛ لأن البراءة هي القطيعة، ومعناها ألاَّ يدخل المسجد مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فكأن البراءة من الله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله من المشركين مَنْعٌ لهم من دخول المسجد الحرام، وكان عدد من المشركين قد جعلوا من المسجد الحرام منتدى لهم، وكانوا يجلسون فيه للتسامر والتجارة ولغير ذلك، كما كانوا يقومون بسقي الحجيج من شراب الزبيب الذي لم يختمر؛ ومعهم حجاب البيت، ويطعمون زوار بيت الله الحرام. كل ذلك كان يحدث في مكة من الكفار ولكن هذا انتهى بالبراءة التي أعلنها علي بن أبي طالب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ الذي أوحى إليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4933 ربه بأن يفعل ذلك، ولم يعد للمشركين حق في {أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} . والعبارة لها معنيان؛ المعنى الأول هو الجلوس في هذه المساجد بحيث تكون عامرة بزوارها، والمعنى الثاني هو المحافظة على بناية المسجد ونظافته وإصلاحه. وقد منع الله المشركين من كلا النوعين من العمارة. والكلام هنا عن المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] . نقول: إنَّ المسجد الحرام هو مكان تتجه إليه كل اتجاهات الناس في كل بقاع الأرض حين يقيمون الصلاة لأن كل مكان يسجد فيه إنسان مسلم يسمى مسجدا، وبتعدد الساجدين، يعتبر المسجد الحرام مساجد، أو لأن جهات السجود تتعدى في المسجد الحرام؛ فواحد يسجد شمال الكعبة، وآخر جنوب الكعبة وثالث شرق الكعبة، ورابع غرب الكعبة؛ هذا في الجهات الأصلية، وهناك الجهات الفرعية؛ فهناك أناس يتجهون شمال شرق، وأناس يتجهون جنوب شرق، وغيرهم يتجه جنوب غرب، وتتعدد الجهات الفرعية في الاتجاه إلى الكعبة؛ إذن فكل جهة متجهة هي مسجد وهناك ممن لا يرون الكعبة في بقاع الأرض يتجهون إليها. وحين تسمع قول الحق سبحانه وتعالى يقول: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17] . نلحظ أنَّ «كان» هنا جاءت منفية ومنها نفهم المعنى: ليس مقبولا في عرف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4934 العقل أو المنطق أو الدين أن يقرب الكفار المسجد، ولا أن يرعى مشرك المسجد أو يصونه؛ لأن المسجد للعبادة، والعبادة تقتضي معبودا هو الله سبحانه وتعالى، والكفار يشركون بالله، فمن المنطق - إذن - ألا يكون لهم دخل بالمساجد، إذن فمنعهم من المسجد إقامة وعمارة وزيارة هو شيء منطقي بشهادتهم على أنفسهم بالكفر، وهي سبب منعهم من الاقتراب من مساجد الله. والشهادة إما أن تكون شهادة قول؛ وإما أن تكون شهادة حال، أما شهادة القول فذلك لأنهم كانوا يقولون لليهودي: على أي دين أنت؟ فيرد بديانته، وكذلك القول للنصراني، وحين يسأل المشرك؛ فهو يقر بشركه، هذه هي شهادة القول. أما شهادة الحال فهي أنهم يسجدون للأصنام ويعبدونها من دون الله. فكيف يكون الإنسان مشركا ثم لا نقول له: ليس لك علاقة بالمسجد؛ ارفع يدك عنه؟ وما أغنى الإسلام عن أن يبني له مشرك مسجدا أو يعمر كافر بيتا من بيوت الله وما أغنى الله أن يزوره في بيته من هو غير مؤمن به سبحانه. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] . وهم قد نسوا الشهادة الأولى بالحق حينما أشهدهم الله سبحانه وتعالى على أنفسهم، فالحق سبحانه هو القائل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172 - 173] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4935 هم إذن قد أقروا لحظة الخلق الأولى بوحدانية الله وعاهدوا الله تعالى على ذلك، لكنهم كفروا بتلك الشهادة وأشركوا به سبحانه ووضعوا في بيت الله الحرام أصناما. وادعوا الكذب وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] . وهذا هو الإشراك بعينه، وهذه هي شهادتهم على أنفسهم بالكفر. {أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] . والمسجد - كما نعلم - هو المكان الذي نسجد فيه، وكل بقعة في الأرض بالنسبة للمسلمين تصلح للسجود وتعتبر مسجدا، وهذا مما خص به الله تعالى أمة الإسلام، ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فَلْيُصَل، وأُحلَّتْ لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» . فهذا الحديث يبين أن مما خص الله به الأمة المحمدية أن جعل لها كل بقاع الأرض صالحة لأداء الصلاة فيها، كما جعل لها الأرض أيضا طهوراً، ويكفي المسلم أن يتيمم من الأرض ويصلي عليها، ولكنْ هناك فارق بين مكان يصلح لك أن تصلي فيه، وأن تباشر نشاط حياتك، وبين مكان مخصص للعبادة، فالحق الذي تزرع فيه، لك أن تصلي فيه وتزرع، والمصنع لك أن تصلي فيه، ولك أن تصنع، وكذلك المدرسة لك أن تتعلم فيها، ولك أن تصلي فيها، وهذه كلها مساجد بالمعنى العام، وهي أماكن سجود لله تعالى، لكن كلمة «مسجد» إذا أطلقت انصرفت إلى الحيز المحدود من المكان الذي أخرج من نشاطات الحياة كلها، وخُصّ بأن يكون للصلاة والسجود فقط، فإذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4936 حيزت مكاناً بخط أبيض من الجير، أو حيزته بسلك وقلت: هذا مسجد، فلا يزاول فيه نشاط إلاَّ الصلاة، هذا هو المسجد الاصطلاحي الشرعي. وكل بيت لله بنيته في أي مكان يسمى مسجدا، وقبلة المساجد المنتشرة في بقاع الأرض هي المسجد الحرام؛ فهي أماكن حيزت للمسجدية، أو للعبادة، أو للصلاة وليست لغير ذلك من حركات الحياة، ولكن تحييز المكان كان باختيار البشر. وقبلته المسجد الحرام وهو المسجد الجامع الأكبر باختيار الله تعالى، والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] . ولأن هذا البيت الحرام هو باختيار الله، وموضوع للناس. فلنا أن نسأل: هل الناس هم الذين وضعوه؟ لا، بل وضعه غير الناس، لأن تعريف الناس هم آدم وذريته، ولا بد إذن أنه موضوع قبل آدم، وبمنطق القرآن الكريم وجد البيت من قبل آدم، وإذا تعمقنا قليلا، نجد أن هذا البيت الحرام هو {هُدًى لِّلْعَالَمِينَ} ومن العالمين الملائكة. وهكذا نرى أن قول بعض القوم: إن إبراهيم هو الذي حدد مكان وقواعد البيت، قول لا يثبت صدقه، لأن البيت هو المكان لا المكين، فالبيت ليس هو الحجر أو المبنى، وهو ما نسميه الكعبة، فالكعبة هي «المكين» أما البيت فهو المكان الذي أقيمت فيه الكعبة؛ لأنه إن جاء سيل وأزال الكعبة، جعلها أرضاً مسطحة فأين نصلي؟ نصلي إلى اتجاه المكان، فالسيل يُذْهِبُ المكين لكن المكان باق. وعندما جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام كان أثر البيت ضائعا، وأمره ربنا أن يرفع البيت، ولم يقل له: حدد المكان، بل أمره أن يبني البعد الثالث؛ لأن كل حيز له بعدان؛ الطول والعرض، وإن كان دائرة فله المحيط، وإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4937 كان مثلثا يكون من ثلاثة أضلاع. لكن الارتفاع يدخل بالشيء إلى الحجم، وقد رفع الخليل إبراهيم القواعد من البيت. بعد أن حدد المولى سبحانه وتعالى له المكان وأظهره له: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127] . فكأن البيت مخصص قبل الرفع، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن مجيء هاجر وابنها إسماعيل الرضيع، وإسكان إبراهيم عليه السلام لهما في هذا المكان قال: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} [إبراهيم: 37] . وقد رفع إبراهيم عليه السلام القواعد وساعده ابنه إسماعيل بعد أن كبر واشتد عوده، ولكن ساعة أن أسكنه وأمه بجانب البيت كان طفلا صغيرا. إذن فالبيتية والمكانية موجودة، ولكن إبراهيم أقام المكين وهو البعد الثالث أي الارتفاع. ويقول الحق سبحانه وتعالى أيضا: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26] . أي أظهرنا وحددنا المكان، وهو الذي سيبني فيه سيدنا إبراهيم بالأحجار ليبرز البيت، فالبيت - إذن - كان موجوداً من قبل. ونلحظ أن المساجد المنتشرة في الأرض لا بد أن يكون لها متجه واحد، لإله واحد، وحدد الحق هذا المكان بالقبلة إلى الكعبة. وبعض المتحللين يحاول أن يقلب الفهم في قول الحق: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] . يقولون: إننا إن اتجهنا إلى أي مكان سنجد وجه الله تعالى، ونقول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4938 الصحيح أن وجه الله عَزَّ وَجَلَّ في كل الوجود، ولكن إياك أن تفهم أن تحديد الله للكعبة لتكون متجهنا، أنها هي وجه الله، لا، لكننا مأمورون بالاتجاه لها في الصلاة. وأنت إذا نظرت أيضا إلى المسلمين في كل الدنيا سوف تجد أن كل مسلم في الأرض يتجه للكعبة في صلاته، وما دامت الكعبة مركزا، وكلنا نتجه إليه؛ فسوف تجد من يتجه وهو شرقه، وواحد يتجه وهو غربه، وواحد يتجه وهو شماله، وواحد يتجه وهو جنوبه. إذن {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ، وما دمنا قد عرفنا أن المساجد محيزة ومخصصة للعبادة؛ فلا يجوز أن يأتي إليها مشرك، ولا نقبل أن يساهم في إصلاحها ولا نظافتها مشرك؛ لأن الله غني عن ذلك، وعلينا أيضا ألا نناقش أمورنا الدنيوية في مسجد، ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا، ليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم» كأنه لم يكفهم حب الدنيا خارج المسجد ويطمعون في الدقائق التي يخصصونها للصلاة، فيجرجرون الدنيا معهم إلى المسجد، وأقول لهم: لماذا لا تتركون مصالح الدنيا في تلك الدقائق؟ إن الواحد منكم إنما يحيا في سائر الدنيا في نعمة الله. إذن فليجعل نصيبا من وقته لله صاحب النعمة. إذن لا بد أن نعرف أننا ما دمنا قد خصصنا مكانا لعبادة الله، فلا بد أن نصحب هذا التخصيص في المكانية إلى التخصيص في المهمة التي يدخل الإنسان من أجلها للمسجد، فيتجه إلى الله؛ لأن المسجد خاص لعبادة الله؛ ومع أن الأرض كلها تصلح للصلاة، لكنك حين تأتي إلى المسجد اصحب معك أخلاق التعبد. ويجب أن يكون الانفعال، والتفاعل، والحركة والنشاط كله في الله، ولذلك فأفضل ما تفعله ساعة تدخل المسجد، هو أن تنوي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4939 الاعتكاف فتنزع نفسك ممن ينوي أن يتكلم معك في أحوال الدنيا. لقد ورد الأثر النهي عن الحديث في المساجد لأنه يحبط العمل ويمحو الحسنات، وأنت قد تصنع الحسنات كثيرا خارج المسجد، ولكن عليك ألا تدخل المسجد إلا بأدب المسجد؛ فالحضور بين يدي الله تعالى في مسجده وفي بيته له آدابه وسلوكه، فيجب عليك ألاَّ تتخطى الرقاب وهذه لا تحتاج إلى تنظيم، بمعنى ألا تجعل الأماكن في الأمام خالية، وفي الخلف مزدحمة؛ حتى يستطيع أن يجلس كل من يحب أن يصلي دون أن يتخطى الرقاب، ويكون الجلوس في المساجد، الأول فالأول، وهكذا يتحقق الأدب الإيماني في المساجد. ونعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا بالبوار على كل صفقة تعقد في المسجد. ودعا على كل من يريد شيئاً دنيوياً من السجد ألا يوفقه الله فيه، ودعا على كل من ينشد ضالة في المسجد ألا يرد الله عليه ضالته، حيث قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الذي يرويه عنه أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالته فقولوا: لا ردها الله عليك» وفي حديث آخر له رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: إنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «من سمع رجلا ينشد ضالته في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا» . فلنجعل الجلوس في المسجد - إذن - خاصا بالمنعم وهو الله، أما في خارج المسجد وفي سائر الأوقات، فنحن نعيش مع النعمة التي أنعم الله بها علينا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4940 والحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران: 96 - 97] . وما دام بيت الله تعالى {هُدًى لِّلْعَالَمِينَ} أي أنه بيت لكل الناس وليس لمن يجلس فيه فقط، فكأن إشراقات الحق وتجلياته، أعظم ما تكون في بيته أولا، ثم تشيع الإشراقات والتجليات في جميع بيوت الله، وعلى عمارها والمتعبدين فيها، وبيوت الله هي الأماكن التي تتنزل فيها الرحمات من الحق سبحانه وتعالى، بدليل أنه سبحانه وتعالى حين تكلم عن نوره في سورة النور قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [النور: 36] . أي أن الذين يرون هذا النور ويتنزل عليهم هم عمار المساجد، وسورة النور جاء فيها - أيضاً - قول الله تعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35] . أي: أن نوره يملأ السماوات والأرض. حين يضرب الحق سبحانه وتعالى مثلا للمعنويات ليتعرف إليها الناس فهو يقدم لها بأمر مادي يتفق عليه الكل، ليقرب الأمر المعنوي أو الغيبي إلى أذهان الناس؛ لأن المعنويات والغيبيات يصعب إدراكها على العباد. فلذلك فهو سبحانه وتعالى يقرب هذا الأمر ويبينه بأن يضرب لنا مثلا من الأمور المادية؛ حتى تقترب الصورة من الأذهان؛ لأننا جميعا نرى الماديات. وبهذا يلحق سبحانه الأمر المعنوي وهو غير معلوم لنا بالأمر المادي الذي نعرفه؛ فتقترب الصورة من أذهاننا وتتضح لنا، وهكذا شاء الحق سبحانه وتعالى أن يلحق المجهول بالنسبة للناس بالمعلوم عندهم. وإذا كنا في كون الله تعالى نجد النهار إنما يكون نهارا بإشراق الشمس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4941 الواحدة التي تنير نصف الكرة الأرضية، ثم تنير النصف الثاني من بعد غروبها عن النصف الأول، فيتميز النهار بالضوء، ويتميز الليل بالظلمة، ومعنى النور في الحسيات أنه شعاع يجعل الإنسان يرى ما حوله؛ حتى يستطيع أن يتحرك في الحياة دون أن يصطدم بالأشياء المحيطة به. ولكن إن كانت الدنيا ظلاما فسيصطدم الإنسان بما حوله، وأمر من اثنين: إما أن يكون الإنسان أقوى من الشيء الذي اصطدم به فيحطمه، وإما أن يكون هذا الشيء أقوى من الإنسان فيصاب الإنسان إصابة تتناسب مع قوة الشيء الذي اصطدم به. والذي يحميك من أن تحطم أو تتحطم هو النور الذي تسير على هداه. إذن فساعة أن يأتي النور، تتضح أمامك معالم الدنيا، وتكون خطاك على بينة من الأمر؛ فلا ترتطم بما هو أضعف منك فتحطمه، ولا يرتطم بك ما هو أقوى منك فيحطمك، هذا هو النور الحسي، وأكبر ما فيه نور الشمس الذي يستفيد منه كل الخلق، المؤمن والعاصي، والكافر والمشرك، والمسخر من حيوان أو نبات أو جماد، وهذا النور نعمة عامة خلقها الله سبحانه وتعالى بقانون الربوبية الذي يعطي النعم لجميع خلقه في الدنيا سواء من آمنوا أم لم يؤمنوا. فإذا غابت الشمس نجد كل واحد منا يستعين بنور يعطيه الضوء في حيز محدود وعلى قدر إمكاناته؛ فواحد يوقد شمعة، وواحد يأتي بمصباح «جاز» صغير، وواحد يستخدم الكهرباء فيأتي بمصبح «نيون» ، وواحد يأتي بالعديد من مصابيح الكهرباء ليملأ المكان بالنور، كل على قدر إمكاناته، فإذا طلعت شمس الله فهل يبقى أحد على مصباحه مضاء؟ إن الجميع يطفئون مصابيحهم لأن شمس الله قد سطعت تنير للجميع، ذلك هو النور الحسي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4942 والفرق بين نور بقدرات الإنسان ونور من خلق الله يتمثل في أن النور الذي من خلق الله يطفىء المصابيح كلها لأنه يغمر الجميع. وفي المعنويات نور أيضا فالنور المعنوي يهديك إلى القيم حتى لا ترتطم بالمعنويات السافلة التي قد تقابلك في مسيرة الحياة، إذن فكل ما يهدي إلى طريق الله يسمى نورا. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 15] . إنه نور المنهج الذي ينير لنا المعنويات، وينير لنا القيم؛ فلا يحقد أحدنا على الآخر، ولا يحسد أحدنا الآخر، ولا يرتشي أحد. ويرعى كل منا حقوق غيره. وإذا كانت التجربة قد أثبتت أن نورا من خلق الله وهو الشمس، إذا سطعت فالجميع يطفئون مصابيحهم. فكذلك إذا ما جاء نور الهداية من الله سبحانه وتعالى فيجب أن تطفأ بقية الأنوار من مقترحات أفكار البشر، فلا يأتي أحد بفكر رأسمالي، أو يأتي آخر بفكر شيوعي، أو ثالث بفكر وجودي، لأن كل هذه القيم تمثل أهواء متنوعة من البشر، وتعمل لحساب أصحابها، أما منهج الله تعالى فهو لصالح صنعة الله وهم البشر جميعا، فلا يحاول أحد أن يضع قيما للحياة تخالف منهج الله؛ لأنَّ الله قد بيَّنَ لنا منهج العبادة ومنهج القيم، لذلك لا يصح أن يأتي إنسان بشرع يخالف تعاليم الله. ونقول لأصحاب الهوى في المذاهب والعقائد المخالفة لمنهج الله جميعا: لماذا لا تقيسون الأمور المادية على الأمور المعنوية؟ لماذا إذا سطعت شمس الله تطفئون مصابيحكم، ولا يحاول أحد أن يوقد مصباحا ليهديه في نور الشمس؟ . إذن. فما دام سبحانه وتعالى قد أنزل نور الهدى منه فلا بد أن نطفىء جميعا مصابيح الأفكار القائمة على الهوى، ونأخذ النور كله من منهج الله القويم والصالح لكل زمان ومكان، كما نأخذ النور في النهار من شمس الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4943 وعلى الرغم من أن الله سبحانه وتعالى قد أعطانا التجربة الحسية التي لا يختلف فيها اثنان، إلا أننا رفضنا أن نطبق هذا على منهج الله؛ وهو النور الذي أهداه لنا سبحانه وتعالى ليبين لنا الطريق، وأبى بعضنا إلا أن يأخذ من ظلمات العقل البشري المحدود ما يعطيه طريقاً معوجاً في الحياة، فامتلأت الدنيا بالشقاء والفساد، ونسينا أن السبب في ذلك أننا تركنا نور منهج الله عَزَّ وَجَلَّ الذي يعطينا الحياة الآمنة الطيبة، ووضعنا لأنفسنا مناهج سببت التعاسة والفساد في الكون. ويقرب لنا الحق سبحانه وتعالى الأمر في مثل مادي عن معنى نور الله فيقول سبحانه وتعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35] . أي: أن نوره سبحانه وتعالى يملأ السموات والأرض، وأنه يحيط بكل جوانب الحياة على الأرض فلا يترك جانبا منها مظلما، وقال جل جلاله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35] . والمشكاة هي «الطاقة المسدودة بالحائط» ، وهي عبارة عن مكعب مفرغ في البناء داخل حجرة وكان أهل الريف يضعون فيها المصابيح لتنير، واستبدله أهل الريف والبادية حاليا ب «رف» صغير يوضع عليه المصباح، ودائرة صغيرة يخرج منها النور، ولأن ضوء المصباح مركز في هذه الفتحة، فهي تمتلىء بالنور الذي بدوره يشع في الحجرة. وحيز المشكاة بالنسبة للحجرة التي توجد فيها قليل وصغير، والنور الذي يخرج منها، هو نور مركز يملأ الدائرة التي يخرج منها فلا يوجد فيها «ملليمتر» واحد مظلم، بل كلها نور، وإلا ما استطاع ضوءها أن ينير الحجرة. لأن هذا النور قبل أن يضيء الحجرة؛ لا بد أن يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4944 مركزا بأعلى درجة من التركيز في الدائرة التي يخرج منها. إذن فنور الله سبحانه وتعالى في السموات والأرض نور شامل عام لا يدع مكاناً مظلماً. ولا مكاناً يختفي فيه شيء بسبب الظلام، تماما كمثل تلك الدائرة الصغيرة التي يشع منها نور المصباح فلا تجد فيها ملليمترا واحدا من الظلام، وقد سمي ما يعطي النور مصباحا؛ لأنه يعطينا بشائر الصبح. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35] . ونحن إذا أردنا أن نكثف النور فإننا نحيطه بالزجاج، ليحجب عنه الهواء الذي قد يؤثر على النور ويمنع تركيزه، والزجاجة التي تحيط بالمشكاة عاكسة للنور، وهذا كله يعطينا معنى للتكثيف والتركيز داخل المشكاة. ثم ينتقل المثل من بعد ذلك إلى الحجرة، فيقول الحق: {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] . أي: أن الزجاجة ليست عادية، ولكنها مضيئة بنفسها لتزيد النور نوراً. ومن أي شيء يوقد هذا المصباح؟ يجيب الحق سبحانه وتعالى: {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] . أي: أن الشجرة المباركة ليست زيتونة فقط؛ ولكنها {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي أن النور يخرج منها غير متأثر بمزاج حار أو بارد بل يخرج منها النور الصافي في مزاج معتدل، وقد أطلقت كلمة «النور الصافي» على آخر مرحلة من مراحل الترقي في الضوء. ومراحل الترقي بدأت من مشكاة ضيقة فيها مصباح غير عادي، والمصباح في زجاجة غير عادية بل تكثف الضوء، فتظهر وكأنها كوكب دري مضيء بذاته، والزيت الذي يضيء يخرج من زيتونة مباركة، بأعلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4945 درجات النقاء. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] . أي: أن كل شيء مضيء بذاته، ويضيف من قوة الضوء للنور، فالدائرة الصغيرة مضيئة؛ يزيد نورها زجاجة تكثف النور، والزجاجة ذاتها مضيئة فتعطي إضافة، والزيت مبارك ليست فيه أية شوائب فيعطي ضوءا ساطعا، وفوق ذلك كله تجد الزيت مضيئاً بذاته، دون أن تمسه النار، فكأنه نور على نور، فلا يصبح في هذه الدائرة الصغيرة أي نقطة مظلمة، كذلك تنوير الله لكونه المتسع فلا توجد فيه نقطة واحدة مظلمة، بل كله مغمور بنور الله، وإياك أن تظن أن هذا القول: {الله نُورُ} هو تشبيه لله، بل هو تشبيه لتنوير الله سبحانه وتعالى لكونه الذي يشمل السموات والأرض وما بينهما. وهناك قصة مشهورة للشاعر أبي تمام حين كان يمتدح أحد الخلفاء فقال: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس وهكذا جاء الشاعر بأولئك الذين اشتهروا بالإقدام والشجاعة كعمرو، وبالسماحة والكرم كحاتم، وبالحلم كأحنف بن قيس، وبالذكاء كإياس، وقال الشاعر ممتدحا الخليفة: إنك قد جمعت كل هذه الصفات، التي لم تجمع في واحد من خلق الله من قبل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4946 ولكن أحد المحيطين بالخليفة قال: كيف تمدح الأمير بصفات موجودة في رعاياه، والأمير فوق كل ما وصفت، فهو أشجع من عمرو، وأكرم من حاتم، وأحلم من أحنف، وأذكى من إياس. وأعطى الله الشاعر بصيرة ليرد على ارتجال ويقول: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس أي: أن الشاعر قال مثلا فقط وليس تحديدا. والحق سبحانه وتعالى قال: {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] . وقال سبحانه وتعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] . أي أن كل شيء مضيء بذاته ليضيف نورا على النور الموجودة، فكما أن الماديات تحتاج إلى نور يضيء لك الطريق، كذلك تحتاج المعنويات إلى نور يضيء لك البصيرة والسلوك، فخذ منهج الله تعالى لأنه النور الساطع الذي لا يمكن أن يضيء مثله ولا معه نور آخر، وإذا أردنا أن نقرب الصورة إلى الأذهان، فالله سبحانه وتعالى قال للقوم الذين يستمعون إلى دعوة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . والذين يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بهذا الكلام أحياء، فكيف يقول لهم: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} ؟ . نقول: إنه سبحانه وتعالى يريدنا أن نفرق بين حياة وحياة. فالحياة المادية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4947 المتمثلة في الحس والحركة والجري، هي الحياة الدنيا بأجلها المحدود، وإمكاناتها البسيطة، ولأنها حياة أغيار؛ لا تبقى فيها النعمة ولا تدوم لأحد، بل كل إنسان فيها إما أن تفارقه النعمة بالزوال، وإما أن يفارقها هو بالموت، وهذه ليست هي الحياة التي يريد الله من الإنسان أن يعمل لها وحدها. أو يسعى ليتمسك بها. فبسببها يفعل كل ما يستطيع لكي يأخذ منها حلالا أو حراما، ولكن الحياة التي يطالب الله سبحانه وتعالى عباده أن يعملوا لها هي الحياة المستقيمة الحركة على منهج الله وتقود إلى حياة آخرة فيها نعيم لا يفارقك ولا تفارقه، وفيها أبدية تبقى ولا تنتهي، وفيها نعم عظيمة تأتي بقدرة الله تعالى، وليس بقدرة البشر المحدودة. إذن فقوله سبحانه وتعالى: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . معناه أن الحياة حياتان؛ حياة تحرك هذه المادة؛ فتتحرك وتجري وتروح وتجيء، وهي تنصلح بالمنهج الذي يقود إلى حياة أخرى فوق الحياة الدنيا. إذن فالحياة الدنيا بما فيها من سعي وتعب وجهد وفناء ليست هي الغاية التي يجب أن يسعى إليها الإنسان، بل على الإنسان أن يسعى إلى الحياة الأرقى. وسبحانه لا يريدنا أن نأخذ المرحلة الأولى من الحياة التي تحرك المادة فتتحرك وتجري، بل يريد لنا حياة تقودنا بالقيم، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد قال عن الحياة التي تحرك المادة: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72] . فهذه حياة المرحلة الأولى التي لا يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نأخذها كغاية، ولكنه يريدنا أن نأخذها وسيلة لنصل بها إلى الحياة الراقية في كل صورها الخالدة بكل معانيها؛ المنعَّمة في كل درجاتها. وكما سمَّى الحق سبحانه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4948 وتعالى الروح التي تنفخ في المادة فتعطيها المرحلة الأولى من الحياة روحاً، فإنه كذلك سمَّى المنهج الذي يعطينا المرحلة الثانية من الحياة روحا، حيث يقول: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . هذه هي روح المنهج التي تعطينا المرحلة الثانية من الحياة. فإن أخذنا نور الهداية من الله سبحانه وتعالى فهو ينير لنا طريقنا في القيم والمعنويات، تماما كما تنير لنا شمس الله طريقنا في الحياة المادية. إذن فالحق لم يترككم للنور المادي ليحافظ على ماديتكم من أن تحطموا أو تتحطموا، وإنما أرسل إليكم نورا لتهتدوا به في مجال القيم. يقول الحق سبحانه وتعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] . ولم يقل سبحانه: «نور مع نور» ؛ لأن الإنسان لا يُكَلَّفُ من الله إلا بعد أن يصل إلى سن البلوغ، فالنور المادي يراه ويستفيد به قبل التكليف، ثم يأتي النور المعنوي فيتلقاه من الكتاب الذي أنزل على رسول الله عندما يبلغ سن التكليف فيتعرف على منهج الله. {نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} [النور: 35] . فلا يحجب الحق سبحانه وتعالى نور الشمس عن أحد؛ لأنه نور لكل الخلق وكذلك أنزل سبحانه وتعالى نور الهداية ليختاره كل من التمس الطريق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4949 إلى الهداية، وهذا النور المعنوي يختلف عن النور المادي، فالحق لم يحرم - إذن - أحدا من النور المادي، وشاء أن يجعل النور المعنوي ضمن اختيارات الإنسان؛ إن شاء آمن واهتدى، وإن شاء ضل. وكل ذلك مجرد مثل من الأمثال التي يضربها الله تعالى للناس؛ قال عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} [النور: 35] . وجاءت الآية التي بعدها لتوضح لنا أين ينزل نور الله على عباده؛ فقال سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [النور: 36] . وعندما تسمع جارا ومجرورا لا بد أن تبحث عن المتعلق بهما، فما الذي في بيوت الله؟ إنك حين تبحث عن إجابة لن تجدها إلا في قوله تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] . فكأن المساجد وهي بيوت الله هي أماكن تلقى النور المعنوي من عند الله سبحانه وتعالى، وهو النور الذي يعطينا ارتقاء الروح؛ لنصل إلى المرحلة الثانية من الحياة، تماما كما يحدث في الدنيا عندما تصاب آلة بعطب أو لا تؤدي مهمتها على الوجه الأكمل، فالذي يصلحها ويصونها لتؤدي مهمتها المطلوبة منها هو المهندس الذي صنعها. والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان، فلا أحد يستطيع أن يدعي مهما اجترأ على الله سبحانه وتعالى أنه خلق نفسه أو خلق الناس. وهذه دعوى لم يدَّعِهَا أحد قط. وما دام الله عَزَّ وَجَلَّ هو الذي خلق، إذن فهو سبحانه وتعالى الذي يضع المنهج الذي يصون حياة الناس ويجعلها تؤدي مهمتها كاملة. وما دام ربنا هو الذي يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، فكيف يأتي إنسان من البشر ليفتئت على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4950 الحق سبحانه وتعالى ويقول: إنه وضع منهجا لحياة البشر، ويعلم الإنسان ما يفسد حياته لا ما يصلحها. ونقول لكل من يفعل ذلك: لماذا تلجأ إلى من يصنع التليفزيون ليصلح لك الجهاز إن أصابه عطل، ولماذا لا تلجأ إلى صانعك الذي يصلح لك نفسك؟ إن تردد المسلم على بيت الله ليكون في حضرة ربه دائما هو إصلاح لما في النفس، فحين يقف المؤمن بين يدي الله ويصلي، يمتلىء بالرضا والتوازن النفسي؛ لأن الواحد منا لا يعرف ما الذي يصيب أي ملكة من ملكاته بالارتباك. ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا حز به أمر يقوم إلى الصلاة، وما معنى حز به؟ . أي: إن جاءه شيء أو أمر، وكان فوق طاقته. وفوق أسبابه، ولا يستطيع أن يفعل شيئا تجاهه، وتضيق عليه الأمور. فلماذا لا يتبع الواحد منا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كأسوة حسنة، فإن قابل أمرا مكروها وشاقا يقول: إن لي ربا أذهب إلى بيته وأصلي فأقف في حضرته، فتحل أصعب وأعقد المشكلات. إذن فساعة يأتينا أمر شديد، لا بد أن نتجه إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. وأفضل مكان نلتجىء فيه إلى الله تعالى هو بيته. فقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا كانت ليلة ريح شديدة كان مفزعه إلى المسجد حتى تسكن الريح، وإذا حدث في السماء حدث من خسوف شمس أو قمر كان مفزعه إلى الصلاة حتى تنجلي وبعض من الذين يحترفون الجدل واللجاجة يقول: ماذا سيفعل الله لي أو لذلك الذي يعاني من شيء فوق طاقته؟ لقد دخل المسجد وخرج كما هو؟ ونقول: هذا الظاهر من الأمر، ولكنك لا تعرف ماذا حدث في داخله، أنت تتحدث عن العالم المادي الذي فيه العلاجات المادية، ولكن الله سبحانه وتعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4951 يعالج داخل النفس دون أن تحس انت لن المساجد هي مطالع أنوار الله تعالى وهي التي يتنزل فيها النور على النور الذي يُصلح الحياة الدنيا ويرتقي بها؛ لأن أنوار الله تدخل القلوب فتجعلها تطمئن، وتدخل النفوس فتجعلها تحس بالرضا والأمن. إذن فالمساجد لها مهمة العيادة للطبيب الخالق الذي خلق هذه النفس ويعرف كيف يداويها، وليس للطبيب الدارس في كلية الطب الذي يعرف أشياء وتغيب عنه أشياء. ونحن في المساجد إنما نعيش في حضرة الحق تبارك وتعالى نتلقى منه التجليات والفيوضات التي تعالج نفوسنا أكثر مما يعالجها أبرع أطباء العالم، على أننا إذا دخلنا المسجد فلنعرف أن لهذا المكان قدسيته، ولا بد أن يحرص الإنسان على نظافته ومظهره، ولنرتد أحسن ثيابنا؛ لأن الله لا ينظر إلى نظافتنا أو أناقتنا، ولكن ليحرص كل منا ألا يتأفف منه من يصلي بجانبه؛ فمن يعمل في مصنع ويحضر إلى المسجد إلا بعد أن يغتسل؛ إن ملابسه شرف له في عمله، ولكن عليه أن يغيرها حين يذهب إلى المسجد، ومن يعمل في مكتب قد يكون الجو حارا أو امتلأ جسده بالعرق، وملابسه التي يوجد بها في وظيفته هي شرف له في عمله، ولكن عليه أن يغتسل، وأن تكون رائحته طيبة حين يدخل المسجد. ولذلك نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أكل ثوماً أو بصلاً أن يأتي المسجد حتى لا يتأذى أحد بالرائحة التي تصدر من فمه. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديثه الشريف الذي يرويه جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4952 وفي رواية لمسلم: «من أكل البصل والثوم والكرات فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» ولذلك على المسلم أن يحرص أن تكون الإقامة في المسجد طيبة، لتكون الأفئدة منشرحة. ويجب أن نراعي جلال المسجد؛ لأننا نعرف أن الرحمات تتنزل على الصف الأول ثم الذي يليه، فلا يحاول واحد منا أن يحجز مكاناً بالصف الأول بأن يضع فيه سجادة خاصة أو كوفية، ثم يأتي أحيانا بعد إقامة الصلاة ويحاول اقتحام الصفوف ليصل إلى الصف الأول. وإياك أن تعتقد أن الصف الأول محجوز لشخص معين ولو أتى متأخرا، فكل إنسان يأتي للمسجد عليه أن يأخذ دوره، ويقعد في المكان الخالي. وإياك أن تعتقد أن الله سبحانه وتعالى لا يعرف الذين يتكوَّن منهم الصف الأول، إنهم هؤلاء الذين جاءوا للمسجد أولا. أما أن تحضر إلى المسجد وتحجز مكاناً في الصف الأول لصديق أو قريب بحيث إذا جاء إنسان آخر ليصلي في هذا المكان قلت له: إن المكان محجوز. نقول لك: أنت حر أن تفعل ذلك في الحجز للأماكن في مواسم الحج والعمرة. وعلى من يجد مكاناً قد حُجِزَ بسجادة أو أي شيء آخر أن يزيحها بعيدا ويصلي. وأنت في بيت الله تكون في ضيافة الله. وأنت تعلم أنه إن جاءك أحد في بيتك على غير دعوة فأنت تكرمه، فإذا كان المجيء على موعد فكرمك يكون كبيرا. فما بالنا بكرم من خلقنا جميعاً؟ إن الحق سبحانه وتعالى يجزيك من فيض كرمه من ساعة أن تنوي زيارته في بيته، فأنت في صلاة منذ أن تبدأ في الوضوء في بيتك استعداداً للصلاة في المسجد؛ لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يطيل عليك نعمة أن تكون في حضرته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4953 وسبحانه وتعالى حين يدعونا إلى بيته بالأذان، فلك أن تعلم أنك إن خالفت هذه الدعوة تعاقب، ولكن ليس معنى هذا أن الله لم ييسر لك بيته لتزوره في أي وقت. فهذه الدعوة بالأذان للصلاة تمثل الحرص من الله سبحانه وتعالى على أن يلقاك ليعطيك من فيوضاته ما تستعين به على مكدرات الحياة. ولكن إن أحببت أن تجلس في المسجد قبل الصلاة أو بعدها فافعل. تعالَ في أي وقت وصلِّ كما تشاء، فإذا قلت: «الله أكبر» تكون في حضرة الله. وإن لم تستطع فصلواتك الخمس في اليوم الواحد هي القسط الضروري لصيانة نفسك المؤمنة؛ لأنك تقابل ربك أثناء الصلاة وتعلن الولاء له. فالصلاة إذن خير أراده الله لك حتى لا تأخذك أسباب الحياة، وأراد سبحانه بها أن تفيق إلى منهجه الذي يصلح بالك، ويصلح الدنيا لك وبك فلا تأخذك الأسباب، بل تأخذ أنت بالأسباب. وحين تسمع «الله أكبر» ينادي بها المؤذن لصلاة الظهر - مثلا - فعليك أن تترك أسباب الدنيا وتذهب لتقف بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ، ثم تخرج من الصلاة إلى الأخذ بالأسباب إلى أن تسمع أذان العصر، ثم أذان المغرب، ثم أذان العشاء، وكل هذا تذكير لك بالله الخالق العظيم حتى لا تشغلك الدنيا فتنسى أن صيانة نفسك بيد خالقك سبحانه. وأطول فترة بين العشاء والفجر نكون فيها نائمين فلا يأخذنا متاع الدنيا. إذن فالله سبحانه وتعالى يريد من الولاء دائما. فإذا كنت تعتز بالله فأنت تديم الولاء له باستمرار الصلاة، وأنت حين تسجد لله وتتذلل له، فإنه سبحانه يزيدك عزة ويكون معك دائما، ويقيك ذل الدنيا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4954 وقلنا قديما: إن الإنسان إذا ما أراد أن يقابل عظيما من العظماء فهو يطلب المقابلة، وقد يقبل هذا العظيم مبدأ اللقاء وقد لا يقبل، فإن قبل حدد اليوم والساعة والمكان وفترة الزيارة. فإن أردت أن تطيل فهو يقوم واقفاً إعلاناً بأن الزيارة قد انتهت. ولكن الحق سبحانه وتعالى بمطلق الكرم لا يعامل خلقه هكذا، فبيته مفتوح دائما حين يدعوك للصلوات الخمس، فهذا أمر ضروري، ولكن بين الصلوات الخمس إن إردت لقاء الله فسبحانه يلقاك في أي وقت وتدعوه بما تشاء، وتطيل في حضرته كما تريد، ولا يقول لك أحد: إن الزيارة قد انتهت. وأذكركم دائما بقول الشاعر: حَسْبُ نفسِي عِزًّا بأنِّي عَبْدٌ ... يَخْتفِي بِي بلا مَواعِيد ربُّ هُوَ في قُدْسهِ الأعزِّ ولكِنْ ... أنَا اَلقَى متَى وأينَ أُحبُّ ونعود إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} [التوبة: 17] . لأن المساجد مخصصة لعباده الله تعالى، فمن غير المنطقي أن يبنيها أو يجلس فيها مشرك أو كافر، وقوله تعالى: «ما كان» أي ما ينبغي، وقوله تعالى: {شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أي هم الذين يشهدون على أنفسهم بالكفر؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4955 فشهادتهم بالحال، وبالمقال. كما نشهد على أنفسنا بالإيمان حين نلبي في الحج والعمرة ونقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، أي أننا ننزه الله تعالى عن الشرك. وقوله سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ، وُ {أُوْلَئِكَ} إشارة إلى المشركين الذين شهدوا على أنفسهم بالكفر، وحكم الله ألا يعمروا مساجد الله، و {حَبِطَتْ} أي نزلت من مستوى عال إلى مستواها الحقيقي دون مستواها الشكلي، فتجد العمل وكأنه منفوخ كالبالون الضخم، وهو في حقيقة مجرد فقاعة ضخمة ما تلبث أن تنكمش أو تسقط، فهي أعمال لا قيمة لها،. وليس لها حصيلة؛ لأنها أ‘مال باطلة. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياوة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 104] . وتجد الواحد من هؤلاء يظل يعمل ويعمل، ويظن أنه سوف يجني خيراً كثيراً من هذا العمل، وقد يكون العمل مفيداً لغيره من الناس. ولكنه افتقد النية، ففسد نتيجة لذلك. والقرآن الكريم يعرض لحبوط الأعمال في آيات كثيرة والمثال هو قول الحق تبارك وتعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] . والسراب هو ما يخيل إليك بلمعانه أنه ماء في الصحراء. وعندما تذهب إليه لا تجد شيئا. والذي لا يحس بالظمأ قد لا يلتفت إلى ذلك. ولكن الظمآن تتعلق نفسه بالماء، فيجيل بصره في كل مكان يبحث عنه، فإذا رأى أي لمعان حسبه ماء، وعندما يجيء إليه لا يجد شيئاً، وليت الأمر يقتصر على ذلك، بل هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4956 يجد الله عنده ليوفيه الحساب. ومثل هذا الانسان لم يضع الله في باله يوماً من الأيام، وليس لمثل هذا الإنسان عند الله تكريم أو ثواب. لأن الإنسان يطلب أجره ممن عمل له، وهو لم يعمل عمله وفي باله الله. وأنت إذا صنعت معروفاً تقصد به وجه الله عَزَّ وَجَلَّ جزاك الله عنه خيرا، ولكن إن عملت معروفا لتحقق به مصلحة دنيوية خاصة بك أو تأخذ به شهرة فلا جزاء لك عند الله، ولا بد أن يصنع الإنسان المؤمن كل عمل وفي باله الله خالقه والمتفضل عليه بالنعم، فإن أطعمت فقيرا فلتطعمه لوجه الله، وعليك ألا تفعل المروءة من أجل أن يقال عنك: إنك صاحب مرءة. ومن يفعلون الخير عليهم أن يحرصوا على أن يكون الله عَزَّ وَجَلَّ في بالهم، لا أن ينالوا شهرة من هذا الخير، وألا يأتي منهم خبر هذا الخير لا بمقال ولا بحال. وعلى سبيل المثال تلك اللافتات التي توضع على المساجد بأسماء من قاموا بتأسيسها. فمن بُنِي من أجله المسجد وهو الله عليم بكل شيء، ويعلم اسم من أقام البناء، وعليك أن تسميه بأي اسم لا يمت لك بصلة، حتى لا تدخل في دائرة «عملت ليقال وقد قيل» . وحتى المقاتل الذي يحارب بين صفوف المؤمنين عليه أن يعقد النية لله، لا أن يقاتل من أجل أن يقال إنه شجاع، لأنه إن فعل، حبط عمله وكان من الخاسرين لأن عمله قد شابه الرياء والسمعة. ويبين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جزاء المرائين في حديثه الشريف الذي يقول فيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أول الناس يقضى لهم يوم القيامة ثلاثة: رجل استشهد فأتى به فعرَّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال فلان جرىء، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأُتى به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4957 تعلمت العلم وعلّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال قارىء فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكن ليقال؛ إنه جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه فألقي في النار» . وعلى ذلك فالإنسان إن لم يضع الله في باله وهو يعمل فسوف يجد الله يحاسبه على أساس أن عمله غير مقبول. ويقول الحق سبحانه وتعالى في آية ثانية: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] . ولك أن تتصور ماذا تفعل العاصفة في الرماد؛ إنها لا تبقي منه شيئاً. والمشرك الذي كان يدخل المسجد ويسقي الناس من عصير العنب غير المخمر، ويقوم بعمارة المسجد الحرام قبل تحريم الله لدخول أمثاله إلى هذا المكان، هذا المشرك لم يكن ليأخذ ثواباً؛ لأنه ارتكب خيانة عظمى بأن أشرك بالله، بينما يأخذ المؤمن الثواب لأنه يدخل المسجد ويعمره وهو مؤمن بالله ولا يشرك به شيئاً. ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17] . لأنهم عملوا لغير الله فلقوا الله بلا عمل. ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4958 {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاوة وآتى الزكاوة ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4959 الإيمان: هو إيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وقمة الإيمان شهادة أن «لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله» . وكانت هناك حساسية عند أهل قريش من مسألة الرسول هذه، وأنه محمد بن عبد الله، وبعضهم قد قال: القرآن جميل ورائع فلماذا جاء على لسان محمد؟ وكان اعتراض كفار قريش على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذا القول الذي حكاه القرآن عنهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . إذن فالمشكلة عندهم لم تكن في القرآن ذاته، بل كانت في شخص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويرد الحق سبحانه وتعالى بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياوة الدنيا} [الزخرف: 32] . أي أن رحمة الله تعالى خاصة به، لا يقسمها إلا هو بمشيئته، يقسمها كيف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4959 يشاء كما قسم بينهم معيشتهم وأعطاهم الرزق المادي، وإذا كان المولى سبحانه قد قسم رزقهم في الأدنى، فكيف يريدون هم أن يتصرفوا في الأعلى؟ لقد قالوا ما جاء في القرآن على ألسنتهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . وكان المنطق الصواب أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ولكنهم بغبائهم طلبوا الموت بدلاً من الهداية. فقد كانت عصبيتهم - إذن - ضد شخص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكان على من يعلن إيمانه بالله منهم أن يشهد أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو رسول الله. والحق تبارك وتعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر. .} [التوبة: 18] . وهذا القول يحمل في مضمونه إيماناً برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الله يقول بعدها: {وَأَقَامَ الصلاوة} وإقامه الصلاة لا تصح منهم إلا إذا آمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو الذي قال لنا إنها خمس، وهو الذي علمنا كيف نؤديها وماذا نقول فيها، وهو الذي نشهد له ونحن نصلي؛ في الإقامة وفي التشهد، إذن فساعة نقيم الصلاة لا بد أن نكون مؤمنين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وعلى ذلك فقوله تعالى: {وَأَقَامَ الصلاوة} يقتضي ضرورة الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. واشترط سبحانه وتعالى في هذه الآية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4960 الكريمة الإيمان به وباليوم الآخر وإقام الصلاة وفي طيها الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم إيتاء الزكاة، وطلب منا ألا نخشى غيره، والخشية هي الخوف. وسبحانه وتعالى قد قال لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58] . إذن فهناك خوف من أشياء أخرى، ونقول: إن الحق حين قال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} أي لم يخش في دينه إلا الله، لكن لا مانع من الخشية التي تجعلك تعد لعدوك وتحذر عدوانه عليك. وانظر إلى دقة القرآن الكريم وعظمته، فقد جمع في آية واحدة بين الإيمان بالله واليوم الآخر والصلاة والزكان، ولم يأت فيها ذكر الإيمان بالرسول؛ لأنه مسألة مطوية في أركان الإيمان. ومن يفعل ذلك يدخل في زمرة من وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله: {فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} [التوبة: 18] . ولقائل أن يقول: كيف بعد أن آمنوا بكل هذا نقول: عسى؟ . . إذن فما حكم الذي لم يؤمن؟ ونقول: إن «عسى» و «لعل» أفعال رجاء، وذكرها يعني الرجاء في أن يتحقق ما يأتي بعدها، ومراتب الرجاء بالنسبة للنفس وبالنسبة للغير بالنسبة لله تختلف، أنت تقول مثلاً: اسأل فلاناً لعله يعطيك، هذه مرتبة من الرجاء، وتقول: لعلِّي أعطيك، وهذه أقرب إلى التحقيق من أن أرجو غيري أن يعطيك. إذن فهي مرحلة أعلى في الإجابة، وأن تقول: لعل الله يعطيك مرحلة ثالثة وعالية من الرجاء؛ لأنك ترجو الله ولا ترجو أحداً من البشر. والله سبحانه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4961 وتعالى كريم يعطي بسخاء. ولكن إذا قال الله سبحانه وتعالى عن نفسه: لعلي أعطيك، فيكون هذا توقعاً مؤكداً للعطاء. إذن فمراحل الرجاء؛ رجاء لغيرك من غيرك، ورجاء منك لغيرك، ورجاء من الله لسواك، وقول من الله بالرجاء. فإذا قال الله سبحانه وتعالى: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} [لإسراء: 8] . نقول: إنه الرجاء المحقق؛ لأنه سبحانه وتعالى كريم يحب أن يرحمنا ولا شيء يمنعه من أن يحقق ذلك. إذن فيكون الرجاء قد تحقق. وقوله تعالى: {فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} [التوبة: 18] . والهداية إما أن تكون هداية إلى سبيل يؤدي لغاية، أي يهدينا الله للمنهج، فإن عملنا به نصل إلى الجنة، لأن المنهج هو الطريق للجنة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يقول عن الكفار: {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء: 168 - 169] . إذن فالهداية مرة تكون للمنهج فنؤمن به ونعمل به، وإما لطريق يوصل إلى غاية. والذين ذكرهم الله في هذه الآية الكريمة هم كل: {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاوة وآتى الزكاوة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} وما داموا قد فعلوا ذلك؛ فهذا هو تطبيق المنهج، وبذلك فَهُمْ - إن شاء الله - لا بد أن تكون نهايتهم الجنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4962 ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4963 جاءت هذه الآية رداً على كفار مكة الذين أسروا في غزوة بدر، وكان منهم العباس عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين تحدث إليه بعض من الصحابة يدعونه للإسلام وللجهاد في سبيل الله فقال: إننا نسقي الحجيج ونرعى البيت، ونفك العاني، ونقوم بعمارة البيت الحرام قال العباس ذلك ولم يكن قد أسلم بعد. وما قاله العباس هو موجز رأي أهل الشرك من قريش، الذين جعلوا هذه المسائل مقابل الإيمان بالله والجهاد في سبيله. وجاء قول الحق ليؤكد أن الكفة غير راجحة فقال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج. .} [التوبة: 19] . وكلمة {سِقَايَةَ} تطلق ثلاث إطلاقات: فهي المكان الذي يجتمع فيه الماء ليشرب منه الناس والذي نسميه. السبيل. وكذلك تطلق السقاية: على الإناء الذي نشرب منه الماء، والذي يرفع إلى الفم كالكوب والكأس أو يسمى صواع الملك، وفي قصة يوسف عليه السلام يأتي القول الكريم: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] . أما المعنى الثالث: فهو الحرفة نفسها؛ فنقول: هذه خياطة، وهذه حدادة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4963 وهذه سقاية، أي أنه عمل يتصل بسقاية الناس، فالسقاية - إذن - هي المكان الواسع الذي يتجمع فيه الماء، أو الإناء الذي نستعمله في الشرب، أو الحرفة التي يقوم بها السقا. وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} [التوبة: 19] . فإن كنتم تفتخرون بأنكم تحترفون سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام وتجعلون هذا في مقابل الإسلام، فذلك لا يصلح أبدا كمقابل للإيمان، ولا تتساوى كفة الإيمان بالله واليوم الآخر أبداً مع كفة سقاية الحجيج، وعمارة المسجد الحرام. ومن يقدر ذلك هو الله سبحانه وتعالى، وله مطلق المشيئة في أن يتقبل العمل أو لا يتقبله. والمؤمن المجاهد في سبيل الله إنما يطلب الجزاء من الله، أما من يسقي الحجاج؛ ويعمر بيت الله دون أن يعترف بوحدانية الله كالمشركين - قبل الإسلام - فهو يطلب الجزاء ممن عمل من إجلهم، ولأنه سبحانه هو معطي الجزاء، فهو جل وعلا يوضح لنا: أن هذين العملين لا يستويان عنده، أي لا يساوي أحدهما الآخر في الجزاء. ويقال: إن سيدنا الإمام عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وكرم الله وجهه، مر على طلحة بن شيبة؛ والعباس ووجدهما يتفاخران، أي: يفاخر كل منهما الآخر بالمناقب التي يعتز بها؛ ليثبت أنه أحسن وأفضل منه. وكانت المفاخرة من طبع العرب حتى في الأشياء التي ليس لهم فيها فضل، والممنوحة لهم من الله عَزَّ وَجَلَّ مثل الشكل والنسب إلى آخره، لأن أحداً لا يختار أباه وأمه ليتفاخر بهما، وإنما كل ذلك هو عطاء من الله سبحانه وتعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4964 لقد كان العرب مثلاً يجلسون أمام مكان ممتلىء بالماء يتفاخرون أيهم يغطس في الماء، ويبقى رأسه تحت الماء مدة أطول، أي: أيهم أطول نفساً من الآخر، مع أن هذه مسألة خاضعة لبنية الجسم وتكوينها من الله الخالق، وليس لأحد يد فيها، فهناك من أعطاه الله رئتين أقوى من الآخر، وهو الذي يستطيع أن يغطس مدة أطول، ولكن هذه المسألة كانت من أوجه التفاخر عند العرب. جلس طلحة والعباس يتفاخران، فقال طلحة بن شيبة: بيدي مفتاح الكعبة، ولو شئت أن أنام فيها لنمت. فرد عليه العباس: وأنا معي سقاية الحاج، ولو شئت ألا أسقي أحدا لا ستطعت. ومر الإمام علي كرم الله وجهه عليهما وهما يتفاخران، فلما سمع كلامهما قال: ما أدري ما تقولان لقد صليت ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد فنزلت الآية: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} [التوبة: 19] . ولم يكد العباس يسمع هذه الآية حتى قال: «إنَّا قد رضينا، إنَّ قد رضينا» ، قال ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي حكم، وفي هذا القول إشارة إلى أن المفاخرة التي كانت بين العباس وطلحة لم تكن في موضعها. وكلمة {عِندَ الله} في الآية الكريمة تفيد: أن المقاييس عند الله تختلف عن المقاييس عند البشر؛ لأن المقاييس عادة تختلف حتى بين الناس، فلك مقاييس وللناس مقاييس. وقد تجامل نفسك في مقاييسك. وقد يجاملك الناس في مقاييسهم، أو قد يقسون عليك. وكل مقياس يكون فيه هوى؛ لأن كل إنسان إنما يؤثر نفسه. وكل إنسان يحاول أن يأخذ كل شيء. ولكن المقاييس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4965 التي لا هوى فيها والتي ليس فيها إلا العدل المطلق هي مقاييس الله، ولذلك نجدها تَجُبُّ كل شيء، وليس فيها أي فرصة للطعن. ثم يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [التوبة: 19] . وهذه أوجدت الحل لمشكلات متعددة يثيرها بعض الناس حول الهداية، وكيف أنها من الله سبحانه وتعالى وليست من العبد لقوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [القصص: 56] . نقول: نعم، إن مشيئة الهدى من الله سبحانه وتعالى، لكنه سبحانه قد أوضح لنا من لا يدخلهم في مشيئة هديه، فقال: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264] . وقال سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258] . وقال سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108] . وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى هذه الحقائق في الكثير من آيات القرآن الكرين. وبعض الناس يقول: إن الهدى من الله، ولو أن الله هداني ما قتلت، وما سرقت وما ارتشيت، ونقول: هذا فهم خاطىء، ولنرجع إلى القرآن الكريم، فالحق تبارك وتعالى يقول: {والله لاَ يَهْدِي} أي نفي ما يستوجب الهداية عمن ظلم أو فسق أو كفر؛ لأن الحق سبحانه لاَ يَهْدِي من قام الكفر؛ أو قدم الظلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4966 أو قدم الفسق؛ فكأن الكافر أو الظالم أو الفاسق، هو الذي يمنع الهداية عن نفسه. ولو قدم الإنسان الإيمان لدخل في هداية الله تعالى، فكأن خروج الإنسان عن مشيئة هداية الله هي مسألة من عمل الإنسان وباختياره، فقد يختار الإنسان طريق الغواية، ويترك طريق الهداية؛ لذلك لا يهديه الله؛ لأنه سبحانه لا يهدي إلا المؤمن به. وإن اختار الإنسان طريق الهداية، فالحق يعطيه المزيد من الهدى؛ لأنه آمن بالله؛ فاختار طريق الهداية، واستقبل منهج الله بالرضى. وهكذا نفهم قول الحق تبارك وتعالى: {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [فاطر: 8] . إذن فالحق يهدي من استمع إلى القرآن بروح الإيمان، واستقر في يقينه أن له ربا، واعتقد أن له إلهاً، وقد فصلنا ذلك في مسألة القضاء والقدر، وقلنا: إن الذين يقرأون القرآن لفهم قضية الهداية عليهم أن يستقرئوا كل الآيات المتعلقة بالموضوع، فسبحانه وتعالى قد أوضح أنه لا يهدي الكافر، إذن فهو يهدي المؤمن، وأوضح أنه لا يهدي الظالم، إذن فهو يهدي العادل، وأوضح أنه جل وعلا لا يهدي الفاسق، إذن فهو يهدي الطائع، فلا يقولن أحد: إن الله لم يشَأْ أن يهديني؛ لأن هذا فهم خاطىء لمعنى الهداية من الله؛ فسبحانه وتعالى قد بيَّن لنا من شاء هدايته ومن شاء إضلاله، وهو يهدي من قدم أسباب الهداية، وأسلم مقاليد زمامه للإيمان، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} [مريم: 76] . ويقول أيضا: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4967 إذن فالله أخبرنا مسبقاً بمن يستحق هدايته ومن لا يدخل فيها، وأنت باختيارك طريقك، إما أن تؤمن؛ فتدخل في الهداية، وإما أن تختار طريق الكفر والظلم والعياذ بالله؛ فتمتنع عنك الهداية. فإذا جاء أحد يجادلك؛ ويقول لك: إن الله سبحانه وتعالى قد قال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [المدثر: 31] . لك أن تقول له: لقد بيَّن الله عَزَّ وَجَلَّ من شاء له الهداية، ومن شاء له الضلال، ولقد ضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - فقلنا: إن الهداية قد وردت في القرآن الكريم على معنيين: المعنى الأول هو الدلالة على الطريق، وهذه هداية للجميع، فقد دل الله المؤمن والكافر على طريق الإيمان برسله وكتبه، أي: بيَّن لهم ما يرضيه وما يغضبه وما يوجب رحمته وما يوجب لعنته، فالهداية الأولى - إذن - وردت بمعنى الدلالة للجميع، أي: أنها هداية عامة. ثم هناك هداية ثانية خاصة للمؤمنين، وهي التي بيَّنها الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] . أي: أعانهم على منهجه؛ فيسَّر لهم الطاعة وصعَّب عليهم المعاصي، فإذا امتثل المؤمن لمنهج الله وأطاعه، فالحق عَزَّ وَجَلَّ يشرح صدره بذلك، ويجبب الطاعة إليه؛ فيزداد طاعة. وإذا شرع في ارتكاب المعصية؛ بغَّضها له وجعلها ثقيلة على نفسه حتى يتركها. وضربنا لذلك مثلا بالرجل الذي يقود سيارته ذاهبا لمكان معين. وعند الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4968 مفترق الطرق وجد رجلا من رجال المرور؛ فدله على الطريق، هذه دلالة عامة. وعندما يقدم الرجل الشكر لجندي المرور. فرجل المرور يُزيد من الإيضاح له: لا تتبع طريق؛ كذا لأن فيها متاعب ومصاعب، واتبع طريق كذا وكذا تصل في سرعة ويسر، وهذه زيادة في الدلالة، أو زيادة في الهداية. لكن إن قال سائق السيارة لنفسه: إن هذا رجل مرور لا يعرف شيئاً، وتجاهل شكره، فرجل المرور يتركه وشأنه. إذن فالحق سبحانه قد هدى المؤمن والكافر إلى طريق الإيمان، فمن اتخذ طريق الإيمان أعانه الله تعالى عليه. ومن اتخذ طريق الكفر - والعياذ بالله - تركه الله يعاني ويضل. ولذلك لا بد لنا أن نتذكر دائما أن الهداية هدايتان؛ هداية دلالة لكل الناس، وهداية معونة للمؤمنين فقط، وفي الدلالة العامة يقول الحق تبارك وتعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10] . أما دلالة المعونة: فهي التي يقول فيها المولى عَزَّ وَجَلَّ: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] . وما يكشف لنا أن الهداية عامة، أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن قوم ثمود وهم الذين بعث الله إليهم أخاهم صالحاً، قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] . ولو كانت الهداية هنا بمعنى أنهم أصبحوا مهتدين، وسلكوا سبيل الإيمان ما قال الله سبحانه بعدها: {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4969 إذن {فَهَدَيْنَاهُمْ} في هذه الآية الكريمة معناها دللناهم على طريق الإيمان ولكنهم اختاروا طريق العمى والكفر. ويقول المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك: {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4970 وفي سورة الأنفال تصنيف آخر في قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74] . وفي هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال كان تصنيف المؤمنين بعد الهجرة مباشرة، وانتهت الهجرة؛ وأصبح الجميع سواء، فجاء التصنيف الجامع في آية التوبة. لقد أوضح المولى سبحانه وتعالى أن هذه الأعمال لم تكن مقبولة من المشركين، أما إن قام بها المؤمنون فلهم درجة عند الله. وفي هذه الآية الكريمة يصفهم الحق بأنهم {أَعْظَمُ دَرَجَةً} ، {أَعْظَمُ} صيغة أفعل التفضيل، وهي تعطي قدراً زائداً عن الأصل المعترف به، فيقال: فلان أعلم من فلان. وبهذا يكون الشخص الثاني عالما، ولكن الشخص الأول أعلم منه. ويقال: فلان أكرم من فلان، أي أن الموصوف الثاني كريم، والموصوف الأول أكرم منه. والله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4970 سبحانه وتعالى أراد أن يبين لنا الفوز عنده، فقال: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله وأولئك هُمُ الفائزون} [التوبة: 20] . فهؤلاء هم الذين يحصلون على أكبر الأجر عند الله تعالى، وهم المؤمنون المهاجرون، والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم، والفوز حكم يؤدي إلى أن تأخذ ما تحبه نفسك. فقال الحق موضحاً ما يفوزون به: {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله وأولئك هُمُ الفائزون} [التوبة: 20] . وما دام هؤلاء هم الفائزون، فالفوز إنما يكون في مضمارين اثنين. فالذين يصنعون أمورا خاصة بالدنيا قد يفوزون فيها بدرجة من النعيم، ولكن نعيمهم على قدر إمكاناتهم؛ وهو نعيم غير دائم؛ لأنه إما أن يزول عنهم بذهاب النعمة، وإما أن يزولوا هم عنه بالموت، إذن فهو نعيم ناقص. أما الذي يؤمن ويهاجر ويجاهد ويعمل لآخرته، فسوف يفوز بنعيم لا على قدر إمكاناته، ولكن على قدر إمكانات الله، ولا مقارنة بين إمكانات الله وإمكانات خلقه. وفوق ذلك فهو نعيم دائم لا يتركك فيزول عنك، ولا تتركه لأنك في الجنة خالد لا تموت. ثم يذكر الحق بعد ذلك قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وجنات ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4971 إذن فهذا قمة الفوز للقوم الذين يبشرهم الله في هذه الآية بالرحمة منه وبالرضوان المقيم. والبشارة - كما نعلم - هي نوع من الإعلام بشيء سوف يأتي مستقبلاً، أي، أنك حين تبشر إنسانا فأنت تخبره بشيء قادم يسره. إذن ففائدة البشارة أن تغري الإنسان بسلوك السبيل الذي يحققها، فأنا أبشرك بالنجاح إن استقمت وذاكرت واستمعت للأساتذة، ويشجعك كلامي لتجتهد حتى تحقق هذه البشارة، فكأن البشارة تجعلك تتخذ الوسيلة التي توصلك إليها. ولذلك فقد قلنا: إن الأسباب والمسببات والعلة والمعلول والشرط والجواب؛ كلها يجب أن تحرر بشكل آخر، لأننا كنا نتعلم أن الشرط سبب في الجواب؛ كقولك: «إن تذاكر تنجح» ، وعلى ذلك فالشرط هو المذاكرة، وسبب الجواب هو النجاح، ونقول: لا، إن الجواب هو السبب في الشرط لأنك لا تذاكر إلا إذا تمثل لك النجاح بكل ما يحققه لك من فرحة، إذن فالشرط سبب في وجود الجواب واقعا. والجواب سبب في وجود الشرط دافعا، أي: أ: ن الدافع لمذاكرتك هو ما يمثله لك النجاح من قيمة مادية ومعنوية. وكل إنسان يرغب في النجاح، لكن النجاح لا يتحقق بالدعاء فقط، بل بالمذاكرة التي تحقق النجاح كواقع. بمعنى أنك لا تذاكر إلا وقد تمثل لك النجاح بمواهبه ومزاياه وبمكانته ويفرح أهلك بك، وبفرحك بنفسك. ولهذا نقول: إن السبب هو الذي يوجد أولاً في الذهن. ومثال آخر: لنفترض أنك تريد أن تسافر إلى الطائف. فتكون الطائف هي الغاية، وتكون أنت قد خططت للوسيلة وفي ذهنك الغاية، إذن فالجواب يوجد دافعا، والشرط يوجد واقعاً. وقوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} أي: يخبرهم بالنهاية السارة التي سوف يصلون إليها ليتحملوا مشقة التكاليف التي يأمرهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4972 بها المنهج؛ لأن الجنة محفوفة بالمكاره، ولأن التشريع الإلهي تقييد لحرية الاختيار في العبد، والمؤمن مقيد بأوامر الله تعالى في «افعل» و «لا تفعل» . ولكن غير المؤمن إنما يتبع هواه في كل حركاته، ويفعل ما يشاء له من الهوى ويطيع نزواته كما يريد، أما المؤمن فحريته فقط فيما لم يرد فيه تشريع من الله تعالى، أما ما يخضع للمنهج فهو مقيد الحركة فيه بما قضى الله به. فكأن الإيمان جاء ليقيد، ولكن إذا قارنا بين الجزائين، نجد أن الذي يتبع شهواته في الدنيا إنما يحصل على لذة موقوتة، وعمره في الدنيا محدود، إذن فهو الخاسر، لأن الذي قيد حركته بمنهج الله يأخذ اطمئنانا في الدنيا ونعيما مقيما لا يزول ولا ينتهي في الآخرة. والمثال الذي أضر به دائما هو الطالب الذي لا يذهب إلى المدرسة ولا يذاكر، ولكن يقضي وقته في اللعب واللهو، وهو قد أعطى نفسه ما تريد، ولكنه أخذ متعة محدودة، ثم بعد ذلك يعيش في شقاء بقية عمره. أما الذي قيد حركته بالمذاكرة، فقد منع شهوات نفسه في اللعب واللهو. وتكون الثمرة أنه يحقق لنفسه مستقبلا مريحا ومرموقا بقية عمره. إذن فكل من الطالب الذي يجتهد وذلك الذي يلهو ويلعب، كل منهما أخذ لوناً من المتعة. ولكن أحدهما أخذ متعة قصيرة جداً، ثم أصبح من صعاليك الحياة، أما الثاني فقد قيد نفسه سنوات معدودة ليتمتع بمستقبل ناجح. كذلك أنت في الدنيا؛ إن قيدت نفسك بالتكاليف «افعل» و «لا تفعل» ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4973 فظاهر الأمر أنك قَيَّدْتَ حريتك، وإن فعلت ذلك برضا، فالله يعطيك راحة واطمئنانا ومتعة في النفس. ولذلك نجد الصلاة وهي التي يؤديها المسلم خمس مرات في اليوم على الأقل؛ هذه الصلاة في ظاهرها أنها تأخذ بعضا من الوقت كل يوم، ولكنها تعطي راحة نفسية، كما أنها تعطي اقتناعا يفوق التصور إن خشع فيها الإنسان وأداها بحقها، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «يا بلالُ أرِحْنَا بالصلاة» . كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضمن حديث رواه عنه أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «وجُعلَتْ قُرَّة عيني في الصلاة» . لأن التكليف ينتقل من المتعة إلى الراحة. ويتمتع الإنسان فيها بتجليات ربه وفيوضاته فترتاح نفسه وتهدأ. وانظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} ، تجد البشارة هنا آتية من رب خالق. والرب هو المالك؛ والمدبر الذي يرتب لك أمورك، وهو مأمون عليك. {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21] . والرحمة والرضوان من صفات الله وهي صفات ذاتية في الله، ومتعلقات العبد فيها أنه سبحانه يهبها لمن يشاء. ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله: {وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 21] . ونجد أن هذا ترقٍّ وتدرجٌّ في النعمة، فقد بشرهم الله سبحانه أولاً بالرحمة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4974 وهي ذاتية فيه، ثم بنعمة دائمة في الحياة. ولنلحظ أن هناك فارقا بين النعمة والمنعم. ونضرب لذلك مثلا - ولله المثل الأعلى - إذا دعاك إنسان في بيته وقت الطعام ثم جاء بطبق فيه تفاح، لا بد أن يكون التفاح في الطبق يكفي كل الجالسين بحيث يأخذ كل واحد منهم تفاحة، فإذا أمسك صاحب البيت بتفاحة وأعطاها لأحد الجالسين. فهذا مظهر من مظاهر رعاية خاصة من صاحب البيت، وتمييز لشخص ضيفه عن بقية الضيوف، وهذه تمثل درجة أعلى من الكرم والاهمتام؛ فهي تمثل الرحمة والرضوان. أما التفاح نفسه فهو النعمة، ومثله مثل الجنات. وهكذا نرى أن هناك اختلافاً في التكريم. والمؤمنون حين يرتقون في درجة الإيمان؛ يعيشون دائما مع النعمة والمنعم، فإذا جاء الطعام قالوا: «بسم الله» ، وإذا أكلوا قالوا: «الحمد لله» ، ولكنهم إذا ارتقوا أكثر في الإيمان عاشوا مع المنعم وحده، ولذلك يباهي الله بعباده الملائكة؛ يباهي بعبادتهم وطاعتهم التي يلتزمون بها على أي حالة يكونون عليها، ولو نزل بهم أشد البلاء وسلبت منهم النعم، وهؤلاء من أصحاب المنزلة العالية. ولذلك «فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل» ؛ ليرى الحق سبحانه وتعالى من يحبه لذاته وإن سلب منه نعمة، وهذه منزلة عالية. فمن عبد الله ليدخل الجنة أعطاها له، ومن عبده سبحانه؛ لأنه يستحق أن يعبد، فسوف يرتقي في الجنة ليرى وجه الله في كل وقت؛ وأما الآخرون فيرونه لمحات، ولذلك يكون الجزاء في الآخرة على قدر العمق الإيماني للعبد، لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4975 {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} [الكهف: 110] . وقال أحد الصالحين: «إني لا أشرك بك أحدا حتى الجنة، لأن الجنة أحد» . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} وقد ترحم ولكنك لا تنال الرضوان، فوضح المولى سبحانه وتعالى ذلك وأضاف «الرضوان» إلى «الرحمة» ، ولذلك يقول الحق عَزَّ وَجَلَّ: {بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} والرضوان هو ما فوق النعيم. وبعد الرضوان يقول الحق سبحانه وتعالى: {وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} . ولقائل أن يقول: هل هناك جنة ليس فيها نعيم؟ ولماذا ذكرت النعيم؟ والجنة وجدت أصلا لينعم فيها الإنسان. ونقول لمثل هذا القائل: انتبه والتفت جيدا إلى المعنى، فالمتحدث هو الله سبحانه وتعالى. وقد يكون عند الإنسان نعمة واسعة، ولكن يحيا في الكثير من المنغصات، مما يجعله لا يستمتع بالنعمة، كمرض يملؤه بالألم، أو ابن عاق يكدر حياته، أو زوجة تملأ الحياة كدرا ونكدا، قد يحدث كل ذلك فلا يستمتع الإنسان بما يملك من نعمة الله؛ لأن المكدرات قد أحاطت به. وهنا يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أن جنة الآخرة ليس فيها منغصات الدنيا، بل هي صفاء واستمتاع، يعطي فيها الحق سبحانه وتعالى لعبده ما تشتهيه نفسه ويبعد عنه جميع المنغصات، وقد يخاف الإنسان ألا يدوم مثل هذا النعيم، لذلك يطمئن الحق العبد المؤمن أنه {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} ، قد ينظر إنسان إلى أن الإقامة مقولة تحمل التشكيك، فقد تستغرق الإقامة زمناً طويلاً ثم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4976 تنتهي، وشاء الله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يطمئن المؤمن بوعد حق، فوعد المؤمنين بالخلود الأبدي في الجنة. فيقول سبحانه وتعالى: {خالدين فِيهَآ أَبَداً إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4977 وهذا ما يؤكد الاطمئنان في قول الحق سبحانه وتعالى: {لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} ، وكلمة {لَّهُمْ} أعطت شبه الملكية لهذا النعيم. ولذلك مهما تملك الإنسان في هذه الدنيا، فهذا الامتلاك لا يتجاوز حدود أن يجلس؛ ويقوم الخدم بتنفيذ أوامره؛ لأن المتعة إما أن تكون بيدك، وإما أن تنعم بالراحة ويقدمها لك غيرك. وعلى سبيل المثال حين تريد أن تأكل، فإما أن تعد الطعام لنفسك، وإما أن يعده لك غيرك. ولا يوجد إنسان مهما أوتي من ملك بإمكانه أن يحقق كل ما يريده بيده. بل لا بد من الالتجاء إلى مساعدة الآخرين. ولكن المؤمن في الجنة ينال ما يتمناه بمجرد أن يخر الشيء بباله، وهذا يختلف عن الدنيا؛ لأنك حين ترغب في شيء في دنيانا، لا بد أن تقوم به بنفسك، أو تعتمد على غيرك؛ لينفذه لك، حتى وإن كان ما تطلبه هو مجرد فنجان من القهوة، وأنت تحدد لصانعها الهيئة والنوع إن كنت تريدها بدون سكر، أو بقليل من السكر، أو بكثير من السكر، لأن كلا منا في الدنيا إنما يحيا مع أسباب الله. ولكن المؤمن في الجنة إنما يحيا مع المسبب وهو الله القادر العظيم. وحين يقول المولى سبحانه وتعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وجنات} فنحن نلحظ مقابلة الجمع بالجمع، وهي كما علمنا من قبل تقتضي القسمة آحاداً، فإذا دخل الأستاذ الفصل وقال لتلاميذه: أخرجوا أقلامكم، فكل تلميذ لا يخرج أقلاما، بل يخرج كل قلمه. وإذا قلنا: اركبوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4977 سياراتكم فليس معنى هذا أن يركب كل واحد كل السيارات، ولكن معناه أن يركب كل واحد سيارته. وقول الحق: {جنات} ليس معناه أن يدخل كل مؤمن كل الجنات، ولكن المعنى والمقصود أن يدخل كل منهم جنته على حسب الأعمال التي اكتسبها والمنزلة التي وصل إليها. ومن المهم أن نعلم أن صاحب الجنة عالية المنزلة لن يتلقى حسدا من صاحب الجنة متوسطة المنزلة. وصاحب الجنة الدنيا لن يحسد من هو أعلى منه، وكذلك لن يزهو صاحب الجنة عالية المنزلة على غيره. وكل واحد منهم يفرح بمكانة الآخر. مثلما يحدث أحيانا في الدنيا حين يتفوق إنسان في دراسته فقد نجد من هو أقل منه درجة يفرح له بصفاء نفس، وكذلك لا يزهو متفوق بمكانته على الأدنى منه، وإذا كان ذلك هو ما يحدث في الدنيا، فما بالنا بالآخرة؟ حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] . أي: أن كلا من أهل الجنة يفرح بمنزلته، ويفرح بمنزلة الأعلى منه، لأنه سينال من فيوضات الخير، التي عند الأعلى منزلة. عندما يأتي لزيارته وقد قالوا في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . إن كل من علت منزلته في الجنة له جنة خاصة به، وجنة أخرى ليتكرم بها على من هم دونه، وكأنها مضيفة لمن يحبهم، إذن ففي الآخرة يفرح أهل الجنة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4978 بمن هم أعلى منهم، لأنهم سينالون منهم خيرا. وفي الدنيا إذا أراد إنسان أن ينال نعم كل الخلق، فلا بد أن يفرح بالنعمة عند صاحبها؛ لأنه حين يفرح بالنعمة عند صاحبها أتت إليه واستفاد منها، وعلينا أن نوقن بأن النعمة تعشق صاحبها أكثر من عشق صاحبها لها، لأنها تعرف أن الله قد أرسلها إليه، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] . وأنت حين تبذر بذرة الشجرة، تعطيك الشجرة الثمار، وهي التي تعطيك نتاجها. ولست أنت الذي تنتزعه منها، ولذلك نقول دائما: إن الرزق يعرف عنوانك جيدا ولكنك لا تعرف مكانه أبدا، فأنت تبحث عن الرزق في كل مكان وقد لا تجده. ولكن ما قسمه الله لك من الرزق تجده يسعى إليك ويأتيك حتما. وأهل الجنة لا يعرفون الحقد ولا الحسد ولا الغل. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه وهم جالسون معه ذات يوم: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» . ودخل الرجل وعرفه الصحابة، فأرادوا أن يعرفوا ماذا يعمله هذا الصحابي حتى يستحق بشارة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالجنة. قالوا له: ونحن نريد أن نعرف ماذا تفعل لنكون معك. فقال الرجل: إني لأصلي كما تصلون وأصوم كما تصومون وأزكي كما تزكون. ولكني أبيت وليس في قلبي غل لأحد. فذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا له: لقد قال الرجل كذا وكذا. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وهل فضلت الجنة على الدنيا إلا بهذا» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4979 فالله سبحانه وتعالى يقول فيها: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] . ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4980 والولي هو الذي يليك وينجز ما تحبه، وتلجأ إليه في كل أمر، وتأخذ منه النصيحة، كما أنه القادر أن يجيرك حين تفزع إليه، ويكون دائما بمثابة المعين لك، والقريب الذي يسمع منك، إذا استغثت يغيثك وينصرك، ويكون معك في كل أمورك. إن قارنا بين طلب المخلوق وطلب الخالق. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هنا: إن أردتم أن يكون بناء الإسلام قويا لا خلل فيه، فإياكم أن يكون انتماؤكم غير انتماء الإيمان، فهو فوق انتماء النسب والحسب وغير ذلك، وإن قارنا بين طلب المخلوق وطلب الخالق، فما يطلبه الخالق فوق ما يطلبه المخلوق؛ لأنك إن أغضبت المخلوق في رضا الخالق تكون أنت الفائز، ويقذف الله في قلب كل من حولك رضاهم عنك، وسيقال عنك صاحب مبدأ وضمير، ولا ترضى أن تغضب الله ليرضى عنك أحد. وإن أسخطت الله لإرضاء مخلوق مهما كان، تجد أن الله يجعل هذا المخلوق يسخط عليك ويحتقرك. فإن شهدت زورا لصالح بشر. يعرف عنك هذا الذي شهدت زوراً في حقه أنك شاهد زور فلا يأمنك، وإن جئت بالصدفة لتشهد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4980 عنده فهو لا يقبل شهادتك ويحتقر كلامك. ولذلك قال الحكماء: شاهد الزور قد يرفع رأسك على الخصم بشهادته، ولكنك تدوس بقدمك على كرامته لأنه سقط في نظرك. والانتماء إذن هو انتماء لله، فإن صادفك قريب يريد منك أن تفعل ما يغضب الله فلا تطعه، ولكن لا تكن فظا معه. وخصوصا مع الوالدين لأن الله سبحانه وتعالى يقول عنهما: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] . والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} [التوبة: 23] . إذن فالذي يربط كل شيء هو الكفر أو الإيمان. وقد أعطانا صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المثل الخالد. فقد كان سيدنا مصعب بن عمير أكثر الفتيان تدللا في مكة، وكانت حياته في مكة قبل إسلامه غاية في الترف، وكان يرفل في الثياب الفاخرة، فلما هاجر إلى المدينة عاش ظروف الفقر المادي الصعب، لدرجة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رآه في الطريق ساترا عورته بجلد شاة فلفت النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ نظر الصحابة إلى حالته هذه وكيف فعل الإينما بمصعب حيث فضل الإيمان على نعيم الدنيا كلها. لقد رأى مصعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن شرفه بالانتماء إلى الإسلام أكبر من فاخر الثياب، وترف العيش وانطبق عليه قول الحق تبارك وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4981 {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله وأولئك هُمُ الفائزون يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 20 - 22] . وأعطانا سيدنا مصعب ومن معه المثل العظيم في الانتماء الإيماني، والمجاهدة في سبيل الله بالمال والنفس، وكيف نجعل اختيارنا مع منهج الله، هذا المنهج الذي يقيد الإنسان فيما له اختيار فيه. فالإنسان مقهور في أشياء ومخير في أشياء. ونعلم أن التكليف لا يأتي في الأمور التي نحن مقهورون عليها. وإنما يأتي فيما لنا فيه اختيار. فإذا ما كان لنا اختيار، فلنراع أن نختار بين البدائل في إطار منهج الله تعالى، ولا نخرج بعيدا عن هذا الإطار. وكان المسلمون الأوائل يضحون بالبيت والمال والولد، ويهاجرون في سبيل الله. واستقبلوا كل هذه التضحيات الصعبة بصدور مؤمنة، وصبر واحتمال شديدين؛ لأنهم وثقوا في البشارة من الله سبحانه وتعالى بأن لهم الجنة والرضوان، والنعيم المقيم؛ خالدين فيه لا يفارقهم ولا يفارقونه. وبهذا أقيم بناء الإسلام. وبعد أن بيَّن لنا الحق أسس الانتماء للدين، وجزاء هذا الانتماء، حذرنا أن ننحرف عنه لنرضى أبا أو إخوة أو أقارب، فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} [التوبة: 23] . ويريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعرف أن الانتماء لله لا يعلو عليه شيء، فإذا مِلْناَ عن الحق لنرضي أقارب، أو لنحتفظ بمال أو منصب، فذلك ظلم للنفس؛ لأن جزاء الحق ونعيمه أكبر، فلا ينصرن أحد الباطل، ولا يجعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4982 أحدنا الإيمان خادما لكفار لا يؤمنون بالله. ويوضح الحق سبحانه وتعالى هذه الصورة بقوله تعالى: {إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} ، وكلمة «استحب» أي: طلب الحب ومثلها مثل «استخرج» أي: طلب إخراج الشيء. وإذا قلنا «استجاب الله» معناها: أجاب. إذن ف «استحب» معناها: أحب، ولكن «استحب» فيها افتعال. و «أحب» فيها اندفاع بلا افتعال. وقول الحق تبارك وتعالى {إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} يدل على أن الكفر مخالف للفطرة الإيمانية للإنسان، لأن الإنسان بفطرته مؤمن محب للإيمان، فإن حاول أن يحب غير الإيمان، لا بد أن يتكلف ذلك؛ وأن يفتعله لأنه غير مفطور عليه؛ وليس من طبيعته. ولذلك يقول القرآن الكريم: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] . وهذا التساؤل والتعجب يوضح لنا أن الذين يحكّمون المنطق والفكر والعقل يصعب عليهم الكفر بالله، لماذا؟؛ لأن الكون وجد أولا، ثم وجد الإنسان، فكان من الواجب حين نأتي إلى كون لم نصنع فيه شيئا أن نسأل: من الذي أوجده؟ وكان من الطبعي أن يبحث العقل عن الموجدة، وخصوصا أن في الكون أشياء، لا قدرة للبشر على إيجادها؛ كالشمس، والأرض، والماء، والهواء، والنبات، والحيوان. وكلها تمثل الاستقبال الجامع لمقومات حياتك. كان من الطبعي - إذن - أن نسأل: من الذي أوجد هذا الكون؟ . خصوصاً أننا نفتش عمن اخترع لنا اختراعا بسيطا مثل: مصباح الكهرباء وندرس تاريخ حياته، وكيفية اكتشافه، لمجرد أنه أضاف إلى حياتنا اختراعا استفدنا منه، فما بالنا بمن خلق هذا الكون؟ . ولقد رحمنا سبحانه وتعالى من ضلالات الحيرة، فأرسل لنا رسولا برحمة منه؛ لينبهنا ويقول لنا: إن هذا الكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4983 من خلق الله العظيم. لماذا إذن لا نصدق الرسول، ونتبع المنهج الذي أنزل إلينا؟ ولقد ضربنا مثلاً - ولله المثل الأعلى - بشخص سقطت به الطائرة وسط الصحراء وبقي حيا، لكن لا ماء ولا طعام، ثم أخذته سِنَةٌ من النوم واستيقظ ليجد الطعام والشراب، وكل ما يحتاج إليه حوله؛ ألا يفكر قبل أن يأكل من كل هذا: من الذي جاء به؟ . وأنت أيها الإنسان قد جئت إلى هذا الكون العظيم وقد أُعِدَّ إعداداً مثالياً لحياتك، وهو إعداد فوق القدرة البشرية، فكان يجب أن تفكر من الذي أوجد هذا الكون؟ . إذن: فالإيمان ضرورة فطرية؛ وضرورة عقلية أيضا، وإن ابتعدت عن الإيمان فهذا يحتاج إلى تكلف؛ لأنك تبتعد عن منطق الفطرة والعقل؛ لتحقق شهوات نفسك. وما دمت قد اتبعت هواك وخضعت لشهوات النفس، فهذا لون من التكلف الذي يصيب ملكاتك بالخلل، وعقلك بالخبل، فحب الكفر لا يكون عاطفياً، أو فطرياً، كما لا يكون منسجما مع العقل السليم، بل هو حب متكلَّف. فالذي يفعل حلالاً يحيا وملكاته كلها منسجمة، والذي يفعل حراما يعيش وملكاته مضطربة، والمثال: حين ينظر الرجل إلى زوجته، فهو ينظر إلى حلاله ويشعر أن ملكاته منسجمة، ولكن إن نظر إلى امرأة أخرى، فهو. . يشعر باضطراب الملكات. فالسلوك المتفق مه الإيمان سلوك سوي. أما السلوك الخارج عن منهج الإيمان فهو الذي يحتاج إلى تكلف، وهذا التكلف يعارض الطباع الإنسانية. بينما توابع الإيمان من الاستقامة لا تكلف شيئا، فالمؤمن يكون مستقيماً فلا يرتشي، ولا يسرق، ولا يدخل بنفسه إلى مزالق الهوى أو الشهوة، ويحيا حياة طيبة، فإن فتح «دولابه» الخاص، وأخذ منه شيئا فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4984 يأخذ ما يريد بهدوء واطمئنان، لكن المنحرف من يدخل إلى غير حجرته ليأخذ شيئا من «دولاب» ما، حتى ولو كان «دولاب» الأب النائم، لذلك نجده يسير على أطراف أصابعه متلصصا ليفتح «دولاب» أبيه. إذن: فالاستقامة لا تحتاج إلى تكلف، ولكن الانحراف هو الذي يحتاج إلى تكلف، ولذلك قال الله سبحانه: {استحبوا} ولم يقل؛ «أحبوا» ، لأن الحب أمر فطري، فالإنسان - مثلا - يحب ابنه حبا فطرياً عاطفياً، والحب العاطفي لا يقنن. فأنت لا تستطيع أن تقول: سأحب فلاناً وسأكره فلاناً؛ لأن العاطفة لا تأتي بهذه الطريقة؛ لذلك أنت تحب ابنك عاطفياً، حتى وإن كان فاشلاً في دراسته. لكنك تحب ابن عدوك عقليا إن كان متفوقاً، إذن فالحب العقلي هو الذي يقنن له. وكذلك أنت تكره الدواء المر بعاطفتك، لكنك تحبه بعقلك إن كان فيه شفاؤك، فتبحث عنه، وتدفع المال من أجله، وتحرص على أن تتناوله، وكلنا نعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه» . ووقف عند هذه سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال: يا رسول الله: أنا أحبك عن مالي وأحبك عن ولدي، ولكن كيف أحبك عن نفسي؟ فكرر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحديث قائلا: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه» . وكررها عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثلاثا، فعلم عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن هذا تكليف. والتكليف لا يأتي إلا بالحب العقلي الذي يمكن أن يقنن. وقد يتسامى المؤمن في الحب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليصير حباً عقلياً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4985 وعاطفياً. ولكن الحب العقلي هو مناط التكليف، أما الحب العاطفي فلا يكلف به. ولم يقنن الحق سبحانه وتعالى لانفعالات العواطف، لأنه سبحانه لا يمنع العواطف أن تنفعل انفعالاتها الطبيعية، فأنت تحب من يسدي إليك معروفاً، وهناك من تحبه دون أن تعرف السبب. وهناك من تبغضه دون أن يكون أن يؤدي ذلك إلى عدوان على الحق، فقال سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ} [المائدة: 8] . أي: لا يدفعكم كره قوم على أن تخرجوا عن طريق الحق وتظلموهم، فإن كرهتموهم فتمسكوا بالعدل معهم. إذن فالله سبحانه وتعالى لم ينه عن الحب أو الكره؛ ولكنه نهانا عن أن نظلم من نكره أو نجامل من نحب على حساب الحق والعدل. ويعطينا سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - صورة حية لهذا؛ فقد قتل أبو مريم الحنفي زيد بن الخطاب شقيق سيدنا عمر في معركة اليمامة، ثم دخل في الإسلام؛ فكان كلما مر أمام سيدنا عمر قال له: إلو وجهك بعيدا عني، فإني لا أحبك. فقال له أبو مريم الحنفي: أو عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي. قال: لا. فقال الرجل: إنما يبكي على الحب النساء. والحق سبحانه وتعالى حين قال: {إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} إنما يريد أن يلفتنا إلى أنهم عارضوا فطرتهم وعقولهم؛ ولذلك لا نجعل انتماءنا لهم فوق انتمائنا لله، فالولاء لله فوق كل حق؛ حتى لو كان حق الأبوة، صحيح أن الأب سبب وجودك، ولكنه سبحانه وتعالى خلق أباك الأول آدم من عدم، فلا تجعل الخلق الفرعي يطغى على الخلق الأصلي. ولذلك يذيل الحق هذه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4986 الآية الكريمة بقوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} لأنهم نقلوا الحق من الله سبحانه وتعالى إلى الخلق، ولأنهم ظلموا أنفسهم فحرموها من الجزاء في الآخرة ليحققوا نفعا عاجلا في الدنيا. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] . لأن أحدا لا يستطيع أن يظلم الله سبحانه وتعالى، والذي يتمرد على الإيمان بعد أن يسمع الدعوة إليه ولا يؤمن، ومن يأمره الحق بالطاعة فيعصي، فهذا تمرد على الإيمان، وإن كنت من المتمردين وجاءك الله بمرض؛ فهل تقدر على دفع المرض ولا تمرض؟ . وإذا جاءك الله بالموت. أتستطيع أن تتمرد على الموت وتبعده عنك فلا تموت؟ . إذن: هناك أقدار لا تستطيع التمرد عليها، وأنت متمرد - فقط - فيما لك فيه اختيار. وبعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يخاطبهم خطاباً صريحاً فقال: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4987 والخطاب هنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليبلغه للمؤمنين. وقد جاء سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بمراحل القرابة، فذكر أولاً صلة النسب من آباء وأبناء وإخوة، ثم الزواج، وهو وسيلة التكاثر، ثم الأهل والعشيرة، ثم الأموال التي نملكها فعلاً، ثم الأموال التي نريد أن نكسبها، ثم المساكن التي نرضى بها، وبعد ذلك ذكر التجارة التي تزيد من المال. وفرَّق الله سبحانه بين الأموال التي في حوزتنا وبين التجارة؛ لأن التجارة قد تأتي لنا بأموال فوق الأموال، والإنسان لا يحصل على سكن إلا إذا كان عنده فائض من المال. ويذكرنا الحق سبحانه هنا إن كانت أي مسألة من هذه الأشياء، وهي زينة الحياة الدنيا أحب إليكم من الله ورسوله والجهاد في سبيل الله {فَتَرَبَّصُواْ} أي انتظروا حتى يأتيكم أمر الله، وجينئذ ستعرفون القيمة الحقيقية للدنيا وقيمة ما عند الله تعالى من رضاء ونعيم. ولهذه الآية الكريمة أسباب نزول، وهو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما أُمِرَ بالهجرة من مكة إلى المدينة، أمر المسلمين بالهجرة، فتركوا أموالهم التي اكتسبوها بمكة وتجاراتهم ومساكنهم، وآبائهم وأبنائهم، وإخوانهم وأزواجهم وعشائرهم، التي تستطيع حمايتهم، تركوا كل هذا وهاجروا لأرض جديدة. ولكن من المسلمين من ركنوا للدنيا فبقوا بجوار أموالهم وأواجهم وأبنائهم المشركين، وكانت الواحدة من النساء المشركات تتعلق بقدمي زوجها المسلم الذي يريد الهجرة حتى لا يتركها فكان قلبه يرقُّ لها، ومنهم من كان يخشى ضياع ماله وكساد تجارته، التي بينه وبين المشركين، فنزلت هذه الآية. إن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح قيمة الانتماء الإيماني ويدرب المؤمنين عليه. فقد كان المسلم لا يتم إيمانه حتى يهاجر، ويصارم أهله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4988 وأقاربه ويقاطعهم، فشق ذلك عليهم. وقالوا: يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من خالفنا في ديننا قطعنا آباءنا وأبناءنا وأزواجنا وأقاربنا، وخفنا على أموالنا وتجارتنا من الفساد، وخفنا على مساكننا أن تخرب، وبذلك نضيع، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكأنها تأمرهم بأن كسب الإيمان أعلى من أي كسب آخر، فأنزل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وتجارة تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومساكن تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 24] . ولما نزلت هذه الآية الكريمة أخذها الصحابة مأخذ الجد وهاجروا؛ وقاطعوا آباءهم وأبناءهم، حتى إن الواحد منهم كان يلقى أباه أو ابنه فلا يكلمه، ولا يدخله بيته، ولا ينزله في منزله إن لقيه، ولا ينفق عليه، إلى أن نزلت الآية الكريمة: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] . أي: أن المعروف معهم يقتصر فقط في المعاملة وفي الإنفاق على المحتاج. أما الطاعة لهم فيما يغضب الله فهي محرمة. وحاول بعض المستشرقين أن يطعن في القرآن، فمنهم من قال: إن هناك تعارضاً بين آيات القرآن الكريم، فالآيتان اللتان ذكرناهما؛ الأولى تطلب مقاطعة الآباء والأبناء إن استحبوا الكفر على الإيمان، والآية الثانية تطلب مصاحبتهم بالمعروف أو عدم القطيعة، وآية ثالثة تقول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4989 {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] . ولم يفطن هؤلاء إلى أن هناك فارقاً بين الود والمعروف، فالود هو عمل القلب، فأنت تحب بقلبك، ولكن المعروف ليس من عمل القلب لأنك قد تصنع معروفاً في إنسان لا تعرفه، وقد تصنع معروفاً في عدوك حين تجده في مأزق، ولكنك لا تحبه ولا توده. إذن: فالمنهي عنه أن يكون بينك وبين من يحادون الله ورسوله حب ومودة، أما المعروف فليس منهيا عنه؛ لأن الله يريد للنفس الإيمانية أن تعترف بفضل الأبوة، فإن وجدت أباك وهو غير مؤمن في مأزق فاصنع معه معروفاً وساعده، لكن عليك ألا تطيعه فيما يغضب الله؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يربي في النفس الإيمانية أن تحترم من له فضل عليها. والأب والأم من أسباب الوجود الفرعي في الحياة، لذلك جاء الأمر بمصاحبتهما بالمعروف في الدنيا، شرط ألا نقبل منهما دعوتهما للكفر إن كانا من أهل الكفر، لأن إيمانك بالله لا بد أن يكون هو الأقوى. ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» . وذلك حتى لا يكون مقياس الحب هو النسب أو القربى، وإنما يكون القرب من الله سبب الحب، والبعد عن الله سبب الكره. فقضية الإيمان تَجُبُّ قضية العاطفة. ففي معركة بدر كان سيدنا أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أما ابنه فلم يكن قد أسلم بعد وكان مع الكفار، فلما أسلم ابن أبي بكر وآمن؛ قال لأبيه: لقد رأيتك يوم بدر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4990 فلويت وجهي عنك حتى لا أقتلك. فرد سيدنا أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لو أني رأيتُكَ لقتلتُكَ. وهذا منطقي مع الإيمان لأن الموازنة النفسية اقتضت أن يقارن ابن أبي بكر بين أبيه وبين صنم يعبده؛ فرجحت كفة أبيه، ولكن أبا بكر حين رأى ابنه قارن بين ربه وابنه فرجحت كفة ربه. وإذا كان ذلك عن القرابة، وكيف يَجُبُّ الإيمان العاطفة، فماذا عن المال؟ يتابع المولى سبحانه وتعالى: {وَأَمْوَالٌ اقترفتموها} أي: أخذتموها بمشقة، وهي مأخوذة من «القرف» وهي القشر، وأنت إن أردت إزالة القشر عن حبة نبات ما، قد تجد شيئا من المشقة؛ لأن هناك التصاقا بين القشرة والحبة، والحق هنا يقول: {وَأَمْوَالٌ اقترفتموها} أي: أخذتموها بجهد ومشقة، وهو غير المال الموروث الذي لم يتعب فيه صاحبه، وإنما ورثه عن غيره، وفي هذه الحالة قد يكون أمره هيناً على صاحبه. أما المال الذي كسبه الإنسان بعرق جبينه وكدِّه فصاحبه أكثر حرصاً عليه من المال الموروث. ويقال: «فلان اقترف كذا» ، أي: أنه قام بجهد حتى حصل عليه، ويقال: «اقترف الكذب» و «اقترف السرقة» ، بمعنى أنه قد بذل جهدًا ليكذب، أو بذل جهدًا ليسرق، أي: قام بعملية فيها مجهود. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} وسبحانه هنا يوضح لهم: انتظروا أمر الله الذي سوف يأتي، لأنه سبحانه لا يهدي فاسقاً خرج عن الإيمان، ولا يهدي من جعلوا حبهم للعلاقات الدنيوية فوق حب الله فخرجوا عن مشيئة هداية الله تعالى، فسبحانه لا يهديهم كما لا يهدي الظالمين أو الكافرين؛ لأن هؤلاء هم من قدموا الظلم والكفر والفسق، فكان ذلك سببا في أن الله لم يدخلهم في مشيئة هداية المعونة على الإيمان، أما هداية الدلالة فقد قدمها لهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4991 ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبعث الطمأنينة الإيمانية في نفوس المؤمنين، فيوضح لهم: إن كنتم تريدون بالآباء والأبناء والعشيرة والأقربين والمال قوة، فاعلموا أن قوة المؤمن من ربه، وإياك أن تنظر إلى ولي آخر غير الله؛ لأن ولاية البشر عرضة للتغير والتبدل، حيث إن الإنسان حدث يتقلب بين الأغيار، فالغني فيها قد يصبح فقيرا، والسليم قد يصبح مريضاً، والقوي قد يصير ضعيفاً، ولكن الولاية الدائمة إنما تكون من قادر قاهر لا يتغير، فإذا كان الله وليك فهو القادر دائمًا، والقاهر دائمًا، والغالب دائمًا، والموجود دائماً، والناصر دائماً، ولكن إذا كانت الولاية من إنسان لإنسان فالأغيار في الدنيا تجعل الصديق ينقلب عدواً، والمعين يصبح ضعيفاً لا يملك شيئا، والموجود يصبح لا وجود له بالموت، إذن: فلا بد أن تجعل ولايتك مع الله سبحانه وتعالى: لأنه هو الدائم الباقي. ولهذا يعلِّم المولى - عَزَّ وَجَلَّ - عبده المؤمن أن يكون دائماً يقظاً، فطناً، لبيباً، فيقول سبحانه وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58] . أي: لا تتوكل على من قد تصبح غداً فتجده ميتاً، ولكن توكل على الحي الموجود دائما، العزيز الذي لا يقهر، القوي الذي لا يغلب. وينبه الحق سبحانه وتعالى المؤمنين: إن كنتم تخشون حين نعزلكم عن مجتمع الكفر لما فيه من عزوة كاذبة بالآباء والأبناء والإخوان والأقارب والمال، فاعلموا أن الله هو الذي ينصر، وهو الولي، ولكن الكافرين لا مولى لهم؛ لأنهم يتخذون موالي من أغيار، والأغيار لا ثقة فيها؛ لذلك يقال: إذا وصل الإنسان إلى القمة فهذه نهاية الكمال، لأنه ما دام قد وصل إلى القمة وكل شيء في الدنيا يتغير، فلا بد أن يتغير هو. ويقول القائل: إذاَ تَمَّ شيءٌ بَدَأ نقصُه ... ترقَّبْ زوالاً إذَا قِيل تَمّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4992 لأن كل شيء ابن أغيار لا بد أن ينزل إلى أسفل، ويوضح الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين أنه إذا كان قد طلب منهم أن يعزلوا أنفسهم عن مجتمع الكفر؛ فأفقدهم بذلك قوة ونصيراً، فهم في مَنَعة أكبر؛ لأنهم حينئذ يكونون مع الله، والله هو النصير، وليس هذا كلاماً نظرياً، وإنما هو كلام مؤكد بالوقائع التي شهدتموها، وسبحانه وتعالى يقول بعد ذلك: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4993 وقوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} يلفتنا إلى أن النصر يكون من عند الله وحده، والدليل على أن النصر من عند الله أنه سبحانه قد نصر رسوله والذين معه في مواطن كثيرة، و {مَوَاطِنَ} جمع «موطن» والموطن هو ما استوطنت فيه. وكل الناس مستوطنون في الأرض، وكل جماعة منا تُحيز مكاناً من الأرض ليكون وطناً لها، والوطن مكان محدد نعيش فيه من الوطن العام الذي هو الأرض؛ لأن الأرض موطن البشرية كلها، ولكن الناس موزعون عليها، وكل جماعة منهم تحيا في حيز تروح عليه وتغدو إليه وتقيم فيه. والله سبحانه هنا يقول: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} ، وما دام الحديث عن النصر، يكون المعنى: إن الحق سبحانه قد نصركم في مواطن الحرب أي مواقعها، مثل يوم بدر، ويوم الحديبية، ويوم بني النضير، ويوم الأحزاب، ويوم مكة، وكل هذه كانت مواقع نصر من الله للمسلمين، ولكنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4993 في هذه الآية يخص يوماً واحداً بالذكر بعد الكلام عن المواطن الكثيرة، فبعد أن تحدث إجمالاً عن المعارك الكثيرة يقول: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} إذن: فكثرة عدد المؤمنين في يوم حنين كان ظرفاً خاصًّا، أما المواطن الأخرى، مثل يوم بدر فقد كانوا قلة، ويوم فتح مكة كانوا كثرة، ولكنهم لم يعجبوا؛ وبذلك يكون يوم حنين له مزية، فهو يوم خاص بعد الحديث العام. {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ} هذا الإعجاب ظرف ممدود على اليوم نفسه، إذن فيوم حنين ليس معطوفاً على {مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} ولكنه جملة مستقلة بنفسها؛ لأن الكثرة والإعجاب بالكثرة لم تكن في بقية المواطن، وهذه دقة في الأداء اللغوي تتطلب بحثاً لغويّاً. فكلمة {مَوَاطِنَ} هي ظرف مكان، و {يَوْمَ حُنَيْنٍ} هي ظرف زمان، فكيف جاز أن نعطف ظرف الزمان على ظرف المكان؟ ونقول: هذا هو ما يسميه العرب «احتباك» ؛ لأن كل حدث مثل «أكل» و «شرب» و «ضرب» و «ذاكر» ؛ كل حدث لا بد له من زمان ولا بد له من مكان، فإذا قلت: أكلت، نقول: متى؟ في الصبح، أو في الظهر، أو في العصر، أو في العشاء؟ وأين؟ في البيت، أو في الفندق، أو في المطعم، أو في الشارع. إذن: فلا بد لكل حدث من ظرف زمان وظرف مكان، فإذا راعيت ذلك أخذت الظرفية المطلقة؛ ظرفية مكان حدوث الفعل، وظرفية زمان حدوث الفعل. فإذا قلت: أكلت الساعة الثالثة ولم أسألك أين تم الأكل؟ أو إذا قلت: أكلت في البيت ولم أسألك عن موعد الأكل ظهراً أو عصراً أو ليلاً، يكون الحدث غير كامل الظرفية. ومعلوم أن الزمان والمكان يشتركان في الظرفية، ولكنهما يختلفان، فالمكان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4994 ظرف ثابت لا يتغير. والزمان دائم التغير، فهناك الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء. والزمان يدور، هناك ماض وحاضر ومستقبل، وهكذا يشترك الزمان والمكان في الظرفية، ولكن الزمان ظرف متغير، أما المكان فهو ظرف ثابت. وجاءت الآية هنا بالاثنين، ف {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} هو زمان ومكان لحدث عظيم، وأخذت الآية ظرف المكان في {مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} وظرف الزمان في {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} فإذا قيل: لم يحضر ظرف الزمان والمكان في كل واحدة، نقول: لا، لقد حضر ظرف المكان في ناحية وظرف الزمان في ناحية ثاني، وهذا يسمونه - كما قلنا - «احتباك» . وقد حذف المعنى: لقد نصركم الله يوم مواطن كذا وكذا وكذا. فإذا عطفت عليها يوم حنين يكون المعنى «ومواطن يوم حنين» ، أي: جاء بالاثنين هنا. ولكن شاء الله سبحانه وتعالى ألا يكون هناك تكرار، فأحضر واحدة هنا وواحدة هناك، وهذا يظهر واضحاً في قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] . فما دامت الأخرى {كَافِرَةٌ} تكون الأولى «مؤمنة» ، ولكن حذفت «مؤمنة» لأن {كَافِرَةٌ} تدل عليها، وما دامت الأولى المؤمنة تقاتل في سبيل الله، فالفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان. وحذفت تقاتل في سبيل الشيطان؛ لأن {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله} دلَّتْ عليها. وذلك حتى لا يحدث تكرار. ونجد أن المؤمن الذي يستمع إلى كلام الله تعالى لا بد أن يكون عنده عمق فهم، وأن يكون كله آذاناً صاغية حتى يعرف ويتنبه إلى أنه حذف من واحدة ما يدل على الثانية. إذن: فيكون ظرف الزمان موجوداً في واحدة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4995 وظرف المكان موجوداً في واحدة، وكلاهما يدل على الآخر. والمثال على ذلك أنه بعد أن انتهت هذه الغزوة، وعاد المسلمون إلى المدينة مجهدين لم يخلعوا ملابس الحرب، قال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» . فانطلق المسلمون - دون أن يستريحوا - إلى أرض بني قريظة، وهم اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة، وخانوا عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتحالفوا مع الكفار ضد المسلمين، وبينما الصحابة في طريقهم إلى بني قريظة كادت الشمس تغيب، فقال بعض الصحابة: إن الشمس ستغيب ولا بد أن نصلي العصر، وصلوا. وفرقة ثانية من الصحابة قالت: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طلب منا ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة ولم يُصَلُّوا حتى وصلوا إلى هناك. ونقول: إن الفريقين استخدما المنطق؛ لأن الصلاة تحتاج إلى ظرف زمان وظرف مكان، فالذي نظر إلى ظرف الزمان قال: الشمس ستغيب، وصلى، والذي نظر إلى ظرف المكان الذي حدده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لم يُصَلِّ. وأقر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الفريقين، واحترم اجتهادهما في: ظرفية الزمان، وظرفية المكان. وفي هذا يروي نافع عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال يوم الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرَدْ منا ذلك، فذُكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يعنف واحداً منهم. {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} والغنى هو عدم الحاجة إلى الغير، وحنين هو موضع في واد بين مكة والطائف، تجمَّع فيه الكفار الذين ساءهم فتح المسلمين لمكة، فأرادوا أن يقوموا بعملية مضادة تُضيّع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4996 قيمة هذا النصر. فاجتمعت قبائل هوزان وثقيف، واختاروا مالك بن عوف ليكون قائدهم في هذه المعركة. واستطاع مالك بن عوف أن يجمع أربعة آلاف مقاتل، وانضم إليهم عدد من الأعراب المحيطين بهم. ووضع مالك خطته على أساس أن يخرج الجيش ومعه ثروات المشاركين في الجيش من مال، وبقر وإبل. وأن يخرج مع الجيش النساء والأطفال. وذلك حتى يدافع كل واحد منهم عن عرضه وماله فلا يفر من المعركة، ويستمر في القتال بشجاعة وعنف؛ لأنه يدافع عن نسائه وأمواله وأولاده. وبذلك وضع كل العوامل التي تضمن له النصر. بينما المؤمنون عندما تبدأ المعركة سيقاتلون مدافعين عن دين الله ومنهجه. واجتمع الكفار ونزلوا بوادٍ اسمه «وادي أوطاس» . وكان فيهم رجل كبير السن ضرير. اسمه «دريد بن الصِّمة» . وكان رئيساً لقبيلة «جشم» . فلما وصل إلى مكان المعركة سأل: بأي أرض نحن؟ فقالوا: نحن بوادي أوطاس. . فابتسم وقال: لا حزناً ضرس ولا سهلاً دهس، أي أنها أرض مناسبة ليس فيها أحجار مدببة، تتعب الذي يسير عليها، وليست أرضا رخوة تغوص فيها أقدام من يسير عليها، من «الحزن» فالحزن هو: الخشونة والغلظة، و «ضرس» هو: التعب أثناء السير، وأيضاً ليست أرضاً سهلة منبسطة رملية تغوص فيها الأقدام. وعندما سمع العجوز بكاء الأطفال وثغاء الشاة، قال: أسمع بكاء الصبيان وخوار البقر. فقالوا له: إن مالك بن عوف استصحب ذراريه واصطحب كل أمواله، فقال: أما الأموال فلا بأس، وأما النساء والذراري فهذا هو الأرعن - أي: لا يفهم في الحرب - أرسلوه لي، فأحضروه له. فلما حضر قال: يا مالك ما حملك على هذا؟ قال: وماذا تريد؟ قال: ارجع بنسائك وذراريك إلى عُليَّا دارك، فإن كان الأمر ذلك؛ لحقك من وراءك. وإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4997 كان الأمر عليك لم تفضح أهلك وذراريك. فقال له مالك: لقد كبرت وذهب علمك وذهب عقلك. وأصر على رأيه. ثم بدأ مالك بن عوف يرتب الجيش في الشِّعَابِ وتحت الأشجار حتى لا يراهم المسلمون عند مجيئهم. فيتقدمون غير متنبهين للخطر، وحينئذ يتم الهجوم عليهم من كل جهة ومن كل مكان. وعندما جاء جيش المسلمين لم يتنبهوا إلى وجود الكفار المختفين عن الأعين. وحينئذ أعطى مالك بن عوف إشارة البدء بالهجوم، فخرج الكفار من كل مكان. وفاجأوا المسلمين بهجوم شديد، قال المتحدث: فوالله ما لبث المسلمون أمامهم إلا زمن حلب شاة، حتى إنه من قسوة المعركة وضراوتها وقوة المفاجأة انهزم جيش المسلمين في الساعات الأولى للمعركة، ووصل بعض الفارين من القتال إلى مكة ولم يبق مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ساحة المعركة إلا تسعة بينهم العباس عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكان ممسكاً بالدابة التي يركبها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وسيدنا علي بن أبي طالب وكان يحمل الراية. وسيدنا الفضل، وكان يقف على يمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وسيدنا أبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان يقف على يساره. وكان معهم أيمن بن أم أيمن وعدد من الصحابة. وهنا نتساءل: لماذا حدثت هذه الهزيمة للمسلمين في بداية المعركة؟ لأنهم عندما خرجوا إلى الحرب قالوا: نحن كثرة لن نهزم من قلة، وبذلك ذهبوا إلى الأسباب وتناسوا المسبب، فأراد الله أن يعاقبهم عقاباً يخزيهم ويُعْلي من قدر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما حدث، قال العباس - وكان العباس صاحب صوت عال: أذن في الناس، فقال العباس بصوت عال: يا معشر الأنصار - يا أهل سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة. فلما سمع الناس نداء العباس، قالوا: لبيك لبيك. وكان الذي يقول: «لبيك» يسمعه من هم وراءه ويقولون مثله، حتى عاد عدد كبير من المؤمنين إلى القتال، وحمى القتال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4998 واشتدت الحرب وصار لها أوار، فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الآن حمى الوطيس، أي اشتدت الحرب، ثم قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» . ويروى هذا الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البراء بن عازب، فقد جاء في الصحيحين عن البراء بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. «أن رجلاً قال له: يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يفر، إن هوزان كانوا قوماً رُمَاةً، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا، فأقبل الناس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، فانهزم الناس، فلقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته البيضاء وهو يقول:» أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب « أي: أنه رسول الله، والله لن يتخلى عنه ولن يخذله، ولم يثبت أمام المؤمنين واحد من هوازن وثقيف، وانتهت المعركة عن ستة آلاف أسير من النساء، كما غنم المسلمون أموالاً لا حصر لها وعدداً كبيراً من الإبل والبقر والغنم والحمير. وأحضر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بديل بن ورقاء وقال له: أنت أمير على هاذ المغنم. اذهب به وأنا سأتتبع الهاربين. وانطلق جيش المسلمين إلى الطائف ليطارد الفارين. واختبأ مالك بن عوف قائد العدو. ثم عاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد ذلك وقسم الغنائم، وكاد تقسيم الغنائم أن يحدث فتنة بين المسلمين؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعطى الغنائم للمؤلفة قلوبهم، ولسائر العرب ولم يعط منها الأنصار، لقد أراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقارن بين شيئين، بين سبايا هي أيضاً من متاع الدنيا فيعطي منها المؤلفة قلوبهم وبين حب الله ورسوله فيكون حظ الأنصار منه، فالأنصار الذين آووه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رأيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستغنون بحبهم لرسول الله وقوة إيمانهم بالله عن مثل هذا المتاع الدنيوي، إلا أنه على الرغم من ذلك شعر بعض من الأنصار بالغُصَّة، وتأثر هذا البعض بذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4999 لما أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قومه فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي وما أنا. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. قال: فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة. قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار قال: فأتاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل. ثم قال: يا معشر الأنصار ما قَالَةٌ بلغتني عنكم وجدَةٌ وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم. قالوا: بل الله ورسوله أمنُّ وأفضل. قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله ولله ولرسوله المنُّ والفضل؟ قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكَذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فأغنيناك أي: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر لهم ثلاثة أشياء من فضل الإسلام عليهم، وهي أنه نقلهم من الضلال إلى الهدى، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العداوة إلى الأخوة والمحبة. وعندما تحدث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن فضل الأنصار على الدعوة ذكر أربع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5000 فضائل، وهي أن أهل مكة كانوا قد حاولوا قتل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهاجر منها فآواه أهل المدينة، وجاء الرسول والمؤمنون إلى المدينة لا يملكون شيئاً، فأعطاهم الأنصار من أموالهم وزوجاتهم، وكان الكفار يحاولون قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمَّنه الأنصار، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد خذله قومه من قريش فنصره الأنصار. عندما سمع الأنصار قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذكر مفاخرهم. قالوا: المنة لله والرسوله، أي: إننا معشر الأنصار لا نقول هذا الكلام الذي قلته أبداً؛ لأن حلاوة الإيمان وجزاء الإيمان أكبر من هذا بكثير، وبهذا لا يكونون هم الذين أعطوا، بل الإيمان هو الذي أعطاهم. فالإيمان نَفْعُه نَفْع أبدي. والحق تبارك وتعالى يقول: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمان} [الحجرات: 17] . وعندما قال الأنصار لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل المنة لله ولرسوله، قال لهم رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألَّفْتُ بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعْباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعبْ الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» فلماَ سمعوا هذا القول من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بَكَوْا حتى اخضلَّتْ لحاهم وقالوا: رضينا بالله وبرسوله قسماً وحظاً. وانتهت المسألة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5001 وهكذا نرى أنه حين تأتي مقارنة بين شيئين، لا بد أن نتفاخر بالشيء الدائم الباقي الذي حصلنا عليه، أما الشيء الذي مآله إلى فناء فإنَّ من ليس معه يعيش كمن عاش معه، وهو متاع الدنيا، تعيش معه وتعيش بدونه. ولكن لا أحد يستغني عن الإيمان، نستغني عن الدنيا نعم، أما عن الإيمان وعن الله ورسوله فلا. وبعد أن قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغنائم، جاء وفد هوازن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو بالجعرانة وقد أسلموا. فقالو: يا رسول الله إنَّ أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك فامنن علينا منّ الله عليك. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: يا رسول الله خيَّرتنا بين أحسابنا وبين أموالنا بل تردُّ علينا نساؤنا وأبناؤنا فهو أحب إلينا فقال لهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فإذا صليت للناس الظهر فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم. فلما صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به فقال رسول الله صلى الله عليه سولم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. قال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيَيْنة بن حصن بن حذيفة بن بدر: أما أنا وبنو فزارة فلا. قال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، قالت بنو سليم: لا، ما كان لنا فهو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فقال عباس: يا بني سليم وهنتموني. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه، فردوا على الناس أبناءهم ونساءهم. . ذلك هو ما يشير إليه قول الحق، تبارك وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5002 {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] . أي: أنكم بدأتم المعركة ولم يكن الله في حسبانكم، بل كنتم معتمدين على كثرتكم فلم تنفعكم ولم تحقق لكم النصر؛ ولذلك فررتم خوفاً من الهزيمة ووجدتم الأرض ضيقة أمامكم، أي: تبحثون هنا وهناك عن مكان تختبئون فيه فلا تجدون، مع أن الأرض رحبة أي واسعة، ولكنها أصبحت ضيقة في نظركم وأنتم تفرون من المعركة. إلا أن الحق سبحانه وتعالى لم يرد أن ينهي المعركة هذا الإنهاء. ولكنه أراد فقط أن ينزع من قلوب المسلمين المباهاة بكثرة العدد وظنهم أن اللجوء إلى الأسباب الدنيوية هو الذي سيحقق لهم النصر. أراد منهم سبحانه وتعالى أن يعلموا جيداً أنهم إنما ينتصرون بالله عَزَّ وَجَلَّ، وأن كثرتهم دون الاعتماد عليه سبحانه لا تحقق لهم شيئاً. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5003 أي: أن الله تبارك وتعالى أنزل سكينته أولاً على رسوله وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه، ثم أنزلها على المؤمنين الذين فردوا من المعركة ثم عادوا إلى القتال مرة أخرى، وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ وذلك جَزَآءُ الكافرين} [التوبة: 26] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5003 وقد حدَّثونا عن أن الملائكة نزلت وثبَّتت المؤمنين، وألقت الرعب في قلوب الكافرين وأنزلت العذاب بهم. والذين آمنوا هم الذين شهدوا بذلك؛ لأنهم وصفوا كائنات على جياد بُلْق ولم يكن عندهم مثلها. وإذا حدثنا القرآن الكريم بأن الملائكة قد نزلت وأن هناك من رآهم، فعلى الإنسان منا أن يقف موقف المؤمن، وأن يثق في القائل وهو صادق فليؤمن بما قال ولا يبحث عن الكيفية. وإن كان منكم من يقف أمام هذه المسألة فعليه ألا يقف وقفة الرافض لوجودها، ولكن وقفة الجاهل لكيفيتها؛ لأن وجود الشيء مختلف تماماً عن إدراك كيفية وجوده. وهناك أشياء كثيرة في الكون، موجودة وتزاول مهمتها، ونحن لا ندرك كيفية هذا الوجود. وليس معنى عدم إدراكنا لها أنه غير موجودة. وكل الاكتشافات التي قدمها لنا العلم المعاصر كانت موجودة. ولكننا لم نكن ندرك كيفية وجودها من قبل. فالجاذبية الأرضية كانت موجودة. لكننا لم ندرك وجودها ولا كيفية عملها، وكذلك الكهرباء كانت موجودة في الكون منذ بداية الخلق، ولكننا لم نكن ندرك وجودها حتى كشف الله تعالى لنا وجودها فاستخدمناها، والميكروبات كانت موجودة في الكون تؤدي مهمتها ولم نعرفها، حتى كشف الله لنا عنها فعرفنا وجودها وكيفية هذا الوجود، فكل هذه الأشياء كانت موجودة في كون الله منذ خلق الله الكون. ولكننا لم نكن ندرك وجودها. وعدم معرفتنا لم ينقص من هذا الوجود شيئاً؛ ولذلك إذا حُدِّثْت بشيء لا يستطيع عقلك أن يفهمه فلا تنكر وجوده؛ لأن هناك أشياء لم نكن نعرف عنها شيئاً، ثم أعطانا الله تعالى العلم فوجدنا أنه تعيش بقوانين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5004 مادية محددة. إذن: فوجود الشيء يختلف تماماً عن إدراك هذا الوجود. وقول الحق سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} كلمة {لَّمْ تَرَوْهَا} تعطي العذر لكل من لم ير، ويكفي أن الله قال ليكون هذا حقيقة واقعة. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] . وحين كان يقال لنا: إنّ لله خلقاً هم الجن، كما أن له خلقاً آخرين هم الملائكة، والجن يروننا ونحن لا نراهم. كان البعض يقف موقف الاستنكار. وكذلك قال لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الشيطان يَجْرِي من ابن آدم مَجْرى الدم» . وكان بعض الناس ينكرون هذا الكلام ويتساءلون: كيف يدخل الشيطان عروق الإنسان ويجري منها مجرى الدم؟! وعندما تقدمنا في العلم التجريبي واكتشفنا الميكروبات ورأينا من دراستها أنه تخترق الجسم وتدخل إلى الدم في العروق، هل يحس أحد بالميكروب وهو يخترق جسمه؟ هل علم أحد بالميكروب ساعة دخوله للجسم؟ طبعاً لا، ولكن عندما يتوالد ويتكاثر ويبدأ تأثير يظهر على أجسامنا نحس به، وهذا يدل على أن الميكروب بالغ الدقة مبلغاً لا تحس به شعيرات الإحساس الموجود تحت الجلد. ومن فرط دقته يخترق هذه الشعيرات أو يمر بينها ونحن لا ندري عنه شيئاً، ويدخل إلى الدم ويجري في العروق ونحن لا نحس بشيء من ذلك، والدم يجري في عروق يحكمها قانون هو: أن مربع نصف القطر يوزع على الكل، ومثال ذلك ما يحدث في توزيع المياه، فنحن نأتي بماسورة رئيسية نصف قطرها ثماني بوصات وندخلها إلى قرية، تكون كمية الصب هي 8 × 8. . أي 64 بوصة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5005 مربعة، حينما نأتي لنوزعها على مواسير أخرى فرعية نأخذ منها ماسورة نصف قطرها أربع بوصات، ومنها نأخذ ماسورة نصف قطرها بوصتان، ومنها نأخذ ماسورة نصف قطرها بوصة أو نصف بوصة، المهم أن مربع أنصاف أقطار المواسير الفرعية يساوي ما تصبه الماسورة الكبيرة. وهكذا عروق الدم، فالدم يجري في شرايين واسعة وأوردة وشعيرات دقيقة. . ولكن دقة حجم الميكروب تجعله يخترق هذه الشعيرات فلا ينزل منها دم، وعندما تضيق هذه الشرايين تحدث الأمراض التي نسمع عنها، من تراكم الكوليسترول أو حدوث جلطات، فيتدخل الطب ليوسع الشرايين؛ لأنها مواسير الدم. وهناك جراحات تجري بأشعة الليزر أو غيرها من الاكتشافات الحديثة تخترق هذه الأشعة الجلد بين الشعيرات؛ لأنها أشعة دقيقة جداً فلا تقطع أي شعيرة ولا تُسيل أي دماء. إذن: فكل ما في داخل الجسم محسوب بإرادة الله تعالى، ولكل ميكروب فترة حضانة يقضيها داخل الجسم دون أن نحس به، ثم بعد ذلك يبدأ تأثيره فيظهر المرض وتأخذ عمليات توالد الميكروب في الدم ومقاومة كرات الدم البيضاء له فترة طويلة، بينما نحن لا نحس ولا ندرك ما يحدث. فإذا كان «الميكروب» وهو من مادتك، أي: شيء له كثافة وله حجم محدد ولا تراه إلا بالميكروسكوب فتجد له شكلاً مخفياً، وهو يتوالد ويتناسل وله دورة حياة، إذا كان هذا «الميكروب» لا تحس به وهو في داخل جسمك؛ فما بالك بالشيطان الذي هو مخلوق من مادة أكثر شفافية من مادة الميكروب، هل يمكن أن تحس به إذا دخل جسدك؟ لا، وإذا كان الشيء المادي قد دخل جسدك ولم تحس به، فما بالك بالمخلوق الذي خلقه الله تعالى من مادة أشف وأخف من الطين؟ ألا يستطيع أن يدخل ويجري من ابن آدم مجرى الدم؟! فإذا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» . فلا تتعجب ولا تُكذِّب لأنك لا تحس به. فالله أعطاك في عالم الماديات ما هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5006 أكثر كثافة في الخلق ويدخل في جسدك ولا تحس به. إذن: فالعلم أثبت لنا أن هناك موجودات لا نراها. ولو أننا باستخدام الميكروسكوبات الإلكترونية الحديثة فحصنا كل خلية في جسم الإنسان فإننا سنرى العجب، سنرى في جلد الإنسان الذي نحسبه أملسَ آباراً يخرج منها العرق، وغير ذلك من تفاصيل بالغة الدقة لا تدركها العين، فإذا حدَّثنا الله سبحانه وتعالى لنا ما يطمئن بشريتنا فقال: {جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} ، فإن قال واحد: إنَّه رآها، وقال آخر: لم أرَ شيئاً، نقول: إن قول الحق {لَّمْ تَرَوْهَا} أي: لم تروْها مجتمعين، فهناك من لمحها، وهناك من لم يرها. وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} أي: بالقتل أو بالأسر أو بسلب أموالهم، وقوله تعالى: {وذلك جَزَآءُ الكافرين} أي: أن ما لحق بهم من هزيمة كان جزاءً لهم على كفرهم. ولكن البعض يتساءل: لماذا لم ينزل الجزاء وتتم الهزيمة من أول لحظة، لكان ذلك أخف على أنفسهم وأقل عذاباً، ولكنه أعطاهم أولاً فرحة النصر حتى تأتي الهزيمة أكثر قسوة وأكثر بشاعة، والشاعر يقول: كَما أدركَتْ قَوْماً عِطَاشاً غَمَامةٌ ... فلمَّا رأوْهَا أقشعتْ وتجلَّت فحين تمر سحابة على قوم يعانون من شدة العطش، هم يحلمون أن تمطر عليهم، لكن الحلم يتبدد تماماً كالمسجون الذي يعاني من عطش شديد. فيطلب من السجان شربة ماء فيقول له السجان: سأحضرها لك. وفعلاً يذهب السجان ويحضر له كوب ماء مثلج فيعطيه له ويمسك المسجون الكوب بيده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5007 ونفسه تمتلئ فرحاً. وإذا بالسجان يضربه بشدة على يده فيسقط الكوب على الأرض، فيصاب المسجون بصدمة شديدة. وهذه أبشع طرق التعذيب. ولو أن السجان رفض إحضار كوب الماء من أول الأمر لكان ذلك أقل إيلاماً للسجين. لكن بعد أن يحضر كوب الماء للمسجون ويضعه في يده ثم يحرمه منه فهذا أكثر عذاباً. وهكذا أراد الله أن يزيد من عذاب الكافرين فأعطاهم مقدمات النصر وحلاوته أولاً، ثم جاءت من بعد ذلك مرارة الهزيمة لتسلبهم كل شيء، وبذلك تجتمع لهم فجيعتان: فجيعة الإيجاب، وفجيعة السلب. ثم تأتي لمحة الرحمة التي يغمر بها الله سبحانه وتعالى كونه كله، ويفتح الباب لكل عاص ليعود إلى طريق الإيمان فيتقبله الله، ويقول الحق تبارك وتعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5008 وهذه هي عظمة الخالق، الرحمن الرحيم، فهو يفتح الباب دائماً لعباده؛ لأنه هو خالق هذا الكون، وكل من عصى يفتح الله أمامه باب التوبة، وهذه مسألة منطقية؛ لأن الذي يكفر والذي يعصي لا يضر الله شيئاً، ولكنه يؤذي نفسه ويحاول أن يفتري على نواميس الحق، وحين يعلم العاصي أنه لا ملجأ له إلا الله، فالله عَزَّ وَجَلَّ يفتح له باب التوبة. وبعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا في هذه السورة أن الله ورسوله بريء من المشركين، وكشف عن طبيعتهم بأنهم لا عهد لهم ولا ذمة، ويصفي هذه المسائل تصفية عقدية في {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} ، وطلب منا أن ننهي العقود التي بيننا وبينهم. . فمن نقض العهد انتهى عهده، ومن حافظ عليه حافظنا نحن على العهد إلى مدته، ثم طلب من المشركين ألا يقربوا المسجد الحرام، وصفَّى أي ضغينة أو ذنب بفتح باب التوبة. ومن بعد ذلك ينتقل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5008 سبحانه من المعاهدة التي انتهت مع ذوات الكفار إلى ذوات الكفار بأنفسهم، فيقول تبارك وتعالى: {ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا. .} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5009 أي: أنه لا يكفي أن يقطع المؤمنون كل عهودهم مع المشركين، بل لا بد أن يبرأوا أيضاً من المشركين أنفسهم؛ لأنهم نجس، والنجس هو الشيء المستقذر الذي تعافه النفس وتنفر منه، وقد يكون المشرك من هؤلاء مقبولاً من ناحية الشكل والملبس، ولكن هذا هو القالب، والحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم إنما يتكلم عن المعاني وعن الخلق. فالله عَزَّ وَجَلَّ لا ينظر إلى القوالب، بل إلى القلوب، ويقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الذي يرويه عنه أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» . فقد تكون الصورة مقبولة شكلاً، لكن العقيدة التي توجد في قلوب تلك الأجساد قذرة ونجسة، وسبحانه لا يأخذ بالظواهر ولا بالصور، بل بالقيم. وأنت إذا ما نظرت إلى القيم وإلى العقائد الحقة الصادقة، تجد كل عقيدة تنبئ عن تكوين مادتها، وعلى سبيل المثال، حينما تكون فرحاً، يتضح ذلك على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5009 أساريرك، ومن سيقابلك سيلحظ ذلك ويعرف أنك مبتهج، وإن كنت غاضباً أو تعاني من ضيق، فهذا يتضح على أساريرك. إذن: فالمادة تنفعل بانفعال القيم، وما دامت القيم فاسدة فالمادة التي يتكون منها جسده تكون متمردة على صاحبها؛ لأن المادة بطبيعتها عابدة مسبحة لله، وكذلك الروح بطبيعتها عابدة مسبحة لله تعالى، ولا ينشأ الفساد إلا بعد أن توضع الروح في المادة، ثم تتكون النفس من الاثنين معاً، المادة والروح، فإن غلَّبت النفس النفس منهج الله صارت مطمئنة، وإن تأرجحت النفس بين الطاعة والمعصية، فإما أن تطيع فتكون نفساً لوامة، وإما أن تكفر وتتخذ طريق الشر فتكون نفساً أمارة بالسوء. أما قبل أن تنفخ الروح في المادة، فكل منها مسبح لله تعالى؛ لأن كل شيء في الوجود عابد مسبح، والنفس في كل سلوكها مقهورة لإرادة صاحبها بتسخير من الله عَزَّ وَجَلَّ، وحين يأتي الموت، تنتهي الإرادة البشرية وتسقط سيطرة الإنسان على جسده، بل إن هذا الجسد يشهد على صاحبه يوم القيامة. والإنسان في الحياة الدنيا يعيش وإرادته تسيطر على مادته بأمر من الله، فاليد قد تضرب إنساناً، وقد تعين إنساناً آخر وقع في عسرة، ولسان المسلم يشهد أن لا إله إلا الله، ولسان الكافر يشرك مع الله آلهة أخرى. إذن: فمادة الإنسان خاضعة لإرادة صاحبها في دنيا الأغيار، فإذا انتقل إلى الآخرة فلا تأثير له على المادة، وتتحرر المادة من طاعة صاحبها في المعصية، وتتمرد عليه، وتشهد على صاحبها بأنه كان يستخدمها في المعصية. والحق سبحانه وتعالى يقول: {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 20 - 21] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5010 فكأن جوارح الإنسان تقول له يوم القيامة: لقد أتعبتني في الدنيا وأكرهتني على فعل أشياء لم أكن لأفعلها لأنني عابدة مسبحة لله، وإن ما أمرتني به يخرج عن طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، وسبق أن ضربت المثل بقائد الكتيبة الذي يصدر أوامر خاطئة فيطيعه الجنود، فإذا ما عادوا إلى القائد الأعلى شكوا له مما كان قائد الكتيبة يكرههم عليه، كذلك أبعاض الجسم تشهد عليه عند خالقها يوم القيامة. فإن كنت عابداً مُسبِّحاً كانت جوارحك معك. وإن كنت غير ذلك كانت جوارحك ضدك، فاللسان مثلاً عابد مسبح في ذاته، فإذا أكرهته على أن يشرك بالله فهو مُكْرَهٌ في الدنيا، ويصير شاهداً عليك يوم القيامة. والحق سبحانه وتعالى ينادي يومئذ قائلاً: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . وهنا يقول الحق عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} أي: أن عقيدتهم الفاسدة تنضح على تصرفاتهم، وسبحانه وتعالى يربب المعاني الإيمانية في النفوس أي يزيدها، ومثال ذلك: نحن نرجم إبليس كمنسك من مناسك الحج، نرجم قطعة من الحجر رمزنا إليها بالشيطان، ونحن لا نرى الشيطان، وقد وضعنا له رمزاً وأرسينا في أعماقنا أن الشيطان عدو لنا ويجب أن نرجمه لنبتعد عن مراداته، وبذلك أبرزنا هذه المعاني في أمر حسي؛ لنوضح للنفس البشرية أن الشيطان عدو لنا، وكلما وسوس الشيطان لنا بأمر نرجمه بأن نبين لأنفسنا قضايا الإيمان الناصعة فيهرب منا. وكل منا عليه أن يتذكر أن الشيطان سوف يضحك على العاصين والكافرين في يوم القيامة، ويقول ما أورده الحق سبحانه وتعالى على لسانه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] . وفي هذا القول سخرية ممن صدقوه؛ لأن السلطان إما سلطان القهر بأن تأتي لإنسان بما هو أكبر منه وتقهره على فعل شيء بالقوة، وإما سلطان الإقناع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5011 بأن تقنع إنساناً بأن يفعل شيئاً. والشيطان ليس له سلطان القهر والحجة. والحق سبحانه وتعالى عندما يقول: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} فإنه يوضح لنا أن نجسهم يحتم علينا أن نمنعهم من دخول الأماكن التي لا يدخلها إلا الإنسان الطاهر. وجعل الحق سبحانه وتعالى النجاسة المعنوية مثلها مثل النجاسة المادية، ولذلك قال العلماء: ما دام الحق قد وصفهم بأنهم نجس فلا بد أن يكون فيهم نجس مادي، ولذلك إذا اقتربت منهم تجد لهم رائحة غير طيبة، لأنهم لا يتطهرون من حدث، ولا يغتسلون من جنابة. وعندما ذهبنا إلى الجزائر بعد تحريرها من فرنسا، لم نجد في البيوت حمامات؛ لأن الواحد من المستعمرين لا يذهب إلى الحمام إلا كل عشرين يوماً مثلاً، لذلك جعلوا الحمامات بعيداً عن المساكن، ولكن بعد أن تحررت الجزائر صار في البيوت حمامات؛ لأن الثقافة الإسلامية مبنية على الطهارة، ويتوجب على المسلم أنه كلما دخل الإنسان الحمام تطهر، وكلما كان جنباً اغتسل. ولقد قال البعض: لو أنني سلَّمت على مشرك ويده رطبة. . فلا بد أن أغسل يدي. فإذا كانت يده جافة فيكفي أن أمسح على يدي. وفي هذا احتياط وتأكيد على اجتناب هؤلاء المشركين. وإذا كنا نجتنبهم أجساداً وقوالب، ألا يجدر بنا أن نجتنبهم قلوباً؟ وقد أنزل الحق سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة في العام التاسع من الهجرة وهو العام الذي صدر فيه منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام والبراءة من هؤلاء المشركين، وتساءل العلماء: هل الممنوع والمحرم هو اقتراب المشرك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5012 من المسجد الحرام، أم من الحرم كله؟ وحدد الإمام الشافعي التحريم على المشركين بالوجود في المسجد الحرام. ومع احترامنا لاجتهاد الإمام الشافعي نقول: إن الحق سبحانه وتعالى قال: {فَلاَ يَقْرَبُواْ} ولم يقل: فلا يدخلوا. وتحريم الاقتراب يعني ألا يكونوا قريبين منه، وأقرب شيء للمسجد الحرام هو كل الحرم، ولو كان المراد هو المسجد فقط لمنع الحق دخولهم إليه بالنص على ذلك. وهكذا نرى كيف يمكن أن يجتهد الإنسان ويبحث في المعاني ليستخرج المضمون الحق. ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . وفي هذا القول الكريم حديث عن الغيب. والغيب - كما عرفنا - هو ما يغيب عنك وعن غيرك، أما الشيء الذي يغيب عنك ولا يغيب عن غيرك فلا يكون غيباً، فإذا سرق منك مال مثلاً فأنت لا تعرف من الذي سرق، والسارق في هذه الحالة غيب عنك، ولكنه ليس غيباً عن غيرك؛ فالسارق يعرف نفسه؛ والذي دبر له الجريمة يعرفه، ومن رآه وستر عليه يعرفه. وأنت - أيضاً - لا تعرف مكان المسروقات، ولكن السارق يعرف المكان الذي خبأها فيه. إذن: فهي غيب عنك وليست غيباً عن غيرك. وهذه لعبة الأفاقين والنصابين الذين يُسخِّرون الجن، فما دام الشيء معروفاً ومعلوماً لغيرك من الناس؛ فالكشف عنه مسألة سهلة، ولكنّ هناك غيباً عنك وعن غيرك، وهذا هو ما ينفرد به الحق سبحانه وتعالى في قوله سبحانه: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ... } [الجن: 26 - 27] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5013 ولكنْ هناك غيبٌ عن الناس جميعاً، ولكنه لن يظل غيباً إلى آخر الزمان، فمثلاً الكهرباء كانت غيباً واكتشفناها، وتفتيت الذرة كان غيباً وعرفناه، وقوانين الجاذبية كانت غيباً ثم دخلت في علم الإنسان فأصبحت معلومة له وليس هذا هو الغيب الذي يقصده الله سبحانه وتعالى في قوله: {عَالِمِ الغيب} ، فهذا غيب يختص نفسه به، لا تقل: إن فلاناً يعلم الغيب، ولكن قل: إنه مُعلَّم غيب، والمسائل الغيبية: إما أن يحجبها الزمان أو يحجبها المكان، فالآثار المطمورة مثلاً، تعبِّر عن شيء ماض واندثر، وفيه أخبار الأمم السابقة، ولا يعرفها أحد، وستره حجاب الزمن الماضي، إلى أن يتم الكشف عنها ويهيِّئ الله لها من يفكُّ ألغازها. أما إبلاغ الله رسوله من أنباء الأمم السابقة مما جاء في القرآن الكريم فهو اختراق لحجاب الزمن الماضي، نحو قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ. .} [القصص: 44 - 45] . وقوله سبحانه: {وَمَا كُنتَ} في آيات أخرى دليل على أن الله سبحانه وتعالى أخبر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما كان مستوراً في الزمن الماضي. أما الشيء الذي سوف يحدث في المستقبل، فهو محجوب عنك بحجاب الزمن المستقبل، وقد اخترق القرآن الكريم حجاب المستقبل في آيات كثيرة كلها تبدأ بحرف السين، وحرف السين دليل على أن الشيء لم يحدث بعد، وقوله تعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5014 {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] . دليل على أنه من الزمن المستقبل يكشف الله لنا عن آياته الموجودة في الأرض، وقوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 1 - 3] . وهذا اختراق لحجاب المستقبل؛ لأن النصر حدث بعد نزول هذه الآية بتسع سنوات. إذن: فالذي يحدث في المستقبل محجوب عنك بالزمن المستقبل، ولكن هناك شيئاً يحدث في الحاضر ولا نعرفه وهو محجوب عنك بحجاب المكان، فما يحدث في مكان لست موجوداً فيه لا تعرفه، فأنت إن كنت جالساً في مكة مثلاً، فأنت لا تعرف ما يحدث في المدينة المنورة لأنه محجوب عنك بحجاب المكان، وهناك أيضاً حجاب النفس، أي: أن ما يدور في نفسك لا يعرفه أحد غيرك؛ لأنه محجوب بحجاب النفس. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} فسبحانه وتعالى يخاطب قوماً يريد منهم أن ينفذوا هذا الأمر، ولكنه سبحانه يعلم السرائر التي تستقبل النص. مثلما يأتي إنسان ويخبرك أن المخبز القريب من منزلك سوف يغلق فأول ما يتبادر إلى ذهنك السؤال: ومن أين سنأتي بالخبز؟ أو أن يقال لك: «إن الباخرة التي تحمل اللحم والخضروات ضلت الطريق» فأول ما يخطر على بالك لحظتها: ومن أين نأكل؟ وكان المشركون يأتون إلى الحج ومعهم أموالهم ويتاجرون وينفقون، هذه الفترة تمثل بالنسبة لمن يعيشون حول بين الله الحرام فترة الرواج المادي الذي يعيشون عليه طوال العام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5015 فإذا كان الحق سبحانه وتعالى يقول لهم: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} فأي شيء يختلج في نفوس المسلمين؟ لا بد أن يدور في أعماقهم السؤال: ومن الذي سيشتري بضائعنا؟ لكن هل ترك الله عَزَّ وَجَلَّ مثل هذا القول دون أن يرد عليه؟ لا، فقد رد على التساؤل بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} . وهكذا كشف الله حجاب النفس، وردَّ على ما سيدور في نفوس المؤمنين في نفس الآية التي حرم فيها على المشركين أن يقتربوا من المسجد الحرام، ولم ينتظر الحق سبحانه وتعالى حتى يعلن المؤمنون ما في أنفسهم، بل رد على ما يجول بخواطرهم قبل أن يعلنوه. وحين يكشف الله عَزَّ وَجَلَّ حجاب النفس بهذا الشكل، فالمؤمن الذكي يقول: هذا ما جاء في بالي. ولأطمئن لأنه عرف ما بنفسي فسوف يرزقني. ولو لم يأت ذلك في بالهم لَكَذَّبوا النص. ولو كذبوا النص لما بقوا على الإيمان، وما داموا قد بَقَوْا على الإيمان فقد جاء النص معبراً عما يجول بأنفسهم تماماً. والله سبحانه وتعالى كشف حجاب النفس في آيات كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى عن المنافقين والكفار: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] . وقول النفس لا يسمعه أحد، ولو أن هؤلاء لم يقولوا هذا في أنفسهم لقالوا: والله ما خطر ذلك في نفوسنا. ولأنهم قالوه في أنفسهم فقد بُهِتُوا لكشف القرآن الكريم لما يدور داخل أنفسهم. ولقد رد الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة على ما سيدور في خواطر المؤمنين عندما يستمعون إليها، فلم ينتظر الحق سبحانه وتعالى حتى يشكو المؤمنون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خوفهم الفقر وقلة الرزق، بل أجاب سبحانه وتعالى على ذلك قبل أن يخطر على بالهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5016 فكأن الحق سبحانه وتعالى يُشرِّع حتى للخواطر قبل أن تخطر على البال، ولا يترك الأمور حتى تقع ثم يُشرِّع لها. وهنا يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} والعيلة هي الفقر، ويتابع الحق جل وعلا: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} ، ولم يقل الحق «سيغنيكم» بل قال: {فَسَوْفَ} وهي تقتضي زمناً سيمر ولكنه زمن قريب؛ لأن الخير الذي سيأتي له أسباب كثيرة كفيلة بتحقيقه كأن يعوضهم الله عما كان يأتي به الكفار بأن تمطر السماء مطراً فينبت النبات، وهذه تحتاج إلى زمن، وأن يأخذوا بالأسباب بأن يروج لهم تجارة على غير المشركين، أو يكشف لهم من كنوز الأرض ما يغنيهم. ولذلك قال: {فَسَوْفَ} . والأسباب تحتاج إلى وقت، فنزلت الأمطار قرب جدة التي أسلمت ونبت الزرع في وادي خليط، وتبالي باليمن وجرش وصنعاء، وجاءت أحمال البعير بالخير لأهل مكة وحدثت الفتوحات الإسلامية، فجاء الخير من الجزية والخراج. وهكذا نرى أن {فَسَوْفَ} امتدت لمراحل كثيرة، وما زالت موجودة ممتدة حتى الآن. إذن: فقد أخذت الأمد الطويل. على أننا لا بد نلتفت إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} هي حيثية بأن المؤمن عليه ألا يتهاون في أمر دينه رغبة في تحقيق أمر من أمور الدنيا، فكل من يرتكب معصية خوفاً من أن تضيع منه فائدة مادية أو دنيوية، كأن يخشى قول الحق خوفاً من أن يضيع منع منصبه، أو يغضب عليه صاحب العمل فيطرده من وظيفته، نقول له: لا عذر لك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} . وحيث إن الرزق من عند الله سبحانه وتعالى، وهذا هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فلا عذر لأحد أن يرتكب معصية بحجة المحافظة على رزقه، أو بحجة أنه يدفع الفقر عن نفسه وبيته وأولاده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5017 على أن قوله تعالى: {إِن شَآءَ} قد تجعل الإنسان يظن أن الزمن سوف يباعد بينه وبين الرزق؛ لأنه سبحانه قد يشاء أو لا يشاء، فكيف يكون هذا الأمر وهو سبحانه أراد بالآية طمأنة المسلمين. وإذا كان الله قد قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} فإننا نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد الصلة الدائمة بعبده وألا يفسد على العبد الرجاء الدائم في الله تعالى. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِن شَآءَ} هو إبقاء لهذا الرجاء؛ لأن العبد سيظل في رجاء إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فيظل الله تعالى في باله؛ ولأنه سيطلب دائماً رضا الله فإن هذا يجعله يبتعد عن المعصية ويتمسك بالطاعة. وفوق ذلك كله، فإن الحق تبارك وتعالى له طلاقة القدرة في كونه، فقدر الله وقضاؤه ليسا حجة على الله سبحانه وتعالى تقيد مشيئته سبحانه، فمشيئة الله مطلقة لا يقيدها حتى قدر الله. فهو إن شاء حدث القدر. وإن شاء لم يحدث. وهكذا تظل طلاقة قدرة الله في كونه. وبعض العارفين بالله قد يكشف لهم الله لمحة من لمحات الغيب، فيخبر الواحد منهم الناس، فيخلف الله سبحانه وتعالى ما كشفه؛ حتى يظل الله وحده عالم الغيب؛ فما دام ذلك اصطفاه الله بغيب أطلع الناس عليه. فسبحانه يُغيِّر أحداث الغيب ولا يعطي لذلك الشخص خبراً عن أي غيب آخر. إذن فكلمة: {إِن شَآءَ} هي إثبات لطلاقة قدرة الله في كونه، فإن شاء أعطاكم، وإن شاء لم يُعْطِكم، فالإعطاء له حكمة، والمنع له حكمة، فقد يفتري البعض بالنعمة فيحجبها الحق عنهم، وهذا ما حدث في كثير من البلاد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5018 التي طغت وكفرت بنعمة الله عليها؛ لأنه سبحانه لو ترك النعمة هكذا بدون ضوابط لاستشرى في تلك البلاد الفساد والمعاصي، إذن: فالمشيئة تقتضي إعطاءً، أو منعاً، والإعطاء له حكمة، والمنع له حكمة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يعامل خلقه على أنهم من الأغيار القُلَّب؛ منهم من يأتيه النعمة فتطغيه، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] . أي: أن الإنسان إذا أنعم الله تعالى عليه، عدّ هذا كرماً من الله عَزَّ وَجَلَّ، وإذا ما ضيق الله عليه الرزق اعتبر ذلك إهانة وعدم رضا من الله. ويرد الله تبارك وتعالى ليصحح المفهوم فيقول: {كَلاَّ} أي لا المال دليل على الإكرام، ولا قلة المال دليل على الإهانة. {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} [الفجر: 17 - 20] . إذن: فالمال إذا جاء ليطغيك يكون نقمة عليك وليس نعمة لك، وإذا كانت قلة المال تمنع طغيانك فهي نعمة وليست نقمة. ولذلك قال تبارك وتعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] . قد يمنع عنك المال الذي إن وصل إليك غرَّك فتحسب أنك في غنى عن الله تعالى وتطغى، وهذا المنع نعمة وليس نقمة، إذن فقوله تبارك وتعالى: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} هو إبقاء لطلاقة القدرة في الكون حتى يكون الإغناء لا بالمادة وحدها ولا بالمال وحده، ولكن بالقيم أيضاً، فلا يذهب المال قيم السماء ولا يبعد عن منهج الله. وقوله سبحانه وتعالى: {إِن شَآءَ} يعني: أنه سبحانه إن شاء أعطى، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5019 وإن شاء منع، فلا مانع لنا أعطى، ولا معطي لما منع، وهي طلاقة المشيئة، في حدود حكمة الله عَزَّ وَجَلَّ، فلا تقل حين يمنع: إنه لم يحقق قوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} لأن الإغناء كما يكون بالمادة، يكون أيضاً إغناء بالقيم. ويؤكد هذا قَوْله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: عليم بالأمر الذي يصلح لكم، حكيم في وضع العطاء في موضعه والمنع في موضعه. ثم يقول الحق بعد ذلك: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5020 وهنا يعود الحق سبحانه وتعالى إلى التحدث عن القتال، ونعلم أن الذين تحدث عنهم المولى سبحانه في هذه السورة، هم المشركون وأحوالهم، والأمر بإلغاء المعاهدة معهم، وإبعاد ذواتهم عن المسجد الحرام، وتقتيل من يحاول البقاء منهم ليحض على الشرك؛ حتى لا يجتمع في جزيرة العرب دينان. وعرفنا من قبل السبب، وأما الذين يتحدث عنهم الله في هذه الآية فهم غيرهم ... فرغم أن الحق سبحانه وتعالى أرسل لمشركي العرب محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5020 وهو رسول من أنفسهم، فهم يعرفونه حق المعرفة، كما أن المعجزة التي جاء بها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جنس فصاحتهم، فإذا كذبوه فهم مخطئون، ورغم هذا كذبوه ولم يؤمنوا به، أما خارج الجزيرة فالرسول ليس منهم، والقرآن لم ينزل بلغتهم، وكان عليهم أن يأخذوا من المنهج التطبيق المناسب. وهكذا نرى أن مصادمة الإيمان لم تكن من مشركي مكة فقط، بل كانت أيضاً من بعض يهود المدينة وبعض من نصارى نجران، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد حدد في هذه السورة موقف الإيمان من المشركين به، فقد أراد أيضاً أن يحدد موقف الإيمان من أهل الكتاب. ونحن نعرف أن هناك فرقاً بين أهل الشرك وأهل الكتاب، فالمشركون لم يكونوا يؤمنون بالله إلهاً واحداً بل معه شركاء، ولكن أهل الكتاب يؤمنون بالإله ويؤمنون برسول وكتاب سماوي، وهم بذلك أقرب إلى الإيمان. ولذلك نجد القرآن الكريم يعرض لنا مثل هذه القضية كطبيعة فطرية، فنجد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد حزن هو وصحابته حين غُلِبتْ الروم في أدنى الأرض. لماذا حزن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يعلم أن الروم سيقفون أيضاً ضده؟ لقد حزن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنهم يؤمنون أن للكون خالقاً واحداً وأن له رسلاً يوحي إليهم وأن له كتباً منزلة، لكن الأمر يختلف بالنسبة للمشركين، فهم يكفرون بالله وهذا قمة الكفر. صحيح أن بعضاً من أهل الكتاب وقفوا مع المشركين في موقف العداء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5021 لرسول الله، لكن قلبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معهم لأنهم أهل إيمان بالقمة. ويُسَرِّي الحق عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 1 - 3] . وهنا يبرز سؤال يقول: متى سيغلبون؟ تأتي الإجابة من الحق تبارك وتعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] . والبضع بالنسبة للزمن هو فترة تتراوح من ثلاث لتسع سنوات، ولم يحدد الحق سبحانه وتعالى البضع هنا؛ لأن المعارك لها أوليات ونهايات، لهذا جاء قول الحق تبارك وتعالى مراعياً لما تستغرقه هذه المراحل كلها، وجاء القول بأن نصر الروم على الفرس سوف يأتي بعد بضع سنين. وبالله قولوا لي: كيف يتحكم نبي أمي في جزيرة تسكنها أمة أمية، ولا علم لهذا الرسول بأخبار الأمم وكيف لهذا النبي أن يأتي بأخبار نصر أمة على أخرى؟ ويظل هذا الخبر في الكتاب الذي يحمل منهج رسالته قرآناً يُتْلَى ويتعبد به إلى قيام الساعة؟ لقد قالها بثقة في حدوث ما جاء في القرآن في المستقبل القريب؛ لأنها جاءته عن ربه، وهو واثق أن قائل هذا الخبر قادر على إنفاذ ما يقول. وإلا، فماذا كان يحدث لو أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال ذلك ثم مر بضع سنين ولم يأت نصر الروم؟ وماذا يكون موقف الذين آمنوا به كرسول من عند الله؟ إذن: هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن ليجازف وينطقها إلا بثقة في أن القائل هو الحق سبحانه الذي شاء أن ينزل بالخبر في آية قرآنية تُتلى، وتُكتب، وتُحفظ، ويُصَلَّى بها في كل وقت إلى أن تقوم الساعة. وينزلها سبحانه على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقت أن كان ضعيفاً لا يعرف ميزان القوي، ولا يعلم هل ستستعد الروم لتنتصر أو لا؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5022 ثم ألم يكن من الممكن أن يتصالح الروم والفرس؟ كل ذلك لم يكن في حسبان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الخبر جاء من الله وسبحانه القادر على إنفاذ ما يقول. ألم يكن هناك إخبار عن أمور خالفت النواميس؟ نعم كانت هناك أمور خارجة عن النواميس وجاء بها الخبر من الله سبحانه وتعالى. . ألم يقل زكريا عليه السلام حين بُشِّر بالولد: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 8 - 9] . أي: ما دام الله سبحانه وتعالى قد قال فقد تأكد الحدوث. وكان المؤمنون أقرب إلى الروم لأنهم أهل كتاب؛ ولأن لهم صلة بالسماء، ومن له صلة بالسماء يمتلئ بالحنين إلى أخبار السماء، ويتسمع أخبار المؤمنين في القمة العقدية. ومن العجيب أن هذه الآية تصدق في الروم وفارس، فينتصر الروم على الفرس، وتصدق في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، فينتصر رسول الله وأصحابه في بدر. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله. .} [الروم: 4 - 5] . وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق تبارك وتعالى: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قد وصفهم هنا بأنهم لا يؤمنون بالله مع أنهم أهل إيمان. والمعنى أنهم لا يؤمنون بالله الإيمان الذي يعطي الله جلال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5023 الصفات وكمالها؛ لأن بعضهم قال: إن الله له ابن اسمه عزير، وقال البعض الآخر: المسيح ابن الله، إذن فهم لم يؤمنوا بالله حق الإيمان تسبيحاً وتنزيهاً لذاته الكريمة عَمَّا لا يليق بها، وكذلك يختلف إيمانهم باليوم الآخر عن الإيمان الحق به، إنه إيمان لا يتفق مع مرادات الله تعالى؛ فهم يقولون مثلاً: إن النعيم في الآخرة ليس مادياً ولكنه نعيم روحي. ونقول: عندما يحدثنا الله عن نعيم الآخرة فلا بد أن نعرف هذا النعيم حتى نفهم المعنى، ونتساءل: ما هو النعيم الروحي؟ هل النعيم الروحي هو خواطر في النفس فقط لا علاقة لها بالحقيقة؟ أيكون هذا هو نعيم الآخرة؟ لقد أوضح المولى سبحانه وتعالى بما لا يدع مجالاً للظن أو الشك أنه قد أعد جنة للمؤمنين وأعد ناراً للكافرين، وحكى لنا الحق سبحانه وتعالى عن هذه الحياة بما فيها من ثواب ومن عقاب؛ بما يقنعنا أن فيها نعيمًا مثل الذي نعرفه، فإذا كان هذا النعيم روحياً ونحن لا نعرف النعيم الروحي ولا نعلم شيئاً عنه، فكيف يغرينا الله عَزَّ وَجَلَّ بشيء لا نعلمة؟ إذن: فإيمان هؤلاء الناس باليوم الآخر ليس إيماناً كما يريده الله. فسبحانه حين يحدثنا عن الجنة إنما يحدثنا عن أشياء من جنس ما نعرف وليس من جنس ما لا نعرف. وصحيح أن الله سبحانه وتعالى قد بيَّن لنا بعض صور النعيم في الجنة، وقال: إنها مثل كذا وكذا. قال الحق جل جلاله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار} [الرعد: 35] . إذن: فالله عَزَّ وَجَلَّ يعطي مثلاً فقط. ومعلوم أن اللفظ في اللغة لا بد أن يوضع لمعنى معروف. ولذلك فعندما يحدثنا الله عن نعيم الجنة لا بد أن يحدثنا بكلام نعرف معانيه. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال عن الجنة: « الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5024 فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . إذن: فلا توجد في اللغة ألفاظ تعبر عن نعيم الجنة؛ لأن المعنى غير معروف لنا، ولكن الله أراد أن يحببنا فيها فأعطانا صورة نفهمها عن النعيم، فيقول عَزَّ وَجَلَّ: {مَّثَلُ الجنة} وهو يريدنا أن نعرف أن فيها نعيماً خالياً من كل المنغصات التي تكون في المثل. فمثلاً الخمر في الدنيا فيها خصلتان؛ الأولى أنها تغتال العقول والثانية: أنها لا تشرب بقصد اللذة، والذي يشرب الخمر لا يشربها مثلما يشرب كوب عصير المانجو أو عصير الليمون الذي يستطعمه ويشربه على مهل، ولكنه يسكب الكأس في فمه دفعة واحدة؛ لأن طعمها غير مستساغ وليقلل زمن مرور الخمر على الحس الذائق، ومعنى هذا أن طعمها غير مستطاب، ثم إنها تذهب بوعي الشارب لها فيفقد السيطرة على سلوكه، ويعتذر في الصباح عما فعل أثناء احتسائه للخمر ويقول خجلاً: «لم أدر موقع رأسي من موقع قدمي» هذه خمر الدنيا، ولكن الخمر في الجنة لا غَوْل فيها. . أي: لا تغتال العقول، حلوة المذاق، ولذلك يصفها الله سبحانه وتعالى بقوله: {لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] . أي: أنها مختلفة تماماً عن تلك الخمر التي حرمها الله في الدنيا. وتتجلى الحكمة في معنى الاستطعام في قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهنَّ طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5025 مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلْقَى في النار» . ومن رحمة الله تعالى بخلقه أنه لم يجعل الطعام وقوداً للطاقة فقط، بل يغري الناس على وقود الطاقة لاستبقاء الحياة بأن يستلذ الإنسان الطعام، ويطيل أمد اللذة ساعة تناوله، لا أن ينتظر النفع بعد أن يهضم الطعام. فكأن الإيمان لا يستمر إلا لمن يحب في الله ويكره في الله؛ فذلك يعطيه الطاقة التي تستبقي إيمانه، كما تستبقي طاقة الطعام حياة الإنسان. وشاء الله سبحانه وتعالى أن يعطينا في تصوير الجنة المثل لما في الجنة، لا بتشخيص وتحديد لما في الجنة فعلاً، ويقول سبحانه وتعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] . وإذا كانت النفس لا تعلم شيئاً، فهي لا تملك ألفاظاً تضع فيها ما لا تعلمه، فإذا خاطبها الله تعالى بواقع الجنة فهي لن تفهم، لذلك شاء الحق تبارك وتعالى أن يخاطبها بواقع المثل، فيقول عَزَّ وَجَلَّ: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25] . إذن: فهو رزق يشبه الرزق الموجود في الدنيا ولكن ليس هو، أما أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5026 يقال: إن نعيم الجنة هو النعيم الروحي أو نعيم الخواطر أو ما نسميه آمال النفس، كأن يتخيل إنسان جائع أنه أكل كمية كبيرة من اللحم أو السمك؛ فتسعد روحه بذلك من غير واقع يحدث، فكل هذا غير حقيقي، ولكنهم يقولون هذا الكلام؛ لأنهم إذا ما تصوروا نعيم الجنة كالخواطر، فسوف يكون عذاب النار مقابلاً أيضاً لنعيم الجنة، أي سيكون عذاب الخواطر، وفي هذا تصور لعذاب سهل؛ لأنهم يخافون عذاب النار فيريدونه عذاباً روحياً. ولكن الإحساس بالنعيم والعذاب لا بد أن يكون له واقع يشبهه في الدنيا، وإلا ما وُجِد في أنفسنا ما يجعلنا نرغب في نعيم الجنة ونخاف من عذاب النار. لذلك فإن نعيم الجنة حق، وعذاب النار حق. وشاء الله سبحانه أن يصفي النعيم من كل الشوائب، فقال عَزَّ وَجَلَّ عن أنهار الجنة: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15] . أي: ليس فيه كل الشوائب الموجودة في عسل الدنيا. وكذلك قال عن لبن الجنة: {وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15] . وكلمة {لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} لها عند العرب أيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معنى؛ لأن العربي كان يحلب الجمال ويضع ألبانها في الأواني، وكان اللبن يتغير طعمه ويصير حامضاً، لكنه كان مضطراً أن يشربه؛ لذلك فحين يسمع {وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} فهو يعطيه المثل من حياته، بعد أن ينقيه من كل الشوائِبِ التي تفسد طعم اللبن في الحياة الدنيا. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} أي الإيمان الواجب بعظمة الله وتنزيهه. واليهود يؤمنون إيماناً إجمالياً بالله، ولكنهم يُجسِّمونه ويقولون: إنه جلس على صخرة ومد قدميه في قصعة من الزمرد ثم استنكف الله أن يمده لبني إسرائيل، وهذا تصوير لا يليق بكمال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5027 الله ولا بذاته المقدسة، وهذا خطأ في التصوير. وكذلك كان خطؤهم في تصور نعيم الجنة وعذاب النار، وبذلك لم يؤمنوا إيماناً حقاً باليوم الآخر، ولهذا جاء قول الحق: {وَلاَ باليوم الآخر} وهم لم يقفوا فقط ضد الإسلام كمنهج، بل وقفوا أيضاً من أديانهم مثل هذا الموقف، ويقول المولى سبحانه وتعالى: {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} وهم كأهل كتاب حرفوا وبدلوا في دينهم فأحلوا ما حرم الله. ولذلك يقول سبحانه: {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} والحق - كما نعلم - هو الشيء الثابت الذي لا يتغير. وإذا نظرنا إلى كل رسول في عصره؛ نجده قد جاء بالحق، وإذا جاء رسول من بعده فهو لا ينسخ العقائد، ولكنه ينسخ في الأحكام، وهكذا نعلم أن كل رسول جاء بالعقائد الثابتة وبالأحكام التي تناسب الزمان إلى أن بعث الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكان النبي الخاتم إلى أن تقوم الساعة، ولا بد أن يكون الحق الذي جاء به هو الحق الثابت الذي لا يتغير؛ لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين فلا رسول بعده، إذن فقوله: {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} أي: أنهم لا يؤمنون حتى بما جاء في كتبهم من بشارة به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا حكم خاص بهم؛ لأن المشكلة معهم أنهم لم يصدقوا بلاغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الله وأنه مرسل إليهم، وسَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في معاملتهم ما شرعه الله تعالى، وذلك أن يعاملوا معاملة مختلفة عن المشركين، فمعاملة المشركين كانت براءة من العهد، وإبعاداً عن المسجد الحرام وقتالاً إن وجدناهم، أو أن يسلموا. أما معاملة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أهل الكتاب فكانت: إما أن يسلموا، وإما أن يعطوا الجزية مع استبقاء الحياة، ولذلك قال الحق تبارك وتعالى: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5028 أي: حتى يؤدوا ما فُرِض عليهم دفعة من أموال مقابل حصولهم على الأمان والحماية، وفي هذا صون لدمائهم، ولذلك نجد أن المسلمين قد فتحوا بلاداً غير إسلامية وصاروا قادرين على رقابهم ولم يقتلوهم، بل أبقوا عليهم، وإبقاء الحياة نعمة من نعم الإسلام عليهم، وهناك نعمة ثانية وهي أنه لم يفرض عليهم ديناً، وإنما حمى اختيارهم الدين الذي يرونه، وفي ذلك رد على من يقول: إن الإسلام انتشر بالسيف، ونقول: إن البلاد التي فتحت بالمسلمين أقرت أهل الأديان على أديانهم، وحمت فقط حرية الاختيار، بل وقف المسلمون بالسيف أمام القوم الذين يقفون أمام اختيار الناس، وتركوا الناس أحراراً. لكننا نجد المغالطات تملأ كتابات الغرب حول مسألة السيف. ونرد دائماً أن الإسلام لو انتشر بالسيف لما وجدنا في البلاد التي فتحها أناساً باقين على دياناتهم، بل كان الإسلام يأخذ الجزية ممن بَقَوْا على دياناتهم من أهل الكتاب. وأخْذُ الجزية دليل على أنهم ظلوا على دينهم وظلوا أحياء، وهاتان نعمتان من نعم الإسلام، وكان يجب أن يؤدوا جزاء على ذلك، وكان الجزاء هو الجزية. وهي مادة «جزى» و «يجزي» . فكأن الجزية فعلة من «جزى» «يجزي» ؛ لأن الإسلام قدم لهم عملاً طيباً بأن أبقى على حياتهم وأبقاهم على دينهم من غير إكراه، فوجب أن يُعطوا جزاء على هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليهم بالإسلام. وأيضاً، فإنهم سيعيشون في مجتمع إيماني؛ الولاية فيه للإسلام، ويتكفل المسلمون بحمايتهم وضمان سلامتهم في أنفسهم وأهلهم وفي أموالهم وفي كل شيء، فإذا كان المسلم يدفع لبيت المال زكاة تقوم بمصالح الفقراء والمسلمين، فأهل الكتاب الموجودون في المجتمع الإسلامي ينتفعون - أيضاً - بالخدمات التي يؤديها الإسلام لهم، ويجب عليهم أن يؤدوا شيئاً من مالهم نظير تلك الخدمات، والإسلام مثلاً لا يكلف أهل الكتاب أن يدخلوا جنداً في حرب ضد أي عدو للمسلمين إلا إذا تطوعوا هم بذلك، إذن: فالجزية ليست فرض قهر، وإنما هي مقابل منفعة أداها الإسلام لهم؛ إبقاءً على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5029 حياتهم وإبقاء على دينهم الذي اختاروه، وقرر الحق أن يعطوا الجزية {عَن يَدٍ} واليد هي الجارحة التي تُؤدَّي بها الأعمال، وأغلب الأعمال إنما تُزَاوَلُ باليَد، ونجد القرآن الكريم يقول: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [يس: 35] . واللسان أيضاً آلة الكلام، والحق تبارك وتعالى يجازي على القول الطيب أو السيىء، ولكن الأصل في العمل هو «اليد» ، وتطلق اليد ويراد بها القدرة التي تعمل، أو يراد بها النعمة، مثل قولنا: فلان له يد على فلان، وفلان له أياد بيضاء على الناس. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} . فهل المقصود ب {عَن يَدٍ} أي من يُعْطُونَ الجزية، أم أيدي الآخرين الآخذين للجزية؟ إن هذا القول: {عَن يَدٍ} مثلما يقال: فلان نفض يده من هذا الأمر، أي خرج عن الأمر ولم يعد يعاون عليه. إذن يكون معنى {عَن يَدٍ} أي غير رد للنعمة. وعن يد منهم أي من المعطين للجزية، أو {عَن يَدٍ} أي: يداً بيده فلا يجلس الواحد من أهل الكتاب في الأمة الإسلامية المحكومة بالإسلام في مكانه ويرسل رسولاً من عنده ليسلم الجزية، لا، بل عليه أن يدفعها ويحضرها بيده. أو نقول: {عَن يَدٍ} من معنى القدرة، فمن عنده قدرة، فتأخذ الجزية من القادر ولا نأخذها من العاجز. إذن: يشترط في اليد إن كانت منهم ثلاثة ملاحظ؛ الملحظ الأول: أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5030 يكونوا موالين لا نافضين لأيديهم منا ومن حكمنا، والملحظ الثاني: أن يأتي بها بنفسه لا أن يرسل بها رسولاً من عنده، وإن جاء بها لا بد أن يأتي بها وهو ماش وأن يعطيها وهو واقف ومن يأخذ الجزية قاعد، وهذا هو معنى {وَهُمْ صَاغِرُونَ} . ولماذا يعطونها عن صَغار؟ لأن الحق عَزَّ وَجَلَّ أراد للإسلام أن يكون جهة العلو، وقد صنع فيهم الإسلام أكثر من جميل، فلم يقتلهم ولم يرغمهم على الدخول إلى الإسلام؛ لذلك فعليهم أن يتعاملوا مع المسلمين بلا كبرياء ولا غطرسة، وأن يخضعوا لأحكام الإسلام، وأن يكونوا موالين للمسلمين، لا ناقضين الأيدي، وأن يؤدوا الجزية يداً بيد، وأما العاجز وغير القادر فيعفى من دفع الجزية. {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} والصَّغَار من مادة الصاد والغين والراء، وتدل على معنيين؛ إن أردتها عن السن يقال «صَغُر» «يَصْغُرُ» مثل قولنا: فلان كبر يكبر. وإن أردتها في الحجم والمقام نقول «صَغِر» «يصغَر» ، أي: صغر مقاماً أو حجماً، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] . وهنا في قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} تعني أن يؤدوها عن انكسار لا عن علو، حتى إنَّ من يُعطي لا يظن أنه يعطي عن علو، ونقول له: لا، إن اليد الآخذة هنا هي اليد العليا. ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا حيثيات قتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فقال بعد ذلك: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5031 {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5032 هذا الادعاء فيه مساس بجلال الله تعالى، فالإنسان يتخذ ولداً لعدة أسباب؛ إمَّا لأنه يريد أن يبقى ذِكْره في الدنيا بعد أن يرحل، والله سبحانه دائم الوجود؛ وإمَّا لكي يعينه ابنه عندما يكبر ويضعف، والله سبحانه وتعالى دائم القوة؛ وإما ليرث ماله وما يملك، والله تبارك وتعالى يرث الأرض ومن عليها. وإما ليكون عزوةً له، والله جل جلاله عزيز دائماً. وهكذا تنتفي كل الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى هذا الادعاء. ولا يعقل أن يرسل الله سبحانه رسولاً ليبين للناس منهج الحق فإذا به يقول للناس: إنَّه ابن الله. إذن فهم لم يؤمنوا الإيمان الكامل بالله. ويسوق الحق تبارك وتعالى قول كل من اليهود والنصارى: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} . وهكذا نجد أنهم لم ينزهوا الله وأخلُّوا بالإيمان الحق. ولا بد أن نعلم أن من قالوا: إن عُزَيْراً ابن الله ليسوا هم كل اليهود، بل جماعة منهم فقط هي التي جعلت عُزَيْراً ابناً لله لما رأى أفرادها على يديه نعمة أفاءها الله تعالى عليه، فقالوا: هذه نعمة عظيمة جداً لا يمكن أن يعطيها ربنا لشخص عادي، بل أعطاها لابنه. ذلك أن اليهود بعد سيدنا موسى عليه السلام قتلوا الأنبياء، وعاقبهم الله بأن رفع التوراة من صدور الحافظين لها، ولكن طفلاً لم يعجبه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5032 مشهد قتل الأنبياء فخرج شارداً في الصحراء مهاجراً وهارباً، فقابله شخص في الطريق فسأله: لماذا أنت شارد؟ فقال: خرجْت أطلب العلم. وكان هذا الشخص هو جبريل عليه السلام، فعلَّمه أن لله توراة، فحفظها فصار واحداً من أربعة، هم فقط من حفظوا التوراة: موسى، وعيسى، وعزير، واليسع، ولأن الكتب قديماً لم تكن تكتب على ورق رقيق مثل زماننا، بل كانت تكتب على الأحجار وسعف النخيل، لذلك كان وزن التوراة يقدر بسبعين حِمْل بعير، وحين رجع عزير حافظاً للتوراة، اندهش قومه وقالوا: لا بد أنه ابن الله؛ لأن الله أعطاه التوراة وآثره على القوم جميعاً. ونشأت جماعة من اليهود تؤمن بذلك، وكان منهم سلاَّم بن مشكم، وشاس بن قيس، ومالك ابن الصيف، ونعمان بن أوفى. وحينما أنزل الله قوله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} لم ينكر اليهود المعاصرون لهذا النزول تلك المسألة ولم يكذبوها، فكأن هناك من اليهود الذين كانوا بالمدينة من كان يؤمن بذلك، وإلا لاعترضوا على هذا القول، وهذا دليل على أن ما جاء بالآية يصدق على بعضهم أو هم عالمون بأن قوماً منهم قد قالوا ذلك. وكذلك قالت النصارى عن عيسى عليه السلام، فجاء قول الحق تبارك وتعالى: {وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} ويتابع الحق: {ذلك قَوْلُهُم} فيوضح لنا سبحانه أن النبوة لله جاءت فيها مشبهة، كان يجب أن يلتفتوا إليها وينزهوا الله عن ذلك؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يصف عباده بأنهم عباد الله، وأن الخلق كلهم خلق الله تعالى. فالمولى سبحانه وتعالى وهو الخالق والقادر على كل شيء خلق كل الخلق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5033 من عدم ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً. ولكن الشبهة عند بعض من أتباع المسيح جاءت من أنه أوجِدَ من دون أب، ونقول لهم: لو أن هذا الأمر جاء لكم من هذا الطريق، فكان من الأوْلى أن تجيء ذات الشبهة في خلق آدم؛ لأن قصارى ما في المسيح أنه جاء من غير أب، ولكن آدم جاء من غير أب ومن غير أم، فأيهما كان أوْلى أن يكون ابن إله؟ ولذلك يقول القرآن الكريم: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ} . والحق سبحانه وتعالى يخلق الشيء - أي شيء - بأسباب، وكل الأَسباب مخلوقة له، والولد منا - في جمهرة الناس - ينشأ من اجتماع الأب والأم، والشيء المردود بين شيئين له صور منطقية أربعة: إما أن يوجد بوجود شيئين ذكر وأنثى، وإما أن يوجد بانعدام الشيئين مثل آدم، وإما أن يوجد بوجود واحد من الشيئين وهو الذكر مثل حواء، فقد خلقها الله من آدم مصداقاً لقوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، وإما بوجود واحد من الشيئين وهي الأنثى وخلق عيسى عليه السلام منها بدون وجود الذكر. وليعلمنا الله سبحانه وتعالى جميعاً أن الأسباب لا دخل لها في التكوين، وأن المسبِّب هو القادر على أن يوجِد من غير أب وأم كما أوجد آدم، وأن يوجد من أب وأم كما أوجد جمهرة الناس، وأن يوجد من أم دون أب كما أوجد عيسى، وأن يوجد من دون أم كما أوجد حواء. إذن: فالقسمة دائرة بقدرة الله وإرادته، ولا دخل لأحد إلا إرادة الحق سبحانه وتعالى، فالأسباب ليست هي الفاعلة في ذاتها، بل إرادة الخالق سبحانه هي الفاعلة، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السموات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50] . أي: قد يوجد الذكر والأنثى ولا يعطي لهما الحق عَزَّ وَجَلَّ أولاداً، وهذه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5034 طلاقة قدرة من الله تعالى، فإياك أن تقول إنها بأسباب، بل سبحانه وتعالى يَهَبُ لمن يشاء إناثاً، ويهب لمن يشاء ذكوراً، ويجمع لمن يشاء بين الذكور والإناث، ويجعل من يشاء عقيماً، وكان استقبال الناس للمواليد يختلف؛ فالعرب كانوا يحبون إنجاب الذكر؛ لأنه قوي ويحقق العزوة ويركب الخيل، ويحارب الأعداء. ولم يكونوا يحبون إنجاب الفتاة لأنها قد تأتي منها الفضائح، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ. .} [النحل: 58 - 59] . وجاء الإسلام ليوضح: أنه ما دام لا دخل لك في الإنجاب والإنسال، فَدع الأمر لمن يهب الأبناء. وقد سمى الحق تبارك وتعالى الأبناء «هبة» ليذكرك أن الإنجاب شيء أعطاه سبحانه لك بلا مقابل منك، فالذكور هبة، والإناث أيضا هبة. فلا تفضل تلك الهبة عن هذه الهبة. ودائماً أقول للذي ينجب بنات، ويذهب هو وزوجته إلى الأطباء: لو استقبلتم هبة الله في الإناث كما تستقبلونها في الذكور، فإن الحق سبحانه وتعالى يجزيكم جزاء لا يخطر لكم على البال، فيحسن الله كل ابنة لكم في عين رجل صالح ويتزوجها، فإن كُن عشر بنات فهُنَّ يأتين بعشرة رجال أزواج يعاملون الأب والأم لكل زوجة معاملة الأب والأم، وهكذا يرزق الله من يرضى بقسمة الله في الإنجاب، ويصبح أزواج البنات أطوع من الأبناء الذكور، فالذي يرضى بالهبة في الإناث يوضح له الله: رضيتَ بهبتي فيك ولم تكن على سنة العرب من كراهة الإناث؛ لذلك أهبك من أزواج البنات أبناء لم تتعب في تربيتهم ويكونون أكثر حناناً وولاءً من أي أبناء تنجبهم أنت. ولذلك إذا ما وجدت إنساناً قد وُفِّقَ في زيجات بناته، من رجال يصونون أعراضهم ويحسنون معاملة أهل الزوجة، فاعلم أن الأب قد استقبل ميلاد الأنثى بالرضا؛ لأنها هبة الله. ويقول المولى سبحانه وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5035 {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} [الشورى: 50] . إذن: فالعقم أيضاً هبة إلهية؛ لأن الإنسان إذا ما استقبل العقم برضا الله؛ لَوَجَد في كل رجل يراه ابناً له؛ لأنه استقبل الهبة في المنع برضا، مثله مثل من استقبل الإناث كاستقبال الذكور. إذن: ما دامت المسألة هبة من الله فيجب أن تستقبل عطاء الله ومنعه بالرضا. وعيسى عليه السلام جاء بنسبة طلاقة القدرة من الخالق سبحانه وتعالى؛ لأن القسمة العقدية والعقلية لا تتم إلا به، ولن تتكرر؛ لأن آدم وُجِدَ أولاً، ومن وجدوا بعد آدم جاء كل منهم من أبوين، وكذلك حواء وُجِدَت من قبلهم، فهذه ثلاث صور قد وجدت في الكون وبقيت صورة ناقصة، هي أن يوجد إنسان من أم دون أب، فأتمها الله عَزَّ وَجَلَّ بعيسى عليه السلام: {وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} وقول الحق {ذلك} إشارة إلى القول بأن المسيح ابن الله أو عزير ابن الله، ويضيف الحق عَزَّ وَجَلَّ توضيحاً {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} . ونسأل: وهل يوجد قول بغير أفواه؟ إن كل قول إنما يكون بالأفواه؛ حتى قول المؤمنين بأن الله واحد وأن محمداً رسول الله هو قول بالأفواه. ونقول: هناك قول بالفم فقط دون أن يكون له معنى من المعاني، وهناك قول بالفم أيضاً وله معنى، إلا أنه غير حقيقي، وكاذب. ولنعرف أولاً: ما هو القول؟ إنه كلام يعبر به كل قوم عن أغراضهم؛ كأن تقول للطفل: اجلس، ولا بد أن يكون الطفل فاهماً لمعنى الجلوس، وإن قلتها بالعربية لطفل إنجليزي فلن يفهم معناها. إذن: فاللغة ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والغرض هو معنى متفق عليه بين المتكلم والسامع، ولا بد أن يعرف الاثنان ما يشير إليه اللفظ من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5036 موضوعات. فإن لم يعرف السامع اللفظ الذي يتكلم به المتكلم فهو لا يفهم شيئاً. وهكذا نعلم أن الفهم بين المتكلم والمخاطب يشترط فيه أن يكونا عليمين باللفظ، فإذا تكلم متكلم بشيء لا علم للسامع به؛ فهو لا يفهم. وكانوا يضربون لنا المثل قديماً بعلقمة النحوي وكان مشهوراً في النحو والألفاظ واللغة، ويتقعر في استخدام الكلمات، ولا يتكلم إلا باللغة الفصيحة الشاذة التي لا يعرفها الناس، وكان عند علقمة خادم، فمرض علقمة النحوي مرة وذهب إلى طبيب اسمه «أعجز» ليشكو له علة عنده، وقال علقمة للطبيب: قد أكلت من لحوم هذه الجوازىء فقصأت منها قصأة أصابني منها وجع من الوابية إلى دأبة العنق، ولم يزل يمني حتى خالط الخلب وأملت منه السراسيب. ولم يكن الطبيب متخصصاً في اللغة ولا معاجم عنده، فوقف مستغرباً من كلمات علقمة وقال له: أعدْ عليَّ ما قلته فإني لم أفهم، فأعاد علقمة عليه ما قاله بغضب ولوم لأنه لم يفهم لغته، وعرف الطبيب تقعر علقمة فقال له: هات القلم والورقة لأكتب لك الدواء، وكتب له: خذ حرقة وسلقة ورهرقة واغسله بماروس واشربه بماء ماء. فقال علقمة: أعِدْ عليَّ فوالله ما فهمت شيئاً، فقال الطبيب: لعن الله أقلَّنا إفهاماً لصاحبه. وعرف علقمة أنه متقعر في اللغة ويأتي بألفاظ ليست من الألفاظ الدائرة على ألسن الناس. وقال أساتذتنا لنا: ولم يؤدبه عن هذا إلا غلامه أي خادمه، فقد استيقظ علقمة ذات ليلة وقال: يا غلام أصعقت العتاريف، ولأن الغلام لم يفهم فقد رد قائلاً: زقفيلا، وقال علقمة للغلام: وما زقفيل؟ قال: وأنت ما أصعقت العتاريف؟ فقال له: يا بني لقد أردت أصاحت الديكة؟ فقال: وأنا أردت لم تَصِحْ. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} إذن: القول هو اللفظ الملفوظ من الفم، وهذا القول إما أن يكون له معنى، وإما ليس له معنى. مثل كلمة «زقفيل» التي قالها خادم علقمة، هذه الكلمة ليس لها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5037 وجود في اللغة فهي قول باللسان ليس له معنى. وقد يكون القول له معنى؛ إلا أنه كلام باللسان لا يؤيده واقع، فهو كذب. وقول الحق سبحانه وتعالى: {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} يحتمل الأمرين. إما أنهم يقولون كلاماً لا يقصدونه ولا يعرفون معنى ما يقولون، والمثال: أن نقول: «كتب» ، وهي كلمة مكونة من الكاف والتاء والباء، ويمكن أن نستخدم ذات الحروف فنقول: «كبت» وهي نفس الحروف أيضاً ولها معنى. أو نقول: «تكب» وهو لفظ غير مستعمل، وهو كلام بالفم ولا معنى له في اللغة، بل هو لفظ مهمل. فإذا قال إنسان كلاماً له معنى فهمناه مثل قول: «زيد كان بالأمس بالمكان الفلاني» وهنا زيد معلوم، والمكان معلوم، وأمس معلوم. لكن زيداً لم يذهب إلى ذلك المكان، وبذلك يكون القول في حقيقته كذباً لم يحدث. ويكون كلاماً بالفم، ولا واقع له في الحياة. إذن: فالقول بالفم إما أن يكون لا معنى له أبداً، فيستعمل كلفظ مهمل لا وجود له في اللغة، وإما أن يكون له معنى في ذاته إلا أنه ليس له واقع يؤيده. والحق سبحانه وتعالى يقول: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ. .} [الأحزاب: 4] . والله سبحانه يقول: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ. .} [الأحزاب: 4] . هذا إذن كلام لا وجود له في الواقع، فالزوجة لا تصير أمّا لزوجها والولد المتبني لا يكون ابناً للرجل أو المرأة، لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} [الأحزاب: 5] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5038 والحق سبحانه وتعالى يقول: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [الكهف: 1 - 4] . أي: أن هذا القول منهم كلام له معنى في اعتقادهم، ولكن ليس له واقع، ولذلك قال المولى سبحانه وتعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: لا واقع لهذا القول يسنده فهو كذب. {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} وهل هذا القول بالأفواه أهم ابتكروه أم ابتدعوه؟ إن الحق سبحانه يوضح لنا: {يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} أي: أنهم لم يأتوا بهذا التصور من عندهم، بل من شيء له واقع، فقد قال المشركون ما أورده الحق على ألسنتهم: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] . فقد توهم المشركون أن لله تعالى بنات والعياذ بالله - وسبحانه منزه عن ذلك، في ذلك يخاطبهم المولى {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} - إذن: فهذا كلام قديم؛ لذلك قال الحق عنهم: {يضاهئون} أي: يشابهون ويماثلون الذين من قبلهم حينما قالوا مثل ذلك، كما أن البوذية في الصين واليابان قالت ببنوة الإله والحلول وقد حفظ بعضهم من هؤلاء، ولم يطرأ جديد من ألسنتهم، وهم كما وصفهم القرآن الكريم {يضاهئون} أي: يشابهون ويماثلون به قول الذين كفروا من قبل، و «المضاهاة» هي المماثلة والمشابهة، وقالوا: إن مادتها مأخوذة من امرأة «ضَهيْاء» وهي التي ضاهت وشابهت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5039 الرجل، في عدم الحيض أو الحمل أو الولادة، وهي بذلك تكون شبيهة بالرجل. {يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} والتعقيب هنا إنما يصدر من الحق تبارك وتعالى عليهم، ولم يتركه الحق لنا، وساعة تسمع: {اتخذ الله وَلَداً} فالفطرة الإنسانية تفرض أن يقول السامع لهذا الكلام: قاتلهم الله كيف يقولون هذا؟ وشاء الحق هنا أن يتحملها عنا جميعاً؛ لأننا إن قلنا نحن: «قاتلهم الله أو لعنهم الله» فلا أحد منا يضمن استجابة الدعاء عليهم، فالأمر قد لا يتحقق، ولكن حين يقولها الحق سبحانه وتعالى. فتكون أمراً مقضياً. لذلك يقول الحق: {قَاتَلَهُمُ الله أنى يُؤْفَكُونَ} ، وما معنى قاتلهم الله؟ أنت إذا رأيت فعلاً قبيحاً من فرد، تقول: قاتله الله. لأن حياته تزيد المنكرات، ومثال ذلك من يسب أباه، يقول من يسمعه «قاتله الله» بينما يقول الإنسان منا لإنسان يفعل الخير: «فليعش هذا الرجل الطيب» ؛ لأنك ترى أن حياته فيها خير للناس. وقول الحق: {قَاتَلَهُمُ الله} أي لعنهم وطردهم، ويقول سبحانه وتعالى: {أنى يُؤْفَكُونَ} ، وكلمة {أنى} ترد بمعنيين، فمرة تعني «من أين؟» ، ومرة أخرى تعني «كيف؟» ، والمثال على معناها الأول قول الحق سبحانه وتعالى على لسان سيدنا زكريا لما دخل على مريم البتول: {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] . قال ذلك لأنه رأى عندها أشياء من الخيرات لم يأت بها إليها، مع أنه هو الذي يكفلها، والمفترض فيه أن يأتي لها بمقومات حياتها، وعندما دخل عليها ووجد شيئاً هو لم يأت به، سألها: {أنى لَكِ هذا} أي: من أين لك هذا؟ فأجابت مريم المصطفاة بما جاء في القرآن الكريم: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5040 {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . وجاء الحق بهذه الكلمة لتخدم أموراً إيمانية كثيرة جداً، وجاء بها على لسان مريم المصطفاة؛ لأن المسألة ليست مجرد طعام يأتيها من مصدر لا يعلمه البشر حتى من هي في كفالته. بل هي تقديم لما سوف يحدث. فلا تظن أن الأمور تسير سير المسألة الحسابية بأسباب ومسببات، وعلل ومعللات، ومقدمات ونتائج، بل هي بإرادة الله تعالى؛ لأنها لو كانت من عند الإنسان لفعلها بحساب، ولكن الحق سبحانه وتعالى يعطي بلا حساب؛ لأنه خالق الأسباب، وهو قادر على أن يخلق المسبَّب على الفور: {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . وحين أنطق الحق سبحانه وتعالى مريم بهذا إنما كان ليوضح لها ولزكريا في آن واحد: إنك يا زكريا تأتي لها بالرزق في حدود قدراتك وحساباتك البشرية، ولكن الله يأتيها بالرزق بغير حساب، وهو ما تستطيع أن تأتي به قدرات البشر، فقد يكون الرزق الذي رآه سيدنا زكريا عند سيدتنا مريم لوناً من الأطعمة لا يأتي إلا في الصيف، بينما كان الوقت شتاء، أو العكس، وقد يصح أن هذا الرزق ليس في بلادهم مثله، ولذلك قال: {أنى لَكِ هذا} وقول الحق تبارك وتعالى: {أنى لَكِ هذا} هو قضية تربوية اجتماعية بمعنى أن الكفيل على قوم حينما يرى عندهم أشياء لم يأتِ بها هو، وجب عليه أن يسأل عن مصدرها، فحينما ترى في يد ابنك قلم حبر غالي الثمن وأنت لم تحضره له، لا بد أن تسأله: من أين جئت به؟ وذلك لتعرف التأثيرات الخارجية عليه، هل سرقه؟ أم أن أحداً أراد استدراجه إلى غرض سَيِّئ فأغراه بهذا القلم؟ لا بد إذن أن تسأل ابنك: من أين لك هذا؟ وكذلك إن رأيت ابنتك ترتدي ثوباً لم تأت لها به ولا أتت به أمها بعلمك، لا بد أن تسأل ابنتك: من أين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5041 لك هذا؟ وهذه القضية إن سيطرت على كل بيت من بيوتنا فلن يحدث في البيوت ما يشينها، لكننا للأسف الشديد نرى في بعض البيوت طفلاً يدخل ومعه قطعة من الشيكولاتة، ولا تسأله الأم: من أين لك هذا؟ بل تربت عليه وتأخذ منه قطعة من «الشيكولاته» لتأكل معه. لكن الأم التي تجيد التربية تماماً تسأل الابن: من أين أتيت بها؟ حتى تعرف هل ثمنها مناسب لمصروف يده أم لا، فإن لم تجد أنه قد جاء بهذه «الشيكولاتة» من مصدر معلوم لها وحلال فهي تحذره وتضرب على يده. ولا بد لنا أن نعلم أن قانون: «من أين لك هذا؟» يحكم العالم كله؛ لأنه يتحكم في التربية الاجتماعية كلها. وقد سبق الإسلام العالم بأربعة عشر قرناً حين أنزل الحق تبارك وتعالى قوله: {أنى لَكِ هذا} ، وأجابت سيدتنا مريم الإيجاب الإيماني، وأوضحت لسيدنا زكريا عليه السلام: أنت تتكلم بحسابك ولكني أتكلم بحساب الله تعالى؛ لأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، أنطقها الحق ذلك لأن هذا القول سوف يخدم قضايا عقدية متعددة في الكون: القضية الأولى: أنها ساعة أن قالت: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . نبهت زكريا إلى قضية عقدية، وهي أن الله سبحانه وتعالى غير محكوم بالأسباب، وسبحانه يعطي بلا حساب، ونظر زكريا إلى نفسه متسائلاً: ما دام الله عَزَّ وَجَلَّ يعطي بغير حساب، وأنا قد بلغت من الكبر عتياً، وامرأتي عاقر، فلماذا لا أطلب منه أن يعطيني الولد؟ إذن: فقد نبهت مريم سيدنا زكريا عليه السلام ولفتت نظره إلى قضية عقدية، وهي أن الله يعطي بلا أسباب، وبلا حساب، فدعا الله أن يرزقه غلاماً فلما بشره الحق بالغلام تساءل: كيف يرزق بالغلام وامرأته عاقر، وهو قد بلغ من الكبر عتياً؟ وجاءت الإجابة من الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5042 {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] . وهكذا انتفع زكريا بعطاء الله بالابن، ولم يكتَف الحق سبحانه وتعالى بذلك، بل تكفل عن زكريا بتسميته، ولله ملحظ في تسميته، ونحن نعلم أن الناس تسمي الوليد الصغير بأسماء تتيمن بها، مثل أن يسمى رجل ابنه «سعداً» رجاء أن يكون سعيداً، وقد يسمونه «فارساً» ، رجاء أن يكون فارساً، ويسمونه «فضلاً» رجاء أن يكون كريماً، ويسمون الفتاة «قمراً» لعلها تكون جميلة. إذن: فالتسمية باسم يحمل معنىً شريفاً على أمل أن يكون الوليد هكذا، وهناك شاعر كان أولاده يموتون بعد الولادة، فجاءه ابن وسمَّاه يحيى، فمات هذا الابن أيضاً فقال الشاعر متحسِّراً: سَمَّيتُه يَحْيى لِيَحْيا فَلمْ ... يكُنْ لِرد قضاء اللهِ فيه سَبِيلُ إذن: فالتسمية بالاسم الشريف، أو بالاسم الذي يدل على الشيء المؤمَل هو رجاء أن يكون الوليد هكذا، لكن المسمى لا يملك أن يكون سعيداً، ولا أن يكون فارساً، ولا أن يعيش؛ لأن الذي يملك كل ذلك هو الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الله هو الذي سمى يحيى، فلا بد أن يكون الأمر مختلفاً؛ لأن الذي يملك هو الذي سمَّى، فهل سيعيش يحيى بن زكريا كالحياة التي نحياها وفيها الموت مُحتَّم على الجميع؟ نعم؛ لذلك شاء له الله أن يموت لتبقى حياته موصولة إلى أن تقوم الساعة. وهكذا رأت سيدتنا مريم آثار ذلك منذ أن قال لها زكريا عليه السلام {أنى لَكِ هذا} وأجابت: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5043 لقد رأت كل ذلك في سيدنا زكريا وفي ميلاد يحيى، وجعل الله كل ذلك مقدمات لها؛ لأنها سَتُمتحن في عِرْضها فهي التي ستنجب ولدا من غير أب، وعليها أن تتذكر دائماً قولها: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . ولذلك تجد القرآن الكريم في قصصه العجيب يقول على لسان مريم: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20] . وقد بشرَّها الحق تبارك وتعالى بذلك في سورة آل عمران: {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَم} [آل عمران: 45] . وما دام قد نسبه الله لها فلن يكون له أب، فتساءلت: كيف يكون لي غلام من غير أب. ويُذكِّرها الحق عَزَّ وَجَلَّ بهذا القول: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . وقال لها: {كذلك قَالَ رَبُّكَ} [مريم: 21] . مثلما قال لزكريا من قبل، إذن {أنى} هذه هي مفتاح الموضوع العقدي كله، في زكريا ويحيى، وفي مريم وعيسى، وهذا هو معنى {أنى} وقلنا إن «أنّى» تأتي بمعنى كيف؟ مثل قول الحق تبارك وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260] . وسيدنا إبراهيم لا يُكذب أن الله قادر على الإحياء، ولكنه يسأل عن الكيفية، وهنا يقول الحق: {قَاتَلَهُمُ الله أنى يُؤْفَكُونَ} أي: كيف يعدلون عن الحق؟ فالقضية منطقية، وما كان يصح أن تغيب عنهم، فكيف يُصرَفون عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5044 هذه الحقيقة التي توجبها الفطرة الإيمانية؟ وكيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ويعدلون إلى الباطل؟ ويقول سبحانه بعد ذلك عن أهل الكتاب: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5045 و «الحَبْر» هو لقب عند اليهود، وهو العالم. ويقال في اللغة «حِبر» أو «حَبْرُ» أي رجل يدقق الكلام ويزنه بأسلوب عالم. والرهبان عند النصارى والمقصود بهم المنقطعون للعبادة، فالحَبر عالِم اليهود، والراهب عابد النصارى، أما عالم النصارى فيسمى «قسيس» ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} [المائدة: 82] . فإن قصدنا عالم الدين المسيحي قلنا: «قسيس» ، وإن قصدنا رجل التطبيق أي العابد قلنا: «الراهب» والراهب هو من يقول: إنه انقطع لعبادة الله فوق ما طلب الله منه من جنس ما طلب، ونعلم أنه لا رهبانية في الإسلام، ولكن الإنسان يستطيع أن يتقرب إلى الله كما يحلو له من جنس ما طلب الله منه، فإن كان الحق عَزَّ وَجَلَّ قد أمر بإقامة الصلاة خمس مرات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5045 في اليوم، فالمسلم الذي يرغب في زيادة التقرب إلى الله يمكنه أن يصلي ضعف عدد مرات الصلاة، وإذا كان الحق سبحانه قد فرض أن تكون الزكاة بمقدار اثنين ونصف في المائة، فالعبد الصالح قد يزيد ذلك بضعفه أو أضعافه. وهذه زيادة من جنس ما فرض الله تعالى وزيادة، وهذا يعني في الإسلام الدخول إلى مقام الإحسان، واقرأ إن شئت قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15 - 16] . أي: أنهم قد دخلوا إلى مقام الإحسان أي ارتقوا فوق مقام الإيمان. ويزيدنا الحق علماً بمقام الإحسان فيقول: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 17 - 19] . وسبحانه لا يطلب منا في فروض الدين ألا نهجع إلا قليلا من الليل، بل نصلي العشاء وننام إلى الفجر. لكن إنْ قام الإنسان منَّا وتهجد فذلك زيادة عما فرض الله ولكنه من جنس ما فرض الله. وكذلك الاستغفار فمن تطوع به فهو خير له. وكذلك الصدقة على غير المحتاج، فهنا زيادة في العطاء على ما فرضه الله من الزكاة التي حُدِّدَتْ من قبل في قول الحق تبارك وتعالى: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} [المعارج: 24] . والرهبانية كانت رغبة من بعضهم في الدخول إلى مقام الإحسان، ولكن الحق لم يفرضها عليهم؛ لأنه هو الذي خلق وَعلم أزلاً قدرات من خلق، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5046 لذلك قال الحق وتعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] . هم إذن قد ابتدعوها ابتغاء رضوان الله وزيادة في العبادة، وليس في ذلك ملامة عليهم، ولكنها ضد الطبيعة البشرية؛ لذلك لم يراعوا الرهبانية حق رعايتها، ويقول المولى سبحانه وتعالى هنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} فهل معنى ذلك أنهم يقولون للحبر أو الراهب «رب» ؟ لا، ولكن كانت معاملتهم لهم كمن يعامل ربه؛ لأن الله هو الذي يُحل ويحرم ب «افعل» و «لا تفعل» ، فإذا جاء هؤلاء الأحبار وأحلُّوا شيئاً حرمه الله أو حرَّموا شيئاً أحلَّه الله، فهم إنما قد أخذوا صفة الألوهية فوصفوهم بها؛ لأن التحليل والتحريم هي سلطة الله، فلذلك «عندما دخل عدي بن حاتم على سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عنق الرجل صليباً من الذهب أو من الفضة قال سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اخلع هذا الوثن «، ومن أدب الرجل مع الرسول خلع الصليب. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» «إنكم لتتخذون الأحبار والرهبان أرباباً» . فقال الرجل: نحن لا نعبدهم. . قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أولا تطيعونهم فيما حرموا وأحلوا؟ قال: نعم. قال: تلك هي العبادة «. {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ} ولسائل أن يسأل: وما معنى عطف المسيح على الأرباب، وعلى الأحبار والرهبان؟ والإجابة: إن الذي يحلل ويحرم إن لم يكن رسولاً، فهو إنسان يطلب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5047 السلطة الزمنية، وذلك لا يتأتى من الرسول؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما جاء ليلفت الناس إلى عبادة الله بما شرعه الله، وعيسى عليه السلام هو رسول لم يقم إلا بالبلاغ عن الله، ولكن البعض أخطأ التقدير وظن أنه ابن الله، ولذلك يتابع الحق قوله: {وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وهكذا يذكر الحق أن الأمر لم يصدر منه سبحانه وتعالى إلا بأن يعبد من يؤمن بالرسالات الإله الواحد. ورسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:» خير ما قلته أنا والنبيون: لا إله إلا الله «. وأنت حين تنظر إلى» لا إله إلا الله «تجد النفي في» لا «والاستثناء من النفي والإثبات في» إلا «، وهذا نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له وحده، وحين نقول:» الله واحدا «فهذا يتضمن الإثبات فقط. ويأخذ الفلاسفة الذين يملكون قوة الأداة والبيان من هذه القضية» الإثبات والنفي «، أو» الموجب والسالب «، ويقولون: كل التقاء بين موجب وسالب إنما يعطي طاقة، والطاقة يمكن استخدامها في الإنارة أو تدار بها آلة، وكذلك الطاقة الإيمانية تحتاج إلى» سالب وموجب «، ويقول الشاعر إقبال: إنما التوحيدُ إيجَابٌ وسَلبٌ ... فِيهِما للنفْسِ عزمٌ ومَضَاء ويقول سبحانه وتعالى تذليلاً للآية الكريمة: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وحين تسمع كلمة {سُبْحَانَهُ} فاعرف أنها للتنزيه، فلا ذات مثل ذات الله، ولا صفة مثل صفات الله، فالله عني وأنت غني، فهل غناك الحادث مثل غنى الله الأزلي؟ وأنت حي والله حي، فهل حياتك الموقوتة مثل حياته؟ فحياته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5048 ذاتية وحياتك موهوبة، فسبحانه حي بذاته، ولذلك يجب أن تفرق بين اسمه» الحي «واسمه» المحيي «، فهو حي في ذاته، ومُحْي لغيره، وإن كانت الصفة لله في الذات فهي لا تتعدى إلى الغير، إن الله يوصف بها ولا يوصف بنقيضها، فتقول» حي «ولا تقول المقابل، ولكن إن قلت:» محيي «فأنت تأتي بالمقابل وتقول:» مميت «. وتقول: «قابض وباسط» و «رحيم وقهار» . إذن: فصفة الذات يتصف الله بها ولا يتصف بمقابلها، وأما صفة الفعل فيتصف بها ويتصف بمقابلها لأنها في غيره، فسبحانه هو مُحي لغيره، ومميت لغيره، لكنه حي في ذاته. إذن فكلمة {سُبْحَانَهُ} تعني التنزيه ذاتاً، وصفاتٍ، وأفعالاً، وإذا جاء فعل من الله، ويأتي مثله فعل من البشر، نقول: إن فعل الله عَزَّ وَجَلَّ غير فعل البشر لأن فعل الله بلا علاج، ولكن فعل البشر بعلاج، بمعنى أن كل جزئية من الزمن تأخذ قدراً من الفعل، كأن تنقل شيئاً من مكان إلى مكان، فأنت تأخذ وقتاً وزمناً على قدر قوتك، أما فعل الله عَزَّ وَجَلَّ فلا يحتاج إلى زمن، وقوته سبحانه وتعالى لا نهائية. ولذلك حين قال سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لقد أسْرِيَ بي إلى بيت المقدس، قال من سمعوه: أتدعي أنك أتيتها في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ لكن لم يلتفت أحد منهم إلى أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقل: لقد ذهبت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5049 إليها بقوتي، بل قال: لقد أسرِيَ بي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. إذن: فالذي أسْرَى هو الله القوي القادر ولا يحتاج الله إلى زمن. إذن: ف {سُبْحَانَهُ} هي تنزيه لله سبحانه وتعالى عن أي شيء يوجد في البشر. ولا تقارن قدرة الله سبحانه وتعالى بقدرة البشر مهما كان، بل إن العمل ينسب لقدرة صاحبه، وكلما زادت القوة زادت القدرة والله هو القوي. وقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} هو تنزيه لله، ولا تجد بشراً يقول لبشر حتى من الكفار الذين يعاندون الإيمان، لا يقول واحد منهم لآخر «سبحانك» لأن التنزيه أمر يختص به الله عَزَّ وَجَلَّ. والناس تضع أسماء أولادها، فالأسماء مقدور عليها من البشر، ولكنك لا تجد كافراً معانداً محارباً لدين الله عَزَّ وَجَلَّ يسمى ابنه «الله» فالمؤمن لا يجرؤ على هذه التسمية لأنه يؤمن بالله، والكافر لا يجرؤ عليها أبدا بقدرة الله وقهره. لذلك فكلمة {سُبْحَانَهُ} ولفظ الجلالة «الله» لفظان يختص بهما الله وحده بالقدرة المطلقة لله سبحانه وتعالى، وسبحانه القائل: {رَّبُّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] . إذن: فالله سبحانه وتعالى - بالقدرة والقهر - حجز ألسنة البشر جميعاً أن يقول أحدهم لأحد: «سبحانك» ، أو أن يسمى أحد ابنه «الله» . والله عَزَّ وَجَلَّ يقول هنا: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، وموقف المشركين وأهل الكتاب واقع تحت هذه الآية؛ لأن منهج السماء لا يأتي إلا إذا عَمَّ الفساد والله سبحانه وتعالى يريد من الإنسان الخليفة في الأرض أن يكون صالحاً ومصلحاً، وأقلُّ درجات الصلاح أن تترك الصالح فلا تفسده، فإن استطعت أن ترتقي به فهذا هو الأفضل. فإن كانت هناك بئر يشرب منها الناس، فالصلاح أن تترك هذه البئر ولا تردمها، والأصلح من ذلك أن تحمي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5050 جدرانها بالطوب حتى لا تنهار الأتربة وتسُدَّها، وأن تحاول أن تسهل حصول الناس على الماء من البئر، والأصلح منه أن تصنع خزانا عاليا، ومن هذا الخزان تمتد المواسير ليصل الماء إلى الناس في منازلهم بدون تعب، هذا إصلاح لأنك بذلك إنما تأخذ بأسباب الحق القائل عن تميز الفكر؛ عند ذي القرنين: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 84 - 85] أي: أن الله سبحانه وتعالى أعطى لذي القرنين الأسباب، وهو زَادَ باجتهاده أسباباً أخرى؛ إذن: فالحق سبحانه يريد من الإنسان أن يُصْلح في الأرض حتى يسعد المجتمع بأي إصلاح في الأرض ويستفيد منه الكل، ولذلك يعطي الحق سبحانه وتعالى اختيارات في أشياء ولا يعطيها في أشياء أخرى، فالإنسان له اختيار في أن يصلي أو لا يصلي، يتصدق أو لا يتصدق، يعمل أو لا يعمل إلى آخر ما نعلمه، ولكن الكون الأعلى محكوم بالقهر، فالشمس والقمر والنجوم والهواء والماء وكل هذا له نظام دقيق، فلا الشمس ولا القمر ولا النجوم، ولا غيرها من الكون الأعلى يخضع لاختيار الإنسان، وإلا لفسد الكون. وكل شيء مقهور سليم بالفطرة ولا يحدث فساد إلا في الشيء الذي فيه اختيار للإنسان؛ لأن الاختيار قد يتبع الشهوة وهوى النفس، حتى المخلوقات المقهورة كالحيوانات التي سخرها الله للإنسان لا يأتي منها الشر. بل إن مُخلَّفاتها تُستخدم في زيادة خصوبة الأرض. ولكن الأشياء التي صنعها الإنسان ملأت أجواء الدنيا بالسموم ولوثت الجو؛ لأن الأولى مخلوقة بهندسة إلهية، والثانية بهندسة بشرية علم صانعها أشياء وغابت عنه أشياء. وقد يعتقد الناس أن هناك بعضاً من الاكتشافات قد حلَّتْ مشكلات الكون، ثم بعد ذلك وعندما تمر السنوات يعرفون أنه جاءت بالشقاء للبشرية، ولعل تلوث البيئة الذي بدأ يؤثر على حياة الكون أخيراً يلفتنا إلى ذلك، حتى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5051 إن الإنسان الذي قطع الأشجار وأزال الغابات التي خلقها الله في هذا الكون لتكون مصدراً للهواء النقي وأنشأ بدلاً منها مصانع ومُدناً؛ بدأ الآن يحاول أن يعيد زراعة هذه الأشجار بعد أن علم أن تدخله في الكون قد أفسد جَوّه وماءه وأفسد لمنهج الله تعالى لاستقام أمر الدنيا، كما استقام الكون الأعلى. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 1 - 7] . إذن: فالميزان للعلويات لا يختل أبداً، فإذا عرفتم ذلك فنِّفذوا أمر الحق سبحانه وتعالى في قوله: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 8] . فإذا سرْتم على ضوء منهج الله تعالى، تستقيم أموركم الدنيا كما استقامت أموركم العليا، وها هو ذا الكون أمامكم يسير منضبطاً، وهذا شأن الشيء الذي فيه اختيار للإنسان؛ إنْ لم يسِرْ على منهج الله عَزَّ وَجَلَّ تجدوه غير مستقيم. وعلى هذا إذا رأيت عورة في الكون من أي لون، فاعلم أن منهجاً من مناهج الله قد عُطِّل. ولذلك نجد - أيضاً - أن المفسدين ساعة يرون أن مصلحاً قد جاء ليضرب على أيدي المفسدين، تجدهم يحاولون إفساده وجذبه إليهم ليعيش فسادهم، وإذا لم يتحقق لهم ذلك فهم يقفون أمام هذا المصلح لأنهم إنما يعيشون بالفساد وعلى الفساد، ويصنعون لأنفسهم السيادة والجبروت ويستعبدون غيرهم، وحين يرى المفسدون رجلاً يريد أن يعدل ميزان الكون فهم يحاربونه. وأنت حين تشتري سلعة، فالبائع يزنُ لك بمقدار ما تدفع من ثمن، ويحتاج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5052 البائع إلى ميزان منضبط ليزنَ لك به ما تشتريه، فإن كان بائعاً مخادعاً، فهو يعبث بالميزان ليبيع لك الأقل بالثمن الأكبر، وليبخسك حقك. ومثل هذا البائع مثل المفسدين الذين يرهقهم أن يأتي مصلح يعيد ميزان الكون لما أمر الله عَزَّ وَجَلَّ من إقامة العدل وإصلاح المعوج. ومن قبل قلنا: إنَّ الحق ضرب المثل فجعل له سبحانه نورين. . النور الأول حسي وهو في الماديات، والنور الثاني معنوي وهو في القيم، وكما أن النور الحسي يهدي الإنسان إلى طريقه دون أن يصطدم بأي شيء؛ لأن الإنسان إن اصطدم بشيء أقل منه، فإنه يحطمه، وإذا كان الشيء أكبر من الإنسان فهو يحطم الإنسان، وهكذا يلعب النور دوراً في الحسيات، وكذلك جعل الله للمعنويات نوراً، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} [النور: 35] . والمفسد يكره أن يوجد مثل هذا النور، بل يريد أن يطفئه، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5053 لكن هل يستطيعون أن يطفئوا نور الله؟ لا؛ لأن الإنسان في الأمر الحسّي لا يستطيع أن يطفئ النور؛ لأن هناك فَرقاً بين مصدر النور وبين أداة التنوير، فالإنسان يمكنه أن يحطم الدائرة الزجاجية التي تحمل النور، لكن لا أحد بإمكانه أن يطفئ «المُنوِّر» والمنوِّرُ الأعلى هو الله، ولا أحد يستطيع إطفاءه. {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله} أي: لا يريد الله شيئاً {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} ، وسبحانه قد أرسل الرُّسُل حاملة لمنهج النور ولم يرسل الرسل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5053 لينتصر عليهم الكفر، ولذلك يقول لنا: {ويأبى الله} أي لا يريد {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} . ويتابع الحق جل وعلا قوله: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5054 والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما جاء بالقيم التي تهدي إلى الطريق المستقيم، جاء بالدين الحق. فكلمة «دين» أخذَتْ واستعملت أيضاً في الباطل، ألم يأمر الحق سبحانه وتعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن يقول لكفار ومشركي مكة: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] . فهل كان لهم دين؟ نعم كان لهم ما يدينون به مما ابتكروه واخترعوه من المعتقدات؛ لكن {وَدِينِ ا} هو الذي جاء من السماء. {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} ولنلحظ أن الحق سبحانه وتعالى جاء بهذا القول ليؤكد أن الإسلام قد جاء ليظهر فوق أي ديانة فاسدة، ونحن نعلم أن هناك ديانات متعددة جاءت من الباطل، فسبحانه القائل: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السموات والأرض} [المؤمنون: 71] . ونتوقف عند قول الحق سبحانه وتعالى: {عَلَى الدين كُلِّهِ} ، فلو أن الفساد كان في الكون من لون واحد، كان يقال ليظهره على الدين الموجود الفاسد، ولكنَّ هناك أدياناً متعددة؛ منها البوذية وعقائد المشركين، وديانات أهل الكتاب والمجوس الذين يعبدون النار أو بعض أنواع من الحيوانات، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5054 وكذلك الصابئة. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يظهر دينه؛ الذي هو دين الحق على دين واحد؛ من أديان الباطل الموجودة، ولكن يريد سبحانه أن يظهره على هذه الأديان كلها، وأن يعليه حتى يكون دين الله واقفاً فوق ظَهْر هذه الأديان كلها، والشيء إذا جاء على الظَّهْر أصبح عالياً ظاهراً. والحق سبحانه وتعالى يقول: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] . أي: أن يأتوا فوق ظهره. وكل الأديان هي في موقع أدنى بكثير من الدين الإسلامي. بعض الناس يتساءل: إذن كيف يكون هناك كفار ومجوس وبوذيون وصابئون وأصحاب أديان أخرى كاليهودية والنصرانية، فما زالت دياناتهم موجودة في الكون وأتباعها كثيرون، نقول: لنفهم معنى كلمة الإعلاء، إن الإعلاء هو إعلاء براهين وسلامة تعاليم، بمعنى أن العالم المخالف للإسلام سيصدم بقضايا كونية واجتماعية، فلا يجد لها مخرجاً إلا باتباع ما أمر به الإسلام ويأخذون تقنيناتهم من الإسلام، وهم في هذه الحالة لا يأخذون تعاليم الإسلام كدين، ولكنهم يأخذونها كضرورة اجتماعية لا تصلح الحياة بدونها. وأنت كمسلم حين تتعصب لتعاليم دينك، فليس في هذا شهادة لك أنك آمنت، بل دفعك وجدانك وعمق بصيرتك لأنْ تؤمن بالدين الحق، ولكن الشهادة القوية تأتي حين يضطر الخصم الذي يكره الإسلام ويعانده إلى أن يأخذ قضية من قضايا الإسلام ليحل بها مشكلاته، هنا تكون الشهادة القوية التي تأتي من خصم دينك أو عدوك. ومعنى هذا أنه لم يجد في أي فكر آخر في الكون حلاً لهذه القضية فأخذها من الإسلام. فإذا قلنا مثلاً: إن إيطاليا التي فيها الفاتيكان الذي يسيطر على العقائد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5055 المسيحية في العالم الغربي كله، وكانت الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان تحارب الطلاق وتهاجم الإسلام لأنه يبيح الطلاق، ثم اضطرتهم المشكلات الهائلة التي واجهت المجتمع الإيطالي وغيره من المجتمعات الأوروبية إلى أن يبيحوا الطلاق؛ لأنهم لم يجدوا حلاً للمشكلات الاجتماعية الجسيمة إلا بذلك. ولكن هل أباحوه لأن الإسلام أباحه، أم أباحوه لأن مشاكلهم الاجتماعية لا تُحلُّ إلا بإباحة الطلاق؟ وساعة يأخذون حلاً لقضية لهم من ديننا ويطبقون الحل كتشريع، فهذه شهادة قوية، يتأكد لهم بها صحة دين الله ويتأكد بها قول الحق سبحانه وتعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [التوبة: 32] ، وبالله لو كان الإظهار غلبة عقدية، بمعنى ألاَّ يوجد على الأرض أديان أخرى، بل يوجد دين واحد هو الإسلام لما قال الحق هنا: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} ولما قال في موضع آخر من القرآن: {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} وهذا يعني أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل من المعارضين للإسلام من يظهر الإسلام على غيره من الأديان لا ظهور اقتناع وإيمان، لا، بل يظلون على دينهم ولكن ظروفهم تضطرهم إلى أن يأخذوا حلولاً لقضاياهم الصعبة من الإسلام. ومثال آخر من قضية أخرى، هي قضية الرضاعة، يقول الحق سبحانه وتعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] . وقامت في أوروبا وأمريكا حملات كثيرة ضد الرضاعة الطبيعية، وطالبوا الناس باستخدام اللبن المجفف والمصنوع كيميائياً بدلاً من لبن الأم، وكان ذلك في نظرهم نظاماً أكمل لتغذية الطفل، ثم بعد ذلك ظهرت أضرار هائلة على صحة الطفل ونفسيته من عدم رضاعته من أمه. واضطر العالم كله إلى أن يعود الطفل ونفسيته من عدم رضاعته من أمه. واضطر العالم كله إلى أن يعود إلى الرضاعة الطبيعية وبحماسة بالغة. هل فعلوا ذلك تصديقاً للقرآن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5056 الكريم أم لأنهم وجدوا أنه لا حَلَّ لمشكلاتهم إلا بالرجوع إلى الرضاعة الطبيعية؟ وكذلك الخمر نجد الآن حرباً شعواء ضد الخمر في الدول التي أباحتها من قبل وتوسعت فيها، ولكن شنُّوا عليها هذه الحرب بعد أن اكتشف العلم أضرارها على الكبد والمخ والسلوك الإنساني، هذا هو معنى {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي: يجعله غالباً بالبرهان والحجة والحق والدليل على كل ما عداه. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} فقد ظهر هذا الدين وغلب في مواجهة قضايا عديدة ظهرت في مجتمعات المشركين والكافرين الذين يكرهون هذا الدين ويحاربونه، وهو ظهور غير إيماني ولكنه ظهور إقراري، أي رغماً عنهم. وبعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى أن الأحبار والرهبان لا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح، ولا باليوم الآخر بالشكل السليم، ويحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويتخذهم أتباعهم أرباباً من دون الله. هنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5057 وبعد أن شرح سبحانه لنا ما يدور في ذواتهم، وانحرافهم عن منهج الله تعالى، والغرق في حب الدنيا وحب الشهوات، وهم قد اشتروا بآيات الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5057 ثمناً قليلاً، وحرَّفوا تعاليم السماء حتى يأكلوا أموال الناس بالباطل، ولكن هل الأموال تؤكل؟ طبعاً لا، بل نشتري بالمال الطعام الذي نأكله، فلماذا استخدم الحق سبحانه عبارة {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس} ؟ أراد الحق سبحانه وتعالى بذلك أن يلفتنا إلى أنهم لا يأخذون المال على قدر حاجتهم من الطعام والشراب، ولكنهم يأخذون أكثر من حاجتهم ليكنزوه. ولذلك يأتي قوله تعالى في ذات الآية أنهم {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . هم إذن أكلوا أموال الناس بالباطل، مصداقاً لقول الحق سبحانه {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل} ومعنى ذلك أنَّ هناك أكْلاً من أموال الناس بالحق في عمليات تبادل المنافع، فالتاجر يأخذ مالك ليعطيك بضاعة؛ ويذهب التاجر ليشتري بها بضاعة وهكذا، وقانون الاحتياط هنا في أن يكون هناك رهبان وأحبار محافظون على تعاليم الدين، ولا يأكلون أموال الناس بالباطل، وهذا ظاهر في قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل} ولم يقل جل جلاله: كل الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل، بل قال {إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان} ؛ لأنه قد يوجد عدد محدود من الأحبار والرهبان ملتزمون، والله لا يظلم أحداً؛ لذلك جاء بالاحتمال. فلو أن الله سبحانه وتعالى عمَّم ووُجد منهم من هو ملتزم بالدين. فمعنى ذلك أن يكون القرآن الكريم لم يُغطِّ كل الاحتمالات، ومعاذ الله أن يكون الأمر كذلك؛ لأن الحق سبحانه وتعالى في قرآنه يصون الاحتمالات كلها. إذن: فاستيلاء بعض من هؤلاء الأحبار والرهبان على أموال الناس لا يكون بالحق، لأي لا يحصلون فقط على ما يكفيهم، بل بالباطل أي بأكثر مما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5058 يحتاجون. وهم يأخذون المال ليصدوا به عن سبيل الله، وهم في سبيل الحصول على الأموال الدنيوية؛ يُغيِّرون منهج الله بما يتفق مع شهوتهم للمال، وما يحقق لهم كثرة الأموال التي يحصلون عليها، ولهذا تأتي العقوبة في ذات الآية فيقول المولى سبحانه وتعالى: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} والكنز مأخوذ من الامتلاء والتجمع، ولذلك يقال: «الشاة مكتنزة» ، أي مليئة باللحم وتجمَّعَ فيها لحمٌ كثير. إذن: فيكنزون أي يجمعون، وقول الحق سبحانه وتعالى: {يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} ؛ وهذان المعدنان هما أساس الاقتصاد الدنيوي، فقد بدأ التعامل الاقتصادي بالتبادل، أي سلعة مقابل سلعة، وهي ما يسمى عمليات عمليات المقايضة، وعندما ارتقى التعامل الاقتصادي اخترعت العملة التي صارت أساساً للتعامل بين الناس والدول. والعملة من بدايتها حتى الآن ترتكز على الذهب والفضة. وحتى عندما وجدت العملة الورقية، كان لا بد أن يكون لها غطاء من الذهب لكي تصبح لها قيمة اقتصادية؛ لأنَّ العملة الورقية لا يكون لها قيمة إلا بما يغطيها من الذهب والفضة. ومن إعجاز القرآن الكريم أن الحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن الذهب والفضة وهما معدنان، يجعلهما الأساس في النقد والتجارة، ولقد وجدت معادن أخرى أغلى من الذهب وأغلى من الفضة كالماس مثلاً. لكن لا يزال الأساس النقدي في العالم هو الذهب والفضة. وعلى مقدار رصيد الذهب الذي يغطي العملة الورقية ترتفع قيمة عملة أي بلد أو تنخفض. . فمثلاً في مصر في عهد الاحتلال البريطاني كان النقد المتداول ثمانية ملايين جنيه، ورصيدنا من الذهب عشرة ملايين جنيه فيكون الفائض من الذهب مليوني جنيه، وبذلك كانت قيمة الجنيه المصري تساوي جنيهاً من الذهب مضافاً إليه قرشان ونصف القرش. والذي يهبط بالنقد إلى الحضيض أن يكون رصيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5059 الذهب قليلاً وكمية النقد المتداولة كثيرة، وهكذا يبقى الذهب هو الحجة والأساس في الاقتصاد العالمي. إذن: فالحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أراد أن يلفتنا إلى أن الذهب والفضة هما أساس التعامل في تسيير حركة العالم الاقتصادية، وأن هذا التعامل يقتضي الحركة الدائمة للمال؛ لأن وظيفة المال هي الانتفاع به في عمارة الأرض، ولو أنك لم تحرك مالك وكنت مؤمناً، فإنه ينقص كل عام بنسبة 2 5 ... وهي قيمة الزكاة. ولذلك يفنى هذا المال في أربعين سنة. فإن أراد المؤمن أن يُبْقي على ماله؛ فيجب أن يديره في حركة الحياة ليستثمره وينميه ولا يكنزه حتى لا تأكله الزكاة؛ وهي نسبة قليلة تُدفَعُ من المال. ولكن إذا أدار صاحب المال ما يملكه في حركة الحياة، فسينتفع به الناس وإن لم يقصد أن ينفعهم به؛ لأن الذي يستثمر أمواله مثلاً في بناء عمارة ليس في باله إلا ما سيحققه من ربح لذاته، ولكن الناس ينتفعون بهذا المال ولو لم يقصد هو نفعهم؛ فمن وضع الأساس يأخذ أجراً، ومن جاء بالطوب يأخذ قدر ثمنه، ومن أحضر أسمنتاً أخذ، ومن جاء بالحديد أخذ، والمعامل التي صنعت مواد البناء أخذت، وأخذ العمال أجورهم؛ في مصانع الأدوات الصحية وأسلاك الكهرباء وغيرها، والذين قاموا بتركيب هذه الأشياء أخذوا، إذن: فقد انتفع عدد كبير في المجتمع من صاحب العمارة، وإن لم يقصد هو أن ينفعهم. ولذلك فإن الذي يبني عمارة يقدم للمجتمع خدمة اقتصادية ينتفع بها عدد من الناس، وكذلك كل من يقيم مشروعاً استثمارياً. إذن: سبحانه وتعالى لا يريد من المال أن يكون راكداً، ولكنه يريده متحركاً ولو كان في أيدي الكافرين؛ لأنه إذا تحرك أفاد الناس جميعاً فيحدث بيع وشراء وإنتاج للسلع وإنشاء للمصانع، وتشغيل للأيدي العاملة إلى غير ذلك، ولكن إن كنز كل واحد منا ماله فلم يستثمره في حركة الحياة، فالسلع لن تستهلك، والمصانع ستتوقف، ويتعطل الناس عن العمل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5060 وكما يحث الإسلام على استثمار المال، يطالبنا أيضاً بألا يذهب المال إلى الناس بغير عمل؛ حتى لا يعتادوا على الكسب مع الكسل وعدم العمل. ولذلك قيل: إذا كثر المال ولم تكن هناك حاجة إلى مشروعات جديدة، فلا تترك الناس عاطلين؛ بل عليك أن تأمرهم ولو بحفر بئر ثم تأمرهم بطمّها أي ردمها، في هذه الحالة سيأخذ العمال أجر الحفر والردم، فلا تنتشر البطالة ويتعود الناس أن يأكلوا بدون عمل؛ لأن هذا أقصر طريق لفساد المجتمع. إذن: فالحق سبحانه وتعالى يريد للمال أن يتحرك ولا يكنز؛ ولذلك قال المولى سبحانه وتعالى: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لأنهم بكنزهم المال إنما يُوقفُونَ حركة الحياة التي أرادها الله تعالى لكونه. وأنت ترى العالم الآن يعيش في غائلة البطالة؛ لأن المال لا يتحرك لعمارة الكون، بل هناك من يكتنزون فقط. ولقائل أن يقول: ولكن الناس الآن يتعاملون بالنقد الورقي، بينما ذكر الله سبحانه وتعالى الذهب والفضة؛ نقول: إن العملة الورقية ليست نقداً بذاتها، ولكنها استخدمت لتعفي الناس من حمل كميات كبيرة وثقيلة من الذهب والفضة، قد لا يقدرون على حملها، إذن فهي عملية للتسهيل، وهي منسوبة إلى قيمتها ذهباً، إذن: فالذين يكنزون العملة الورقية ولا ينفقونها فيما يعمر بها الكون وتتم عمارته تنطبق عليهم الآية الكريمة. ولكن الكنز في هذه الآية لا يأتي فقط بمعنى الجمع؛ ولكنه أيضاً بمعنى أنهم لا يؤدون حق الله فيها. ولذلك فإن المال الذي أخرجتَ زكاته لا يُعدُّ كنزاً، لأنه يتناقص بالزكاة عاماً بعد آخر؛ أما المال المكنوز فهو المال الذي لا تُؤدَّى زكاته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5061 والذي يملك مالاً مهما كانت قيمته ويؤدي حق الله فيه لا يعتبر كانزاً للمال. بل الكنز في هذه الحالة ما لم يؤد فيه حق الله. وإذا عُدْنا إلى نص الآية الكريمة: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} نتساءل: لماذا لم يقل الله: ولا ينفقونهما مع أنهما معدنان؟ ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى استخدم أسلوب الجمع؛ لأن الذهب يطلق إطلاقات كثيرة، فهناك من يملك ألف دينار من الذهب، وغيره يملك مائة دينار من الذهب، وثالث ليس لديه إلاَّ دينار ذهبيّ واحد وكذلك الفضة، وما دام الجمع هنا موجوداً فلا بد أن تستخدم {يُنفِقُونَهَا} . ولم تقل الآية الكريمة: والذي يكنز. ولكنها قالت: {والذين يَكْنِزُونَ} ، إذن: فالمخاطبون متعددون، فهذا عنده ذهب، وهذا عنده ذهب، وثالث عنده فضة، إذن فلا بد من استخدام صيغة الجمع. ويلفتنا القرآن الكريم إلى هذه القضية في قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] . ولم يقل «اقتتلا» لأن الطائفة اسم لجماعة مكونة من أفراد كثيرين، فإذا جاء القتال لا تقوم طائفة وتمسك سيفاً وتقاتل الثانية، وإنما كل فرد من الطائفة الأولى يقاتل كل فرد من الطائفة الثانية، إذن فهما طائفتان ساعة السلام، ولكن ساعة الحرب يتقاتل كل أفراد الطائفة الأولى مع كل أفراد الطائفة الثانية. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {اقتتلوا} ، ولم يقل «اقتتلا» . أما في حالة الصلح فقد قال سبحانه وتعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] . واستخدم هنا «المثنى» لأننا ساعة نصلح بين طائفتين، لا نأتي بكل فرد من الطائفة الأولى ونصلحه على كل فرد من الطائفة الثانية، ولكن نأتي بزعيم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5062 الطائفة الأولى ونصالحة على زعيم الطائفة الثانية فيتم الصلح. ولذلك هنا تجب التثنية. وكذلك في قوله تعالى: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} لم يقل ولا ينفقونهما، ولكن قال سبحانه وتعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} والإنفاق في سبيل الله يشمل مجالات متعددة، ففي سبيل الله تحدث حركة في المجتمع يستفيد منها الناس، فحين تُخْرجُ الزكاة يستفيد منها الناس، وحين تُجهَّزُ بها جيوش المسلمين يستفيد منها الناس، ونظرية عدم كنز المال ربما ظهرت حديثاً في الاقتصاد العالمي ولكنها موجودة منذ نزول القرآن الكريم. فأنت إن أنفقت ولم تكنز حدث رواج في السوق. والرواج معناه إيجاد العمل ووسائل الرزق. وإيجاد الحافز الذي يؤدي إلى ارتقاء البشرية، وأنت حين تشتري لبيتك غسالة أو ثلاجة أو بنيت بيتاً صغيراً فإنك تُوجِدُ رواجاً اقتصادياً في المجتمع. وفي نفس الوقت ارتقيت بوسائل استخداماتك. والرواج يدفع إلى اكتشاف الأحسن الذي يفيد البشرية، ولكن إذا كنزت كل مالك ساد الكساد الاقتصادي. وليس معنى ذلك أن ينفق صاحب المال كل ماله وزيادة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد الوسط في كل الأشياء. ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] . والحق سبحانه وتعالى في هذه الآية يحذر من سفاهة الإنفاق، وعدم الإبقاء على جزء من المال لمواجهة أي أزمة مفاجئة. لكنك إن قترت حدث كساد في السوق وتوقف الإنتاج وتعطل العمال، والإسلام يريد نفقة معتدلة توجد الرواج السلعي، وادخاراً تستخدمه في الارتقاء بحياتك ومواجهة الأزمات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5063 والإنفاق أنواع: إنفاق في المساوي لإبقاء الحركة الدائمة بين المنتج والمستهلك، وإنفاق في غير المساوي بإعطاء الزكاة للفقير والمحتاج والمعدم، والزكاة تنقي المجتمع من مفاسد كثيرة؛ فهي تمنع الحقد بين الناس؛ لأن الفقير إذا وجد من يعطيه فهو يتمنى له دوام النعمة حتى يستمر العطاء فلا يسخط الفقير على الغني، والغني والفقير متساويان في الانتفاع؛ لأن الفقير عندما يأخذ لا يسخط على أنه فقير، ولكنه يحس بالعطاء حوله، والغني حين يعطي يحس أن هذا أمان له؛ لأنه إن ذهبت عنه النعمة فسوف يجد من يعطيه. وهكذا يحدث توازن في المجتمع بين الناس، فلا يوجد من لا يستطيع الحصول على ضروريات الحياة، ولا يوجد من لديه فائض يحبسه عن الناس. ولهذا يدعونا الإيمان إلى العمل بما يزيد عن قدر الحاجة، ليكون هناك فائض للزكاة والصدقة. والإنسان إذا عمل فإنه لا يفيد نفسه فقط بل يفيد المجتمع أيضاً. فسائق «التاكسي» مثلاً إذا كسب مائة جنيه في اليوم قد يظن أنه نفع نفسه فقط، ولكنه في الحقيقة نفع المجتمع كله بأن يسَّر على العباد مصالحهم، فنقل هذا إلى عمله؛ ونقل ذلك إلى المستشفى، ونقل غيرهما إلى السوق ليشتري ما يحتاج إليه، ونقل رابعاً ليزور قريباً أو ليحقق مصلحة وهكذا. إذن: فالذي يعمل يكون عمله خيراً لنفسه وخيراً للمجتمع، وإن عمل كل الناس على قدر حاجاتهم فقط، فمن أين يعيش غير القادر على العمل؟ من أين يعيش المستحق للزكاة والصدقة؟ إنه لا يعيش إلا بفائض القادر على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5064 العمل، ولذلك لا بد للإنسان المسلم أن يعمل على قدر طاقته، وليس على قدر حاجته. والعمل على قدر الحاجة يجعله يوفي بحاجات من يعولهم، ولا يضطرهم إلى أن يمدوا أيديهم للآخرين؛ أي أنه يقيهم شر الحاجة. أما العمل على قدر الطاقة فيجعله يأخذ حاجته، ويعطي لغير القادر ما يقيم حياته، وبذلك يقدم الخير لنفسه ومن يعولهم وللآخرين. إن المجتمع الذي يجد فيه غير القادر حاجته، هو مجتمع يملؤه الاطمئنان بالنسبة للقادر وغير القادر. ونحن نعلم أننا نعيش في دنيا أغيار، ولا يوجد من يدوم غناه أو من يدوم فقره؛ لأن دوام الحال من المحال، إن عاش الغني في مجتمع متكافل يجد فيه الفقير حاجته فهو لن يخشى تقلبات الزمن؛ لأنه وهو الآن يعطي الفقير، إن أصبح فقيراً فسوف يجد مقومات حياته، والفقير إذا أغناه الله تعالى فسيذكر أنه كان يأخذ من الأغنياء، فيبادر ليعين الفقراء كنوع من رَدِّ الجميل. وبذلك يعيش المجتمع كله حياة آمنة، كما أن الحياة في مثل هذا المجتمع إنما تهيىء الاطمئنان للناس على أولادهم وذريتهم، ذلك أن الأعمار بيد الله، وعندما يحس الإنسان بأنه إن مات وترك أولاداً صغاراً ضعافاً فسوف يتكفل المجتمع بهم، عندئذ يحس بالأمان في حياته، ولكن إذا كان المجتمع قاسياً يضيع في حق اليتيم، فالأب يعيش غير مطمئن على أولاده الصغار، ولهذا نجد أن الحق تبارك وتعالى قد أمر بكفالة اليتيم؛ ليعوضه عن أب واحد بآباء متعددين يَرْعَونهُ، فَيُحسُّ الأب بالأمان وتُحس الأم بالأمان ويحس الصغار بالأمان، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5065 {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] . وتقوى الله تكون ضماناً في أن يكفل المجتمع اليتيم؛ فيدخل الأمن في قلب كل أب يخشى أن يموت وأولاده صغار. إذن: فساعة يكفل المجتمع اليتيم فالطفل لن يسخط على القدر الذي حرمه من أبيه لأنه وجد آباء يرعونه، وهناك قصة يرويها عدد من إخواننا العلماء، فقد مات زميل من زملائهم وأولاده صغار، وكانت الأم تبكي على أطفالها لأنهم تيتموا، ثم مرت السنوات وكبر الأطفال فصار هذا مهندساً وصار ذلك طبيباً، والثالث أصبح محامياً، بينما من لا يزال آباؤهم على قيد الحياة كانوا متعثرين في دراستهم، فقال أحدهم للآخر: ليتنا نموت حتى يفتح الله باب الرزق على أولادنا. إذن: فهناك آباء محابس رزق، إذا ذهبوا فاض الله بالرزق على أولادهم، وهذه صورة نراها في الكون؛ فنعرف أن المسألة في يد الله سبحانه وتعالى القائل: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} [الذاريات: 58] . إذن: فالاقتصاد الإسلامي مبني على وجود حركة في الكون، ولا بد أن تكون هذه الحركة على قدر طاقة المتحركين، وليس على قدر حاجاتهم؛ حتى يكون هناك فائض يأخذه غير القادر من المتحرك القادر. ثم يعطينا الله سبحانه وتعالى لمحة إيمانية، حينما نرى الفقير غير القادر وهو يتلقى العطاء من أي إنسان غني يتعب في عمله، وكأن من هم أغنى منه يعملون ليعطوه، وسبحانه وتعالى حين سلب القوة من هذا الرجل فقد عوَّضه بأن أعطاه ثمرة من جهد وناتج عمل غيره فلا يسخط على اختبار الله تعالى له بالابتلاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5066 {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وساعة تسمع كلمة {فَبَشِّرْهُمْ} تعرف أن البشارة عادة تكون في خبر سار، وإن جاءت في خبر محزن تكون تهكمًا، فالإنسان الذي هو عزيز قومه ويجعل الناس له اعتباراً، إن ظلم وطغى وخاف الناس أن يردوه؛ لأنه لا يخشى الله فيهم، هذا الظالم يُؤتَى به يوم القيامة ويُعذَّب أشد العذاب، ويقال له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] . وبطبيعة الموقف في النار هو مهان بعذاب جهنم ولا يمكن أن يكون عزيزاً كريماً، ولكن قول ملائكة النار: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} ، هو تهكم شديد، وهو في ذلك كقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29] . وهم ساعةَ يسمعون كلمة {يُغَاثُواْ} يفرحون؛ لأن عطشهم شديد وهم قد استغاثوا فقيل لهم إنهم سيغاثون، وهذا خبر سار بالنسبة لهم، ولكن الإغاثة تأتيهم بماء يشوي وجوههم، فهل هذه إغاثة؟ إنه تهكم عليهم وزيادة في عذابهم، كذلك قول الحق سبحانه وتعالى هنا: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ويصف لنا الحق هذا العذاب الأليم الذي سيتعرضون له، ويُبيِّن لنا خبر المغيَّب عنَّا في الآخرة بصورة مُحَسَّة لنا فيقول: {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5067 نحن نعلم أن النار لا تُحمى إلا للمعادن، فإن كان ما كنزوه أوراقَ نقد فكيف يُحمَى عليها؟ وإن كان ما كنزوه معادن فهي صالحة لأنْ تُكْوَى بها أجسادهم، أما الورق فكيف يتم ذلك؟ ونقول: إن القادر سبحانه وتعالى يستطيع أن يجعل من غير المُحْمَى عليه مُحمىً، أو يحولها إلى ذهب وفضة؛ وتكوى بها نَواحٍ متعددة من أجسادهم، والكية هي أن تأتي بمعدن ساخن وتلصقه بالجلد فيحرقه ويترك أثراً. و «حين مات أحد الصحابة في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبحثوا في ثيابه فوجدوا فيها ديناراً، قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هذه كَيَّة من النار «؛ لأن صاحبه كان حريصاً على أن يكنزه، كما» وجدوا مع صحابي آخر دينارين كنزهما، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هاتان كَيَّتانِ» «. كان هذا قبل أن تشرع الزكاة، أما إذا كان صاحب المال قد أدى حق الله فيه فلا يُعَدُّ كنزاً، وإلا لو قلنا: إنَّ الإنسان إذا أبقى بعضاً من المال لأولاده حتى ولو أدى زكاته فإن ذلك يعتبر كنزاً، لو قلنا ذلك لكنا قد أخرجنا آيات الميراث في القرآن الكريم عن معناها؛ لأن آيات الميراث جاءت لتورث ما عند المتوفي. والمال المورَّث المفترض فيه أنه قد أتى عن طريق حلال وأدى فيه صاحبه حق الله، لذلك لا يعتبر كنزاً. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} ، لماذا خَصَّ الله هذه الأماكن بالعذاب؟ لأن كل جارحة من هذه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5068 الجوارح لها مدخل في عدم إنفاق المال في سبيل الله. كيف؟ مثلاً: تجدون الوجه هو أداة المواجهة، وإذا رأيت إنساناً فقيراً متجهاً إليك ليطلب صدقة، وأنت تعرف أنه فقير وقد جاءك لحاجته الشديدة، فإن كان أول ما تفعله حتى لا تؤدي حق الله أن تشيح بوجهك عنه، أو تعبس ويظهر على وجهك الغضب، فإن هذا الفقير يحس بالمهانة والذلة؛ لأن الغني قد تركه وابتعد عنه، فإذا لم تنفع إشاحة الوجه واستمر الفقير في تقدمه من الغني، فإنه يعرض عنه بأن يدير له جنبه ليحس بعدم الرضا، فإذا استمر الفقير واقفاً بجانبه فإنه يعطي له ظهره. إذن: فالجوارح الثلاث قد تشترك في منع الإنفاق في سبيل الله، وهي الوجه الذي أداره بعيداً، ثم أعطاه جانبه، ثم أعطاه ظهره. هذه هي الجوارح الثلاث التي تشترك في منع حق الله عن الفقير، ولذلك لا بد أن تُعذَّب فَتُكْوى الجباه والجنوب والظهور. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} ، أي: هذا ما منعتم فيه حق الله، فإن كنز الإنسان مالاً كثيراً فسيكون عذابه أشد ممن كنز مالاً قليلاً؛ لأن الكَيَّ سيكون بمساحة كبيرة، أما إن كان الكنز صغيراً فتكون الكية صغيرة. ولهذا لا يجب أن يغتر المكتنز بكمية ما كنز؛ لأن حسابه سوف يكون على قدر ما كنز. وقوله سبحانه وتعالى: {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي: أن عذابكم في الآخرة سيكون بسبب كنزكم المال، فالمال الذي تفرحون بكنزه في الدنيا كان يجب أن يكون سبباً في حزنكم؛ لأنكم تكنزون عذاباً لأنفسكم يوم القيامة، ومهما أعطاكم كنز المال من تفاخر وغرور في الحياة الدنيا، فسوف يقابله في الآخرة عذابٌ، كُلٌّ على قدر ما كنز. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5069 ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتا بِ الله يَوْمَ خَلَقَ السموات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5070 والشهر: هو دورة القمر كما هو معلوم، ونحن نعرف أن الكون فيه شمس وقمر وفيه نجوم، هذه هي الأشياء المرئية لنا، وهناك كواكب أخرى بعيدة عنا تستطيع أن تأخذ مليون شمس في جوفها، كل هذا يعطيك فكرة عن مدى اتساع الكون، فلا تعتقد أن الشمس هذه موجودة بذاتها، بل هي تأخذ أشياء من كواكب أعلى منها كثيرة، ولكن ما نراه بأعيننا محدود، وهناك ما لا يمكننا أن نراه؛ لأنه غير منظور لنا. وأنت إذا نظرت إلى مصباح كهربائي، فنور المصباح ليس ذاتياً، بل إن وراءه أجهزة كثيرة تمده بالكهرباء من أسلاك وكابلات وأكشاك، ثم محطة توليد الكهرباء التي تولد التيار الكهربائي، ثم المصانع التي أنتجت الآلات التي تعمل في محطة الكهرباء، إذن: فوراء هذا المصباح الصغير حجم هائل من العمل والأجهزة المختلفة. ونحن نرى الشمس فيها ضياء، والقمر فيه نور، فما الفرق بين الضياء والنور؟ الضياء: فيه نور وفيه حرارة. والنور: فيه ضوء وليس فيه حرارة. ولذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5070 يسمون ضوء القمر «الضوء الحليم» ، أي: أنك عندما تجلس في ضوء القمر لا تحتاج إلى مظلة تحميك منه، ولكن إن جلست تحت ضوء الشمس فأنت تحتاج إلى مظلة تحميك من حرارة الشمس الشديدة. والحق سبحانه وتعالى يسمى الشمس سراجاً وهَّاجاً، والسراج فيه حرارة وفيه ضوء. أما القمر فسماه منيراً؛ لأن أشعة الشمس تنعكس عليه فينير، وهذان الكوكبان العلويان - الشمس والقمر - وضع الله فيهما موازين الزمن. والزمن له حالات كثيرة تتطلب موازين وقياسات مختلفة، وأساس الزمن هو اليوم والليلة، وأساس اليوم هو صباح وظهر وعصر ومغرب، وهناك الفجر الصادق والفجر الكاذب والشروق، وهناك أوقات يتساوى فيها الشيء وظله، وأوقات يكون الظل مثْلَيْ الشيء. والليل فيه الظلام، ويأتي بعد النهار والليل - في مقاييس الزمن - الشهورُ، وبعد الشهور تأتي السنوات. إذن: فمقاييس الزمن محتاجة لآلات تقاس بها، وأنت تعرف بداية اليوم بشروق الشمس. إذن فالشمس معيار اليوم. وأنت تعرف بداية الليل بغروب الشمس. وهكذا فالشمس تعطينا بداية ونهاية الليل والنهار، ولكنها لا تعطينا شيئاً عن الشهور، فإذا نظرت إلى الشمس فإنك لا تعرف هل أنت في أول الشهر أو في منتصفه أو في آخره. ولكنك إذا نظرت إلى القمر عرفت، ففي أول الشهر يكون القمر هلالاً، وفي منتصفه يكون بدراً، وفي آخره المحاق. والشهور عند الله اثنا عشر شهراً. وهكذا نرى أن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الإنسان، ويجعله خليفة في الأرض؛ خلق له كوناً مُعَدَّا إعداداً حكيماً لاستقباله، فقدَّر في الأرض الأقوات وجعل الشمس والقمر وأنزل المطر، فكل ما يقيم حياة الإنسان كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5071 موجوداً في الكون قبل أن يأتي الإنسان إليه. والإنسان جعله الله خليفة في الأرض وله حركة، وهي الأحداث التي تقع منه أو تقع فيه أو تقع عليه، والأحداث تتطلب زماناً ومكاناً، ولذلك خلق الله لها الزمان والمكان. إذن: فالحياة كلها تفاعل بين حركة الإنسان الخليفة وبين الزمان والمكان. وكما أعدَّ الله سبحانه وتعالى للإنسان في كونه مقومات حياته اليومية. . أنزل له القيم التي تحفظ له معنويات حياته، وأراد بها الحق سبحانه وتعالى أن تتساند حركة الإنسان ولا تتعاند، ومعنى التساند أنْ تتحد حركة الناس جميعاً في إيجاد النافع لمزيد من الإصلاح في الأرض، أما إن تعاندت حركات البشر ضد بعضها البعض، فإن الفساد يظهر في الأرض؛ لأن كل واحد يريد أن يهدم ما يفعله الآخر. ولكي تتساند حركات الإنسان في الكون؛ فلا بد من مُشَرِّع واحد - وهو المشرع الأعلى - يعطي قوانين الحركة البشرية لكل الناس. وإن ابتعد الناس عن تشريعات الله تعالى، وأخذوا يقنِّنون لأنفسهم، نجد قوانين البشر تتبع أهواءهم، وكل واحد يحاول أن يحصل على مَيْزات لنفسه، ويأخذ حقوق الآخرين؛ فتفسد الحياة، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السموات والأرض} [المؤمنون: 71] . إن اتباع الحق لأهوائهم سيُخضِعُ الكون لأهواء البشر، هذا يريد وهذا لا يريد، والحق سبحانه يريد في الكون حركة السلام والأمن والاطمئنان، وهذه لا تتم إلا إذا التزم كل إنسان بمنهج الله؛ حينئذ يوجد سلام دائم ومستوعب شامل، مستوعب لسلام الإنسان مع نفسه، ولسلام الإنسان مع الكون، ولسلام الإنسان مع الله، لكن الإنسان الذي خلقه الله مُخيَّراً وأنزل له المنهج بالتكليف، في إمكانه أن يطيع هذا المنهج أو أن يعصيه. وإن عصى الإنسان المنهج فهو يفسد في الأرض وينشر فيها الظلم والفساد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5072 وأراد الحق سبحانه أن يضع للسلام ضماناً، وهو أن توجد قوة تقف أمام الفساد في الأرض؛ لذلك شاء الحق أن يكون للحرب وجود في هذا الكون؛ لتتصارع الإرادات، فما دام للإنسان اختيار، وما دام هناك من يعصي ومن يطيع، فلا بد أن يحدث الصراع. أما الأمور التي لا اختيار للإنسان فيها فهي لا تعكر السلام في الكون، فلن تقوم ثورة - مثلاً - لكي تشرق الشمس، أو تشتعل حرب لإنزال المطر؛ لأن هذه الأمور تسير بقوانين القهر التي أرادها الله لها، وتعطي نفعها للجميع، ولكن الفساد يأتي من انحراف الناس عن منهج الله، وما دام في الكون حراس للمنهج من البشر، بحيث إذا انحرف إنسان ضربوا على يده حتى يعود إلى الطريق السليم؛ فإن الحياة المطمئنة الآمنة تبقى. ولكن إن عَمَّ الفساد، ولم يوجد في المجتمع من يقف ضده تعاندت حركات الحياة وتعب الناس في حياتهم وأرزاقهم. ولكي يسود السلام في الكون؛ وضع الحق سبحانه في الزمن وفي المكان حواجز أمام طغيان النفوس؛ عَلَّها تفيق وتعود إلى الحق، فجعل في الزمان أشهراً حُرماً يمتنع فيها القتال، ويسود فيها السلام بأمر السماء، وأراد الحق أن يكون هذا السلام القسري فرصة تجعل هؤلاء المتحاربين يفيقون إلى رشدهم وينهون الخلاف بينهم، كذلك خصَّ الله بعض الأماكن بتحريم القتال فيها، فإذا التقى الناس في هذه الأماكن كانت هناك فرصة لتصفية النفوس وإنهاء الخلاف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5073 والإنسان في حربه مع أخيه الإنسان يُنهك بنيران ونتائج الحرب، تنهكه دماً، وتنهكه مالاً، وتنهكه عتاداً، ويصيب الضعفُ الإنسان نتيجة هذه الإنهاكات منتصراً كان أم مهزوماً، ولكنه أمام عزة نفسه في مواجهة خصمه يريد أن يستمر في الحرب حتى لا يظهر أمام الخصم بأنه قد ذُلَّ. فيشاء الله برحمته لخلقه أن يجعل في الزمان وفي المكان ما يحرم فيه القتال؛ حتى لا يقال: إن قبيلة ما أو جماعة ما قد أوقفت القتال خوفاً من خصومها، أو لأن خصومها هم الأقوى؛ ولكن ليقول الناس: إنهم أوقفوا الحرب بأمر الله. وبهذا يحتفظ كل طرف من الأطراف المتحاربة بكرامته؛ فيسهل الصلح وتسلم الأرواح والنفوس. وكذلك إن لجأ واحد من المتحاربين إلى المكان أو الأماكن التي يحرم الله فيها القتال، أمن على نفسه، وفي هذا منع للشر أن يستمر، وصون للنفوس من المهانة والذلة والانكسار أمام الغير؛ لذلك أراد الله أن يوضح لنا: أنا خالقكم، وأنا الرحيم بكم، وسأجعل لكم من الزمان زماناً أحرم فيه القتال، وأجعل مكاناً مَنْ دخله كان آمناً، فاستتروا وراء ذلك وكُفُّوا عن القتال. وهذه هي بعض من رحمة الله، يعطي بها سبحانه للناس فرص الحياة، وهذا من عطاءات الربوبية، وعطاء الربوبية من الله هو لخلقه جميعاً، المؤمن منهم والكافر، والطائع والعاصي، وكل نعم الكون من عطاءات ربوبية الله. إن عطاءات الله سبحانه لا تفرق بين المؤمن والكافر، فالأرض مثلاً لا تعطي الزرع للطائع وتمنعه عن العاصي، والشمس لا تضيء وتسقط دفئها وحرارتها للمؤمن دون الكافر؛ فَنِعَمُ الكون المادية كلها من عطاء ربوبية الله سبحانه وتعالى لخلقه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5074 الأسباب - إذن - هي للناس جميعاً، ولهم أن يتخذوا الأزمان المواتية لحركة الحياة كما يحبون، فيسيرون الزراعات على أي تقويم، ويحددون المواسم على حسب ما يفيدهم، وهم يحددون بذلك مصالحهم المادية التي هي من عطاء الربوبية. ولكن الله رب قَيِّم، ولذلك فهناك عطاء ألوهية لله في المنهج الذي أرسل به الرسل للناس فأوضح: أنا أختار الزمان الذي أجده مناسباً للقيم والمعاني السامية، وأختار الأماكن المناسبة للقيم والمعاني السامية. وأراد الحق برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشيع اصطفاء المكان والزمان لكل الزمان والمكان. والشهور والأزمان عند الله هي اثنا عشر شهراً، وما دام قد قال: {عِندَ الله} ، فهناك «عند» غير الله؛ وهناك «عند» الناس. وأوضح سبحانه لخلقه: قَدِّروا أزمانكم بمصالحكم، وهذا ما يحدث في الواقع المعاش. . إنك تجد من يزرع حسب التقويم القبطي، حيث تكون شهور الصيف فيه ثابتة، وكذلك شهور الشتاء والربيع والخريف؛ لأن التقويم القبطي قائم على التقويم الشمسي. ولكن الحق سبحانه وتعالى يريد للقيم أزماناً مخصوصة؛ لذلك قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} وأوضح سبحانه: لا تجعلوا زمن القيم كالأزمان التي تجعلونها لمصالحكم. وأراد الله سبحانه أن تعم القِيمَ كل الزمن، ولا تكون مقصورة على أزمان معينة، ولذلك اختار سبحانه أزماناً للصلاة مثلاً، فصلاة الصبح لها قوت، وصلاة الظهر لها وقت، والعصر لها وقت، والمغرب لها وقت، والعشاء لها وقت. ولكن أوقات الصلاة رغم أنها محدودة فهي تشمل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5075 الزمن كله؛ فالصلاة تقام مثلاً في أسوان، وبعد دقائق في الأقصر، وبعد دقائق في القاهرة، وبعد دقائق في الإسكندرية، ثم تتدرج إلى دول أوربا، وهكذا. فكأنها لا تتوقف عند فترة معينة، بل هي مستمرة حسب اختلاف الأوقات في الدول المختلفة، فصلاة الفجر - على سبيل المثال - قبل شروق الشمس. والشمس تشرق في كل دقيقة على بقعة مختلفة من الأرض. فكأن الصلاة دائمة على سطح الأرض. بل أكثر من ذلك نجد أننا في الوقت الذي نصلي فيه نحن الظهر، قد يصلي غيرنا العصر في شمال أوربا، والمغرب في أمريكا، والعشاء في كندا مثلاً، فكأن الصلاة تقام في كل وقت على ظهر الأرض؛ ذلك لأن الكون كله مُسبِّح لله. ونأتي بعد ذلك إلى اختيار الله ليوم وقفة عرفات، ولشهر الصوم وغير ذلك من الأوقات، فشهر رمضان يأتي مرة في الصيف، كما يأتي في الشتاء وفي الربيع، وفي الخريف. كذلك الحج يأتي في فصول السنة المختلفة. وهكذا شاء عدل الله أن تكون الأيام المفضلة عنده مُوزَّعة على الزمن كله. وجعل الحق سبحانه وحدة الزمن هي اليوم، واليوم يتكون من الليل والنهار، والأيام وحدتها الشهر، والشهور وحدتها العام، وجعل من مهمة الشمس أن تحدد لنا اليوم، ومن مهمة القمر أن يحدد لنا الشهر؛ فهو في أول الشهر هلال، ثم تربيع أول وتربيع ثانٍ فبدْر إلى آخره. إذن فالقمر هو الذي يحدد بداية الشهر ونهايته. ولقد حدد الحق سبحانه شهور العام، فقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} وقال: {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} . ولكن لماذا لم يجعل الحق الأشهر سلاماً؟ نقول: إن الحق في تشريعه أراد أن يسود السلام، ولكن الحرب أيضاً قد تكون سبباً لتحقيق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5076 السلام، فليس كل إنسان أو مجتمع يسير على الجادة، فمن الممكن أن تخرج جماعة عن الجادة، ولهذا لا بد من قتال تلك الجماعة، ولا بد كذلك من وقفة للخير أمام الشر، وما دام الإنسان له اختيار؛ فقد يسير في اختياره إلى ناحية السوء؛ لذلك لا بد أن يضرب المجتمع على يد المسيء، وإذا ما اختارت دولة قتال دولة أخرى اعتداءً، فالحرب ضرورة للدفاع. وكذلك لو أن الحق قد جعل العام كله أياماً حُرُماً لأذلَّ الكفار والمشركون المؤمنين؛ لأن الكفار والمشركين سيعصون الله ويحاربون، والمؤمنون ملتزمون بأمر الله، فكأن الله قد فرض العبودية على المؤمن به. وأعطى السيادة لغير المؤمن. ثم إن قوى الخير والشر تتصارع في هذا الكون، وقوى الحق والباطل تتقاتل، ولا بد من وقفة للحق أمام الباطل، ولذلك أباح الحق في الأشهر الحرم القتال، حتى إذا استشرى الباطل تصدى له الحق بالقوة، ولذلك قال شوقي: الحرْبُ في حَقٍّ لَديْكَ شريعةٌ ... ومِنَ السُّمُومِ النَّافِعَاتِ دَوَاءُ إذن: فقد شاء الله أن يوجد من يقاوم الباطل، وضمن للحق أن يحارب الباطل ويواجهه؛ لذلك لم يشرع تحريم القتال في العام كله. ولكنه شرع هذا التحريم فقط أربعة أشهر يذوق الناس فيها حلاوة السلام ويتوقف فيها القتال وتتاح الفرصة للصلح. ولقد أوجد سبحانه في الكون سُنَّة، هي أنه إذا ما التقى حق وباطل في المعركة فالباطل ينهزم في وقت قصير. وإن رأيت معركة تطول سنوات طويلة فاعرف أنه بين باطل وباطل، وإذا قامت الحرب بين وباطل فإن السماء لا تتدخل، وأما إذا قامت المعركة بين حق وباطل فإن السماء تنصر الحق على الباطل. ولا تقوم معركة بين حَقَّيْن أبداً؛ لأن الحق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5077 في الدنيا كلها واحد، فلا يوجد حقان، بل حق وباطل، وإن وجد الصراع فإنه لا يطول بينهما؛ لأن الباطل زهوق بطبيعته، وإن وجدت حرب بين باطلين، فالسماء توضح لنا أنه لا يوجد باطل منهما أولى بأن ينصره الله على الآخر؛ بل يترك سبحانه هذا الصراع لأسبابهم؛ مما يطيل أمد الحرب. وحين شرع الله الأشهر الحرم، ضمن الناس مطلوبات السلام الدائم؛ لأن الناس تنهكهم الحرب ويحبون أن يرتاحوا منها، فإذا جاءت الأشهر الحرم كانت فرصة للناس ليوقفوا الحرب، دون أن يشعر أحدهم بالذل والهوان والهزيمة. ونحن نلجأ إلى ذلك أحياناً، فإذا كنا في بيت يسكنه عدد من الناس - كما يحدث في الريف - وسُرِق شيء ثمين من هذا البيت، والسارق من السكان ونريد منه أن يعيده دون أن ينكشف أمره فهم يحددون مكاناً معيناً، وكل واحد من سكان البيت يأتي ليلاً ويضع حفنة من التراب في هذا المكان، لعل السارق يضع ما سرقه دون أن يعرفه أحد، وفي هذا ستر له فلا ينفضح أمام الناس. والأشهر الحرم فرصة للسلام دون أن ينفضح أحد من الأطراف المتحاربة أمام الناس بأنه ضعيف أو غير قادر على الاستمرار في الحرب، وتتوقف خلالها الحرب وقد ستر الله كل أطرافها، وتقوى خلالها فرص أكبر للسلام والصلح، وبذلك تكون فرص السلام أكبر من فرص الحرب بكثير. ولكن ماذا يحدث عندما يعتدي عصاة غير مطيعين لله على المؤمنين في الأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها؟ إن الحق سبحانه لا يعني بتشريعاته أبداً أن تكون مصدر إذلال للمؤمنين وإعزاز للكافرين؛ ولذلك ينبهنا إلى أننا يجب ألا نسمح لأعداء الله بأن يستغلوا حرمة الأشهر الحرم ليتمادوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5078 في العدوان على المؤمنين، فأباح للمؤمنين القتال في هذه الأشهر إذا قاتلهم الكفار فيها، وكذلك في الأماكن المحرَّم فيها القتال، فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ... } [البقرة: 217] . وهكذا أباح الله القتال في الشهر الحرام ليدافع المؤمنون فيه عن أنفسهم إذا بدأهم الكفار بالقتال، وأباح الحق سبحانه أيضاً القتال في المسجد الحرام إذا قام الكفار بقتال المؤمنين فيه، رغم أننا نعلم أن تحريم القتال في المسجد الحرام هو تحريم دائم، ولكن الحق سبحانه وضع استثناء فقال: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين} [البقرة: 191] . وهكذا جاء التقنين الإلهي ليحمي المؤمنين من طغيان الكافرين، فالمؤمنون يلتزمون بعدم القتال في الأشهر الحرم كما أمر الله؛ بشرط التزام الطرف الآخر الذي يقاتلهم، فإن لم يلتزم الكفار بهذا التحريم، فسبحانه لا يترك المؤمنين للهزيمة، وهكذا شاء الحق أن يضع التشريعات المناسبة لهذا الموقف. فإن احترمها الطرفان كان بها، أما إن خالفها الكفار فقد سمح الله للمؤمنين بالقتال. وهنا يقول سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله} والكتاب يطلق على الشيء المكتوب المدوَّن، ولا يُدوَّن الكلام إلا إذا كانت له أهمية ما، أما الأحاديث التي تتم بين الناس فهم لا يكتبونها ولا تُدوَّن. بينما الكلام المهم وحده هو الذي يُكتب حتى يكون حجة في الاستشهاد به في حالة وجود خلاف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5079 ولكن أين {كِتَابِ الله} الذي كُتِبَ فيه هذا؟ إنه اللوح المحفوظ عند الله، والمهيمن على كل الكتب التي نزلت في مواكب الرسل، ويقصد بالكتاب - أيضاً - القرآن الكريم الذي نزلت فيه هذه الآية، وقد جاء القرآن جامعاً لمنهج الله بدءاً بآدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة. وتغير في القرآن كثير من الأحكام الموجودة في الرسالات السابقة، أما العقائد فهي واحدة. كما أن القرآن قد تضمن الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة وقت نزوله، والمثال هو قوله الحق: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ... } [البقرة: 189] . وأيضاً يقول الحق سبحانه: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ... } [يونس: 5] . فكأنه ربط السنين والحساب بالقمر، وهذا الحساب هو من ضمن إعجازات الأداء البياني في القرآن؛ لأن العالم قد بحث عن أدق حساب للزمن، فلم يجد أدق من حساب القمر، وكل الأحياء المائية تعتمد في حسابها على الحساب القمري، والله سبحانه يريد منا حين نقرأ كتاباً أن نتمعن في وضع الألفاظ في موضعها. فيقول سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السموات والأرض} وبعد ذلك يأتي باستثناء هو: {مِنْهَآ} أي من الاثني عشر شهراً {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} ، ولقائل أن يقول: لماذا لم يقل الله: «فيها» بدلاً من {فِيهِنَّ} ما دام قد قال من قبل: {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5080 ونقول: إن الحق ينهى عن الظلم العام في كل الشهور، وإن كان المقصود الأشهر الحرم الأربعة، فالمقصود النهي عن ظلم الحرب. وهنا قاعدة لغوية يجب أن نلتفت إليها؛ وعندنا في اللغة جمع قلة وجمع كثرة؛ جمع القلة من ثلاثة إلى عشرة، ويختلط الأمر على بعض الناس في مسألة جمع القلة وجمع الكثرة، وجمع التكسير وجمع الصحيح. فجمع القلة وجمع الكثرة، غير جمع التكسير، والجمع الصحيح؛ لأن التكسير هو أن تكسير بنية الكلمة، فمثلاً بيت جمعها بيوت، ورسول جمعها رسل؛ هنا كسرْتَ بنية الكلمة أي: غيَّرتها. أما إن قلت: «مسلم» فجمعها «مسلمون» ، وهنا تضيف «واواً ونوناً» ، ولكن كلمة «مسلم» صحيحة، أي أننا لم نكسر المفرد. ولكن إن قلت: «سفينة» وجمعها «سفن» تكون قد كسرت المفرد. وقول الحق هنا: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله} فما دام العدد هو اثنا عشر شهراً تكون قد زادت عن جمع القلة؛ لأن جمع القلة من ثلاثة إلى عشرة، وجمع القلة يعاملونه معاملة الجماعة. وإن زاد على عشرة يعاملونه معاملة المفرد المؤنث، مثل وضع الشهور الأربعة المحرمة في كتاب الله، ولذلك قال: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وجاء هنا ب «نون النسوة» للجمع. والقاعدة - كما قلنا - إن جمع القلة يعامل معاملة الجماعة، فإن كان جمع كثرة عومل معاملة المفرد المؤنث؛ لأن الفرد يكون معصوماً بالجماعة، أي أنه بمفرده ضعيف. فإن وجد جماعة ينتمي إليها فهو يُحِسُّ بالقوة. إذن: فالفرد يعصم بالجماعة، وبهذا تعامل الحماعة كلها كهيئة واحدة، وهناك شاعر يستهزىء بقوة جماعة ما، فيقول: لاَ أُبَالِي بِجمْعِهِنَّ فَجَمْ ... عُهُنَّ كُلُّ جَمْعٍ مُؤنَّثٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5081 إذن: فكل جمع يكون مؤنثاً، وهذا ما ينطبق على قوله سبحانه وتعالى هنا: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} . وأكرر: إن أردت الظلم العام فإن الله قد حرم الظلم في كل شهور السنة؛ سواء ظلمك لنفسك أم ظلمك للناس، وإن أردتَ من معنى الكلام تحريم الحرب في الأشهر الحرم تكون: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} قد أتت بالمؤنث. ومعنى قوله: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: إياكم أن تظنوا أن مخالفتكم لمنهج الله يحدث منها شيء يضر الحق سبحانه، فكل ما يحدث من ظلمكم لأنفسكم هو أن تضروا أنفسكم أو غيركم، لكن لن يضر أحدكم الله؛ لأن صفات الله في الكون لا تتأثر أطاع الخلق أم عَصَوا. ولذلك فإن اتباع منهج الله هو أمر لصالح الناس، لصالحنا نحن، فانصرافنا عن المنهج لا يضر الله سبحانه شيئاً ولكن يضرنا نحن، فكل ما أنزله الله من قيم هو لصالحنا حرباً وسلاماً، وتحريماً وتحليلاً. ولكن لماذا خصَّ الحق سبحانه الشمس بحساب اليوم، والقمر بحساب الشهر؟ وأقول: لأن الله سبحانه يريد أن يوزع الفضل على كل الزمن، وأن ييسر على الناس أداء مناسكه وما يكلفهم به. فلو حسبت الشهور بالشمس لكان ميعاد الحج كل عام في أشهر الصيف دائماً، ومن يعيش مثلاً في بلاد باردة إن ذهب إلى الحج صيفاً يتعرض لأخطار شديدة، فكأنه ليس هناك عدل بين الذين يعيشون في مناطق باردة، والذين يعيشون في مناطق حارة في أداء مناسك الحج، فلو كان ميعاد الحج هو الصيف دائماً، فسوف يؤديه الذين يعيشون في المناطق الحارة بسهولة، بينما يؤديه من يحيا في المناطق الباردة بصعوبة، ولتمام عدل الله بين خلقه نجده سبحانه قد أدار الأشهر القمرية في السنة الميلادية، فلا يأتي الحج أبداً في طقس واحد، وبذلك تستوي كل البيئات وكل الناس في أحكام الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5082 وأيضا صوم رمضان لو كان يأتي في الصيف دائماً، لوجدنا بعض الناس سيصومون ثماني أو تسع ساعات، والذين يعيشون قرب القطب الشمالي يصومون عشرين ساعة في اليوم، ولكن مجيء رمضان في فصول السنة كلها يجعل أولئك الذين يعيشون قرب القطب الشمالي يصومون مرة تسع عشرة ساعة مثلاً، ومرة ساعتين أو ثلاثاً، وهذه تعوض تلك، فيتم العدل، وإذا أخذنا متوسط ساعات الصيام بالنسبة لهؤلاء الناس على مدار السنة، نجد أن فترات صومهم فترة تسع عشرة ساعة وفترات ثلاث ساعات، وبذلك يتساوون في المتوسط مع أولئك الذين يصومون ثماني أو تسع ساعات يومياً. ونجد بالحساب أن تقويم الهلال ينقص عن تقويم الشمس بمقدار أحد عشر يوماً وثلث يوم كل عام، ويكون الفرق عاماً كاملاً كل ثلاث وثلاثين سنة وثلث العام، أي أن رمضان يأتي مرة في يناير ومرة في فبراير ومرة في مارس، وكذلك الحج، وبذلك تتكافأ الفرص بين المؤمنين جميعاً، فالذين يصومون في الصيف المعروف بيومه الطويل، يصومون في الشتاء ويومه قصير. والذين يعانون من الصوم في حرارة الجو، يصومون أيضاً في برد الشتاء، وهكذا يدور رمضان والحج في شهور العام كله، وبذلك يتم عدل الله على الجميع بالتشريع الحق، ويدور التكليف مشقة ويُسْراً وصعوبة وسهولة على جميع المؤمنين. وإذا نظرنا إلى ربط اليوم بالشمس نجد أن الحق سبحانه وتعالى الذي ربط أوقات الصلاة بالشمس، كفل لها الدوام التكليفي، لماذا؟ لأن القمر نراه أياماً، ولكننا لا نراه في أيام المحاق، فلو ربطنا الصلاة بالقمر لضاع منا الدوام، مضافاً إلى ذلك أن القمر يظهر لنا في أوقات غير متساوية؛ فعندما يكون هلالاً لا يظهر للعين في الأفق معدودة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5083 ولكن الشمس تشرق كل يوم في وقت محدد، وتغيب كل يوم في وقت محدد، وهي بضوئها ظاهرة للناس كل الناس من الشروق إلى الغروب، فلا يجدون مشقة في رؤيتها. ولذلك فربْطُ الصلاة بالشمس فيه يُسْر التكليف ودوامه، وكما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الصلاة عماد الدين، من أقامها أقام الدين» وهي الركن الوحيد من أركان الإسلام الذي لا يسقط أبداً؛ لأن الفقير تسقط عنه الزكاة، والمريض يسقط عنه الصوم، وغير المستطيع يسقط عنه الحج، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يكفي أن تقال مرة واحدة في العمر، ولكن إقامة الصلاة لا تسقط أبداً. إذن فهي عماد الدين، ولذلك تتكرر خمس مرات يومياً لكل أهل الأرض، فالصبح في دولة قد يكون ظهراً في دولة ثانية، وعصراً في دولة ثالثة ومغرباً في دولة رابعة وعشاء في دولة خامسة؛ وذلك بسبب فروق التوقيت بين دول العالم، وهكذا تكون في كل لحظة من الزمن جميع أوقات الصلاة قائمة على الأرض، فيظل الله سبحانه وتعالى معبوداً بالصلاة في كل الزمن في كل بقاع الأرض. وهكذا يرتفع الأذان: الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله في كل لحظة على الأرض. قد نجد رجلاً أمياً لا يعرف القراءة أو الكتابة، لكن له إشراقات نورانية، أفاض الله عليه يقول: يا زمن وفيك كل الزمن، أي يا فجر وفيك كل أوقات الصلاة على سطح الأرض. ولذلك فظاهر الأمر أن الصلوات خمس، والحقيقة أن الصلاة دائمة على وجه الأرض في كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5084 ثانية، ولا يوجد جزء من الزمن إلا والله معبود فيه بعبادات كل الزمن، أي أنه في كل لحظة تمر نجد الله معبوداً بالصلوات الخمس على ظهر الأرض. وهذا سبب ربط الصلاة بالشمس. وإذا عرفنا هذه الحقيقة، وعلمنا أن الكون كله يصلي لله في كل لحظة من الزمن، فإننا نعلم أن القرآن يتسع لأشياء كثيرة، وأن كل جيل يأخذ من القرآن على قدر عقله، فإذا ارتقى العقل أعطى القرآن عطاءً جديداً. وهذا ما يؤكد أن آيات القرآن يتسع إدراكها في الذهن كلما مر الزمن، فنتنبه إلى معان جديدة لم نكن ندركها. وعندما يأتي المستشرقون ليقولوا: إن في القرآن تناقضاً في الكونيات. نقول لهم: مستحيل. فيقولون: لقد جاء في القرآن: {قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] . ويقول: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17] . ويقول: {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب ... } [المعارج: 40] . وبين هذه الآيات تناقض ظاهر. ونرد: إن التقدم العلمي جعلنا نفهم بعمق معنى هذه الآيات، فكل مكان على الأرض له مشرق وله مغرب، هذه هي النظرة العامة، إذن فقوله تعالى: {رَبُّ المشرق والمغرب} صحيح، ثم عرفنا أن الشمس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5085 حين تشرق عندي، تغرب عند قوم آخرين، وحين تغرب عندي تشرق عند قوم آخرين، إذن فمع كل مشرق مغرب ومع كل مغرب مشرق، فيكون هناك مشرقان ومغربان. ثم عرفنا أن الشمس لها مشرق كل يوم ومغرب كل يوم يختلف عن الآخر. وفي كل ثانية هناك شروق وغروب، إذن فالقسم هنا {بِرَبِّ المشارق والمغارب} ؛ لأن المشارق والمغارب مختلفة على مدار السنة. فإذا سأل أحدهم: لماذا تخصون القمر لحساب الزمن وتخصون الشمس لحساب اليوم؟ نقول: إن الشمس مرتبطة بعلامة يومية ظاهرة وهي النهار، واختفاؤها عنك مرتبط بعلامة يومية ظاهرة وهي الليل. ولكن القمر غير مرتبط بعلامة يومية، صحيح أن القمر موجود دائماً، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يدركه أو يراه إلا في أوقات محددة. بعض الناس يقول: إذا كان المقصود بهذه الآية - التي نحن بصدد خواطرنا عنها - هو بيان الأشهر الأربعة الحرم، فما فائدة باقي أشهر السنة؟ ونقول: إنك لن تستطيع أن تحدد الأشهر الحرم إلا من خلال بيان وتوضيح أمر السنة ومعرفة عدد أشهرها، وهذا أمر ضروري أيضاً حتى تستطيع أن تحدد الأشهر الأربعة الحرم في العام. وإلا كيف يمكن أن نميز هذه الأشهر وزمنها؟ لا بد لنا إذن من أن نعلم أن هناك عاماً، وأن العام فيه اثنا عشر شهراً لنستطيع أن نحدد الأشهر الحرم. والأشهر الحرم منها ثلاثة متتابعة وشهر فرد، والأشهر المتتابعة هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وشهر رجب هو الشهر الفرد. وتحديد الحق لهذه الأشهر الأربعة يعني أنها تتميز بخصوصيات؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لو أراد أن تكون هذه الشهور في أي وقت من السنة لتركها لنا لنحددها بمعرفتنا فنختار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5086 أي أربعة أشهر على هوانا، لنمتنع فيها عن القتال، ولكن كون الله تبارك وتعالى حددها فذلك لخصوصيات فيها. جاء البعض وقال: ما دام سبحانه وتعالى قد جعل الشهور اثني عشر شهراً وجعل منها أربعة حرماً، ونحن نريد أن نحارب في شهر المحرم فلنفعل ذلك ونمتنع عن القتال في شهر آخر غيره، وبذلك نكون قد حافظنا على عدد الأشهر الحرم وهي أربعة كما حددها الله. ونقول: إنكم حافظتم على العدد ولم تحافظوا على المعدود. ولو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يبين الأربعة الأشهر المقصودة بالآية الكريمة من الاثني عشر شهراً، لأصبح من حق كل جماعة أن تختار ما تريده من أشهر السنة، ولكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خصصها؛ لأننا علمنا بذلك كيف نحافظ على الفرق بين العدد والمعدود. إن مسألة العدد والمعدود حَلَّتْ لنا إشكالات كثيرة، منها إشكالات أثارها المستشرقون الذين يريدون أن يسيئوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: إن الزواج كان مطلقاً عند العرب، ثم حدد الله سبحانه وتعالى عدد الزوجات بأربع، وأمر النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الذين كانوا قد تزوجوا بأكثر من أربع زوجات أن يمسك الواحد منهم أربعاً ويفارق الباقيات، وأضاف المستشرقون تساؤلاً: إذا كان الرسول قد شرع للناس، فلماذا لم يطبق هذا الأمر على نفسه، ولماذا اتخذ تسع زوجات؟ ونقول: إننا إذا قمنا بعملية حسابية منصفة، لوجدنا أنه ليست توسعة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما هي تضييق عليه، فأنت حين تأخذها من ناحية العدد فقط تقول: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ تسع زوجات وأمته أخذت أربعاً، ولكنك لم تلاحظ مع العدد المعدود، أي أنه إذا ماتت زوجاتك الأربع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5087 أحلت لك أربع أخريات، وإن ماتت واحدة أحلت لك أخرى، إذن فأنت - كمسلم - عندك عدد لا معدود، بحيث إذا طلَّقْتَ واحدة أو اثنتين حلَّت لك زوجة أو زوجتان أخريان، فأنت مُقيَّد بالعدد، ولكن المعدود أنت حُرٌّ فيه. أما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد نزلت هذه الآية الكريمة: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ... } [الأحزاب: 52] . وهكذا نجد أن التشريع ضَيَّق على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المعدود. وكان استثناؤه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في العدد للتشريع، فقد كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتزوج بإرادة التشريع التي يشاؤها الله. وسبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السموات والأرض} وعرفنا أن قوله سبحانه: {فِي كِتَابِ الله} معناها اللوح المحفوظ أو القرآن، وقوله تعالى: {يَوْمَ خَلَقَ السموات والأرض} معناه: أنها مسألة لم تطرأ على الكون، ولكنها محسوبة من قبل أن يُخلقَ الإنسان. فهي إذن مسألة من النظام الكوني الذي خُلق عليه الكون. وهو سبحانه قد خلق الكون بدقة وإحكام، فكأن الحق يريد أن يلفتنا إلى أن من مهام الشمس والقمر أن يكونا حساباً للزمن؛ لليوم والشهر والعام، ولذلك يقول سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5088 أي: أنهما خُلِقَا بحساب دقيق، ويقول سبحانه: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً} [الأنعام: 96] . أي: أنه سبحانه يطالبنا بأن نستخدم الشمس والقمر حساباً لنا. وهذا يتفق مع منطق الأمور، فالشيء الذي تريد أن تتخذه حساباً لنا. وهذا يتفق مع منطق الأمور، فالشيء الذي تريد أن تتخذه حسباً لك، لا بد أن يكون مصنوعاً بحساب دقيق. ولذلك فإن الساعة مثلاً إن لم تكن مصنوعة بدقة فإنها لا تصلح قياساً للوقت؛ لأنها تقدم أو تؤخر. ولكن إن كانت مصنوعة بحساب دقيق فهي تعطيك الزمن الدقيق. إذن: فدقة قياس الزمن تعتمد أساساً على دقة صناعة آلات القياس. وقبل أن يُنزِلَ الحق هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، كان العرب يعترفون بالأشهر الأربعة الحرم، ولكنهم كانوا يغيِّرون في مواعيدها، فكانت الجماعة منهم تقاتل الأخرى، فإذا ما أحسوا بقرب انتصارهم وجاءت الأشهر الحرم قالوا: نستبدل شهراً بشهر، أي نقاتل في الشهر الحرام، ثم نأخذ شهراً آخر نمتنع عن القتال فيه، وحسبوا أنهم ما داموا قد حافظوا على العدد يكونون بذلك قد أدوا مطلوبات الله، ولكنهم نسوا أنهم لم يحافظوا على المعدود، ونسوا أن الدين مجموعة من القيم التي لا بد أن نؤمن بها ونطبقها. والإيمان - كما نعلم - هو انقياد وتسليم لله سبحانه وتعالى، فإذا أمر الله بأمر من الأمور فلا اختيار لنا فيه؛ لأنه سبحانه وتعالى يرى بحكمته وعلمه هدفاً أو أهدافاً أو حكمة، وهنا يجب أن يقف الاختيار البشري، بمعنى أنه لا أحد يملك تعديل مرادات الله بأي شكل من الأشكال؛ لأننا في حياتنا اليومية حين نرى واحداً من البشر قد اشتهر بحكمته وعلمه في أمر من الأمور أكثر منا، نقول له: وكَّلْناكَ في هذا الأمر، وسنسير وراءك فيما تقرره. ومعنى هذا أننا سنسلم اختيارنا لاختيارات هذا الحكيم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5089 إننا لا نعطي أحداً هذه الصلاحية إلا إذا تأكدنا بالتجربة أنه عليم بهذه المسألة، وأنه حكيم في تصرفه. وإن سألك أحد من الناس: لماذا تتصرف في ضوء ما يقوله لك فلان؟ فتقول: إنه حكيم وخبير في هذه المسائل، وهذا دليل منك على أنك واثق في علمه، وواثق في صدقه، وواثق في حكمته. والمثال الحي المتجدد أمامنا هو سيدنا أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عندما قيل له: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلن أنه نبي الله، قال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إن كان قد قال فقد صدق. قال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هذا القول؛ لأنه عرف ولمس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكذب قط في كل الأحداث السابقة، فإذا كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يكذب على أهل الأرض أيكذب على السماء؟ طبعاً هذا غير معقول. وأنت لا تسلم زمام أمرك للمساوي لك إذا كانت هناك مقدمات أثبتت أنه أعلى منك في ناحية معينة، صحيح أنه مساويك في الفردية وفي الذاتية، ولكنه أعلى منك علماً في المجال الذي يتفوق فيه. فما يقوله تنفذه بلا نقاش لأنك وثقت في علمه. وأنت إذا مرضت - لا قدر الله - وكان هناك طبيب تثق في علمه وقال لك: خذ هذا الدواء؛ أتناقشه أو تجادله؟ طبعاً لا، بل تفعل ما يأمرك به بلا نقاش. فإذا سألك أحدهم: لماذا تتناول هذا الدواء؟ تقول: لقد كتبه لي الطبيب الذي أثق فيه. وهذا يكفي كحيثية للتنفيذ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5090 فإذا جئنا إلى الله سبحانه الذي أعدَّ لنا هذا الكون وأنزل إلينا منهجاً وطالبنا أن نُسلِمَ له وجوهنا، وأن نفعل ما يأمرنا به في كل أمور الحياة، فإن احتجنا إلى حكمة فهو الحكيم وحده، وإن احتجنا إلى قدرة فهو القادر دائماً، وإذا احتجنا إلى قهر فهو القاهر فوق عباده، وإن احتجنا إلى رزق فهو الرازق، وعنده كنوز السماوات والأرض. أيوجد من هو أحق من الحق سبحانه لنُسْلمَ زمامنا له ونفعل ما يأمرنا به؟ طبعاً لا يوجد، وإذا سألنا أحد: لماذا نتبع هذا المنهج؟ نقول: إنه سبحانه قد أمرنا باتباعه. وهذا هو الإسلام الحقيقي؛ أن تسلم اختيارك في الحياة لمرادات الخالق الأعلى، فالدين معناه الالتزام والانقياد لله، ولذلك يقول سبحانه: {ذلك الدين القيم} أي قَيِّم على كل أمور حياتنا، والدليل على ذلك قائم فيما تحدثنا عنه، فما دام الله سبحانه وتعالى قد قال، فنحن نفعل. إذن: فالدين قَيِّم علينا. والدين قَيِّم أيضاً على غيره من الرسالات السماوية، أي مُهَيْمِنٌ عليها، وفي هذا يقول الحق: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ... } [المائدة: 48] . حددت الآية - التي نحن بصدد خواطرنا عنه - أشهراً حُرماً يحرم فيها القتال وحذرت من الظلم بالحرب أو غيرها، وقد يقال: إن معنى هذا أن تضعف حمية الحرب عند من يريد الحرب ضد الباطل، فنرى الباطل أمامنا خلال الأشهر الحرم ولا نحارب. نقول: إن هذا غير صحيح، ففترة السلام هذه تكون شَحْذاً لِهمَمِ المقاتلين ضد الكفر والظلم؛ لأنك قد ترى الباطل أمامك لكنك تمتثل لأمر الله في وقف القتال، فإن ذلك يزيد الانفعال الذي يحدثه الباطل في تحديه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5091 للنفس المؤمنة، فإذا انتهت الأشهر الحرم كنت أكثر حماسة. تماماً كالإنسان الحليم الذي يرى إنساناً يضايقه باستمرار فيصبر عليه شهراً واثنين وثلاثة، فإذا نفذ صبره كان غضبه قوياً شديداً، وقتاله شرساً، ولذلك قيل: «اتقوا غضب الحليم» ؛ لأن غضبه أقوى من غضب أي إنسان آخر. وكذلك يكون حِلْم المؤمن على الكافر في الأشهر الحرم؛ شحذاً لهمته إذا استمر الباطل في التحدي، وفي هذا تحذير للمسلمين من أن تضعف في نفوسهم فكرة القتال وعزيمتهم فيه، ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} وكلمة {كَآفَّةً} هنا سبقها أمران: {وَقَاتِلُواْ} فإلي أي طرف ترجع {كَآفَّةً} هنا؟ هل تُرجعها إلى المؤمنين المقاتلين، أم إلى المقاتلين من الكفار؟ وهذا إثراء في الأداء القرآني في إيجاد اللفظ الذي يمكن أن نضعه هنا ونضعه هناك فيعطيك المعنى. ولكن هل يريدنا الحق أن نقاتل المشركين حالة كوننا - نحن المؤمنين - كافة؟ أم نقاتل المشركين حالة كونهم كافة؟ . إن {كَآفَّةً} كما نعرف لفظ لا يُجمَعُ ولا يُثنَّى، فالرجل كافة، والرجلان كافة، والقوم كافة، وهي مأخوذة من الكف. وتطلق أيضاً على حافة الشيء لأنها منعت امتداده إلى حيز غيره. وفي لغة من يقومون بحياكة الملابس يقال: «كافة الثوب» حين يكون الثوب حين يكون الثوب قد تنسل، فيقول الحائك بمنع التنسيل بتكفيف الثوب. والحق سبحانه هنا يقول: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} أي: ياأيها المؤمنون كونوا جميعاً في قتال المشركين. وهي تصلح للفرد، أي: للمقاتل الواحد، وللمقاتليْن، ولجماعة المقاتلين. وقوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} ذلك أن الباطل يتجمع مع الباطل دائماً، والمثال الواضح في السيرة أن يهود المدينة تحالفوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5092 مع الكفار ضد المسلمين، فكما أن الباطل يجتمع مع بعضه البعض فاجمعوا أنتم أيها المؤمنون وأصحاب الحق قوتكم لتواجهوا باطل الكفر والشرك. ويقول الإمام علي كرم الله وجهه: «أعجب كل العجب من تضافر الناس على باطلهم وفشلكم عن حقكم» ويتعجب الإمام علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من أن أهل الحق يفرطون في حقهم رغم اجتماع أهل الباطل على باطلهم. ويعطينا القرآن صورة من تجمُّع أهل الباطل في قول اليهود لكفار مكة: {هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً ... } [النساء: 51] . أي أن اليهود قالوا: إن عبدة الأصنام أهدى من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتباعه، قالوا ذلك رغم أن كتبهم قد ذكرت لهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيأتي بالدين الخاتم حتى إنهم كانوا يقولون لأهل المدينة من المشركين: لقد أطل زمان نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. كذلك في كتب أهل الكتاب نبأ رسول الله وأوصافه وزمانه. وعندما تحقق ما في كتبهم كفروا به واجتمعوا مع أهل الباطل. وهنا يوضح لنا الحق: ما دام الباطل قد اجتمع عليكم وأنتم على الحق فلا بد أن تجتمعوا على دحض الباطل وإزهاقه؛ ولذلك يقول سبحانه وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5093 {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} إذن: فالله يأمر المؤمنين بأن يجتمعوا على قتال الكافرين، ولأن الله مع الذين آمنوا؛ لذلك فهو ينصر المؤمنين، وإذا وُجدَ الله مع قوم ولم يوجد مع آخرين، فأيُّ الكفتين أرجح؟ لا بد من رجحان كفة المؤمنين. {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} والعلم - كما قلنا - حكم يقين عليه دليل، أي لا يحتاج إلى دليل؛ لأن العلم هو أن تأتي بقضية غير معلومة، م تقيم الدليل عليها لتصبح يقيناً. وإذا قال الله سبحانه وتعالى: {واعلموا} فالعلم هنا ينتقل من علم يقين إلى عين يقين. والعلم - كما نعرف - قضية معلومة في النفس يؤيدها الواقع وتستطيع أن تقيم عليها الدليل. فإذا علمت بشيء أخبرت به، ويقينك بما علمت يكون على قدر ثقتك بمن أخبرك. والمثال: حين قيل لأبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنه أُسْرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعُرِجَ به إلى السماء السابعة، هنا قال الصدِّيق: إن كان قد قال فقد صدق» ، وكانت هذه هي ثقته في القائل، وهو يستمد منها الثقة فيما قال وروي. وحينما أخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيدتنا خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بخبر الوحي وأبدى خوفه مما يرى، قالت: «كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصِلُ الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكْسِبُ المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» ، وهي بذلك قد أخذت من المقدمات حيثيات الحكم وكانت أول مجتهدة في الإسلام عملت بالقياس. فقد قاست الحاضر بالماضي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5094 وعندما يقول الحق: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} فيكفينا أن يكون هذا كلام الله سبحانه ليكون يقيناً في نفوسنا، وهناك علم يقين يأتيك ممن تثق في علمه وصدقه، وأنت إن رأيت الشيء الذي أخبرت به وشاهدته يصبح عين يقين، فإذا اختبرته وعِشْت فيه يصبح حقَّ يقين. وحين قال الحق: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} وجدنا بعض المؤمنين قد أخذوها على أنها علم عين يقين، أو حق يقين؛ لأنهم شاهدوا ذلك في المعارك حين كانوا قلة، فمن أخذ كلام الله دون مناقشة عقلية - لأن الله هو القائل - أخذه علم يقين. والذي أخذ الكلام على أنه يصل إلى درجة المشاهدة أخذه على أنه حق يقين، والذي أخذ الكلام كأنه عايشه فهذا عين يقين، ولكي نعرف هذه المنازل نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} [التكاثر: 1 - 5] . وهذه أولى الدرجات: علم يقين؛ لأنه صادر عن الحق سبحانه وتعالى: {لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 6 - 7] . أي: أنكم في الآخرة سوف ترونها بأعينكم بعد أن كنتم مؤمنين بها كعلم يقين، أما الآن فقد أصبحت عين يقين أي مشاهدة بالعين. وفي هذه السورة أعطانا الحق مرحلتين من مراحل اليقين هما: علم اليقين وعين اليقين، ففي الآخرة سوف يُضرب الصراط على جهنم، ويرى الناس - كل الناس، المؤمن منهم والكافر - نار جهنم، وهم يمرون فوق الصراط، ويرونها مشتعلة متأججة، وحين يمر المؤمن فوق الصراط ويرى جهنم وهولها، يعرف كيف نجاه الإيمان من هذا العذاب الرهيب فيفرح؛ فإذا دخل الجنة ورأى نعيمها يزداد فرحة؛ فله فرحة بأنه نجا من العذاب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5095 وفرحة بالنعم وبالمنعم، ويقول المؤمن: الحمد لله الذي أنقذني من النار. وهذه نعمة كبيرة وفوز عظيم، ولذلك يقول الحق: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ ... } [آل عمران: 185] . فالنجاة من النار وحدها فضل كبير، ودخول الجنة فضل أكبر، والحق هو القائل: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} [مريم: 71] . ويَرِدُ الشيء أي يصل إليه دون أن يدخل فيه، ويقال: ورد الماء أي وصل إلى مكانه دون أن يشرب منه. إذن فكل منا سوف يرى جهنم، ويعرف المؤمن نعمة الله عليه؛ لأنه أنجاه منها، ويندم الكافر؛ لأنه يُعذب فيها. وقد ضربت من قبل مثلاً - ولله المثل الأعلى - بالقراءة عن مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعرف القارىء أنه مبنية على عدة جزر، وفيها ناطحات سحاب وأنها مزدحمة بالسكان، وهذه القراءة هي علم يقين، فإذا ركب الإنسان الطائرة ورآها من الجو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5096 يكون ذلك عين يقين، فإذا ما نزل وعاش على أرضها بين ناطحاتها وعايش ازدحامها بالسكان يكون ذلك حق اليقين. وفي سورة التكاثر جاء الله سبحانه وتعالى بمرحلتين فقط من مراحل اليقين، وجاء بالمرحلة الثالثة في سورة الواقعة، فقال: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 88 - 95] . وحقُّ اليقين هو آخر مراحل العلم، والإنسان قد يكابر في حقيقة ما حين يقرؤها، وقد يجادل في حقيقة يشاهدها، ولكنه لا يستطيع أن يكابر في واقع يعيشه، وقد حدث ذلك وحملته لنا سطور الكتب عن سيدنا عمر وقد قال عن أحد المعارك: «وحينما شهرت سيفي لأقصف رأس فلان؛ وجدت شيئاً سبقني إليه وقصف رأسه» أي: هناك من شاهد ذلك بنفسه. وبعد ذلك يعطي الله الحكم فيمن يُغيِّر الأشهر الحرم أو يُبدلها فيقدمها شهراً، أو يؤخرها شهراً، فيقول: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5097 والنسيء هو التأخير، فكأنهم إذا ما دخلوا في قتال وجاء شهر حرام قالوا: ننقله إلى شهر قادم، واستمروا في قتالهم؛ وهم بذلك قد أحلُّوا الشهر الذي كان محرماً وجعلوا الشهر الذي لم تكن له حرمة؛ شهراً حراماً، وهنا يوضح الحق سبحانه أن هذا العمل زيادة في الكفر؛ لأنه أدخل في المحلل ما ليس منه، وأدخل في المحرم ما ليس منه؛ لأن الكفر هو عدم الإيمان فإذا بدَّلْتَ وغيَّرْتَ في منهج الإيمان، فهذا زيادة في الكفر. ثم يقول سبحانه: {يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} و {يُضَلُّ} هنا مبنية للمجهول؛ ومعنى ذلك أن هناك من يقوم بإضلال الذين كفروا، وهذه مهمة الشيطان؛ لأن هناك فرقاً بين الضلال والإضلال، فالضلال في الذات والنفس، أما الإضلال فيتعدى إلى الغير، فهناك ضال لا يكتفي بضلال نفسه، بل يأتي لغيره ويضله ويغويه على المعصية بأن يزينها له. ولذلك هناك جزاء على الضلال، وجزاء أشد على الإضلال، فإذا كان هناك إنسان ضال فهو في نفسه غير مؤمن، أي أن ضلاله لم يتجاوز ذاته، ولم ينتقل إلى غيره. ولكن إذا حاول أن يغري غيره بالضلال والمعصية يكون بذلك قد ضلَّ غيره. ويتخذ بعض المستشرقين هذه القضية مطعناً في القرآن - بلا وعي منهم أو فهم - فيقولون: إن القرآن يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18] . ثم يأتي في آية أخرى فيقول: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ... } [العنكبوت: 13] . فكيف يقول القرآن: إن أحداً لا يتحمل إلا وزره، ثم يقول: إن هناك من سيتحمل وِزْره ووِزْر غيره؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5098 ونقول لهم: أنتم لم تفهموا المعنى، فالأول: هو الضَّالُّ الذي يرتكب المعاصي ولكنه لم يُغْرِ بها غيره، أي: أنه عصى الله ولم يتجاوز المعصية. أما الثاني: فقد ضلَ وأضل غيره. . أي: أنه لم يكتف بارتكاب المعصية بل أخذ يغري الناس على معصية الله. وكلما أغرى واحداً على المعصية كان عليه نفس وِزْر مرتكب المعصية. وهنا يقول الحق: {ضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} وطبعاً التحليل والتحريم هنا حدث منهم لظنهم أن هذه مصلحتهم، أي أنهم أخضعوا الأشهر الحرم لشهواتهم الخاصة، وخرجوا عن مرادات الله في كونه، يوم خلق السماوات والأرض. ولكن لماذا يُحلُّونه عاماً ويُحرِّمونه عاماً؟ تأتي الإجابة من الحق: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أي: ليوافقوا عدة ما أحله الله حتى يبرروا ويقولوا لأنفسهم: نحن لسنا عاصين، فإن كان الله يريد أربعة أشهر حرم، فنحن قد التزمنا بذلك! ولكن تشريع الله ليس في العدد فقط ولكن في المعدود أيضاً، وقد حدد لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأشهر الحرم. وكان عمرو بن لحي أو نعيم بن ثعلبة هما أول من قاما بعملية النسيء هذه، فأحلَّ شهر المحرم، وحرَّم غيره وهؤلاء الذين قاموا بهذا العمل كانوا يعرفون أن هناك أربعة أشهر حرم بدليل أنهم أحلوا وحرموا. ولو لم يعرفوها ما أحلوا ولا حرموا، ولكن هم أرادوا أن يُخضعُوا تشريع الله لأهوائهم. وهذا هو المغزى من تحليل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5099 شهر المحرم وتحريم شهر آخر، وأرادوا بذلك إخضاع مرادات الله لشهوات نفوسهم؛ لأن المحرم ثابت فيه التحريم، وهو شهر حرام سواء قام الإنسان بتأجيله أم لم يؤجله، فهو شهر حرام بمشيئة الله لا مشيئة الناس. ولذلك حكم الحق سبحانه على النسيء بأنه زيادة في الكفر؛ لأنك حين تؤخر حرمة شهر المحرم إلى شهر غيره، تكون قد قُمْتَ بعمليتين؛ أحللت شهراً حراماً وهذا كفر، وحرمت شهراً حلالاً وهذا كفر آخر. . أي: زيادة في الكفر. ثم يقول الحق سبحانه: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} وقد حكم الله عليهم بالكفر بأنهم أحلوا ما حرمه الله. ثم يقول الحق: {زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ} والتزيين: هو أمر طارئ أو زائد على حقيقة الذات مما يجعله مقبولاً عند الناس، فالمرأة مثلاً لها جمال طبيعي، ولكنها تتزيين. إذن: فالتزيين تغيير في المظهر وليس في الجوهر. وهناك تزيين في أشياء كثيرة، تزيين في الفكر مثلاً، بأن يكون هناك استعداده للقتال فيأتي القائد فيزين للمقاتلين دخول المعركة، ويقول: أنتم ستنتصرون في ساعات، ولن يصاب منكم أحد وسيفِرّ عدوكم؛ هذا تزيين محمود. ولذلك أراد الحق أن يكشف لنا حقيقة التزيين الذي قاموا به حين حللوا حرمة الأشهر الحرُم، وكشف لنا سبحانه أن هذا لون من التزيين غير المحمود فقال: {زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} وما دام قد زُيِّن لهم السوء فهذا العمل قد خرج عن منطقة الهداية، وخرج عن نطاق التزيين المحمود إلى التزيين السيىء. وما داموا قد خرجوا عن هداية الله فلن يعينهم الله؛ لأنه سبحانه لا يعين من كفر، ولا يعين من ظلم، ولا يعين من فسق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5100 ولذلك قال سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي: أنهم بكفرهم قد أخرجوا أنفسهم عن هداية الله، فالحق سبحانه لم يمنع عنهم الهداية، بل هم الذين منعوها عن أنفسهم بأن كفروا فأخرجوا أنفسهم عن مشيئة هداية الله لهم، وهذا ينطبق فقط على هداية المعونة، ونحن نعلم أن لله سبحانه هداية دلالة وهداية معونة؛ هداية الدلالة هي للمؤمن وللكافر، ويدل الله الجميع على المنهج، ويريهم آياته، وتبلغ الرسل منهج السماء الذي يوضح الطريق إلى رضاء الله والطريق إلى سخطه وعذابه. فمن آمن بالله دخل في مشيئة هداية المعونة، فيعينه الله في الدنيا ويعطيه الجنة في الآخرة. أما من يرفض هداية الدلالة من الله، فالله لا يعطيه هداية المعونة؛ لأن الكفر قد سبق من العبد. وكذلك الظلم والفسق، فيكون قد منع عن نفسه هداية المعونة بارتكابه لتلك الآثام. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37] . {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [التوبة: 19] . {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 24] . إذن: هم الذين قدَّموا الكفر والظلم والفسوق، فمنعوا عن أنفسهم هداية المعونة التي قال الحق عنها: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] . وبعد أن طلب الحق سبحانه وتعالى من المؤمنين أن يواجهوا الباطل جميعاً، كما يجتمع الباطل عليهم ويقاتلهم جميعاً. يقول سبحانه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5101 {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5102 وساعةَ تسمع {ياأيها الذين آمَنُواْ} فهذا نداء خاص بمن آمن بالله؛ لأن الله لا يكلف من لم يؤمن به شيئاً، ولكنه كلف الذين آمنوا، فلا يوجد حكم من أحكام منهج الله فيه تكليف لكافر أو غير مؤمن. ولكن أحكام المنهج موجهة كلها للمؤمنين. ولذلك ساعةَ تسمع: {ياأيها الذين آمَنُواْ} تعرف أن الله يخاطب أو يأمر من آمن به؛ لأنك أنت الذي آمنت باختيارك، ودخلتَ على الإيمان برغبتك، فالحق سبحانه لم يأخذك إلى الإيمان قهراً، ولكنك جئت للإيمان اختياراً، ولذلك يقول سبحانه وتعالى لك: ما دُمْتُ قد آمنت بي إلهاً قادراً قيُّوماً، له مطلق صفات الكمال، فاسمع مني ما أريده لحركة حياتكَ. ولا يحسب أحد أنه قادر على أن يدخل في الإيمان ولا ينفذ المنهج، ولا يحسب أحد أنه قادر أن يضر الله شيئاً، وسبق أن ضربنا المثل بالمريض الذي يختار أبرع الأطباء، ولم يجبره أحد على أن يذهب إليه، وأجرى الطبيب الكشف على المريض، وحدد الداء وكتب الدواء، ولكن المريض بعد أن خرج من العيادة أمسك بتذكرة الدواء ومزقها، أو أنه اشترى الدواء ولم يتناوله. أيكون بذلك قد عاقب الطبيب أم عاقب نفسه؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5102 إن الطبيب لن يتأثر ولن يضره شيء مما فعله هذا المريض، ولكنه هو الذي سيزداد عليه المرض ويقود نفسه إلى الهلاك، وكذلك الإنسان إن لم يتبع منهج الله، فإنه يضيع نفسه ويُغرقها في الشقاء؛ لأن الحق سبحانه قد وضع هذا المنهج وفيه علاج لكل أمراض الإنسان، فإن عمل به الإنسان نجا من بلاء الدنيا، وإذا عمل به مجتمع لن يظهر فيه الشقاء. بل يمتلىء بالرخاء والأمن والطمأنينة، ومن لم يعمل به فلن يضر الله شيئاً، بل يحصل على الشقاء ويهلك نفسه. وحين يخاطب الحق سبحانه الذين آمنوا يوضح: خذوا مني هذا التكليف ففيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولهذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى لا يذكر أمراً من أوامره بأي تكليف أو نهياً من نواهيه، إلا مسبوقاً بقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ} مثل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ... } [البقرة: 183] . وقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص ... } [البقرة: 178] . وهذه التكليفات لمَ تأتِ مبنية للمعلوم، فمن الذين يكتب؟ إنه الحق سبحانه، كما أنها صيغة مبنية دائماً لما لم يُسَمَّ فاعله، أي: أن الكتابة أتت من كثير. ونقول: صحيح أن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب، فلماذا لم يقل: يأيها الذين آمنوا كتبتُ عليكم. ولماذا يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} ؟ . ونقول: لأن الله وإن كان قد كتب، إلا أنه لم يكتبها على كل خلقه، بل كتبها على الذين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5103 آمنوا به، وأنت بإيمانك أصبحت ملتزماً بعناصر التكليف، فكأن الحق سبحانه لم يكتب ثم يلزمك، ولكن التزامك تم في نفس اللحظة التي دخلت فيها باختيارك في الإيمان. وبذلك تكون كل هذه الأحكام قد كُتِبتْ علينا باختيار كل منا، فمن لم يَخْتَرْ الإيمان ليس مكتوباً عليه أن ينفذ أحكام الإيمان؛ لأنها لا تُنفذ إلا بالعقد الإيماني بيننا وبين الحق سبحانه؛ وقد احترم سبحانه دخولنا في هذا العقد، فلم ينسبه لذاته العلية فقط، بل شمل أيضاً كل مَنْ دخل في الإيمان. ولذلك فإن سأل أحد عن حكمة التكليف من الله، نقول له: إن الحكمة تنبع من أنه سبحانه هو الذي كَلَّف. ثم إن معرفة الحكمة لا تكون إلا من المساوي للمساوي، فإن ذهب المريض إلى الطبيب وكتب له الدواء، وظل المريض يناقش الطبيب في الدواء وفوائده؛ فالطبيب يرفض المناقشة، ويقول للمريض: ادخل كلية الطب واقْضِ فيها سبع سنوات، واحصل على الدرجات العلمية، ثم تَعَالَ وناقشني. إذن: فأنت تربط علة التكليف بأمر المكلف، مع أن المكلف من البشر قد يخطئ. أما إذا جئنا بمجموعة من الأطباء ليكشفوا على مريض احتار الطب فيه، ثم جلسوا بعد الكشف يتناقشون، فكل منهم يقبل مناقشة الآخر؛ لأنه مُسَاوٍ له في الفكر والثقافة والعلم إلى آخره، لكن إنْ أردتَ أن تسأل عن الحكمة في تكليف من الله فلن تجد مساويًا لله سبحانه وتعالى، وبذلك تكون المناقشة مرفوضة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5104 إذن: فالمكلف لا بد أن تكون له منزلة سابقة على التكليف، ومنزلة الحق أنك آمنت به، ولهذا أرى أن البحث عن أسباب التكليف هو أمر مرفوض إيمانياً، فإذا قيل: إن الله فرض الصوم حتى يشعر الغني بألم الجوع؛ ليعطف على الفقير، نقول: لا، وإلا سقط الصوم عن الفقير؛ لأنه يعرف ألم الجوع جيداً. وإذا قيل لنا: إن الصوم يعالج أمراض كذا وكذا وكذا. نقول: إن هذا غير صحيح، وإلا لما أسقط الله فريضة الصوم عن المريض في قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... } [البقرة: 185] . فإذا كان الله قد أباح للمريض أن يفطر، فكيف يأتي إنسان ويقول: إن علة فرض الصوم هي شفاء الأمراض؟ كما أن هناك بعض الأمراض لا يُسْمَح معها بالصوم. إذن: فنحن نصوم لأن الله فرض علينا الصوم، وما دام الله قد قال فسبب التنفيذ هو أن القول صادر من الله سبحانه، ولا شيء غير ذلك، فإذا ظهرت حكمة التكليف فإنها تزيدنا إيماناً، مثلما ثبت ضرر لحم الخنزير بالنسبة للإنسان؛ لأن لحم الخنزير مليء بالميكروبات والجراثيم التي يأكلها مع القمامة، ونحن لا نمتنع عن أكل لحم الخنزير لهذا السبب، بل نمتنع عن أكله لأن الله قد أمرنا بذلك، ولو أن هذه الحكمة لم يكشف عنها الطب ما قَلَّلَ هذا من اقتناعنا بعدم أكل لحم الخنزير؛ لأننا نأخذ التكليف من الله، وليس من أي مصدر آخر. ونعود إلى خواطرنا حول الآية الكريمة: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض} ، ونجد كلمة: {مَا لَكُمْ} تأتي حين نتعجب من حال لا يتفق مع حال، وكأن حرب المؤمنين للكفار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5105 أمر متوقع وتقتضيه الحال؛ لأن المؤمنين حين يقاتلون الكفار إنما يدخلون شيئاً من اليقين على أهل الاستقامة، فأهل الاستقامة إن لم يجدوا من يضرب على أيدي الكافرين فقد ينحرف على أيدي الكفار، فإنه بفعله هذا يربب في المؤمن إيمانه؛ لأنه يرى عدوه وهو يتلقى النكال. كأن تقول للتلميذ: ما لك تهمل في مذاكرتك وقد قَرُبَ الامتحان؟ أي: أن المفروض أنه إذا قرب الامتحان لا بد أن يجتهد الطالب في المذاكرة. فإن أهمل التلميذ عمله فنحن نتعجب من سلوكه؛ لأنه لا يتفق مع ما كان يجب أن يحدث. وبذلك نستنكر أن يحدث مثل هذا الإهمال، مثلما نستنكر ونتعجب من مريض يترك الدواء بينما هو يتألم. ويتعجب الحق سبحانه هنا من تثاقل المؤمنين حين يُدْعَوْنَ إلى القتال؛ لأن قوة الإيمان تدعو دائماً إلى أن يكون هناك استعداد مستمر للقتال، وهذا الاستعداد يخيف الكفار ويمنع عدوانهم واستهتارهم بالمؤمنين أولاً، كما أنه ثانياً يجعل المؤمنين قادرين على الرد والردع في أي وقت. ويعطي ثالثاً شيئاً من اليقين للمجتمع المؤمن عندما يرى أن هناك من يضرب على يد الكافرين إذا استهانوا بمجتمع الإيمان وحاولوا أن يستذلوا المؤمنين. إذن: فَلِكَيْ يبقى المجتمع المؤمن قوياً وآمناً؛ لا بد أن يوجد استعداد دائم للقتال في سبيل الله ورغبة في الشهادة، وهنا يقول الحق: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله} فكأن الاستعداد المستمر للقتال في سبيل الله أمر لا بد أن يوجد بالفطرة وبالعقل، فإذا ضَعُفَ هذا الاستعداد أو قَلَّ صار هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5106 الأمر موطناً للتعجب؛ لأن المؤمنين يعرفون أن مجتمع الكفر يتربص بهم دائماً، وعليهم أن يكونوا على استعداد دائم مستمر للمواجهة، ويستنكر الحق أن يتثاقل المؤمنون إذا دُعُوا للقتال في سبيل الله أو أن يتكاسلوا. وقوله سبحانه: {انفروا} من «النفرة» وهي الخروج إلى أمر يهيج استقرار الإنسان، فحين يكون الإنسان جالساً في مكانه، قد يأتي أمر يهيجه فيقوم ليفعل ما يتناسب مع الأمر المهيج، فأنت مثلاً إذا رأيت إنساناً سيسقط في بئر، فهذا الأمر يهيجك، فتنطلق من مكانك لتجذبه بعيداً، ومنه النُّفْره التي تحدث بين الأحباب الذين يعيشون في وُدٍّ دائم، وقد يحدث بينهم أمر يُحوِّل هذا الود إلى جَفْوة. إذن: فكلمة {انفروا} تدل على الخروج إلى أمر مهيج، وهو المنطق الطبيعي الذي يجب أن يكون؛ لأن عمل الكفار يهيج المؤمنين على مواجهتهم. وقول الحق سبحانه: {انفروا} يدل على الاستفزاز المستمر من الكفار للمؤمنين. ويقول الحق تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم} . والثقل معناه: أن كتلة الشيء تكون زائدة على قدرة من يحمله، فإن قلت: إن هذا الشيء ثقيل فهذا يعني أن وزنه مثلاً أكبر من قوة عضلاتك فلا تستطيع أن تحمله. أما التثاقل فهو عدم موافقة الشيء لطبيعة التكوين. كأن تقول: فلان ثقيل أي أن وزنه ضخم ولا يستطيع أن يقوم من مكانه إلا بصعوبة، ولا أن يتحرك إلا بمشقة. ولكن التثاقل معناه تكلف المشقة، أي: لك قدرة على الفعل، ولكنك تتصنع أنك غير قادر، كأن يكون هناك - على سبيل المثال - شيء وزنه رطل، ثم تدَّعي أنه ثقيل عليك ولا تستطيع أن تحمله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5107 إذن: فقوله تعالى: {اثاقلتم إِلَى الأرض} أي: تكلفتم الثقل بدون حقيقة، فأنتم عندكم قدرة على القتال ولكنكم تظاهرتم بأن لا قدرة لكم. وهكذا نعرف أن الموقف يقتضي النفرة ليواجهوا الكفر؛ لأن المنهج الذي ارتضوه لأنفسهم والتزموا به يحقق السلامة والأمن والاطمئنان لهم ولغيرهم، وكأن التثاقل إلى الأرض له مقابل، فالنفرة تكون في سبيل الله، والمقابل في سبيل الشيطان أو في سبيل شهوات النفس. لقد تحدث العلماء في المسائل التي تجعل الإنسان يُقبِلُ على المعصية، وهي النفس التي تُحدِّث الإنسان بشيء، فالإنسان يقبل على المعصية بهذين العاملين فقط. فما الفرق بين الاثنين؟ وكيف يتعرف الإنسان على ذلك؟ قال العلماء: إذا كانت النفس تُلحُّ عليك أن تفعل معصية بعينها بحيث إذا صرفتها عنها عادت تُلِحُّ عليك لاقتراف نفس المعصية لتحقق متعة عاجلة، فهذا إلحاح من النفس الأمَّارة بالسوء. ولكن الشيطان لا يريد منك ذلك، إنه يريدك مخالفاً لمنهج الله على أي لون، فإذا استعصى عليه أن يجذبك إلى المال الحرام، فهو يزين لك شهوة النساء، فإذا فشل جاء من ناحية الخمر. إذن: فهو يريدك عاصياً بأي معصية، ولكن النفس تريدك عاصياً بنفس المعصية التي تشتهيها. وهذا هو الفرق. وهكذا نعرف أن هناك واقعين، واقعاً يدعو المؤمنين إلى قتال الكفار الذين يفسدون منهج الله في الأرض، وواقعاً يدعوهم إلى أن يتثاقلوا عن هذا القتال، وذلك إما بسبب حب الدنيا لتحقيق شهوة النفس أو إغراء الشيطان، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَرَضِيتُمْ بالحياوة الدنيا مِنَ الآخرة} والرضا هو حب القلب، فيقال: فلان رَاضٍ لأنه مسرور بالحال الذي هو فيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5108 ومعنى تثاقل المؤمنين عن القتال في سبيل الله، أن هناك شيئاً قد غلب شيئاً آخر في داخل نفوسهم، فالرضا بالحياة الدنيا قد تغلَّبَ على حب الآخرة. ولكن المنطق الإيماني يقول: إنه إذا كان هناك أمر آخر غير الدنيا، أو حياة أخرى غير حياتنا الدنيوية، فلا بد أن نقارن بين ما تعطيه الدنيا وبين ما تعطيه الآخرة، فإذا رضينا بما تقدمه لنا هذه الحياة المادية، يكون المؤمن بلا طموح وبلا ذكاء؛ لأنه رضي بمتاع قليل زائل وترك متاعاً أبدياً ممتداً بقدرة الله. وأنت لو نظرت إلى الدنيا نظرة فاحصة، تجد أنها متغيرة متبدلة، فالصحيح يصبح مريضاً، والغني يصبح فقيراً، والقوي يصبح ضعيفاً. إذن: فمتاع الدنيا متغير ولا عصمة لك فيه، وأنت لا تستطيع أن تعصم نفسك من المرض أو من الضعف أو من الفقر؛ لأن هذه كلها أغيار تحكمك ولا تحكمها أنت؛ تقهرك ولا تستطيع أنت أن تقهرها. فإن رضيت بمتاع الدنيا اليوم فأنت لا تضمن استمراره إلى غد. ولهذا ينبغي ألا تؤخر تنفيذ ما يكلفك به الله؛ لأنك الآن تستطيع أن تؤديه، لكن أنت لا تضمن إن كنت قادراً غداً أم لا. كذلك لا تأخذ التكليف على أنه قد يسلبك حريتك أو مالك، بل هو يسلبك ويعطيك في نفس الوقت. فإذا أمر الله سبحانه بأن تُخرِجَ الزكاة، قد تعتقد أن هذا يُنقصُ مالك، أو تقول: هذه غرامة. نقول: إن هذا في ظاهر الأمر قد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5109 يكون صحيحاً، ولكنه سبحانه يأخذ منك هذا المال فيزيده لك ويُنميه فإذا بالجنيه الواحد قد تضاعف إلى سبعمائة مِثْل، ثم تضاعف إلى ما شاء الله، كما أن هذا الحكم الذي يأخذ منك الآن وأنت غني، هو بذاته الذي سوف يعطيك إن افتقرتَ ولجأت إلى الناس. فإذا كان الحكم الذي سيأخذ هو الذي سيعطي تكون هذه عدالة وتأميناً ضد الأغيار، وعليك أن تقارن الصفقة النفعية بمقابلها، وساعةَ تعطي أنت الذي لا يملك، لا بد أن تتذكر أنه قد يأتي عليك يَوْمٌ لا تملك فيه. وكلمة دنيا بالنسبة لحياتنا أعطتنا الوصف الطبيعي الذي ينطبق عليها؛ لأن «الدنيا» مقابلها «العليا» . والحياة العليا تكون في الآخرة. فإذا كانت هذه هي الحياة الدنيا. فلماذا تربط نفسك بالأدنى إلا أن يكون ذلك خَوَراً في العزيمة؟ والمثال للقوة الإيمانية هو: سيدنا عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وكان قبل أن يصبح خليفة المؤمنين يرتدي أفخر الثياب ويتعطر بأجمل العطور، وكان الناس يدفعون أموالاً لمن يغسل ثياب عمر بن عبد العزيز ليدخلوا ثيابهم مع ثيابه حتى تمتلئ عطراً. وذلك من غزارة وجود العطر الذي كان يضعه عمر بن عبد العزيز على ثيابه فتخرج كل الثياب مليئة بالعطر. وعندما أصبح عمر بن عبد العزيز خليفة، كانوا يأتونه بالثوب الخشن الذي كان يرفض ارتداءه قبل الخلافة، فيرفضه ويقول: هاتوا أخشن منه، وامتنع عن العطر، أي: أن معاييره قد تغيرت وليس في هذا أدنى تناقض، بل هو علو في الحياة، ولذلك قال: اشتاقت نفسي إلى الإمارة فقلت لها: اقعدي يا نفْسُ، فلما نلْتُهَا اشتاقت نفسي إلى الخلافة فنهيتها عن ذلك، فلما نلْتُها؛ أي نال الخلاَفة، اشتاقت نفسي إلى الجنة فسلكتُ كل طريق يؤدي إليها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5110 وهكذا نعرف أن سلوكه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لم يكن في تناقض بل تعلية للصفقة الإيمانية. كان دائماً في علو يريد أن يواصله، فقد اشتاق أولاً إلى الإمارة، فلما تحققت أراد أن يعلو فاشتاق للخلافة، فلما تحققتْ أراد أن يعلوَ فاشتاق إلى الجنة، إذن: فهو دائماً في عُلُوٍّ. وأقول: ليس في سلوكه أدنى تناقض؛ لأن علماء النفس يفسرون التناقض في السلوك البشري على أنه اختلاف في المقارنة، فالإنسان يقارن بشيء ثم يقارن بشيء آخر وهكذا؛ لأن كل شيء في الدنيا نسبي. ومعنى النسبية أن ينسب الشيء لما حوله، فإذا قلت: إنني أسكن فوق فلان، فأنت في نفس الوقت تسكن تحت فلان الذي يعيش في الطابق الذي يعلوك. إذن: فأنت فوق فلان وتحت فلان في نفس الوقت، فلا تأخذ نقطة وتغفل عن الأخرى، وهذا اسمه «معنى إضافي» أي: أن المعاني لا تتحقق بذاتها، ولكن بالنسبة إلى شيء تقاس به، وكذلك المقاييس بين الأشياء يجب أن نقيسها بالأمور التي تُصعد لك القيمة. فأنت إذا نظرت إلى الدنيا؛ تجد أن الحق سبحانه أسماها: دُنْيا ولم يجد اسماً أقلَّ من هذا ليسميها به، لماذا؟ لأنك تتنعم في الدنيا على قدر وجودك فيها، أي على قدر عمرك، وهو مهما زاد وطال فهو سنوات معدودة، وقد يكون متاعك منها حتى سنِّ الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين. أو أكثر من ذلك أو أقل. ومتاعك فيها بما تحققه قدراتك، فالذي عنده ألف جنيه يتمتع على قدرها، والذي عنده عدة ألوف متاعه على قدرها، وصاحب الملايين متاعه أكبر. إذن: فكل واحد يتمتع بقدر ما عنده من مال. وحتى إن وصل الإنسان إلى أعلى متاع في الدنيا؛ متاع صاحب الملايين، فهذه الملايين إما أن تزول عن صاحبها، وإما أن يترك هو هذه الملايين بالموت. وهذه تتحقق وهذه تتحقق. إذن: فنعمة الدنيا إما أن تنخلع منك أو تنخلع أنت منها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5111 فإذا جئتَ إلى المقابل وهو الآخرة تجد أن النعيم فيها دائم لا يزول عنك، وأنت خالد لا تزول عن النعمة بالفناء أو الموت، وأنت لا تتمتع في الآخرة بقدراتك أنت، بل بقدرة الله سبحانه. فكأن المتاع أكبر كثيراً من قدرتك، وأعلى كثيراً من كل ما تستطيع أن تحققه. فمثلاً: إن كان معك ريال وجاءك رجل فقير فأعطيته له ليأكل به، تكون في ظاهر الأمر قد آثرتَ الفقير على نفسك؛ لأنك أعطيته كل ما تملك ليأكل به وحرمت نفسك منه، ولكنك في الحقيقة فضَّلْتَ نفسك على الفقير؛ لأنك أعطيته هذا الريال ليكون عند الله عشرة إلى سبعمائة ضعف، فمَنْ منكما الذي استفاد؟ ومَنْ منكما الذي انتفع؟ إنه أنت. ولذلك نجد أن الدين الصحيح ضد الأنانية الحمقاء، ويُعْلي فيك الأنانية العاقلة بأن يجعلك تحب نفسك حباً أعلى. فأنت حين تتصدق تحب نفسك، ولذلك تريد أن تعطيها الأعلى والأنفع. فظاهر الأمر أنك أعطيت، وفي حقيقته أنك قد أخذت. وأنت حين تعطي إنساناً مساوياً لك كأن تقدم له هدية في مناسبة معينة، تنتظر أن يرد إليك الهدية بمثلها في مناسبة أخرى. إذن: فالعطاء مُتَساوٍ، وقد يرد هذا الإنسان الهدية، وقد لا يردها. وقد ينوي ردها ولكن تصادفه ظروف لا تُمكِّنه من أن يردها لك. لكن الحق سبحانه يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ... } [البقرة: 245] . إذن: فحينما تعطي ابتغاء وجه الله فأنت لا تحصل على عطاء مُسَاوٍ لما أعطيت. لكنك تحصل على عطاء مضاعف أضعافاً مضاعفة. والذي يعطيك الثواب هو الله سبحانه وتعالى دائم الوجود، ولن ينفد عطاؤه لك؛ لأنه دائم القدرة، ولن يأتي عليه وقت يكون غير قادر على أن يرد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5112 لك ما أعطيت؛ لأن عنده كنوز السماوات والأرض؛ وهو سبحانه قادر على أن يضاعف لك مهما كانت قيمة عطائك. فإن فضَّلْتَ الحياة الدنيا على الآخرة، فأنت تقيس بمقاييس الكمال عندك وهي مقاييس ساقطة وهابطة، ولو كنت تملك المقياس الصحيح لعرفتَ أن الذي يحقق لك النفع الأكبر هو أن تعطي وتعمل طلباً للآخرة وليس للدنيا. ولذلك فالحق سبحانه يقول هنا: {أَرَضِيتُمْ بالحياوة الدنيا مِنَ الآخرة} أي: أنكم أردتم الحياة الدنيا بدل الآخرة. وهذه مقارنة غير عاقلة وغير حكيمة. وكلمة {مِنَ} تدل على البدل في قوله: {بالحياوة الدنيا} ومادة البدل والاستبدال البيع والشراء، ونعرف أن الباء تدخل على المتروك، فأنت تقول: اشتريت الشيء بكذا درهم، أي: تركت الدراهم مقابل شرائك الشيء، كأن هؤلاء الراضين بالحياة الدنيا قد أخذوا الدنيا بدلاً من الآخرة، وهذه صفقة تخلو من العقل والحكمة. وبعد أن استنكر الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يرضوا بالحياة الدنيا ويتركوا الآخرة يقول سبحانه: {فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} والمتاع: هو ما يستمتع به. والإنسان لا يستطيع أن يوقن أنه سيستمتع بالحياة، وهذا أمر مطعون فيه، فليس كل كائن حي مستمتعاً بالحياة، هناك أشقياء وهناك تعساء، وهناك مَنْ يُدريهم ماذا يحمل المستقبل لهم؟ ألا يمكن أن يكون استمتاعهم هذا وقتياً؟ ألا يمكن أن يأتيهم ظرف من الظروف؛ أو قدر من الأقدار يملأ حياتهم بالشقاء؟ إننا نجد العقلاء - حين يرون في نعمة الله عليهم ما يكدر حياتهم - يشكرون الله، بينما نجد الإنسان السطحي التفكير والفهم يستاء وينفعل ويزيد الموقف معاناة. العاقل - إذن - يعرف أن الإنسان يعيش في دنيا أغيار، ومعنى أننا نعيش في دنيا أغيار أنه تأتي أحداث تنقلنا من حال إلى حال، أي من الغنى إلى الفقر. أو من الصحة إلى المرض إلى غير ذلك من أحوال الدنيا المتقلبة المتغيرة، ففي الدنيا لا يدوم حال، وما دامت الدنيا أغياراً؛ فأحوال الناس تتغير فيها دائماً. وهَبْ أن إنساناً وصل إلى القمة التي لا يوجد أعلى منها. نقول له: لا داعي أن يأخذك الفرح والكبر والخيلاء، ولا تنس أنك تعيش في دنيا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5113 أغيار، وأن دوام الحال من المحال، فلو دامت لغيرك ما وصلتَ أنت إلى القمة؛ لأن مَنْ كان عليها سقط فصعدتَ أنت. إذن: فمعنى هذا أنك وإن وصلتَ للقمة فلن تثبت عليها وتبقى هكذا بلا تغيير. وما دمتَ قد وصلت إلى أعلى ما يمكن، فالتغيير الوحيد الذي يمكن أن يحدث لك هو أن تنزل؛ لأنك وصلت إلى قمة الصعود، ولم يَعُدْ بعدها شيء تصعد إليه. فالتغيير المتوقع لا بد أن يكون إلى أسفل، ويقال: «ترقَّبْ زَوالاً إذا قِيل تَمّ» ، ولهذا نجد أهل الحكمة والبصيرة يقولون: إن المصائب في الأموال والأنفس من تمائم النعمة، وكأن الحق لا يريد أن يتمم النعم؛ لأنه إن تمت تزول؛ لأن المصيبة ما دامت قد حدثت فلا بد أن تزول. وسبحانه حين يقول: {فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} يريد أن يبين لنا أن متاع الآخرة أكبر، فأنت حين تقول: شيء في شيء. فأيهما يكون أكبر؟ إنه الذي يدخل فيه الشيء الآخر، فإذا قلنا: فلان في البيت، فمعنى ذلك أن البيت أكبر من فلان هذا، وإلا لما احتواه داخله. وإن قلنا: محمد في جدة أو في المملكة السعودية أو في مصر؛ يكون هناك ظرف ومظروف، والمظروف عادة أوسع من الظرف، وسعته كبيرة لدرجة أنه تحيط بالظرف من كل جوانبه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5114 وقول الحق سبحانه: {فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} معناه: أن متاع الدنيا يتوه في متاع الآخرة؛ لأن متاع الآخرة أوسع ويحتوي متاع الدنيا ويزيد، وما دام الكلام بقدرة الله سبحانه وتعالى، فمعنى ذلك أن سعة متاع الآخرة بالنسبة لمتاع الدنيا لا نهائية. فإذا زاد الحق سبحانه وقال: {فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} فهو لإعطاء صورة لسعة متاع الآخرة. لكن هذا الاستثناء في قوله تعالى {إِلاَّ قَلِيلٌ} إنما هو لمخاطبة العقول بالنسبة لقمة المتمتعين في الدنيا. ومثال هذا: أنك تجد إنساناً قد أعطاه الله قمة متاع الدنيا، وتجده يعتقد أن المتاع لا يمكن أن يزيد على ما وصل إليه، فيوضح الحق سبحانه وتعالى له: لو أنك متمتع بكل ما تستطيع أن تعطيه لك الدنيا فهو بالنسبة لمتاع الآخرة قليل. وإذا كان غير المتمتع بشيء من متاع الدنيا ينظر إلى مَنْ أعطاه الله سبحانه وتعالى قمة متاع الدنيا ويتساءل: هل هناك متاع أكثر من ذلك؟ إن هذا الإنسان متمتع بكذا وكذا وكأنه يعيش في الجنة، ولا أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك متاع أكثر من هذا. نقول له: لا، إن ما تحسبه نهاية لما يمكن أن يتمتع به الإنسان هو بالنسبة لمتاع الآخرة قليل. إذن: فقوله سبحانه {إِلاَّ قَلِيلٌ} ليس مقصوداً به المتعة العادية للدنيا التي يتمتع بها الناس، ولكن المقصود به متاع القمة الذي لا يصل إليه ولا يحدث إلا لأفراد قليلين في العالم. فقد يعيش إنسان في قصر ضخم، وحوله المئات من الناس يخدمونه، وعنده من الأجهزة الإلكترونية وغيرها ما يجعله بمجرد أن يريد شيئاً يضغط على زر صغير فيجد ما يريده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5115 أمامه، وكل شيء حوله يحقق له رغباته، بل إنه يعيش في درجة الحرارة التي يريدها داخل قصره، وعنده أفخر أنواع الطعام والشراب، وإذا أراد أن ينتقل من مكان إلى آخر؛ ضغط على زر فيتحرك به الكرسي إلى المكان الذي يريده وكل مَنْ حوله يطيعونه طاعة عمياء، فكل رغباته أوامر، وحياته تشبه الحلم الجميل. إذا عاش إنسان في هذا الجو وانبهر بهذه النعم كلها يستوقفه رب العزة سبحانه ويوضح له: لا تنبهر، فهذا المتاع الذي تعيش فيه بالنسبة للآخرة قليل. فإذا قرأ الناس أو سمعوا أو شاهدوا ما يعيش فيه هذا الإنسان من متعة وانبهروا بها، يوضح لهم الله: لا تنبهروا ولا يأخذكم العجب، فكل هذا الذي ترونه أمامكم بالنسبة لمتاع الآخرة قليل. إذن: فقوله سبحانه {إِلاَّ قَلِيلٌ} يدل على أن فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تحب القليل من النعم بل تريد الكثير، ولهذا نجد الحق سبحانه وتعالى يُنفِّر عباده من أن تفتنهم نعم الدنيا مهما بلغت، فيوضح لهم: لا تظنوا أن هذه النعم كثيرة، بل إنها نعم قليلة بالنسبة لما ينتظركم في الآخرة، فإذا كان الإنسان بفطرته يحب كثرة النعم، ففي هذه الحالة لن تفتنه نعم الدنيا، بل سوف يطلب نعم الآخرة. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لو أن ابن آدم أعطي وادياً ملآن من ذهب أحبَّ إليه ثانياً، ولو أعطي ثانياً أحب إليه ثالثاً» أي: أن الإنسان الذي امتلك واديين يريد أن يحتفظ بالواديين كما هما ويطمع في امتلاك الوادي الثالث، رغم أنه قد لا يعيش لينفق مقدار وادٍ واحد. فالإنسان بطبعه لا يحب القليل من النعم بل يطلب الكثير، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5116 لماذا؟ لأن كثيراً من الناس ينسون الآخرة، ويعتقدون أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيء، ولهذا تجد الإنسان منهم يريد أن يحتاط لنفسه، فإذا أخذ ما يكفيه يريد أن يحتاط لأولاده، فإذا كان عنده ما يكفيه هو وأولاده يريد أن يحتاط لأحفاده. ولكن المؤمن الحق هو من يعرف أن الحياة الدنيا طريق العبور إلى الآخرة، وأنها رحلة قصيرة تنتهي، فلا يهتم بهذا اللون من الاحتياط، ولكن الذي يحرص على عملية الاحتياط هذه هو من يظن أن الحياة الدنيا هي الغاية من الخلق، ولا يتنبه إلى أنه وسيلة للآخرة. إننا نجد أولئك الذين يسرفون على أنفسهم ويتبعون شهواتهم وهم يحاولون أن يأخذوا من الدنيا كل شيء يمكن أن تعطيه لهم حلالاً أو حراماً، وهذا واضح في سلوكهم الدنيوي. أما المؤمن فهو كالطالب الذي يَجِدُّ في دروسه ويجتهد ويستيقظ مبكراً ويذهب إلى المدرسة، ويظل ساهراً ليذاكر ويحرم نفسه من مُتَعٍ كثيرة؛ لأنه بفطنته وذكائه يعرف أن هذا حرمان مؤقت. وهو إنما يفعل ذلك لفترة قصيرة ليستريح بقية العمر، ويحصل على المركز المرموق والدخل المرتفع إلى آخر ما يمكن أن يعطيه له المستقبل. أما المسرف على نفسه فهو كالطالب الذي لا يذهب إلى المدرسة ويقضي وقته في اللعب والاستمتاع، وهو بمثل هذا السلوك كان قصير النظر، وأعطى لنفسه شهوة عاجلة ليظل في معاناة بقية حياته. إذن: فكل من الطالبين أعطى نفسه ما تريد؛ الأول: أعطى نفسه مستقبلاً مريحاً ممتدّاً، وصار قمة من قمم المجتمع، والثاني: أعطى نفسه متعة عاجلة زائلة، ثم صار بعد سنوات قليلة صعلوكاً في المجتمع لا يساوي شيئاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5117 إذن: فإياك أن تنظر تحت أقدامك فقط؛ لأن العالم لا ينتهي عند موقع وقوف قدميك هاتين، ولكنه ممتد إلى آفاق بعيدة، فإذا نظرتَ إلى هذه الآفاق، فلا يليق بك أن تختار متعة وقتية قليلة. وقول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ بالحياوة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38] . نزل في غزوة تبوك، وهي أول غزوة للمسلمين مع غير العرب، وسبقتْها كل المعارك بين المسلمين وبين الكفار والمشركين، ودارت على أرض الجزيرة العربية معارك مع المشركين في بدر أو في مكة، أو مع اليهود في مجتمع المدينة، فقد كانت هذه معارك في محيط الجزيرة العربية، ولكن غزوة تبوك كانت مع الروم على الحدود الشمالية للجزيرة العربية. وحينما بدأ تجهيز الجيش ليذهب إلى تبوك لمحاربة الروم تثاقل المسلمون. وهنا يبرز استفهام: كيف يحارب المسلمون الروم، وهم الذين حزنوا حين انتصر الفرس على الروم؟ أيحزن المسلمون لهزيمة الروم ثم يذهبون ليحاربوهم؟ نقول: نعم؛ لأن المواقف الإيمانية ليست مواقف في قالب من حديد، ولكنها تتكيف تبعاً لمواقف الكفار من الإيمان والإسلام. ولذلك فإن المؤمن الحق ينفعل للأحداث انفعالاً إيمانياً، وعلى سبيل المثال، نجد قلب سيدنا أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مملوءاً رقة ورحمة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5118 بينما قلب سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان مملوءاً قوة وحزماً، انظر إلى موقف الاثنين عندما انتقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الرفيق الأعلى؛ وارتد عدد من المسلمين عن الإسلام، ومنعوا الزكاة؛ وقرر أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن يحارب هؤلاء المرتدين؛ لأنهم أنكروا ركناً من أركان الإسلام، هنا وقف عمر بن الخطاب ضد رأي أبي بكر وقال: يا أبا بكر أنحارب أناساً شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقال أبو بكر: أجبار يا عمر في الجاهلية خوّار في الإسلام؟ والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه. وهكذا انقلبت المواقف؛ فالقوة والشدة ملأت قلب أبي بكر الذي كان مشهوراً بالرقة والرحمة والعطف، بينما امتلأ قلب عمر باللين، وهو المشهور بالشدة والقوة. ولو أن عمر هو الذي قال كلمة أبي بكر لقالوا: شدة ألفها الناس من عمر. ولكن الناس قالوا عن عمر الشديد: «قد لاَنَ قلبه بينما اشتد قلب أبي بكر» هذه هي المواقف الإيمانية التي تملأ نفس كل مؤمن. فالذي يصنع موقف المؤمن هو إيمانه لا طبعه؛ ولذلك قال الحق في وصفه للمؤمنين: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين ... } [المائدة: 54] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5119 وكيف يكون الإنسان عزيزاً وذليلاً في الوقت نفسه؟ وكيف يوصف الشخص نفسه بأنه عزيز وذليل؟ وكيف يمكن أن يجتمع النقيضان في شخص واحد؟ لكنك تقرأ ما يطمئنك في قول الحق: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ... } [الفتح: 29] . لقد وصف الحق سبحانه المؤمنين بأنهم أشداء، ووصفهم أيضاً بأنهم رحماء، ولكي تفهم هذا المعنى عليك أن تعلم أن المواقف الإيمانية هي التي تحدد مشاعر المؤمن، ولا تحددها طباعه الخاصة والشخصية، وهو يُكيِّف مواقفه حسب الموقف الإيماني وما يتطلبه، فهو شديد ورحيم، وذليل وعزيز. ونعود إلى غزوة تبوك التي نزلت فيها الآية التي نتناولها بخواطرنا وإلى السؤال: كيف يحارب المسلمون الروم، وقد حزنوا يوم هزيمة الروم من الفرس؟ ونقول: لقد حزن المسلمون لأن إلحاداً ينكر الألوهية قد انتصر على إيمان مرتبط برسالات السماء؛ ولأن الروم - وهم نصارى - مرتبطون برسالات السماء. ولذلك فهم أقرب إلى قلوب المؤمنين من الكفار، إذن: فالمسألة قد أُخِذَتْ من ناحية الوجود الإلهي. أما في غزوة تبوك فقد أُخِذَتْ من ناحية قبول المنهج الناسخ ومنع الدعوة له، ولهذا تحول الموقف في غزوة تبوك إلى عداء إيماني، وهذا هو السبب الذي أدَّى إلى الحرب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5120 فإذا نظرنا إلى الغزوة نفسها نجد أن تبوك تبعد عن المدينة بمسافة كبيرة، ووقت الغزوة كان صيفاً شديد الحرارة، كما أنها كانت بعد غزوة حنين التي قاتل المؤمنون فيها قتالاً شديداً. وكان العام عام عسرة، فلم يكن مع الجيش ما يكفيه من طعام أو خيل أو جمال. إذن: فقد اجتمعت المشقة في هذه الغزوة؛ مع حرارة الجو؛ وبُعْد المسافة، وكانت قوى المسلمين مُنْهكَة من غزوة حنين. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أراد الخروج لغزوة، لا يخبر عنها أصحابه إلا عندما يصلون إلى مكان القتال؛ إلا هذه الغزوة فقد بيَّنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لصحابته قبل أن يغادروا المدينة؛ لكي يستعدوا للمشقة التي تنتظرهم. وتباطأ المسلمون، وبعضهم كان يستمتع بالجلوس في ظل البساتين الموجود في المدينة ويأكل من ثمارها. واستطاب - هذا البعض - الثمار والظلال؛ لذلك تباطأوا في الذهاب إلى القتال، فنزلت هذه الآية ببيان اللوم، ثم جاءت الآية التي بعدها لتوضح وتُبيِّن العقوبة، فقال الحق: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5121 أي: إن لم تذهبوا إلى القتال فإن الله ينذركم بالعذاب. وإذا أنذر الحق فلا بد أن يتحقق ما أنذر به، فأنتم إن لم تنفروا مخافة العذاب المظنون، وهو الإرهاق والتعب، فما بالكم بالعذاب المحقق إن لم تنفذوا أمر الله بالنَّفْرة إلى القتال؟ وإذا كانت المقارنة بين مشقة السفر والقتال والحر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5121 الشديد، وبين عذاب الله، فالمؤمن سوف يختار - بلا شك - مشقة الحرب مهما كانت؛ لأن كل فعل إنما يكون بقياس فاعله، فمظنة العذاب بالحر، أو مشقة السفر، وقسوة القتال لا يمكن قياسها بعذاب الله؛ لأن العذاب الذي ينتظر مَنْ يتباطأ أو يفِرُّ من الزحف أكبر من مشقة الاستجابة للزحف مهما كانت مرهقة. ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} إذن: فلا تظنوا أنكم بتباطئكم؛ وعدم رغبتكم في القتال ستضرون الله شيئاً؛ لأن الله قادر على أن يأتي بخلق جديد، وهو على ذلك قدير، لذلك يقول: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] . فلا تظنوا أنكم بما معكم من ثراء أو قوة قادرون على عرقلة منهج الله بالبخل أو التخاذل؛ لأنه سبحانه قادر على أن يستبدلكم بقوم غيركم، يملكون حمية القتال والتضحية في سبيل الله؛ لأنه القادر فوق كل الخلق. وقوله سبحانه: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هو حيثية للأحكام التي سبقتها من قوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً} وإن ظن واحد منهم أن هذا كلام نظري، فالحق سبحانه يضرب لهم المثل العملي من الواقع الذي شاهدوه وعاصروه حينما اجتمع كفار قريش ليقتلوه فنصره الله عليهم، فقال جل جلاله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5122 {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لصاحبه لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5123 ووقف المستشرقون عند قول الحق سبحانه: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} وكعادتهم - كمشككين في الإسلام - نجدهم يبذلون جهداً كبيراً في محاولة التصيد لأخطاء يتوهمونها في القرآن الكريم فيقولون: إن مهابة القرآن وقدسيته عندكم أيها المسلمون لا تُمكِّن أذهانكم من الجراءة اللازمة للبحث في أساليبه؛ لتكتشفوا ما فيه من الخلل. ولكن إن نظرتم إلى القرآن ككتاب عادي لا قداسة له سوف تجدون فيه التضارب والاختلاف. وخصص المستشرقون باباً كبيراً للبحث في مجال النحو بالقرآن الكريم، وجاءوا إلى مسألة الشرط والجزاء، ومن يقرأ نقدهم يتعرف فوراً على حقيقة واضحة هي جهلهم بعمق أسرار اللغة العربية، ولا يملكون فيها مَلَكة أو حُسْن فهم، وقالوا: إن أساليب الشرط في اللغة العربية تقتضي وجود جواب لكل شرط، فإن قلت: إن جاءك زيد فأكرمه، تجد الإكرام يأتي بعد مجيء زيد، وإن قلت: إن تذاكر تنجح، فالنجاح يأتي بعد المذاكرة. إذن: فزمن الجواب متأخر عن زمن الشرط. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5123 وهم قدموا كل تلك المقدمات ليشككونا في القرآن. ونقول لهم: إن كلامكم عن الشرط وجوابه صحيح، ولكن افهموا الزائد، فحين نحقق في الأمر نجد أن الجواب سبب في الشرط؛ لأنك حين تقول: إن تذاكر تنجح، فالطالب إن لم يستحضر امتيازات النجاح فلن يذاكر، بل لا بد أن يتصور الطالب في ذهنه امتيازات النجاح ليندفع إلى المذاكرة، إذن: فالجواب سبب دافع في الشرط، ولكن الشرط سبب في الجواب ولكنه سبب واقع، فتصُّور النجاح أولاً هو سبيل لبذل الجهد في تحقيق النجاح، وهكذا تكون الجهة منفكة؛ لأن هذا سبب دافع، وهذا سبب واقع. وقوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} فعل مضارع، زمنه هو الزمن الحالي، ولكن الحق يتبع المضارع بفعل ماضٍ هو: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} فهل يكون الشرط حاضراً ومستقبلاً، والجواب ماضياً؟ ونقول: إن المعنى: إلا تنصروه فسينصره الله. بدليل أنه قد نصره قبل ذلك. وهذا ليس جواب شرط، وإنما دليل الجواب، فحين يكون دليل الجواب ماضياً، فهو أدل على الوثوق من حدوث الجواب، فحين دعاهم الله لينفروا فتثاقلوا، أوضح لهم سبحانه: أتظنون أن جهادكم هو الذي سينصر محمداً وينصر دعوته؟ لا؛ لأنه سبحانه قادر على نصره، والدليل على ذلك أن الله قد نصره من قبل في مواطن كثيرة، وأهم موطن هو النصر في الهجرة، وقد نصره برجل واحد هو أبو بكر على قريش وكل كفار مكة، وكذلك نصره في بدر بجنود لم تروها، إذن: فسابقة النصر من الله لرسوله سابقة ماضية، وعلى ذلك فليست هي الجواب، بل هي دليل الجواب. ونرى في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} أن نصر الله له ثلاثة أزمنة، ف {إِذْ} تكررت ثلاث مرات، فسبحانه يقول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5124 {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} أي: أننا أمام ثلاثة أزمنة: زمن الإخراج، وزمن الغار، والزمن الذي قال فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأبي بكر: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} ، وقد جاء النصر في هذه الأزمنة الثلاثة؛ ساعة الإخراج من مكة، وساعة دخل سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أبي بكر إلى الغار، وساعة حديثه مع أبي بكر. ولسائل أن يسأل: هل أخرج الكفار رسول الله من مكة، أم أن الله هو الذي أخرجه؟ ونقول: إن عناد قومه وتآمرهم عليه وتعنُّتهم أمام دعوته، كل ذلك اضطره إلى الخروج، ولكن الحق أراد بهذا الخروج هدفاً آخر غير الذي أراده الكفار، فهم أرادوا قتله، وحين خرج ظنوا أن دعوته سوف تختنق بالعزل عن الناس، فأخرجه الله لتنساح الدعوة، وأوضح لهم سبحانه: أنتم تريدون إخراج محمد بتعنتكم معه، وأنا لن أمكنكم من أن تخرجوه مخذولاً، وسأخرجه أنا مدعوماً بالأنصار. وقالوا: إن الهجرة توأم البعثة. أي: أن البعثة المحمدية جاءت ومعها الهجرة، بدليل «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما أخذته أم المؤمنين خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها إلى ورقة بن نوفل، بعد ما حدث له في غار حراء، قال له ورقة: ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. قال ورقة بن نوفل ذلك لرسول الله قبل أن يتثبت من النبوة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أمُخْرجيَّ هم؟ قال ورقة بن نوفل: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عُودِي» . إذن: فالهجرة كانت مقررة مع تكليف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالرسالة، لماذا؟ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أول من أعلن على مسامع سادة قريش رسالة الحق والتوحيد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5125 ففكرة الهجرة مسبقة مع البعثة؛ ولأن البعثة هي الصيحة التي دوَّت في آذان سادة قريش وهم سادة الجزيرة. ولو صاحها في آذان قوم ليسوا من سادة العرب لقالوا: استضعف قوماً فصاح فيهم، ولكن صيحة البلاغ جاءت في آذان سادة الجزيرة العربية كلها، فانطلقوا في تعذيب المسلمين ليقضوا على هذه الدعوة. وشاء الله سبحانه وتعالى ألا ينصره بقريش في مكة؛ لأن قريشاً ألفَتْ السيادة على العرب، فإذا جاء رسول لهداية الناس عامة إلى الإسلام، لقال من أرسِلَ فيهم: لقد تعصبتْ له قريش لتسود الدنيا كما سادت الجزيرة العربية. فأراد الحق سبحانه أن يوضح لنا: لا. لقد كانت الصيحة الأولى في آذان سادة العرب، ولا بد أن يكون نصر الإسلام والانسياح الديني لا من هذه البلدة بل من بلد آخر؛ حتى لا يقال: إن العصبية لمحمد هي التي خلقت الإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولكن الإيمان برسالة محمد هو الذي خلق العصبية لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويلاحظ في أمر الهجرة أن فعلها «هاجر» . وهذا يدلنا على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يهجر مكة، وإنما هاجر، والمهاجرة مفاعلة من جانبين، فكأن قومه أعنتوه فخرج، والإخراج نفسه فيه نصر؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج وحده من بيته؛ الذي أحاط به شباب أقوياء من كل قبائل العرب ليضربوه ضربة رجل واحد، وينثر عليهم التراب فتغشى أبصارهم، وكان أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ينتظره في الخارج، وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لهم أنهم لن ينالوا من محمد؛ لا بتآمر خفي، ولا بتساند علني. وهذا نصر من الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5126 ويتابع الحق سبحانه: {إِذْ هُمَا فِي الغار} ، ويتأكد في الغار نصر آخر. ذلك أن قصاص الأثر الذي استعانت به قريش واسمه كرز بن علقمة من خزاعة قد تتبع الأثر حتى جاء عند الغار، وقال: هذه محمد وهو اشبه بالموجود في الكعبة، أي أشبه بأثر قدم إبراهيم عليه السلام، ثم قال: هذه قدم أبي بكر أو قدم ابنه وما تجتوزا هذا المكان. وكان قصاص الأثر يتعرف على شكل القدم وأثره على الأرض. وأضاف: إنهما ما تجاوزا هذا المكان، إلا أن يكونا قد صعدا إلى السماء أو دخلا في جوف الأرض. وبالرغم من هذا التأكيد فإنهم لم يدخلوا الغار، ولم يفكر أحدهم أن يقلب الحجر أو يفتش عن محمد وصاحبه، مع أن هذا أول ما كان يجب أن يتبادر إلى الذهن، فما دامت آثار الأقدام قد انتهت عند مدخل الغار كان يجب أن يفتشوا داخله. لكن أحداً لم يلتفت إلى ذلك. وجاء واحد منهم وأخذ يبول، فجاء بعورته قبالة الغار، وهذا هو السبب في قول أبي بكر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لأو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفطنة النبوة: لو رأونا ما استقبلونا بعوراتهم وهذا دليل على أن العربي كان يأنف أن تظهر عورته، أو هي كرامة لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يُريه عورة غيره، وليأخذها القارىء كما يأخذها، وهي على كل حال فيض إلهامي لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كذلك جعل الحق سبحانه العنكبوت ينسج خيوطه على مدخل الغار، وجعل الحمام يبني عُشَّاً فيه بيض، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5127 وجعل سراقة بن مالك يقول: لا يمكن أن يكون محمد وصاحبه دخلا الغار، وإلا لكانا قد حطَّما عُشَّ الحمام، وهتكا نسيج العنكبوت. ونحن نعلم أن أوهى البيوت هو بيت العنكبوت، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] . ويظهر الإعجاز الإلهي هنا في: أن الله سبحانه قد صد مجموعة كبيرة من المقاتلين الأقوياء بأوهى البيوت، وهو بيت العنكبوت، وقدرة الله تجلَّتْ في أن يجعل خيط العنكبوت أقوى من الفولاذ، وكذلك شاء الحق أن يبيض الحمام وهو أودع الطيور، وإنْ أهيجَ هاج. وهذا نصر، ثم هناك نصر ثالث نفسي وذاتي، «فحين قال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، نجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرد في ثقة بربه:» ما ظنك باثنين الله ثالثهما «. هذا الرد ينسجم مع سؤال أبي بكر؛ لأن أبا بكر كان يخشى أنهم لو نظروا تحت أقدامهم لرأوا مَنْ في الغار، وكان الرد الطبيعي أن يقال:» لن يرونا «، ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أن يلفتنا لفتة إيمانية إلى اللازم الأعلى، فقال:» ما ظنك باثنين الله ثالثهما «، لأنه ما دام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر في معية الله، والله لا تدركه الأبصار؛ فمن في معيته لا تدركه الأبصار. وتكون كلمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي تعوَّد أبو بكر منه الصدق في كل ما يقول، تكون هي الحجة على صدق ما قال، فعندما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنه أسْرى به إلى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء، قال أبو بكر: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5128 إن كان قد قال فقد صدق. فحين يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأبي بكر فيما يحكيه سبحانه: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} ، فلا بد أن يذهب الحزن عن أبي بكر، وقد خشي سيدنا أبو بكر حين دخل الغار ووجد ثقوباً، خشي أن يكون فيها حيات، أو ثعابين، فأخذ يمزق ثوبه ويسد به تلك الثقوب؛ حتى لم يَبْقَ من الثوب إلا ما يستر العورة، فسدَّ الثقوب الباقية بيده وكعبه. إذن: فأبو بكر يريد أن يفدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنفسه؛ لأنه إن حدث شيء لأبي بكر فهو صحابي، أما إن حدث مكروه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالدعوة كلها تُهدم. إذن: فأبو بكر لم يحزن عن ضعف إيمان، ولكنه حزن خوفاً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُصَابَ بمكروه. ويأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} اختلف العلماء في قوله تعالى {عَلَيْهِ} ، هل المقصود بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ أو أن المقصود بها أبو بكر؟ وما دامت السكينة قد نزلت؛ فلا بد أنه نزلت على قلب أصابه الحزن. ولكن العلماء يقولون: إى الضمائر في الآيات تعود على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالحق قال: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} أي محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وسبحانه يقول: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} أي محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويقول أيضاً: {إِذْ أَخْرَجَه} أي محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكل الضمائر في الآية عائدة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5129 ثم يأتي قول الله سبحانه وتعالى: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} إذن: فلا بد أن يعود الضمير هنا أيضاً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأقول: ولكن لماذا لا نلتفت إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {إِذْ يَقُولُ لصاحبه لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} وهذا قول رسول الله؛ ولا بد أن قوله يجعل السكينة تنزل على قلب أبي بكر. إذن: فالضمير هنا عائد على أبي بكر. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} والعنكبوت والحمام مرئيان، وأول الجنود غير المرئية هو أنه لم يخطر على بال القوم ولا فكرهم أن ينظروا في الغار، مع أن آثار الأقدام انتهت إليه. لكن الله طمس على قلوبهم وصرفهم عن هذه الفكرة بالذات، ولم تخطر على بالهم. ثم جاء حدث آخر حين استطاع سراقة بن مالك وهو من الكفار أن يلحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبي بكر، وهما في طريقهما إلى المدينة، وكلما حاول الاقتراب منهما ابتلعت الأرض قوائم فرسه في الرمال، وعلى أية حال ما دام الحق سبحانه وتعالى قال: {بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} وقال في آية أخرى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] . إذن: فالجنود الذين سخرهم الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليحفظوه خلال الهجرة لا يعلمهم إلا الله. وكل شيء في هذا الكون من جنود الله؛ فهو سبحانه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5130 وتعالى الذي سخر الكافر لخدمة الإيمان، ألم يكن دليل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هجرته من مكة إلى المدينة هو عبد الله بن أريقط، وكان ما زال على الكفر، فكأن الله سبحانه وتعالى يسخر له الكافر ليكون دليله في رحلته من مكة إلى المدينة. وهكذا عمل الكافر في خدمة الإيمان، وفي الوقت نفسه فكل ما رصدتْه قريش من جُعل لمن يدلُّها على مكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يُغْرِ الدليل الكافر بالخيانة، بل أدخل الله على قلب الكافر ما يجعله أميناً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الحق سبحانه يقول: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} ، ولقد أراد الكفار القضاء على الدعوة بقتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو نَفْيه بإخراجه إلى مكان بعيد، أو سجنه، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أن الباطل لا يمكن أن يعلو على الحق، وأن الحق دائماً هو الأعلى، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} ولا يجعل الله كلمة الكفار السفلى إلا إذا كانت في وقت ما في عُلُوٍّ. وإن كان عُلوها هو علو الزَّبَدِ على الماء الذي قال عنه الحق سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5131 ولقد ضرب الله هذا المثل فقال: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] . أي: أن كل وادِ أخذ ما قدره الله له من الماء. {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} [الرعد: 17] . وهذا نلاحظه عندما يحدث سيل، ونجده يأخذ معه القَشَّ والقاذورات التي لها كثافة قليلة؛ لتطفو على سطح الماء، ولكن أتظل عليه؟ . لا، بل تُطرد إلى الجوانب بقوة التيار ويبقى الماء نظيفاً. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17] . إذن: فالحق سبحانه وتعالى يخبرنا أن كلمة الكفار كانت في عُلُوٍّ كالزَّبَد، ولكن: لماذا أوجد الله علواً ولو مؤقتاً للكفر؟ أراد الحق ذلك حتى إذا جاء الإسلام وانتصر على الكفر يكون قد انتصر على شيء عال فيجعله أسفل؛ ولذلك جاء الله سبحانه وتعالى بالمقابل وقال: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} ، فالنسق الأدائي في القرآن كان لا بد أن يتم على أساس؛ لذلك جاء القول: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} ؛ لأن كلمة الله دائماً وأبداً هي العليا، وليست كلمة الله عُلْيَا جَعْلاً، فهي لم تكن في أي وقت من الأوقات إلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5132 وهي العليا. ولهذا لم يعطفها بالنصب؛ لأن كلمة الحق سبحانه وتعالى هي العليا دائماً وأبداً وأزلاً. وإن كان الكفار قد أرادوا قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو أن يخرجوه إلى مكان بعيد لا يستطيع فيه أن يمارس دعوته، أو يحبسوه، فإنهم لم يظفروا بشيء من هذا؛ لأن الله عزيز لا يُغلَبُ، وعِزَّته مبنية على الحكمة. وهنا يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفت المؤمنين إلى أن تثاقلهم عن الجهاد في غزوة تبوك لن يضر الدعوة شيئاً؛ لأن الله قد نصر رسوله وهو وحده، ونصره بجنود لم يَرَوْهَا، فإذا كان النصر لا يحتاج إلا لكلمة الله، ولا يتم إلا بإرادة الله، فلماذا إذن التثاقل؟ ويقول سبحانه بعد ذلك: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً وجاهدوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5133 وهكذا يفتح الحق باب الوصول إليه؛ ليهبُّوا إلى نصرة الرسول ويزيل الضباب من أذهانهم، ويفتح لهم باب الوصول إليه لأنهم خلق الله وعياله، فهو سبحانه يريد منهم أن يكونوا جميعاً مهديين، وأن يشاركوا في نُصْرة الدعوة إليه. والقتال في سبيل الله قد يكون مشقة في ظاهر الأمر، ولكنه يَهَبُ الدعوة انتشاراً واستقراراً. وحين يقوم المسلمون بنصر الدعوة إلى الله، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5133 ففي هذا القيام مغفرة وتوبة، وهو رحمة من الله بهم. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو القائل: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» . ويقول الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي: «قالت السماء: يا ربي إئذن لي أن أسقط كِسَفاً على ابن آدم؛ لأنه طَعِمَ خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب إئذن لي أن أغرِقَ ابن آدم لأنه طَعِم خيرك ومنع شكرك، وقالت الأرض مثلهما» . فماذا قال الحق سبحانه وتعالى؟ قال: «دعوني وعبادي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم» . وهكذا نرى رحمة الله بخلقه. وبعد أن لام الحق سبحانه المسلمين؛ لأنهم لم يتحمسوا للجهاد، يفتح أمامهم باب التوبة فقال: {انفروا} أي: اخرجوا للقتال، وهذا أمر من الله يوقظ به سبحانه الإيمان في قلوب المسلمين، وفي الوقت نفسه يفتح أمامهم باب التوبة لتباطئهم عن الخروج للقتال في غزوة تبوك. ولذلك قال: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} والنفرة: هي الخروج إلى شيء بمهيج عليه، والمثال: هو التباعد بين إنسان وصديق له كان بينهما وُدّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5134 ثم حدث من هذا الصديق سلوك أو قول يُهيج على الخروج عليه، فينفر منه الإنسان. والحق سبحانه هنا يأمر: {انفروا} والذي يهيج على النفور هو رفعة دين الله وكلمته، وحين ترفعون كلمة الله إنما يفتح لكم باب الارتفاع بها فقال: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} . والخفيف: هو الصحيح السليم القوي الذي لا تتبعه ولا ترهقه الحركة. والثقيل: هو المريض أو كبير السن. والله يريد من الجميع أن يسارعوا إلى القتال؛ لينجوا من العذاب الأليم، وينالوا توبته ورضاه. ولكن الصحيح خفيف الحركة يمكنه أن يقاتل، فماذا يفعل المريض؟ يفعل مثلما فعل سيدنا سعيد بن المسيَّب وكان مريضاً، إذ قالوا له: إن الله أعفاك من الخروج إلى المعركة في قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} [الفتح: 17] . فقال: والله أكَثِّرُ سواد المسلمين وأحرس متاعهم. ومن الممكن أن يكون المريض متميزاً بالذكاء وصحة العقل، ويمكن أن يُسْتشار في مسألة ما. وقد يكون المريض أسْوة في قومه، فإذا خرج للقتال هاج قومه وخرجوا معه، ويمكن أن يكون المريض أو الضعيف حافزاً للأقوياء على القتال. فحين يرى الأقوياء المريض وهو يخرج للقتال؛ فإنهم يخجلون أن يتخلفوا هم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5135 واختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} فبعضهم قال: إن هذه إشارة إلى ذات الإنسان، فهناك ذات خفيفة وذات ثقيلة في الوزن لا تستطيع الحركة بسهولة، وقال آخرون: إن الفرد الواد يمكن أن يكون فيه الوضعان، وقوله تعالى: {انفروا} هو أمر للجماعة، و {خِفَافاً} جمع «خفيف» ، و {ثِقَالاً} جمع «ثقيل» ، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة إلى آحاد. والمعنى: أن ينفر كل واحد من المسلمين سواء كان خفيفاً أم ثقيلاً. وسبق أن ضربنا المثل حينما يدخل الأستاذ على الطلبة ويقول: أخرجوا كتبكم، ومعنى هذا الأمر أن يُخرج كل تلميذ كتابه، وإن قلت: اركبوا سياراتكم، فمعنى ذلك أن يركب كل واحد منكم سيارته. إذن: فالآية تعني: لينفر كل واحد منكم سواء كان ثقيلاً أم خفيفاً. ولكن: كيف يكون الإنسان ثقيلاً وخفيفاً في وقت واحد؟ نقول: يكون خفيفاً أي: ذا نشاط للجهاد، وثقيلاً أي: أنه سيدخل في مشقَّة تجعل المهمة ثقيلة على نفسه. والله سبحانه وتعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] . والدخول فيما هو مكروه في سبيل الله أمر يرفع درجات الإيمان. إذن: فالآية تحتمل أكثر من معنى، فهي تحمل المعنى العام: أن يكون البعض خفيفاً والبعض ثقيلاً في ذاته، أو: أن يجمع القتال بين الخفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5136 في الحركة والثقل في المشقة، أو: أن يكون الذي يملك دابة هو الخفيف؛ لأن الدابة تزيل المشقة وأسرع في الطريق، والثقيل هو من يجاهد ماشياً؛ لأنه سيتحمل طول المسافة. وساعة يشحن الحق سبحانه وتعالى قلوب المؤمنين، فهو يطلب منهم ما يكلفهم به بقوة، ثم تتجلى رحمته فيخفف التكليف. ولو جاء الحكم خفيفاً في أول التشريع، ثم يُصعَّد؛ فإن هذا الأمر يكون صعباً على النفس، ولكن عندما يأتي الحكم ثقيلاً، ثم يخفف يكون أقرب إلى النفس، والمثال في قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 65] . وهنا يعطي الحق مقياساً لقدرة المؤمن بالنسبة للكافر. فالعشرون يغلبون مائتين، أي: أن النسبة هي واحد من المؤمنين إلى عشرة من الكافرين، ولذلك فعندما نزلت هذه الآية كان على المؤمن الواحد أن يقتل عشرة من الكافرين، لكن الحق سبحانه وتعالى قد علم أن هذا الأمر شديد على نفوس المؤمنين بأن يواجه المؤمن الواحد عشرة من الكفار، فإنه لا يقدر على ذلك إلا أولو العزم، فقال سبحانه: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال: 66] . وما دام هناك ضعف فلا بد أن يُخفف الأمر بالنسبة للمؤمنين في مواجهة الكفار أثناء القتال. ونقل الحق سبحانه وتعالى النسبة من: واحد إلى عشرة، إلى: واحد إلى اثنين، فقال سبحانه وتعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5137 لذلك: مَنْ فَرَّ من قتال اثنين يكون قد فَرَّ من الزحف، ولكن إن فرّ من مواجهة ثلاثة لا يُحسب فَاراً؛ لأنهم أكثر من النسبة التي قررها الله. وقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} هو أمر يشمل الجميع على اختلاف أشكالهم، أي: أنها تحمل أمراً عاماً لكافة المسلمين. ولكن هناك قول آخر في سورة التوبة، أعفى بعض حالات معينة من المؤمنين الذين أخلصوا قلوبهم لله، فيقول سبحانه: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91 - 92] . أي: ليس على هؤلاء الذين جاءت الآيتان الكريمتان بذكرهم أيُّ حرج في أن يقعدوا عن القتال. وكان هذا هو الاستثناء من القاعدة العامة التي فرضت على كل مؤمن أن يقاتل في سبيل الله، وهو ما جاءت به الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5138 {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً وجاهدوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله} والمال هو الذي يجعلك تُعدُّ السلاح للحرب، وحين يذهب الجيش إلى القتال لا بد أن يكون مُزوَّدَاً بالسلاح، وبالمركبات وهي مثل الخيل على زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأيضاً لا بد من الزاد الذي يكفي لأيام القتال، لذلك جاء الله سبحانه وتعالى بذكر المال أولاً، ثم بعذ ذلك ذكر الأنفس والأرواح، ومن يملك القوة والمال فعليه أن يجاهد بهما، ومن يملك عنصراً من الاثنين؛ القوة أو المال، فعليه أن يجاهد به. فإن كان ضعيفاً فعليه أن يعين بماله القوي القادر على القتال بأن يوفر له الأسلحة والخيول والدروع وغير ذلك من وسائل القتال. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وجاهدوا} ، و «جاهد» و «قاتل» مبنية على المفاعلة، بمعنى: إن قاتلك واحد من الكفار، فلا بد أن تبذل كل جهدك في قتاله، و «جاهد» مثل «شارك» ، فهل تقول: شارك زيد ثم تسكت، أم تقول: شارك زيد عَمْراً، وقاتل زيد عمراً؟ إذن: فهناك مفاعلة. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] . وهذا القول هو أمر بالصبر على القتال. ولكن هَبْ أن عدوك صبر مثلك، هنا يأتي أمر آخر من الحق سبحانه وتعالى: {وَصَابِرُواْ} أي: اغلبه في الصبر بأن تصبر أكثر منه. وكذلك {وجاهدوا} أي: اغلبوهم في الجهاد، بأن تجاهدوا أكثر منهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5139 ونعود إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {وجاهدوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله} وسبيل الله هو: الطريق الموصل إلى الغاية التي هي رضا الله والجنة. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} ، و «ذا» اسم إشارة ويشير إلى المفرد المستفاد من قوله تعالى: {وجاهدوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} إذن: ف «ذا» تشير إلى الجهاد بالمال والنفس، و {لَّكُمْ} تشير للخطاب؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يخاطب جماعة. وبعض من لا يفهم اللغة يقول: {ذلكم} كلمة واحدة خطاباً أو إشارة، ونقول لهم: لا، بل هي كلمتان؛ إشارة وخطاب. والإشارة هنا لشيء واحد، والخطاب لجماعة. ومثال هذا أيضاً قول الحق سبحانه على لسان امرأة العزيز في قصة يوسف عندما جمعت امرأة العزيز النسوة، وأخرجت يوسف عليهن، وصارت هناك جماعة من النسوة، وهناك يوسف - أيضاً -: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] . و «ذا» المقصود بها يوسف، و «لكُنَّ» هن: النسوة المخَاطَبات. ومثال آخر أيضاً هو قول الحق سبحانه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص: 32] . و «ذان» إشارة لاثنين، وهما معجزتان من معجزات موسى عليه السلام؛ العصا واليد البيضاء، وحرف الكاف للمخاطب وهو موسى عليه السلام. إذن: فقول الحق: {ذلكم} في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها مكون من كلمتين: الإشارة لواحد والخطاب لجماعة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5140 وقوله تعالى: {ذلكم خَيْرٌ} . . عن أي خير يتحدث سبحانه؟ إن نفرتم وجاهدتم بأموالكم وأنفسكم فهو خير، ولا بد أن يكون خيراً من مقابل له. والمقابل له هو القعود عن الجهاد بأموالكم وأنفسكم. إذن: فالجهاد خير من القعود. وكلمة {خَيْرٌ} تستعمل في اللغة استعمالين؛ الاستعمال الأول أن يراد بها الخير العام، كقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] . ويكون مقابلها في هذه الحالة هو الشر. ومرة تأتي «خير» بمعنى «أفعل التفضيل» ، كأن تقول: هذا خير من هذا. وفي هذه الحالة يكون كل من الأمرين خيراً، ولكن أحدهما أفضل من الآخر، مثل قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المؤمن القوي خَيْرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير» فإن جاءت «خير» دون أن تسبقها «من» فالمراد بها المقابل لها، وهو «الشر» . ونجد بعضاً من أساتذة اللغة العربية يقولون: عندما تستخدم كلمة «خير» كأفعل تفضيل لا تقل: «خير» ، بل قل: «الخير» ، ولكن اللفظ المستخدم هنا هو «خير» ، فإن استُعْمِل في أفعل التفضيل فهو يعطي الصفة الزائدة لواحد دون الثاني، والاثنان مشتركان في الخيرية. وعلى سبيل المثال «كان عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عبد اسمه زيد بن حارثة اشترته خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وأهدته لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعرف أبو زيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5141 وعمه مكانه فذهبا إلى مكة ليروه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» فأنت قد علمت ورأيت محبتي لك فاخترني أو اخترهما «. فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أي: أنه اختار أن يبقى مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يذهب مع أهله، فأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكافئه؛ فألحقه بنفسه وقال:» يا من حضر اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه «وكان التبني مباحاً عند العرب، وأراد الحق أن يُلغي التبني وأن يطبق رسول الله هذا الإلغاء بنفسه، فجاء قول الحق سبحانه وتعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله} [الأحزاب: 40] . وهكذا أنهى الحق سبحانه وتعالى التبني، وقال سبحانه وتعالى: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} [الأحزاب: 5] . و {أَقْسَطُ} يعني» أعدل «، كأن الحق سبحانه وتعالى لم يَنْف عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العدل، ولكنه أنزل ما هو أعدل. إذن: فساعة ترى أَفعل التفضيل؛ فاعلم أنه يعطي الصفة الزائدة ويُبقي الصفة الأصلية. وفي الآية التي نحن بصددها {ذلكم خَيْرٌ} ومقابلها: أن القعود عن الجهاد بالمال والنفس شر. يقول الحق سبحانه: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} إذن: فهناك موازين نعرف بها ما هو خير وما هو شر. . وحينما قال الحق: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فكأن هناك مقدمات للعلم، فإن لم يكونوا يعلمون؛ فالله يعلمهم، ذلك أن الذي يجاهد بماله ونفسه يكون قد اقتنع بيقين أنه سوف يحصل من الجهاد على ما هو خير من المال والنفس. وأيضاً: إن قُتل فهو باستشهاده صار أسوة حسنة لمن يأتي بعده. وحين أوضح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5142 سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه من يقاتل صابراً محتسباً يدخل الجنة، جاء له صحابي في فمه تمرة يمضغها فيقول: أليس بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن أقاتل فيقتلوني؟ فلما أجاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: نعم. استبطأ الصحابي أن يضيع مضغ التمرة وقتاً، وأن يتأخر عن القتال بسببها، فرماها من فمه وقاتل حتى استشهد. وكان هذا دليلاً على أنه واثق تمام الثقة أن الاستشهاد يعطيه جزاءً أعلى بكثير مما ترك. ثم بعد ذلك يعود الحق سبحانه وتعالى إلى الذين يتثاقلون عن الجهاد ليصفي المسائل كلها، فيقول جل جلاله: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5143 والعَرَضُ هو ما يقابل الجوهر، والجوهر هو ما لا تطرأ عليه أغيار، فالصحة عَرَض والمرض؛ لأن كليهما لا يدوم، إذن فكل ما يتغير يسمى عَرَضٌ حاضر يأكل منها البَرُّ والفاجر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5143 إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} أي: لو كان أمراً من متاع سهل التناول، ومحبباً للنفس؛ وليس فيه مشقة السفر والتضحية بالمال والنفس؛ لأسرعوا إليه. {وَسَفَراً قَاصِداً} ، والقاصد هو المقتصد الذي في الوسط؛ وبعض الناس يسرف في الكسل، فلا يستنبط الخير من السعي في الأرض ومما خلق الله، وبعض الناس يسرف في حركة الدنيا ويركض كركض الوحوش في البرية، ولا يكون له إلا ما قسمه الله. وأمزجة الناس تتراوح ما بين الإسراف والتقتير، أما المؤمن فعليه أن يكون من الأمة المقتصدة. والحق هو القائل: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} [المائدة: 66] . لأن المؤمن لا يأخذه الكسل فيفقد خير الدنيا، ولا يأخذه الإسراف فينسى الإيمان. إذن: فالحق سبحانه وتعالى يوضح لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه لو كان هناك متاع من متاع الدنيا أو سفر بلا مشقة ولا تعب لاتبعوك، فهم لم يتبعوك؛ لأنه ليست هناك مغانم دنيوية؛ لأن هناك مشقة، فالرحلة إلى تبوك، ومقاتلة الروم، وهم أصحاب الدولة المتحضرة التي تضع رأسها برأس دولة الفرس، وهذه أيضاً مشقة، والعام عُسْر والحر شديد، ولو أن الأمر سهل مُيسَّر لاتبعوك. ويتابع سبحانه: {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} أي: أن المشقة طويلة، ثم يقول: {وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} هم إذن لم يتبعوك؛ لأن المسألة ليست عرضاً قريباً ولا سفراً سهلاً، بل هي رحلة فيها أهوال، وتضحيات بالمال والنفس، وحين تعود من القتال سوف يحلفون لك؛ أنهم لو استطاعوا لخرجوا معكم للقتال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5144 وقد قال الحق ذلك قبل أن تأتي أوان الحلف، وهذه من علامات النبوة؛ لكي يعرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المنافقين مِنْ صادقي الإيمان. وسبحانه وتعالى يفضح غباء المنافقين؛ لذلك قال: {وَسَيَحْلِفُونَ بالله} واستخدام حرف السين هنا يعني أنهم لم يكونوا قد قالوها بعد، ولكنهم سيقولونها في المستقبل، ولو أنهم تنبهوا إلى لم يكونوا قد قالوها بعد، ولكنهم سيقولونها في المستقبل، ولو أنهم تنبهوا إلى ذلك لامتنعوا عن الحلف. ولقالوا: إن القرآن قال سنحلف، ولكننا لن نحلف. ولكن الله أعماهم فحلفوا، وهكذا يأتي خصوم الإسلام ليشهدوا - رغم أنوفهم - للإسلام. ومثال آخر على نفس الأمر؛ عندما حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة؛ قال الحق سبحانه وتعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] . وقوله هنا {سَيَقُولُ} معناها أنهم لم يقولوا بعد، وإلا ما استخدم فيها حرف السين. وهذه الآية نزلت في القرآن يتلى ولا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة. . ورغم أنه كان في استطاعتهم ألا يقولوا ذلك القول، ولو فعلوا لساهموا في التشكيك بمصداقية القرآن، ولهدموا قضية الدين التي يتمنون هدمها، ولكنهم مع ذلك قالوا: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ} وجاءوا مثبتين ومُصدِّقين للقرآن. وفي هذه الأيام نجد شيئاً عجيباً؛ نجد من يقول: أنا لا أتبع إلا ما جاء في القرآن، أما السنة فلستُ مطالباً بالالتزام بها. وتقول لمن يردد هذا الكلام: كم عدد ركعات الصبح وركعات الظهر والعصر والمغرب والعشاء؟ وسوف يرد قائلاً: صلاة الصبح ركعتان، والظهر أربع، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5145 والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع. ونقول: من أين أتيت بهذا؟ يقول: من السنة. نقول: إذن فلا بد من اتباع السنة حتى تستطيع أن تصلي، ولن تفهم التطبيق العملي لكثير من الأحكام إلا باتباع السنة. ويجبر الحق سبحانه هذا الذي يحارب سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويدعو إلى عدم الالتزام بها؛ يجبره سبحانه على الاعتراف بضرورة اتباع السنة، وبهذا يصدق قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يوشك الرجل يتكىء على أريكته يُحدَّث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما كان فيه حراماً حرَّمْناه، وإن ما حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما حرم الله» . وقد قالوا ذلك القول طَعْناً في الكتاب، ولكنهم من حيث لا يدرون أكدوا صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهم لم يمتلكوا الذكاء؛ لأن الذكاء الذي لا يهدي للإيمان هو لون من الغباء وعَمى البصيرة، وكذلك كان حال من حلفوا بعدم استطاعتهم الخروج للقتال؛ فقد سبقهم قول الله: {وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} وجاءوا من بعد ذلك وحلفوا؛ ليؤكدوا صدق القرآن. وهم في حلفهم يدّعون عدم استطاعتهم للقتال، مع أن لديهم المال والقدرة. ويقول الحق عنهم: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وما داموا قد حلفوا بالله كذباً، فقد أدخلوا أنفسهم في الهلاك، فهم لم يكتفوا بعدم الجهاد؛ بل كذبوا وفضح الله كذبهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5146 ويقول الحق بعد ذلك: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5147 وكلمة {عَفَا} تدل على أن هناك أثراً قد مُحي؛ تماماً كما يمشي إنسان في الرمال؛ فتُحْدِث أقدامه أثراً، ثم تأتي الريح فتملأ مناطق هذا الأثر بالرمال وتزيله. وهي تُطلق في الدين على محو الله سبحانه وتعالى لذنوب عباده فلا يعاقبهم عليها. وما دام الإنسان قد استغفر من ذنبه وقال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، فلا يجب أن يحرجه أحد بعد ذلك، ولا أن يعايره أحد، فقد استغفر عند من يملك الملك كله، وهو وحده سبحانه الذي يملك العفو والمغفرة، فلا يُدْخِلنَّ أحدكم نفسه في هذه المسألة، ولا يجب أن يحرج إنسان مذنباً ما دام قد استغفر مَنْ يملك العفو، ومن يسمع مستغفراً عليه أن يقول: عفا الله عنك. ولا أحد يعرف إن كان الله قد عفا عنه أم لا، فَلْتُعِنْهُ بالدعاء له، ومن يعاير مذنباً نقول له: تأدب؛ لأنه لم يرتكب الذنب عندك، ولكنه ارتكبه عند ربه، وإذا كان من يستغفر من ذنبه لا يُحرج به بين الناس، فما بالنا بعفو الله سبحانه القادر وحده على العفو. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5147 وهنا يقدم الحق سبحانه العفو عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي أذن لهم بالقعود عن القتال، ثم يأتي القرآن من بعد ذلك ليؤكد أن ما فعله رسول الله بالإذن لهم بالقعود كان صواباً، فيقول في موضع آخر من نفس السورة: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] . إذن: فلو أنهم خرجوا لكانوا سبباً في الهزيمة، لا من أسباب النصر. وصوَّبَ الحق عمل الرسول، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له العصمة. وهنا نحن أمام عفو من الله، على الرغم من عدم وجود ذنب يُعفى عنه، وهنا أيضاً إذن من الرسول لهم بالقعود، ونزل القرآن ليؤكد صوابه. وهناك من فهم قول الحق: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} على أنها استفهام استنكاري، وكأن الحق يقول: كيف أذِنْتَ لهم بالعفو؟ إذن: فرسول الله بين أمرين: بين عفو لا يُذْكَرُ بعده ذنب، واستفهام يفيد عند البعض الإنكار. ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى أيَّد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] . فكأن الرسول قد هُدِيَ إلى الأمر بفطرته الإيمانية، وقد أشار القرآن إلى ذلك؛ ليوضح لنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معصوم وفطرته سليمة، وكان عليه أن يقدم البيان العقلي للناس؛ لأنه الأسوة حتى لا يأتي من بعده واحد من عامة الناس ليفتي في مسألة دينية ويقول: أنا رأيت بفطرتي كذا، بل لا بد أن يتبين الإنسان ما جاء في القرآن والسنة قبل أن يفتي في أمر من أمور الدين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5148 وعلى سبيل المثال: اختلف الأمر بين المسلمين في مسألة الفداء لأسرى بدر ونزل القول الحق: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] . وأيَّد الله حكم رسوله وأبقاه. إذن فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هُدِي إلى الأمر بفطرته الإيمانية، ولكن هذا الحق لا يباح لغير معصوم. وقد أباح الحق سبحانه الاستئذان في قوله: {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] . والحق سبحانه وتعالى يقول هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} وهكذا يتبين لنا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أذن لهم بالمقدمات والبحث والفطرة، ورأى أن الإذن لهؤلاء المتخلفين هو أمر يوافق مراد الحق سبحانه؛ لأنهم لو خرجوا مع جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاًً، لعدم توافر النية الصادقة في الجهاد؛ لذلك ثبطهم الله، وأضعف عزيمتهم حتى لا يخرجوا. والعفو هنا جاء في شكلية الموضوع، حيث كان يجب التبيُّن قبل الإذن، فيقول الحق سبحانه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5149 {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} أي: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو لم يأذن لهم لكانوا قد انكشفوا، ولكن إذنه لهم أعطاهم ستاراً يسترون به نفاقهم، فهم قد عقدوا النية على ألا يخرجوا، ولو فعلوا ذلك لافتُضِحَ أمرهم للمسلمين جميعاً، فشاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يسترهم. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ... } الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5150 ويلفتنا سبحانه: أن الذين طلبوا ذلك الإذن بالقعود فضحوا أنفسهم، فقد استأذنوا بعد مجيء الأمر من الله {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} ، وكل مؤمن بالله واليوم الآخر - في تلك الظروف - لا يمكن أن يتخلف عن الجهاد في سبيل الله. والمؤمن الحق لن يقدم الأعذار ليتخلف، حتى وإن كانت عنده أعذار حقيقية، بل سيحاول إخفاءها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليخرج معه مجاهداً بل إنه يسرع إلى الجهاد، حتى ولو كان الله قد أعطاه رخصة بعدم الجهاد. وهذه الآية - إذن - تحمل التوبيخ للذين استأذنوا، بل وتحمل أكثر من ذلك، فالمؤمن إذا دُعِيَ للجهاد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبأمر من الله لا يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5150 تفكيره كالشخص العادي؛ لأن الإنسان في الأمور العادية إذا طُلِبَ منه شيء أدار عقله وفكره؛ هل يفعله أو لا يفعله؟ ولكن المؤمن إذا دُعِي للجهاد في سبيل الله، ومع رسول الله، وبأمر من الله؛ لا يدور في عقله الجواب، ولا تأتي كلمة «لا» على خاطره أبداً، بل ينطلق في طريقه إلى الجهاد. وكيف يكون الأمر بالخروج إلى القتال صادراً من الله، ثم يتحجج هؤلاء بالاستئذان بعدم الخروج؟ إذن: فمجرد الاستئذان دليل على اهتزاز الإيمان في قلوبهم؛ لأن الواحد منهم في هذه الحالة قد أدار المسألة في عقله، يخرج للجهاد أو لا يخرج، ثم اتخذ قراراً بالتخلف. والغريب أن هؤلاء استأذنوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عدم الخروج، مع أن أمر الجهاد صادر من الله سبحانه وتعالى، ولم تكن المسألة تحتاج إلى أن يأذن لهم الرسول بالتخلف. إلا أنهم كانوا يبحثون عن عذر يحتمون به. والمثال من حياتنا اليومية أننا نجد أولاد البلد يسخرون من البخيل الذي لا يكرم ضيفه ويدَّعي أنه سيكرمه، فتجده ينادي ابنه ويقول له أمام الضيف: انزل إلى السوق وابحث لنا عن خروف نذبحه للضيف ولا تتأخر فنحن منتظرون عودتك. . وما إن يقول الضيف أدباً منه: لا. تجد البخيل يصرف ابنه. ويتخذ من رفض الضيف أدباً منه: لا. تجد البخيل يصرف ابنه. ويتخذ من رفض الضيف حجة لعدم إكرامه، وكأنه يريد ذلك، ولكن الواقع يقول: إنه لا يريده من أول الأمر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5151 ونعلم جميعاً أن الإنسان لا يستأذن في إكرام ضيوفه. والمثال: هو إبراهيم عليه السلام عندما جاءته الملائكة في هيئة رجال، وأراد أن يكرمهم فلم يستأذنهم في أن يذبح لهم عجلاً، بل جاء به إليهم مذبوحاً ومشوياً، هذا سلوك مَنْ أراد إكرام الضيف بذبيحة فعلاً، أما مَنْ يريد أن يبحث عن العذر، فهو يتخذ أساليب مختلفة يتظاهر فيها بالتنفيذ، بينما هو في حقيقته لا يريد أن يفعل، مثلما يقال لضيف: أتشرب القهوة أم أنت لا تحبها؟ أو يقال له: هل تريد تناول العشاء أم تحب أن تنام خفيفاً؟ أو يقال: هل تحب أن تنام عندنا أن تنام في الفندق، وهو أكثر راحةً لك؟ وما دام هناك من سأل الرسول: أأخرج معك للقتال أم أقعد، فهذا السؤال يدل على التردد، والإيمان يفترض يقيناً ثابتاً؛ لأن التردد يعني الشك، وهو الذهاب والرجوع على التوالي، وهو يعني أن صاحب السؤال متردد؛ لأن طرفي الحكم عنده سواء. إذن: فالمؤمنون بالله لا يستأذنون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا دُعوا إلى الجهاد؛ لأن مجرد الاستئذان في الخروج إلى الجهاد لا يليق بمؤمن. وقوله تعالى: {والله عَلِيمٌ بالمتقين} أي: أن الله يعلم ما في صدورهم من تقوى، فهم إنْ خدعوا الناس، فلن يستطيعوا خداع الله؛ لأنه مُطَّلع على ما تُخفي الصدور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5152 ثم يُنزِل الله حكمه في هؤلاء فيقول: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وارتابت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} وهكذا أصدر الله حكمه فيمن أقدموا على الاستئذان، فما دام الإنسان قد تردد بين أن يخرج للجهاد أو لا يخرج، فهذا يكشف عن اهتزاز إيمانه، وهذا الاهتزاز يعني وجود شك في نفسه، فيما أعد الله له في الآخرة؛ لأنه إذا كان واثقاً في داخله يقيناً أنه سيدخل الجنة بلا حساب إنْ استشهد، ما تردد ثانية واحدة، ولا أدار الأمر في رأسه هل يذهب أو لا يذهب؟ فما دامت الجن هي الغاية، فأيُّ طريق مُوصل إليها يكون هو الطريق الذي يتبعه مَنْ في قلبه يقين الإيمان، وكلما كان الطريق أقصر كان ذلك أدعى إلى فرح الإنسان المؤمن؛ لأنه يريد أن ينتقل من شقاء الدنيا إلى نعيم الآخرة، وحتى لو كان يحيا في نعيم في الدنيا، فهو يعرف أنه نعيم زائل وهو لا يريد هذا النعيم الزائل، بل يريد النعيم الباقي الذي لا يزول. والتردد والاستئذان هنا معناهما: أن الشك قد دخل في قلب الإنسان، ومعنى الشك - كما نعلم - هو وجود أمرين متساويين في نفسك لا يرجح أحدهما حتى تتبعه. والنسب الكلامية والقضايا العقلية تدور بين أشياء متعددة، فأنت حين تجزم بحكم فلا بد أن يكون له واقع يؤيده؛ لأنك إن جزمتَ بشيء لا واقع له فهذا جهل، والجهل - كما نعلم - أن نعتقد أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5155 شيئاً ما هو حقيقة، وهو غير ذلك ولا واقع له. فإذا أنت على سبيل المثال قلت: إن الأرض مبسوطة، ثم جاءوا لك بصورة الأرض كروية وأصررت على أنها مبسوطة، فهذا جهل وإصرار عليه. وفرق بين الجاهل والأمي، فالأمي الذي لم يكن يعرف أن الأرض كروية، ثم علم حقيقة العلم وصدقها فهو مذ عرف الواقع صدقه وآمن به. ولكن الجاهل يؤمن بما يخالف الواقع. فإن جئت له بالحقيقة أخذ يجادل فيها مُصراً على رأيه. ولذلك نجد مصيبة الدنيا كلها ليست من الأميين، ولكن من الجهلة لأن الأمي يحتاج إلى مجهود فكري واحد، أن تنقل له المعلومة فيصدقها، أما الجاهل فإقناعه يقتضي مجهودين: الجهد الأول: أن تخرج ما في عقله من معلومات خاطئة، وأوهام ليست موجودة في الواقع، والجهد الثاني: أن تقنعه بالحقيقة. وإذا كان هناك واقع في الحياة تستطيع أن تدلل عليه فهذا هو العلم. فإن لم تستطع التدليل عليه فهذا هو التلقين، والمثال: أننا حين نُلقن الطفل الصغير أن الله أحد، وهو لم يبلغ السن التي تستطيع عقلياً أن تدلل له فيها على ذلك. ولكنك قلت له: إن الله أحد، وجزم بها الطفل، وهذه حقيقة واقعة، ولكنه لا يستطيع أن يدلل عليها. وهو في هذه الحالة يُقلد أباه أو أمه أو مَنْ لقنه هذا الكلام حتى ينضج عقله ويستطيع أن يدلل على ما اعتقده في صغره بالتلقين. إذن: فالعلم يقتضي أن تؤمن بقضية واقعية عليها دليل، ولكن إن كنت لم تصل إلى مرحلة الجزم؛ تكون في ذهنك نسبتان؛ وليست نسبة واحدة. فإن لم ترجع نسبة على الأخرى، فهذا هو الشك. وإن ظننتَ أنت أن إحداهما راجحة فهذا هو الظن، فإن أخذت بالنسبة غير الراجحة فهذا هو الوهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5156 الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} ولو استقر في قلوبهم الايمان اليقيني بالله واليوم الآخر، وأن مَردَّهم إلى الله سبحانه وتعالى، وأنهم سوف يحاسبون على ما قدموا، واعتبروا أن تضحيتهم بالمال والنفس عمل قليل بالنسبة للجزاء الكبير الذي ينتظرهم في الآخرة، لو كان الأمر كذلك لنا استأذنوا، ولكن ما دام الشك قد دخل قلوبهم فمعنى هذا أن هناك ريبة في أمر ملاقات الله في اليوم الآخر. وهل هذا الأمر حقيقة يقينية؟ ولأنهم يرتابون في هذه المسألة فهل يضحون بأموالهم وأنفسهم من أجل لا شيء، ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى: {وارتابت قُلُوبُهُمْ} . إذن: فالارتياب محله القلب، والعلم أيضاً محله القلب، ويمر كل من الارتياب والعلم علىلعقل؛ لأن العقل هو الذي يُصفَّى مثل تلك المسائل بعد أن يستقبل المحسَّات ويناقش المقدمات والنتائج، فإن صفَّى العقل هذه الأمور واستقر على الإيمان، هنا يصبح الإيمان قضية يقينية ثابتة مستقرة في القلب، ولا تطفو مرة أخرى إلى العقل لتُناقَش من جديد، ولذلك سمَّوْها عقيدة، أي عقدت الشيء حتى يستقر في مكانه ولا يتزحزح. إن الطفل - مثلاً - إنْ قرَّب يده إلى شيء مشتعل فأحس بلسعة النار. هنا يعرف أن النار محرقة ولا يحاول تكرار نفس التجربة، ولا يناقشها في عقله ليقول: لن تلسعني النار في هذه المرة، بل تستقر في ذهنه المسألة، وتنتقل من قضية حسية إلى قضية عقدية لا تخضع للتجربة من جديد ولا يحتاج فيها إلى دليل. وهنا يقول الحق سبحانه: {وارتابت قُلُوبُهُمْ} ، وفي آية أخرى يقول سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5157 {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} والقلب هو محل القضايا التي انتهت من مرحلة التفكير العقلي، وصارت قضايا ثابتة لا يبحثها العقل من جديد. وقوله هنا: {وارتابت قُلُوبُهُمْ} معناه: أن الإيمان عندهم لم يصل إلى المرتبة التي لا يطفو فيها مرة أخرى للتفكير العقلي. . أيؤمن أو لا؟ ، أي: لم يصل إلى مرتبة اليقين، بل ما زال في مرحلة الشك الذي يعيد القضايا من القلب إلى العقل لمناقشتها من جديد، ولذلك يصفهم الحق سبحانه وصفاً دقيقاً فيقول: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي: أن الإيمان عندهم يتردد بين العقل والقلب، فينزل إلى القلب ثم يطفو إلى العقل ليُناقَشَ من جديد، ثم ينزل إلى القلب مرة أخرى، وهكذا يتردد الأمر بين العقل والقلب، ولا يستقر في مكان، وهم بذلك على غير يقين من الآخرة، وما أعدَّ الله لهم فيها من جزاء. ويشكُّون في لقاء الله في اليوم الآخر. ويدور كل ذلك في نفوسهم، ولكنه لا يصل إلى مرتبة اليقين. ويريد الله سبحانه وتعالى أن يوضح لنا الصورة أكثر فيقول: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ. .} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5158 ففي ترددهم دلالة على أنهم لا يريدون الخروج للجهاد؛ ولو كانوا عازمين بالفعل على ذلك لأعدوا ما يلزمهم للحرب من الزاد الراحلة والسلاح، ولكنهم لم يفعلوا شيئاً من هذا قط؛ لأنهم افتقدوا النية الصادقة للجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5158 ولقائل أن يقول: ألم يكن من الجائز أن يعدوا كل شيء للقتال في آخر لحظة؟ نقول: لا، فالذاهب إلى القتال لا يمكن أن يستعد في آخر لحظة. بل لا بد أن يشغل نفسه بمقدمات الحرب من سلاح وزاد وراحلة وغير ذلك، ولو لم يشغل نفسه بهذه المسائل قبل الخروج بفترة وتأكد من صلاحية سلحه للقتال؛ ووجود الطعام الذي سيحمله معه؛ وغير ذلك، لما استطاع أن يخرج مقاتلاً. فليست المسألة بنت اللحظة. بل كان عدم استعدادهم للقتال يُعَدُّ كشفاً للخميرة المبيَّتة في أعماقهم بألا يخرجوا، وسبحانه قد اطلع علة نواياهم، وما تُخْفى صدورهم، وقد جازاهم بما أخفوا في أنفسهم. لذلك يقول: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} وسبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل الخلق هم الذين في احتياج دائم إليه سبحانه؛ لذلك ثبط هؤلاء عن الخروج، وكره سبحانه خروجهم للقتال، و «ثبطهم» أي جعلهم في مكانهم، ولم يقبل منهم أن يعدوا العدة للقتال كراهية منه سبحانه أن يخرجوا بنشاط إلى القتال. والكره: عملية وجدانية. والتثبيط: عملية نزوعية. وأضرب هذا المثل دائماً - ولله المثل الأعلى - أنت ترى الوردة، فتدرك بعينيك جمالها، فإنْ مددتَ يدك إليها لتقطفها، هنا يتدخل الشرع ليقول لك: لا؛ لأن هذا نزوع إلى ما لا تملك. وإن أردت أن تحوز وردة مثلها، فإما أن تشتريها وإما أن تزرع مثلها، إذن: فالمشرع يتدخل - فقط - في الأعمال النزوعية. وكراهية الله لنزوعهم تجلَّتْ في تثبيطهم وخذلهم وردِّهم عن الفعل، وزيَّن لهم في نفوسهم ألا يخرجوا للقتال مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5159 لحكمة أرادها الحق سبحانه، فوافقت ما أذن فيه رسول الله في التخلف، وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} وإذا كان التثبيط من الله، فكأنه أوضح لهم: اقعدوا بإذن الله من الإرادة الإلهية. أو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أذن لهم بالقعود والتخلف لمّا استشفَّ تراخيهم، أو أن الشياطين أوحتْ لهم بالقعود، فالحق هو القائل سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} [الأنعام: 112] . وهكذا نجد أن كلمة: {قِيلَ} قد بُنيتْ لما يُسَمَّ فاعله لإمكان أن يتعدد القائلون، فالله بتثبيطه لهم كأنه قال لهم: اقعدوا، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم: اقعدوا، والشياطين حينما زينوا لهم القعود؛ كأنهم قالوا لهم: اقعدوا. وقولهم بعضهم لبعض زيَّن لهم القعود، وهكذا أعطتنا كلمة واحدة عطاءات متعددة. وهل ينفي عطاءٌ عطاءً؟ . لا، بل كلها عطاءات تتناسب مع الموقف. {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} والمقصود بالقاعدين هنا: هم الذين لا يجب عليهم الجهاد من النساء والأطفال والعجائز. فكأنهم قد تخلوا بعدم خروجهم عن رجولتهم التي تفرض عليهم الجهاد. وهذه مسألة ما كان يصح أن يرتضوها لأنفسهم. وفي موقع آخر من نفس السورة قال الحق سبحانه: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 87] . وقد كانت الرجولة تفترض فيهم أن يهبوا للقتال، لكنهم ارتضوا لأنفسهم، ضعف النساء والأطفال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5160 ونجد الشاعر العربي عندما أراد أن يستنفر أفراد قبيلته الذين تكاسلوا عن القتال معه، فقال: وَمَا أدْرِي ولسْتُ إخَالُ أدْري ... أقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ والقوم تُطلَقُ على الرجال دون النساء. ثم يبين لنا الحق حكمة التثبيط، فإن كان قعودهم من جانب الخير، فتثبيط الله لهم حكمة، وإذن الرسول لهم بعدم الخروج حكمة. وإن كانت مسألة قعودهم من وسوسة الشياطين لهم أو وسوسة النفوس، فقد خدمت وسوسة الشياطين ووسوسة النفوس قضية الإيمان، وأعانوا على مراد الله، وهذا هو الغباء الكفرى، فزينت الوسوسة لهؤلاء المنافقين عدم الخروج للجهاد في سبيل الله؛ لأنهم لو خرجوا لحدث منهم ما قاله الحق سبحانه وتعالى فيهم: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً. .} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5161 والخبال مرض عقلي ينشأ معه اختلال موازين الفكر، فتقول: فلان مخبول، أي: أنه يحكم في القضايا بدون عقل، إذن فقوله تعالى: {مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} أي: أنهم لن يكونوا إلا مصدراً لبلبلة الأفكار لو خرجوا معكم للقتال، فلا تستطيعون اتخاذ القرار السليم. فكأنهم عين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5161 عليكم، وضدكم وليسوا معكم، وقد يكونون من عوامل الهزيمة التي لم يُرِدْهَا الله لكم، وليسوا من عوامل النصر، فكأن عدم خروجهم هو دفع لشَر، كان سيقع لو أنهم خرجوا معكم. وشاء الحق عدم خروجهم حفاظاً على قوة المؤمنين وقدرتهم على الجهاد. وقوله تعالى: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} أي: أنهم كانوا سيُحْدثون فُرْقة بين صفوف المؤمنين ويُفرِّقونهم، وسيتغلغلون بينهم للإفسَاد؛ لأن الخلال هو الفُرْجة بين الشيئين أو الشخصين، فيدخل واحد منهم بين فريق من المؤمنين فيفسد، وآخر يفسد فريقاً آخر، وهكذا يمشون خلال المؤمنين ليفرقوا بينهم. ولكن التساؤل: هل كانوا سيخرجون معهم أو فيهم؟ هم كانوا سيدخلون في الفُرج بين المؤمنين ليبلبلوا أفكارهم. ونقول: إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وعندما تسمع كلمة «فيكُم» اعلم أنها تغلغل ظرف ومظروف؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالَى في موضع آخر من القرآن ما يوضح لنا الظرف والمطروف، قال الحق: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] . هل كان فرعون سيصلب السحرة في داخل الجذوع أم على الجذوع؟ وإن كان أهل اللغة قد قالوا: إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض. فإننا لا نرضى هذا الجواب؛ لأننا إن رضيناه في أساليب البشر، لا يمكن أن نقبله في أساليب كلام الله؛ لأن هناك معنى «في» الظرفية؛ ومعنى آخر في استخدام حرف «على» . ولو قال الحق سبحانه وتعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} معناه: أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5162 عملية الصَّلْب ستتم بقوة بحيث تدخل أجزاء من جسم المصلوب في المصلوب فيه، أي: أن جنود فرعون كانوا سَيَدقُّون على أجساد السحرة حتى تدخل في جذوع النخل، وتصبح هذه الأجساد وجذوع النخل وكأنها قطعو واحدة، هذه صورة لقسوة الصلب وقوته. لكن إذا قلنا: على جذوع النخل لكان المعنى أخفَّ، ولكان الصَّلْب أقل قسوة، فكأن القرآن الكريم قد استعمل ما يعطينا دقة المعنى. بحيث إذا تغيَّر حرف اختل المعنى. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول في موضع آخر من القرآن الكريم: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 113] . أي: أن سرعتنا في العمل الصالح تنتهي بنا إلى المغفرة، إذن: فنحن قبل أن نسرع إلى الصالح من الأعمال لم نكن في المغفرة، وعندما نسارع نصل إليها. ثم نجد قول الحق سبحانه وتعالى أيضاً: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} [الأنبياء: 90] ولم يقل: يسارعون إلى الخيرات؛ لأن عملهم الآن خير، وهم سيسارعون فيه؛ أي سيزيدونه؛ إذن: إنْ سارعتَ إلى شيء كأنه لم يكن في بالك، ولكنك ستسرع إليه، ولكن سارعتَ في الخير، فكأنك في الخير أولاً ثم تزيد في فعل الخير. وإذا تدبرنا قول الحق سبحانه: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} نجد أن «أوضع» تعنى: أسرع بدرجة بين الإبطاء والسرعة، فيقال: «أوضعت الدابة؛ أي مشتْ بخُطىً غير بطيئة وغير سريعة في نفس الوقت، ولو نظرتَ إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5163 حالة هؤلاء المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للقتال، لرأيتهم وهو يزينون لهم الفساد، ويعملون على أن تصاب عقول المقاتلين بالخبل، ولوجدتَ أن هذا الأمر يتطلب آخر البطء وأول السرعة في الحركة، كانوا يحتاجون إلى البطء؛ لأنهم كانوا سيهمسون في آذان المؤمنين بتزيين الباطل وهذا يقتضى بُطئاً، ثم ينتقل الواحد منهم إلى مؤمن ثان ليقوم معه بنفس العملية، ولا بد أن يسرع إلى التواجد بجانب المؤمن الآخر. إذن: فالحركة هنا تحتاج إلى البطء في الوسوسة؛ وسرعة في الانتقال من مؤمن لآخر. وهذا أدقُّ وصف ينطبق على ما كان سيحدث. ولكن ما هدف هؤلاء المنافقين من أن يضعوا الخبل في عقول المؤمنين؟ ويُفرِّقوهم جماعات؟ الهدف: أن ينالوا من وحدتهم وقوتهم، ويقول الحق سبحانه وتعالى: {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} أي: يطلبون لكم الفتنة؛ لأن الإنسان الشرير حين يرى خيراً يقوم به غيره، يجد الملكات الإيمانية في أعماقه تصيبه بنوع من احتقار النفس، فيحاول التقليل من شأن فاعل الخير بأن يسخر مما يفعله أو أن يستهزئ به، وهذا أوضح ما يكون في مجالس الخمر، حين يحس الجالسون في هذه المجالس بالذنب الشديد؛ إن وُجِدَ بينهم إنسان لا يشرب الخمر، فتجدهم يحاولون أن يُغْروه بكل طريقه؛ لكي يرتكب نفس الإثم، فإذا رفض أخذوا يُعيِّرونه ويستهزئون به، ويسخرون منه، ويدَّعون أنه لم يبلغ مبلغ الرجال، وغير ذلك من أساليب السخرية. وأيضاً تجذ الكذاب يحاول دفع الناس إلى الكذب، والسارق يغري الناس بالسرقة، والمرتشي يحاول نشرة الرشوة بين جميع زملائه، فإذا وُجِدَ إنسان نزيه وسط هؤلاء الذين يرتكبون هذه الألوان من السلوك السيء؛ فهم يضطهدونه ويسخرون منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5164 والمثال: حين يقوم إنسان للصلاة بين عدد من تاركي الصلاة، تجدهم يحاولون السخرية منه، فهذا يقول له: خذني على جناحك، وهذا يقول له مستهزئاً: يجعلنا الله من بركاتك. ويُبيِّن لنا القرآن الكريم هذه القضية ليعطينا المناعة الإيمانية فيقول: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 29 - 36] وهذه الآيات تعطينا صورة لما يحدث عندما يعمُّ الفساد في الأرض، فالذين سخروا من المؤمنين يضحكون ضحكات ستزول حَتْماً طال الوقت أو قَصُر يتبعها عذاب في الآخرة، أما أهل الإيمان فهم يخشون الله في الدنيا؛ فيثيبهم الله في الآخرة، ويضحكون ضحكة خالدة مستمرة. إذن: فقوله تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} أي: إنهم من فَرْط حقدهم عليكم وعلى أيمانكم، يحاولون أن يفتنوكم في دينكم حتى تنزلوا إلى مستواهم، تماماً كأنماط السلوك التي بيَّناها من قبل. ثم يبيِّن الحق سبحانه وتعالى أن الصف الإيماني لن يكون في مَنَعة مما كان سيفعله هؤلاء المنافقون، فصحيح أنهم لم يخرجوا مع المؤمنين، ولكن هناك بين المؤمنين من كان يستمع لهم، ويقول الحق تبارك وتعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين} وسمعتُ لفلان، أي: سمعتْ أذني ما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5165 قاله، وسمعت من فلان، أي: لصالح شخص آخر، أي: من يستمع منهم أو من يستمع أخباركم فهو ينقلها إليهم. إذن: فاللام تأتي بالمعنيين، فمن المؤمنين من كان سيسمع لهؤلاء المنافقين إليهم أخبار المؤمنين ويعملون لحسابهم، وهناك من المؤمنين مَنْ سيسمع لهم أولاً، فإذا أصيبوا بالخبل بدأوا في نقل أخبار المؤمنين إليهم، وهكذا جاءت «اللام» فاصلة بين «سمعت له» أو «سمعت من غيره لصالحه» ويزيد الله سبحانه هذا الأمر إيضاحاً في قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105] فنجد السطحي التفكير يقول: إن هذا تحذير من مخاصمة الخائنين؛ خوفاً من ألاَّ يقدر عليهم، أو أن يزدادوا في إثمهم بسبب هذه الخصومة. ونقول: إنك لم تفهم المعنى، فالمعنى الواضح هو: لا تكُنْ لصالح الخائنين خصيماً، أي: لا تترافع عن الخائنين أو تدافع عنهم. وقوله تعالى {والله عَلِيمٌ بالظالمين} لأن الذي كان سيسمع، والذين سيسمع لصالحهم؛ كلاهما ظالم والله عليم بهم. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {لَقَدِ ابتغوا الفتنة. .} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5166 والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُذكِّر المؤمنين بالوقائع السابقة التي ارتكبها المنافقون والكفار تجاه الإسلام والمسلمين من: مؤامرات على الإسلام، ومحاولات للإيقاع بين المسلمين؛ والتآمر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقوله تعالى: {ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ} له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دليل على تلك الوقائع السابقة. أما قوله تعالى {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} . فالتقليب: هو جعل أسفل الشيء عاليه، وعاليه أسفله؛ حتى لا يستتر منه شيء. وهذا مظهر الفاكهة مُنْتقىً بعناية، فإذا اشتريتَ منه ملأ لك الكيس من الصنف الرديء الذي أخفاه أسفل القفص. وهكذا يأتي لك بالأسفل أو بالشيء الرديء المكشوف عورته. والذي لا يمكن أن تشتريه لو رأيته ويضعه لك. وهكذا يفعل المنافقون حين يُقلِّبون الأمر على الوجوه المختلفة حتى يصادفوا ما يعطيهم أكبر الشر للمؤمنين دون أن يصابوا هم بشيء. والمثال الواضح: عندما تآمرت قريش على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجاءوا من كل قبيلة بشاب ليضربوه ضرب رجل واحد ليضيع دمه بين القبائل. لكن الحق سبحانه يأتي إلى كل هذه الفتن ويجعلها لصالح المؤمنين، ولذلك يقول جل جلاله: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5167 {حتى جَآءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُونَ} فالتآمر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومحاولة قتله جعل الأمور تؤدي إلى هجرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة وخروجه منها مما جعله الله سبحانه وتعالى سبباً في إظهار الحق وانتشار الإسلام؛ لأن الله لا يرسل رسولاً ثم يخذله، فما دام قد أرسل رسولاً فلا بد أن ينصره، فأريحوا أنفسكم، ولا تبغوا الفتنة؛ لأن السابق من الفتن انقلب عليكم وأدَّى إلى خير كثير للمؤمنين. وفي هذا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173] وقوله تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} وهو قضية كونية عقدية، فإذا رأيتَ قوماً مؤمنين التحموا بقتال قَوم كافرين وانهزموا، فاعلم أنهم ليسوا من جنود الله حقّا، وأن شرطاً من شروط الجندية لله قد اختل. ولذلك علينا أن نحاسب أنفسنا أولاً. فمثلاً في غزو أُحد، عندما طلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الرماة ألا يتركوا أماكنهم فخالفوه، هنا اختل شرط من شروط الجندية لله وهو طاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فماذا كان يحدث للإسلام لو أن هؤلاء الرماة خالفوا رسول الله وانتصروا؟ لو حدث ذلك لَهانَتْ أوامر الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على المؤمنين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5168 ويوم حنين، حين اعتقد المؤمنون أنهم سينتصرون بكثرتهم وليس بإيمانهم، وكانت النتيجة أن أصيبوا بهزيمة قاسية أول المعركة؛ لتكون لهم درساً إيمانياً. ولذلك رأيت إيماناً انهزم أمام كفر، فاعلم أن شرطاً من شروط الجندية الإيمانية قد اختل. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران: 146 - 147] إذن: فأول شيء فعله هؤلاء المقاتلون؛ أنهم عرفوا أن الذنوب يمكن أن تأتي إليهم بالهزيمة، فاستغفروا الله وتابوا إليه وحاربوا فنصرهم الله، وإذا حدث لهم ولم ينتصر المؤمنون؛ فمعنى هذا أن هناك خللاً في إيمانهم؛ لأن الله لا يترك قضية قرآنية لتأتي حادثة كونية فتكذبها. يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5169 هؤلاء هم الذين استأذنوا رسول الله في عدم الخروج للجهاد، ومنهم من قال هذه العبارة: لا تفتنني بعدم إعطاء الإذن، ولكن ما موضوع الفتنة؟ هل هو عذاب، أم سوء، أم شرك وكفر - والعياذ بالله -؟ إن كل ذلك - وغيره - تجوز فيه الفتنة. والقول: {ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} ظاهره أنه أمر، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5169 ولكنه هنا ليس أمراً؛ لأن الأمر إذا جاء من الأدنى للأعلى فلا يقال إنه أمر، بل هو دعاة أو رجاء، وإن جاء من المساوى يقال: «مساو له» ، أما إن جاء من الأعلى إلى الأدنى؛ فهذا هو ما يقال له أمر، وكلها طلب للفعل. وكان الجد بن قيس - وهو من الأنصار - قد جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: ائذن لي ولا تفتني؛ لأن رسول الله إن لم يأذن له فسيقع في فتنة مخالفة أوامر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: إن هذا الأنصاري لم يكن له جَلَدٌ على الحرب وشدائدها. وقيل: إنه كان على وَلَع بحب النساء وسمع عن جمال بنات الروم، وخشي أن يُفتنَ بِهنَّ، خصوصاً أن المعركة ستدور على أرض الروم. ومن المتوقع أن يحصل المقاتلون على سبايا من بنات الروم. وقوله تعالى: {ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} أوقعه في الفتنة فعلاً؛ لذاك جاء قول الحق: {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} . وكان هذا الأنصاري سميناً، وشكا من عدم قدرته على السفر الطويل والحر، فجاء الرد: إن كنتم من الحر والبرد تفرُّون فالنار أحقُّ بالفرار منها؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} . وفي آية أخرى قال سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5170 {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} إذن: فجحيم النار أِد قسوة وحرارة من نار القتار، وحر الدنيا مهما اشتد أهون بكثير من نار الآخرة وهي تحيط بالكافرين. ويقول الحق بعد ذلك: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5171 وما يزال الحديث عن المنافقين، فبعد أن بيَّن الحق سبحانه وتعالى كيف حاول المنافقون الهروب من الحرب لأسباب وأعذار مختلقة، أراد سبحانه وتعالى أن يزيد الصورة توضيحياً في إظهار الكراهية التي تخفيها قلوب المنافقين بالنسبة للمؤمنين. وهنا يقول سبحانه: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} والمقصود بالحسنة هنا هيك الانتصار في الحرب، والنصر في الحرب هو من وجهة نظر المنافقين ينحصر في حصول المؤمنين على الغنائم، وهذه مسألة تسوء المنافقين وتحزنهم؛ لأن الهمّ الأول للمنافقين هو الدنيا، وهم يريدون الحصول على أكبر نصيب منها. وبما أنهم لم يخرجوا للجهاد والتمسوا الأعذار غير الصحيحة للهروب من الحرب؛ لذلك فهم يحزنون إذا انتصر المؤمنون؛ لأنهم حينئذ لن يكون لهم حق في الغنائم. وفي هذه الحالة يقولون: يا ليتنا كنا معهم؛ إذن لأصبْنَا الغنائم وأخذنا منها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5171 أما إذا كانت الدائرة قد دارت على المسلمين وهُزِموا في الحرب؛ فهذه سيئة بالنسبة لكل مؤمن، ولكن المنافقون يعتبرون الهزيمة لأهل الإيمان حسنة، وسيقولون لأنفسهم: لقد كنا أكثر رجاجةً في الفكر واحتطْنا للأمر، ولم نخرج معهم ولذلك نجونا مما أصابهم. والمصيبة في الحرب تكون في: الأرواح، والرجال والمال، والعتاد بالإضافة إلى مرارة الهزيمة. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} وكأنهم قد احتاطوا قبل أن يبدأ القتال فلم يخرجوا، وهم كمنافقين يمكن أن يفرحوا؟ إنْ أصابت المسلمين كارثة أو مصيبة، وهي هنا الهزيمة في الحرب. وسيقولون: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} أي: قاموا بالاحتياط فلم يخرجوا للقتال، بينما لم يحتَطْ محمد وصَحْبُه وجيشه. ثم يديرون ظهورهم ليُخْفُوا فرحتهم. وحين يقول الحق: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} يوضح لنا أن أي نصر للإيمان يحزن المنافقين في نفوسهم، ويصير هذا القول قرآناً يُتلى ويُتعبد به ويسمعونه بآذانهم، بالله لو لم تُحزنهم الحسنة التي ينالها المنافقين في نفوسهم، ويصير هذا القول قرآناً يُتلى ويُتعبد به ويسمعونه بآذانهم، بالله لو لم تُحزنهم الحسنة التي ينالها المؤمنون، ألم يكن ذلك دافعاً لأن يقولوا: نحن لم نفرح ولم نحزن؟ بالله حين يفاجئهم القرآن بالكشف عن خبايا نفوسهم بالقرآن؛ ألم يكن ذلك داعياً لهدايتهم؟ لقد عرف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغيب الذي في قلوبهم وفضح ضمائرهم وسرائرهم بعد أن أطلعه الحق على ذلك. ومع هذا أضمروا النفاق في قلوبهم وانتظروا مَسَاءةً تَحل بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحبه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5172 ويرد الحق سبحانه وتعالى عليهم: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5173 {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} الحديث هنا عما يصيب الإنسان أو ما يحدث له، فإن حدث للإنسان شيء يأتي منه خير، يكون بالنسبة له حسنة؛ وإن أتى منه شر يكون من وجهة نظره سيئة، إذن فالإصابة هي التقاء هدف بغاية، إذا تحقق الهدف وجاء بخير فهو حسنة، وإن جاء بِشَرٍّ فهو سيئة. والمصائب نوعان: مصيبة للنفس فيها غريم، ومصيبة ليس فيهاغريم، فإن اعتدى عليّ واحد بالضرب مثلاً يصبح غريمي، وتتولد في قلبي حفيظة عليه، وغيظ منه، وأرغب في أن أرد عليه وأثأر لنفسي منه، ولكن إن مرضت مثلاً فمن هو غريمي في المرض؟ لا أحد. إذن: فالمصائب نوعان؛ نوع لي فيه غريم، ونوع لا يوجد لي غريم يمتلئ قلبي عليه بالحقد، ويرغِّبنا الحق سبحانه وتعالى في عدم الحقد والعفو عن مثل هذا الغريم، فيقول: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] وهنا ثلاث مراحل: الأولى كظم الغيظ، والثانية هي العفو، والثالثة هي أن تحسن؛ فترتقي إلى مقام من يحبهم الله وهم المحسنون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5173 وكذلك يقول الحق: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] أي: من صبر على ما أصابه، وغفر لغريمه وعدوه، فالصبر والمغفرة من الأمور التي تحتاج إلى عزم وقوة حتى يطوّع الإنسان نفسه على العفو وعدم الانتقام. أما المصائب التي ليس للإنسان فيها غريم فهي لا تحتاج إلى ذلك الجهد من النفس، وإنما تحتاج إلى صبر فقط، إذ لا حيلة للإنسان فيها. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا اللون من المصائب: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] لأن العزم المطلوب هنا أقل، ولذلك لم تستخدم «لام التوكيد» التي جاءت في قوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] ولا بد أن نلتفت إلى قول الحق سبحانه عن المشاعر البشرية حين قال: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] هذه الآية الكريمة تمثل مراحل ما يحدث في النفس، فالمطلوب أولاً أن يكظم الإنسان غيظه، أي أن الغيظ موجود في القلب، ويتجدد كلما رأى الإنسان غريمه أمامه، ويحتاج هذا من الإنسان أن يكظم غيظه كلما رآه، ثم يرتقي المؤمن في انفعاله الإيماني، فيأتي العفو، وهذه مرحلة ثانية وهي أن يُخرجَ الغيظ من قلبه، ويحل بدلاً منه العفو. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5174 ثم تأتي المرحلة الثالثة: {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] أي: أن هذا إحسان يحبه الله ويجزي عليه، وهو أن تحسن لمن أساء إليك، فتنال حب الله، وهذا من كمال الإيمان؛ لأن العبيد كلهم عيال الله، واضرب لنفسك المثل - ولله المثل الأعلى - هَبْ أنك دخلت البيت، ووجدت أحد أولادك قد ضرب الثاني، فمع من يكون قلبك وأنت رب البيت؟ لا بد أن يكون قلبك مع المضروب، لذلك تُربِّتُ على كتفه وتصالحه، وقد تعطيه مالاً أو تشتري له شيئاً لترضيه، أي أنك تحسن إليه. وما دمنا كلنا عيال الله، فإن اجترأ عبد على عبد فظلمه فالله يقف في صف المظلوم. إذن فمن أساء إليك إنما يجعل الله إلى جانبك. أفلا يستحق في هذه الحالة أن ترد له هذه التحية بالإحسان إليه؟ إن الولد الظالم يرى أخاه المظلوم وقد انتفع بعطف أبيه، وقد يحصل الابن المظلوم على شيء يريده، والظالم في هذه الحالة إنما يحلم أن يكون هو الذي حدث عليه الاعتداء ليحصل على بعض من الخير. والحق هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوصينا حين تأتي المصائب أن نرد على الكافرين ونقول: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} وهكذا تُرَدُّ المسائل كلها إلى حكمة خالق الكون ومُدبِّر أمره؛ فقد يحدث لي شيء أكرهه؛ ولكنه في حقيقة الأمر يكون لصالحي، فإن ضربني أبي لأنني أهمل مذاكرتي، أيكون ذلك عقاباً لي أم لصالحي؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5175 إن أنت نظرت إلى المستقبل والنجاح الذي سوف تحققه في الحياة إن ذاكرت، فهذا العقاب لصالحك وليس ضدك، وكذلك لا بد أن نأخذ أحداث الله في كونه بالنسبة للمؤمنين، فإن هُزموا في معركة، فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى الخير في دينهم؛ وإلى أنهم لا بد أن يعرفوا أن النصر له أسباب وهم لم يأخذوا بها؛ فلهذا انهزموا. ولله المثل الأعلى، فنحن نجد الأستاذ - وهو يأخذ الكراسات من التلاميذ ليصحح لهم أخطاءهم - يعاقب المخطئ منهم، وفي هذا تربية للتلاميذ. إذن: إن رأيتم مصيبة قد نزلت بنا وظننتم أنها تسيئنا فاعلموا أننا نثق فيمن أجراها، وأنه أجراها لحكمة تأديبية لنا، وأن كل شيء مكتوب لنا لا علينا، الذي كتبه وهو الحق سبحانه وتعالى هو القائل: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي ... } [المجادلة: 21] إذن: فنحن نعلم بإيماننا أن كل ما يصيبنا من الله هو الخير، وأن هناك أحداثاً تتم للتأديب والتهذيب والتربية، لنسير على المنهج الصحيح فلا نخرج عنه، فالإنسان لا يربي إلا من يحب، أما من لا يحب فهو لا يهتم بتربيته، فما بالنا بحب الخالق لنا؟ إن الأب إن دخل البيت ووجد في فنائه عدداً من الأولاد يلعبون الورق؛ وبينهم ابنه، فهو ينفعل على الابن، ولكن إن دخل البيت ووجد أولاد الجيران يلعبون الورق فقد لا يلتفت إليهم، فإذا أصابت المسلمين ما يعتبره المنافقون والكافرون مصيبة يفرحون بها، فهذا من غبائهم؛ لأن كل ما كتبه الله هو لصالح المؤمنين به، إما أدباً وإما ثواباً وإما ارتقاءً في الحياة، ولذلك فهو خير، ومن هنا كانت الآية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5176 الكريمة {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} وما كتب الله للمؤمنين إنما هو في صالحهم. ثم يزيد الحق سبحانه وتعالى المعنى تأكيداً؛ فيقول سبحانه: {هُوَ مَوْلاَنَا} وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي يتولى أمور المؤمنين وهو ناصرهم، فالمولى الأعلى لا يسيء إلى مَنْ والاه، ثم يأتي الإيضاح كاملاً في قوله تعالى: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} ؛ لأن الله الذي آمنتَ به هو إله قادر حكيم، فإذا جرتْ عليك أمور فابحثها؛ إن كانت من فعل نفسك، هنا عليك أن تلوم نفسك، أما إن كانت من مجريات الله عليك، فلا بد أن تفهم أنها تحدث لحكمة. والحق سبحانه وتعالى قد يعطي الكافر مقومات حياته، ولكنه يعطي المؤمن مقومات حياته المادية والقيمية معاً. وبهذا المفهوم نعرف أنه إن أصابنا شيء نكرهه، فليس معنى ذلك أن الله تخلى عنا، ولكنه يريد أن يؤدبنا أو يلفتنا لأمر ما، فإنه لو لم يؤدبنا أو يلفتنا لكان قد تخلى عنا حقاً. والحق سبحانه وتعالى حين يخطئ المؤمن تجده سبحانه يلفته إلى خطئه، وفي هذه الحالة يعرف المؤمن أن الله لم يتركه؛ لذلك لا يقولن أحد: إن الله تخلى عنا، فهذا ضعف في الإيمان وبالتالي فإنه ضعف في التوكل. ولكن قل: إن الله حين يؤدبك فهو لا يتخلى عنك، فساعة تأتي المصيبة اعلم أنه لا يزال مولاك. وما دام مولاك يحاسبك على أي خطأ ويصوِّبه لك، فثِقْ به سبحانه وتوكل عليه. وعلى سبيل المثال: لنفترض أن إنساناً اتكل عليك في أمر من الأمور، ثم أخطأتَ أنت في هذا الأمر، لا بد أن يأتي لينبهك إلى ما أخطأت فيه ويقترح عليك وسيلة لإصلاح الخطأ، وفي هذه الحالة ستجد نفسك ممتلئة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5177 بالثقة في هذا الإنسان، فما بالنا بالله سبحانه وتعالى حين نتوكل عليه ويُصوِّب لنا كل أمر؟ ولكن إياكم أن تنقلوا التوكل من القلوب إلى الجوارح. ولذلك يقال: الجوارح تعمل والقلوب تتوكل. فأنت تحرث الأرض وتضع فيها البذور وترويها، وهذا من عمل الجوارح لا بد أن تؤديه، وبعد ذلك تتوكل على الله وتأمل في محصول وفير ينبته الزرع، فلا تأتي آفة أو ظاهرة جوية مثل مطر غزير أو ريح شديدة؛ فتضيع كل ما عملته، وبعد إتقانك لعملك يأتي دعاؤك لله سبحانه وتعالى أن يحفظ لك نتائج عملك. أما الذين لا يعملون بجوارحهم ويعلنون أنهم متوكلون على الله، فنقول لهم: أنتم كاذبون؛ لأن التوكل ليس من عمل الجوارح بل من عمل القلوب، فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل. لكن على مَنْ نتوكل؟ إنك حين تتوكل على الحي الذي لا يموت، فلن يضيع عملك، أما إن اتكلت على إنسان مثلك حتى وإن كان ذا قوة، فقد تنقلب قوته ضعفاً، وقد يُكْرِهُك أو يُذِلُّكَ، وقد تصيبه كارثة فيموت. ويُبلِّغ الحق سبحانه رسوله أن يرد على الذين يفرحون في مصائب المسلمين ليكشف لهم أن فرحهم بالمصيبة هو فرح أغبياء. فيأتي قوله الحق: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5178 وسبحانه وتعالى بهذه الآية إنما يرد على من يحزن إن أصابت الحسنة المؤمنين، ويفرح إن أصابتهم مصيبة، فيأتي قول الحق سبحانه ليوضح: إن كل ما يصيب المؤمنين هو لصالحهم. ولذلك قال: {لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} فلم يكتب سبحانه الأمور علينا، بل لنا، و «لنا» تفيد الملكية؛ إما: تأديباً وإما تكفيراً عن ذنوب، وإما اتجاهاً إلى الحق بعد زيغ الباطل، وكل ذلك لصالحنا. وجاء سبحانه بعد ذلك بالقول {فتربصوا} أي: تمهلوا وانتظروا وترقبوا نهايتنا ونهايتكم. أما نهايتكم فاستدامة عذاب في الدنيا وفي الآخرة. وأسباب العذاب مجتمعة لكم في الدنيا، وأسباب الخير ممتنعة عنكم في الآخرة، ونتيجة تربصنا لكم أن نرى السوء يصيبكم، وتربصكم لنا يجعلكم ترون الخير وهو يسعى إلينا، إذن فنتيجة المقارنة ستكون في صالحنا نحن. وبعد أن بيَّن الله ذلك يطرأ على خاطر المؤمن سؤال: ألا يصدر من هؤلاء الأقوام فعل خير؟ وألا يأتي إليهم أدنى خير؟ ونحن نعلم أن الحق سبحانه يجزي دائماً على أدنى خير. ونقول: إن الحق شاء أن يبين لنا بجسم مسألة الخيانة العظمى وهي الكفر والعياذ بالله، وبيَّن أن كل كافر بالله لا يُقبل منه أي عمل طيب؛ لأن الكفر يُحبطُ أيَّ عمل، وإن كان لعملهم خير يفيد الناس، فالحق يجازيهم مادياً في الدنيا، ولكن ليس لهم في الآخرة إلا النار، ويقول: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5179 {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً. .} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5180 إذن: فشرط تقبُّل الله لأي عمل إنما يأتي بعد الإيمان بالله، أما أن تعمل وليس في بالك الله، فخذ أجرك ممن كان في بالك وأنت تعمل. لذلك ضرب الله مثلاً بأعمال الذين كفروا في قوله تعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] ويعطينا الله سبحانه مثلاً آخر في قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18] ويقول الحق سبحانه وتعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] وهذا ما يشرح لنا ما استغلق على بعض العلماء فهمه في قول الحق: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5180 فقد تساءل بعض من العلماء: أيجزي الحق سبحانه هؤلاء الكفار في الآخرة أم في الدنيا؟ وقد استغلق عليهم الأمر لأن الآية عامة. ونقول: إن الحق يعطي في الدنيا الجزاء لمن عمل للدنيا، ويعطي في الآخرة لمن عمل للدنيا والآخرة وفي قلبه الله. ولذلك فالذين يحسنون اتخاذ الأسباب المخلوقة لله بمنح الربوبية ينجحون في حياتهم. والذين يتقدمون دنيوياً في زراعة الأرض وانتقاء البذور والعناية بما يعطيهم الله جزاء عملهم في الدنيا، ولا يبخس منه شيئاً؛ ولكن الحق سبحانه يقول أيضاً: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] هذا القول يوضح عطاء الآخرة، ولذلك فالخير الذي يعمله غير المؤمن لا يُجزى عليه في الآخرة؛ لأنه عَمِلَ وليس في باله الله، فكيف ينتظر جزاءه ممن لم يؤمن به؟ إن الله سبحانه يجزي مَنْ آمن به وعمل من أجله. ولكن من كفر بالله حبط كل عمله. وهذا أمر طبيعي؛ لأنك ما دُمْتَ قد عملت الخير وليس في بالك الله، فلا تنتظر جزاءً منه. إن عملتَ للإنسانية أعطتْك الإنسانية، وإن عملتَ للمجتمع أعطاك المجتمع وصنعوا لك التماثيل وأطلقوا اسمك على الميادين والشوارع، وأقيمت باسمك المؤسسات، وتحقق لك الخلود في الدنيا، وهذا هو جزاؤك. ولكن إن كنت مؤمناً بالله، راجياً ثوابه تجيء يوم القيامة لتجد يد الله ممدودة لك بالخير الذي قدمته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5181 والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} والطَّوْع: هو الفعل الذي تُقبل عليه بإرادتك دون أن تكون مكرهاً، فكيف لا تجازى على خير فعلته بإرادتك؟ ولا بد لنا أن نفرق بين «طوع» و «طائع» ، وكذلك نفرق بين هذا وبين الفعل الذي تقوم به حين يحملك غيرك ويُكرهك أن تفعله. والأفعال كلها إما أن تكون بالطواعية وبالإرادة، وإما أن تكون بالإكراه. ولو كان الحق قد قال: أنفقوا، طاعة لما قال: {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} ؛ لأن الطاعة معناها انصياع عابد لإرادة معبود، ولكن قوله هنا: {طَوْعاً} يكشف أن ما ينفقونه هو أمر اختياري من عندهم. وكانت أحوال المنافقين كذلك، فمنهم من قدم أولاده للجهاد، ومنهم من قدم بعضاً من ماله، وكانوا يفعلون ذلك طائعين لأنفسهم ويستترون بمثل هذه الأفعال حتى لا يفتضح نفاقهم، وكان الواحد يتقدم إلى الصف الأول من صفوف الصلاة في المسجد، ويفعل ذلك طوْعَ إرادته، خوفاً من افتضاح نفاقه لا طاعة لله، فطاعة الله هي طاعة عابد لمعبود، أما مثل تلك الأفعال حين تنبع من طوع النفس فهي للمظهر وليست للعبادة. {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} هل هذا أمر بالإنفاق؟ أو هل يريد منهم أن ينفقوا فعلاً، خاصة أنه سبحانه لن يتقبل منهم؟ لا ليس هذا أمراً بالإنفاق بل هو تهديد ووعيد. مثلما تقول لإنسان: اصبر، فذلك ليس أمراً بالصبر ولكن تهديد بمعنى: اصبر فَستَرى مني هولاً كثيراً. وهذا مثل قوله تعالى: {فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ. .} [الطور: 16] وقوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ. .} [فصلت: 40] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5182 أي: أنكم إن صبرتم أو لم تصبروا فإن ذلك لن يغير شيئاً من الجزاء الذي سوف تلاقونه، فالأمر سواء. ولو كان قوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} أمراً؛ لكان كل من عمل معصية داخلاً في الطاعة؛ لأن الله أمره أن يفعل ما يشاء. ولكن هذا أمر تمهيدي، أي: افعلوا ما شئتم فأنتم عائدون إلى الله وسيحاسبكم على ما عملتموه. ولن تستطيعوا الفرار من الله سبحانه. وقوله تعالى: {أَنفِقُواْ} هو - إذن - أمر تمهيدي؛ لأنه لن يجديكم أن تنفقوا طوعاً أو كرهاً. وكلمة {كَرْهاً} وردت في القرآن الكريم في أكثر من سورة، فهي في سورة آل عمران، وفي سورة النساء، وفي سورة التوبة، وفي سورة الأحقاف، وفي سورة الرعد، وفي سورة فصلت، قد ذكرت {كَرْهاً} بفتح الكاف وقرأها بعضهم بضم الكاف. وقال البعض: إن «كَرْهاً» بفتح الكاف و «كُرْهاً» بضم الكاف بمعنى واحد. نقول لهم: لا، إن المعنى ليس واحداً، فمثلاً قول الحق سبحانه وتعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ... } [الأحقاف: 15] فالكُره هنا ليس للحمل ولا للوضع، ولكن للمشقة التي تعانيها الحامل أثناء حملها وعند الولادة. فلم يكرهها أحد على هذا الحمل. ولكن البعض يقول: إن الحمل يحدث وليس للمرأة علاج في أن تحمل ولا أن تضع، فلا توجد امرأة تقول لنفسها: «سوف أحمل الليلة» ؛ لأن الحمل يحدث دون أن تَعيَ هي حدوثه، فالحمل يحدث باللقاء بين الرجل والمرأة. والمرأة لا تستطيع أن تختار ساعة الحمل ولا أن تختار ساعة الولادة، ولا تستطيع أن تقول: سألد اليوم أو لن ألد اليوم. فكل هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5183 يحدث إكراهاً بغير اختيار منها. ولذلك نقول لمن يقولون أن «كَرْهاً» بفتح الكاف و «كَرْهاً» بضم الكاف بمعنى واحد: لا؛ لأن «الكُرْه» بضم الكاف هو ما لا يريده الإنسان لأن فيه مشقة، و «الكَره» بفتح الكاف هو ما فيه إكراه من الغير. إذن ف «كَرْهاً» بفتح الكاف تختلف في معناها عن «كُرْهًا» بضم الكاف. الحق سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} أي: لن يقبل الله منكم ما تنفقونه. ولكن ما الفرق؟ لقد كان المنافقون يدفعون الزكاة ويقبلها الرسول منه ولم يرفضها أدباً منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكل عمل يؤدى ثم يذهب إلى الرقيب الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى. ولكن حدث أن واحداً من هؤلاء هو ثعبلة طلب من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدعو له بالغنى، فلما دعا له ورزقه الله الرزق الوفير بَخِل عن الزكاة، وحاول أن يتهرب من دفعها؛ فنزل القول الكريم: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5184 وعندما نزلت هذه الآيات جاء ثعلبة ليدفع الزكاة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يقبلها منه. وعندما توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء ثعلبة إلى أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فلم يقبل منه الزكاة. وبعد أبي جاء إلى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فلم يقبلها منه. ومات ثعبلة في عهد عثمان. هذا هو عدم القبول. ولكن هناك في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من دفع الزكاة من المنافقين وقُبلَتْ منه، ولكن الله لم يتقبلها منه. إذن: فكل عمل قد يُقبل من فاعله، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يتقبله أو قد لا يتقبله. إذن فالآية معناها: أنه الله لن يتقبل من هؤلاء المنافقين إنفاقهم في الخير ولو تقبله البشر. ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى السبب في ذلك فيقول: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} وكما قلنا: إن كلمة الفاسق مأخوذة من «فسقت الرُّطَبَة» أي انفصلت القشرة عن الثمرة. وقشرة البلح مخلوقة لتحفظ الثمر. وعلمنا أن المعاني في التكليف الشرعي قد أُخذت من الأمور الحسّية؛ ولهذا تجد أن الدين سياج يمنع الإنسان من أن يخرج على حدود الله ويحفظه من المعصية، والإنسان حين ينفصل عن الدين إنما يصبح كالثمرة التي انفصلت عن سياجها. فالذي يشرب الخمر أو يرتكب الجرائم أو الزنا يُعاقب على معصيته، أما إن كان الإنسان منافقاً بعيداً عن الإيمان بالله فطاعته لا تقبل. وهَبْ أن الإنسان مؤمن بالله ولكنه ضعيف أمام معصية ما، هنا نقول: لا شيء يجور على شيء، إن له ثوابَ إيمانه وعليه عقاب معصيته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5185 إذن: فالفسق في هذه الآية الكريمة ليس هو الخروج عن مطلق الطاعة. ولكنه فسق من نوع خاص؛ لأن هناك فسقاً محدوداً وهو أن يخرج الإنسان عن مجرد تكليف. ولكن الفسق الكبير هو أن يكفر الإنسان بالله. ولذلك جاءت الآية الكريمة التالية {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ. .} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5186 إذن: فالفسق نوعان: فسق خاص. وقد يقول البعض: إنك إن ارتكبت معصية فصلاتك وزكاتك وكل عباداتك لا تنفعك. ونقول: لا فما دامت القمة سليمة؛ إيماناً بالله وإيماناً بالرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وتصديقاً بالمنهج، فلكل عمل عبادي ثوابه، ولكل ذنب عقابه؛ لأن الحق سبحانه مطلق العدالة والرحمة، ولا يمكن أن يضع كل الشرور في ميزان الإنسان. فمن كان عنده خصلة من خير فسوف يأخذ جائزتها وثوابها، ومن كان عنده خصلة من شر فسوف ينال عقابها. وقوله الحق هنا {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} ، هذا القول الكريم هو حيثية للحكم بعدم قبول نفقاتهم، وفي هذا تحديد لعموم الفسق وهو الكفر، لا في خصوص الفسق، وحدد الحق ثلاث أشياء منعت التقبل منهم: الكفر بالله ورسوله وهو كفر القمة، ثم قيامهم إلى الصلاة وهم كسالى، ثم الإنفاق بكراهية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5186 ونفهم المنع على أنه رَدُّ الفعل إلى ما ينقض العمل أو ينافيه؛ كأن يريد إنسان القيام فتُعده، أي أنك رددت إرادة القيام إلى القعود، وهو ما ينافيه، أو أن يحاول إنسان ضرب آخر فتمنع يده، فتكون بذلك قد منعت غيره من أن يعتدى عليه. إذن فالمنع مرة يأتي للفاعل ومرة للمفعول. فأنت حين تمنع زيداً من الضرب تكون قد منعت الفاعل، وحين تمنع عنه الضرب تكون قد منعت المفعول، وكل فلسفة الحياة قائمة على المنع، الذي يوجزه الفعل ورد الفعل، تجد ذلك في الإنسان وفي الزمان وفي المكان. وإذا بحثت هذه المسألة في الإنسان تجد أن حياته تقوم على التنفس والطعام والشراب، والتنفس هو الأمر الذي لا يصبر الإنسان على التوقف عنه، فإن لم تأخذ الشهيق انتهت حياتك، وإن كتمت الزفير انتهت حياتك. وإذا منعت الهواء من الدخول إلى الرئتين يموت الإنسان، وإذا منعت خروج الهواء من الرئتين يموت الإنسان أيضاً. وحركة العالم كله مبنية على الفعل وما يناقضه. فإذا حاول إنسان أن يضرب شخصاً آخر وأمسكتَ يده، وقلت له: سيأتي أبناؤه أو إخوته أو عائلته ويضربونك، حينئذ يمتنع عن الفعل خوفاً من رد الفعل. والعالم كله لا يمكن أن يعيش في سلام إلا إذا كان هناك خوف من رد الفعل؛ القوى يواجه قوياً، والكل خائف من رَدِّ فعل اعتدائه على الآخر. ولكن إذا واجه قوى ضعيفاً، تجد القوى يفتك بالضعيف. وهكذا العالم كله، فالكون إما ساكن وإما متحرك. وتجد الكون المتحرك فيه قوى متوازية تعيش في سلام خوفاً من رد الفعل. وكذلك تجد العالم الساكن؛ فالعمارة الشاهقة تستمد ثباتها وسكونها من أن الهواء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5187 لا يأتي من جهة واحدة، ولكن من جهات متعددة تجعل الضغط متوازناً على كل أجناب العمارة، ولكن لو فرَّغْتَ الهواء من ناحية وجعلته يهب من ناحية أخرى لتحطمت العمارة، تماماً كما تُفزِّغُ الهواء من إناء مغلق فيتحطم. وقول الحق سبحانه وتعالى: {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} لا يعني أن ألسنتهم لم تنطق بالشهادة، لا، فقد شهد المنافقون قولاً، ولكن هناك فرق بين قولة اللسان وتصديق الجنان؛ فالإيمان محله القلب، والمنافقون جمعوا بين لسان يشهد وقلب ينكر، فأعطاهم الرسول حق شهادة اللسان، فلم يتعرض لهم ولم يأسرهم ولم يقتلهم، وأعطاهم نفس الحقوق المادية المساوية لحقوق المؤمنين، وكل ذلك احتراماً لكلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» التي نطقوا بها؛ ولأن باطنهم قبيح، فالحق سبحانه يجازيهم بمثل ما في باطنهم، ويعاقبهم، فلا يأخذون ثواباً على ما يفعلونه ظاهراً وينكرونه باطناً. وهكذا كان التعامل معهم منطقياً ومناسباً. فما داموا قد أعطوا ظاهراً، فقد أعطاهم الله حقوقاً ظاهرة؛ ولأنهم لم يعطوا باطناً طيباً، فلم يُعْطِهم الله غيباً من ثوابه وغيباً من جنته وعاقبهم بناره. ونأتي إلى السبب الثاني في قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصلاوة إِلاَّ وَهُمْ كسالى} والكسل: هو التراخي في أداء المهمة. إذن فهم يصلون رياءً، فإن كانوا مع المؤمنين ونُودي للصلاة قاموا متثاقلين. وإن كانوا حيث لا يراهم المؤمنون فهم لا يؤدون الصلاة. إذن فسلكوهم مليء بالازدواج والتناقض. والسبب الثالث: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} والنفقة هي بذل ما عندك من فضل ما أعطاه الله لك؛ سواء أكان ذلك مالاً أم علماً أم جاهاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5188 أم قوة، وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع؛ لأن كل مجتمع به أعراض كثيرة، تجد القوي والضعيف، الغني والفقير، العالم والجاهل، الصحيح والمريض. ولو أن كل إنسان تحرك في حياته على قدر حاجته فقط لهلك الضعفاء والمرضى والعاجزون والفقراء. ولكن لابد أن يعمل كل إنسان على قدر طاقته، وليس على قدر حاجته، ولابد أن يأخذ من ناتج عمله على قدر حاجته ومن يعول، فأنت تأخذ حاجتك من ثمرة طاقتك، ثم تفيء على غيرك بفضل الله عليك، خصوصاً على هؤلاء الذين لا يقدرون على الحركة في الحياة، فالصحيح يعطي المريض من قوته ما يعينه على الحياة. والغني يعطي الفقير من ماله ما يعينه على الحياة. والقادر على الحركة يعطي من لا يقدر عليها، هذا هو المجتمع المتكافل. ومثل هذا السلوك هو لصالح الجميع؛ لأن الغني اليوم قد يكون فقيراً غداً، والقوى اليوم قد يكون ضعيفاً غداً، فلو أحس الإنسان بأنه يعيش في مجتمع متكافل فهو لن يخشى الأحداث والأغيار. وهذا هو التأمين الصحيح للقادر والغني ويشعر فيه كل إنسان بالتضامن والتكافل، فلا ينشغل الفقير خوفاً من الأحداث المتغيرة، وإن مات فلن يجوع عياله، وإن افتقر الغني فسوف يجد المساندة، وإن مرض الصحيح فسوف يجد العلاج. إذن: فالنفقة أمر ضروري لسلامة المجتمع، ونجد أن السوق توصف بأنها نافقة، وهي التي يتم فيها بيع كل من السلع وشراؤها. فمن أراد أن يبيع باع، ومن أراد أن يشتري اشترى، إذن فالحركة فيها متكافئة. وأنت حين تذهب إلى السوق لتبيع أو تشتري، فإما أن تأخذ مالاً نقدياً مقابل ما بِعْتَ، وإما أن تدفع مالاً ثمناً لما اشتريت. وقديماً كان الإنسان يبادل السلعة بسلعة أخرى. وبعد اختراع النقود أصبح الإنسان يشتري السلع بثمن، ومن ينفق ماله ويقدمه عند الله، فالحق سبحانه يأني له بكل خير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5189 وقد أراد الحق سبحانه للمنافقين العذاب الباطني في الدنيا، والعذاب الواقع أمام الكل في الآخرة، وبيِّن لهم أن إنفاقهم طَوْعاً أو كَرْهاً لن يأتي لهم بالخير. ولكن من ينظر إلى المنافقين قد يجد أنهم يستمتعون بالمال والولد. ولا يلتفت الإنسان الناظر إليهم إلى أن المال والولد هما أدوات عذابه. وقد يقول إنسان: إن الله قد قال: {المال والبنون زِينَةُ الحياوة الدنيا. .} [الكهف: 46] ونقول لمن يقول ذلك: أكمل الآية: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46] والحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ. .} [التغابن: 15] والله يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي طي هذا الخطاب خطابٌ لجميع المسلمين، وهنا يقول الحق سبحانه: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ. .} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5190 وإياكم أن تروا واحداً من هؤلاء ممن رزقهم الله المال والولد ثم تقولون: كيف يكون عذابهم في الدنيا وهم يملكون المال والولد؟ ومثل هذا التعجب يعني استحسان المال والولد، والظن أن فيهما الخير كله، لكنك إن نظرت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5190 بعمق إلى المال والولد وكل حطام الدنيا فستجده لا يستحق الإعجاب، وإياك أن تغتر بشيء يمكن أن يتركك، ويمكن أن يكون سبباً في عذابك، فالمال والولد قد يجعلان الإنسان ملتفتاً إلى النعمة ويلهيانه عن المنعم. وإن لم يلتفت الإنسان إلى المنعم لا يذكره. وإن لم يذكر الله أهمل منهجه. والمال والولد في الحياة الدنيا قد يكونان سببين في أن يخاف الإنسان ترك الدنيا. فإن لم يكن لك إيمان بما عند الله في الآخرة، فقد تخاف أن يتركك المال أو الولد. والذي لا يؤمن باليوم الآخر؛ فالدنيا هي كل زمنه؛ وإن فاتها كان ذلك مصيبة له، وإن فاتته كان ذلك مصيبة عليه. وإن آمن الإنسان بالله واليوم الآخر لقال: لئن فاتتني الدنيا فلي عند الله خير منها. ويريد الحق سبحانه أن يمنع عن المؤمنين به فتنة النعمة التي تُلْهِي عن المنعم، فيقول سبحانه: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} والآية الكريمة تدلُّنا على أن للمال وحده إعجاباً، وللأولاد وحدهم إعجاباً، فمن عنده مال معجب بما عنده. ومن ليس عنده مال وعنده أولاد معجب بهم أيضاً. فإذا اجتمع الاثنان معاً يكون الإعجاب أكبر وأشمل. والحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم أن اجتماع المال والولد يجب ألا يثير الإعجاب في نفوسنا، بل إن سياق الآية يحذرنا من أن نعجب بمن عنده المال وحده، أو بمن عنده الأولاد وحدهم، لذلك كرر الحق سبحانه وتعالى كلمة: {لا} فقال: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} . وأفهمنا الحق سبحانه وتعالى أنه إذا أمد الكافر أو المنافق بالمال والولد؛ فلذلك ليس رفعة من شأنه، وإنما ليعذبه بهما في الدنيا والآخرة. فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} ، واللام هنا في «لِيُعَذِّبَهُمْ» هي لام تدخل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5191 على الفعل واسمها «لام العاقبة» . وهي تعني أننا ربما نقوم بالفعل لهدف معين، ولكن قد تكون عاقبته شيئاً آخر تماماً غير الذي قصدناه، بل ربما تكون عكس الذي قصدناه. وعندما نقرأ القرآن نجد قول الحق سبحانه وتعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ... } [القصص: 8] هل التقط آل فرعون موسى عليه السلام ليكون لهم عدواً؟ أم ليكون قرة عين لهم؟ هم قد التقطوه ليكون قرة عين لهم، ولكن الذي حدث كان عكس ما قصدوه ساعةَ قيامهم بفعل الالتقاط، فبدلاً من أن يصبح موسى قرة عين، أصبح عدواً لفرعونن بل كان سبباً في زوال مُلْكه، إذن هذه هي لام العاقبة. والله سبحانه وتعالى أعطى لبعض الكفار أموالاً وأولاداً، وهذا في ظاهره رفعة في الدنيا، ولكنهم بدلاً من أن يستخدموا هذه النعمة في التقرب إلى الله ألهتهم عن الإيمان بالله، ووصل بهم الأمر إلى أن يدخلهم الحق في العذاب. ولم يُرِد الحق العذاب لهم، ولكنهم بحركتهم وفتنتهم بالمال والولد استحقوا أن يدخلوا في العذاب. والعمل غير الشرعي في تنمية المال أو إرضاء الأولاد هو الذي أوصلهم إلى العذاب. {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا} وأول ألوان العذاب: أن تلهيهم تلك النعمة عن المنعم. وتبعدهم عن منهج الله فيصيرون في عداء مع المؤمنين بمنهج الله، ويخافون إعلان هذا العداء؛ لذلك حينما كان يرسل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في طلب واحد من المنافقين أو اليهود كانوا يرتعدون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5192 ويتساءلون: هل اكتشف الرسول أمرنا أم كشف الله لنا بعض خبايانا؟ وكانوا في خوف أن يفتضح في خوف أن يفتضح أمرهم، فيعاملهم معاملة المشركين ويشردهم. وثانياً: كانوا يخافون من أن يدخل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حرب؛ لأنهم ما داموا قد أعلنوا الإيمان فهم مطالبون ببذل المال، وأن يذهب أولادهم الذين بلغوا سن القتال مع جيش المسلمين، وكانوا يقولون بينهم وبين أنفسهم: ما لنا نبذل المال ونضحي بالأولاد في سبيل ما لا نؤمن به. وهم بمشاعرهم تلك يختلفون عن مشاعر المؤمنين الذين يُلبُّون نداء رسول الله طمعاً في الجنة أو النصر. وهذا لون من ألوان العذاب. وهناك لون آخر من العذاب: عندما يخرج هؤلاء المنافقون إلى إحدى الغزوات، فهم يخافون على أنفسهم من القتل أو الأذى بالأسر أو سبي النساء، فيكونون في عذاب نفسي طوال الرحلة إلى الغزوة وفي أثناء الحرب. ولون ثالث من ألوان العذاب: أن عابد المال يجمع المال من حرام ومن حلال، لا يهمه من أين جاء المال؟ ولكن يهمه أن يأتي، والذي يكسب حلالاً يكون واضح الحركة في الحياة، والذي يكسب حراماً هو لص يخاف أن ينكشف أمام الناس، ويعيش في عذاب أليم دائم من أن يأتي يوم يكشف الله ستره فيعرف الناس أنه ارتشى، أو أنه اختلس، أو أنه زَوّرَ وَزيَّف. أو أنه فعل شيئاً يُحقّره في أعين الناس أو يُعرِّضه للعقوبة؛ كأن يكون قد تاجر في المخدرات أو في الأعراض. أو في غير ذلك، وخوفه من انكشاف أمره يجعله يعيش في عذاب دائم وصراع مستمر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5193 وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين الحلال والحرام نضرب هذا المثل: أنت إن أعجبك شيء في بيت جارك، وطلبته منه وأعطاك إياه، فأنت لا تخشى أن يعرف الناس ما حدث. ولكن إذا أعجبك شيء في بيت جارك وأردت أن تسرقه، فأنت لا تأتي في النهار ولا أمام الناس، بل تأتي ليلاً وتحرص على ألا يراك أحد. ولا تدخل من باب الشفقة، بل تظل تدور وتخطط لتجد منفذاً تدخل منه دون أن يراك أحد. وتضع خطة للسرقة. وتدخل المنزل على أطراف أصابعك وأنت ترتعد. فإذا شعرت وأنت تنفذ الخطة بصوت أقدام تنزعج وتجري لتختبئ وتأخذ الشيء وتكون حريصاً على إخفائه وإن رآه أحد عندك انزعجت، وكل هذا عذاب يمر به كل من يجمع المال الحرام، إذن فجمع المال الحرام عذاب. وكل من يربي أولاده من مال حرام لا يبارك الله لهم فيهم، فإما أن ينشأ الواحد منهم عذاباً لأبيه في تربيته فيرسب في الامتحانات. ويُتلف المال في الإنفاق بلا وعي. فكلما أعطيته أكثر احتاج إلى المزيد من المال أكثر. ومثل هذا الابن لا يطيع أباه. ويكون العذاب الأكبر حينما ينشأ أحد أبناء هذا الإنسان ويكون الابن مؤمناً إيماناً صادقاً بالله، فيرفض أن يأكل أو يلبس من مال أبيه، أو أن يناقشه من أين جاء بهذا المال ويسمع منه ما يكره، ويتمرد دائماً عليه. وفي عهد رسول الله صلى الله عليه سلم كان أبو عامر عدواً لله ورسوله. وكان ابنه حنظلة مؤمناً، وكلما رأى أبو عامر ابنه كان قلبه يغلي بالغيظ، وعندما نودي للقتال، وسمع حنظلة نداء الجهاد بعد أن فرغ من الاستمتاع مع زوجته فلم يصبر إلى أن يغتسل من الجنابة، بل سارع إلى الحرب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5194 مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واستشهد في المعركة ولكن كيف عرف الصحابة قصة حنظلة، مع أن هذه المسألة تكون سراً بين الرجل وزوجته لا يعرفه أحد؟ لقد عرف المؤمنون بخبر حنظلة حين رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإشراقات الله أن الملائكة تنزل من السماء وتُغسِّل حنظلة. ولما كان الشهيد لا يُغسل، فقد عرف الرسول أن هذا ليس غُسْلاً من الشهادة، وإنما هو غُسْل حتى لا يُقْبِلَ الشهيد على الله وهو جُنُب، رأى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما حدث لحنظلة، وعندما عاد إلى المدينة بعث إلى زوجة حنظلة وسألها: ماذا حدث ساعة ساعة خروج حنظلة إلى المعركة؟ فقالت أنه سمع نداء القتال، خرج بدون غُسْل. وتأمل كيف نزلت الملائكة لتغسل شهيداً هو ابن عدو الله ورسوله. وكيف يكون هذا غَيْظاً في قلب الأب. وقصة أخرى: سيدنا عبد الله بن عبد الله بي أبيّ؛ والده عبد الله بن أبيّ كان زعيم المنافقين في المدينة، وهو الذي انسحب يوم أحد ومعه ثلث المقاتلين من المعركة. ويسمع عبد الله أن صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يطلبون منه الإذن بقتل والده ابن أبيّ، انظروا إلى الإيمان. فها هو الابن يذهب إلى رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ويقول له: يا رسول الله إن كنتَ آمراً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5195 بقتل أبي فأمرني بقتله؛ حتى لا ألقي قاتله من المسلمين وفي قلبي غِلٌّ عليه. وعندما يسمع الأب أن ابنه يطلب أن يكون قاتله، أليس هذا عذاباً في قلبه؟ وهكذا نرى أن الأموال والأولاد الذين كان من المفروض أن يكونوا نعمة يصبحون نقمة، أليس هذا عذاباً في الدنيا؟ ولكن غير المؤمنين لا يلتفتون إلى واهب النعمة، ولا إلى الجزاء الذي ينتظرهم في الآخرة، ولا ينتبهون إلى حكمة الخلق التي تؤكد أن الإنسان خليفة الله في الأرض، وأن الله قد أعدَّ الأرض بكل ما فيها من إمكانات ومن خيرات لتكون في خدمة هذا الخليفة، أي: أنه أقبل على عالم كامل من كل شيء؛ معداً له إعداداً فوق قدراته وطاقاته. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي: «خلقتُ الأشياء من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تشتغل بما هو لك عما أنت له» أي: لا تشتغل بالنعمة عن المنعم، تماماً كما يدخل الإنسان إلى وليمة كبيرة، فيجد المائدة مُعدَّة بكل ألوان الطعام، وصاحب المائدة واقف فلا يحييه ولا يسلم عيه ويذهب مباشرة إلى الطعام، فيُحسُّ الناس أن هذا الإنسان جاحد بكرم الضيافة. بينما نجد رجلاً آخر يدخل فيسلم على صاحب الوليمة ويشكره على كرمه ويشيد به، الأول: انشغل بالنعمة، والثاني: لم يُنْسه انشغاله بالنعمة أن يشكر مَنْ أعدها له. ومثال آخر: إن الصحة هي من أثمن النعم. أما المرض فإنه أقسى ما يمكن أن يصاب به الإنسان؛ لأن الصحة هي التي تجعل الإنسان يتمتع بنعم الحياة، أما المرض فيحرمه هذه النعمة. ولذلك فعندما يمرض الإنسان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5196 يعوضه الله بأنه بدلاً من أن يكون في معيّة النعمة، يكون في معيّة المنعم وهو الله سبحانه. ولذلك يقول في حديث قدسي: «عبدي فلان مرض فلم تَعُدْني. فيقول له: يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول له: أما علمْتَ أنك لو عُدته لوجدتني عنده» قولوا لي بالله: أيضيق أي مريض عندما يعرف أن الصحة كانت نعمة من الله وفارقته، ولكن المرض جعله مع المنعم، وهو الله سبحانه وتعالى؟ لا، بل إن ذلك يخفف عنه وطأة المرض، ويجعله يشعر أن الأنْسَ بالله يخفف عنه الآلام. لكنك للأسف تجد الإنسان غير منطقي مع نفسه، فالعالم خُلق من أجل الإنسان. والإنسان خُلق ليعبد الله. ولكنك تجده لا يلتفت لما خُلق من أجله، بل يلتفت للأشياء التي خُلقت له. وقد كان من المنطقي أن ينشغل بما خُلق من أجله. وإذا أخذنا مثلاً منطق الإنسان مع الزمن، نجد أن الزمن إما أن يكون حاضراً أو ماضياً أو مستقبلاً. فإذا أردنا أن نذهب إلى ما لا نهاية نقول: إن الزمن حاضر وأزلي وأبدي. والأزلي: هو القديم بلا بداية. والأبد: هو المستقبل بلا نهاية. والحاضر: هو ما نعيش فيه. والوجود الذي تراه أمامك خلقه الحق سبحانه واجبُ الوجود وبكلمة «كن» جاء كل «ممكن الوجود» ؛ لأن كل وجود يحتاج إلى مُوجد هو وجزد ممكن، وسيأتي له عدم. أما الوجود غير المحتاج إلى موجد فهو وجود الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5197 لا ينتهي. أي: أن واجب الوجود هو وجود الله وحده سبحانه وتعالى. ولذلك فهو وجود أزلي قديم بلا نهاية، وأبد باقٍ بلا نهاية. وبذلك فهو يخرج عن الزمن. نأتي بعد ذلك إلى المخلوقات الممكنة، أي التي لها مُوجدٌ، وهي كل ما في الكون ما عدا الله سبحانه وتعالى، ومنها هذه الدنيا التي يعبدها بعض الناس من دون الله، هذه الدنيا ليس لها أزل ولا أبد، فالدنيا لم توجد إلا عندما خلق الله السماوات والأرض، أي ليس لها وجود بلا نهاية. ولكن كان وجودها ببداية. إذن فهي ليست أزلاً، وهي ليست أبداً لأنها تنتهي بيوم القيامة. ولذلك لا يجتمع في قلب المؤمن حب الله وحب الدنيا؛ لأن الله أزل وأبد، والدنيا لا أزل ولا أبد، بل عمر الدنيا بالنسبة للإنسان هي بمقدار عمره فيها. وقبل ميلاده لا علاقة له بها، وبعد الموت لا علاقة له بها. وحتى إذا أخذنا الدنيا غي عمومها فإن لها بداية ونهاية، فكيف يمكن أن يجتمع في قلب المؤمن حب من لا بداية له ولا نهاية، وحب من له بداية ونهاية؟ لا يجتمعان. ولذلك قال شيخنا الزمخشري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ما دام هذا الكون فيه وجود، يكون الوجود: إما واجباً، وإما ممكناً. والوجود الواجب لله وحده. والوجود الممكن هو كل ما عدا الله، ولا يوجد أزل ولا أبد إلا للحق سبحانه وتعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5198 فإذا قلنا: إن هناك وجوداً فيه أزل وليس فيه أبد، نقول: إن هذا ممتنع عقلاً؛ لأن الذي لا تكون له بداية لا تكون له نهاية. أي: يكون دائم الوجود. إذن: فيبقى أن يكون الوجود له أبد وليس له أزل، أي: له بداية وليس له نهاية. ونقول: إن هذا يجتمع في اثنتين؛ الآخرة والإنسان؛ الإنسان له بداية وهي تاريخ خَلْقه، وليس له نهاية؛ لأنه بعد أن يموت يُبعَثُ مرة أخرى، إما أن يخلد في النعيم، وإما أن يُعذَّبَ قليلاً، ويدخل الجنة وإمّا يخلد - والعياذ بالله - في النار. وكذلك الآخرة لم يأت زمنها بعد. إذن فهي لم تبدأ بعد، ولكنها متى بدأت فليس لها نهاية؛ لأن هناك حياة أبدية في الجنة أو في النار. إذن: فالإنسان والآخرة اشتركا في شيء واحد، ولا بد أن يربط الإنسان نفسه بالآخرة؛ فالذي يأخذ الدنيا إنما أخذ شيئاً له بداية ونهاية، ولكن الذي يطبق منهج الله ويعبده عن حب واختيار أخذ مَنْ لا بداية له ولا نهاية له. والذي عمل للآخرة، عمل لما لا نهاية له أو للذي سيخلد فيه، وتكون فيه حياته الحقيقية. ولذلك حين نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] . نعرف أن الحياة الحقيقية هي في الآخرة وليست الدنيا؛ لأن الغايات في أي شيء يجب أن تكون متساوية، فمثلاً: إذا أردنا أن نصنع كُرْسياً. فالغرض من الكرسي أن نجلس عليه. إذن: فكل الكراسي مهما اختلَفت أشكالها وألوانها لها غاية واحدة وهي أن نجلس عليها. والإنسان غايته الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5199 لابد أن تكون متساوية. وما دُمْنَا أفراداً لجنس واحد فلا بد أن تكون لنا غاية واحدة: ما هي؟ أهي الصحة؟ بعضنا مريض. أهي القدرة؟ بعضنا عاجز. أهي طول العمر؟ بعضنا عمره في الدنيا ساعات. وإذا استعرضنا كل ما في الدنيا فلا نجد شيئاً نتفق فيه إلا الموت، وفيما عدا ذلك فنحن نختلف. إذن فلا بد أن نلتفت في حياتنا الدنيا من أول يوم إلى أننا سوف نموت ونلقى الله، وعلينا أن نعد العدة لذلك، وكلنا سائرون إلى هذه النهاية. والحق سبحانه وتعالى يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا} لم يقف عَزَّ وَجَلَّ عند هذا الحد، بل قال سبحانه: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} و {تَزْهَقَ} أي تخرج بصعوبة، لماذا؟ لأن عابد الدنيا عمل من أجلها فقط. ولم يعمل شيئاً من أجل الآخرة، فعندما يأتي له الموت، يجد أنه لم يقدم شيئاً لآخرته، وأن ما ينتظره هو العذاب، ولذلك يكره أن يترك نعيم الدنيا إلى عذاب الآخرة. أما صاحب الأعمال الطيبة عندما يأتي له الموت فهو يستبشر؛ لأن الذي ينتظره خير يفوق كل الذي سيتركه. كمثل إنسان يعيش في كوخ صغير ثم ينتقل إلى قصر فاخر، أإلا يكون سعيداً؟ وكذلك المؤمن عندما يأتيه الموت يصبح كالذي ينتقل من كوخ صغير إلى قصر فاخر. أما صاحب الدنيا فمثل الذي يؤخذ من قصر إلى نار محرقة، ولذلك فهو يكره ساعة الموت. والمؤمن يفرح حين ينتقل من الدنيا الفانية إلى الحياة الخالدة الباقية، ومن النعمة إلى المنعم، ومن الحياة بالأسباب إلى الحياة مع المسبِّب، فنحن في الدنيا لا بد أن نأخذ بالأسباب إلى الحياة مع المسبِّب، فنحن في الدنيا لابد أن نأخذ بالأسباب لنصنع ما نريد، والمثال: أنك إنْ أردت أن تأكل فلا بد من أن تطهو الطعام أو أن يُعدّه لك غيرك، وإنْ أردتَ أن تلبس فلا بد لك ممن يصنع لك القماش ويحيك الثوب. ووراء كل نتيجة توجد سلسلة طويلة من الأسباب. فهناك الذي يزرع، والذي يحصد، والذي ينقل إلى المطحن أو إلى المصنع، والذي يطحن الدقيق أو ينسج القماش، أما في الاخرة فلا توجد أسباب، بل بمجرد أن يخطر الشيء على بالك تجده أمامك، أليست هذه حياةَ نعيمٍ؟ إذن: فالذي تنفرج أساريره ساعة الموت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5200 هو المؤمن، والذي ينقبض وجهه ويتشنج عندما يأتيه مَلَكُ الموت هو الكافر والعاصي؛ لأنه سينتقل من نعيم حتى ولو كان نسبيا إلى عذاب رهيب. وقد قيل للإمام علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يا إمام، أريد أن أعرف نفسي أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ فقال الإمام عليّ: الله أرحم من أن يجعل جواب هذا السؤال عندي وجعل السؤال عندك أنت، إن كنت تحب من يدخل عليك وهو يريد أن يأخذ منك أكثر مما تحب من يدخل عليك وهو يريد أن يعطيك هدية تكون من أهل الآخرة. أي: إذا دخل عليك إنسان يطلب صدقة أو مالاً فاستقبلته بترحاب وتحية وتعطيه وأنت مسرور تكون من أهل الآخرة؛ لأنك تعرف أنه أخذ منك في الفانية ما يحمله لك أجراً في الآخرة التي تعمل من أجلها، ولذلك تحبه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5201 أما إن كنت تحب من جاء يعطيك هدية أكثر ممن جاء يسألك تكون من أهل الدنيا؛ لأنه معطي الهدية يزيدك في دنياك. وما دُمْتَ تفرح بذلك أكثر من فرحك بالذي يزيد آخرتك فأنت من أهل الدنيا. ويقال: إن فلاناً أحسن الله خاتمته لأنهم دخلوا عليه لحظة الموت فوجدوا وجهه أبيض وملامحه سمحة مستريحة. نقول: إن هذا صحيح، فهذه لحظة لا يكذب الإنسان فيها على نفسه. ونحن نعلم أن الإنسان حين يشتد عليه المرض فهو يتشبث بالأمل في أن ينال الشفاء على يد طبيب بارع. لكن الأمر يختلف ساعة الاحتضار حين يعلم الإنسان أن الموت يتخلله وأنه ميت لا محالة، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} [الواقعة: 83] ويرى ما كان محجوباً عنه في الدنيا. حينئذ يستعرض أعماله. فإنْ رأى شريط الحياة حُلْواً منيراً، ابتسم وانفرجتْ أساريره فيُقبَضُ على هذا الوضع. أما من امتلأت حياته بالسوء والمعاصي فوجهه يسوَدّ وتنقبض أساريره فيُقبض على هذا الوضع. وهذا ما نسميه الخاتمة، فلحظة الاحتضار فيها يقين بالموت، تماماً كساعة الامتحان حيث تجد التلميذ الخائب مصفر الوجه مرتعداً ومتشنجاً، أما التلميذ المجتهد فيكون مُبتسماً مُنْفرجَ الأسارير. وفي ساعة الاحتضار يخلو الذهن من أي شيء إلا صحيفة عمله، فهي التي تبقى وفي بؤرة شعوره، وبؤرة الشعور هي المكان الذي إن استقر فيه شيء فإنه لا يُنسَى أبداً. فإذا عرف طالب قبل الامتحان بفترة قصيرة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5202 أن هناك سؤالاً سيأتي في جزء معين من الكتاب وأمسك هذا الجزء وقرأه مرة واحدة تجد أنه وهو يقرؤه لا يفكر في شيء آخر غيره، ومجرد قراءته مرة تجعله يجيب الإجابة المتميزة؛ لأن بؤرة الشعور مثل آلة التصوير، تأخذ صورة ما ترى مرة واحدة. إذن: فساعة الالتقاط هذه حيث لا شيء يشغل الذهن، تجد أن الشعور لا يتسع إلا لخاطر واحد، فلا يأتي خاطر إليها إلا إذا تزحزح الخاطر الأول عنها. ولذلك إذا سمعتَ شيئاً وحفظتَهُ من أول مرة، فهذا دليل على أن بؤرة شعورك كانت خالية ومستعدة ساعة التقاط هذا الشيء. كذلك عند الموت ساعة الاحتضار لا يجد الميت في بؤرة شعوره خاطراً آخر يناقض أو يزاحم أمر الآخرة، فإن كانت حياته خيِّرة أشرق وجهه وانفرجت أساريره، وإن كانت حياته سيئة انقبضت أساريره واسودَّ وجهه والعياذ بالله. وقوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} يعطينا معنيين: المعنى الأول: أن النعمة تظل معهم تلهيهم عن الله حتى تأتي ساعة الموت. والمعنى الثاني: أن ساعة الموت تكون شاقة وصعبة على الكافر والمنافق؛ لأنه يترك الأموال والأولاد ويذهب إلى العذاب. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5203 لماذا أتى الله بهذه الآية بعد أن حذرنا من أن نُعجَبَ بأموال المنافقين وأولادهم؟ لأن هذه ليست نعمة لهم ولكنها نقمة عليهم، وأراد الحق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5203 سبحانه وتعالى أن يشحننا ضد المنافقين وأن يجعلنا نحذر منهم كل الحذر، ويضرب لنا المثل باليمين، واليمين لا ينطق بها الإنسان عادة إلا بعد شبهة إنكار. فإذا جئت لإنسان بخبر وصدَّقه فأنت لا تضطر لأن تحلف له. ولكن إذا أنكره فأنت تحلف لتزيل شبهة الإنكار من نفسه، ولذلك فأنت حين تروي الخبر لأول مرة لا تحلف، فإن أنكره سامعك حلفْتَ. ولكن لماذا يحلف المنافقون دون سابق إنكار؟ إنهم يسمعون القرآن الذي ينزل من السماء مملوءاً بالغضب عليهم، وهم يشعرون في داخل صدورهم أن كل مسلم في قلبه شك من ناحية تصرفاتهم، فيبدأون كلامهم بالحلف حتى يصدِّقهم المؤمنون، والمؤمنون قد متَّعهم الله بمناعة إيمانية، في صدورهم؛ فلا يصدقون ما يقوله المنافقون، حتى يأخذوا حِذْرهم ويكونوا بمنجاة مما يدبره هؤلاء المنافقون من أذى، ولذلك حذر سبحانه وتعالى المؤمنين من تصديق كلام المنافقين حتى ولو حلفوا. ولو لم يُعط الله المؤمنين هذه المناعة الإيمانية لصدَّقوا قول المنافقين بقداسة اليمين. وبماذا حلف المنافقون؟ لقد حلفوا بأنهم من المؤمنين والحقيقة أنهم في مظاهر التشريع يفعلون كما يفعل المؤمنون، ولكن قلوبهم ليس فيها يقين أو صدق. وما داموا على غير يقين وغير صدق، فلماذا يحلفون؟ نقول: إن هذا هو تناقض الذات، وأنت تجد المؤمن غيرَ متناقض مع نفسه؛ لأنه مؤمن بقلبه ومؤمن بذاته، ومؤمن بجوارحه، ولا توجد مَلَكَاتٌ تتناقض فيه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5204 والكافر أيضاً غير متناقض مع نفسه؛ لأنه يعلن صراحة أنه لا يؤمن بالله ولا برسوله، فليس هناك تناقض بين ظاهره وباطنه، صحيح أن فيه ملكة واحدة، ولكنها فاسدة، ولكن ليس فيه تناقض بين ما يفعله ظاهراً وما في قلبه. أما المنافق فتتناقض ملكاته. فهو يقول بلسانه: «أنا مؤمن وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» . لكن قلبه يناقض ما يقوله، فلا يشهد بوحدانية الألوهية لله، ولا يصدق رسالة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة «المنافقون» : {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] كيف يقول الحق سبحانه وتعالى {إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} ، مع أنهم شهدوا بما شهد به الله، وهو أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول الله؟ نقول: إن الحق أراد أن يفضحهم، فهم قد شهدوا بألسنتهم فقط ولكن قلوبهم منكرة. وفضح الله ما في قلوبهم وأوضح أن ألسنتهم تكذب؛ لأنها لا تنقل صدق ما في قلوبهم. إذن: فالمنافق يعيش في تناقض مع نفسه، وهو شر من الكافر؛ لأن الكافر يعلن عداءه للدين فهو عدو ظاهر لك فتأخذ حذرك منه. أما المنافق فهو يتظاهر بالإيمان، فتأمن له ويكون إيذاؤه أكبر، وقدرته على الغَدْرِ أشد. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار. .} [النساء: 145] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5205 ونحن نعلم أن تناقض الذات هو الذي يتعب الدنيا كلها، ويبين لنا المتنبي هذه القضية، ويشرح كيف أنها أتعبُ شيء في الوجود، فيقول: وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيا علَى الحرِّ أنْ يَرَى ... عَدوّا له مَا مِنْ صَداقتِه بُدُّ هذا هو تناقض الملكَاتِ حين تجد عدواً لك، وتحكم عليك الظروف أن تصادقه. وفي ذلك يقول شاعر آخر: عَلَى الذَّمِّ بِتْناَ مُجْمِعينَ وحالُنَا ... مِنَ الخوْفِ حَالُ المجْمِعين عَلىَ الحمْدِ وشاعر ثالث يريد أن يصور التناقض في المجتمع الذي يجعل الناس يمجدون هذا وهم كارهون له، فيقول: كَفَانَا هَواناً مِنْ تناقُضِ ذَاتِنا ... متى تَصْدُق الأقوالُ بالألسُنِ الخُوَّفِ إذن: فالمنافقون يحلفون بألسنتهم بأنهم من المؤمنين، وهم كذلك في ظاهر التشريع، ولكنهم ليسوا منكم في حقيقتهم، فهم في قلوبهم ليسوا منكم. ويكمل الحق سبحانه وتعالى الصورة بقوله: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} والفَرَق معناه: الخوف، أي أنهم في فزع دائم، ويخافون أن يُفتضَحَ أمرهم فيعزلهم مجتمع الإسلام ويحاربهم محاربته للكفار. ويشرِّدهم ويأخذ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5206 أموالهم ويَسْبي نساءهم وأولادهم. إذن: فالخوف هو الذي جعلهم يحلفون كذباً وخوفاً من افتضاح أمرهم؛ ولذلك قال الحق لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنهم: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول ... } [محمد: 30] وفي هذا القول دعوة لفحص ما يقوله أهل النفاق، حتى وإنْ بَدا القول على ألسنتهم جميلاً. ثم يقول الحق جل وعلا: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً. .} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5207 والملجأ: هو ما نلجأ إليه ليحمينا من الأذى مثل الحصون، وكذلك المغارة وهي الكهف في الجبل. والمدَّخَل: هو شيء يشبه النفق تحت الأرض تدخل فيه بمشقة والتواء، إذن: فهناك ثلاثة ملاجئ يفِرُّون إليها إنْ وُجدوا في المعركة؛ لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وهم يتمنَّوْن الذهاب إلى مكان بعيد؛ ليسبُّوا الإسلام على ما هم فيه من مشقة القتال، وهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك أمام المسلمين؛ لذلك تجدهم في حالة بحث عن مكان لا يسمعهم فيه أحد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5207 {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مغارات أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} فالكلام إذن عن المنافقين الذين ذكر الحق أوصافهم، وعهودهم التي نقضوها، وحَلِفهم كذباً، وما يعيشه كل منهم من تناقض مَلَكاته، ذلك التناقض الذي يورثه الشقاء؛ لأن كل واحد منهم يُظْهِرُ غير ما يبطن ويخاف من انكشاف أمره. فيظل مضطرباً لأن ما بداخله يتناقض مع واقع حياته. إن هذه الحالة هي عكس حالة المؤمن الذي يعيش حياة منسجمة؛ لأن ما في قلبه هو ما يحكيه لسانه، فضلاً عن انسجامه بالإيمان مع الكون الذي يعيش فيه، وكذلك فحالة المنافق تختلف عن حالة الكفر، فالكافر قد أعلن الكفر الذي في قلبه بلسانه. أما المنافق فله قلب يكفر ولسان ينطق كذباً بالإيمان. ولذلك فهو في تعب مستمر من أن ينكشف أمره، أو يعرف المؤمنون ما في قلبه؛ لأنه يُكِنّ الحقد لمنهج الله وإن كان يعلن الحب ظاهراً. والإنسان إذا اضطر أن يمدح من يعاديه وأن يتظاهر له بالحب، فإن هذا السلوك يمثل ثقلاً نفسياً رهيباً يحمله على ظهره، وهكذا نرى أن المنافقين يُتعبون أنفسهم قبل أن يُتعبوا المجتمع، تماماً كالرجل البخيل الذي يتظاهر بأنه كريم، وكلما أنفق قرشاً ليؤكد هذا التظاهر فإن هذا القرش يذبحه في نفسه ويسبب له آلاماً رهيبة. وحتى يرتاح الإنسان مع الدنيا لا بد أن يرتاح مع نفسه أولاً ويتوافق مع نفسه. ومن هنا نجد المنافقين حين يريدون أن يُنفِّثوا عما في صدورهم، فهم يَختَلُّون ببعضهم بعضاً بعيداً عن أعين وآذان المسلمين؛ ليُظهروا ما في نفوسهم من حقد وغِلّ وكراهية لهذا الدين، ويبحثون عن ملجأ يكونون آمنين فيه، أو مغارة في الجبل بعيداً عن الناس حتى لا يسمعهم أحد، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5208 أو مُدَّخلاً وهو المكان الضيق الذي لا تستطيع أن تدخل فيه إلا بصعوبة. هم إذن يبحثون عن مكان يغيبون فيه عن سمع المؤمنين وأنظارهم ليُخرِجوا الكراهية المحبوسة في صدورهم، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مغارات أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} و {وَلَّوْاْ} أي: انطلقوا إليه وقد شغلهم الإسراع للذهاب إلى المكان عن أي شيء آخر، {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} والجماح هو أن تفقد السيطرة على الفرس الذي تركبه، فلا تقدر على كَبْح جماحه أو التحكم فيه، فينطلق بسرعة، وحين يقال هذا عن الإنسان فهو يعني الانطلاق بسرعة إلى المكان الذي يقصد إليه ولا يستطيع أحدٌ منعه، وإنْ تعرض له أحد دفعه بعيداً لينطلق في طريقه بسرعة. والآية هنا تعطينا صورة دقيقة لحالة المنافقين في أي معركة. فبمجرد بَدْءِ القتال تجدهم لا يتجهون إلى الحرب، ولا إلى منازلة العدو، ولا يطلبون الاستشهاد، ولكنهم في هذه اللحظة التي يبدأ فيها القتال يبحثون عن مكان آمن يهربون إليه، أو مغارة يختبئون فيها، أو مُدَّخل في الأرض ينحشرون فيه بصعوبة ليحميهم من القتال. فإذا انتهت المعركة خرجوا لينضموا إلى صفوف المسلمين، ذلك أنهم لا يؤمنون. فكيف يقاتلون في سبيل دين لا يؤمنون به؟ ولذلك كنت تجدهم في المدينة إذا نودي للجهاد فهم أول من يحاول الهروب ويذهبون للقاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طالبين التخلف عن المعركة، ويقول الواحد منهم: {ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ... } [التوبة: 49] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5209 وفي الصدقة يحاولون التشكيك في توزيع الصدقة وكيف يتم؛ فيقول الحق سبحانه وتعالى عنهم: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5210 وإذا جلسوا مع بعضهم البعض تجدهم يحاولون النَّيْل من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بغرض إيذائه ولمزه، ويقول الله سبحانه وتعالى عنهم: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61] هذه بعض صفات المنافقين التي يفضحهم الله بها بكشفها للمؤمنين. وقد جاء الحق سبحانه لنا بمزيد من الكشف لقبائحهم وفضائحهم. فقال فيهم: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] كلنا أيضاً نقرأ قول الله سبحانه: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] فما هي الهُمَزة وما هي اللُّمَزة؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5210 «الهمزة» : هو من يعيب في الآخرين عيباً خفياً ويسخر منهم خفية، ويكون ذلك بإشارة من عينه أو بأي حركة من جوارحه، ومثال هذا: حين تكون هناك مجموعة من الناس جالسين، ويحاول أحدهم النَّيْل من أحد الحضور خفية، فيغمز بطرف عينه لإنسان آخر، أو يكون باللسان هَمْساً في أذن إنسان أو بأي طريقة أخرى، المهم أن يُشَار إلى العيب بطريقة خفية لا يلحظها معظم الحاضرين. أما اللُّمَزة العيَّابون في غيرهم في حضورهم. فهناك القوي الذي يكشف العيوبَ بشجاعة وصراحة وهو اللَّماز، أما الضعيف فهو يعيب خفية وهو الهمَّاز. واللمزة تطلق على من يعيب كثيراً في الناس. وهمزة لمزة، من صيغة المبالغة «فُعَلَة» وتدل على كثرة فعل الشيء. فتقول «فلان أكَلة» - بضمة على الألف - أي: يأكل كثيراً. وفلان ضُحَكة - بضمة على الضاد - أي: كثير الضحك. إذن: فاللّمزة هي كثرة العيب في الغير، وهي تدل على ضعف من يقول بها، ولو لم يكن ضعيفاً لقال ما يريد بصراحة. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} واللمز كما عرفنا هو البحث عن العيب، وهو هنا مظروف في شيء هو الصدقات. وكان بعض من المنافقين يغتابون تشريع الصدقة، وكانوا يعيبون أن يتعب الغني ويشقى في الحصول على المال ثم يأخذ الفقير المال بلا تعب، فهل يعيبون التشريع نفسه؟ أم يعيبون كمية الصدقات المفروضة عليهم ويرونها كثيرة؟ أم يعيبون حثَّ الله للناس على الصدقة؟ أم يعيبون الطريقة التي يتم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5211 بها صرف الصدقة للفقراء، وأن بعضهم يُعطَى كثيراً وبعضهم يُعْطى قليلاً؟ لقد كانوا يعيبون في كل الأمور أو بعضها. إذن: فاللمز إما أن يكون في التشريع، وإما أن يكون في كمية الصدقات أو في طريقة الصرف، والحادثة التي وقعت ونزلت فيها هذه الآية الكريمة كانت في مصارف الصدقة، فقد قام حرقوص بن زهير، وهو رأس الخوارج، وهو ابن ذي الخويصرة، وقال: اعدل يا محمد. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ويلك! ومَنْ يعدل إنْ لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يا رسول الله إئذن لي فيه أضرب عنقه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «دعه، فإنه له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم. يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. يُنظَر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنْظر إلى نَضيِّه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر في قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء. سبق الفرْثَ والدم. آيتُهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة. أو مثل البضعة تَدرْدَرُ، يخرجون على حين فُرْقة من الناس» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5212 قال أبو سعيد الخدري: فأشهد أنِّي سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأشهد أن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قاتلهم وأنا معه. فأمر بذلك الرجل - أي الرجل الأسود - فالتُمس فوُجد فأتِي به، حتى نظرتُ إليه على نَعْتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي نعت. ويقول الحق سبحانه موضحاً حال هؤلاء {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي: أن هؤلاء الناس إن أعْطوا من الصدقة كانوا راضين مهلِّلين، وإن لم يُعْطَوْا منها ملأ قلوبهم السخط، وبدأوا باللَّمْز. إذن: فالكمية المعطاة لهم من الصدقة كانت هي أساس اللمز. ومثل هذا قد حدث في غزوة حنين. فقد وزع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغنائم على قريش وأهل مكة، ولم يُعْطِ الأنصار شيئاً. فلما لم يُدخل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأنصار في هذه القسمة، استاء بعضهم من ذلك، فجمعهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال لهم: «ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وترجعون أنتم برسول الله؟ المحيا محياكم والممات مماتكم، ولو سلك الناس شِعْباً وسلك الأنصار شِعْباً لسلكتُ شِعْبَ الأنصار» وهنا بكى الأنصار، وعرفوا أنهم سيعودون بما هو أكبر كثيراً من الغنائم؛ سيعودون بصحبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقد يعطي رسول الله صلى الله عليه حَديثَ عَهْدٍ بالإسلام شيئاً من الصدقة ليربطه بهذا الدين، وقد يعطى لتأليف القلوب، وقد يعطي لفقير تأبى عزة نفسه أن يعترف أمام الناس بحاجته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5213 ولذلك كانت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ملاحظة في توزيع الصدقات والغنائم، قد لا يلحظها أحد. وكان الواجب على المسلمين أن يقبلوا عمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن سلوكه هو الحكم، ولا بد أن نقبله. ففي الحديبية مثلاً حيث حدث عهد بين رسول الله صلى الله عليه وبين كفار قريش بألا يتعرض أحد منهم للآخر مدة عشرة أعوام، هذا الصلح أثار غضب عدد من المؤمنين وقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنرضى بالدنية في ديننا؟ أي: كيف نعطيهم هذه العهود وهي مجحفة بالنسبة لنا؟ حتى إن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه انفعل وأراد أن يقسو في الكلام وقال لرسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ألستَ على حق يا رسول الله؟ فقال أبو بكر: الزم غرزك يا عمر - أي اعرف مكانك - إنه رسول الله. وبعد أن مرت فترة من الزمن وعرف المسلمون الحكمة من صلح الحديبية، وما أتاحه هذا الصلح للإسلام من انتشار وقوة أدت إلى فتح مكة، قال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ما كان نصر في الإسلام أعظم من نصر الحديبية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5214 ولكن المسلمين في هذا الوقت لم يُحِطْ فكرهم بما بين محمد وربه؛ لأن العباد دائماً يعجَلُون، والله لا يعجل عجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. وقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُهدِّئ نفوس المؤمنين، وقبل أن يصلوا إلى المدينة عائدين بعد صلح الحديبية، نزل قوله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] وهكذا أطلع الله المؤمنين على عِلَّة قبول صلح الحديبية وعدم القتال مع المشركين في هذا الوقت وذلك المكان، فقد كان هناك مؤمنون في مكة يكتمون إيمانهم ويعيشون في مجتمع المشركين الذين يمكنهم البطش بهؤلاء المسلمين لو علموا بوجودهم. كما أن المسلمين القادمين مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يعرفون هؤلاء المؤمنين، فإذا قامت المعركة فقد يقتل المسلم مسلماً، لأن الذين قدموا من المدينة لو دخلوا مع أهل مكة في قتال فقد يقتلون بعضاً من إخوانهم في الإيمان الموجودين في مكة، فهم لا يعرفونهم. ولو كان المؤمنون في ناحية والكفار في ناحية لعذَّب الحقُّ الكفار بأيدي المؤمنين عذاباً أليماً. إذن: فقد علم رسول الله من ربه سراً ولم يُعْلِنْه إلا لوقته، رغم تعجُّل من كانوا معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5215 ومثل هذا يحدث في حياتنا، قد نجد مؤمناً يدعو الله ولا تجاب دعوته وعلى هذا المؤمن ألا يحزن، بل عليه أن يعلم أنه قد يكون في عدم الإجابة خير لا يعلمه. وأن من رحمة الله أنه يُجبْ هذه الدعوة، مثلما تحمي ابنك الشاب من أن يحمل سلاحاً؛ خوفاً من أن يتهور في أي مشاجرة ويقتل أحداً، رغم أن السلاح معه حمتية له، ولكنه أسلوب حماية قد يحمل الضرر، وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة. وحين تدعو الله ولا يجيب دعاءك، فَثِقْ أنه سبحانه يحميك من نفسك؛ لأنك لا تعلم والله سبحانه وتعالى يعلَم. فقد تدعو بشيء تحسبُه خيراً والله سبحانك يعلم أنه شر. إذن: فعدم إجابة هذه الدعوة هو عين الإجابة لها. الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} والسخط هو: عدم الرضا في القلب، ثم يتعدى ذلك إلى اللسان، مثلما قال حرقوص بن زهير لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اعدل يا محمد. أي: أنه سخط بقلبه أولاً، ثم أساء بلسانه ثانياً. وساعة يعرض الحق سبحانه لنا الداء في المجتمع الإيماني فهو جل وعلا يعطي الدواء الذي يحمي المجتمع من هذا الداء، وهؤلاء الناس كانوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5216 يعيبون تشريع الصدقة، رغم أنهم إنْ أعطوا منها رضوا، وإن لم يُعطوا سخطوا، إذن: فموازينهم مُختلة، وليست موازين حق ثابت، بل هي موازين هوى النفس، لكن موازين الحق لا تتبع ولا تتوقف على هوى النفس، بل هي موازين ثابتة يعدل فيها الإنسان حتى مع ألدِّ أعدائه. ولكن هؤلاء الناس تختلف انفعالاتهم باختلاف مصلحتهم، إذا أَخَذُوا رضُوا، وإذا مُنِعُوا سخِطوا؛ لأن ميزانهم هو المصلحة الخاصة البعيدة عن كل عدل. وهنا يأتي الحق سبحانه وتعالى بالعلاج فيقول جل جلاله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5217 كيف يقول الحق سبحانه وتعالى: {مَآ آتَاهُمُ} مع أنهم لم يأخذوا شيئاً، بل إنهم قد سخطوا؛ لأنهم لم يأخذوا شيئاً. نقول: إن الله يريد أن يلفتهم إلى أن له عطاء في المنح وعطاء في المنع. فعطاء الحق سبحانه لمن أخذ، وحرمان الحق سبحانه للبعض، كل ذلك فيه عطاء من الحق جل وعلا، ولكن الناس لا يلتفتون إلى ذلك. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين منع الغنائم عن الأنصار في حنين أخذوا المعية مع رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا أكبر وأسْمَى من الغنائم، وقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5217 «المحيا محياكم، والممات مماتكم. لو سلك الناس شِعْباً وسلك الأنصار شِعْباً لَسلكْتُ شِعْب الأنصار» وبذلك أخذوا ما هو أكبر وأهم وأعظم من الغنائم. إذن فقد يكون في المنع إيتاء. الحق سبحانه وتعالى يقول: {مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ} وهو عَزَّ وَجَلَّ المشرِّع، والرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هو المبلِّغ والمنفِّذ، فإذا ما رَضُوا بقسمة الله، فالرِّضاء عمل قلبي كان عليهم أن يترجموه بكلام نزوعي هو: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} فكأن الرضا عمل القلب، والتعبير عن الرضا عمل اللسان، وما داموا قد احتسبوا الأمر عند الله، فالله هو الذي يرعى، وفي عطائه خير وفي منعه خير. ولذلك نجد الطيبين من الناس إن غُلِبُوا على أمرهم يقولون: إن لنا رباً، أي: إياك أن تفهم أنك حينَ منعتني أو أخذت حقي بأن اعتديت عليّ ستمضي بهذا الفعل دون عقاب؛ لأن لي رباً يغار عليّ، وسبحانه سيعوِّضني أكثر مما أخذت، ويجعل ما أخذته مني قَسْراً؛ نقمة عليك. ولذلك فأهم ما يجب أن يحرص عليه المؤمن ليس هو الصلة بالنعمة ولكن الصلة بالمنعم. وفي أن الله هو القادر على أن يعوِّض أي شيء يفوت. ويوضح لنا سبحانه الصورة أكثر فيقول: {سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ} أي سيعوضنا عنها بخير منها. وعطاء الله دائماً فضل؛ لأنه يعطي الإنسان قبل أن يكون قادراً على عبادته، حتى وهو في بطن أمه لا يقدر على شيء، فإذا كنت في الدنيا قد فكرت بالعقل الذي خلقك لك الله، وعملت بالطاقة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5218 التي خلقها لك الله، وفي الأرض التي خلقها الله، فإنك في بطن أمك لم تكن قادراً على أي شيء. وحين تخرج وتنمو وتكبر فأنت تحيا في كون مليء بنعم الله، لم تخلق فيه شيئاً، ولم تُوجد فيه خيراً. وإنما جئت إلى الكون وهو كامل النعم، فلا أنت أوجدت الأرض ولا صنعتَ الشمس، بل إن نعمة واحدة من نعم الله، فلا أنت أوجدت الأرض ولا صنعتَ الشمس، بل إن نعمة واحدة من نعم الله، وهي المطر؛ إن توقفت هلك كل من في الأرض. ونلمس أثر ذلك حين تأتي مواسم الجفاف في أي منطقة من العالم، ونرى كيف يهلك كل شيء؛ الزرع والإنسان والحيوان. والحق سبحانه وتعالى قد خلقنا في عالم أغيار، فالقادر اليوم قد يصبح غير قادر غداً، والصحيح اليوم قد يصبح مريضاً معلولاً غداً، والقوي يضعف، حتى نعرف أن ما نملكه من قدرة وقوة ليست أموراً ذاتية فينا، ولكنها منحة من الله؛ يأخذها وقتما يشاء، ونرى القوى الذي كان يفتك بيده ويؤذي بها غيره ويُذِلُّ اناس بها. نراه وقد أصيبت يده، فلا تصل إليها الأوامر من المخ فتُشَل. إذن: فقدرة أي إنسان ليست ذاتية فيه، بل هي من فضل الله سبحانه وتعالى، وكل شيء في الكون هو من فضل الله. والحق سبحانه وتعالى يقول: {سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ} ويقال: رغب في كذا أي أراده، ويقال: رغب عن كذا، أي ترك هذا الأمر. ويقال: رغب إلى كذا أي سار في الطريق نحوه. وهنا قال الحق: {إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ} وما دُمْنا إلى الله راغبين، كان يجب ألا نعزل عطاء الدنيا عن عطاء الآخرة، فالدنيا ليست كل شيء عندك؛ ما دُمْت راغباً إلى الله الذي سيعطيك نعيماً لا حدود له في الآخرة. ولذلك فرغبتنا في الله كان يجب ألا تجعلنا نسخط على نعيم فاتنا في الدنيا؛ لأن هناك نعيماً بلا حدود ينتظرنا في الآخرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5219 وأراد الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك أن يبين مصارف الصدقة حتى يعرف هؤلاء الراغبون في متاع الدنيا هذه المصارف ويتعرفوا إلى حقيقة الأمر، وليتبينوا هل هم يستحقون الصدقة أم لا، فقال جل جلاله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ ... .} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5220 وعندما تسمع كلمة {إِنَّمَا} فافهم أنه يُرَادُ بها القصر، فإن قلتَ «إنما الرجل زيد، أي: أنك قصرت الرجولة على زيد. وإن قلتَ: إنما الكريم حاتم، تكون قد قصرت الكرم على حاتم. وقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصدقات} معناها: أن الصدقات محصورة في هؤلاء ولا تتعداهم. فمن هم هؤلاء الذين حصر الحق سبحانه وتعالى فيهم الصدقة؟ وما المراد هنا بالصدقة؟ هل هي صدقة التطوع أو الزكاة؟ نقول: ما دام الحق سبحانه وتعالى قد حدد لها مصارف فهي الزكاة، ولسائل أن يسأل: لماذا لم يَقُل الحق سبحانه وتعالى الزكاة وقال الصدقة؟ ونقول: ألا ترى - في المجتمعات غير الإيمانية الملحدة - أن من الناس مَنْ يكفرون في إنشاء مؤسسات اجتماعية لرعاية الفقراء؟ إن عطف الإنسان على أخيه الإنسان هو أمر غريزي خلقه الله فينا جميعاً، ولذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5220 كان يجب أن نفهم أن الزكاة صدقة، ولو لم يشرعها الله لكان يجب أن يقدمها الإنسان لأخيه الإنسان. وحوادث الكون كلها تدل على صدق وصف الحق سبحانه وتعالى للزكاة بأنها صدقة؛ لأنها تأتي تطوعاً من غير المؤمن وغير الملتزم بالتشريع، ويحس القادر بالسعادة وهو يعطي لغير القادر، وعي غريزة وضعها الله في خلقه ليخفف من الشقاء في الكون. وهنا يقول الحق: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} وقد احتار العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إن الفقير هو الذي لا يجد شيئاً فهو مُعدم. والمسكين هو من يملك شيئاً ولكنه لا يكفيه، وعلى هذا يكون المسكين أحسن حالاً من الفقير، واستندوا في ذلك إلى نص قرآني في قوله تعالى: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر ... } [الكهف: 79] وما دام هؤلاء المساكين يملكون سفينة إذن فعندهم شيء يملكونه. ولكن العائد الذي تأتي به السفينة لا يكفيهم. ولكن بعض العلماء قالوا عكس ذلك، ورأوا أن المسكين هو مَنْ لا يملك شيئاً مطلقاً، والفقير هو الذي يجد الكفاف. وعلى هذا يكون الفقير أحسن حالاً من المسكين، ولا أعتقد أن الدخول في هذا الجدل له فائدة؛ لأن الله أعطى الاثنين. . الفقير والمسكين. وكلمة» فقير «معناها الذي أتعبت الحياة فَقَار ظهره أي فقرات ظهره، وحاله يغني للتعبير عنه، والمسكين هو الذي أذهلته المسكنة. ثم يأتي بعد ذلك: {والعاملين عَلَيْهَا} أي: الذين يقومون بجمع الصدقات ويأخذونها ممن يعطيها ويضعونها في بيت المال، ونلاحظ هنا أن {والعاملين عَلَيْهَا} جاءت مطلقة؛ فلم تحدد هل يستحق الصدقة مَنْ كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5221 يجمعها وهو فقير، أو مَنْ كان يجمعها وهو غير محتاج. ونقول: إن جمع الصدقة عمل، ولو قلنا: إن غير المحتاج ويعمل في جمع الصدقة لا يجب أن يأخذ أجراً، هنا يصبح عمله لوناً من التفضل، وما دام العمل تفضُّلاً فلن يكون بنفس الكفاءة التي يعمل بها، إذا كان العمل بالأجر. وأيضاً حتى لا يُحرَم المجتمع من جامع صدقة ذكي نشيط؛ لأنه غير محتاج، ولكن نعطيه أجراً ليكون مسئولاً عن عمله، والمسئولية لا تأتي إلا إذا ارتبطت بالأجر. والعامل على جمع الصدقة إنما يعمل لصالح الدولة الإيمانية، فهو يجمع الصدقات ويعطيها للحاكم أو الوالي الذي يوزعها. وفي هذا مصلحة لمجتمع المسلمين كله. خصوصاً إن كانت الصدقة توزع من بيت المال فلا يتعالى أحد على أحد، ولا يذلك أحد أمام أحد، وفي هذا حفظ لكرتمة المؤمنين؛ لأن من يأخذ من غير بيت المال سيعاني من انكساره يده السُّفْلى. ومن يعطي لغير بيت المال قد يكون في عطائه لون من تعالى صاحب اليد العليا، وكذلك فإن أولاد الفقير لن يروا أباهم وهو ذاهب إلى رجل غني ليأخذ منه الصدقة ويُصَاب بالذلة والانكسار. ولا يرى أولاد الغني هذا الفقير وهو يأتي إلى أبيهم ليأخذ منه الصدقة؛ فَيتعالَوْنَ على أبناء الفقير. فإن أخذ الفقراء الصدقة من بيت المال، كان ذلك صيانة لكرامة الجميع، وإن حدث خلال بين غني وفقير فلن يقول الغني للفقير: أنا أعطيك كذا وكذا، أو يقول أولاد الغني لأولاد الفقير: لولا أبونا لَمُتُمْ جوعاً. إذن: فقد أراد الحق سبحانه بهذا النظام أن يمنع طغيان المعطي، ويمنع - أيضاً - ذلة السؤال، فالكل يذهب إلى بيت المال ليأخذ أو يعطي. وحين يذهب الفقير ليأخذ من بيت المال بأمر من الوالي فلا غضاضة؛ لأن كل المحكومين تحت ولايته مسؤولون منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5222 ثم يأتي الحق إلى فئة أخرى فيقول: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} وهم من يريد الإسلام أن يستميلهم، أو على الأقل أن يكفوا آذاهم عن المسلمين. وكان المسلمون في الزمن الأول للإسلام ضعافاً لا يقدرون على حماية أنفسهم. وعندما أعز الله دولة المسلمين بالقوة والعزة والمكانة، منع الخليفة عمر بن الخطاب إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة؛ لأنه لم يجد أن قوة الإسلام تحتاج أحداً غير صحيحي الإيمان؛ لذلك لم يدخلهم عمر بن الخطاب في فئات الزكاة. وقول الحق سبحانه: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} يثير سؤالاً: هل يُؤلَّف القلب؟ . نقول: نعم، فالإحسان يؤلف قلب الإنسان السَّوي، وكذلك يؤلف جوارح الإنسان غير السوي، فلا يعتدى على من أحسن إليه باللسان أو باليد. ثم يقول الحق سبحانه: {وَفِي الرقاب} ومعناها العبيد الذين أُسروا في حرب مشروعة. وكانت تصفية الرق من أهداف الإسلام؛ لذلك جعل من مصارف الزكاة تحرير العبيد. وبعض من الناس يدَّعون أن الإسلام جاء بالرق وأقره. ونقول: لم يأت الإسلام بالرق؛ لأن الرق كان موجوداً قبيل البعثة المحمدية، وجاء الإسلام بالعتق ليصفى الرق، فجعل من فَكِّ الرقبة كفارة لبعض الذنوب. وجعل من مصارف الزكاة عتق العبيد. وقد نزل القرآن وقت أن كانت منابع الرق متعددة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5223 وكان من المعتاد في تلك الأيام أن المدين الذي يعجز عن سداد ما عليه من دَيْن، فالدائن يأخذه أو يأخذ أحد أبنائه كعبد له. وإذا فُعلَتْ جناية، فالجاني يأخذ العفو من المجني عليه مقابل أن يعطيه أحد أولاده عبداً. وإذا سُرِق شيء فإن السارق لا يعاقب، بل يعطي أحد أولاده عبداً للمسروق منه. وكان الأقوياء يستعبدون الضعفاء؛ فيخطفون نساءهم وأولادهم بالقوة ويبيعونهم في سوق الرقيق، وهكذا كانت منابع الرق في العالم متعددة، ولا يوجد إلا مصرف واحد هو إرادة السيد؛ إن شاء حرر وإن شاء لم يحرر. وقد كان الرق موجوداً في أوروبا وفي آسيا وفي أفريقيا ووُجِد أيضاً في أمريكا. إذن: كانت هناك منابع متعددة للرق؛ ومصرف واحد هو إرادة السيد، وقد كان الرق يتزايد، وجاء الإسلام والعالمُ غارق في الرق، لماذا؟ لأن الرق في ذلك الوقت كان يشبه حوضاً تصب فيه صنابير متعددة، وليس له إلا بالوعة واحدة. ولم يعالج الإسلام المسألة طفرة واحدة، شأن معظم تشريعات الله، ولكنه عالجها على مراحل، تماماً كتحريم الخمر حين بدأ التحريم بالمنع عند الصلاة، فقال الحق سبحانه وتعالى: {تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ... } [النساء: 43] ثم حرمها تحرمياً قاطعاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5224 وحين جاء الإسلام ليعالج قضية الرق ويحرر الإنسان من العبودية، بدأ بإغلاق مصادر الرق. وجعل المصدر الوحيد هو الحرب الإيمانية المشروعة من ولي الأمر. أما كل الوسائل والألوان الأخرى من أبواب الرق، كأن يتم استعباد أحد كعقوبة جنائية أو لعجزه عن تسديد دَيْن أو غير ذلك، فقد أغلقها الإسلام بالتحريم. أما ناحية المصرف فلم يجعله مصرفاً واحداً هو إرادة السيد، بل جعله مصارف متعددة؛ فالذي يرتكب ذنباً يعرف أن الله لن يغفر له إلا إذا أعتق رقبة، ومن حلف يميناً ويريد أن يتحلل منها؛ يعتق رقبة. فإذا لم يفعل هذا كله وأراد أن يحسن إحساناً يزيد من أجره عند الله؛ أعتق رقبة. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11 - 13] وهكذا جعل الإسلام مصارف كثيرة لتصفية الرق حتى ينتهي في سنوات قليلة، ثم وضع بعد ذلك ما يُنْهي الرق فعلاً، وإن لم يُنْهِه شكلاً. فإذا كان عند أي سيد لون من الإصرار على أن يستبقى عبده، فلا بد أن يُلبسه مما يلبس، ويُطعمه مما يَطْعم، فإن كلَّفه بعينه. وهكذا أصبح الفارق متلاشياً بين السيد وعبده. وحين ألغتْ بعض الدول الإسلامية الرقَّ بالقانون، ذهب الرقيق إلى أسيادهم وقالوا: دعونا نعش معكم كما كنا. وهم قد فعلوا ذلك لأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5225 حياتهم مع أسيادهم كانت طيبة. وهكذا ألغى الإسلام فوارق الرق كلها، وأصبحت مسألة شكلية لا تساوي شيئاً. ولكن بعض الناس يتساءل: وماذا عن قول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ... } [النساء: 36] نقول: افهم عن الله، فهذا أمر لا يسري إلا إذا كانت المرأة المملوكة مشتركة في الحرب، أي: كانت تحارب مع الرجل ثم وقعت في الأسْر، والذي يسري على الرجل في الأسر يسري عليها، ثم من أي مصدر ستعيش وهي في بلد عدوة لها؛ إنَّ تركها في المجتمع فيه خطورة على المجتمع وعليها. كما أن لهذه المرأة عاطفة سوف تُكْبتُ، فأوصى الإسلام السيد بأنه إذا أحب هذه الأمةَ فلها أن تستمتع كما تستمتع زوجة السيد، وإن أنجبت أصبحت زوجة حرة وأولادها أحراراً، وفي هذا تصفية للرق. ويقول الحق سبحانه وتعالى عن لون آخر من مستحقي الزكاة: {والغارمين} والغارم: هو من استدان في غير معصية، ثم عجز عن الوفاء بِدَيْنه. ولم يمهله صاحب الدَّيْن كما أمر الله في قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ... } [البقرة: 280] ولم يسامحه ولم يتنازل عن دَيْنه، وفي هذه الحالة يقوم بيت المال بسداد هذا الدَّيْن. لكن لماذا هذا التشريع؟ لقد شاء الحق إعطاء الغارم الذي لا يجد ما يسد به دَيْنه حتى لا يجعل الناس ينقلبون عن الكرم وعن أقراض الذي يمر بعسر، وبذلك يبقى اليُسْر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5226 في المجتمع، وتبقى نجدة الناس للناس في ساعة العسرة، فلا يمتنع أحد عن إعطاء إنسان في عسرة؛ لأنه يعلم أنه إن لم يدفع فسيقوم بيت المال بالسداد من الزكاة. أو: أن الغارم هو الذي أراد أن يصلح بين طرفين، كأن يكون هناك شخصان مختلفان على مبلغ من المال، فيقوم هو بفضِّ الخلاف ودَفْع المبلغ، ثم تسوء حالته؛ لأنه غرم هذا المال بنخوة إيمانية، فنقول له: خذ من بيت المال حتى يشيع في النفوس تصفية الخلافات وإشاعة الحب بين الناس. إذن: فالغارم هو المستدين في غير معصية ولا يقدر على سداد الدين، أو المتحمِّل لتكلفة إصلاح ذات البَيْن بين طرفين، وهو مستحق لهذا اللون من المال. ويقول الحق سبحانه: {وَفِي سَبِيلِ الله} . يقول جمهور الفقهاء: إنها تنطبق على الجهاد؛ لأن الذي يضحي بماله مجاهداً في سبيل الله، لو لم يعلم أن الجهاد باب يدخله الجنة لما ضَحَّى بماله، وعندما تضحي بالمال أو النفس في سبيل الله يكون هذا من يقين الإيمان. فلو لم تكن على ثقة أنك إذا استشهدت دخلت الجنة ما حاربت. ولو لم تكن على ثقة بأنك إذا أنفقتَ المال جهاداً في سبيل الله دخلتَ الجنة ما ما أنفقت. والإسلام يهدف إلى أمرين: دين يبلَّغ ومنهج يُحقَّق، والمجاهد في سبيل الله أسوة لغيره من المؤمنين. والأسوة في الإسلام هي التي تُقوِّيه وتُثبِّته في النفوس؛ لأنها الإعلام الحقيقي بأن ما تعطيه من نفسك أو مالك لله ستجازى عنه بأضعاف أضعاف ما أعطيت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5227 {وَفِي سَبِيلِ الله} أيضاً كل ما يتعلق بمصارف البر مثل: بناء المساجد والمدارس والمستشفيات. ثم يقول سبحانه موضحاً لمصرف جديد من مصارف الصدقة والزكاة: {وابن السبيل} ، ونحن نعلم أن كل إنسان ينسب إلى بلده. فهذا دمنهوري وهذا طنطاوي، إلى آخره حسب البلد الذي هو منه. ولكن لنفرض أن إنساناً مشى في الطريق في غير بلده فإلى من تنسبه وأنت لا تعرف بلده؟ تنسبه إلى الطريق فيصبح: ابْن السَّبِيلِ؛ لأن السبيل هو الطريق. وهذا الإنسان الغريب عن بلده لا بد أن تعينه حتى يصل إلى بلده، وإنْ وجد الإنسان مَنْ يعينه في هذه الحالة، فسوف يشجع ذلك سفر الشباب إلى الدول الأخرى لطلب الرزق، وأيضاً هناك من يسافر ليزداد خبرة أو يسافر للسياحة، وهناك من يسافر للتجارة، وقد يكون غنياً ولكنه قد يفقد ماله في الطريق. ويريد الحق سبحانه أن يكفل عباده وهم غرباء من أي مفاجأة قد تجعلهم في عسر، فالذين سافروا للسياحة مثلاً ثم أصيبوا بكارثة أوجب الحق مساعدتهم، والذين سافروا طلباً للرزق ولم يُوفَّقوا أوجب الله سبحانه وتعالى مساعدتهم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يسيروا في الأرض ليروا آياته، وليبتغوا الرزق، إذن: فابن السبيل هو كل غريب صادفته ظروف صعبة، ولا يجد ما يعود به إلى بلده. ثم يقول الحق سبحانه: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} أي: أن كل من حدد الله سبحانه وتعالى استحقاقه للصدقة إنما يستحقها بفرض من الله، فالصدقة فريضة للفقراء، فريضة للمساكين، فريضة للعاملين عليها، والمؤلََّفة قلوبهم وفي الرِّقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5228 ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، والله هو واجب الوجود وخالقه، خلق الإنسان وكرَّمه فجعله خليفة في الأرض. وقبل أن يخلق سبحانه الإنسان أعدَّ له الكون الذي يعيش فيه؛ الأرض والشمس والقمر والسماء والكواكب والنجوم. ثم جاء الإنسان إلى الكون؛ ليجد كل شيء قد أعدَّ لخدمته خاضعاً له، فلا يوجد جنس من الأجناس يتأبى عن خدمة الإنسان، فلا الأرض إذا زُرعَتْ رفضت إنبات الزرع، ولا الحيوان الذي سخره الله جل جلاله لخدمة الإنسان يتأبى عليه؛ فالحمار تُحمِّله السباخ والقاذورات فلا يرفض، وتنظفه وتجعله مَطيَّة تنقلك من مكان إلى آخر فلا يتأبى عليك. وما دام سبحانه الذي خلق، فهو أدرى بمن خلق، وبما يصلحه وما يفسده - ولله المثل الأعلى - نحن نعرف أن المهندس الذي يصمم آلة إنما يضع لها قانون صيانتها. فما بالنا بخالق الإنسان المتعدد المشاعر والأطوار؟ إن خلق الإنسان لا يقتضي علماً فقط، ولكنه يقتضي أيضاً حكمة؛ لأنك قد تعلم، ولكنك لا تستخدم العلم فيما تفعل، كأن تعلم قانون صيانة آلة معينة ثم لا تطبقه وتحاول أن تأتي بقانون من عندك؛ لذلك فلا بد مع العلم من حكمة لتضع الشيء في موضعه السليم. ولذلك قال الحق سبحانه: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . ونحن نعلم أن الصدقات تقتضي مُتصدِّقاً وهو المعطي، ومُتصدِّقاً عليه وهو مستحق الصدقة أو بالذي يأخذها، ومُتصدَّقاً به وهو الشيء الذي تتصدق به، إذن فهناك ثلاثة عناصر: المتصدِّق، والمتصدَّق عليه، والمتصدَّق به. قد يتساءل بعض الناس: لماذا خلق الله الإنسان الخليفة في الأرض وجعل بعضهم قادراً وبعضهم عاجزاً، وهذا يعطي وهذا يأخذ، ولماذا لم يجعل الكل قادرين؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5229 نقول: إن مفارقات التقابل في الأشياء تجعلها تتكامل، فهناك ليل وهناك نهار، فهل الليل ضد النهار؟ لا؛ لأن الليل مُكمِّل للنهار، والنهار مُكمِّل لليل. ولو لم يُخْلقَا معاً متكاملين؛ لاختلَّ التوازن في الكون. والحق سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 72] إذن: فالإنسان يحتاج إلى ضوء النهار للحركة والعمل، ويحتاج إلى ظُلْمة وسكون الليل للنوم، وإن لم يَنَمِ الإنسان ويسترِحْ فهو لا يستطيع مواصلة العمل. وهكذا نرى الليل والنهار متكاملين وليسا متضادين. كذلك الرجل والمرأة. وقد لا يفهم بعض الناس أن الرجل والمرأة متكاملان، ويقولون: لا بد أن تساوي المرأةُ الرجلَ، ونقول: إنكم تعتقدون أن المرأة والرجل جنسان مختلفان، ولكنهما جنس واحد مخلوق من نوعين، وكل نوع له مهمة وله خاصية. وللإنسان المكوَّن من الرجال والنساء مهمة وخصائص يشتركون فيها، ويتضح لنا ذلك عندما نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الليل: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 1 - 3] كأن الذكر والأنثى، مثل الليل والنهار متساندان متكاملان، فلا تجعلهما أعداء بل انظر إلى التكامل بينهما، ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5230 أي: كُلٌّ له مهمة في الحياة، واقتضتْ حكمته سبحانه في خلق الكون أن يجعل كل شيء يخدم الإنسان؛ الجماد يخدم الإنسان، وكذلك النبات، وكذلك الحيوان، حتى يكون الإنسان مستنجياً لمنهج الله ولعبادته. وكذلك اقتضتْ الحكمة أيضاً أن يخلق الله سبحانه وتعالى أشياء لا تستجيب للإنسان؛ حتى يعرف الناس أن هذا الكون ليس مُذلَّلاً بقدراتهم هم، بل بقدرة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] فتجد مثلاً الجمل بضخامته ينقاد لطفل صغير، بينما الثعبان الصغير على دِقَّة حجمه لا يجرؤ الإنسان أن يقترب منه. وفي الوقت نفسه، فإن هذه الحكمة تقتضي أن يحس الإنسان أن قدراته وقوته موهوبة له من الله سبحانه وتعالى، وأنها ليست من ذات الإنسان. ولذلك يخلق الله أناساً ضعافاً لا يقدرون على الكسب، ليلفت أنظارنا إلى أن قوة القوى هي هبة من الله، وليست في ذاتية الإنسان، وإلا لو كانت ذاتية في الإنسان ما وُجد عاجز. ولا بد أن يفهم كل قوي أن قوته هبة من الله يمكن أن تسلب منه فيصبح ضعيفاً مثل من يراهم أمامه من ضعاف البشر. والضعيف غير القادر على العمل، والأعمى غير القادر على الكسب، والكسيح غير القادر على السير، كل هؤلاء موجودون في الكون ليلفتوا الأصحاء والأقوياء إلى أن الصحة والقوة من الله، فلا يغتر الأصحاء والأقوياء بأنفسهم ويرتكبوا المعاصي، بل عليهم أن يخافوا الله، فسبحانه الذي أعطى يستطيع أن يأخذ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5231 كما اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن ينقسك الأرزاق بيننا لتسير حركة الكون. وإلا لو أصبحنا كلنا ميسورين، فمن الذي يقوم بتنظيف الشارع؟ ومن الذي يقوم بتسليك البالوعات؟ ومن الذي يحمل الطوب والأسمنت على كتفيه للبناء؟ وإن كنا جميعاً نملك المال فلن يرضى أحد أن يقوم بالأعمال البسيطة والمزعجة والمرهقة، وشاء الله أن يربط هذه الأعمال بالرزق، بحيث يقوم بها بعضنا ليحصل على قوت أولاده، وإلا لما أمسك أحد بمكنسة لتنظيف الطريق، وما عمل أحد في إصلاح المجاري؛ لذلك قد ترى مَنْ يقومون بهذه الأعمال سعداء عندما تُسَدُّ المجاري، أو يحتاج الطريق إلى نظافة؛ لأن رزقهم يأتي من هذا العمل. ولكن أيبقى هذا الحال على ما هو عليه؟ لا؛ لأن الأيام تُتداوَلُ بين الناس، وكل واحد له عُرْس وله مَأتم. وتأتي أيام تكون فيها هذه الأعمال اليدوية هي مصدر الرزق الوفير، وهي التي يملك أصحابها سعة الرزق، أكثر من الذين درسوا في الجامعات وأهِّلوا للمناصب، لكنهم أقل دخلاً وأقل رزقاً. وهكذا نعلم أن الكون يحتاج إلى المواهب المتعددة التي تتكامل فيه، فأنت إذا أردت أن تبني بيتاً تحتاج إلى مهندس ومقاول ونجار وحداد وبنَّاء إلى غير ذلك، ولا يمكن لإنسان أن يملك هذه المواهب كلها في وقت واحد. فلا بد أن تتكامل وأن يرتبط هذا التكامل بالرزق ولقمة العيش. بل وتجد أن الإنسان قد يتخصص في عمل ويتقنه بينما يحتاج هو لبعض من وقته ليقوم بمثل هذا العمل لبيته فلا يجد، ولذلك يقال: «باب النجار مخلّع» ؛ لأن الأبواب الأخرى التي يصنعها مرتبطة برزقه وهو يحاول أن يحسن صناعتها، أما بابه هو فلا رزق له فيه، ولذلك قد يكسل عن صيانته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5232 ولا بد أن يعرف الإنسان أنه ليس أصيلاً في الكون، بل مستخلف فيه؛ لأن الفساد ينشأ دائماً حين يعتبر الإنسان نفسه أصيلاً في الكون. وإياك أن تفهم أن المعْطى مُفضَّل على الآخذ، أو أن الآخذ مُفضَّل على المُعطي، بل هما متبادلان، فالإيمان نصفان: نصف شكر ونصف صبر. إما أنك في نعمة فتشكر. وإما أنك في محنة فتصبر. وعندما نتأمل الغني المستخلَف في النعمة تجد أنه قد أخذ النصف الذي يخصه كشاكر، وحُرِمَ من النصف الآخر الإيماني وهو الصبر؛ ولذلك يأتي الإسلام له بتشريع يأَخذ منه بعضاً من ماله الذي حصل عليه بعرقه وعمله ويعطيه لغير القادر على العمل، وبذلك يحصل على جزء من الصبر؛ لأنه يعطي بعضاً من فائدته عمله للعاجز عن العمل، ويكون الفقير قد أخذ نصف الشكر ونصف الصبر. فقد صبر على فقره، وجاء له المال بلا تعب فشكر الله على نعمته. وهكذا نجد أن الاثنين إذا طبَّقا منهج الله أخذا نصف الصبر ونصف الشكر. وعلى العاجز عن الكسب ألا يغضب؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعطيه الرزق بلا تعب. بل إنك قد تجد الغني وهو يبحث عن مصارف الزكاة ويسال عن الفقراء ليعطيهم. وكثيراً ما نرى إنساناً عزيزاً في أزمة، ونجد من أصدقائه من يقترض ليعطيه. والله سبحانه وتعالى قال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] ومع أن المال مال الله فقد احترم سبحانه عمل الإنسان الذي يأتيه بالمال، وطلب منه أن يعطي بعضاً منه أخاه المحتاج؛ ابتغاء مرضاة الله، واعتبر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5233 سبحانه وتعالى هذا العمل إقراضاً له جل جلاله، وكأن الذي يعطي المال للمحتاج يقرض الله، ولله المثل الأعلى؛ كالأب الذي يعطي مصروفاً لأولاده، فيضعه كل منهم في حصالته، ثم تأتي للأب أزمة مالية، فيستأذن أولاده حتى يأخذ ما في حصالاتهم، رغم أن مال الأولاد هو من مال الأب، ورغم ذلك نجد الأب قد احترم ما وهبه من المال لأولاده؛ فاعتبره مالهم. كذلك الحق سبحانه وتعالى احترم عمل الإنسان، فاعتبر المال ماله، وطلب منه أن يقرضه. وفي هذا مَيْزة للغني والفقير، فالغني يأخذ ميزة وشرف أنه أعطى لله، والفقير أخذ ميزة؛ لأن الله سبحانه وتعالى اقترض من أجله. وجعل الله الزكاة من أركان الإسلام، وجعل هذا الركن لمصلحة الفقير. فالغني ليس له ركن في إيمان الفقير، ولكن الفقير له ركل من إيمان الغني. والغني حين يعطي جزءاً من ماله فهو يستغني عن هذا الجزء. وهناك فرق بين أن تستغني عن الشيء وتستغني بالشيء. والحق سبحانه وتعالى مستغن عن الكون وما فيه، فكأنه أعطى الغني صفة من صفات الحق؛ لأن الله مستغن عن مال الدنيا كله، والمال ليس سلعة مفيدة فائدة مباشرة للإنسان. والمثال الذي أقوله دائماً، يوضح ذلك: لنفرض أن رجلاً عنده جبل من ذهب وتاه في صحراء لا يجد فيها لقمة خبز أو شربة ماء، فما هي فائدة جبل الذهب هذا؟ إنه لا يساوي شيئاً. إذن: فالمال ليس غاية في حد ذاته، ولكنه وسيلة. وعندما يمنع الغني ماله عن الفقير يكون قد جعل المال غاية فلا ينفعه. أما إذا أعطى الغني بعضاً من المال للفقير؛ فهو قد أعاد إلى المال وظيفته في أنه وسيلة من وسائل الحياة. وأنت تشتري بالمال ما تعتقد أنه ينفعك؛ فعليك أن توظفه في أكمل ما ينفعك؛ وهو رضا الله سبحانه وتعالى وثوابه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5234 واحترم الحق سبحانه حركة الحياة في العمل؛ حتى يعمل كل إنسان على قدر طاقته، وليس على قدر حاجته؛ لأن الإنسان إذا عمل على قدر حاجته فقط لما وُجِد فائض من مال للزكاة. ولذلك سمى الحق سبحانه وتعالى المال الذي يكسبه الإنسان في الدنيا مال الإنسان، حتى يعمل كل منا على قدر طاقته؛ لأن المال ماله. وعندما يزيد ما عندك من مال على حاجتك فأنت لا تحب أن يفارقك المال الزائد، وفي الوقت نفسه تحرص على أن تنفقه فيما ينفعك، فيرشدك الحق إلى إنفاق بعض المال في خير ما ينفعك، وهو أن تعمل لآخرتك. إذن: فأنت محتاج إلى التصدق ببعض من المال الزائد لِتحسُنَ آخرتك. والفقير محتاج إلى بعض من المال الزائد عن حاجتك ليَعيش. فكلاكما يحتاج الآخر، ولكن الله سبحانه وتعالى احترم عمل الإنسان، فجعل له النصيب الأكبر مما يكسب، وللفقير نصيب أقل. وعلى سبيل المثال: إن عثر الإنسان على كنز فزكاته عشرون في المائة، وإذا زرع الإنسان وروى وحصد فزكاته هي عشرة في المائة، أما إذا كان رزق الإنسان من عمل يومي كالتجارة، فالزكاة هي اثنان ونصف في المائة؛ ذلك أنه كلما كثرت حركة الإنسان في عمله قلَّتْ الزكاة. وكلما قَلَّ عمل الإنسام فيما يكسب؛ زادت الزكاة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يشجع العامل على العمل. والمجتمع هو المستفيد بالعمل وإن لم يقصد صاحبه ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5235 فالذي يبني عمارة - مثلاً - إنما يفتح باب العمل لمن يحضر الرمال، ولمن يحضر الطوب والأسمنت والحديد، وهو يدفع لوسائل نقل هذه المواد إلى موقع البناء، ويدفع أجوراً لمن قاموا بصناعة وتركيب الأدوات الصحية، والكهرباء، وغير ذلك وقد لا يستفيد صاحب العمارة منها لانتهاء أجله. إذن: فالمجتمع كله يستفيد من بناء العمارة، حتى ولو لم يكن في بال صاحبها أن يفيد المجتمع، ويعتقد بعض الناس أن العمل وحده هو الذي يأتي بالمال، وينسون أن الله هو الذي ييسره لهم، ويُمَكّنُهم منه. ويلفتنا سبحانه إلى ذلك حين تأتي آفات تتلف الزرع وتُضَيّعُ تعب من قاموا بالحرث والبذر والسَّقْي؛ لعلنا نلتفت إلى أن كل شيء يتم بإرادة الله، وليس بالأسباب وحدها. وسبحانه وتعالى حين يقضي بذلك، يلفتنا أيضاً لفتة فيبارك في زرع في بلد آخر أو مكان آخر، فإذا هلك محصول القمح في دولة، كانت هناك دولة أخرى يزيد فيها محصول القمح، فيشتري هؤلاء من هؤلاء، أو ترسل الدول التي جاءها محصول وفير إلى الدول التي هلك فيها الزرع كمعونة أو إغاثة، وبذلك تتعامل سبل الحياة. ولا بد لنا أن نتذكر دائماً أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعطانا القدرة، ولا أحد يستطيع أن يعطي القدرة للإنسان غير الله تبارك وتعالى. فالقدرة المطلقة هي لله سبحانه وتعالى، وسبحانه يُمرِّر بعضاً من أثر قدرته إلى خلقه، فنجد إنساناً يستطيع بقدراته أن يُعِين إنساناً آخر في حَمْل شيء ثقيل لا يستطيع صاحبه أن يحمله. وفَرْقٌ بين أن تتبرع أنت بأثر قوتك؛ وبين أن تهبَ الغير هذه القوة. فالبشر يعطي أثر القوة، ولكن الحق سبحانه وتعالى يهب القوة لمن يشاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5236 المال - إذن - لا ينفع بذاته، وإنما هو يُحضر الشيء النافع للإنسان، فإذا احتجت إلى طعام أو شراب أو ملابس أو سيارة أو غير ذلك اشتريتها بالمال. إذن: فالمال هو وسيلة البشر للحصول على احتياجاتهم. ولذلك يعتز به الإنسان. والمثال: أن الأبناء الذين يأخذون المصروف كل شهر من الأب، تجدهم يحرصون على لقاء الأب في أول الشهر، وقد لا يلتفتون إليه باقي الأيام. أما إذا كان المصروف في كل يوم فتجد الأولاد يحرصون على لقاء أبيهم في كل يوم. والحق سبحانه وتعالى هو خالق النفس البشرية، يعلم ما في صدور الناس؛ ولذلك يُلفت القادر إلى ضرورة أن يُخرِجَ بعضاً من ماله للعاجز عن الكسب. ونحن نعيش في عالم أغيار، ومن الممكن ان يصبح القادر اليوم عاجزاً غداً. ولذلك نجد القادر يمتلئ بالقلق إذا رأى عاجزاً. وهنا يتذكر نعمة الله عليه؛ فيسرع ليدفع بعضاً من ماله إلى العاجز؛ وهو راض، خوفاً من أن يحدث له مثل ما حدث لهذا العاجز. ويقول الحق: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ... } [التوبة: 103] إذن: فالصدقة تطهر الإنسان من الغفلة التي قد تصيبه، وتُزكِّي الإنسان أيضاً، وشاء سبحانه أن تكون الزكاة نموّاً وزيادة وإن بدت في ظاهرها على أنها نقص. فالمائة جنيه تصبح سبعة وتسعين ونصفاً بعد إخراج الزكاة، وهي عكس الربا الذي قد تصبح فيه المائة مائتين، وظاهر الربا أنه زيادة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5237 ولكنه يمحق كل خير، وظاهرة الزكاة أنها نقص، ولكنها في حقيقتها نماء. والنماء أن يترقى الشيء في مراتب الكمال؛ فينمو طهارة، وينمو تزكية، وينمو بالزيادة والبركة. والإنسان يحتاج إلى المال ليحصل على ضروريات الحياة وكمالياتها؛ فيطمئن إلى حاضره ومستقبله. لكن لنفرض أن المال دام لك طول العمر، وأنت تعرف أن العمر مهما طال، قصير. ولا بد أن يأتي يوم تفارق فيه هذا المال بالموت. في هذه اللحظة يكون ما كنزت من المال قد صار إلى ورثتك، ولا يصحبك منه إلى آخرتك إلا ما أنفقت في سبيل الله، أي: أن ما أنفقت هو ما يبقى لك في عالم الخلود لا يفارقك ولا تفارقه. وشاء الحق أن يضاعف لك الجزاء والثواب. ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يقول ابن آدم: مالي مالي. . وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟» إذن: فالذي يحب ماله عليه أن يصحب معه هذا المال لمدة أطول، وأن يتعدى به مجرد الوجود في الدنيا، وأن يصل به إلى دار الخلود. ومن يعشق المال - إذا أراد أن يبقيه - فلينفقه في الصدقة. «ولنا الأسوة الحسنة في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين جاءته شاة كهدية، فقال للسيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها:» تصدقي بلحمها «. وكانت السيدة عائشة رضوان الله عليها تعرف أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب لحم الكتف، فتصدقت بلحم الشاة كلها، وأبقَتْ قطعة من لحم الكتف لرسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5238 وعندما عاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، سألها: ماذا فعلت بلحم الشاة؟ قالت: تصدقت بها كلها وأبقيت كتفها. فقال:» بل قولي أبقيتها كلها إلا كتفها « وذلك لأن ما تصدقت به السيدة عائشة هو الباقي. وما أبقته لهما هو الذي سيفني. وهكذا سمي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأشياء بحقيقة مسمياتها. فالذي يحب صحبة ماله في الدنيا والآخرة، عليه أن يقدم بعضاً منه صدقة للفقير والمحتاج، ليبارك الله له في الدنيا، ويجزيه خير الثواب في الآخرة. وقد سأل رجل الإمام عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أريد أن أعرف: هل أنا من أهل الآخرة؟ . قال الإمام علي كرم الله وجهه: الجواب عندك أنت، لا عندي، انظر إذا دخل عليك من يعطيك، ودخل عليك من يطلب منك، أيهما ترحب به وتقابله ببشاشة؛ أيهما تحب؟ إن كنت تحب من يأخذ منك فأنت من أهل الآخرة، وإن كنت تحب من يعطيك فأنت من أهل الدنيا؛ لأن من يأخذ منك يحمل حسناتك إلى الآخرة، وأما من يعطيك فيزيدك من الدنيا ولا يعطي آخرتك شيئاً. ونقول للذي يحب المال: اجعل حبك للمال يبقيه لك فترة أطول من عمر الدنيا؛ فالدنيا ليست هي المقاس، ودنياك قدر عمرك فيها. أما الآخرة فأنت خالد فيها، فتصدق ببعض مالك يكن لك خيراً في الآخرة. ويذيل الحق الآية بقوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: أنه سبحانه وتعالى يضع الأشياء في موضعها عن علم وحكمة مصداقاً لقوله تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5239 وأما الحكمة فيدير بها الحق سبحانه حياة كل الناس، وكلهم عبيد لله، ولا فرق بين غني وفقير. وشاء الحق أن يجعل التفرقة فقط في الدنيا؛ لأن العالم لا يحتاج إلى أفراد مكررين، ولا يمكن أن تستقيم الحياة إن كنا كلنا أطباء أو كلنا مهندسين أو كلنا قضاة؛ لذلك شاء سبحانه أن تتوزع المواهب على قدر ضروريات الحياة، فنبغ كل واحد منا في شيء؛ أنا أتقن شيئاً ولا أعرف الباقي، وغيري يتقن شيئاً آخر ولا يعرف الباقي. فأكون في حاجة إلى عمل غيري، وغيري يحتاج عملي، وبذلك يصير الرباط بيننا رباط حاجة ورباط رزق، لا رباط تفضل وتطوع. إذن: فالحكمة اقتضت أن يوزع سبحانه وتعالى المواهب على الخَلق بقدر ما تتطلب الخلافة في الأرض من حركات الحياة؛ فأعطى هذا زاوية من نبوغ، وأعطى الآخر زاوية أخرى من النبوغ، ومن مجموع هذه الزوايا يتكون المجتمع، وسبق أن قلنا: إن مجموع كل إنسان يساوي مجموع الآخر، ولكن الناس لا تنظر إلا للمال، ولا يلتفتون إلى ما هو أهم من المال، كالصحة، والأخلاق، وراحة البال، وسعادة الأولاد وتوفيقهم، ثم البركة في الرزق وغير ذلك. إنك لو وضعتَ لكل هذه الأشياء رقماً من عشرة مثلاً؛ تجد أن مجموع كل إنسان في النهاية يتساوى مع مجموع أي إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى. وإن رأى إنسان عاجز غيره ممن يملكون المال ولا يخرجون منه زكاة أو صدقة، فماذا يكون موقفه؟ لابد أنه سيتمنى زوال النعمة عن هؤلاء. ولكن إن عادت نعمة القادر الغني على من لا نعمة عنده، فهذا يجعل العاجز الفقير مُحِبّاً لدوام النعمة عند صاحبها؛ لأنه إن حُرِم الغني الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5240 القوة، حُرِم العاجز من آثارها؛ ولذلك فعندما يعطي الغني للفقير، فهو يدعو لَه بالبركة، وحين يبارك الله في تلك النعمة سيعود على الفقير بعض منها. وإن لم يأخذ الفقير المحتاج صدقة من الغني، فقد يأخذها تلصُّصاً بأن يتحايل عليه ليسرقه أو ينهبه، أو ربما دفعه الحقد والحسد إلى ان يقتله أو يتآمر على قتله. إذن: فالزكاة في المجتمع تدفع شروراً كثيرة عن صاحبها. وهي ضرورة من ضروريات الحياة. ولذلك رأيناه القادرين في المجتمعات التي لا ترمن بدين وهم يتطوعون لإقامات المؤسسات الاجتماعية لرعاية غير القادرين لدقع شرور العاجزين عن مجتمعاتهم؛ لذلك تجد في معظم دول العالم من يحاول تخصيص جزء من المال لكفالة العجزة والمتعطلين ليعيشوا حياة الكفاف، وبذلك يأمن المجتمع شرورهم. على أن قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل} معناه: أن الصدقات قد فرضت لهؤلاء، والذي فرضها هوالحق سبحانه بقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} . وقد تُفرَض الصدقات من البشر كضريبة اجتماعية، أو غير ذلك، لدفع الشرر عن المجتمع، ولكن هذا لا يحدث إلا بعد أن تقعأحداث جسام يشقى بها مجتمع القادرين من مجتمع العاجزين، ويخرج من يقول: لكي تأمنوا شرهم لابد أن نعطيهم حاجاتهم حتى يستقيم الأمر. وهكذا نجد أن تشريعات البشر لا تأتي إلا بعد أن يشقى المجتمع لفترة طويلة من وضع موجود، ولكن الحق سبحانه وتعالى رحمة منه بخليفته الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5241 في الأرض جاء بالتشريع من أول الخلق، بل من قبل الخلق؛ حتى يرتب للإنسان حياة سعيدة خالية من الشقاء. ولذلك شرع الدين ورتَّبَ أحكامه لينزل إلى البشر؛ فيكون منهجاً لهم يحميهم من شرور قاسية قبل أن تقع. وشاء الحق سبحانه أن يجعل «سورة براءة» فاضحة كاشفة للمنافقين؛ لذلك كان من بين أسمائها: «السورة الحافرة» ؛ لأن المنافق ربما يستر كفره، ويفضح الله هذا الكفر بأن يحفر عليه ليخرجه - ولله المثل الأعلى - فالإنسان يحفر الأرض ليكشف المخبوء فيها، وهذه السورة ذكرت من صفات المنافقين الكثير. فقد قال الحق: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي ... } [التوبة: 49] وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله ... } [التوبة: 75] وقال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات ... } [التوبة: 58] ولذلك يسمونها «مَنَاهِم التوبة» . وهنا يبين الحق صورة جديدة للمنافقين وتصرفاتهم فيقول: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5242 ونعلم أن الإيذاء لرسول الله صلى الله جاء بعد النبوة، وكان بعض الكفار يقولون ما حكاه القرآن على ألسنتهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] وهذا دعاء مَنْ لا عقل له، ولو كانوا يعقلون لقالوا: إن كان هذا الحق من عندك فَاهْدنا يا رب إليه، أو اجعلنا نؤمن به. ولكنهم من فَرْط حقدهم وضلالهم، تمنَّوا العذاب على الإيمان بالحق. وهذا يكشف لنا تفاهة عقول الكفار. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} والذين يؤذون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هم السادة، وهم أصحاب النفوذ الذين يخافون ان يذهب منهج هذا النبي بنفوذهم؛ وثرواتهم؛ وما أخذوه ظلماً من الضعفاء. والضعفاء - كما نعلم - هم أول من دخل إلى دين الإسلام؛ لأنهم أحسوا أن هذا الدين يحميهم من بطش الأغنياء واستغلالهم ونفوذهم. وشاء الحق أن يبدل خوف الضعفاء قوة وأمناً، وشاء سبحانه أن يضم إلى الإيمان عدداً من الأغنياء؛ ومن رجال القمة مثل: أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب وغيرهم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين، حتى لا يقول أقوياء قريش مثلما قال قوم نوح لنبيهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا ... } [هود: 27] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5243 وهكذا كان الإيذاء له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد الرسالة، أما قبل الرسالة فكان في نظر الجميع هو: الأمين والصادق والمؤتمن. ومن العجيب أنهم، بعد أن نزل الوحي، كانوا لا يستأمنون أحداً مثلما يستأمنون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإذا كان هناك شيء ثمين عند الكافرين المعارضين، ذهبوا إلى رسول الله ليحفظوا هذه الأشياء الثمينة عنده. وهذا التناقض لا يفسره إلا وثوقهم في أخلاقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ورغم ذلك كانوا في غيظ وكَمَدٍ؛ لأن القرآن قد نزل عليه. والحق هو القائل ما جاء على ألسنتهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وهم بذلك قد اعترفوا بألسنتهم بعظمة القرآن، بعد أن اعترفوا بسلوكهم بأمانة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكنهم اعترضوا على اختيار الحق سبحانه له، وتمنوا لو كان هذا القرآن قد نزل على أحدهم عظمائهم. ورد الحق سبحانه عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياوة الدنيا ... } [الزخرف: 32] وفي هذا دعوة لأن يتأدبوا مع الله سبحانه، فهو لم يوكلهم في اختيار من ينزل عليه رحمته، ورسالته، ولكنه سبحانه هو الذي يختار. وهو الذي قسم بين العباد معيشتهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وإذا كان لأحد نعمة من مال أو جاه أو مجد، أو غير ذلك، فهذا ليس من قدرات البشر أو من ذواتهم، ولكنه نعمة من الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5244 وهنا يقول الحق سبحانه: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} إذن: فالإيذاء سببه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بدعوة الخير، ولا يجيء رسول بدعوة الخير إلا إذا كان الشر قد عم المجتمع. وحين يعم الشر في المجتمع فهناك مستفيدون منه، فإذا أتى رسول الله بالخير أسرع جنود الشر ليؤذوا صاحب رسالة الخير، إذن: فمن الطبيعي أن يكون للنبي أعداء. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً ... } [الأنعام: 112] بل إن كل من يحمل من العلماء رسالة رسول الله ليبلغها إلى الأجيال التالية، إن لم يكن له أعداء، أنقض ذلك من حظه في ميراث النبوة، وكل من له أعداء ويقوم بهداية الناس إلى منهج الله، نقول له: لا تنزعج، واطمئن؛ لأن معنى وجود من يعاديك، أن فيك أثراً من آثار النبوة. وتمثَّل إيذاء المنافقين له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عدة صور؛ منها قولهم: {وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} . وللإنسان - كما نعلم - وسائل إدراك متعددة: فالأذن وسيلة إدراك، والعين وسيلة إدراك، والجوارح كلها وسائل إدراك. وكل إنسان له ملكات متعددة، منها ملكات إدراكية وملكات نفسية، ولملكات الإدراكية هي التي يدرك بها الأشياء مثل: السمع والبصر والشم والذوق. أما الملكات النفسية فهذه يوصف بها الناس. وعلى سبيل المثال: نحن نسمي الجاسوس عيناً؛ لأنه يتجسس وينقل ما يراه إلى غيره. ونسمي الرجل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5245 الذي يسمع كل حدث «أُذُن» ، ونسمي اللص الذي يتعدَّى على ماله غيره صاحب اليد الطويلة وهكذا. إذن: كل جارحة لها حاسة، والنظر والسمع والشم واللمس والذوق كلها من وسائل الإدراك الحسية التي تتكون منهالخمائر المعنوية، ثم تصبح عقائد، فوسائل الإدراك هذه تتلقى من العالم الحسي ما يعطيه لها من معلومات، وتخزنها لتتصرف بعد ذلك على أساسها، وتكون في مجموعها هي ما يعلمه الإنسان؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يمتنُّ على خَلقه، فيقول: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] والشكر لا يكون إلا على النعمة، فكأن وسائل الإدراك هذه مما تسمعه أو تراه ببصرك، أو تدركه بفؤادك هي من نعم الله التي يجب أن نشكره عليها؛ لأنها أعطتنا العلم الحسي بعد أن كنا لا نعلم شيئاً. وإذا أطلقَ على الإنسان اسم جارحة من جوارحه، فاعلم أن هذه الجارحة هي العمدة فيه، فكأن قول المنافقين وصفاً للرسول {هُوَ أُذُنٌ} هو سَبٌّ للرسول، وكان الواحد منهم يقول: احذروا أن يبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيكشف نفاقهم ويؤذيكم؛ لأن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في رأيهم يُصدِّق كل شي. أرادوا أن يتهموه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه لا يمحص القول الذي يُنقل إليه ويصدق كل ما يقال له، كما نقول نحن في العامية «فلان وِدَني» أي: يعطي أذنه لكل ما يقال له. فيرد عليهم الله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} ؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستمع لمنهج السماء ويبلغه للبشر ليهدي أهل الأرض، إذن: فهو خير للناس كلهم. وحتى إذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5246 أخذنا كلامهم في أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصدقهم إن كذبوا عليه، فهذا خير لهم؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يؤذيهم، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {أُذُنُ خَيْرٍ} لأنه لا يسمع إلا من الله بالوحي. ولذلك قلنا: إن الحكمة من أمية رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أنه لم يستمع من مُسَاو له، وإنما كان علمه من الله. فإذا كانت الأمية فينا نحن نقيصة؛ فإنها الكمال كله في حق رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لأنه لم يأخذ إلا من خالقه، وهو اذن خير؛ لأنه الأذن التي استمعت إلى آخر إرسال ينزل من السماء لهداية الأرض. فإذا كان المنافقون قد قالوا: {هُوَ أُذُنٌ} فقد قال سبحانه: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} ، وهو خير يعود نفسه على البشرية كلها، ولكن ليس بالمعنى الذي تعيبونه عليه، فهو قد يسمع إساءاتكم، ثم يسمع اعتذاركم فلا يؤذيكم ويعفو عنكم. وما دام هذا هو سلوك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلماذا تؤذونه وترهقونه؟ وفي اللغة ما يسمونه «القول بالموجب» ، فإن قال لك واحد شيئاً تصدقه وتقول له: نعم، ولكن قد تأخذها على مَحْمَل آخر، فإن كان هناك إنسان يُكثِر الزيارة لإنسان ويقول له: أنا أثقلتُ عليك، ويرد عليه: أنت أثقلتَ كَاهلي بأياديك، أي أن أفضالك عليَّ كثيرة. وإن قال لك واحد: «أنا طولت عليك» ، يرد عليه صديقه: لا، أنت تطولت عليَّ، أي: أعطيتني نعمة بأنك أسعدتني بمجلسك. إذن: فهو قد وافقه على وما قال، ولكنه رد عليه بعكس ما قال. وهم قد عابوا على الرسول أنه أذن، فكأن أذنه تتحكم في كل تصرفاته، وإن سمع شيئاً تأثر به. وإن سمع شيئاً ينغصه ينقلب موقفه من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5247 النقيض إلى النقيض. وحاولوا أن يدَّعوا أنه يصدق كل ما يسمعه ولا يحتاط تجاه من يبلغه، وقالوا: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {أُذُنٌ} ، وردَّ الحق سبحانه {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ} وبطبيعة الحال لم يكن قول الحق موافقاً لما قالوه؛ لأن «أُذُن» عندهم غير {أُذُن} التي أقرها الله سبحانه وتعالى. وقد يقول بعض السطحيين: إن المنافقين قالوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {هُوَ أُذُنٌ} وهم يقصدون بذلك أنه يسمع ويصدق كل ما يقال له، وليس من حكمة التمحيص والاختيار. لكن لنلتفت إلى أن الحق قد قال: {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} ؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يسمع إلا من الله، وما يسمعه من الله أطاعه وطبَّقه، وما سمعه من الناس؛ عرضه على منهج الله؛ فإن وافق المنهج نفذه، وإن تعارض مع المنهج رفضه. إذن: فهو أذن للخير لا يسمع إلا من الله، ولا يأتي من رسالته إلا الخير لمن اتبعه. ولكن لماذا لم يقل الحق سبحانه وتعالى: أذن خير للمؤمنين، وقال: {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} ؟؛ لأن خيرية رسول الله قد شملت الجميع، وتعدَّتْ المؤمنين إلى المنافقين وإلى الكفار. فكان رسول الله صلى الله عليه لا يفضح منافقاً، إلا إذا فضح الله المنافق بقرآن نزل من السماء. وعلى سبيل المثال: كان المنافقون يأتون إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويعتذرون عن الجهاد في سبيل الله؛ ويطلبون الإذن بالقعود. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعطيهم الإذن. وحين كان المنافقون يأتون إلى الرسول الكريم ويحلفون له كذباً، كان يصدقهم، أو على الأرجح لا يفضح كذبهم أمام الناس. إذن: فالخيرية فيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ شملت المنافقين؛ لأن خُلُقَه الكريم أبى أن يفضحهم أمام الناس. أما الكفار فد شملتهم الخيرية أيضاً؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5248 لأن دعوته لهم إلى الإسلام، وإصراره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على هذه الدعوة، جعل عدداً من الكفار يسلم ويؤمن، وأصابهم خير عميم من اعتدائهم لدين الحق. إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} أي: للبشرية كلها. وهكذا فرق الحق سبحانه وتعالى بين ما يريدونه، وما يقصده الله جل جلاله. هم قصدوا وصف الرسول أنه أذن سَمَّاعة. والله يقول: إنها أذن خير؛ وهذا ما يسمونه في اللغة - كما قلنا -: «بالقول الموجب» ، أي: أن تتفق مع خصمك فيما قاله، إلا أنك تحول ما قاله من الشر إلى الخير. والمثال أيضاً فيما يقوله الحق سبحانه وتعالى على ألسنة المنافقين حين قالوا: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل ... } [المنافقون: 8] كانوا يقصدون أنهم هم الأعز، أما الأذل فهم المؤمنون. ووافقهم الحق سبحانه وتعالى على ما قالوا؛ نعم سيُخرِج منها الأعزُّ الأذلَّ. ولكنه أراد أن يبين لهم من هو العزيز ومن هو الذليل؛ فقال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ... } [المنافقون: 8] فكأن الحق سبحانه وتعالى يؤكد لهم أن الأعز سيُخرج الأذل، ولكنهم يحسبون أنفسهم هم الأعزاء؛ فيقول لهم: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} . وهذا ما يسمونه بالقول الموجب، أي: أن تتفق مع من يقول، ويقصد أن يوجه كلامه وجهة الشر؛ فتقلب المقصود من الكلام وتوجهه وجهة الخير. وهذا مقصود به هنا أن تزيد من ذلة المخاطب، فأنت تجعله يعتقد أنك توافقه، فتنفرج أساريره ويشعر بالسعادة؛ ثم بعد ذلك تنقض ما قاله؛ فيصاب بالذل. تماماً كما يأتي الحارس لسجين يشعر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5249 بظمأ شديد ويُلِحُّ في طلب كوب ماء. فيقول له الحارس: سأحضر لك كوب الماء. وفعلاً يحضر الكوب مليئاً بالماء المثلج، ويفرح السجين ويظن أنه سينال منه ما يريده، ولكن ما إن يقرب الحارس الكوب من فم السجين، حتى يفرغه على الأرض، فيكون تعذيبه أكبر مما لو رفض منذ البداية إحضار كوب الماء. وهكذا شاء الحق سبحانه وتعالى أن يزيد ذلة المنافقين، فوافقهم على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أُذُن» ثم جاء بنقيض ما كانوا يقصدونه فقال: {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} وما دام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يؤمن بالله فهو يأخذ منهجه من الله سبحانه وتعالى، ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم. إذن: فهناك ثلاثة أدلة على خيرية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنه يؤمن بالله وينفذ منهجه. ثم يؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا. ونلاحظ أن هناك اختلافاً بين قوله تعالى: {يُؤْمِنُ بالله} وبين قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} . فبالنسبة للإيمان بالله جاء بالباء في قوله: {بالله} وبالنسبة للمؤمنين جاء باللام في قوله: {لِلْمُؤْمِنِينَ} . بعض الناس يقولون: إن هذه مترادفات؛ لأن معنى {يُؤْمِنُ بالله} أي: يصدق بوجوده. والمنافقون كفرة بالله، {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} معناها أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصدق المؤمنين. أما المنافقون فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرف أنهم كاذبون فلا يصدقهم. ولكنه لا يفضحهم أمام المؤمنين؛ حتى لا يقطع عليهم خط الرجعة إن كانوا ينوون الإيمان فعلاً. ولو فضحهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمام المؤمنين لضاعت هيبتهم تماماً. وإن فكر أحدهم في ترك النفاق إلى الإيمان، لوجد صعوبة شديدة في ذلك؛ لأن أحداً لن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5250 يصدقه. ولكن أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يسترهم أمام المؤمنين؛ فجعل باب الإيمان مفتوحاً على مصراعيه؛ لأن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما جاء رحمة للعالمين، ولذلك فهو يحرص على أن يبقي باب التوبة وباب الإيمان أمامهم مفتوحاً دائماً مع حفظ كرامتهم. قول الحق سبحانه وتعالى: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: يصدقهم، وكلمة الإيمان بالنسبة للناس جاءت في آيات كثيرة، منها قوله تعالى حين أعلن السحرة إيمانهم برب موسى وسجدوا؛ قال لهم فرعون: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر ... } [طه: 71] ومعنى {آمَنتُمْ لَهُ} أي: صدَّقتموه، ولكن ما هو الفرق بين الباء واللام؟ أنت حين تقول: آمنا بالله. فأنت تعلن أنك قد آمنت بالذات بكل صفات الكمال فيها، وحين تقول: آمنت للمؤمنين فيما قالوه، أي صدقتهم لأنهم مؤمنون. ومادة «آمن» تدور كلها حول الأمن والطمأنينة، ولكنها تأتي مرة لازمة ومرة متعدية. مثلما تقول: «آمنت الطريق» أي: اطمأننت إلى أنه لن يصيبني فيه شر. ومنها قول يعقوب عليه السلام لبنيه: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ ... } [يوسف: 64] أي: أن السابقة هنا أنه آمنهم على يوسف فلم يرعوا الأمانة، فصار لا يأمنهم على أخي يوسف، وهذه آمن اللازمة. أما المتعدية فهي التي يتعدد فيها الأمن، مثل قوله تعالى: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ... } [قريش: 4] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5251 والخوف متعدد في أشكاله، فهناك مثلاً خوف من الظلام، وخوف من العدو، وخوف من مخاطر الطريق، إذن: فالأمن هنا شمل أشياء متعددة وقد أدخلهم الحق سبحانه في الأمان والطمأنينة من أشياء متعددة. وقوله تعالى: {يُؤْمِنُ بالله} هو إيمان بالذات، وإيمان بالصفات، وإيمان بالمنهج، وإيمات يسع أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلها، فكأن الإيمان هنا قد تعددت جوانبه. أما الإيمان للمؤمنين فهو تصديق لهم وهذا هو الخير الثاني. وقوله سبحانه {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} ؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شفيع لهم يوم القيامة، وقال: «أمتي أمتي» . وهو رحمة لهم في الدنيا؛ لأنه يقودهم إلى الخير الذي يقودهم إلى سعادة الدنيا ثم إلى جنة الآخرة، ويبعدهم عن الشر والنار؛ فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رحمة تدفع الضرر وتأتي بالخير، والرحمة إنما تأتي باتقاء الضرر. والله سبحانه وتعالى يقول: {شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ ... } [الإسراء: 82] الشفاء يعني أن يكون هناك مرض ويشفى الإنسان منه، والرحمة ألا ياتي المرض، فكأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبشر بمنهج إذا اتبعه الناس وآمنوا به؛ كان لهم وقاية فلا يصيبهم شر في الدنيا ولا نار في الآخرة. ويتساءل بعض الناس: لقد قال الحق سبحانه وتعالى: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} والمنافقون قد آمنوا بألسنتهم فقط فما موقفهم؟ نقول: إن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لأنه رحمة فقد احترم كلمة اللسان وصدقهم أمام الناس، أما الحق سبحانه فينزلهم في جهنم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5252 ثم يقول سبحانه وتعالى: {والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وإيذاء المنافقين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن بالمواجهة؛ لأنهم أعلنوا كلمة الإيمان، وكان الإيذاء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من المنافقين في قلوبهم وفيما بينهم في مجالسهم، ولذلك لم يكن الإيذاء منهم مباشرة قط، ولكن الآيات بينت أنواع الإيذاء بأنهم يلمزون في الصدقات، ويقولون: إنه أُذُنُ، ويحلفون له كذباً ليضللوه، إلى آخر ما كانوا يفعلون. ثم يأتي الحق بصورة أخرى من صور المنافقين فيقول سبحانه: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5253 ومن العجيب أن سورة التوبة فيها أكبر عدد من لفظ «يحلفون» ، ولم ترد مادة «يحلف» في سورة المائدة إلا مرة واحدة، وفي سورة النساء مرة، وفي سورة المجادلة ثلاث مرات، أما في سورة التوبة فقد جاءت سبع مرات، وفي سورة القلم جاءت «حلاف» ، حتى إن سورة التوبة سميت «سورة يحلف» ؛ لأن فيها أكبر عدد من {يَحْلِفُونَ} في القرآن الكريم. ويقول الحق سبحانه: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} وفي هذا إصرار من المنافقين على الحلف كذباً، وهو ما يوضح غباءهم وعدم فطنتهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5253 وأيضاً يقول الحق: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ ... } [التوبة: 95] واستخدام الحق سبحانه وتعالى حرف السين معناه أنهم لم يحلفوا بعد، ولكنهم سيحلفون بعد فترة، أي في المستقبل، أي: أن الآية الكريمة نزلت ولم يحلفوا بعد، إنما هم سيحلفون بعد نزول الآية الكريمة، ولو كان عندهم ذرة من ذكاء ما حلفوا، ولقالوا: إن القرآن قال سنحلف ولكننا لم نحلف. ولكنهم ورغم نزول الآية جاءوا مصدقين للقرآن مثبتين للإيمان وحلفوا. وكلمة «حلف» هي القسم أو اليمين. وحين نتمعن في القرآن نجد أن الحلف لا يطلق إلا على اليمين الكاذبة، أما القسم فإنه يطلق على اليمين الصادقة واليمين الكاذبة. فمثلاً عندما نقرأ في سورة المائدة: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ... } [المائدة: 89] وما دامت هناك كفارة يمين؛ يكون الحلف كذباً؛ لأن الذي يستوجب الكفارة هو الكذب. وإذا استعرضنا بعد ذلك كل «حلف» في القرآن نجد أنه يقصد بها اليمين الكاذبة؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] فالحلف هنا مقصود به القسم الكاذب. ولكن إذا قال الحق سبحانه وتعالى {أَقْسَمُواْ} فقد يكون اليمين صادقاً؛ وقد يكون كاذباً. والحق سبحانه وتعالى يقول: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} أي: أن هدف الحلف كذباً هو ‘رضاء المؤمنين حتى يطمئنوا للمنافقين ولا يتوقعوا منهم الشر، ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بالحقيقة: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} إذن: فهم يحلفون لترضَوْا أنتم عنهم، أما المؤمن الحق فهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5254 لا يقسم إلا ليرضى الله؛ لأن الإنسان قد يخدع البشر، وقد يفلت من عدالة الأرض، ولكنك لا تخدع الله ولا تلفت من عدالته أبداً. ومن مهام الإيمان أن الإنسان يرعى الله في كل معاملة له مع البشر؛ ويبتغي رضاه ويخاف من غضبه، ذلك هو المؤمن الحق. وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وكان القياس اللغوي على حسب كلام البشر أن يقول: والله ورسوله أحق أن ترضوهما. وشاء الحق أن يأتى بها {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} ؛ لأن رضا الله ورضا رسوله هو رضا واحد؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يأتي بالقرآن من عنده، ولكنه وحي من عند الله. وإرضاء الرسول هو اتباع المنهج الذي فيه رضا الله لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ... } [الفتح: 10] ويقول سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله ... } [آل عمران: 31] ويقول سبحانه: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله ... } [النساء: 80] إذن: فلا توجد طاعة لله وطاعة للرسول، ولا رضا لله ورضا للرسول؛ لأن الرضا منهما رضا واحد. إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} دليل على اتحاد الرضا من الله ومن رسوله، فما يُرضي الله يُرضي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وما يُغضب الله يُغضب الرسول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5255 أو: أن الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نتأدب مع ذاته، في أنه إذا اجتمع أمران لله ولرسوله لا نجعل أحداً مع الله، وإنما نجعله له سبحانه وهو الواحد. ولذلك فعندما ارتكب رجل ذنباً، وقالوا له: أعلن توبتك أمام رسول الله، قال الرجل: إني أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد. فقال له رسول الله: «وقعت على الخير» . انظر إلى عظمة الرسول الكريم الذي يثني على رجل يقول أمامه: إني لا أتوب إلى محمد، وإنما أتوب إلى الله. وقول الحق سبحانه: {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} أي: إن كان إيمانهم حقيقة، وليس نفاقاً. إذن: فنحن لا نطلب الرضا من خلق الله، ولكن نطلبه من الله. ورضا الله سبحانه وتعالى ورضا المبلِّغ عنه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رضا واحد. ولذلك وحَّد الضمير {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} ولم يقل يرضوهما. ثم يقول الحق بعد ذلك: {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5256 إذا سمعت {أَلَمْ} ، فافهم أن هذا استنكار، كأن وسائل العلم قد تقدمت، وكان من الواجب أن تعلم. فإذا قلت لإنسان: ألم تعلم أنه حدث كذا وكذا؟ فمعنى ذلك أنه قد أعلن عن هذا الحدث عدة مرات، ومع ذلك لم يعلمه. وهذا استنكار لتخلُّف هذا الإنسان عن العلم. وهنا يستنكر الحق عدم علم المنافقين بقضية أعلنها الله مرات ومرات، وكان يجب أن يعلموها وألا تزول عن خواطرهم أبداً. وسبق أن قلنا: إن الاستفهام فيه نفي، والهمزة همزة استفهام. ولم تأت للنفي، وإذا دخلت همزة الاستفهام على النفي يكون استنكاراً. فإن قلت لإنسان: ألم أكرمك؟ كأنك أكرمته عدة مرات وهو مُنكر لذلك. وقول الحق سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يعلموا} هو إقامة للحجة على أن الحكم قد بلغهم؛ لأنه من الجائز أن يقولوا: إن الحكم لم يبلغنا، فيوضح لهم الحق: بل بلغكم الحكم وقد أعلمتكم به عدة مرات. {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله} ما معنى يحادد؟ نجد في الريف أن أهل الريف يضعون علامات من الحديد تفصل بين قطعة أرض وأخرى مجاورة لها، كعلامة على الشيء الذي يفصل بين حق وحق ويسمونها حدّاً، والذين يحادون الله هم الذين يجعلون الله في جانب وهم في جانب، وبذلك لا يعيشون في معية الله ولا ينعمون بنعمة الإيمان به سبحانه ولا يطبقون منهجه. بل يجعلون حدّاً بينهم وبين ما أمر به الله. وعندما أراد العلماء تفسير هذه الآية قالوا: {يُحَادِدِ} تعني: يعادي، وقالوا: بمعنى يشاقق؛ أي: يجعل نفسه في شق والله ورسوله ودينه في شق آخر. أو: يحارب دين الله فيكون هو في وجهة ودين الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5257 في وجهة أخرى. وهناك علاقة بين كلمة «يحارب» وكلمة «حد» ، فحدُّ السيف هو الجزء القاطع منه الذي يفصل أي شيء يقطعه إلى جزءين، فكأن الذي يحادد هو من يحارب منهج الله ورسوله. فهو لا يكفر بالله فقط، ولكنه يحمل السلاح ليجعل خلق الله يكفرون أيضاً. والحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمنين أن يكونوا دائماً في جانب الإيمان، وألا يقيموا حدّاً بينهم وبين الإيمان به. والأحكام الشرعية تسمى حدوداً، أي: أن كل حكم قد وضع ليحدد حدّاً من حدود الله، تحفظ به الحقوق والأوامر. ومنهج الله إما أن يكون أوامر، وإما أن يكون نواهي؛ لأن منهج الدين كلمة في «افعل» و «لاتفعل» ، ويضع الحق سبحانه وتعالى عقاباً لمن يتعدى حدوده سبحانه، فيقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا ... } [البقرة: 187] ويقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا ... } [البقرة: 229] ويسأل بعض الناس: ما الفرق بين اللفظين {تَعْتَدُوهَا} و {تَقْرَبُوهَا} . ونقول إذا كانت هناك أوامر فلا تتعد الأمر، وإذا كانت هناك نواهٍ فلا تقترب من المنهي عنه. ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حين نهى آدم وحواء عن الأكل من الشجرة المحرمة لم يقل: لا تأكلا من الشجرة، بل قال: {فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة ... } [الأعراف: 19] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5258 وبذلك أباح سبحانه الأكل من كل ثمار الجن، ولكنه أمر {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} لأن القرب من هذه الشجرة إغراء بالمعصية؛ فقد يعجبهما منظر الثمرة. وقد تغريهما رائحتها، وقد يفتنهما لونها. ولكن عندما لا يقتربان من هذه المغريات كلها فهما يحميان نفسيهما من المعصية. وعندما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الخمر قال: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه ... } [المائدة: 90] والحق لم يقل: لا تشربوا الخمر، ولكن أمر باجتناب الخمر، أي: لا تقرب أي مكان فيه خمر؛ لأن وجود الإنسان في مكان فيه خمر قد يوحي إليه بتناولها. وقد يجد من الجالسين من يحاول إغراء من لا يشرب بأن يتناول ولو جرعة. إذن: فالحق سبحانه يريد أن يبقي النفس المؤمن أن تغرى بالمعصية فتقع فيها. ويقول سبحانه في أدب الاعتكاف: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله ... } [البقرة: 187] المنهي عنه هو المباشرة، أي: إن تواجدت الزوجة مع زوجها في المسجد، فليس في هذا الأمر معصية شرط ألا يباشرها الزوج، ثم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5259 يقول الحق سبحانه وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله} ولم يقل: فلا تفعلوها، ولكنه قال: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا ... } [البقرة: 187] إذن: ففيهما نهى الله سبحانه وتعالى عنه؛ مطلوب من المسلم ألا يقرب منه، أي: لا تكن انت والشيء الذي نهى عنه في مكان واحد، بل عليك أن تبتعد عن المكان؛ لأن المعصية لها إغراءات، وما دمت بعيداً عن الإغراءات؛ فأنت تعصم نفسك، أما إن اقتربت منها فقد تقع فيها. أما في الأوامر؛ فيقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} . وعلى سبيل المثال: إن نشأ خلاف بين الزوجين وفشلت كل محاولات الصلح بينهما، يقول الحق سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا ... } [البقرة: 229] إذن: ففي الأوامر يقول الحق: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} ، وفي النواهي يقول سبحانه: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} . وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ينذر الحق سبحانه وتعالى الذين يحادون الله ورسوله فيقول: {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلك الخزي العظيم} والإنذار هنا يتمثل في أنه يوضح لهم أن ما ينتظرهم ليس هو العذاب الجسدي فقط، ولكنه عذاب فيه خزي وهوان، فمثلاً بعض الناس قد يتحمل ويتجلد أمام الألم حتى لا يشمت فيه عدوه؛ لذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5260 فالعذاب الذي يعدهم الله به في الآخرة ليس أليماً فقط، ولكن فيه خزي وهوان. ويتمثل الخزي في أن المتكبر في الدنيا يأتي إلى الآخرة ويهان أمام الخلق جميعاً، ويكفي خزياً أن يكون في النار. والمؤمنون الذين تكبَّر عليهم في الدنيا يعيشون في نعيم الجنة، وتلك حسرة تصيبه ليس بعدها حسرة. ثم يفضح الحق سبحانه وتعالى المنافقين فيقول: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5261 والحذر معناه الاستعداد لدفع خطر أو ضرر متوقع، وعلى سبيل المثال؛ يقال لمن يسافر في طريق محفوف بالأخطار: خذ حذرك وأنت تسير في هذا الطريق. وهنا قد يصحب المسافر معه رفيقاً، أو يأخذ معه سلاحاً يدافع به عن نفسه إن قابلته عصابة من قطاع الطرق. إذن: فالحذر هو الإعداد لدفع خطر أو ضرر متوقع. ولكن إذا كانت السورة تتنزل من عند الله على رسوله فكيف يحذرون ويستعدون لنزول هذه السورة؟ نقول: إن هذا استهزاء بهم؛ لأنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، ولأن آيات سابقة نزلت تفضح ما يخبئونه في نفوسهم. فهم دائماً خائفون من أن تنزل آية جديدة تفضحهم أمام المسلمين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5261 الحق سبحانه وتعالى يريدهم أن يعرفوا أنه عليم بما في نفوسهم، ويخوفهم من أن تنزل آيات تكشفهم، فهم يخشون أن يخرج ما في بطونهم من كفر يخفونه، وهو غيب عن المؤمنين. والغيب - كما نعلم - محجوب بزمان ومكان، وغيب الزمان محجوب بالماضي أو بالمستقبل، فإن كان هناك حدث قد مضى ولم تشهده، فهو غيب عنك ما لم تعلمه من كتب التاريخ، وكذلك إن كان هناك حدث سوف يأتي في المستقبل، فهو لم يقع بعد، فهو إذن محجوب بالمستقبل، أما حجاب المكان فهو حجاب الحاضر، وعلى سبيل المثال: إن كنا الآن في القاهرة فنحن لا نعلم ما يحدث في الإسكندرية. والله سبحانه وتعالى هتك كل هذه الحجب في القرآن الكريم، فهتك الحق سبحانه حجاب الماضي في أمثلة كثيرة أخبر بها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، مثل قوله سبحانه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} [القصص: 44] وأيضاً يقول سبحانه: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 45] فكأن الحق سبحانه وتعالى قد كشف لرسوله من حجب الزمن الماضي، ما لم يكن يعلمه أحد، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5262 وكشف الله سبحانه وتعالى - أيضاً - لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين حجاب الزمن المستقبل؛ فقال: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ... } [البقرة: 142] وهؤلاء السفهاء سمعوا الآية قبل أن يتساءلوا عن تحويل القبلة، ورغم ذلك تساءلوا عن تحويل قبلة الصلاة. وأيضاً قالوا الحق من أمثلة كشف حجب المستقبل: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] وقد نزلت هذه الآية والمسلمون يلاقون عذاباً شديداً من الكفار، حتى إن عمر بن الخطاب قال: أي جمع هذا؟ وعندما حدثت غزوة بدر قال عمر: صدقت ربي: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} . وكذلك كشف الحق سبحانه وتعالى حجاب المستقبل حين قال: {غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 2 - 5] أي: أن الله تبارك وتعالى أعطى نتيجة المعركة بين الروم والفرس قبل أن تحدث بسنوات طويلة، وحدد الجانب المنتصر وهو الروم، وكذلك أنبأ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5263 سبحانه وتعالى رسوله بما يحدث في أعماق النفس. وما يدور في صدور الخلق، وساعة ما ينتهك حجاب النفس، كأنه يوضح لكل إنسان: إن سِرَّك الذاتي مفضوح عند الله، والمثال على هذا قول الحق سبحانه: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ ... } [المجادلة: 8] هم قالوا في أنفسهم، ولو لم يقولوا لعارضوا ما أخبرهم به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمَّا قالوه في أنفسهم وأعلنوا أنه كذب. ولكنهم لم يكذِّبوا رسول الله فيما أبلغ على ظنهم صدق رسول الله. والمثال هو قول الحق هنا: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64] وإن كان البعض منهم قد استهزأ قائلاً: لا داعي أن نتكلم حتى لا يُنزِل فينا قرآناً، فالحق يُبلِّغ رسوله أن يرد عليهم: {قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64] . وما تحذرون منه أيها المنافقون سيكشفه الله لرسوله وللمؤمنين. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5264 وإن سألتهم يا رسول الله: ها تناولتم الإسلام بسوء أو عيب في مجالسكم، فسوف يقولون: كان هذا قد حدث فهو مجرد خوض ولعب، وكلام مجالس لا قيمة له. والخوض أن تُدخِلَ نفسك في سائل، مثل الذي يخوض في الماء أو يخوض في الطينَ، وقد أطلق على كلِّ خوض، ثم اقتصر على الخوض في الباطل، أي: أن المسائلة لم تكن جدية بل كانت مجرد تسلية ولعب. ويقول الله لرسوله: {قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} أي: إذا قالوا لك: إن هذا حديث تسلية ولعب؛ فاللعب هو أمر لا فائدة منه إلا قتل الوقت، أليس عندكم إلا الاستهزاء بآيات الله ورسوله وأحكام الإسلام تقتلون به الوقت؟ فهل هذه المسائل خوض ولعب؟ ثم يعطيهم الله الحكم: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5265 وهل سبق للمنافقين إيمان ثم جاء كفر؟ لا، ولكن قوله تعالى {قَدْ كَفَرْتُمْ} يعني: أنكم أيها المنافقون قد فضحتم أنفسكم؛ لأنكم كنتم تعلنون الإيمان فقط، ثم أظهر الحق أن إيمانكم إيمان لسان لا إيمان وجدان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5265 ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} انظر إلى رحمة الله، وكيف أنه - جَلَّ وعلا - لم يوصد باب التوبة أمامهم، بعد أن كشف ما في نفوسهم، هنا يعلن له الحق أن الطائفة التي ستتوب توبة صادقة، والتي لم تشترك في هذا الخوض سيغفر لهم الله. أما الذين بَقَوْا على نفاقهم وإجرامهم - والإجرام هو القطع، وجرمت الثمرة أي قطعتها، وسمي إجراماً لأنه قطع حقاً عن باطل - أي الذي قطعوا واقعهم بقلوبهم وسلوكهم عن الإيمان، فسوف يعذبهم الحق سبحانه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5266 ثم يعود سبحانه وتعالى إلى الأحكام التكليفية، وعادة تكون الأحكام التكليفية من الله كلها على الذكورة، وليس فيها على الأنوثة إلا عدد قليل من الآيات مثل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ... } [الحجرات: 11] وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى ... } [النحل: 97] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5266 أما باقي الأحكام فتنصبُّ على الذكورة، وتدخل الإناث في الأحكام لأن الأنوثة مبنية على السِّتْر في الذكورة. ولكنه لا بد هنا من ذكر المنافقين والمنافقات على كل حدة؛ لأن للرجال مجالس، وللنساء مجالس، ولكل منهما أفعال وأقوال تختلف عن الآخرين. . ولذلك كان لا بد من النص على المنافقات. وقوله الحق سبحانه: {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} أي: لا يتميز أحد من المنافقين والمنافقات عن الآخر في الخسة والقبح والفضائح، ويحدد الاله خصالهم في قوله تعالى: {يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} فهم إن فعل الناس معروفاً ينهونهم عنه، بل إنهم يشجعونهم على فعل المنكر، وهم لا ينفقون في سبيل الله إذا طُلِبَ منهم الإنفاق. ثم يقول الحق سبحانه: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} وهل يُنْسَى الحق سبحانه وتعالى بالفطرة؟ لا، ولكن المقصود أنهم نسوا مطلوبات الله وتكاليفه فنساهم الله أي أهملهم، فمن يبعد عن الله يزده الله بُعْداً، مصداقاً لقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً ... } [البقرة: 10] فإن كنت مسروراً من أنك نسيت الله فسيزيدك نسياناً، ويختم على قلبك فلا يخرج منه الكفر أبداً. ثم يعطي الحق سبحانه الحكم: {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} وكلمة «منافق» - كما نعرف - مأخوذة من نفقاء اليربوع، وهو حيوان يشبه الفأر ويسكن في الصحراء ويحفر لنفسه نفقاً في الأرض؛ له بابان، وإنْ ترصَّد له الصائد عند أحدهما خرج من الثاني، وهكذا ترى أن المنافق له وجهان. والفسوق معناه الخروج عن منهج الطاعة؛ وهو مأخوذ من «فسق الرطب» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5267 أي: انفصلت القشرة عن الثمرة. والقشرة - كما نعلم - مخلوقة لصيانة الثمرة؛ فإذا فسقت عنها تلفت الثمرة. والإنسان إذا فسق خرج عن طاعة الله. ثم يأتي الله بما أعدَّه للمنافقين فيقول: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5268 والوعد للخير والوعيد للشر، ويقال: «أوعد» في الشر، وفي بعض الأحيان تستخدم كلمة «وَعَدَ» بدلاً من «أوعد» حتى إذا استمع السامع لها يتوقع خيراً. فإذا جاء الأمر بالعذاب كان ذلك أليماً على النفس. وهذا استهزاء بالمنافقين والكفار، مثل قوله تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه ... } [الكهف: 29] كأن الله أعطاهم وعداً أنهم إن يستغيثوا سيأتيهم الغوث ثم يقلبه عليهم ويجعله ماء يغلي ويشوي وجوههم - والعياذ بالله - ونلحظ أيضاً أن الحق سبحانه قد قدَّم المنافقين والمنافقات على الكفار، وهذا يؤيده قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء: 145] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5268 وهنا يقول الحق سبحانه: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} وهكذا نرى أن المنافقين موقعهم الدرك الأسفل من النار. والكفار موقعهم الدرك الأعلى، وقد يسأل سائل: كيف يكون ذلك؟ ونقول: إن الكافر بكفره قد أعطانا مناعة؛ فأنه أعلن الكفر فنحن نأخذ حذرنا دائماً منه، فلا يلحق بنا إلا ضرراً محدوداً، أما المنافق فهو قد تظاهر بالإيمان فآمناه، ويستطيع أن يلحق بنا شرّاً رهيباً؛ لأنه بحكم ما أخذه من أمان منا، يعرف أسرارنا ومواطن الضعف فينا، وقد تكون طعنته قاتلة. والعدو الخفي - كما نعلم - شر من العدو الظاهر؛ لأننا نكون على حذر من العدو الظاهر، لكننا لا نأخذ الحذر من العدو الخفي، وهو يعرف ما في نفسي، ويعرف كل تحركاتي، ويستطيع أن يغدر بي في أي وقت دون أن أكون منتبهاً لهذا الغدر. ولذلك إذا أراد قوم أن يكيدوا للإسلام دون أن يسلموا، فكيدهم يفشل؛ لأنهم وهم على الكفر سيجدون مناعة عند المسلمين من الاستماع إليهم. أما إن احتالوا ودخلوا على الإسلام من داخل المسلمين أنفسهم، فهم يجنِّدون عدداً من ضعاف الإيمان ليطعنوا في هذا الدين، وتكون طعنات هؤلاء المسلمين بالاسم، هي القاتلة وهي المؤثرة. هنا نلاحظ في قول الحق سبحانه وتعالى: {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} ولم يقل الحق بالخلود أبداً في النار إلا في ثلاث آيات فقط في القرآن الكريم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5269 في قوله تعالى: {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} [النساء: 169] وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [الأحزاب: 64 - 65] وقوله جل جلاله: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [الجن: 23] ولكنه ذكر الخلود في الجنة أبداً مرات كثيرة. ونقول: إن الجنة هي بُشرى النعيم للمؤمنين. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يؤنس خلقه بالنعيم الذي ينتظرهم، ولكن بالنسبة للنار فهي دار عذاب، وتأبى رحمة الله وهو الخالق الرحيم بعباده ألا يُذكر الخلود في النار متبوعاً بكلمة أبداً في ثلاث آيات؛ حتى لا يظن الكفار أن الله سبحانه وتعالى بقوله: {خَالِدِينَ} دون ذكر الأبدية أنه خلود مؤقت في النار؛ لذلك يُذكِّرهم بأنه خلود أبدي. وفي نفس الوقت تأبى رحمته سبحانه وتعالى أن يكون ذلك في كل آية تُذكَر فيها النار؛ حتى يفتح طريق التوبة والرحمة لكل عاصٍ، عَلَّه يتوب ويرجع إلى الله. والحق سبحانه يقول: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 106 - 108] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5270 وثار الحديث بين المستشرقين: كيف يقول الحق سبحانه وتعالى عن النار والجنة خالدين فيها أبداً؟ ثم يأتي في هذه الآيات ويستثنى ويقول: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} والاستثناء وارد على المؤمن والكافر؟ ونقول: إن الذين يثيرون هذا الاعتراض لم يفهموا القرآن ولا المنهج، فالذين سيدخلون النار قسمان: قسم آمن ولكنه عصى وارتكب سيئات؛ فُيعذَّب في النار على قَدْر سيئاته، ثم يُخرجه الله من النار إلى الجنة لأنه مؤمن، وقسم آخر كافر أو منافق، الاثنان يدخلان النار، ولكن أولهما - وهو المؤمن - يُعذِّب على قَدْر سيئاته. والثاني يبقى خالداً فيها لأنه كفر أو نافق. إذن: فالمؤمن العاصي لا يخلد في النار؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {إلا ما شاء ربك} لأنه لن يبقى في النار إلا بقدر سيئاته، فكأن خلوده في النار من البداية مؤقت وهو لا يبقى خالداً فيها؛ لأن مشيئة الله سبحانه وتعالى تدركه، فتخرجه من النار إلى الجنة. أما الكافر والمنافق فهما خالدان في النار لا يخرجان منها، فكأن هناك من يدخل النار ولا يكون خلوده فيها أبديّاً، وهذا هو المؤمن العاصي. وهناك من يدخل النار ويخلد فيها أبداً، وهذا هو الكافر أو المنافق. وإذا جئنا إلى الجنة، فهناك من سيدخل فيها خالداً أبداً؛ أي منذ انتهاء الحساب إلى ما لا نهاية. وهذا هو المؤمن الذي غلبت حسناته سيئاته وأدخله الحق الجنة. ولكن هناك من سيدخل الجنة، ولكن خلوده فيها يكون ناقصاً وهو المؤمن العاصي؛ لأنه يدخل النار أولاً ليجازي بمعاصيه. إذن: فالمؤمن العاصي خلوده في النار ناقص؛ لأنه لن يبقى فيها أبداً. وكذلك يفتقد الخلود في الجنة فور انتهاء لحظة الحساب؛ لأنه لن يدخل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5271 فيها بعد الحساب مباشرة، بل سيدخل النار أولاً بقدر معاصيه. فقول الحق سبحانه وتعالى: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} ينطبق على عصاة المؤمنين الذين سيأخذون حظهم من العذاب أولاً على قدر سيئاتهم، ثم بعد ذلك يدخلون الجنة. وقول الحق عن خلود المنافقين في النار: {هِيَ حَسْبُهُمْ} أي تكفيهم، كأن يكون هناك إنسان شرير وأنت تريد أن تؤدبه، فيأتي إنسان قوي ويقول لك: اتركه لي، أنا وحدي كفيل أن أؤدبه، فتقول: هذا حسبه، أي يكفيه هذا؛ ليتم التأديب المطلوب. كذلك النار، فسبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنها تكفيهم، أي: أن ما سيعانونه فيها من ألم وعذاب كافٍ جدّاً لمجازاتهم على ما فعلوه من سيئات. ثم يقول الحق: {وَلَعَنَهُمُ الله} أي: طردهم من رحمته ومن طاعته فلا يقبل لهم توبة ولا عودة؛ لأن مكان التوبة هو الدنيا. وأما بعد الموت والآخرة، فلا محل فيهما لتوبة ولا رجوع عن معصية؛ لأن زمان ذلك قد انتهى. لذلك فالعذاب لمن لم يَتُبْ في الدنيا هو عذاب مقيم في الآخرة. {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} وقد وصف الحق عذاب جهنم مرة بأنه عذاب أليم، ومرة بأنه عذاب مهين، ومرة بأنه عذاب مقيم؛ لأنه يريدنا أن نعلم أن كل أنواع العذاب ستصيب أهل جهنم، فإن كان الإنسان مُتجلِّداً له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5272 كبرياء يتحمل الألم الشديد ولا يُظْهِر ما يعاني، فالعذاب لن يكون أليماً فقط، ولكنه مهين أيضاً، والهوان هو إيلام النفس، وإن كان ذا كبرياء مُتجلِّد فإنه يُجَرُّ على وجهه ويُهَانُ. وبعض الناس قد يتحمل الألم، ولكن لا يتحمل الإهانة التي تصيبه بعذاب نفسي أكثر من العذاب البدني، فقد تأتي لكبير قوم وتهينه أمام أتباعه، أو لأب وتهينه أمام أولاده، ويكون هذا أكثر إيلاماً لنفسه من أن تضربه. وقول الحق سبحانه وتعالى: {عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي: عذاب دائم، فإن كان أليماً يبقى الألم على شدته ولا يخفَّف أبداً، وإن كان مهيناً تبقى الإهانة مستمرة ولا تزول أبداً. وفي كلتا الحالتين هو عذاب فيه إقامة وفيه دوام واستمرار. ثم يخاطب الحق سبحانه وتعالى الكفار والمنافقين، ويقول جل وعلا للخارجين عن منهجه: {كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5273 وهنا يُذكِّرهم سبحانه بمواكب الكفر التي صاحبت الرسل السابقين، وقد كانت هذه المواكب فيها المنافقون وفيها الكفار، وسبحانه وتعالى عندما يرسل رسولاً يؤيده ضد أعداء منهج الخير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5273 والحق سبحانه يريدنا أن نتذكر ما حدث للأمم السابقة الذين كانوا أكثر قوة وأكثر أموالاً وأولاداً من أولئك الكفار والمنافقين الذين يواجهون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولنقرأ قول الحق جل جلاله: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر والليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 1 - 14] ونحن لم نشهد {إِرَمَ ذَاتِ العماد} التي وصفها الحق سبحانه وتعالى بقوله: {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} ، ولكن القرآن أكد لنا أنها وصلت إلى درجة من الحضارة التي لم يصل إليها أحد. وقد يتساءل بعض الناس: أين {إِرَمَ ذَاتِ العماد} من حضارات اليوم؟ . ونقول: إن هناك أسراراً لله في كونه قد أعطاها بعض خلقه ولم يُعْطِها لأحد حتى الآن. وإذا نظرنا إلى الفراعنة مثلاً نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد وصفهم في القرآن بقوله: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} . والأهرامات أوتاد، والمسلات أوتاد، وما زالت علوم حضارة الفراعنة تغيب عن البشر حتى الآن، فهناك من مظاهر هذه الحضارة ما نعجز عنه حتى الآن، مثل سير التحنيط وبناء الأهرام؛ فهذه الكتل الحجرية الضخمة التي ارتفعت ويمسك بعضها البعض، دون أية مواد مثبتة، وما زال العلم الحديث عاجزاً حتى اليوم عن أن يوجد هرماً مبنيّاً بنفس طريقة قدماء المصريين دون استخدام أي مواد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5274 مثبتة، ومع ذلك فهؤلاء الفراعنة لم يستطيعوا أن يسودوا الكون رغم قوتهم وحضارتهم، بل أخذهم الله أخْذَ عزيز مقتدر. وجاءت الرمال فدفنت حضارتهم. ثم شاء الله لنا أن تكشف عن جزء بسيط منها؛ فإذا بهذا الجزء البسيط يبهر الدنيا كلها. وإذا بالعالم كله يأتي ليشاهد حضارة الفراعنة، ويتعجب من هذا الفن وهذا الرقي في العلم. فإذا كانت هذه هي حضارة آل فرعون، فما بالك بحضارة إرم ذات العماد التي لم يُخْلَق مثلها في البلاد؟ وهكذا نعلم أن بعض حضارة إرم ذات العماد ما زالت مخفية حتى الآن لا يعلم أحد عنها شيئاً. ومدفونة في باطن الأرض. ولعل الله سبحانه وتعالى قد أبقاها ليكشفها في زمن قادم يزداد فيه بُعْد الناس عن الدين؛ لأن الإنسان كلما تقدم في الحضارة ابتعد عن الإيمان؛ لإحساسه بأنه متمكن في الكون؛ مسيطر عليه؛ حينئذ ربما يكشف الحق سبحانه وتعالى عن حضارة {إِرَمَ ذَاتِ العماد} ليعرف الناس أن ما وصلوا إليه لا يساوي شيئاً مما كشفه الله لهؤلاء القوم. وإن سأل سائل: أين هي حضارة {إِرَمَ ذَاتِ العماد} ؟ نقول له: إنها في وادي الأحقاف والهبّة الواحدة من الرياح في هذا الوادي تستر قافلة بأكملها؛ أي إذا هبّت ريح، فإن الرمال لا تداري الطريق وحده؛ ولكنها تداري القافلة كلها، فكم عاصفة رملية هبّت على المكان الذي كانت تقطنه {إِرَمَ ذَاتِ العماد} فأخفتْ حضارتهم؟ لا بد إذن من حفريات على مستوى عميق جدّاً لنعثر على تلك الحضارة؛ لأننا نعلم ونرى أن كل الكشوف الأثرية تحتاج أن نحفر لها؛ لأن الرمال تتراكم فوق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5275 الآثار. بل إننا نرى البيوت القديمة في القرى، لا بد أن تنزل لها بدرجة أو درجتين لتدخل إليها من الباب؛ لأن العوامل الطبيعية والرصف وغير ذلك تزيد من علو الطريق. فإذا كان هذا هو عمل الرياح العادية في وقت قصير، فما بالك بالأعاصير في أزمان طويلة؟ وأنت إذا سافرت وأغلقت نوافذ مسكنك إغلاقاً مُحْكماً، وعُدْتَ بعد شهر واحد تجد الأثاث مغطى بطبقة من التراب، فإن غبْتَ عاماً وجدت كمية كثيفة من التراب، هذا بالنسبة لبيت محكم الإغْلاق، فما بالك بحضارة معرضة لكل هذه الظواهر الطبيعية، وتُسْتر كل شهر بطبقة جديدة كثيفة من التراب؟ ويقول سبحانه: {كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً} أي: أن حضارتهم أكبر من حضارتنا؛ لأن الحضارة كلما كانت متقدمة كانت الأمة قوية، وكلما تأخر شعب حضاريّاً كان ضعيفاً. إذن: فالذين من قبلنا كانوا أكثر حضارة وأكثر أموالاً وأولاداً. ولسائل أن يسأل: كيف تكون لهم كثرة أولاد والعالم يزداد عدداً كل عام، وكيف تكون لهم كثرة أموال ونحن نكشف كنوز الأرض جيلاً بعد جيل؟ نقول: لا تأخذ الكثرة على أنها كثرة عددية، بل خذها بنسبتها؛ لأنك إذا جئت بمائة شخص ووضعتهم في حجرة، يقال عنهم: «كثير» . فإذا أخذت كل واحد منهم ووضعتهم في مكان بعيد عن الآخر يكون العدد قليلاً. وكان العالم في الماضي مسكوناً بأماكن محدودة، بدليل أننا اكتشفنا قارات وأماكن لم يكن يعرفها أحد. إذن: فالكثرة هنا بالنسبة للحيز، وهم فس حيزهم الذي يعيشون فيه كانوا كثرة، وبالأموال التي كانت بين أيديهم بعددهم المحدود كانوا أكثر منكم أموالاً بعددكم الكبير، أي أن نصيب الفرد كان أكبر، وكذلك الأولاد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5276 ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ} والخلاق هو النصيب الذي يصيب الإنسان من أي نعمة، ويقول سبحانه: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة: 200] أي: ليس له في الآخرة نصيب من نعم الله، فالذين عملوا للدنيا وحدها ولك يكن في بالهم الله، يأبى عدل الحق سبحانه وتعالى أن يضيع عليهم نتيجة عملهم، ولذلك فهو يعطيه لهم في الدنيا، ولكم من يعمل وفي باله الله يعطيه الله من الدنيا ويُوفِّيه أجره في الآخرة. ولذلك نجد بعضاً من المؤمنين يسألون: كيف يكون الكفار أحسن حالاً من المؤمنين في الحضارة المادية، ولماذا يأخذ الكفار من خيرات الأرض ما يكفيهم ويزيد، لدرجة أنهم في بعض البلاد يُلْقون بالفائض في البحر، بينما تجد المسلمين يعيشون في حضارة مادية محدودة، ويستوردون ما يأكلون؟ ولنتذكر الحقيقة الواضحة التي أكررها دائماً لكل مسلم: إياك أن يغيب عنك أن هناك «عطاء للرب» و «عطاء للإله» . فعطاء الرب للجميع؛ لأن الرب هو الذي خلق وربَّى، وأمدنا بالأقوات، وسبحانه ليس رب المؤمن فقط. لكنه رب المؤمن والكافر. ولذلك إذا أخذ المؤمن أو الكافر بالأسباب أعطاه الله؛ فالأرض تعطى محصولاً وفيراً لمن يحسن زراعتها وينتقي لها التقاوي ويرعاها، لا تفرق في ذلك بين مؤمن وكافر، والكون يعطي كنوزه لمن يبحث عنها ويجتهد، لا فرق بين مؤمن وكافر، وهذا عطاء الربوبية. أما عطاء الألوهية فقد خصَّ الله سبحانه وتعالى به عباده المؤمنين الذين يتبعون منهجه، هذا عطاء العبادة يجزي به الإنسان في الآخرة، والذي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5277 يأخذ العطاءين هو السعيد، يأخذ عطاء الربوبية فيستغل أسباب الحياة فيعطيه الله خير الدنيا، ويأخذ عطاء الألوهية بأن يجعل حياته وفقاً لمنهج الله، فيعطيه الله النعيم في الآخرة. والأسباب في الدنيا لا تفرق بين مؤمن وكافر، فالشمس تشرق على المؤمن والكافر، والمطر ينزل على الطائع والعاصي؛ لأن هذا عطاء ربوبية. من أحسن استخدامه أعطاه بصرف النظر عن الطاعة أو المعصية. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] لماذا؟ لأنك عملت للدنيا وحدها. . وكنت تعمل ليقال إنك مخترع أو مكتشف. . أو لتحصل على الأموال والأوسمة. . أو النفوذ والجاه في الدنيا، ولكنك لم تكن تعمل وفي بالك الله. وبعض الناس يأتي ليقول لك: هل الذي اكتشف علاجاً لميكروب كان يفتك بالبشر، أو اكتشف الكهرباء أو اكتشف كذا مما أسعد البشرية كلها، أيكون هذا كافراً ويُعذَّب في النار؟ نقول له: نعم؛ لأنه فعل هذا وليس في باله الله. . وإنما فعله وفي باله الحصول على المجد أو المال أوالنفوذ في الأرض؛ ولذلك أعطاه الله، ما عمل من أجله، فأصبح له ثروة طائلة وتاريخ يدرس في المدارس، وأعطوه النياشين وأطلقوا اسمه على الشوارع والميادين. فما دام قد عمل للدنيا فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه أجره في الدنيا، ولكن الذي عمل وفي باله الله يأخذ من الدنيا بالأسباب، ولكنه يأخذ في الآخرة من المسبب مباشرة؟ فالإنسان قد ارتقى حضاريّاً، حتى إنك الآن في بعض الدول المتقدمة تضغط زراً يعطي لك القهوة أو الشاي، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5278 وآخر يعطيك الطعام. نقول: إن هذا كله متاع الأسباب، فقبل أن تضغط أنت هذا الزر، كان هناك بشر أعدّوا لك القهوة أو الطعام، والآلة أوصلته إليك. ولكن مهما ارتقى الإنسان تكنولوجيّاً فلن ياتي اليوم الذي يجعل الشيء يخطر ببالك فتجده أمامك. . ولكن في الجنة بمجرد أن يخطر الشيء على بال تجده أمامك؛ لأن عطاء الدنيا عطاء أسباب، وعطاء الآخرة عطاء مسبب. فالله سبحانه وتعالى أعطانا الاختيار والأسباب في الدنيا، ولكن في الآخرة يأتي لك الشيء بلا عمل، مختلفاً في مذاقه ورائحته عن الدنيا. إذن: فالذي يعمل وفي باله الأسباب فقط يعطي في الدنيا، والذي يعمل وفي باله خالق الأسباب يعطي في الحياتين؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ. .} [النور: 39] والسراب الذي تمشي له متخيلاً أنه ماء فإنك حين تصل إليه لا تجده شيئاً، هكذا الكافر يوم القيامة، يفاجأ بأن الله موجود، وجد الله سبحانه الذي لم يؤمن به، ويطلب من الله الأجر فيقال له: أجرك مما عملت له. وما دمت لم تعمل لله فلا يوجد لك أجر في الآخرة؛ لأن الله هو الذي يجزي في الآخرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5279 وهنا يقول الحق سبحانه: {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} أي: أنهم أخذوا نصيبهم من الدنيا، ولكن الآخرة ليس لهم فيها نصيب؛ لأن النصيب في الآخرة يأتي ب «افعل» و «لاتفعل» في التكليف، فإذا فعلت الاثنين ترتقي، بدليل أن حضارة المسلمين استمرت ألف سنة حين أخذوا بالأسباب، ولم ينسوا المسبب. . بل حرسوا الأسباب بقيم المسبب في «افعل» و «لا تفعل» ؛ فملكوا الدنيا ألف سنة. ولا توجد حضارة مكثت مثل هذه المدة، ولئن زالت الحضارة من أمم الإسلام سياسيّاً، فقد بقي دينهم في نفوسهم، ولا توجد حضارة عاشت مبادئها بعد زوال الحضارة إلا الإسلام. فقد بقي منارة هادية، رغم ضعف المسلمين سياسيّاً. وقول الحق سبحانه: {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} أي: خذوا نصيبكم من الدنيا بالأسباب، ولكن تذكروا أنه استمتاع موقوت بزمن لا يملكه الإنسان؛ لأن عمر الفرد في الدنيا هو بعمر حياته فيها لا بعمر الدنيا نفسها؛ لأن الدنيا لك ولمن يأتي من بعدك. وعمرك فيها له حدود لا تعرف طوله. هل هو شهر أم سنة أم عشر سنين أم مائة عام؟ إذن: عمرك في الدنيا مظنون موقوت، فعملك لأسباب الدنيا محدودة المدة، بمقدار عمرك في الدنيا. وهَبْ أن عمرك طال وصرت من المعمرين فسوف ينتهي حتماً. ويقول الحق سبحانه: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} أي: أنتم تبعتموه ومشيتم على أثرهم، وكلما فعلوا إثماً فعلتم إثماً، وهم خاضوا في الأنبياء، وأنتم خضتم أيضاً في الأنبياء، فأنتم شركاء الذين ذهبوا من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5280 قبلكم في أنكم أخذتم نصيبكم وحظكم في الدنيا، ولم تدعوا للآخرة شيئاً. فلكم نصيب فيما فعلوا؛ هذه واحدة. أما الثانية: فقد بدلتم الحق بالباطل. إذن: فأنتم أخذتم المقدمات مثلهم فقادتكم إلى نفس النتائج. {أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة} أي: فشلت وضاعت أعمالكم في الدنيا، كما حبطت أعمال من سبقوكم في الدنيا وكانوا قسمين: قسماً وقف يحارب دعوة الخير حتى قتل ولم يأخذ شيئاً لآخرته فلم يأخذ شيئاً في الآخرة. فالذين حبطت أعمالهم في الدنيا هم الذين قُتلوا وأسروا وشُردوا وغنمت أموالهم بأيدي المؤمنين، فكأنهم خسروا الدنيا فلم يأخذوا من متاعها شيئاً، وأيضاً خسروا الآخرة، وهذا هو الخسران المبين، أي الخسران الحيط بطرفي الزمن؛ الدنيا والآخرة. ويقول الحق بعد ذلك: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5281 وبعد أن ذكر الحق في الآية السابقة القضية العامة في قوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} جاء في هذه الآية بالأعلام والأشخاص وهم الرسل ومن عاداهم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} وساعة يقول: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} فهنا همزة الاستفهام، ولا النفي. والهمزة تنفي هذا النفي، أي أتاهم نبأ هؤلاء. وحين ينفى النفي في أمر فالمراد إثبات الأمر، وأنت لا تستفهم الاستفهام الإنكاري، إلا وأنت واثق من أن الجواب عند من تسأله هو: «نعم» ، فحين تقول لإنسان: أنت تخليت عني في محنتي. فيقول: ألم أزرك في يوم كذا؟ ألم أعطك كذا؟ ألم أصنع مع ابنك كذا؟ فهو واثق أنك لا تستطيع إنكار شيء من هذا لأنه ثابت ثبوتاً حقيقيّاً. ونلحظ هنا أن الحق جاء بالخطاب للغيبة فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} ولم يقل: «أَلَمْ يَأْتِكمْ» ، فسبحانه يخاطبهم ترقيقاً لهم، ثم يتكلم عنهم مرة ثانية وكأنهم غائبون. وكأن هذا أيضاً مزيد من حرص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غيبتهم، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حريص على هدايتهم. {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} والنبأ: هو الخبر الهام. ونحن لا نقول عن كل خبر: نبأ، بل نقول عن الخبر الهام فقط إنه نبأ، والنبأ أصله من النبوة، والنبوة واضحة ظاهرة وليست مطموسة؛ ولذلك فكل شيء هام ظاهر قد حدث يقال عنه نبأ. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 1 - 3] ولا يوجد نبأ أعظم من نبأ يوم القيامة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5282 وقد جاء الحق سبحانه وتعالى بالقضية الأولى التي كان الخطاب فيها مباشراً كقضية عامة، وجاء بالقضية الثانية التي تكلم فيها عنهم غَيْباً كقضية خاصة. ثم حدد الحق سبحانه المقصود بالذين من قبلهم، وهم قوم نوح الذين أغرقهم الله بالطوفان. وكان قوم نوح كلما مروا عليه وهو يصنع السفينة سخروا منه، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى ردّاً على من سخروا من نوح: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] أي أنتم يا من تسخرون من نوح عليه السلام جاهلون بالغيب، ولكن الله أعلم نوحاً وقومه بما يكون، ولذلك فالسخرية الحقيقية هي من أولئك الذين رفضوا الإيمان، ولم يعلموا بما أعده الله لهم. ثم ذكر الحق بعد ذلك عاداً وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وهم قوم شعيب، والمؤتفكات أي قوم لوط. ومعنى المؤتفك أي المنقلب. وقد جعل لله عاليها سافلها. ويقول الحق سبحانه: {والمؤتفكة أهوى فَغَشَّاهَا مَا غشى} [النجم: 53 - 54] أي: كانت عالية فأنزلها للهاوية. والإفك هو الصرف عن الحقيقة، كما قالوا لإبراهيم: {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأحقاف: 22] أي: لتصرفنا عنهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5283 ما قصة هؤلاء الأنبياء وأقوامهم؟ يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي أن قوم نوح وقوم إبراهيم وغيرهم أتتهم رسالات السماء ولم تأتهم الرسالة كمنهج فقط، بل جاءتهم معجزات تثبت صدق بلاغ الرسل عن ربهم، فكأنه لا حجة لهم أن ينصرفوا عن منهج السماء أو أن يكذبوا به؛ لأن كل منهج مُؤيَّد بمعجزة تثبت صدق الرسول في رسالته. وقد تتابع هؤلاء الرسل على البشر ليهدوهم إلى منهج السماء، ويبينوا لهم طريق الحق. وكان تعدد الرسالات في أول الخلق؛ لأن العالم كان منعزلاً عن بعضه البعض، حتى إن أقواماً عاشوا على الأرض في زمن واحد وأماكن متفرقة؛ ولم يعلم أحد منهم عن الآخر شيئاً، ولكن العالم الآن اتصل ببعضه البعض، بحيث إذا وقعت الحادثة في مكان، نراها عن طريق الأقمار الصناعية في ثوان، وربما في نفس الوقت الذي تحدث فيه؛ إن كان الحادث مُعدًّا له مسبقاً، وقد رأى العالم كله أول إنسان ينزل فوق سطح القمر في نفس اللحظة التي نزل فيها. وعندما كان العالم يعيش في انعزال، كانت كل بيئة لها لون من المعصية والفساد، فكان الرسول يأتي ليحارب هذا اللون من المعصية والفساد الموجود في في بيئة معينة، ولا يوجد هذا اللون من المعصية والفساد في بيئة أخرى. ولكن عندما توحد العالم توحدت الداءات؛ فالداء يظهر في أمريكا مثلاً، وبعد فترة قصيرة جدّاً يظهر في أوروبا أو في مصر. ولذلك كان لا بد أن يأتي رسول واحد؛ لأن الداءات أصبحت واحدة، واقتضى الأمر وحدة المعالجة؛ لذلك كانت رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسالة عامة لكل الأزمان وكل الأمكنة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5284 وحين يقول سبحانه: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} فالبينات هي الشيء الذي يبين لك ما هو الحق، والمعجزات التي صاحبت الرسالات السماوية بيَّنت وأكَّدتْ أن الرسول مُبلِّغ عن ربه، وكانت المعجزة واضحة تماماً ليراها كل قوم رؤية تسمح باستيعابها. ولذلك كان كل رسول يأتي بآية يُجمع الكل على أنها معجزة. فأنت قد تأتي بشيء عجيب، ولكن لا يُجمع الناس على أنها معجزة، فعندما اختُرع الفانوس السحري، قال بعض الناس: إنه شيء عجيب. وبعضهم قال: إنه خداع نظر. ولكن معجزات الرسل لا بد أن تستوعبها كل مستويات العقول، يستوعبها المتعلم والذي لم يقرأ حرفاً في حياته؛ لأن الدين دين فطرة يخاطب أكبر العقول وأكثرها علماً كما يخاطب عقل البدوي الذي يقضي حياته كلها في الصحراء؛ لا يعرف شيئاً ولم يَعِش حضارة ولم يدرس علماً. إذن: فالمعجزات لا بد أن تكون واضحة لكل المستويات؛ حتى لا يكون هناك عذر لأحد. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} ، وهذا دليل على أن الحق سبحانه وتعالى يحاسبهم على قدر استيعابهم للمعجزة، فكأن كل العقول قد فهمت وأيقنت أن هناك معجزة. والذين استقبلوا المعجزة بالكفر ظلموا أنفسهم؛ لأنهم بعد أن استوعبوا المعجزة، وتحققوا أنها خَرْقٌ لقوانين الكون ولا يمكن أن يأتي به إلا الله سبحانه وتعالى، ولكنهم رغم ذلك رفضوا الإيمان. ويقول الحق عنهم: {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} والظلم أنك تأخذ حقّاً وتنقله إلى الباطل. ولكن الحقوق مختلفة، فأيُّ حق ذلك الذي نقلته إلى الباطل؟ إنه حق الوجود الأعلى الإيمان به وعبادته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5285 وكيف يظلم الإنسان نفسه؟ يظلم الإنسان نفسه حين تُزيِّن له النفس شهوة فيرتكبها؛ ليأخذ لذة عاجلة ويحرمها من نعيم دائم. وهناك من يظلم نفسه بظلم غيره، مثل شاهد الزور؛ هذا الذي ينصر صاحب باطل على صاحب حق. ومن يشهد الزور يسقط حتى في عين ذلك الذي شهد له. فإن جاء ليشهد أمامه في قضية، فهو لا يقبل شهادته وينظر إليه باحتقار، وكان يجب على من يطلب من إنسان شهادة زور أن يضربه؛ لأنه يريد أن يسقطه في نظر الناس، وفي نظر هذا الذي شهد من أجله؛ لأن شاهد الزور حين أعان إنساناً على خَصْمِه، فالكل ينظر إلى مثل الشاهد بالاحتقار. ويقول الحق بعد ذلك: {والمؤمنون والمؤمنات. .} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5286 جاءت هذه الآية بعد آية سابقة وُصِفَ فيها المنافقون في قوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ ... } [التوبة: 67] فناسب أن يقابلهم بالمؤمنين والمؤمنات، وتلك مناسبة الضد بالضد؛ لأن قياس الضد إلى ضده يُظهر الأمرين معاً. والمثال قول الشاعر حين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5286 يمدح محبوبته فيقول: فالوَجْهُ مثْلُ الصبح مُبيضٌ ... والشَّعْر مثل الليل مُسْودُّ ضِدَّان لما استجمعا حَسُنَا ... والضِّدُّ يُظهِر حُسْن الضِّدُّ وبعد أن ذكر الحق فضائح المنافقين ومعايبهم، وحنثهم فيما يحلفون، وخلفهم فيها يعاهدون، أراد أن يجعل تقابلاً بينهم وبين المؤمنين والمؤمنات. لكن التقابل هنا اختلف في شيء؛ لأنه سبحانه قال في المنافقين: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} ، وحين تكلم عن المؤمنين قال: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فالمنافقون والمنافقات وصفهم الحق {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} أي أنهم كلهم متشابهون وسلوكهم مبني على التقليد والاتباع، فهم يقلدون بعضهم بعضاً. وبما أنهم قد أقاموا عقيدتهم على الشر، فكلهم شر، ولا يوجد بينهم من ينصحهم بالخير أو يحاول رَدَّهم عن النفاق، بل هم يمضون في تيار الشر إلى آخر مدى. أما المؤمن فعقيدته مبنية على الاقتناع وعلى الخير. فإن وُجد في مؤمن شر؛ فَوليُّه من المؤمنين يبعده عن الشر ويعيده إلى طريق الخير؛ ذلك لأن النفس البشرية لها أغيار متعددة، ولا يسلك كل مؤمن السلوك الملتزم تمام الالتزام بمنهج الله في كل شيء. بل هناك خصلة ضعف في كل نفس بشرية. فإن وُجِدَ في المؤمن ضعف فأولياؤه من المؤمنين يُبيِّنون له نقطة ضعفه ويُبصِّرونه وينصحون له، ويُرد في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضاً يُنبِّه غيره ويبصِّرونه وينصحون له، ويُرد في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضاً يُنبِّه غيره ويبصِّره، وهكذا نجد أنه في المجتمع المؤمن، كل واحد يرد الآخر في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضاً يُنبِّه غيره ويبصِّره، وهكذا نجد أنه في المجمتع المؤمن، كل واحد يرد الآخر في نقطة ضعفه، وكل منهم ينصح الآخر ويعظه، ليكتمل إيمان الجميع، ومَنْ يقصر في شيء يجد القريب منه؛ وهو يسد الثغرة الطارئة في سلوكه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5287 أما المنافقون فيصفهم الحق {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} أي: أنهم جميعاً من بعض، فلا يتناهَوْنَ عن منكر فعلوه، ولا يوجد بينهم ناصح. وقول الحق سبحانه وتعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} لم يبين لنا من المولى ومن الموَالي، فكل مؤمن وهو ولي وهو موال؛ لأن الولاية مأخوذة من «يليه» ، أي صار قريباً، وضدها عاداهُ أي بَعُدَ عنه وتركه. إذن: فالموالاة ضدها العداوة. وفائدة القرب أن يكون الولي نصير أخيه المؤمن في الأمر الذي هو ضعيف فيه. فإذا كنت ضعيفاً في أمر ما، فأخي المؤمن ينصرني فيه. وما دام أخي المؤمن ينصرني في أمر ما، فإن صار هو ضعيفاً في شيء أنصره أنا فيه، فنتفاعل ونتكامل ويصبح كل منا ولياً ومُوَالَى. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1 - 3] ولو قيل: «وصَّوْا» لكان هناك أناس يوصون وأناس يتواصون، لكن الحق قال: {وَتَوَاصَوْاْ} ومعناها أن كل مؤمن عليه أن يوصي أخاه المؤمن. فإن كان عندي نقطة ضعف فأنت توصيني وتقول: اعدل عن هذا ولا تفعله فأنت مؤمن. وإن كانت فيك نقطة ضعف أقول لك: لا تفعل هذا فأنت مؤمن. إذن: فكل واحد منا مُوص ومُوصىً. كذلك الولاية فأنت وليي، أي قريب مني تنصرني في ضعفي، وأنا وليُّك، أي قريب منك، أنصرك في ضعفك لأننا أبناء أغيار؟ وكل واحد منا فيه نقطة ضعف تختلف عن نقطة ضعف الآخر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5288 والوَلاية تكون أيضاً في الحق، فقد أميل إلى الباطل في نقطة فيقول لي أخي المؤمن: اعدل. وقد يميل هو إلى الباطل فأقول له: اعدل. وهكذا يتكامل الإيمان، ولذلك تجد كلمة الوَلاية بمعنى القرب والنصرة في قول الحق في ذاته: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق ... } [الكهف: 44] أي: أن النصر الحقيقي والقرب الحقيقي لله؛ لأننا نعيش في عالم أغيار، فقد تطلب النصر عندي فتكون قوتي قد ذهبت، أو يكون مالي قد فنى، أو يكون نفوذي قد انتهى، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو وحده القوي دائماً، والغني دائماً، الذي يُغيِّر ولا يتغير، وعندما ينصرك الله فهذا هو النصر الحقيقي الدائم الذي لا نصر الأغيار. وتجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] أي: أن الحق سبحانه وتعالى جعل أولياء لله. وكذلك يقول تبارك وتعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ ... } [البقرة: 257] إذن: فالحق سبحانه وتعالى مرة يكون موالياً. ومرة يكون مُوَالىً، فإن واليت الله بطاعتك يواليك سبحانه بنصره. ويقول تعالى: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] أي: إذا تقربت إلى الطاعة بطاعته ونصرة منهجه، فهو يقرب منك في أزماتك وينصرك ويُثبِّت أقدامك. إذن: فالولاية في الأصل هي القرب والتناصر، وما دام هناك تناصر فلا بد أن تكون هناك نقطة ضعف في مؤمن، ونقطة قوة في مؤمن آخر، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5289 ولكن مَن الذي سيكون في ضعف دائماً، أو في قوة دائماً؟ لا أحد. إذن: فكل واحد يَنصر، وكل واحد يُنصر. وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال: {أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} ولم يعين البعض؛ فكل واحد صالح لأن يكون ناصراً ومنصوراً. ولكي يتضح المعنى اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياوة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ... } [الزخرف: 32] وشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل منكم السادة والعبيد، ويجعل منكم الأغنياء والفقراء، وذلك في أمور الدنيا، فإن كنتم تريدون أن تُقسموا أمور الدين، فاقسموا أولاً معايشكم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو الذي قسمها بينكم، وحياتكم في الدنيا تتبع قوانين الأسباب، ومن السهل عليكم أن تقسموها بدلاً من أن تأتوا لتقسموا رحمة الله التي هي حق لله سبحانه وتعالى وحده. ونلاحظ في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} أن البعض مرفوع والبعض الآخر مرفوع عليه، وما دامت كلمة {بَعْضٍ} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5290 مبهمة، فإن كلاً منا مرفوع عليه. ولا يوجد واحد من البشر مرفوع على الجميع، بحيث يكون وحده مجموعة متكاملة من المواهب. ولكن كلاّ منا متميز في ناحية أخرى، حتى يكون التلاحم في الكون تلاحم ضرورة حياة وليس تفضلاً؛ ولذلك فإن الإنسان المؤمن إذا كان فاعلاً مرفوعاً عليه في شيء فلا بد أن يسأل نفسه: في أي الأشياء أنا مرفوع فيه؟ وفي أي الأشياء الناس أحسن مني؟ ونقول له: أنت تتقن عملاً معيناً ولذلك أنت مرفوع فيه، ولكن في باقي الأشياء لا تعلم شيئاً، فأنت مرفوع عليك. إذن: فأنا في الشيء الذي لا أجيده مرفوع عليّ، وفي الشيء الذي أجيده مرفوع على الناس؛ ولذلك تجد كل واحد في كون الله مرفوعاً مرة ومرفوعاً عليه مرة، وهذا هو معنى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} . ولكن الآفة أننا لا ننظر في الرفعة إلا في مجال واحد؛ هذا غني وهذا فقير، ولكننا لا ننظر إلى الصحة، أو العلم، أو الأولاد، أو صلاح الزوجة أو البركة في الحياة، وزوايا كثيرة، وبعضنا إذا أخذ درجة عالية في زاوية، فإنه قد يأخذ صفراً في زاوية أخرى. ومجموع كل إنسان في نهاية الأمر يساوي مجموع أي إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى. فإن رأيت واحداً متفوقاً عليك في شيء. فإياك أن تحسده ولكن اسأل نفسك في أي مجال أنت تتفوق عليه، وستجد هناك مجالات وزوايا أخرى تكون فيها أفضل من غيرك. إذن: فكل منا مرفوع ومرفوع عليه، ولا بد أن نفهم أن كل صاحب موهبة يفيد المجتمع بموهبته، وربما كان نفعه للمجتمع خيراً من نفعه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5291 لنفسه. انظر إلى النجار مثلاً يجده يتقن عمل الأبواب والنوافذ للناس، أما لنفسه فلا يتقنها، لماذا؟ لأن الباب الذي يصنعه لنفسه هو الباب الوحيد الذي لا يتقاضى عليه أجراً. ولقد ضربنا مثلاً باليد اليمنى واليد اليسرى، فعند غالبية الناس تجد أن اليد اليمنى تؤدي الأعمال بسهولة، واليسرى تزاولها ببطء وتعثر، فإذا أردت أن تقص أظافر يديك مثلاً، فأنت تمسك المقص بيمينك وتقص أظافر اليد اليسرى بسهولة، ثم تمسك المقص بشمالك وتتعثر في قَصِّ أظافر اليد اليمنى. وهكذا نرى أنه لا يوجد إنسان يستمتع بالمواهب المكتملة. بل هو يتقن شيئاً ولا يتقن أشياء، ولكن مجموع مواهب كل إنسان، تساوي مجموع مواهب كل إنسان آخر. والعدل الإلهي يتدخل هنا، فنجد - على سبيل المثال - الرجل الغني الذي يأكل خبزاً من الدقيق الأبيض الفاخر، يم يأتي عليه وقت من الأوقات لا يستطيع أن يأكل إلا الدقيق الأسود أو السّن. وتجد من يسرف في الطعام؛ لا بد أن يأتي عليه وقت ويحرمه الأطباء من الطعام؛ لأنه أخذ منه أكثر من حقه. وتكون صحته في أن يُحرم. والحق سبحانه وتعالى وضع نظاماً كونياً يتساند فيه الجميع؛ لكي يلتحم الجميع. فأنت تحتاج لي فيما أتقنه وأنا أحتاج إليك فيما تتقنه، وهكذا يتساند الناس ويتكون المجتمع السليم. ولذلك يقال: الناس بخير ما تباينوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا وأصبحوا أصحاب موهبة واحدة أو عمل واحد لفسد الكون، كأن نكون كلنا قضاة مثلاً، فمن الذي يعالج المريض؟ ومن الذي يحفر الأرض؟ ومن الذي يحمل الطوب؟ ومن الذي ينظف الطريق؟ إننا لو تشابهنا في الموهبة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5292 أو الثراء أو العمل فلن نجد أحداً يقوم بهذه الأعمال؛ لأننا لو كنا كلنا أطباء أو مهندسين أو صيادلة أو قضاة أو مشرعين لما استطعنا أن نعيش، بل لا بد أن نختلف لأكون أنا محتاجاً لك وأنت محتاج لي. وبذلك يتماسك المجتمع، وتُقضَى مصالح الكون بسبب الحاجة، وليس بالتفضل بين الناس. ويصف الحق سبحانه المؤمنين بأنهم: {يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} فإذا فعل مؤمن منكراً؛ جاء أخوه المؤمن فنهاه عنه، وإذا لم يفعل معروفاً جاء أخوه المؤمن وأمره بالمعروف وكل واحد منا ناهٍ عن منكر، ومنهي عن منكر. وأنت لا يمكن أن تأمر بمعروف وأنت تفعل عكسه، أو أنت بعيد عنه، فلا يمكن أن تكون في يدك كأس من الخمر؛ ثم تطلب من إنسان آخر يمسك كأس خمر أن يحطم الكأس التي في يده، لا يمكن إذن أن تنهي عن منكر وأنت تفعله؛ والذي يأمر بمعروف لا بد أن يكون فاعله، والذي ينهى عن المنكر لا بد أن يكون بعيداً عنه. فكل مؤمن آمر ومأمور بالمعروف. وناهٍ عن المنكر. ويضيف الحق وصفاً للمؤمنين: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة} وإقامة الصلاة هي إعلان الولاء للخالق الأعلى، ومن له ديمومة لا نهاية لها. والمؤمنون أولياء بعض، ولكن مَنْ وليُّهم جميعاً؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن يلتحموا بمنهج الولي الأعلى الذي لا نستغني عنه يوماً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5293 والله سبحانه وتعالى حين وصف المؤمنين أولياء بعض، قال لنا: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ ... } [محمد: 7] إذن: فلا بد أن نتجه جميعاً إلى الوالي الكبير. فهو سبحانه فوق أسبابنا، وفوق قوتنا وهو الذي ينصرنا إنْ عزَّتْ ولاية الأفراد المؤمنين لبعضهم البعض، فنلجأ للولي الكبير. وما دامت الولاية لله الحق، فلا بد أن نستديم في ولائنا له سبحانه وتعالى. واستدامة الولاء لا تكون إلا بالصلاة. وساعة تسمع المؤذن يقول: «الله أكبر» تسرع إلى الصلاة. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى - وهو ربك وصانعك ووليك - قد دعاك إلى الصلاة، فلا بد أن تجيب الدعوة. فإذا أحببت أن تزيد على الصلوات الخمس وتكون في معية الله دائماً فافعل، بعد أن تكون قد أدَّيْتَ ما فرضه سبحانه عليك من خمس صلوات في اليوم الواحد، وحين تُعْرَض الصنعة على صانعها خمس مرات كل يوم ففي هذا صلاح الإنسان. وأنت إنْ جئتَ بأي آلة وجعلتَ المهندس الذي صنعها يراها كل يوم خمس مرات فلن تعطب أبداً. كذلك الإنسان وهو صنعة الله، إذا عرض نفسه على الله خمس مرات كل يوم فإن العطب لا يدخل إلى نفسه. والصانع من البشر حين تعرض عليه الآلة فيصلحها بماديات، سواء كان باكتشاف نقص في الوصلات الكهربية أو كسر في أي شيء، فالمادة تصلح بالمادة، ولكن الله سبحانه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5294 غيب، ولذلك فهو يصلحنا بالغيب، فلا تعرف ماذا فعل بك وأنت واقف أمامه تصلي. لكنك تشعر بلا شك أن شيئاً فيك قد انصلح. ولهذا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا حزبه أمر - أي كان هذا الأمر فوق طاقته - قام إلى الصلاة؛ لأن أسبابه لم تستطع أن تفعل شيئاً فيتجه إلى المسبب، ويقف بين يديه؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يملك الحل. ولذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لبلال: أرحنا بها يا بلال كأن الراحة بها، أي اجعل ملكاتنا تعتدل بالصلاة. لذلك كان لا بد أن يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة} لأن الصلاة استدامة الولاء لله، والحق تبارك وتعالى يريدنا أن نكون موصولين به سبحانه، وهذه الصلة تتم بالصلاة فرضاً خمس مرات في اليوم، وترك سبحانه الباب مفتوحاً لتطوعك، فلا تترك ساعة تستطيع أن تكون فيها بين يدي الله إلا فعلت. ولكي تعرف الفرق بين سيادة الله وسيادة البشر، فإنك إذا ضعفت أٍسبابك أمام شيء، فإنك تطلب أن تقابل من هو أعلى منك مركزاً، فهو يملك أسباباً لقضاء حاجتك، فإذا طلبت مقابلته قد يقول نعم، وقد يقول لا. . فإذا قال نعم، يسألك عم ستتكلم فيه. . فإذا قلت: إنك ستتكلم في كذا، حدد لك الساعة واليوم والمكان ومدة المقابلة. ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يفعل هذا. أنت تذهب له في أي وقت تشاء، وفي أي مكان تشاء، وتتكلم فيما تريد، وهو سبحانه لا ينهي المقابلة أبداً، أنت الذي تنهي المقابلة مع ربك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5295 ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يمل الله حتى تملوا» . والحق جل جلاله لا يشغله شيء عن شيء؛ ولذلك فهو يقابل كل عباده في وقت واحد، ويستمع إليهم في وقت واحد، ويُجيبهم إلى ما يطلبون في وقت واحد. ويقول سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة} والصلاة تأتي مع الزكاة باستمرار؛ لأن في الصلاة استدامة ولاء لله المعطي، وفي الزكاة استبقاء حياة من يستحق أن تعطيه، فأنت تعطيه لتستبقي له حياته فيواصل الولاء لله معك؛ لأنه لا ولاء إلا بحياة، وأنت تساعده على استبقاء هذه الحياة؛ ولأن الزكاة إعطاء مال للفقير، والمال يأتي بالعمل، والعمل يحتاج إلى وقت، إذن: فأنت ضحيت بجزء من وقتك لتتصدق به، وفي الصلاة ضحيت بوقتك في أوقات محددة. وفي الأوقات التي تعمل فيها هناك استدامة الولاء، بأن تخصص جزءاً من أثر هذا الوقت للزكاة، فلا يكون كل وقتك للعمل، وإنما يكون وقتك فيه عمل وفيه عبادة، فحين تخصص جزءاً من مالك الذي سيأتيك من العمل للزكاة تكون قد زكَّيت الوقت بالصلان، وزكيت المال بالعطاء. ويقول الحق: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} . وقد ذكر الحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وهذه كلها طاعة لله بإقامة أركان الإسلام، فلماذا يقول سبحانه: {وَيُطِيعُونَ الله} ؟ نقول: الله سبحانه ينبهنا إلى أن أركان الإسلام الخمسة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5296 رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليع سبيلاً، هذه الأركان ليست هي كل الإسلام. بل هي القواعد التي بُني عليها الإسلام؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «بني الإسلام على خمس» . إذن: فهذه هي الأعمدة أو الأسس التي بُني عليها الإسلام. ولكن الإسلام هو كل حركة في الحياة تصلح ولا تفسد، وتسعد ولا تشقي، ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن نفهم أن الإسلام ليس فقط بالأسس التي وضعت، ولكن لا بد من طاعة الله وطاعة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما أمرنا به في كل حركة الحياة. وحركات الحياة كلها متكاملة، وإذا نظرت للشيء الذي تستفيد به تجده وليد حركات متعاقبة ممن سبقوك حتى آدم عليه السلام، فإذا أخذنا أبسط الأشياء وهي وضع خميرة في عجينة الخبز؛ وكيف عرفنا هذا؟ نجد أننا أخذناها جيلاً عن جيل. والذي بدأها ألهمه الله بحادث يقع أو بخطأ يتم إلى أن وصل إلى قيمة وضع الخميرة في العجين ليكسب الخبز طعماً، ومعظم مبتكرات الحياة قد أتت بالصدفة أو نتيجة أخطاء. فالبنسلين - على سبيل المثال - اكتُشِف نتيجة خطأ. وقاعدة أرشميدس التي بنيت عليها نظريات الغواصات اكتشفت نتيجة ملاحظة ألهمها الله لأرشميدس. وحين يأتي ميلاد كشف جديد للبشرية، فسبحانه يهدي خلقه إلى هذا الكشف ولو كان بخطأ يقع منهم. ومثال آخر: ما الذي جعلك تفهم أن اللحم حين ينضج على النار أو يُشوى يكون طعمه أحلى؟ ما الذي جعلك تطهو بعض أنواع الخضراوات ولا تطهو أنواعاً أخرى. كل هذا هدانا إليه الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5297 {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2 - 3] إذن: فكل ما ننتفع به في حركة الحياة، قد أتانا من أجيال مضت؛ ولذلك من يأتي ليقول: سأنقطع للعبادة صلاة وصوماً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] نقول: سنوافقك على انقطاعك للصلاة والصوم فقط. ولكنك لكي تصلي؛ أنت تحتاج إلى طعام يعطيك القوة والقدرة لتصلي وإلا فسيستحيل عيلك أداء الصلاة. هَبْ أنك ستأكل رغيفاً من الخبز فقط، من أين تأتي بهذا الرغيف؟ من البقال. ومن أين أتى به البقال؟ من المخبز. ومن أين جاء المخبز بالدقيق؟ من المطحن. ومن أين جاء المطحن بالقمح؟ من مخزن الغلال. ومن أين جاء المخزن بالقمح؟ من المزارع. والمزارع أتى بمحاريث وآلات من المصانع لكي يحرث الأرض، وجاء بآلات لكي يسقي. إذن: فأنت لا تستطيع الانقطاع للعبادة إلا إذا استنفدْتَ بحركة غيرك، وكل عمل ذكرت فيه الله هو عبادة، وكل حركة في الحياة تعينك على أداء العبادة هي عبادة. ومثال آخر: لكي تصلي لا بد أن تستر عورتك في الصلاة، إذن: فأنت تحتاج إلى قماش تأتي به من التاجر، والتاجر أتى به من مصنع النسيج، ومصنع النسيج أتى به من مصنع الغزل، ومصنع الغزل أتى بالقطن من المحلج، والمحلج جاء به من الحقل، والحقل جُنِّدَتْ له معامل الدنيا ليعطيك أوفر محصول، ويقي القطن مكن الآفات. كل هذه من حركات الحياة التي مكَّنتْكَ أن تستر عورتك في الصلاة، وكل منها عبادة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5298 إذن: كان من الضروري أن يقول {وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} . بعد {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة} ... فبعد أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة عليهم أن يطيعوا الله في الإسلام الذي بني على هذه الأركان. ثم يقول الحق: {أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله} وأولئك إشارة إلى كل المؤمنين والمؤمنات الذين هم أولياء بعض، والذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة، والذين يؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، هؤلاء سيرحمهم الله. وأيهما أبلغ: أن يقال أولئك يرحمهم الله، أو يقال سيرحمهم الله؟ الأبلغ أن يقال: {سَيَرْحَمُهُمُ الله} لأن السين تهتك ستار الزمن؛ وبذلك يحيا المؤمن دائماً في رحمة الله التي لا تنقطع. ولذلك حكى الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين الذين يعملون الصالحات فقال: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} [مريم: 96] أي أن الود سيكون مستمرّاً، حتى لمن استمع إلى هذه الآية ثم مات، إنه أيضاً ينتفع بود الله. وأيضاً قال سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] ولم يقل: يعطيك ربك، بل جاء ب {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ} لترى عطاء الحق مستمرّاً. وأنت حين تهدد أحداً لا تقل له: أنا أنتقم منك، بل تقول: سأنتقم منك، أي: أن الانتقام سيستمر مع الزمن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5299 وقول الحق سبحانه وتعالى: {سَيَرْحَمُهُمُ الله} تعطي أن صفة الرحمة في حق الله سبحانه أعلى من صفة الرحمة في المخلوق؛ لأن التراحم من الخلق على قدر الأسباب، أما الرحمة من الحق سبحانه فتكون بصفات الكمال التي لا تتناهى ولا تنتهي. ومن الرحمة ألا يقع داء، والشفاء أن يوجد داء فيشفى؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ ... } [الإسراء: 82] والاثنان يؤديان إلى سلامة المجتمع من الأمراض الاجتماعية التي تُشْقي الإنسان، وهناك سلامة من أول الأمر. وهناك سلامة ليست من أول الأمر. ومن عنده خصلة سيئة - وهي داء - يشفيه منها القرآن، أما الرحمة فهي ألا يأتي داء ابتداء، ولذلك فالرحمة ممتدة. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ومعنى عزيز: أنه غالب على أمره، وما يريده يقع؛ ولا يُغلب. ولكن إياك أن تفهم أن ذلك عن جبروت ظالم، لا؛ لأنه سبحانه لا يظلم أحداً، ولأنه عزيز بحكمة. وهناك عزيز بلا حكمة، تغريه عزته أن يطغى. لكن الله عزيز حكيم، وعزته ليس فيها ظلم ولا طغيان، ولكنها بحكمة إلهية. ويأتي بعد ذلك وعد الله للمؤمنين والمؤمنات بالجزاء والنعيم في الآخرة، فيقول الله سبحانه وتعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5300 {وَعَدَ الله المؤمنين ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5301 والوعد: بشارة بخير يأتي زمانه بعد الكلام. والوعيد: إنذار بسوء يأتي بعد الكلام الوعد يشجع السامع على أن يبذل جهده ويعمل؛ حتى يتحقق له الخير الذي وُعِد به. والوعيد يعطي السامع فرصة أن يمتنع عما يغضب الله فلا يناله عذاب الله. على أننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات} ثم ذكر العذاب الذي ينتظرهم، وبعد ذلك قال: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات} ثم وصف النعيم الذي ينتظرهم، مع أن الشائع في اللغة أن الوعد يكون بالخير والوعيد يكون بالشر، فكان من المناسب في عرف البشر أن يقول الحق سبحانه وتعالى: «أوعد الله المنافقين» ؛ لأن الذي سيأتي بعد ذلك عذاب ونار وشر، وأن يقول في المؤمنين: وَعَدَ اللهُ لأن الذي سيأتي بعد ذلك جنة ونعيم وخير. ولكن الأسلوب جاء مخالفاً للعرف البشري، فجاء بكلمة «وعد» ، وهي تقال دائماً للخير في حديثه سبحانه وتعالى عن المنافقين والمؤمنين، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5301 واستخدام وعد بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات موافق للنطق البشري؛ لأنه وعد بخير. ولكن بالنسبة للمنافقين فقد جاء الحق سبحانه وتعالى بكلمة «وعد» مكان «أوعد» . فالذي يتكلم هنا هو الحق سبحانه، فلا تَقِسْ كلام الله على كلام البشر؛ لأن البشر يفوتهم في كلامهم ملاحظَ، ولكنها لا تفوت ولا تخفى على الله، والبشر يتفاوتون في الأداء وأساليبه ولكن الحق أسلوبه واحد. فلماذا جاء سبحانه - إذن - بكلمة «وعد» بدلاً من «أوعد» ؟ نقول: إن الحق سبحانه وتعالى بعد أن عرَّف المنافقين والمنافقات، ثم تكلم عن جزائهم إن إصرُّوا على نفاقهم، كان ذلك تحذيراً حتى لا يصروا على النفاق مخافة العذاب الذي ينتظرهم؛ عَلَّهم يقلعون عن النفاق وينصرفون إلى الخير من الإيمان. إذن: فالحق سبحانه وتعالى حين حذرهم بالوعيد نصحهم، كما تقول لمن يهمل في دروسه: سترسب إذا أهمات دروسك. فتكون بذلك قد خدمت إقباله على المذاكرة. أوصلته بالوعيد إلى أن يتجنب الأمر الذي أوعد به؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35 - 36] هل الشواظ من النار نعمة حتى يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: فبأي نعم ربك تكذب؟ نقول: نعم إنه نعمة؛ لأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5302 الحق سبحانه وتعالى حين يوضح لك: إن خالفت هذا فستذهب إلى النار، يكون قد قدم لك العظة والنصيحة، والعظة والنصيحة نعمة؛ لأنه يجعلك تتجنب طريق النار وتختار طريق الجنة. إذن: فحين يحذر الله المنافقين والمنافقات بالمصير الذي ينتظرهم، يكون هذا خيراً ونعمة؛ لأنهم إذا اتعظوا وأقلعوا عن النفاق إلى الإيمان فهم ينجون أنفسهم من عذاب النار، وفي هذا خير عميم. ولذلك استخدم الحق سبحانه وتعالى كلمة «وعد» ولم يستخدم «أوعد» ، وتكون الكلمة مؤدية للمعنى الذي أراده الله. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات} والوعد كما قلنا بشارة بخير مستقبلي، والوعيد إنذار بشرٍّ يأتي في المستقبل، والوعد والإيعاد هما ميزان الوجو دنيا وآخرة؛ لأنك إن وعدت من يلتزم بمنهج الله خيراً، استحسن الناس جميعاً أن يصلوا إلى الخير باتباعهم المنهج، وإن أوعدتهم بشر إن خالفوا منهج الله؛ نفر الناس من المخالفة والمعصية خوفاً من العذاب وتجنبوا الشر. فإن صدق وعدك لأهل الخير بالخير، وصدق وعيدك لأهل الشر بالشر؛ استقام ميزان الحياة. ولذلك نقول للذي يذاكر: إنك ستنجح، فإن أتقنت المذاكرة حصلت على المجموع الذي يؤهلك لدخول الكلية التي تختارها، وإن أهملت دروسك رسبت وفُصِلْتً من التعليم وضاع مستقبلك. هنا وعد ووعيد. إن وفَّيْتَ ما وعدت ووقيت ما توعدت، استقام ميزان الحياة. ولكن إذا جئت لإنسان لم يذاكر وأنجحته وأعطيته أعلى الدرجات مخالفاً بذلك وعيدك له، فأنت تهدم قضية كونية يترتب عليها مصالح الخلق كلهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5303 وإن وعدت من يحصل على 90 ... مثلاً أنه سيدخل كلية الطب، ثم أخلفت وعدك فدخل كلية الطب من حصل على 70 ... واستُبعِدَ الحاصل على 90 ... بسبب تدخل الأهواء تكون أيضاً قد اعتديت على حركة الحياة كلها وتفسد قضية العمل الجاد في حركة الحياة، وكل من لا يملك القدرة على تنفيذ ما وعد به أو أوعد به، لا يكون لكلامه وزن في حركة الحياة. على أنه إذا كان الوعد والوعيد من الحق سبحانه وتعالى فإنه مختلف مع منطق البشر؛ لأننا أهل أغيار، فقد أعد بخير لا استطيع تنفيذه، وقد أعد بعقاب ثم أضعف بسبب ظروف معينة فلا أقوى على التنفيذ. إذن: فلكي تستقيم حرحكة الحياة، لا بد أن يأتي الوعد والوعيد من القادر دائماً، القوي دائماً، الموجود دائماً؛ صاحب الكلمة العليا بحيث لا يوجد شيء يمكن أن يجعله لا يفي بوعده أو لا يُتِمُّ وعيده، فإذا قرأت سورة المسد تجد الحق سبحانه يقول فيها: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1 - 5] وقد حكم الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة؛ بأن أبا لهب وامرأته سيموتان كافرين وسيدخلان النار، ولكن كثيراً ممن كانوا كفاراً وقت نزول هذه السورة مثل: خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن العاص وغيرهم؛ آمنوا وحَسُنَ إسلامهم وجاهدوا في سبيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5304 الله، فلماذا حكم رسول الله بأن أبا لهب وامرأته لن يؤمنا كما آمن عمرو، وكما آمن عكرمة، وكما آمن خالد بن الوليد وغيرهم؟ نقول: إن هذا ليس حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكنه الحق سبحانه وتعالى، وإذا حكم الله فإياك أن تشُكَّ في هذا الحكم؛ لأنه لا إله إلا الله وهو على كل شيء قدير. لذلك جاءت هذه السورة، وبعدها في المصحف الشريف في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] وما دام الله أحداً فأمره نافذ حتى في الأمور الاختيارية في الحياة، فإذا قال الله: {لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} . وإذا وعد بخير فإنه سيأتي لا محالة، وإذا أوعد بشرّ فسوف يقع حتماً. إذن: فلكي تستقيم موازين الحياة، كان لا بد أن يأتي الوعد والوعيد من الحق سبحانه وتعالى حتى نكون على يقين بأنه سيحدث؛ لأنه لا أحد يشارك الله في مُلْكه، ولا يوجد قوي إلا الله، ولا غالب إلا الله؛ لأنه هو الله أحد. وقد يأتي الحق سبحانه وتعالى بسنة كونية واقعة، فأنت حين تزرع الأرض وتُحسن حَرْثها، وريِّها ووضع البذور فيها يأتيك المحصول بخير عميم. وإذا أهملت الأرض وتركتها بلا حرث ولا زرع ولا بذور فهي لا تعطيك شيئاً. إذن: فالسُّنة الكونية هنا أعطت وعداً للذي يجدُّ في زراعة أرضه بالمحصول الوفير، وأعطتْ وعيداً للذي لا يُقبل على زراعة أرضه بأنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5305 لا يحصل على ثمرة واحدة منها. ولو اختلف الأمر ووجدنا من زرع وحرث وسقي لم يحصل على الثمار، ومن لم يزرع ولم يفعل شيئاً أعطته الأرض من ثمارها الكثير، لانقلبت المعايير في الكون، وما وجدنا أحداً يزرع أرضه. إذن: فلكي تستقيم سنة الحياة، إما أن يكون الوعد والوعيد من قادر على التنفيذ لا يضعف ولا يتغير. وإما أن يكون بسنة كونية نراها أمامنا في كل يوم ولا يقع ما هو مخالف لها. فالذي يجتهد ينجح، والذي لا يذاكر يرسب. سُنة كونية. لو صدقت مع الواقع يعتدل ميزان الحياة. ولو لم تصدق مع الواقع وتدخلت الأهواء لتجعل من لا يذاكر يرسب؛ اختلف حركة الحياة المثمرة الناجحة. إذن: فميزان الوعد والوعيد هو دولاب حركة الحياة، فإن اختل هذا الميزان وجاء الوعد مكان الوعيد؛ أي كوفئ الذي لا يعمل وعوقب الذي يعمل فسد الكون. لماذا؟ لأن كل إنسان يجب النفع لنفسه، ولا يختلف في ذلك مؤمن أو عاصٍ أو كافر، ولكن العاصي والكافر يحبان نفسيهما حبّاً أحمق؛ فيحققان لها نفعاً قليلاً زمنه محدود؛ بعذاب مستمر زمنه بلا حدود. أما المؤمن فهو إنسان يمتاز بالذكاء وبُعْد النظر؛ لذلك فهو حرم نفسه من متعة عاجلة في زمن محدود، ليحقق لها متعة أكبر في زمن لا ينتهي. ولقد ضربنا مثلاً لذلك - ولله المثل الأعلى - فقلنا: هَبْ أن هناك أخوين: أحدهما يستيقظ من النوم مبكراً، فيصلي ويفطر ويأخذ كتبه ويذهب إلى المدرسة، ويحسن الإنصات للمدرسين ويعود إلى البيت ليذاكر دروسه. والآخر يظل نائماً يتمتع بالنوم، ويقوم عند الضحى، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5306 فيخرج ليتسكع في الشوارع، وحين تُحدِّثه نفسه بأي متعة فهو يحققها بصرف النظر عن منهج الله وقيم الحياة. إن كلا الأخوين يجب نفسه، لكن الأول أحب نفسه فأعطاها مشقة محتملة في سنوات الدراسة؛ لتعطيه راحة ومركزاً ومالاً بقية حياته، أما الأخ الثاني فقد أحب نفسه أيضاً وأعطاها المتعة العاجلة ولكنه أضاع مستقبله كله، فلم يَعُدْ يساوي شيئاً في المجتمع. إذن: فكل منا يحب نفسه، ولكن مقاييس الحب هي التي تختلف. فمنا مَنْ يأخذ المقياس السليم، فيحتمل مشقة قليلة ليأخذ نعيماً أبديّاً، ومنا من يعطي نفسه متعة عابرة ليفقد نعيماً مقيماً. والعجيب أنك تجد أن هذه هي سنة الحياة الدنيا، فلا تجد إنساناً ارتاح في حياته إلا إذا كان قد أجهد نفسه في سنواته الأولى؛ ليصل إلى الراحة بقية عمره، ولا تجد إنساناً فاشلاً عالة على المجتمع إلا إذا كان قد أخذ حظه من الحياة في أولها ليشقى بقية عمره. لذلك يقال دائماً: إنه لا يوجد من يأخذ حظه من الحياة مرتين أبداً، فالذي يتعب في أول حياته يرتاح بقية عمره، والذي يرتاح أول حياته يتعب بقية عمره. والمثل الشائع يقول: من جار على شبابه، أي: ضيَّعه فيما لا يفيد؛ جارت عليه شيخوخته. والقائمون على الأمر عليهم أن ينبهوا المقبلين على الحياة بالوعد والوعيد حتى يستقيم أمر حياتهم، وعليهم ألا يُؤجِّلوا الوعد إلى أن تنضج الثمرة. ولا الوعيد إلى أن يحدث الشر ويقع. وعلى كل ولي أمر؛ في أي مكان؛ أن يراقب حركة المقبلين على الحياة من أبنائه أو من يتولى أمرهم، فيشجع ويعد المجتهد، ولا ينتظر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5307 حتى ينجح، بل لا بد من الوعد لكي يتم الاجتهاد. ولا بد من الوعيد قبل أن يرسب الابن أو يضيع حياته، فلا ننتظر حتى يفسد الإنسان ثم بعد ذلك نتوعده؛ لأن الوعد والوعيد هما اللذان يَزِنَانِ حركة الحياة. ولكن إذا رأينا في مجتمع ما أن الذي يعمل لا يأخذ شيئاً، والذي لا يعمل يأخذ كل شيء، نعرف أن مقاييس العمل قد اختلت. وأن المتاعب قد بدأت في المجتمع؛ لأن الذي يعمل حين يجد أن العمل لا يوصله إلى شيء فهو يوجه حركة حياته إلى غير عمله، فيبذل جهده كله في النفاق والرياء، وقَلْب الحقائق وإرضاء الذي يملك الأمر. وتكون النتيجة هي فقدان المجتمع لقيمة العمل فيصبح المجتمع بلا عمل منتج، ويصير مجتمعاً بارعاً في النفاق والرياء وضياع الحق. وقد وضع الحق سبحانه وتعالى مقياس حركة الحياة في الوعد والوعيد؛ فلا تُعْطِ حافزاً إلا لمستحق، ولا مكافأة إلا لمجتهد؛ ولكنك إذا بعثرت الحوافز على المنافقين، والذين يحققون لك أهدافك الشخصية، كأن يخدموك في بيتك أو يقضوا لك مصالحك الخاصة، ومنعت الحوافز عن الذي يعمل في جد، تكون بذلك قد أفسدت حركة الوعد والوعيد؛ فتختل حركة الحياة في المجتمع؛ لأن حركة كل إنسان يتقن العمل ويجيده، هي حركة تنفع المجتمع كله، بصرف النظر عن صاحب الحركة نفسه، فإذا وُجد عامل نشيط أنجز مصالح عشرات الناس، أو موظف مخلص ارتاح كل من يتعاملون معه، فإن أضعْتَ أنت هؤلاء، فكأن المجتمع هو الذي خسر. لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى في سورة الكهف - ومعنى الكهف مغارة في جبل، والحقائق أيضاً لها كهوف - حين ضرب سبحانه وتعالى مثلاً عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5308 ذي القرنين قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} [الكهف: 83] فما هو الذكر الذي يعنيه الله سبحانه وتعالى هنا؟ بعض الناس يحاول أن يُدخلَ نفسه في متاهة بالسؤال عمَّنْ يكون ذو القرنين، هل هو قورش؟ أو الإسكندر الأكبر أو غيرهما؟ نقول: إن هذا لا يعنينا، بل ما يعنينا هو أن نلتفت إلى أن ذا القرنين هو إنسان مكَّنه الله في الأرض. وهذا ينطبق على كل إنسان مكَّنه الله في الأرض؛ في أي زمان، وفي أي مكان. ومهمة من يمكنه الله في الأرض ألا يكتفي بعطاء الله من الأسباب، بل عليه أن يُولد من الأسباب قوة؛ مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 84 - 85] مهمته - إذن - أن يثيب من يحسن عمله، ويعاقب من أساء عمله، وفي هذا يقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف: 86 - 88] وأول ما يجب أن يهتم به كل مُمكَّن في الأرض، بعد توليد الطاقة من الأسباب، هو معاقبة الظالم لتستقيم الأمور بالضرب على يده. وفي هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5309 إصلاح لحركة الحياة في الدنيا، أما في الآخرة فللظالم عذاب آخر، ذلك أن الذين يعيثون فساداً في الأرض لا يمكن أن نتركهم لعذاب الآخرة؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة. ولو تركناهم؛ ولم نضرب على أيديهم؛ لملأوا الأرض فساداً. والفساد في المجتمع لا يصيب المفسد فقط، ولكن يكتوي به المجتمع كله. إذن: فلا بد أن نُعجِّل هم بالعقوبة في الدنيا، لنحمي المجتمع من الفساد، ثم يعذبهم الله في الآخرة، وهو سبحانه لم يؤمنوا به، ولم يحسبوا حساب لقائه يوم القيامة، وأما من آمن وأصلح في المجتمع وصلح المجتمع بإيمانه، فلا بد أن نجازيه خيراً ونشجعه. هذا هو قانون صلاح الكون، وتلك هي معاييره. وكما قلنا، يشترط فيمن يقوم بتنفيذ الوعد والوعيد القدرة الدائمة وعدم التغيير والوجود الدائم، فإذا كانت القدرة مطلوبة، فلا يوجد أقدر من الله، أما التغير فالله يُغير ولا يتغير، وأما البقاء فلا بقاء ولا دوام لغير الله؛ ولذلك نجد أن المؤمن الحق هو من يعلم أن وعد الله لا تمسُّه الأغيار، أما وعد البشر فهو عُرْضة للأغيار. لذلك يطلب منك الحق أن تقول: «إن شاء الله» حين تعد بشيء لتكون صادقاً. ويقول سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} [الكهف: 23 - 24] وليس معنى هذا أن نمتنع عن التخطيط ووضع خطط لعام قادم أو لخمس سنوات قادمة، ولكن قل: إن شاء الله سوف أفعل ذلك غداً، و: إن شاء الله سأفعل كذا في العام القادم؛ لأن الذي تَعِدُ به، قد يأتي وقت الوفاء ولا تجد عندك القدرة على أن تفعله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5310 فإذا قلت - مثلاً - لإنسان: سنتقابل غداً في مسجد السيدة زينب رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ونتكلم في موضوع كذا. هل أملك أن أعيش لغد؟ أو يملك مَنْ وعدته أن يعيش لغد؟ أو أملك أن يظل سبب اللقاء موجوداً؟ يجوز أني كنت سأقابله لأقترض منه عشرة جنيهات، وجاءني مال في أثناء الليل، أو غيَّرت رأيي. إذن: فساعة تقول «سأفعل ذلك غداً» ، قل: «إن شاء الله» ؛ لأنك لا تملك شيئاً من أسباب الفعل. فكل فعل إنما يحتاج لفاعل وأنت لا تضمن بقاءك كفاعل. ويحتاج كل فعل إلى مفعول يقع عليه، وأنت لا تضمن بقاء المفعول، وكل فعل يحتاج إلى قوة ليتم، وأنت لا تضمن بقاء قوتك؛ فيجوز أن تمرض ولا تقدر على الحركة. كذلك يحتاج كل فعل إلى سبب كي تفعله، وقد يتغير السبب. إذن: فأنت لا تضمن شيئاً من أسباب الفعل؛ لذلك لا تقل سأفعل ذلك غداً؛ لأن الذي يملك أن يبقيه لغد، أو يُبقي السبب أو يُبقي القدرة هو الله، إذن: فكل شيء تقوله لا بد أن نقول: «إن شاء الله» ؛ لأنه سبحانه وتعالى وحده الذي يملك عناصر الفعل. ولكن إذا كان الذي وعد هو الحق سبحانه وتعالى، فوعده محقق التنفيذ؛ لأنه باق لا يموت، قادر دائماً لا تضعف قدرته، فعَّال لما يريد. وبعد أن تكلم الحق جل جلاله عن المؤمنين والمؤمنات بأنهم أولياء بعض، وأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، وقد وعد سبحانه بأنه سيرحمهم. فكيف ستكون هذه الرحمة؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5311 لذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} إذن: فالحق سبحانه وتعالى وعد المؤمنين والمؤمنات بالجنة، والجنة تطلق على البستان والأماكن الجميلة تملؤها الزهور والأشجار، وهذه عامة للمؤمنين يتمتعون بها جميعاً، ثم يأتي قوله تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} وهذه المساكن زيادة على هذه الجنة، وهنا وعد من الله لكل مؤمن بجنة خاصة بمفرده يكون له فيها مسكن طيب. إذن: فعندنا جنات، وهي لجميع المؤمنين، ثم مساكن طيبة، أي مسكن طيب لكل مؤمن، وما هو الطيب في هذه المساكن؟ لنا أن نلاحظ أن الإنسان يحب الشيوع أولاً، ثم يحب الانكماش ثانياً، وإذا أراد أن يملك فهو يريد أن يملك مكاناً متسعاً خاصاً به، ثم يخصص في هذا المكان مأوى طيباً خاصّاً به. وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} أي: ليس فيها ما يسيء أو يضايق، بل كل ما فيها يملأ النفس بالسرور والبهجة. وكلمة «جنة» هي المكان الذي فيه زروع وخضرة، وهذه الزروع تسترك وتخفيك عن الأعين، أو أنها تسترك فلا تحتاج إلى أن تخرج منها؛ لأن فيها كل مقومات حياتك من طعام وشراب. والحق سبحانه وتعالى أطلق لفظ «الجنة» على بساتين الأرض، فقال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ... } [البقرة: 266] ويقول تعالى أيضاً: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة ... } [القلم: 17] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5312 وعندما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة الجنة في الآخرة؛ كيف بيَّنها لنا سبحانه مع أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟ نقول: الوجود المعروف في الكون هو الوجود الذي تراه أو تسمعه، وفي هذه الحالة يكون الوجود أوسع؛ لأنك ستسمع الذي رآه غيرك حين يقصه عليك. إذن: فالسماع أوسع من الرؤية لأنه يأخذ مجالك ومجال غيرك. فأنت إذا قلت: إنك ذهبت إلى نيويورك مثلاً تكون قد رأيت، فإذا لم تذهب ونقل إليك أحد أصحابك صورة هذه المدينة، تكون دائرة معلوماتك أوسع؛ لأنك أضفت إلى علمك ما رأيته وما رآه غيرك. وأما الأشياء التي لا تخطر على بال بشر، فهي أوسع كثيراً مما ترى وتسمع؛ لأنها أشياء فوق الحصر. والكلمات توضع لمعانٍ معلومة، فألفاظ اللغة لا بد أن توضع لمعانٍ مرت على العين، أو مرت على السمع، أو مرت على الخاطر. فقبل أنّ يخترع التليفزيون لم يكن له اسم، إذن: فلا يمكن أن يكون هناك اسم، إلا إذا كان هناك وجود أولاً، ولكن قبل الوجود لا يكون هناك في اللغة ما يعبر عن شيء غير موجود. ولكن الألفاظ تضاف إلى اللغة بعد وجود الشيء. وهذه مهمة المجامع اللغوية في العالم. فالأشياء توجد أولاً، ثم تجتمع هذه المجامع لتختار لها أسماء. ولكن الجنة في الآخرة سيكون فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، فليس عندنا ألفاظ تعبر عما في جنة الآخرة، فإذا أضفنا إلى ذلك «ولا خطر على قلب بشر» تكون اللغة عاجزة تماماً عن أن تعبر عما في جنة الآخرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5313 وسبحانه وتعالى حين يريد أن يعطينا صورة عن الجنة التي وعد بها المتقين فهو يوضح: أنتم لا تستطيعون أن تأخذوا هذه الصورة من لغتكم؛ لأن لغتكم قاصرة فأنتم لم تروا هذه الأشياء، ولم تسمعوا عنها ولا تستطيع عقولكم أن تستوعب ما في جنة الآخرة؛ لأن فيها ما لم يخطر على قلب بشر. ولذلك فهو سبحانه وتعالى يعطينا فقط مثلاً ليقرب لنا الصورة فلا يقول الجنة، وإنما يقول: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [محمد: 15] أي: أن هذا مثل فقط يقرب الصورة، ولكنه ليس حقيقة ما هو موجود في الجنة. وهنا يقول سبحانه: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} و {جَنَّاتٍ} جمع «جنة» . ومادة الجيم والنون هذه مأخوذة من الستر والتغطية. اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين} [الأنعام: 76] يعني: ستر وأظلم، والجنون ستر العقل. والجنة تستر من فيها؛ لأن أشجارها كبرت ونمت وترعرعت. بحيث يكون من يسير فيها مستوراً بأغصان الشجر وأوراقه؛ فلا يراه أحد. ويكون مستوراً في كل مطلوبات حياته. فلا يحتاج أن يخرج منها؛ لأن فيها كل مطلوبات الحياة من الماء والطعام والمكان يجلس أو يتريض فيه، وغيرها من النعم التي أنعم الله بها عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5314 فإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين والمؤمنات جنات، فإن المؤمنين جماعة، والمؤمنات جماعة، والموعود به جنات جمع، وتقابل الجمع بالجمع يقتضي القسمة لآحاد، فيكون المعنى: أن الله وعد كل مؤمن جنة، ووعد كل مؤمنة جنة، والأفراد ستتكرر. إذن: فالموعود به جنات لا بد أن تتكرر، فإذا قسمناها عرفنا نصيب كل مؤمن ومؤمنة، تماماً مثلما يقول الأستاذ لتلاميذه، أخرجوا كتبكم. و «أخرجوا» أمر لجماعة، وكتبكم جمع، أيك أن يخرج كل تلميذ كتابه. وقول المعلم «أمسكوا أقلامكم» يعني: أن يمسك كل تلميذ قلمه. إذن: فقول الحق سبحانه {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ} أي: أن لكل واحد جنة. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وهنا لا بد أن ننتبه لمعطيات الألفاظ في سياقها ومقامها؛ فسورة الرحمن لا تتكلم عن الإنس فقط، وإنما تتكلم عن الإنس والجن. فسبحانه وتعالى يقول: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 14 - 15] وكذلك قوله جل جلاله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} [الرحمن: 31] إذن: فيكون للإنس جنة وللجن جنة؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5315 من خاف مقام ربه من الإنس له جنة، ومن خاف مقام ربه من الجن له جنة. ويمكن أن يكون المعنى أن لكل واحد جنتين؛ لأن الحق سبحانه وتعالى علم أزلاً ما سيصير إليه من أمر عباده من التقوى أو الفجور، ولكنه تبارك وتعالى لم يخلق للمتقين جنات تكفيهم وحدهم، أو يخلق للكفار ناراً تكفيهم وحدهم، بل خلق لكل واحد من خلقه إلى أن تقوم الساعة جنة، ولكل واحد من خلقه إلى أن تقوم الساعة ناراً، فإذا دخل أهل الجنة الجنة؛ بقيت الجنات التي خلقت ولم يدخلها أحد؛ لأن أصحابها من أهل النار، فيقوم الحق بتوزيعه على المؤمنين أصحاب الجنة؛ مصداقاً لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] أي: أنها لم تكن مخلوقة لكم، ولكنكم ورثتموها؛ لأن أصحابها من أهل النار. ونزيد الأمر هنا توضيحاً، فالقرآن الكريم له أسلوب مميز؛ لأن الذي يتكلم هو الله سبحانه وتعالى. ولذلك فإن كل لفظ من ألفاظ القرآن الكريم يأتي مطابقاً للمعنى تماماً. وفي اللغة، قبل أن تتكلم لا بد أن تكون عالماً بمعنى اللفظ. وأن يكون محدثك أيضاً عارفاً معناه حتى يستطيع أن يفهمك. فإذا قلت لإنسان مثلاً: أحضر لي كوباً من الماء لأشرب، فلا بد أن يكون عارفاً لمعنى الماء ومعنى الكوب، وإلا فإنه لن يفهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5316 إذن: فبالتخاطب توجد المعاني أولاً ثم توجد لها الألفاظ؛ ولذلك قبل أن يتم اختراع التليفزيون لم يكن المعنى موجوداً، وعندما اخترع وفهمنا معناه وضع له الاسم. فإذا وجدت لفظاً في اللغة، فاعلم أن المعنى قد وجد أولاً قبل أن يوضع اللفظ أو الاسم، ولعل هذا هو أكبر دليل لغوي ضد من ينكرون وجود الواجد الأعلى. نقول لهم: إن الله موجود في كل لغة؛ وبما أن المعنى في اللغة يوجد أولاً. فوجود الله سبحانه وتعالى سابق لمعرفتنا باسمه سبحانه وتعالى؛ لأن الاسم لا يمكن أن يوجد إلا بعد أن يوجد المعنى، وما دمت قد نطقت بالاسم، فهذا دليل على أن الله موجود. إذن: فقولك: إن الله غير موجود باطل؛ لأنك ما دمت قلت: «الله» ، ووجد لفظ الجلالة في لغتك؛ فلا بد أن الله سبحانه وتعالى موجود قبل وجود لفظ الجلالة. والكفر طرأ على اللفظ، فحاول أن يستره؛ ولذلك سمى الكفر ستراً لوجود الله والستر لا يكون إلا لموجود. إذن: فبالتخاطب توجد المعاني أولاً ثم توجد لها الألفاظ؛ ولذلك قبل أن يتم اختراع التليفزيون لم يكن المعنى موجوداً، وعند اخترع وفهمنا معناه وضع له الاسم. فإذا وجدت لفظاً في اللغة، فعلم أن المعنى قد وجد أولاً قبل أن يوضع اللفظ أو الاسم، ولعل هذا هو أكبر دليل لغوي ضد من ينكرون وجود الواجد الأعلى. نقول لهم: إن الله موجود في كل لغة؛ وبما أن المعنى في اللغة يوجد أولاً. فوجود الله سبحانه وتعالى سابق لمعرفتنا باسمه سبحانه وتعالى؛ لأن الاسم لا يمكن أن يوجد إلا بعد أن يوجد المعنى، وما دمت قد نطقت بالاسم، فهذا دليل على أن الله موجود. إذن: فقولك: إن الله غير موجود باطل؛ لأنك ما دمت قلت: «الله» ، ووجد لفظ الجلالة في لغتك؛ فلا بد أن الله سبحانه وتعالى موجود قبل وجود لفظ الجلالة. والكفر طرأ على اللفظ، فحاول أن يستره؛ ولذلك سمى الكفر ستراً لوجود الله. والستر لا يكون إلا لموجود. إذن: فالذي كفر، ستر موجوداً؛ فأعطى دليل الإيمان؛ لأنك أيها الكافر - والعياذ بالله - تعرف لفظ الله في لغتك، ولو لم يكن الله موجوداً ما وُجد لفظ «الله» سبحانه وتعالى في اللغة. إذن: فوجود الله سابق لمعرفتنا اسم الله، ومحاولة ستر ذلك بالكفر إنما هي دليل على وجود الله، لأنك لا تستر إلا ما هو موجود. ولفظ الجنة في القرآن الكريم أطلق على معان كثيرة، في قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5317 وقوله جل جلاله: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ... } [الكهف: 32] إذن: فالجنة أطلقت في القرآن على المكان الذي فيه زروع وثمار وأشجار، فهو يحجب من دخله، أو يمنع الإنسان بالخير الذي في داخله من الحاجة للخروج إلى مكان آخر؛ لأن فيه كل مقومات الحياة. وحين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يبشرنا بشيء في الآخرة، لا بد أن يشبهه لنا بشيء نفهم معناه في الدنيا؛ لأن اللغة مكونة من ألفاظ وأسماء سبقتها مَعَانٍ حتى نستطيع أن نفهمها، ولذلك إياك أن تفهم أن جنة الدنيا هي جنة الآخرة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يستخدم اللفظ الذي تفهم أنت معناه. ولكن جنة الآخرة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولكن من أين نأتي بالألفاظ التي يمكن أن تعبر لنا عن ذلك؟ إن اللفظ لا يوجد إلا إذا كان المعنى موجوداً أولاً، ومن يستطيع أن يأتي بلفظ لم تره عين، ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر؟ مستحيل؛ لأن المعنى غير موجود. ولذلك ينبهنا الحق سبحانه إلى هذه النقطة، ويوضح لنا أنه يعطينا معنى تقريبيّاً حتى نستطيع أن نفهمه؛ فيقول سبحانه وتعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون ... } [محمد: 15] أي: أنها ليست هي، ولكنه مثل فقط؛ يقرب المعنى إلى ذهنك. خذ صورة من المجتمع الذي تعيش فيه، أنت تحتاج إلى مسكن لتسكن وتستريح فيه من عناء الحياة. وهناك من عنده مسكن من حجرة واحدة، فإذا ترقى يكون المسكن من حجرة وصالة أو حجرتين وصالة، ثم بعد ذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5318 يزداد الرقي، فيبحث عن شقة واسعة، فإذا ارتقى كان له مسكن خاص (فيلا) ، فإذا ارتقى جعل حول مسكنه حديقة، وهكذا يزداد الرقي. إذن: فالمسألة لم تَعُدْ مكاناً تأوي إليه فقط، بل ترتقي في الإيواء كلما ارتقيت في الحياة. فتتحقق لك المتعة في الإيواء، وهذا موضوع آخر. ولهذا يقول الحق سبحانه: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} أي: هناك جنات وهناك مساكن؛ لأن الإنسان يحب في بعض الأوقات أن يجلس بمفرده وحوله المتعة التي تخصه، وفي أحيان أخرى يحب أن يجلس مع الناس في مكان جميل؛ مثلما يحدث في الأعياد والمناسبات، عندما نخرج إلى الحدائق والبساتين، ونجلس معاً، فكأن الجنات هي للرفاهية الزائدة؛ عندما تحب أن تجتمع مع الناس؛ أتمتع بها أنا وأنت وغيرنا. أما المساكن فهي للخصوصية. فيكون لكل واحد مكان خاص يجلس فيه ويتمتع بما حوله. إذن: فالجنات صورة من البساتين، ولكنها ليست مصنوعة بالأسباب، بل هي من صناعة المسبب جل وعلا. ونحن حينما نذهب إلى بيت إنسان ثري، قد نجد أن للبيت حديقة؛ يشرف عليها بستاني متمكن من عمله؛ ويقوم بتنسيق الزهور والأشجار بشكل يناسب ثراء المالك. ويكون إعجابنا في هذه الحالة بالحديقة إعجاباً كبيراً، بحيث نجلس فيها، ونكره أن نغادرها، فإذا كان هذا هو ما يحدث بقدرات البشر، فكيف بهذه الحقائق التي صُنعت بقدرة الله سبحانه وتعالى؟ وكيف يكون جمالها وحلاوتها والمتعة فيها؟ إن الذي وعدنا بهذه الجنات هو الحق سبحانه وتعالى. وهو قادر على أن ينفذ ما وعدنا به، من جنات فيها من الكماليات والرفاهية مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وجعل هذه الجنات واسعة شاسعة، فيها زروع وأزهار وأشكال؛ تسرُّ العين بجمالها، وتمتع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5319 اللمس بنعومتها؛ وتملأ الأنوف برائحتها الزكية. ومن ميزات جمالها أن الأنهار تجري من خلالها، ولكنها لا تجري من فوقها بل تجري من تحتها، ومنابعها من مكان آخر، أو تحتها، ومنابعها ذاتية، أي ينبع من نفس المكان. وكأن كل نهر ينبع من تحت جنة خاصة به. وإذا أردت أن تعرف جمال هذه الأنهار؛ فهو جمال قد صنعه الحق سبحانه وتعالى. وإذا كنا في حياتنا نرى أن لكل نهر شاطئين، فإن أنهار الجنة تجري من غير شواطئ؛ وإنما يمسكها الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض، ثم تجد الأنهار قد تشترك في المجرى؛ نهر اللبن، ونهر العسل، ونهر الماء، ونهر الخمر، وكلها تجري في مجرى واحد ولكنها لا تختلط ببعضها البعض، فكل منها منفصل؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو الصانع وتبارك من صنع. ويعطينا سبحانه وتعالى بعد كل ذلك، ميزة الخلود في هذه الجنات فيقول: {خَالِدِينَ فِيهَا} ونحن نعلم أن المتعة في الدنيا قد توجد للإنسان، ولكنها لا توجد خالدة أبداً؛ فقد تزول عنك النعمة وتذهب المتعة؛ كأن تصاب بكارثة مالية مثلاً أو تخسر خسارة كبيرة في تجارتك أو غير ذلك، وقد تزول أنت عن النعمة بالموت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5320 ولكنك في جنات الآخرة تستمتع بقدر ما فيها من كمال وجمال، ويزيدك الله فيها بأن يعطيك الخلود، فلا تفارق النعمة ولا تفارقك؛ لأنه ليس هناك أغيار، وليس هناك موت. وكل إنسان في الدنيا يتمتع على قدر قدراته، وتصورات الخلق لأنواع النعيم تختلف باختلاف بيئاتها ومقاماتها، فقد تكون من الفلاحين؛ وكل متعتك أن تجلس على مصطبة أمام بيتك، وقد يكون عند إنسان آخر بيت فيه صالون كبير، والثالث له بيت فيه عدة صالونات، فكل واحد على قدر إمكاناته في الدنيا، ولكننا في الآخرة نتمتع كلنا على قدر قدرات الحق سبحانه وتعالى، ويكون متاعنا بقدرة لا تفوقها قدرة، ويكون الجزاء بقدر ما فعلْتَ من خير في الدنيا، واتبعت منهج الله. إذن: فأنت الذي تحدد المساحة التي لك في الجنة، وتحدد المسكن وأنواع النعيم بقدر عملك. ثم ما الذي يهددك في نعيم الدنيا؟ الذي يهدد الناس في الدنيا أحد شيئين: إما أن تزول عنهم النعمة فيفتقروا، وإما أن يزولوا هم عن النعمة بالموت. ولكن نعمة الآخرة ليس فيها هذا التهديد. إنها النعمة الخالدة وأهل الجنة فيها خالدون. لذلك يقال: يا أهل الجنة، خلود بلا موت ونعيم بلا بؤس. ولقد زاد الحق تبارك وتعالى في وصف الخلود فقال {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} والخلود بقاء طويل جداً، والأبدية لا تنتهي. وسبحانه حين تكلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5321 عن الخلود استثنى فيه، فقال سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ ... } [هود: 108] أيُّ سماء وأيُّ أرض تلك التي تحدَّث عنها الحق سبحانه وتعالى؟ هل هي السماء التي نراها؟ إننا نعلم أن الأرض التي نعيش عليها ستبدل وأن السموات ستمور. ولكن الحق سبحانه وتعالى حين يتحدث عن السموات والأرض بالنسبة للآخرة. فهو يتحدث عن السموات والأرض المبدلتين؛ مصداقاً لقوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] إذن: فما دامت السموات والأرض ستتبدل، فالله سبحانه وتعالى يحدثنا عن السموات والأرض في الآخرة؛ غير حديثه عن السموات والأرض في الدنيا. ولكن بعض السطحيين يقول: إن القرآن يتحدث عن بقاء المؤمنين في الجنة ما دامت السموات والأرض؛ ثم يقول: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ وَإِذَا النجوم انكدرت وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} [التكوير: 1 - 3] فكأن هذه الأرض التي نعيش فيها، والسماء التي تظلنا ستُدمَّر يوم القيامة، فلماذا يقول الحق: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض ... } [هود: 108] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5322 فأين هو الخلود إذن؟ نقول لهؤلاء: اقرأوا القرآن كله لتعرفوا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات ... } [إبراهيم: 48] إذن: فهذه الأرض هي أرض معاش وما فوقها من سماء هي سماء معاش؛ ستتبدل بأرض مَعَاد؛ لأن الأرض التي نعيش عليها فيها مقومات الحياة بالأسباب، تزرع وتحصد وتصنع، أما في الآخرة فحياتك كلها بدون أسباب منك؛ ولذلك ساعة يخطر الشيء على بالك تجده أمامك دون أن تتحرك أو تحرث أو تزرع أو تتحمل أي مشقة. أما هنا في هذه الدنيا، الأرض أرض المعاش تنعم فيها وتأخذ منها بقدر إمكاناتك، ولكن أرض المعاد تأخذ منها بإمكانات الحق سبحانه وتعالى. ومهما ارتقت الدنيا وارتقت أسبابها، لا يمكن أن تصل إلى أنك يخطر على بالك الشيء فتجده أمامك. وسبحانه يقول: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} فكأنه استثنى بعض الناس من الخلود. {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ ... } [هود: 106 - 107] أي: أن الجنة والنار لهما خطان، وبمجرد أن يحاسب الإنسان، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فإن كان الذي يحاسب من الكفار أو المنافقين، يكون بدء خلوده من أول لحظة دخل فيها النار ويبقى فيها خالداً. وأما إن كان الذي يُحاسب مؤمناً عاصياً، فهو يدخل النار على قدر ما عمل من السيئات، ثم بعد ذلك يدخل الجنة. إذن: فالذي دخل النار أولاً حالتان: حالة أبدية وهم المنافقون والكفار، وحالة مؤقتة وهم عصاة المؤمنين، والخلود في النار بالنسبة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5323 لعصاة المؤمنين ناقص من الآخر، أما الذين عملوا الصالحات فهم يدخلون الجنة ابتداء وخلوداً، أما عصاة المؤمنين فلا يدخلون إلا بعد أن يناولوا جزاءهم من العقاب. وبذلك يكون خلود عصاة المؤمنين في الجنة ناقصاً من البداية؛ لأنهم لم يدخلوها بعد الحساب مباشرة، وخلودهم في النار ناقص من الآخر؛ لأنهم لم يخلدوا فيها: ويقول سبحانه: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: أن مساكن المؤمنين في الجنة ستكون أيضاً جنات خاصة بها، وكلمة {عَدْنٍ} ؛ مادتها العين والدال والنون معناها الإقامة. و «عَدَنَ في المكان» ، أي أقام فيه. إذن: فهي جنات إقامة؛ لأن هناك فارقاً بين أن تسكن في فندق مثلاً، أو في مكان مؤقت، وبين أن تقيم خالداً. وحين يعطي الحق سبحانه للمؤمن بُشْرى بأشياء، فهو يريد دائماً ألا ننسى أنها منسوبة إلى قدرته سبحانه، والشيء يتناسب مع قدرة صاحبه أو فاعله. فالرجل الفقير حين يبني مسكناً يكون المسكن متواضعاً؛ مجرد حوائط تستر الإنسان، أما صاحب الإمكانات الضخمة فيبني قصراً كبيراً، فإن كان واجد الوجود الأعلى هو الذي صنع، فكل شيء إنما يتم على مقتضى قدرته وإمكاناته؛ فهو الذي يمسك الأمور كلها، ويأتي تنفيذه لأي شيء وفق ما يريد. إذن: فالخلود في جنات عدن خلود دائم، وهي جنات يعلو فيها التنعيم لدرجة من علوها لا يحب الإنسان أن يتركها أبداً؛ لأنها أعلى مراتب الجنة ولا يوجد أحسن منها. والإنسان حينما يكون بمكان فإنه لا ينتقل منه إلا إذا زهد ما فيه، فلو كان في جنات عدن مما يُزْهَدُ فيه بعد فترة ما وصفها الله بهذا الوصف. ولكي يصل الإنسان إلى النعيم لابد من موجد لهذا النعيم وهو الله سبحانه وتعالى، وما يتمتع الإنسان به وهو الجنة، والمنْعَمُ عليهم بالنعمة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5324 وهم المؤمنون والمؤمنات. ومن أطاع الله طمعاً في الحصول على نعيم الله في الآخرة، يأخذ هذا النعيم. والذي أطاع الله لذات الله، ولأنه سبحانه وتعالى يستحق أن يعبد لذاته ويطاع، يكون في الآخرة مع التعظيم والتكريم والمحبة واللقاء بالمُنْعِم. إذن: فكل إنسان لما عمل له، فإذا زادت عبادتك عما فرض الله عليك، وأحببت أن تكون دائماً في لقاء مع الله، بأن تقوم الليل وتتهجد، وتقرأ القرآن وتصلي والناس نيام، وتتقن العمل الذي ترتقي به حياتك وحياة غيرك، وتفعل ذلك محبة في الله الذي يستحق التعظيم، فأنت تستحق المنزلة الأعلى، وهي أن تكون في معيَّة الله. ويقول سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] والحق سبحانه وتعالى يتجلى على أهل الجنة فترات، ويتجلى على أهل محبوبية ذاته دائماً، وعندما يتجلى الحق سبحانه على أهل الجنة ويقول: «يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا مالم تعط أحداً من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5325 يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن تحدث عن المتعة والنعيم والجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والمساكن الطيبة التي في جنات عدن. أوضح سبحانه أن هناك شيئاً أكبر من هذا كله، وهو رضوان الله في قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ذلك هُوَ الفوز العظيم} فالذي عمل للجنة يعطيه الله الجنة، والذي عمل لذات الله يعيش في معية الله سبحانه. ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {ذلك هُوَ الفوز العظيم} فما هو المقصود بالفوز العظيم؟ لقد تقدمت أشياء كثيرة؛ تقدمت جنات تجري من تحتها الأنهار، وجنات عدن، ومساكن طيبة، ورضوان الله، فأيها هو الفوز العظيم؟ نقول: كلها فوز عظيم، فالذي فاز بالنعيم الأول في الجنة أخذ فوزاً عظيماً، والذي فاز بالمساكن الطيبة في جنات عدن أخذ فوزاً عظيماً، والذي أخذ رضوان الله يكون قد أخذ الفوز الكبير والعظيم. ونلحظ أن القرآن حين يعرض منهج الله، فهو لا يتحدث عن الجزاء في باب منفصل، والمنهج في باب منفصل، بل يجمع بين المنهج والجزاء بين الوعد والوعيد؛ لأنه ساعة يصف لي الجنة وما فيها من نعيم، لابد أن ينبهني إلى المنهج الذي يوصلني إليها. وحين يعطيني صورة من المنزلة العالية التي تنتظر المؤمن في الآخرة، لا بد أن ينبهني - أيضاً - إلى العذاب الذي ينتظر المنافق والكافر؛ حتى أتجنب الطريق الذي يؤدي بي إلى النار والعياذ بالله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5326 ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى بعد أن حدثنا عن جنته ورضوانه يقول: {ياأيها النبي جَاهِدِ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5327 إذن: فيعد ان ذكر الحق لنا الجنة وما فيها، وما يجعل النفس مشتاقة إلى الجنة، فهو يُذكِّرنا بما يجب علينا أن نفعله لخدمة منهج الله - ولله المثل الأعلى - مثلما تقول لابنك: عندما تتخرج طبيباً ستكون لك عيادة كبيرة ثم مستشفى، وترتقي معه فيما ينتظره من مستقبل كبير، وتُذكِّره بضرورة أن يجتهد في المذاكرة حتى يصل إلى ما يتمناه. وبذلك تكون قد حبَّبته في الغاية التي سيصل إليها، ثم انتقلت لتحببه في الوسيلة التي ستوصله إلى هذه الغاية. وهنا يقول الحق سبحانه: {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} والحق جَلَّ وعلا يخص رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالتكريم والتعظيم، فلم يُناده باسمه. بل قال: {ياأيها النبي} وفي مواقع أخرى يناديه: {ياأيها الرسول} . ولكن النداء من الحق لباقي الأنبياء، يكون مثل قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة ... } [البقرة: 35] وقوله تعالى: {قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ ... } [هود: 48] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5327 ونادى الحق إبراهيم: {ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ... } [الصافات: 104 - 105] ونادى الحق موسى: {ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ ... } [طه: 11 - 12] وخاطب الحق سيدنا عيسى: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله ... } [المائدة: 116] فكل رسول ناداه الحق سبحانه وتعالى باسمه، إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد ناداه بقوله {ياأيها النبي} ، و {ياأيها الرسول} تكريماً للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ورفعاً لمقامه عند ربه. وهنا يطلب الحق من رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يجاهد الكفار والمنافقين. ونحن نعلم أن السماء لا تتدخل لإرسال رسول إلا فسد المجتمع فساداً عامّاً. ونعلم أن النفس الإنسانية فيها قد فُطِرتْ على محبة الخير، فإن لم يحكمها هواها فهي تفعل الخير وتحبه، فإن حكمها هواها ستر عنها الخير وفتح الهوى للنفس أبواب الشر. وقد يطيع الإنسان هواه في أمر من الأمور، ثم يفيق؛ فتلومه نفسه على ما فعل، هذه هي النفس اللوامة، التي تلوم صاحبها على الشر، وتدفعه إلى الخير. ولكن هناك نفس تتوقف فيها ملكات الخير فتفعل الشر، ولا تندم عليه، ثم ترتقي النفس في الشر فتصبح أمَّارة بالسوء، وتأبى ألا نكتفي بفعل الشر، بل تأمر به الناس وتُحبِّبه لهم. إذن: فمراحل النفس البشرية كثيرة، فهناك النفس التي تطمئن لمنهج الله وتطيعه. وهذه هي النفس المطمئنة؛ التي يقول فيها الحق: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5328 {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فادخلي فِي عِبَادِي وادخلي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30] وإذا وُجدت النفس المطمئنة والنفس اللوامة، فاعلم أن المجتمع بخير؛ لأن النفس المطمئنة تطيع، وتأمر بالطاعة، والنفس اللوامة تلوم صاحبها على الشر، ولكل مؤمن نقطة ضعف، فإذا ضعف مؤمن، يسرع له أخوه المؤمن ليلومه على ضعفه، ويصحح له مساره؛ ولأن نقط الضعف مختلفة، نجد أن المجتمع يستقيم كلما وُجد من يلتفت النظر إلى المنكر وينهى عنه، وهؤلاء هم الذين يقول الحق عنهم: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3] ولكن عندما تصدأ النفوس جميعاً، ولا يصبح هناك من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل تجد من ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر، حينئذ لا بد أن يتدخل الحق سبحانه ليعيد للحق مكانه في الدنيا. إذن: فرب العزة لا يتدخل في حالة وجود نفوس مطمئنة تطبق منهج الله وتأمر بطاعته، أو وجود نفوس لوامة، سواء في ذات النفس البشرية أو في المجتمع تراجع من يرتكب الإثم وتلومه، ولكن إذا عَمَّ الفساد في المجتمع، ولم يصبح هناك من ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف، وأصبح أهل الخير فيه عاجزين عن أن يفعلوا شيئاً، جاءت الرسل لتعيد منهج الحق لينظم حياة هذا المجتمع. وحين يأتي الرسول فهو يعلم أنه ما أُرسل إلا بعد أن عَمَّ الشر في الكون، وأن أهل الفساد هم الأغلبية، وهم أصحاب النفوذ والسلطان، وينتفعون بالفساد والانحراف المستشري في المجتمع. وهؤلاء إذا سمعوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5329 بصيحة الحق؛ فلن يقفوا متفرجين، بل سيحاربون كل من يحمل منهج الحق إليهم. ولا بد للرسول من أن يصمد أمامهم، وأن يجاهدهم. و «جاهد» من «فاعل» ، مثل «شارك» ، فأنت تشارك فلاناً، ومثل: «قاتل» فأنت تقاتل فلاناً، إذن: فلابد أن تحدث مفاعلة بين الرسول ومن ابتعوه، وبين أئمة الكفر والفساد في المجتمع. ولابد أن يستعد الرسول والمؤمنون بمنهجه لتحمُّل الإيذاء من غير المؤمنين بالمنهج؛ لأن الكفار منتفعون بالفساد، ولكي يستمر هذا الانتفاع، لابد أن يقف الكفار ضد حَمَلَة منهج الحق، وأن يقاوموهم ليضمنوا لأنفسهم استمرار الميزات التي يعطيها الباطل لهم. وينبه الله سبحانه وتعالى لرسوله إلى حقيقة هؤلاء الكفار المنتفعين بالفساد، وأنهم سيحاربونه. ولذلك لم يقل سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اتحد معهم، ولكنه قال: {جَاهِدِ الكفار والمنافقين} ، أي: اصمد أمامهم في المعركة، وجاءت الكثير من الآيات التي أمر فيها الله رسوله والمؤمنين بالصبر على الجهاد، والجهاد يقتضي المواجهة، لذلك قال سبحانه: {اصبروا} . ولكن لنفرض أن عدوِّي صبر أيضاً في الحرب، إن أنا صبرت وعدوي صبر تساوت الكفتان؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {اصبروا وَصَابِرُواْ ... } [آل عمران: 200] أي: إن واجهكم عدوكم بالصبر، فليكن صبركم أقوى منه، فتغلبوه بالصبر والتحمل، فقف صابراً في مواجهتهم ومعك المؤمنون برسالتك، فمعسكر الإيمان لا بد أن يواجه معسكر الكفر والنفاق، والكافر هو الذي جحد الإيمان بقلبه وأعلن الكفر بلسانه، أما المنافق فهو من كفر في باطنه ويعلن الإيمان في ظاهره. وهذا هو الذي يجب أن نحذر منه أشد الحذر؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5330 لأننا لا نعرفه فنتقي شره مثل الكافر، فقد يطعنَّا المنافق من الخلف ونحن آمنون له مطمئنون إليه، فتكون طعنته مؤثرة وأليمة. ويوضح الحق لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن العداوة التي سيواجهها وهو يبشِّر بمنهج الله ستأتيه من اثنين؛ من كافر أو منافق، أي من مجاهر بعدم الإيمان، أو ممن كفر بقلبه وتظاهر بالإيمان بلسانه. أما المنافق فإنه عدو صعب؛ لأنه يغشنا فلا نأمنه، رغم أن النفاق في حد ذاته بالنسبة لمنهج الله هو دليل قوة هذا المنهج؛ لأنه لا ينافَق إلا القوي، أما الضعيف فلا ينافقه أحد. ولذلك لم يكن هناك منافقون أثناء وجوده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مكة قبل الهجرة؛ لأن المسلمين كانوا قلة ضعافاً، وكانوا مُعذَّبين مضطهدين. ولم يكن هناك ما يغري أحداً بنفاقهم؛ لأنه لا توجد استفادة من هذا النفاق، بل سيتعرض من يتعاطف معهم للتعذيب والاضطهاد. والمنافق في إظهاره غير ما يبطن إنما يحقق لنفسه مصلحة ذاتية. واختلف الحال بعد أن هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة، وظهر المنافقون بعد أن أصبح للإسلام دولة وقوة. والمنافق في هذه الحالة إنما يعلن إيمانه زَيْفاً، ليستفيد من قوة المسلمين لصالحه. إذن: فالنفاق ظاهرة مرضية في المنافق، ولكنها دليل قوة للمؤمن الذي ينافقه. ونلحظ أنه سبحانه وتعالى قد قدَّم في هذه الآية ذكر الكفار على المنافقين. وقدَّم في آيات أخرى المنافقين على الكفار. والصدام - كما نعلم - قد حدث أولاً مع الكفار، ففي أول الدعوة لم يوجد هذا الصنف المنافق، بل كان هناك مؤمنون وكفار، وجهاد الكفار جاء على مراحل، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5331 وليس على مرحلة واحدة، وكانت أولى مراحل الجهاد هي الجهاد بالحجة؛ لأن المؤمنين في أول الأمر كانوا قلة ضعيفة لا يملكون قوة يواجهون بها هذا المد الكبير من الكفار. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرض قضايا الإيمان بالحجة لإقناع العقل؛ لعل عقولهم تفيق فيؤمنون بمنهج الحق. فيسألهم مثلاً عمَّنْ خلق السموات والأرض؟ وحين يديرها الكافر في عقله لا يجد أن أحداً ادعى - أو يستطيع أن يدعي - أنه خلق السموات والأرض، فلا يكون جوابهم إلا أن الخالق هو الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ لأن الإنسان في تكوينه قد يدعي أشياء ليست له، ولكنه لا ينفي أمراً هو صاحبه. فمخترع أي شيء أو صانعه لا يمكن أن ينكر أنه صنع أو اخترع، بل يجب أن تعرف الدنيا كلها أنه اخترع أو صنع؛ ولهذا فأنت لا تجد شيئاً ينتفع به في الكون مهما كان تافهاً إلا وعرفنا تاريخه، ومن أين جاء، ومن الذي طوره. وكذلك اختراع الطائرة، ومعروف لنا كيف نشأت فكرة الطيران بعباس بن فرناس؛ الذي حاول الطيران بذاته بواسطة أجنحة كبيرة، وهكذا كانت البداية. إذن: فكل شيء نافع في الكون معروف من الذي اكتشفه أو صنعه أو اخترعه. فإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للصناعات البشرية المحدودة، فما بالك بالنسبة للكون؟ وحين نسأل: من الذي أوجد الشمس؟ ألا يستحق خالقها أن نعرف من هو، خصوصاً ونحن نعرف من الذي اخترع مصباح الكهرباء وأوجده في حياتنا؟ وإذا كنا نملأ الدنيا بالحديث عن مخترع مصباح الكهرباء الذي ينير حجرة محدودة لوقت، وقامت مصانع كبيرة لتنتج هذا الاختراع، أفلا نستحق أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5332 نعرف من الذي أوجد الشمس التي تنير نصف الكرة الأرضية في نفس اللحظة؟ هذه الشمس التي تشرق منذ ملايين السنين، ولم تنطفئ مرة واحدة، ولا احتاجت قطعة غيار طوال هذ العمر الطويل، ولا بد أن يكون لها صانع؛ تتناسب قوته وقدرته مع ذلك الإعجاز الذي نراه سواء في الضوء، أو في خصائص هذا الضوء، أو في دقة الصنع؛ فهي لا تتأخر ثانية ولا تتقدم ثانية عن الظهور، ولا بد أن يكون صانعها له من القوة ما يتناسب مع عظمة هذا الخلق. فإذا جاء الرسول وأبلغنا أن الله هو الذي خلق الشمس، فإما أن يكون صادقاً؛ فنسلم جميعاً بأن الله هو الخالق والموجد. وإما أنه غير صادق، فنقول: لماذا لم يخرج إذن أحد يدعي أنه هو الذي خلقها. ولكن دقة وإعجاز الخلق الذي لا يمكن أن تصل إليه قوة بشرية مفردة، أو قوى بشرية متعددة متعاونة، جعل القضية محسومة له سبحانه وتعالى. وإلى أن يأتي من يدعي أنه خلق الشمس، ولن يأتي؛ فقضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى، ولا يوجد هناك منازع. ويأتي رسول ليقول: إن خالق الأرض والشمس والسموات والكون هو الحق سبحانه وتعالى، فلم يَأتِ أحد ويدَّعي أنه قد خلق شيئاً من هذا، مما يؤكد صحة دعوى الرسول، مما يؤكد أن من أوجد هذا الكون هو قوة بلا حدود، وقدرة بلا قيود، وهو الأحق بالعبادة من هذه الأصنام والآلهة التي يدعونها. وتمضي الدعوة بالمنطق ليسألهم من الذي خلقهم؟ مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5333 {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون} [الطور: 35] فإذا كان الجواب: لا هذا ولا هذه، إذن: فلا بد أن هناك خالقاً وموجداً لنا، فإذا جاء لنا الرسول وأبلغنا: إن خالق هذا الكون وخالقنا هو الله، فلا بد أن نصدقه؛ لأنه لم يدَّعِ أحد ولا يستطيع أن يدعي أنه خلق هذا الكون أو خلق نفسه، تماماً كما نكون قد جلسنا في مكان. وبعد أن انصرفنا، وُجدَت حافظة نقود، فجاء صاحب المكان وسأل كل الذين كانوا حاضرين، فنفوا جميعاً ملكيتهم لحافظة النقود، عدا واحداً، حينئذ تكون حافظة النقود ملكه؛ لأنه هو وحده الذي ادعاها ولا يوجد معارض. وفي خلق السموات والأرض وخلق الإنسان لا يجرؤ بشر أن يعارض الحق سبحانه وتعالى؛ ويدعي أنه خلق. إذن: فالقضية محسومة تماماً لله. هذا هو جهاد الحجة حيث يقتنع العقلاء بالمنطق، أو يقتنع من يستمع إليه فيفهمه، فإذا وصلنا إلى أن الحق سبحانه وتعالى هو الخالق والموجد، يمكننا أن نتساءل: من الذي يضع المنهج للإنسان على الأرض؟ لا بد أن نُقدِّر أن من يضع المنهج للإنسان على الأرض هو خالقه وموجده، تماماً كما نثق أن صانع أي آلة هو الأقدر على وضع أسلوب عملها، فهو يعلم ما يصلحها وما يفسدها. والمثال: أن الإنسان منا يعطي ساعة يده لمن تخصص في إصلاح الساعات، ويستدعي المتخصص في إصلاح الثلاجة إن أصابها عطب، ويستدعي الإنسان كل متخصص لإصلاح الآلة التي درس تفاصيلها، وكل متخصص يعود إلى كتاب التصميم الذي وضعه مَنْ اخترع الآلة، وبيّن فيه ما يصلحها وما يفسدها، ولذلك فأنت لن تستدعي نجاراً ليصلح التليفزيون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5334 إذن: فما دام سبحانه وتعالى قد وضع منهجاً فلا بد أن نتبعه؛ لأنه هو موجد هذا الكون وموجدنا، ويعلم ما يصلحنا وما يفسدنا. فإن فشل جهاد الحجة، يقول الحق سبحانه وتعالى: {واغلظ عَلَيْهِمْ} وبماذا يغلظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليهم؟ إنه يغلظ لإيضاح المصير الذي ينتظرهم، وكل كافر هو عابد للدنيا ويخاف أن تضيع منه الدنيا لأنه لا يؤمن بالآخرة، فأنذره بالآخرة، وانذره بالعذاب الذي ينتظره، وقُلْ له: أنت لست خالداً في الدنيا، وما ينتظرك في الآخرة هول كبير. ولكن المؤمن يعرف أن الدنيا وراءها آخرة وجنة؛ ولذلك وجدنا المؤمن الذي يقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحرب: ادع لي يا رسول الله لأستشهد. ويقول آخر: أليس بيني وبين دخول الجنة إلا أن أقاتل هؤلاء فيقتلوني؟ فيقول له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: نعم، فيلقي الرجل بتمرة كان يأكلها وينطلق إلى المعركة ويستشهد. هذا هو معنى الإيمان، ولو لم يكن المؤمن واثقاً تمام الثقة أنه سيذهب إلى نعيم ليس بعده نعيم، لما انطلق إلى المعركة طالباً الشهادة. إذن: وهم يُقْدمون على الشهادة بهذه الشجاعة تمتلئ أعماقهم بالإيمان وبأحكام الله فيه، وتدفعهم القناعة التامة - بأن هناك جنة في الآخرة - إلى الاستشهاد، وفي المقابل نعرف أن الذي ينتظر الكفار هو النار. وهكذا نفهم قوله الحق: {واغلظ عَلَيْهِمْ} أي: أنذرهم بالعذاب الرهيب الذي ينتظرهم عَلَّهُمْ يفيقون. والشاعر يقول: أنَاةٌ فإنْ لَمْ تُغْنِ عقِّب وَعيداً ... فإنْ لَمْ يُغْنِ أغنَتْ عَزَائِمه وَمَا هُو إلاَّ السيف أو حَدُّ طَرْفِه ... يقيمُ زباه أخْدعَ كُلِّ مَائِلِ فَهذا دَوَاءُ الدَّاءِ منْ كُلِّ جَاهِل ... وذَاك دَواءُ الداءِ منْ كُلِّ عَاقِل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5335 فمن آمن بالمنطق آمن، ومن لا يؤمن نقول له: دع كلمة الحق تُعلَنُ على الناس جميعاً، وأنت حر في أن تؤمن أو لا تؤمن، وإنْ أردتَ الحياة في كنف الأمة الإسلامية فأهلاً بك، ولا يهم أن تؤمن أو لا تؤمن؛ لأن الحق قال: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ... } [الكهف: 29] واعلم أنه يشترط في كل من يدخل الإسلام أن يكون مقتنعاً بهذا الدين، ومقتنعاً أيضاً بأنه الدين الحق. والذي لا يؤمن، يعيش في كنف الأمة الإسلامية وله حريته الكاملة في اتباع عقيدته، ولكن منهج الحياة وحركتها لابد أن تسير وفقاً لمنهج الله، وما دام الإيمان هو الذي يسيطر على حركة الحياة {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} ؛ فذلك لا يؤثر في حركة المجتمع المؤمن؛ ما دام المجتمع كله سائراً بالمنهج، وتسير الحياة كما أرادها الحق سبحانه وتعالى. والله هو خالق الإنسان، وهو الذي جعله خليفة في الأرض، وهو يغار على خلقه، تماماً كما تأتي لشيء جميل صنعه فنان أو عامل، وتحطم أنت هذا الشيء أمام صانعه. إن قلب الصانع - في هذه الحالة - يمتلئ بالغضب، ويسرع بعقابك. والحق سبحانه وتعالى عندما يرى إنساناً يفسد صنعته في الكون، ويحاول أن يحطمها، فسبحانه يغار على صنعته؛ لأن الله خلقنا مختارين، ولكي يكون الحساب عَدْلاً، لا بد من البلاغ أولاً، وأن تصل الدعوة إلى آذان الناس، فمتى وصلت الدعوة فهذا إتمام لرسالة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم يختار الإنسان من بعد ذلك أن يؤمن أو لا يؤمن، لذلك طلب الحق من رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يجاهد الكفار والمنافقين، وأن تكون الدعوة أولاً بالبرهان والإقناع. فإن لم يَأْتِ البرهان بنتيجة، وحاول أحدهم أن يقاوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5336 الدعوة بالسلاح فَليُردع بالسلاح. لذلك يقول الحق سبحانه: {واغلظ عَلَيْهِمْ} ولا تأخذك بهم رأفة؛ لأن الرأفة قد تغرى بالذنب؛ والمثال: حين يسرق الإنسان ثم تتركه بلا عقاب فقد يغريه ذلك ويغري غيره على السرقة. ولكن تنفيذ العقوبة ولو مرة واحدة، إنما يمثل رادعاً وحماية للمجتمع كله، ولذلك نجد أن عقاب القاتل بالقتل أنفى للقتل، وأنت حين تأتي بالقاتل وتقتله أمام عدد من الناس، فهذا العمل يمنع أي إنسان أن يفكر في القتل، أو أن يقتل. إذن: فنحن بالعقوبة نحمي المجتمع من أن تنتشر فيه الجرائم. وبعض السطحيين يقول لك: هل مَنْ يسرق تُقطع يده؟ نقول لهم: نعم؛ لأنني لو قطعت يد فرد لمنعت جريمة السرقة في المجتمع، فليس الهدف أن أقطع يداً. ولكن الهدف هو ألا يسرق أحد، وأنت حين تأتي بالعقوبة وتتأكد من الجريمة؛ إياك أن تأخذ الرحمة في تنفيذ العقاب. فلو أخذتك الرحمة في هذه اللحظة فأنت تشجع الجريمة. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5337 ولكن الحوار حول العقوبات في الإسلام لا يتوقف، ونقول لهؤلاء: هل هناك مجتمع ليس فيه تجريم أو عقوبات؟ وانظر إلى المجتمعات غير الدينية، ألا توجد بها جرائم وعقوبات؟ إن كل مجتمع إنما يحمي نفسه بتوصيف الأفعال التي تعتبر جرائم، ويضع لها عقوبات، ولا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص. إذن: فكل دولة وكل مجتمع لا بد أن تكون فيه عقوبات، وإلا أصبحت الحياة فوضى يستحيل معها العيش في أمان. فإذا كان حاكم أي دولة بسيطة قد وضع تجريماً وعقوبات، وهو يحكم فيما لا يملك، أفليس لله أن يضع التوصيف لما يرى أنه جرائم، وأن يُشرِّع العقوبة الملائمة لكل جريمة، وهو سبحانه يحكم فيما يملك؟ وإذا كان سبحانه قد حكم بقطع يد هو خالقها؛ فهو أراد ذلك ليمنع ملايين الأيدي من أن تمتد إلى مال الغير. ولذلك يجب ألا تطول الفترة بين تنفيذ العقوبة ووقت وقوع الجريمة؛ لأن الذي يتعب الناس في الدنيا، هو طول الإجراءات والأخذ والرد، فينسى النساس الجريمة، وتأخذهم الشفقة والرحمة بالمجرم، مع أنه لو وُقِّعتْ العقوبة فور حدوث الجريمة؛ لما طلب أحد الرأفة بالمجرم. والحق تبارك وتعالى يقول: {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} وقد عرفنا كيف يكون الجهاد مع الكافرين، فماذا يكون الجهاد مع المنافقين وهم الذين يتظاهرون بالإيمان؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5338 نقول: إن الجهاد معهم هو توقيع العقاب عليهم، وقد كان المنافقون يرتكبون الإثم، ويسألهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فينكرونه، فيصفح عنهم، ويوضح الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اغلظ عليهم إذا ارتكبوا إثماً، وقد وجدنا في سورة التوبة أن المنافقين يحلفون كذباً في كثير من الأمور، فيذكر الحق سبحانه: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ... } [التوبة: 56] {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر ... } [التوبة: 74] {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ... } [التوبة: 62] وفي سورة المجادلة يقول سبحانه: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فكأنما كلما حلفوا صدَّقهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعفا عنهم، ففضحهم الله بأنهم كاذبون، وطلب من رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُغلظ عليهم في العقوبة. ولكن هل غلظة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معهم تعفيهم من عقاب الآخرة؟ نقول: لا لأن الغلظة عليهم في الدنيا لضمان سلامة حركة الحياة، وليعلم كل منافق أنه مفضوح من الله. ولكن هذا لا يعفي من عذاب الآخرة. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} والمصير هو المرجع الأخير لأي شيء، وكل عقوبة يكون لها مظنة ألا تمتد إلى الفترة المقررة لها، فالذي عاقب قد يعفو، وقد يخرج الإنسان قبل انتهاء مدة العقوبة؛ كأن يكون هناك إفراج صحي، أو بقضاء ثلاثة أرباع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5339 المدة أو غير ذلك. ولكن العقوبة للمنافقين تكون بلا خروج، وفي هذا ترهيب منها؛ لأنك لو علمت يقيناً أن العقوبة أبدية، فسوف تخشى الإقدام على الجريمة. ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى عن الحلف والكذب الذي كان يفعله المنافقون؛ فيقول سبحانه: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5340 وفي هذه الآية الكريمة يبين لنا الحق سبحانه وتعالى حلقات الحلف بالكذب للمنافقين؛ فهم يحلفون أنهم ما قالوا، ويجعلون الله عرضة لأيمانهم؛ مع أنهم قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد أن أعلنوا الإسلام بلسانهم، وإسلامهم إسلامٌ مُدَّعًى. ولهذه الآية الكريمة قصة وقعت أحداثها في غزوة تبوك التي حارب المسلمون فيها الروم، وكانت أول قتال بين المسلمين وغير العرب، حيث دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى هذه الغزوة في فترة شديدة الحرارة، وكان كل واحد في هذه الفترة يفضل الجلوس في الأخياف، أي الحدائق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5340 الصغيرة، ويجلسون تحت النخيل والشجر في جو رطب ولا يرغبون في القيام من الظل. وعندما دعا رسول الله للجهاد في سبيل الله، والذهاب إلى قتال الروم، تلمَّس المنافقون الأعذار الكاذبة حتى لا يذهبوا للجهاد؛ فظلَّ القرآن ينزل في هؤلاء الذين تخلفوا عن هذه الغزوة شهرين كاملين، فقال رجل اسمه الجلاس بن سويد: والله إن كان ما يقوله محمد عن الذين تخلفوا عن القتال صِدْقاً فنحن شرٌّ من الحمير. وهنا قال عامر بن قيس الأنصاري: لقد صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنتم شر من الحمير. وأنت يا جلاس شر من الحمار. وهنا قام عدد من المنافقين ليفتكوا بعامر بن قيس الأنصاري؛ لأن الجلاس بن سويد كان من سادة قومه. وذهب عامر بن قيس إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخبره بما حدث، فاستدعى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابن سويد وسأله عن الخبر، فحلف بالله أن كل ما قاله عامر بن قيس لم يحدث. وتركه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أن حلف بالله. وهنا رفع عامر بن قيس يده إلى السماء، وقال: اللهم إني أسألك أن تنزل على عبدك ونبيك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تصديق الصادق وتكذيب الكاذب. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «آمين» . ولم ينتهوا من الدعاء حتى نزل الوحي بقول الحق جل جلاله: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} . وهكذا حسمت هذه الآية الكريمة الموقف. وأظهرت من هو الصادق ومن هو الكاذب؛ فيما رواه عامر بن قيس وأنكره الجلاس. ولكن الآية الكريمة تجاوزت ما عُرف من الحادثة إلى ما لم يبلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال سبحانه {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} ذلك أن الله تبارك وتعالى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5341 أراد أن يُعلم المنافقين أن سبحانه يخبر نبيه بما يخفيه المنافقون عنه، ولو نزلت الآية فقط في حادثة الحلف الكذب، لقال المنافقون: ما عرف محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلا ما قاله عامر، ولكن هناك أشياء لم يسمعها عامر؛ وهم قالوها، ذلك أن المنافقين كانوا قد تآمروا على حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واتفقوا على قتله عند عبوره العقبة، والعقبة هذه هي مجموعة من الصخور العالية التي تعترض الطريق، فيتحايلون على اجتياز هذه العقبة بأن يعبروها أحياناً من أنفاق منخفضة، وأحياناً يعبرونها بأن يصعدوا فوقها ثم ينزلوا. ودبر المنافقون أن يدفعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أعلى الصخور، فيسقط في الوادي، ولكن حذيفة بن اليمان الذي كان يسير خلف ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تنبه للمؤامرة، فهرب المنافقون، وهكذا لم ينالوا ما يريدون، مثلما لم ينالوا ما أرادوه عندما أتى رسول الله صلى الله مهاجراً إلى المدينة، فقد كانوا يعدِّون العُدَّة ليجعلوا عبد الله بن أبيّ ملكاً عليهم، ولكن مجيء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يُمكنهم من ذلك. وقيل: إنهم تآمروا على قتل عامر بن قيس؛ لأنه أبلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قاله الجلاس بن سويد، ولكنهم لم يتمكنوا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5342 وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} و {نقموا} تعني: كرهوا، والغنى - كما نعلم - أمر لا يُكره، ولكن وروده هنا دليل على فساد طبعهم وعدم الإنصاف في حكمهم؛ لأن الغنى والأمن الذي أصابهم ليس عيباً ولا يولد كراهية. بل كان من الطبيعي أن يولد حباً وتفانياً في الإيمان. والحق سبحانه وتعالى يوضح لهم: ماذا تعيبون على محمد؟ وماذا تكرهون فيه؟ هل تكرهونه وقد جاءكم بالعزة والغنى؟ وقبل أن يأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان الذين كرهوا مجيء الرسول إلى المدينة فقراء لا يملكون شيئاً، ولكنهم لما نافقوا ودخلوا في الإسلام، أخذوا من الغنائم، وأغناهم الله؛ بل إن الجلاس بن سويد لما قُتِل له غلام دفع له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اثني عشر ألف درهم ديّة. إذن: فقد جاء على يد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغنى للجميع، فهل هذا أمر تكرهونه؟ طبعاً لا. ولكنه دليل على فساد طباعكم وعدم إنصافكم في الحكم، وما دام الله سبحانه وتعالى قد أغناكم بمجيء رسوله؛ ما كان يصح أن يُعاب ذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بل كان يجب أن يُمدح به، وأن تتفانوا في الإيمان به ونصرته. وقول الحق سبحانه وتعالى: {مِن فَضْلِهِ} يلفتنا إلى أسلوب القرآن الكريم. ولقد قال الحق سبحانه وتعالى: {الله وَرَسُولُهُ} وكان قياس كلام البشر أن يقال «الله ورسوله من فضلهما» ، ولكنه قال: {مِن فَضْلِهِ} لأن الله لا يُثنَّى مع أحد، ولو كان محمد بن عبد الله. ولذلك عندما سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطيباً يخطب ويقول: من أطاع الله ورسوله فقد نجا، ومن عصاهما فقد هلك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بئس خطيب القوم أنت؛ لأن الخطيب جمع جَمْعَ تثنية بين الله ورسوله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5343 وهنا توقف الخطيب وقال: فماذا أقول يا رسول الله؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قل ومَنْ يعْص الله ورسوله فقد هلك، ولا تقل: عصاهما، لا تجمع مع الله أحداً ولا تُثنِّ مع الله أحداً؛ ولذلك نجد القرآن الكريم لم يَقُلْ «أغناهما الله ورسوله من فضلهما» ، ولكنه قال: {مِن فَضْلِهِ} لأن الفضل واحد. فإن كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فضل؛ فهو من فضل الله. وعلى أية حال فالله لا يُثنَّى معه أحد؛ ولذلك نجد في القرآن الكريم: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] وهنا نرى أيضاً أن الحق سبحانه قد استخدم صيغة المفرد في الرضا؛ لأن رضا الله سبحانه وتعالى ورضا رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتحدان، ولأنه إذا جاء اسم الله فلا يُثنَّى معه أحد. وبعد أن فضح الحق سبحانه وتعالى المنافقين وبيّن ما في قلوبهم؛ لم تتخلَّ رحمته عنهم؛ لأنه سبحانه وتعالى رحيم بعباده، ولذلك فتح لهم باب التوبة فقال: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} ، وفَتْحُ باب التوبة رحمة لحركة الحياة كلها؛ فلو أغلق الله باب التوبة لأصبح كل من ارتكب ذنباً مصيره للنار. وإذا علم الإنسان أن مصيره للعذاب مهما فعل، فلا بد أن يستشري في الذنب، ويزداد في الإثم، ما دام لا فرق بين ذنب واحد وذنوب متعددة. ولكن حين يعلم أن أي إنسان يخطئ أن باب التوبة مفتوح؛ فهو لا يستشري في الإثم، ثم إن الذي يعاني من الشرور والآثام حقيقة هو المجتمع ككل، فإذا وُجد لص خطير مثلاً؛ فالذي يعاني من سرقاته هو المجتمع. وإذا وُجد قاتل محترف فالذي يعاني من جرائمه هم الذين سيقتلهم من أفراد المجتمع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5344 إذن: ففتح باب التوبة رحمة للمجتمع؛ لأنها لا تدفع المجرم إلى الاستشراء في إجرامه. وإذا نظرت إلى الآية الكريمة، فالله سبحانه وتعالى بعد أن أظهر الحق، وبيّن للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وللمؤمنين أشياء كان المنافقون يخفونها؛ فتح للمنافقين باب التوبة، وحينئذ قال الجلاس بن سويد زعيم المنافقين: يا رسول الله. لقد عرض الله عليّ التوبة. والله قد قلت ما قاله عامر، وإن عامراً لَصَادقٌ فيما قاله عني. وتاب الجلاس وحسُن إسلامه. أما الذين تُعرَض عليهم التوبة ولا يتوبون إلى الله، فقد قال سبحانه: {وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} . إذن: فجزاء من يرفض التوبة ولا يعترف بخطئه هو العذاب الأليم، لا في الآخرة فقط، ولكن في الدنيا والآخرة. وعذاب الدنيا إما بالقتل وإما بالفضيحة، وعذاب الآخرة في الدرك الأسفل من النار. ولكن قول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} قد يفهمه بعض الناس فهماً خاطئاً، بأن العذاب في الدنيا فقط، ولكن هناك أرض في الدنيا؛ وأرض في الآخرة هي أرض المعاد؛ مصداقاً لقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات ... } [إبراهيم: 48] إذن: فكلمة {الأرض} تعطينا صورتين في الدنيا وفي الآخرة. وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} يوضح لنا أن الوليّ هو القريب منك الذي تفزع إليه عند الشدائد، ولا تفزع عند الشدائد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5345 إلا لمن تطمع أن ينصرك، أو لمن هو أقوى منك، أما النصير فهو من تطلب منه النصرة. وقد يكون من البعيدين عنك ولا ترتبط به ولاية، إذن: فلا الوليّ القريب منك، ولا الغريب الذي قد تفزع إليه لينصرك يستطيعان أن يفعلا لك شيئاً، فلا نجاة من عذاب الله لمن كفر أو نافق. ثم يعرض الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى من صور المنافقين؛ فيقول: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5346 {وَمِنْهُمْ} أي: من المنافقين الذين عرض الله صوراً كثيرة لهم في هذه السورة الكريمة، فقال: {وَمِنْهُمْ} ، و {وَمِنْهُمْ} و {وَمِنْهُمْ} ، واختلفت روايات المفسرين والرواة في مدلول قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} . فقال بعضهم: إنه ثعلبة بن حاطب، وقال آخرون: إنه مُعتِّب بن قشير، وقال رأى ثالث: إنه الجد بن قيس، وقال قائل رابع: إنه حاطب بن أبي بلتعة. كل هذه خلافات تحتملها الآية الكريمة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} ولم يقل الحق: «فلما آتيناه من فضلنا بخل به» بحيث ينطبق على حالة واحدة، ولكن الحق تبارك وتعالى جاء بها بصيغة الجمع فقال سبحانه: {فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ ... } [التوبة: 76] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5346 إّن: فهناك جمع. والروايات كلها يمكن أن تكون صحيحة في أن الآية الكريمة نزلت في أفراد متعددين، وسبحانه يقول: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} فكيف يكون للمنافقين عهد مع الله؟ نقول: لقد عُومل هؤلاء المنافقون بظواهر ألسنتهم، فهم قد أعلنوا إٍسلامهم، وكان الواحد منهم يقول: أعاهد الله على كذا وكذا؛ تماماً كما يأتي الواحد منهم للصلاة ويحرص بعضهم على التواجد في الصف الأول للمصلين، فهل منعه النفاق من الصلاة ظاهراً؟ لم يمنعه أحد، كذلك عندما يعاهد الله فهو يعاهده بظاهر لسانه. وقصة الآية: أن رجلاً فقيراً من الأنصار ذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: إني فقير مملق - أي شديد الفقر - فادع لي الله يا رسول الله أن يوسع عليّ دنياي. وبفطنة النبوة قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن قليلاً تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فعاوده وقال: ادع الله لي أن يوسّع عليّ. فدعا له فوسّع الله عليه. ولسائل أن يسأل: كيف يستجيب الرسول ويدعو لمنافق؟ وإذا كان الرسول قد دعا ترضية له وتأليفاً لقلبه؛ فكيف يجيب الله رسوله في طلب منافق منه؟ ونقول: ربما كان ذلك؛ لأن المنافق أراد أن يجرب: أرسول الله رسول حق، بحيث إن دعا الله أجيب؟ فلما دعا رسول الله؛ أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُعلم هذا المنافق أنه: نعم هو رسول الله؛ وإن دعا لأي أحد يُجِبْه الله، فتكون هذه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فلما دعا رسول الله لثعلبة، أو للجد بن قيس، أو لحاطب بن أبي بلتعة؛ استجاب الله لدعاء رسوله؛ وأعطى مَنْ سأل الدعاء مالاً وفيراً، وقالوا: ولقد تكاثر مال ثعلبة، وكانت ثروته من الأغنام قد تناسلت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5347 حتى ضاقت بها شعَاب المدينة؛ فهرب بها إلى شعاب الجبال، وإلى الصحراء الواسعة، فامتلأت، فشغلته أمواله أول ما شغلته عن صلاة الجماعة، وأصبح لا يذهب للصلاة إلا في يوم الجمعة؛ فلما كثرت كثرة فاحشة؛ شغلته أيضاً عن صلاة الجمعة. وفي ذلك دليل صدق لتنبؤ رسول الله له. إذن: فكل الأمر إنما جاء تأييداً لمنطق الرسول معهم؛ حتى يُسفِّههم في أنهم نافقوا في الإسلام. وبعد ذلك سأل عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالوا: إنه في الشعاب شغله ماله. فقال: يا ويح ثعلبة. وأرسل إليه عامل الصدقة؛ لأن ثعلبة قد عاهد الله وقال: {لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} فذهب عامل الصدقة إليه، فلما قال له: هات ما كتب الله عليك من الصدقة من مالك. قال: أهي أخت الجزية؟ وذكَّره عامل الصدقة: أنت الذي عاهدت، ومن ضمن عهدك أنك إن أوتيت تصدقت وكنت من الصالحين، فما لك لا توفي بالعهد. ورد ثعلبة على عامل الصدقة: اذهب حتى أرى رأيي. إذن: هو قد عاهد الله، ودعا رسول الله، واستجاب الله له، وكثرت أمواله، وبعد ذلك صدَّقَ الله نبيه في قوله: «قليل تؤدي شكره، خير من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5348 كثير لا تطيقه» ، فلما عاد عامل الصدقة إلى رسول الله بردِّ ثعلبة. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ويح ثعلبة. فلما علم ثعلبة أن قرآناً قد نزل فيه، انزعج انزعاجاً شديداً، وأسرع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعرض عليه الزكاة. فلم يقبلها رسول الله منه، فأخذ يتردد عليه للقبول، فلم يقبلها رسول الله منه. لقد أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك أن يثبت أن الله وفقراء الله في غنى عن مالك يا ثعلبة. فلما انتقل رسول الله إلى الرفيق الأعلى جاء ثعلبة بالصدقات المؤخرة عليه كلها إلى أبي بكر، فقال أبو بكر: ما كان لرسول الله أن يمتنع عنها ثم يأخذها أبو بكر. لما توفي أبو بكر جاء إلى عمر، فقال عمر مقالة أبي بكر. وجاء لعثمان، إلا أنه قبل أن يصل إليه كان قد هلك في عهد عثمان. {لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} ، وكلمة {لَئِنْ} قَسَم، والقَسَم هو صورة العهد، فكأنه قال: أقسم بالله إن أتاني الله مالاً لأفعلنَّ كذا. وقد فهمنا أنها قَسَم من وجود اللام في جواب القَسَم {لَنَصَّدَّقَنَّ} و «الصدقة» هي الصدقة الواجبة أي الزكاة، و {لَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} أي: نزيد في التطوعات، والمروءة، والأريحية، وكل ما يدل على الصلاح. ويقول الحق بعد ذلك: {فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5349 ولله عطاءان: عطاء الأسباب، وعطاء التفضل. و «عطاء الأسباب» يتمثل في أن يَجدَّ الإنسان في أي عمل من الأعمال؛ فيعطيه الله ثمرة عمله؛ مؤمناً كان أو كافراً؛ طائعاً أو عاصياً؛ لأن الإنسان قد أخذ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5349 الأسباب وأتقنها، ولذلك تجد بعضاً من الكافرين بالله وهم يعيشون في سعة؛ لأنهم يحسنون الأسباب، وما داموا قد أحسنوا الأسباب، وهم عبيد الله أيضاً، وسبحانه هو الذي استدعاهم للوجود، فضمن لهم أن تستجيب لهم الأسباب، ولا تضِنّ عليهم؛ فالشمس تشرق على المؤمن والكافر، وعلى الطائع والعاصي، والمطر ينزل على الأرض. وكذلك كل شيء في الأرض تستجيب عناصره لما يزرعون أو لما يفعلون، إذن فهذا عطاء الأسباب. ولكن الحق سبحانه يستر عطاء الفضل في عطاء الأسباب، كمن يسير في طريق مجهول فيجد كنزاً، أو أن ثمار محصوله لا يأتي عليها ريح أو إعصار يقلل من ناتج المحصول. ويبارك له الحق سبحانه في بيع محصوله، ويبارك له في رزقه منه، فلا يصرفه فيما يضيع ويذهب ماله. وهذا كله اسمه عطاء الفضل. وعطاء الأسباب عَامٌّ للناس جميعاً. أما عطاء الفضل فهو خاص بأولياء الله الذين أخلصوا عملهم لله طاعة وامتثالاً. وقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ} دليل على أن الرزق الذي جاءهم لم يخضع للأسباب وحدها. بل زاد عما تعطيه الأسباب بفضل من الله. فالتكاثر الذي حدث في أغنام ثعلبة لم يكن تكاثراً بالأسباب فقط، بل فيه بركة جعلت البطن الواحدة من الشاة تأتي بأكثر من وليد، والعشب الذي ترعاه يُدِرّ كمية كبيرة من اللبن. {فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} ما هو البخل؟ هناك في اللغة أسماء للامتناع عن العطاء، فهناك بُخْل، وشُح، وكزازة، وكلها أسماء للامتناع عن عطاء شيء، لكن منازل العطاء والبخل تختلف؛ بمعنى أن هناك إنساناً لا يعطي إلا من سأله؛ تلك منزلة، وإنساناً آخر لا يعطي كل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5350 من سأله، بل يعطي من سأله بأسباب تثير عواطفه نحوه، كأن يقول: ولدي مريض، أو احترق بيتي، فالسائل هنا لا يسأل فقط، ولكنه يجيء بعلة السؤال مثيرة للعواطف. وهناك من يعطي بغير سؤال. هي إذن: ثلاث مراحل للعطاء؛ واحد يعطي من يراه هكذا؛ مظنة أن حالته رقيقة من غير أن يسأل، وهذه منزلة من منازل القرب من الله، ينير الله بها بصائر قوم لتكون يدهم هي يد الله عند خلق الله. بل إن هناك أناساً يعاتبون أنفسهم إذا جاء إنسان فسألهم صدقة أو معونة؛ كالرجل الذي ذهب فطرق الباب، فخرج إليه صاحب البيت فسأله عما يريد، فطلب السائل منه مالاً فدخل صاحب البيت بيته وأخذ شيئاً من مال وأعطاه للسائل، فعلمت امرأته أنه جاء يسأله مالاً فأعطاه، ولكن الزوج الذي أعطى مالاً رجع يبكي. فقالت له: وما يبكيك وقد أجبْتَهُ إلى مطلبه؟ فقال: يبكيني أنني تركته ليسألني، أي: أنه يبكي لأنه لم يملك فِطْنَةً تجعله يستشفُّ مسائل الناس من حوله ليعطي المحتاجين بغير سؤال. إذن: فواحد يعطي عن مسألة؛ تلك مرتبة، وهناك من يعطي من غير مسألة، بل يعطي عن فضل عنده، أي: يملك الكثير ويعطي منه. وثالث: يعطي نصف ما عنده؛ يقاسمه فيما يملك، أو يعطي أكثر ما عنده حسب ما ينقدح في ذهنه من حاجة الإنسان المعطي. هي إذن ثلاث مراحل: رجل يعطي من غير سؤال، ورجل يعطي بسؤال فيه أسباب مثيرة ومُهيِّجة للعاطفة، ورجل يعطي بمجرد السؤال. فمن هو البخيل؟ أفظع درجة للبخل؛ أن يبخل الرجل على من يسأله مسألة مُسبِّبة بأحداث تهيج العواطف، ومع ذلك لا يرق قلبه، هذا هو البخيل. {فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} واحد من هؤلاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5351 لم يبخل فقط، بل انصرف عن الذي يسأله، مثل الذي انصرف عن العامل الذي جاء يأخذ الصدقة، وقد كان عليه - مثلاً - أن يُجلس العامل، ويقدم له التحية الواجبة؛ ثم يقول له سنرى رأينا، ولكنه تولَّى وأعرض عنه. ويأتي الحق هنا بعقاب من يسلك مثل هذا السلوك فيقول: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5352 وقوله سبحانه: {فَأَعْقَبَهُمْ} أي: جعل العاقبة لهذا التصرف؛ أن جعل في قلوبهم النفاق {إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي: إلى يوم القيامة. وما دام الله قد قال هذا فمعناه أن الذي عمل مثل هذا العمل، وسئل الصدقة فمنعها وبخل وتولى وأعرض، فهذا إعلام من الله أن هذا الإنسان لا يموت على إيمان أبداً. ولم يمت واحد من هؤلاء على الإيمان، وقد كان هذا العقاب بسبب أنهم أخلفوا الله ما وعدوه فقال سبحانه: {بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ} وكذلك جاءهم العقاب بسبب أنهم: {كَانُواْ يَكْذِبُونَ} فكأن الواحد منهم قد كذب كلمة العهد أولاً، وكذب ثانياً في أنه قال: أهي أخت الجزية؟ مع أنه يعرف أن الزكاة عن المال هي ركن من أركان الإسلام. ويقول الحق بعد ذلك: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5352 والعلم هنا مقصود به معرفة الخبر الذي لم يكن معروفاً قبل ذلك، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5352 وقوله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} فيه همزة الاستفهام؛ ولم النافية مثل قول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] ونحن نعرف أن الإخبار بين المتكلم والمخاطب له عدة صور: الصورة الأولى؛ ان يخبر المتكلم المخاطب بما عنده، وهذا «خبر» . والصورة الثانية: أن لا يخبر المتكلم مخاطبة بالخبر، بل يجعل المتكلم نفسه يقو الخبر، مثل قول أحد المحسنين: ألم أحسن إليك؟ وكان في استطاعته أن يقول «أنا أحسنت إليك» ، فيكون خبراً من جهته، لكنه يريد أن يعطي للخبر قوة، فجعل الكلام من المسْتَفهَم منه، وكأن عرض الأمر مَعْرِض السؤال في معرض النفي؛ ثقة في أن المخاطَب لن يجد إلا جواباً واحداً هو: نعم أحسنت إليّ. إذن: فالخبر إما أن يكون خبراً مجرداً عن النفي، أو خبراً معه النفي، أو خبراً معه الاستفهام. وأقوى أنواع الإخبار: الخبر الموجود معه النفي، والموجود مع النفي الاستفهام؛ لأن الخبر على الصورة الأولى يكون من المتكلم، والخبر من المتكلم قابل لأن يكون صادقاً وأن يكون كاذباً. ولكن الاستفهام يقتضي جواباً من المخاطَب، ولا يجيب المخاطَب إلا بما كان في نفس المتكلم؛ ولو كان المتكلم يعلم أن المخاطَب قد ينكر فلن يسأله. أو يقول لإنسان: أنا راضي ذمتك، وهذا القول يعني أن قائله علم أنه لا حق غير هذا، ومن يدير الكلام في عقله لن يجد إلا أن ما يسمعه هو الحق. {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} وما هو السر؟ وما هي النحوى؟ السر: هو ما تكتمه في نفسك ولا تطلع عليه أحداً، فليس السر هو ما تُسِرُّ به للغير؛ لأن هذه هي النجوى، وأصل النجوى البُعْد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5353 ويقال: فلان بنجوة عن كذا، أي: بعيد عن كذا. وأصل النجوى أيضاً المكان المرتفع في الجبل، فكأن المرتفع بالجبل بعيد عن مستوى سطح الأرض. وحين يرغب إنسان أن يكلم أحداً بكلام لا يسمعه غيرهما؛ فهو يستأذنه في الابتعاد عن بقية الجلوس ليتكلم معه كما يريد، أو يُخفض من صوته فلا يسمعه سوى الإنسان الذي يريد أن يهمس له بكلمة، ولا يسمعها أحد آخر، ولذلك سموها المناجاة؛ وهي كلام لا يسمعه القريب؛ لأنك خفضت صوتك خَفْضاً يخفي على القريب، فكأنه صار بعيداً. إذن: فالسر: هو ما احتفظت به في نفسك، والنجوى: هو ما أسررت به للغير بحيث لا يعلمه من يجالسك. والذين منعوا الصدقة، لا بد أنهم اتفقوا على ذلك فيما بينهم، وأنهم تكلموا في هذا الأمر - منع الصدقة - بعد أن صاروا أغنياء ولهم أموال كثيرة، وتمردوا على منطق الإسلام مع أنهم كانوا حريصين دائماً أن يظهروا في إسلامهم مظهراً يفوق المسلمين الحقيقيين، فكانوا دائماً في الصفوف الأولى للصلاة كي يستروا نفاقهم. وحين يوضح الحق سبحانه وتعالى أنهم أسرّوا في نفوسهم كلاماً؛ فهذا الإسرار في النفس حين يُخبر به الله؛ هو هتك لحجاب المكان والزمان معاً، وأعلم سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما دار في هذا الإسرار، كما هتك له من قبل حجب الزمان الماضي. وذلك في الأمور التي لم يشهدها، ولم يسمعها من معلم، ولم يقرأها في كتاب لأنه أمّي، فأخبر رسول الله عن أكثر من أمر لم يشهده ولم يسمعه ولم يقرأه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5354 إذن: من أين جاء بذلك؟ أعلمه به الحق سبحانه الذي يعلم خُبْأة السموات والأرض، وهتك له أيضاً حجاب الزمن المستقبل؛ فعلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأحداث قبل أن تقع، وأعلمه إياها مَنْ ملكَ ناصية الزمان، وملك ناصية المكان، وملك ناصية الأحداث. وهذا هو هَتْكُ حجاب الزمن المستقبل، وهتك سبحانه لرسوله حجاب المكان، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخبرهم عن شيء في نفوسهم، فقد أوحى له الحق: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ ... } [المجادلة: 8] بالله عندما يسمع الرجل من هؤلاء لما قاله في نفسه، ويخبره رسول الله بما قال، فمن اذلي هتك الحجاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ إن الذي هتك الحجاب لرسول الله هو من يعلم السرّ وأخفى؛ فلا توجد حجب غائبة عن الله؛ لأن حجب الغيب إنما تكون على البشر؛ حجاب ماضٍ، وحجاب مستقبل، وحجاب مكان، وحجاب زمان. {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب} أي: أن علم الله ليس مقصوراً على معرفة أمورهم هم، بل علم الله سرّهم ونجواهم؛ لأن صفته القيومية، وأنه علام الغيوب؛ يعلم غيب هذا، وغيب هذا، وغيب هذا، وغيب هذا، وجاءت المبالغة من تكرار علم غيب كل أحد. إذن: {عَلاَّمُ الغيوب} تعني أنه يعلم حتى ما حاولْتَ كتمه وستره، فقد قال سبحانه: {إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله ... } [لقمان: 16] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5355 إذن: فعلم الحق جل جلاله لا يغيب عنه شيء. ثم ينقلنا الحق سبحانه وتعالى إلى صورة أخرى من صور المنافقين وما يفعلونه بالمؤمنين. . فقال جل جلاله: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5356 واللمز: معناه العيب، ولكن بطريق خفي، كإشارة بالعين أو باليد أو بالفم أو بغير ذلك. إذن: فهناك مجموعة من المنافقين يعيبون في المطوِّعين لجمع الزكاة من المؤمنين، ومن هؤلاء المنافقين من يعيب بالقول، ومن يعيب بالفعل، ومن يعيب بالإشارة، والمطوِّعون هم الذين يتطوعون بشيء زائد من جنس ما فرض الله. فالله فرض مثلاً خمس صلوات، وهناك من يصلي خمس صلوات أخرى تطوعاً، وفرض الحق الزكاة اثنين ونصفاً بالمائة، وهناك من يصرف عشرة بالمائة تطوعاً، وفرض الحق صيام شهر رمضان، وهناك من يصوم فوق كل ذلك اثنين وخميس. وهذا ما نسميه دخول المؤمن في مقام الإحسان؛ بان تتقرب إلى الله بما يزيد على ما فرضه الله عليك، من جنس ما فرضه الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5356 وأنت إذ أديت المفروض تكون قد التزمت بالمنهج، وقد سأل رجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن فرائض الإسلام ثم قال: لا ازيد ولا أنقص، فقال الرسول الكريم: «أفلح إن صدق» والزيادة على ما فرضه الله، ومن جنس ما فُرِضَ يكون له ملحظان: الأول: أن العبد يشهد لربه بالرحمة؛ لأنه كُلِّفَ دون ما يستحق. والملحظ الثاني: هو أن عمل الطاعة قد خفّف على المؤمن فاستراح بها. ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الصلاة: «أرحنا بها يا بلال» إذن: فالمطوِّع هو الذي يزيد على ما فرض الله عليه من جنس ما فرض الله؛ وهؤلاء هم المحسنون؛ الذين قال الحق عنهم في سورة الذاريات: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 15 - 19] فالمنهج لا يلزمني بأن أنام قليلاً من الليل وأقضي بقيته في الصلاة، ولم يلزمني أحد بالاستغفار في الأسحار. ولم يقل الله سبحانه في هذه الآية إن في المال حقاً معلوماً؛ لأن الإنسان المؤمن هنا يعطي بأكثر مما فُرِض. وعندما يتطوع مؤمن ويزيد على ما فرض الله، أيستحق أن يُذَمَّ ويُعَابَ ويُلْمز؟ أم أنه يستحق أن يُكرَّم ويُقدَّر؟ ولكنّه اختلال موازين المنافقين في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5357 الحكم على الأشياء. لذلك اعتبروا الحسنة نقيصة، تماماً كالذي يُخرج ماله للفقراء، ونجد من يسخر منه بالقول عنه «إنه أبله» ، مع أن المؤمن حين يتصدق كثيراً؛ فهو يشيع فائدة ماله في المجتمع، وهو الأكثر ذكاء منهم؛ لأنهم أنفقوا المال على أنفسهم فَأفْنَوْه، بينما تصدق هو به فأبقاه. وقول الحق سبحانه وتعالى: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} لها واقعة، فقد هاجر عبد الرحمن بن عوف إلى المدينة، وترك أمواله وكل ما يملك في مكة، وآخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، فجعل لكل رجل من الأنصار رجلاً من المهاجرين يشاركه في ماله. ولما جاء عبد الرحمن بن عوف قال له أخوه من الأنصار: أقاسمك مالي. قال: بارك الله لك في مالك، دُلَّني على السوق. وذهب إلى السوق. وبارك الله له في تجارته. فكان يقسم ربحه نصفين نصفاً للصدقة ونصفاً لأهله. وقد جاء عبد الرحمن بن عوف إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: يا رسول الله اكتسبت ثمانية آلاف درهم أقرض الله أربعة وأبقي لأهلي أربعة، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بارك الله لك فيما أقرضت وفيما أبقيت» . وحينما مات عبد الرحمن بن عوف أحصوا ثروته، وحدث خلاف في تقديرها، وأراد الورثة أن يسترضوا زوجته الرابعة، وكان اسمها «تماضر» بأن يعطوها ثمانين ألف درهم، ولما كانت تماضر واحدة من أربع نساء، والنساء الأربع يرثن ثُمُنَ الثروة، أي: أن قيمة الثروة كلها على أقل تقدير بلغت مليونين وخمسمائة وستين درهماً. وكان عبد الرحمن لا يتاجر إلا في ماله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5358 فلما بلغ المنافقين ما تصدق به عبد الرحمن بن عوف قالوا: ما تصدق عبد الرحمن إلا رياء وسمعة. وهل الرياء يطلع عليه الناس أم يعرفه الله وحده؟ وجاء عاصم بن عدي، وكان صاحب بستان أعطى ثمراً كثيراً، فجاء بمائة حمْل من التمر وتصدق بها، فقال المنافقون: والله ما فعل عاصم هذا إلا رياء. وجاء رجل يُدْعَى أبا عقيل الأنصاري إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا رسول الله، لقد بِتُّ ليلتي أعمل، وأخذت أجري صاعين من التمر، احتفظت لأهلي بصاعٍ وجئتك بصاع لأتصدق به. قال المنافقون: تصدق بصاعٍ من التمر، الله ورسوله غني عن صاعك يا أبا عقيل. هم إذن قد عابوا على عبد الرحمن بن عوف الذي تصدق بالكثير وقالوا هذا رياء، وعندما جاء عاصم بن عديّ قالوا: يرائي بالتصدق بنصف ثمار حديقته، وعندما جاء من لا يملك إلا صاع تمر يتصدق به قالوا: الله ورسوله غني عن تمرك، لقد سخروا ممن أعطى الكثير، وسخروا ممن أعطى القليل. وكان يجب أن يُمدَح المتصدقون ولا يُسخَر منهم؛ لأن كلاً منهم تصدق على قدر طاقته، وهم أعطوا منه فضل ما أعطاهم الله؛ قلَّ أو كثُر. ولذلك فمَنْ يسخر من هؤلاء المؤمنين؛ لابد أن يُلاَمَ على الخُلق السيء الذي تمثل في مقابلة السلوك الإيماني بالسخرية والاستهزاء، ولذلك كان جزاء الساخرين أن سخر الله منهم، وجعل لهم عذاباً أليماً. والسخرية هي الاستهزاء بفعل شخص ما. وهؤلاء المنافقون حين يسخرون من المؤمنين، فسخريتهم لم تتجاوز عدم رضاهم عمَّنْ فعل الخير، وهم بسخريتهم لهم يستطيعوا إلا الإيذاء المعنوي للمؤمنين المتصدقين، ولكن حين يسخر الله؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5359 فهذه أولاً عدالة الجزاء لأنها من جنس ما فعلوا، ولكن هل سخرية الحق سبحانه وتعالى تقتصر على عدم الرضا أم أن هناك جزاء؟ هناك جزاء من الله. وإذا كان الجزاء يتفاوت بتفاوت قدرة الساخر. فهناك فارق شاسع بين قدرات الله وقدرات البشر. والذين سخروا من المؤمنين حين تصدقوا بالقليل الذي يملكونه؛ تصدى الله سبحانه وتعالى ليرد عليهم وعلى سخريتهم. ويريد الحق بذلك أن يعطينا صورة عن كيفية دفاعه عن المؤمنين المخلصين في إيمانهم. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحق تبارك وتعالى، هو الذي سيعاقب المنافقين، فالعقاب سيكون أليماً مهيناً. وقلنا من قبل: إن الذي يخطئ في حق غيره، فهذا الغير يرد الخطأ بعقاب على حسب قدرته. ولكن إن عفا عنه، نقول لمن أخطأ: لا تعتبر هذا العفو لصالحك، بل هو عكس ذلك تماماً؛ لأن الذي يعفو إنما ترك الحكم لله، وسوف يكون عقابك لا قدر قوة وطاقة مَنْ عفا عنك، ولكنه ترك عقابك لله، وسيكون عقابك على قدر قدرات الله. إذن: فالذي ينتقم ويرد على من أخطأ في حقه، إنما يأخذ على قدر قوَّته، وأما الذي يعفو فهو يأخذ على قدر قدرات الله، وهناك مرتبة أعلى من ذَلك جعلها الله سبحانه وتعالى للمذنب، والذي وقع الاعتداء عليه؛ لأن الحق سبحانه وتعالى رب الاثنين: فإن أساء إليك إنسان قد ترد عليه الإساءة بطاقتك، وقد تعفو فيرد الله عليه بقدرته وطاقته. ولكن خير من ذلك أن تحس أن الذي أساء إليك في حقيقة الأمر قد أحسن إليك، مع أنه لم يقصد ذلك، كيف؟ إذا دخلت بيتك ووجدت أحد أبنائك قد ضرب أخاه وأساء إليه، مع من يكون قلبك وعطفك؟ إن قلبك يكون مع الذي اعتدى عليه وأسيء إليه فتحاول ان ترضيه، وتأتي إليه بهدية أو تعطيه مبلغاً من المال، أو غير ذلك من أنواع الإرضاء، وقيل: من آداب دينك - الإسلام - أن تحسن إلى مَنْ أساء إليك؛ لأنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5360 يقدم معروفاً دون أن يقصد. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يطلب منك أن تعفو عمن أساء إليك. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ} وإذا سمعت فعلاً من البشر يقابله فعل من الله، إياك أن تفهم الفعل من الله كما فهمتَ فعل البشر، فحين يقول سبحانه: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله ... } [آل عمران: 54] وحين يقول: {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ ... } [النساء: 142] هنا نجد فعلاً من صنع الله، وقد نرى من البشر من يفعل نفس الفعل، لكن نحن المسلمين نأخذ الفعل من الله على غير الفعل من البشر. وعلى سبيل المثال: إذا جئنا لقول الله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} المكر هو التغلب بالحيلة على الخصم؛ بأن توهمه أنك تفعل له خيراً، بينما أنت تضمر له الشر، كأن تحفر حفرة كبيرة مثلاً وتغطيها ببعض الحشائش والزهور، ثم تطلب من خصمك أن يأتي لك بزهرة، فيسقط في الحفرة وتتكسر عظامه. إذن: فأنت قد كِدْتَ له كَيْداً خَفِيّاً. والكيد والمكر لا يَدُلان على القوة؛ إنما يدلان على الضَعف؛ لأن الشجاع القوي هو الذي يجاهر بعدائه؛ لأنه قادر على عدوه، لكن الضعيف هو الذي يستخدم الحيلة والمكر ليوقع بخصمه. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في النساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] وما دام كيدهن عظيماً، فضعفهن عظيم؛ لأن الضعيف هو من يكيد، ولكن القوي لا يعجزه طلب خصمه ويقول له: اذهب حيثما شئت، وسآتي بك عندما أريد، لا يوجد مكان تهرب فيه مني، إنما الضعيف إذا تملك من خصمه فإنه يقضي عليه تماماً؛ لأنه يعرف أنها فرصة لن تتكرر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5361 ولذلك قال الشاعر: وَضَعِيفَةٌ فإذَا أصَابَتْ فُرْصة ... قتلت كذلِكَ فُرْصَةُ الضُّعفَاءِ أما القوي فإنه يقدر ويعفو؛ لأنه يعرف أنه يستطيع الإتيان بخصمه وقتما يشاء. والأصل في المكر هو الشجرة الملتفة الأغصان كأنها مجدولة؛ بحيث لا تستطيع أن تميز الورقة التي تراها من أي فرع نبتت، فيلتبس عليك الأمر، كذلك المكر تختلط عليك الأمور بحيث لا تعرف أين الحقيقة. وأنت تمكر بقدر تفكيرك وعقلك، ولكن الحق سبحانه وتعالى حين يجازيك بمكرك يكون الجزاء رهيباً؛ لأن مكرك مفضوح عند الله، ولكنك لا تعرف شيئاً مما أعدَّه الله لك. ولقد نصر الحق سبحانه وتعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الأمور العلنية في المعارك، ونصره أيضاً في كل أمر مكروا فيه وبيَّتوه له. وعلى سبيل المثال، حين وقف الكفار على باب بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليقتلوه في ليلة الهجرة. أوحى له ربه أن: اخرج ولا تَخْشَ مكرهم، فخرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليجدهم نياماً وهم واقفون، أعينهم مفتوحة ولكن لا تبصر. ويخرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وسطهم. ويأخذ التراب، ويلقيه عليهم وهو يقول: «شاهت الوجوه» . وعندما يبتعد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المكان يستيقظون مرة أخرى، ويتعجبون كيف أفلت منهم. وقد أراد الحق سبحانه أن يعلموا أنهم لن يستطيعوا النَّيْل من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لا بالمعارك المفتوحة ولا بالمكر الخفي. وقوله تبارك وتعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ} تعرف منه أن سخرية الله جاءت جزاءً لهم على سخريتهم، والساخر من البشر لا يتجاوز الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5362 في فعله أكثر من العيب في غيره. ولكن سخرية الله تتجاوز إلى العذاب. ولذلك قال الحق سبحانه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذا هو التميُّز في فعل الله عن فعل البشر، فالذين سخروا من المؤمنين عابوا عليهم ما فعلوه، يسخر منهم الحق يوم القيامة أمام خلق جميعاً، ثم يزيد على ذلك بالعذاب الأليم. لقد عرفنا من قبل أن هناك عذاباً أليماً، وهناك عذاب عظيم، وعذاب مهين، وكلها صفات للعذاب، فالعذاب هو الإيلام، ولكن هناك من يفزعه الألم فيصرخ. وهناك من يحاول أن يتجلد ويتحمل؛ لأن كبرياءه يمنعه أن يصرخ، وفي هذه الحالة يكون عذابه مهيناً؛ لأنه بكبريائه تحمَّل الألم؛ فيُهَانُ في كبريائه وبذلك يكون عذابه مهيناً. والعذاب قد يأخذ زمناً طويلاً أو قصيراً، وهناك عذاب عظيم في الإيلام وعظيم في الإهانة. والعذاب العظيم في الإيلام؛ أي مبالغ فيه من ناحية الألم. والعذاب العظيم في الإهانة مبالغ فيه من ناحية الإهانة. والعذاب العظيم في الوقت مبالغ فيه من ناحية الزمن، ولذلك يقال عنه «عذاب مقيم» أي: يأخذ الزمن كله لا يتوقف ولا يقل. ثم يعرض الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى من صور تعامل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع المنافقين. ومع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرف المنافقين، وقد أعلمه سبحانه بأمرهم حين قال: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ... } [محمد: 30] أي: بمجرد نظر رسول الله إليهم، وكأن على جبهة كل منهم توجد كلمة «منافق» وهو يعرفهم مصداقاً لقوله الحق: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول ... } [محمد: 30] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5363 وبمجرد أن ينطقوا يعرفهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من طريقة نطقهم. ولكن الله يريد أن يُخرج رسوله إلى المؤمنين به وبرسالته سليم الصدر، بدون انقباض عن أحد، حت يتجلى نوره على الجميع، ولعل شعاعاً من النور يمسُّ منافقاً؛ فيتوب إلى الله ويعود إلى الإيمان الصحيح، كما حدث لكثير من المنافقين، فقد أعلن بعضهم التوبة وحَسُنَ إسلامهم. ونحن نعرف أن رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول، كان سيُتوَّج ملكاً على المدينة. وأثناء الإعداد لمهرجان التتويج؛ فوجئوا بوصول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مهاجراً إلى المدينة. وكان هذا من أسباب حقد عبد الله بن أبيّ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد ضاع منه الملْك. وكان لعبد الله بن أبيّ ولد أسلم وحَسُن إسلامه اسمه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ. وكان من حُسْن إسلام هذا الابن أنه ذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ حين علم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيأمر بقتل أبيه؛ لأنه قال في غزوة من الغزوات. {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8] وكان ابن أبيّ يعني ب «الأعز» المنافقين في المدينة؛ وب «الأذل» المسلمين من المهاجرين والأنصار. ورد الله سبحانه بأن صدَّق على قوله أن الأعز سيُخرج الأذل، فقال الحق سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ... } [المنافقون: 8] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5364 فكأن الحق سبحانه وتعالى قد أقر على أن الأعز هو الذي سيخرج الأذل من المدينة، ولكن العزة لله ولرسوله وللؤمنين، إذن: فسيخرج المنافقون من المدينة، وسيبقى فيها المؤمنون، وتكون لهم العزة. ولما علم عبد الله بن عبد الله بن أبيّ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيأمر بقتل والده عبد الله بن أبيّ، ذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: يا رسول الله إن كنت ولابد آمراً بقتل أبي فأمرني أنا بقتله؛ لأني أخاف أن يقتله أخ مؤمن فأكرهه، وأنا لا أحب أن أكره مؤمناً. وهكذا نرى قوة وصدق الإيمان، وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكرم ذلك المنافق من أجل ابنه فلم يأمر بقتله، ومن بعد ذلك قال الابن: يا رسول الله استغفر لأبي، أي: اطلب له من الله المغفرة؛ ولأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أنه قد أرسل رحمة للعالمين؛ لذلك طلب المغفرة لعبد الله بن أبيّ. وحينئذ نزلت الآية الكريمة: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5365 ووقف العلماء في هذه الآية عند شيء اسمه مفهوم المخالفة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى حدد مرات الاستغفار غير المقبول بسبعين مرة، وقد أوضح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي أرسلَ رحمة للعالمين؛ أنه ما دامت مرات الاستغفار قد حُددت بسبعين مرة فلأزيد على السبعين قليلاً وبذلك غلّب الرسول الكريم جانب الرحمة، وجانب الإكرام لعبد الله بن عبد الله بن أبي الذي أسلم وحَسُنَ إسلامه. وكانت السبعة دائماً هي نهاية العدد عند العرب، وعندما يأتي عدد آخر يكون زائداً، فالأصل في العدد هو مكررات الواحد، أي: أن الواحد أصل العدد، يضاف له واحد يكون اثنين، ويضاف لهما واحد فيكون المجموع ثلاثة، وتستمر الإضافة حتى يصير العدد سبعة، وإذا تركنا الواحد جانباً لأنه الأصل، نجد عندنا ثلاثة أعداد زوجية، هي: اثنان وأربعة وستة، وثلاثة أعداد فردية هي: ثلاثة وخمسة وسبعة، ويكون العدد سبعة جامعاً للمفرد والمثنى والجمع. ولذلك كانوا إذا أرادوا الزيادة على سبعة فلابد أن يأتوا بحرف العطف. ونجد قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الكهف: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ... } [الكهف: 22] ولم يقل: ثامنهم كلبهم، بل جاء بواو العطف؛ لأن الثمانية كانت من نوع آخر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5366 وحين سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «السبعين» ؛ قال: نزيد على السبعين، وبذلك يكون قد احترم قول الله، واحترم تكريمه لعبد الله بن عبد الله بن أبيّ؛ الذي طلب منه أن يستغفر لأبيه. وهنا قالوا: كيف يغيب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو الذي يقول عن نفسه: «أنا أفصح العرب بيد أنِّي من قريش» ، أن عدد السبعين يُقصد به الكثرة مهما بلغت، والشاعر القديم يقول: أسِيئي بِنَا أوْ أحْسِني لاَ مَلُومةَ ... أي: افعلي ما تشائين. فكأن الحق سبحانه وتعالى في قوله: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} شاء أن ياتي بمضاعفات العدد النهائية وهي السبعون ليحسم الأمر. وجاء قول الحق سبحانه: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ... } [المنافقون: 6] أي: مهما استغفرت بأي عدد من الأعداد فلن يغفر الله لهم. ونقول: إن الأمر هنا له شقان؛ الشق الأول: أن يغفر الله. والشق الثاني: هو مجاملة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعبد الله بن عبد الله بن أبيّ، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أن الله لن يغفر للمنافقين. وفي استغفار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما هو لاحترام طلب الابن، وأيضاً فالاستغفار من رسول الله كان مجرد مجاملة لعلمه أن الله لن يغفر للمنافقين؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أن استغفاره من أجل منافق لن يقبله الله، وهناك استغفار تنشأ عنه المغفرة، واستغفار ينشأ عنه إرضاء عبد الله بن عبد الله بن أبيّ. ولكن ألا توجد ذاتية للأب؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5367 نقول: إن التاريخ يقول إن عبد الله بن أبيّ نال حظه من الدنيا، والحق سبحانه يقول: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30] وجزاء العمل يُعطي للبعض في الدنيا، ويُعْطي للبعض في الآخرة؛ مصداقاً لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] ولقد حدثنا علماء السيرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن أبا لهب يُخفَّفُ عنه العذاب يوم الاثنين» ، وأبو لهب نزل فيه قول الحق سبحانه وتعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 1 - 3] ولماذا يُخفَّف العذاب عن أبي لهب يوم الاثنين؟ لأن هذا اليوم هو الذي ولد فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد سُرَّ أبو لهب بميلاد الرسول الكريم، فأعتق الجارية التي بشَّرته بميلاد الرسول؛ ومن هنا يُخفَّف العذابُ عن أبي لهب يوم الاثنين جزاء عمله. كما أن عبد الله بن أبيّ كان له موقف يحسب له في واقعة الحديبية حين ذهب المسلمون لأداء العمرة، وصدهم الكفار عن بيت الله الحرام؛ وانتهت بصلح الحديبية وهي أول معاهدة بين الإيمان والكفر، ورغم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحابته رُدُّوا عن بيت الله الحرام، فقد فطن أبو بكر لما في يوم الحديبية من عطاءات الله؛ من اعتراف كفار قريش بمحمد وبالمسلمين حين وقعوا معاهدة بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتفرغ نبينا الكريم للدعوة في الجزيرة العربية، وهو آمن من قريش، وانتشر الإسلام إلى أن نقضت قريش العهد وتم فتح مكة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5368 نعود إلى قصة عبد الله بن أبيّ يوم الحديبية: لقد كان الكفار يعلمون أن في نفسه شيئاً من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن مجيء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منع تتويج عبد الله بن أبيّ ملكاً على المدينة. وكانوا يعلمون أيضاً أنه أسلم نفاقاً؛ فأرادوا أن يُحدثوا ثغرة في نفوس المسلمين، فقالوا: محمد وأصحابه لا يدخلون، ولكننا نسمح لعبد الله بن أبيّ ومن معه بدخول مكة وأداء العمرة فرفض عبد الله بن أبيّ وقال: إن لي في رسول الله أسوة حسنة، لا أريد أن أذهب للعمرة إلا إذا ذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهذا موقف يُحمد له. كذلك كان له موقف آخر في غزوة بدر، حينما أُسر العباس عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكان العباس طويل القامة وثيابه تمزقت في المعركة، فلم يجدوا طويلاً مثله إلا عبد الله بن أبيّ، فأعطاهم قميصه ليلبسه العباس، فلم يَنْسَ رسول الله ذلك له. ومن أجل هذا استغفر له رسول الله، لكن الحكم الأعلى قد جاء {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} فليس المهم فقط هو استغفار رسول الله؛ لأن هناك ممحصات للذنب، فمن أذنب عليه أن يأتيك أولاً يا رسول الله، ليستغفر الله، ثم يسألك أن تستغفر له الله، حتى يجد الله تواباً رحيماً، فسبحانه القائل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} [النساء: 64] فالذي يريد أن يتوب ويستغفر، لا يستغفر له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إلا إذا استغفر مرتكب الذنب أولاً، فلا بد أن يستغفروا الله من الذنوب أولاً ثم يستغفر لهم الرسول. ولا يستغفر لهم الرسول وهو لا يستغفرون، وهكذا نعلم أن عبد الله بن أبيّ لم يفطن إلى كيفية الاستغفار، فقد كان عليه أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5369 يأتي لرسول الله صاغراً ليستغفر الله أمامه، لا أن يبحث عمن يطلب له الاستغفار. ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى موضحاً سبب عدم غفرانه، فيقول: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} وحين ينفي الحق سبحانه وتعالى الهداية عن إنسان، فليس معنى هذا أن يقول الفاسق: الله لم يَهْدِني فماذا أفعل؟ ويُحمِّل المسألة كلها لله. بل نسأل الفاسق: لماذا لم يَهْدِك؟ لأنك فسقت. إذن: فعدم الهداية من الله لك كان بسبب أنك أخذت طريق الفسق والبعد عن منهج الله، ومن هنا فالهداية المقصودة في هذه الآية؛ ليست هي الهداية بمعنى الدلالة على طريق الخير؛ لأن الدلالة إلى طريق الخير تأتي من الله للمؤمن والكافر فمنهج الله الذي يبلَّغ للناس كافة، يريهم طريق الخير ويدلهم عليه. ولكن المقصود هنا هو الهداية الأخرى التي يعطيها الحق لمن دخل في رحاب الإيمان وآمن وحَسُنَ عمله، وتتمثل في قوله الحق: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] إذن: فكل مَنْ مشى في طريق الإيمان أعانه الله عليه. وفي المقابل نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10] وكذلك قوله سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37] وأيضاً قوله الكريم: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [الصف: 5] لا نقول أبداً: إن هؤلاء معذورون؛ لأن الله لم يَهْدِهم؛ لأنه سبحانه وتعالى قد هداهم ودَلَّهم جميعاً على طريق الخير، ولكنهم هم الذين أخذوا طريق الكفر والظلم والفسوق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5370 واقرأ إن شئت قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] فماذا صنعوا في هدايته لهم: {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} ، أي: أن الحق سبحانه بيَّن لثمود طريق الخير، ولكنهم اختاروا الضلالة. إذن: فهداية الدلالة للجميع، وهداية المعونة للمؤمنين. ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى للمنافقين فيقول: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5371 والفرح هو السرور من فعل تبتهج النفس به. والمخلَّفون هم الذين أخلفهم نفاقهم، وتركهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة وذهب إلى الجهاد. بعد أن جاءوه بالمعاذير الكاذبة التي قالوها، وقد تركهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الحق سبحانه قال: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ... } [التوبة: 47] ومن لا يريد أن يجاهد في سبيل الله إن أخذته معك كرهاً، يكون ضدك وليس معك. وسيشيع الأكاذيب بين المؤمنين، ويحاول أن يخيفهم من الحرب، وإذا بدأ القتال فهو أول من يهرب من المعركة. ويبحث عن مغارة أو حجر يختفي خلفه. إذن: فهو ليس معك ولكنه ضدك؛ لأنه لن يقاتل معك، بل ربما أعان عدوك عليك. وفي نفس الوقت هو يضر بالمسلمين، ويحاول أن يشيع بينهم الرعب بالإشاعات الكاذبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5371 ويُبيِّن الحق سبحانه وتعالى هنا فطرة رسول الله الإيمانية بأنه أذن لهؤلاء بعدم الخروج للجهاد مع أن عذرهم كاذب؛ فجاء قوله: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله} والمقعد هو مكان القعود. والقعود رمز للبقاء في أي مكان. والقيام رمز لبداية ترك المكان إلى مكان آخر، والذين غزوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاموا واستعدوا للقتال، أما الذين تخلفوا فقد قعدوا ولم يقوموا رغبة في البقاء في أماكنهم. ويقول تعالى: {خِلاَفَ رَسُولِ الله} وحين نسمع كلمة {خِلاَفَ} نعرف أن مصدرها خالف خلافاً؛ ومخالفة؛ كما تقول: قاتل قتالاً ومقاتلة. وهي إما أن تكون مخالفة في الرأي، كأن تقول: فلان في خلاف مع فلان، أي: أن لكل منهما رأياً. وإما أن تكون في السير، كأن تقوم أنت لتغادر المكان؛ ويخالفك زميلك أو من معك فيقعد، أو تقعد أنت، فيخالفك هو ويمشي. والخلاف من ناحية الرأي هون عملية قلبية، والخلاف من ناحية الحركة يشترك فيها القلب أو الجسد، وهم حين فرحوا بالقعود بعد قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين للجهاد، فهذا دليل على أن مسألة القعود هذه صادفت هوى في نفوسهم وارتاحوا لها وبذلك خالفوا شرط الإيمان؛ لأن الذين يحق لهم أن يتخلفوا عن الجهاد قد حددهم القرآن الكريم في قول الحق سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ ... } [التوبة: 91] وقوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ... } [التوبة: 92] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5372 أي: أوضحت لهم أنك لا تملك ما يركبون عليه، ليصلوا معك إلى موقع القتال. وقد بيّن لنا الحق حال هؤلاء الذين لم يخرجوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بسبب هذه الأعذار فقال عنهم: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] إذن فهؤلاء الذين تخلفوا بأعذار يملؤهم الحزن، وتفيض أعينهم بالدمع؛ لأنهم حرموا ثواب الجهاد في سبيل الله. أما الذين يفرحون بالتخلف عن الجهاد فهم منافقون. وقوله سبحانه: {خِلاَفَ رَسُولِ الله} نجد فيه أيضاً أن كلمة {خِلاَفَ} تستعمل أيضاً بمعنى «بعد» ، أي بعد رسول الله، فما أن ذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للغزوة قعدوا هم بعده ولم يذهبوا. وجلسوا مع الضعيف والمريض وأصحاب الأعذار الحقيقية، وكذلك الذين لم يجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم دواب ليركبوها، هؤلاء هم مَنْ تخلفوا. وبيّن الحق سبحانه سبب تخلف المنافقين فيقول: {وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} . أي: انهم كرهوا أن يقاتلوا، وكرهوا الجهاد. وليت الأمر قد اقتصر على هذا، بل أرادوا أن يثبِّطوا المؤمنين ويُكرِّهوهم في القتال في سبيل الله {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر} فهم لم يكتفوا بموقفهم المخزي، بل أخذوا في تحريض المؤمنين على عدم القتال. وقد كانت هذه الغزوة «غزوة تبوك» في أيام الحر. وكانت المدينة تمتلئ بظلال البساتين وثمارها، بينما الطريق إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5373 الحدود مع الروم طويلة. إذن: فهي غزوة كلها مشتقة. وقال المنافقون للمؤمنين {لاَ تَنفِرُواْ} ، والنفور هو كراهية الوجود لشيء ما. ويقال: فلان نافر من فلان، أي: يكره وجوده معه في مكان واحد. ويقال: فلان بينه وبين فلان نفور، أي: يكرهان وجودهما في مكان واحد. والذي يخرج للحرب كأنه نفر من المكان الذي يجلس فيه ذاهباً إلى مكان القتال. ويكون القتال والتضحية بالمال والنفس في سبيل الله أحب إليه من القعود والراحة. إذن: فقوله تعالى: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر} أي: أنهم يريدون أن يعطوا لأنفسهم عذراً لعدم الخروج للجهاد؛ لأن الجو حار وفيه مشقة. ولكنهم أغبياء؛ لأنهم لو خافوا من الحر ومشقته؛ وجلسوا في الظل ومتعته، لأعطوا لأنفسهم متعة زمنها قصير ليدخلوا إلى مشقة زمانها طويل. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} فإن كانوا قد اعتقدوا أنهم بهروبهم من الحر قد هربوا من مشقة، فإن مشقة نار جهنم والخلود فيها أكبر بكثير. والإنسان إن بُشِّر بأشياء تسره عاماً أو أعواماً، ثم يأتي بعدها أشياء تسوؤه وتعذبه، فهو بمعرفته بما هو قادم يعاني من الألم ولا يستطيع الاستمتاع بالحاضر؛ لأن الإنسان يحاول دائماً أن يتحمل؛ ليُؤمِّن مستقبله. ولذلك تجد من يعمل ليلاً ونهاراً وهو سعيد، فإذا سألته كيف تتحمل هذا الشقاء؟ يقول: لأؤمن مستقبلي. إذن: فسرور عام أو أعوام تفسده أيام أو أعوام قادمة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5374 فيها سوء وعذاب، فماذا عن خلودهم في النار؟ ولكن هل قالوا: {لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر} في خواطرهم دون أن ينطقوا بهما، أم قالوها لبعضهم البعض سراً؟ ومن الذي أعلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قالوه؟ نقول: قد يكون ذلك هو ما دار في خواطرهم. وشاء الله أن يعلموا أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في نفوسهم. وشاء أن يفضح ما في سرائرهم، لعل هذا يُدخل الخوف في قلوبهم، من أنه سبحانه مطلع على كل شيء، فيؤمنوا خوفاً من عذاب النار. ومثال هذا أن الحق حين أراد أن يمنع المشركين من حج بيته الحرام قال: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا ... } [التوبة: 28] وكان المشركون حين يذهبون إلى الحج ينعشون اقتصاد مكة، وكان الخير يأتي من كل مكان إلى مكة في موسم الحج، بل إنهم كانوا يقولون: إياكم أن تطوفوا بالبيت في ثيابهم عصيتم الله فيها، وكأن التقوى تملأ نفوسهم! وحقيقة الأمر أنهم كانوا بعيدين عن التقوى لأنهم كانوا يعبدون الأوثان. وكانوا يقولون ذلك حتى يضطر الحجاج أن يخلعوا ثيابهم ويشتروا ثياباً جديدة ليطوفوا بها ومن لا يملك المال يطوف عارياً. إذن: فقد كان الحج موسماً اقتصادياً مزدهراً لأهل مكة؛ يربحون خلاله ما يكفي معيشتهم طوال العام، فلما جاء البلاغ من الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} . فالخاطر الذي يأتي في النفس البشرية؛ وكيف سنعيش؟ . هذا هو أول خاطر ياتي على البال؛ لأنه سؤال عن مقومات الحياة، والذي خلقهم عليم بما يدور في خواطرهم. وإن لم يجر على ألسنتهم، حينئذ جاء قول الحق سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ ... } [التوبة: 28] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5375 إذن: فالله سبحانه وتعالى قد علم ما يدور في خواطرهم، فرد عليه قبل أن ينطقوه. كذلك قول الحق سبحانه: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} والفقه هو الفهم الدقيق. فأنت حين تعرف شيئاً بسطحياته تكون قد عرفته، ولكنك إن عرفته بكل معطياته الخلفية تكون قد فقهته. وأنت إذا ذهبت للجهاد في الحر قد تتعب، ولكن إذا قعدت عن الجهاد سوف تكون عقوبتك أكبر وتعبك أشد. إذن: فعلمك بشيء وهو الحر الذي ستواجهه إن خرجت للجهاد، يجب ألا ينسيك ما غاب عنك، وهو أن نكوص الإنسان عن الجهاد يدخله ناراً أشد حرارة، يخلد فيها. ومعنى ذلك أنه لم يفقه؛ لأنه علم شيئاً وغاب عنه أشياء. ومن هذا المنطق القرآني، رد الإمام علي كرم الله وجهه على القوم حينما دعاهم إلى الجهاد ضد الخوارج فقال: «أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه سيم الخسف» . ثم يقول بعد ذلك: «إن قلت لكم: اغزوهم في الشتاء، قلتم: هذا أوان قر وصر. . أي برد شديد. وإن قلت لكم: اغزوهم في الصيف، قلتم: أنظرنا - أي أمهلنا - حتى ينصرف الحر عنا، فإذا كنتم في البرد والحر تفرون، فأنتم والله في النار. يا أشباه الرجال ولا رجال» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5376 وقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي: أنهم لو كانوا قد فرحوا وابتهجوا بأنهم لم يجاهدوا في الحر، فهم سوف يندمون كثيراً على ذلك، مصداقاً لقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5377 والضحك هو انفعال غريزي فطري، يحدث للإنسان عندما يقابل شيئاً يسره، أو أحداثاً يجد فيها مفارقة لم يكن يتوقعها. أما البكاء فهو انفعال غريزي أيضاً تجاه أحداث تدخل الحزن أو الشجن، وهو تذكر ما يحزن بالنسبة للإنسان. كلتاهما ظاهرتان فطريتان، أي أنهما تحدثان بفطرة بشرية واحدة بالنسبة للناس جميعاً، ولا دخل فيها للجنس أو اللون أو البيئة، فلا يوجد بكاء روسي وبكاء أمريكي، أو ضحك روسي وضحك إنجيلزي، أو ضحك شرقي وضحك غربي. ذلك أن الضحك والبكاء انفعال طبيعي موحد لا تؤثر فيه البيئة ولا الثقافة ولا الجنس. وقد أسنده الحق تبارك وتعالى لنفسه. فكما قلنا: إن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يحيي، وهو سبحانه وحده الذي يميت. فهو سبحانه وحده الذي يضحك، وهو سبحانه وحده الذي يبكي. مصداقاً لقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 43 - 45] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5377 ولذلك فالضحك والبكاء يأتيان بل مقدمات، لا أقول لنفسي: سأضحك الآن فأضحك، ولا أقول: سأبكي الآن فأبكي؛ لأن هذا انفعال غريزي لا دخل للإرادة ولا للاختيار فيه. ولكننا أحياناً نلجأ إلى التضاحك أو إلى التباكي وهو مجرد ادعاء بلا حقيقة. ويكون ظاهراً فيه الافتعال. فحين يروي لك إنسان نكتة سخيفة، والمفروض أنه قالها لتضحك، ولكنها لا تضحك، وفي نفس الوقت أنت تريد أن تجامله فتفتعل الضحك، أي تضحك بافتعال. وكذلك البكاء فيه افتعال أيضاً مثل بكاء النادبة التي تجلس وسط أهل الميت وتبكي. وقد تضع بعض نقط الجلسرين في عينيها لتفتعل الدموع، وهذا كله افتعال. أما الضحك والبكاء الحقيقي، فأمران بالفطرة يملكهما الله سبحانه وتعالى وحده. وقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} جاء بعد قوله: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله} أي: أنهم فرحوا عندما بَقَوْا هم في المدينة، وخرج المؤمنون للجهاد. جلسوا في حدائق المدينة وهم فرحون في راحة وسرور يضحكون؛ لأنهم يعتقدون أنهم قد فازوا بعدم اشتراكهم في الجهاد. ولكن هذا الضحك هو لفترة قليلة. وسيأتي بعدها بكاء وندم لفترة طويلة وأبدية، عندما يدخلون جهنم والعياذ بالله. ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} ولم يقل: سيضحكون قليلاً وسيبكون كثيراً، لماذا؟ نقول: عندما يُسند الفعل إلى المخلوق الذي يعيش في عالم الأغيار، والمختار في عدد من أفعاله، يُحتمل أن يحدث أو يجوز ألا يحدث. ولكن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: {فَلْيَضْحَكُواْ} أي: أمر بالضحك، ثم يجيء في البكاء ويقول: {وَلْيَبْكُواْ} أي: ابكوا والأمر بالضحك والبكاء هو أمر اختياري من الله سبحانه وتعالى، تجوز فيه الطاعة وتجوز فيه المعصية؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5378 إذا كان كذلك، فهل سيطيع المنافقون أمراً اختيارياً لله؟ ونقول: إن ذلك أمر غير اختياري؛ لأن الحق سبحانه هو وحده الذي يضع في النفس البشرية انفعال الضحك أو انفعال البكاء للأحداث. وكما بيَّنا فإن الإنسان لا يستطيع الانفعال بالضحك أو البكاء. والحق حين يقول: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} معناها: أن انفعال الضحك قضاء عليهم لا بد أن يحدث. وإذا قال الحق سبحانه وتعالى: {وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} فلا بد أن يبكوا؛ لأن انفعال البكاء مكتوب عليهم من الله، وكما يقولون: إن الذي يضحك أخيراً يضحك كثيراً، وكذلك الذي يبكي أخيراً يبكي كثيراً. إذن: فالأمور كلها مرهونة بالخاتمة. فقد يأتي للإنسان حادث يسرّه، ثم تأتيه ساعة بؤس تمحو هذا السرور كله، والعكس صحيح. وإذا كان هؤلاء المنافقون قد ضحكوا قليلاً في الدنيا. فعمر كل منهم في الدنيا قليل؛ لأنه حتى وإن عاش في الدنيا ضاحكاً طوال عمره فكم سيضحك؟ أربعين سنة؟ خمسين سنة؟ إن كلاّ منه له في الدنيا مدة محدودة، فأنت إذا نسبت الحدث إلى الدنيا على إطلاقها فهو قليل. وإذا نسبته إلى عمرك في الدنيا فهو أقل القليل، ثم تأتي الآخرة بالخلود الطويل الذي لا ينتهي، ويكون بكاء المنافق فيه طويلاً طويلاً. ولذلك فلا بد لكل إنسان ان يضع مع المعصية عقوبتها، ومع الطاعة ثوابها؛ لأن الإنسان قد يرتكب المعصية لإرضاء شهوات نفسه، وساعة ارتكاب المعصية فهو لا يستحضر العقوبة عليها، ولو أنه استحضر العقوبة لامتنع عن المعصية. فالسارق لو استحضر ساعة قيامه بالسرقة، أنه قد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5379 يضبط، وقد يحاكم وتقطع يده، لو تأكد من هذا فلن يسرق أبداً. ولكنه يقوم بالسرقة لأنه يعتقد أنه سيفلت من العقاب. وما من لص خطط لسرقة وفي باله أنه سيضبط، بل يكون متأكداً أنه سيسرق ويفلت. ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» لأنه ساعة يزني لو تخيل أو تأكد أنه سيُلْقى في النار جزاء ما فعل، فلن يقدم على الزنا أبداً. وكذلك شارب الخمر لا يمكن أن يضع الكأس في فمه. إذا تخيل النار وهو يُعذَّب فيها. ولكن الغفلة عن الإيمان تحدث لحظة ارتكاب المعصية؛ لأن الإيمان يقتضي أن تستحضر العقوبة ساعة تُقدِم على المعصية، وأن تعلم يقيناً أن كل ما تفعله ستُحاسب عليه في الآخرة، وسيكون هناك جزاء. فإذا ضحكت من مطلوبات الإيمان فلابد أن تبكي في الآخرة. فإن فرحت - مثلاً - بترك الصلاة أو الزكاة، واعتقدت أنك قد غنمت في الدنيا، فلا بد أن تندم ويصيبك الغمُّ في الآخرة. وإذا تنعمت بمال حرام فلا بد أن تُعذب به في الآخرة. والحق سبحانه يقول: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} [المطففين: 29 - 31] هكذا يعطينا الله عدة صور من السخرية التي يتعرض لها المؤمنون في الدنيا، وأولى هذه الصور هي ضحك المنافقين والكفار من المؤمنين، كأن يقول أحدهم لإنسان مؤمن يقوم إلى الصلاة: خذنا على جناحك في الآخرة. ثم بعد ذلك يأتي الغمز واللمز، ثم إذا ذهب المنافق إلى أهله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5380 أخذ يسخر من الطائعين ويقول: لقد فعلت كذا وكذا لإنسان متدين. وسخرت منه ولمن لم يستطع أن يرد. ويشعر بالسرور وهو يحكي القصة فرحاً بما عمل. وينسى أنه قد ارتكب ثلاثة جرائم: جريمة العمل، وجريمة الفرح بالعمل، وجريمة الإخبار بالعمل. فلو أنه سخر من المؤمن، ثم ندم بعد ذلك، ربما كانت عقوبته هيِّنة. ولكن ما دام قد فرح بذلك تكون له عقوبة أكبر، فإذا انقلب إلى أهله يروي لهم ما حدث، وهو فخور مسرور تكون له عقوبة ثالثة. وليتهم توقفوا عند ذلك بل اتهموا المؤمنين بالضلال؛ مصداقاً لقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 32 - 33] أي: أنهم زادوا على كل هذا باتهام المؤمنين بالضلال. هذا ما صنعوه في الدنيا. وهي فانية وعمرها قليل. ثم يأتي سبحانه وتعالى بالمقابل في الآخرة؛ فيقول: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34 - 36] فكما ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا؛ سيضحك المؤمنون من الكفار في الآخرة، وسيجلس المؤمنون على الأرائك في الجنة وهم ينظرون إلى الكفار وهو يُعذَّبون في النار، أي: أن الله جزاهم بمثل عملهم مع الفارق بين قدراتهم المحدودة وقدراته - سبحانه - التي لا حدود لها. ولم يقل الحق سبحانه وتعالى: «سيضحكون» ككلام خبري، يجوز أن يحدث أو لا يحدث، بل جاء به مُؤكداً. وقوله هنا في المنافقين {فَلْيَضْحَكُواْ} . يعني: أن الضحك لابد أن يحدث؛ لأن هذا كلام من الله سبحانه وتعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5381 فقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يعطينا العلة أو السبب في أن ضحكهم سيكون قليلاً، وبكاءهم سيكون كثيراً؛ لأن هذا جزاء ما فعلوه في الدنيا. لقد فرحوا بالفرار من الجهاد. وسُرّوت بالراحة في المدينة، فلابد أن يُلاَقوا في الآخرة جزاءهم عن هذا العمل، كما سَيُثاب المؤمنون على ذهابهم للجهاد في الحرِّ. إذن: فالحق سبحانه لم يظلمهم، بل أعطاهم جزاء ما عملوه. كما قال: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وكلمة {يَكْسِبُونَ} هنا لها ملحظ لا بد أن نُبيِّنه، فقد كان من الممكن أن يُقال «جزاء ما كانوا يعملون» أو «جزاء ما كانوا يفعلون» ، فلماذا جاء الحق ب {يَكْسِبُونَ} ، وما الفرق بينها وبين «ما يفعلون» و «ما يعملون» ؟ نعلم أن لكل جارحة من جوارح الإنسان مجالَ عمل؛ فالأذن تسمع، والعين ترى، واليد تمسك، والقدم تمشي، والأنف يشُمُّ، والأنامل تملس. إذن: فكل عضو له مهمة. فإن كانت المهمة هي النطق باللسان نسميها القول. وإن كانت مهمة من مهام باقي الجوارح عدد اللسان نسميها الفعل. فاللسان وحده أخذ القول، وكل الجوارح أخذت الفعل. والقول والفعل معاً نسميهما عملاً. فإذا قال الحق سبحانه وتعالى: «يفعلون» يكون ذلك مقابل يقولون؛ لأن الإنسان قد يقول بلسانه ولا يفعل بجوارحه. وتوضح ذلك الآية الكريمة: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] ولكن إذا اتحد القول والفعل يكون هناك عمل. وكل شيء لا يتسق منطقياً مع قيم المنهج يكون فيه افتعال، فالكسب عمل، والاكتساب افتعال الكسب؛ لأن الكسب عمل طبيعي، والاكتساب هو افتعال الكسب. وسبحانه يقول: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5382 {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ... } [البقرة: 286] لأن الاكتساب بالحرام فيه افتعال يتعب النفس، ولا يجعلها منسجمة مع جوارحها، فالرجل مع زوجته في البيت مستقر الجوارح لا يخشى شيئاً. لكنه مع زوجة غيره يهيج جوارحه؛ فيقفل النوافذ ويُطفئ الأنوار. وإنْ دقَّ جرس الباب يصاب بالذعر والهلع؛ لأن ملكات النفس ليست منسجمة مع العمل. أما إذا اعتادت النفس الإثم مثل من اعتاد الإجرام، فلا يهيجها الحرام. وفي هذه الحالة تنقلب عملية الاكتساب إلى كسب، وتعتاد النفس على المعصية وعلى الإثم، ويصبح جزاؤها عند الله أليماً وعذابها عظيماً. ويقول الحق سبحانه في هذه الآية: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وكان مقتضى الكلام أن يقال: «جزاء بما كانوا يكسبون» لأن هذه عملية فيها إثم وفيها معصية، فلا بد أن يكون فيها افتعال، ولكن الحق سبحانه وتعالى يلفتنا إلى أن هؤلاء المنافقين قد اعتادوا المعصية، وعاشوا في الكفر، فأصبحت العملية سهلة بالنسبة لهم، ولا تحتاج منهم أي افتعال. واقرأ قول الحق: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله ... } [المائدة: 38] والسرقة ليست أمراً طبيعياً، لذلك يقوم بها السارق وخفية ويُبيِّت لها ويفتعل؛ ولذلك كان من المنطقي أن يقال «اكتسبوا» لكن شاء الحق أن نعرف أن السرقة قد أصبحت في دم هؤلاء، ومن كثرة ما ارتكبوها فهي بالنسبة لهم عملية آلية سهلة. وقد وضع التشريع لها نطاقاً وهو ربع دينار مثلاً. والذي يسرق دون هذا النطاق لا يُطبق عليه حَدُّ قطع اليد. لماذا؟ لأن ربع الدينار في ذلك الوقت كان يكفي لقوت أسرة متوسطة العدد لمدة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5383 يوم واحد. فإذا سرق أي إنسان ما يكفي قوت أسرة لمدة يوم واحد، يقال: ربما فعلها لأن أسرته لا تجد ما تأكله، فإذا أخذ أكثر من الضرورة، يكون قد أخذ أكثر مما يحتاج إليه، وتكون السرقة قد حدثت ويثقام عليه الحد. ونحن نعلم أن العقل البشري وظيفته الاختيار بين البدائل، ومفروض أن يُقَدِّر الإنسان العقوبة ويستحضرها ساعة وقوع المعصية، وأن يستحضر الثواب ساعة القيام بالطاعات ترغيباً للإنسان في الطاعة. ونحن نأتي للطالب المجتهد ونطلب منه أن يُخفِّف من المذاكرة، لكنه لا يترك الكتاب لأنه استحضر النجاح؛ وما سيحدث بعد النجاح من دخوله الكلية التي يريدها، أو بعد تخرجه من الجامعة إن كان قد وصل إلى مرحلة التخرج، وكذلك استحضر نظرة أهله وأساتذته وزملائه إليه، وهو يستحضر كل ذلك؛ مما يدفعه لقضاء ساعات طويلة في المذاكرة دون أن يشعر بالتعب. إذن: فالذي يُحبِّبك في الطاعة هو استحضار لذة الثواب القادم. والذي يُكرِّهك في المعصية هو استحضار ألم العقاب الذي لابد أن يحدث. ولكن هؤلاء المنافقين والكفار قد اعتادوا المعصية والكفر؛ حتى أصبح سلوكهم المخالف للإيمان إنما يحدث منهم دون أن يستحضروا عقوبة المعصية، فهم يرتكبون المعاصي بغير فعل. ولو قال: «يفعلون» لكان فعلاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5384 لا يشترك فيه اللسان بالقول. ولو قال «يعملون» لكان فعلاً وقولاً فقط. ولو قال «يكتسبون» لفهمنا أن المعصية تثير انفعالاً وتهيجاً في داخلهم؛ لأنهم لم يعتادوها. ولكن جاء قوله تعالى: {يَكْسِبُونَ} ليعطينا المعنى الصحيح في أنهم قد اعتادوا المعصية؛ حتى أصبحوا يفعلونها بلا افتعال. ويأتي الحق سبحانه وتعالى لِيُرينا حكمه في الدنيا على هؤلاء المنافقين الذي فرحوا بتخلفهم عن الجهاد في سبيل الله، فيقول: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5385 والله سبحانه وتعالى يوضح لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: عندما تنتهي الغزوة وتعود إلى المدينة، فهناك حكم لابد أن تطبقه مع هؤلاء المنافقين، الذي تخلفوا وفرحوا بعدم الجهاد. وقوله: {فَإِن رَّجَعَكَ} كلمة «رجع» من الأفعال، وكل فعل يجب أن يكون له فاعل ومفعول، فلا يمكن أن تقول: «ضرب محمد» ثم تسكت؛ لأنه عليك أن تبين من المضروب. ولا يمكن أن تقول «قطف محمد» ، بل لابد أن تقول ماذا قطف؟ وهكذا تحتاج إلى مفعول يقع عليه الفعل. ولكن هناك أفعالاً لا تحتاج إلى مفعول. كأن تقول: «جلس فلان» والفعل الذي يحتاج إلى مفعول اسمه «فعل مُتعَدٍّ» أما الفعل الذي لا يحتاج إلى مفعول فاسمه «فعل لازم» . إذن: فناك فعل متعد وفعل لازم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5385 وهنا في هذه الآية الكريمة يقول الحق سبحانه: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} والحق سبحانه هو الفاعل، والكاف في {رَّجَعَكَ} هي المفعول به. ولكن لأنها ضمير ملتصق بالفعل يتقدم المفعول على الفاعل. إذن: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} رجع فعل متعد، والفاعل لفظ الجلالة. والمفعول هو الضمير العائد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ أي: أن الله رجعك يا محمد. ولكن هناك آية في القرآن الكريم تقول: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ... } [الأعراف: 150] في الآية التي نحن بصددها {فَإِن رَّجَعَكَ الله} الفاعل هو الله، أما في قوله الحق: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى} نجد أن موسى هو الفاعل ولا يوجد مفعول به، إذن ف «رجع» يمكن أن يكون فعلاً لازماً، كأن تقول: «رجع محمد من الغزوة» . ويمكن أن يكون فعلاً متعدياً كقوله سبحانه: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} أي: يا محمد من الغزوة. إذن: فرجع تستعمل لازمة وتستعمل متعدية. ولكن في قصة سيدنا موسى عليه السلام؛ عندما ألقته أمه في البحر والتقطه آل فرعون؛ ومشت أخته تتبعه؛ ثم حرَّم الله عليه المراضع ليعيده إلى أمه كي يزيل حزنهان يقل الحق سبحانه: {إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ ... } [طه: 40] ما هو الفرق بين الآيات الثلاث؟ ولماذا استعمل فعل «رجع» لازماً ومتعدياً؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5386 نقول: إنه في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ} هنا هيئ لموسى من ذاته أن يرجع، أي: انه قرار اختياري من موسى، أما قوله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ} ، فموسى في هذه المرحلة؛ كان طفلاً رضيعاً لا يستطيع أن يرجع بذاته، ولا بد أن يهيئ له الحق طريقة لإرجاعه، أي: من يحمله ويرجعه. أما قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} فقد كان من الممكن أن يقال: «وإذا رجع إلى طائفة منهم» مثلما قال في موسى عليه السلام: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى} ولكن الحق استخدم {رَّجَعَكَ} ليدل على أن زمام محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الفعل والترك ليس بيده. وكأنه سبحانه وتعالى يوضح: إياكم أن تنسبوا الأحداث إلى بشرية محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإن محمداً إذا ذهب إلى مكان فالله هو الذي أذهب إليه. وإن عاد من مكان فهو لا يعود إلا إذا أرجعه الله منه. كما كانت هجرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة بإذن من الله، فقبل أن يأذن الله له بالهجرة، لم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببشريته يستطيع أن يهاجر. إذن: فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعرف دائماً: أن ذهاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورجوعه من أي مكان، ليس ببشرية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بل بإرادة الحق سبحانه. ولكن لماذا قال الحق سبحانه وتعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} وكان من الممكن أن يقول «فإن رجعك الله إليهم» أة: «فإن رجعك الله إلى المدينة» ؟ نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد الحديث هنا عن الطائفة التي حدثت منها المخالفة، فهناك من بقوا في المدينة رغماً عنهم ولم يكن لديهم ما ينفقونه أو لم يكن لدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يحملهم عليه. كذلك المرضى وكبار السن الذين لا يستطيعون قتالاً. وهؤلاء حَسُنَ إسلامهم وقَبِل الله ورسوله أعذارهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5387 ولكن الحق سبحانه يتحدث هنا عن الطائفة التي تخلفت عن الجهاد وهي قادرة، والتي امتنعت عن الخروج، وهي تملك المال والسلاح وكل مقومات الجهاد، هذه الطائفة هي التي فرحت بالتخلف عن القتال. أما الطوائف الأخرى؛ فكانت عيونها تفيض بالدمع من الحزن على عدم اشتراكهم في الجهاد. إذن: فالحق يقصد هنا طائفة المنافقين الذين استمروا على نفاقهم، فمن تاب منهم قبل نزول هذه الآية قبلت توبته، ومن مات منهم قبل نزول هذه الآية فإنما حسابه على الله. وبقيت طائفة المنافقين الذي فرحوا وضحكوا عندما بقوا في المدينة، وكان عقاب الله لهم بأن مسح أسماءهم من ديوان المجاهدين في سبيل الله، ومنعهم الثواب الكبير للجهاد. ويقول سبحانه: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} فكيف استأذنوا أول الأمر للقعود وتحايلوا عليه، وكيف يستأذنون الآن للخروج؟ نقول: إنهم عندما رأوا المؤمنين وقد عادوا بالغنائم، كان ذلك حسرة في قلوبهم؛ لأنهم أهل دنيا. وحينئذ طلبوا الخروج حتى يحصلوا على الغنائم والمغانم الدنيوية. ولكن الحق سبحانه وتعالى طلب من رسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ألا يأذن لهم بالجهاد مع المسلمين، فقال: {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} أي: أن أسماءكم قد شطبت من ديوان المجاهدين والغزاة، ولما قرر الحق سبحانه وتعالى ألا يعطيهم شرف الجهاد وثواب الخروج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ يقول الحق سبحانه: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ} . ولكن الحق يقول أيضاً هنا: {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} وهذا أمر لا يحدث إلا في الغزوات، فما هو موقفهم إذا حدث اعتداء على المدينة؟ ويبين الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يقبل قتالاً حتى في هذه الحالة، فطلب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5388 من رسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يعلمهم بذلك، ويقول لهم: {وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} إذن: فقد حسمت المسألة، فلا هم مسموح لهم بالخروج في الغزوات، ولا بقتال الأعداء إذا هاجموا المدينة؛ لأنهم أُسقطوا تماماً من ديوان المجاهدين، ولا جهاد لهم داخل المدينة أو خارجها؛ ما داموا قد فرحوا بالقعود، ورفضوا أن يشتركوا في الجهاد وهم قادرون؛ لذلك حكم الحق أن يبقوا مع الخالفين. وما معنى خالفين؟ المادة هي «خاء» و «لام» و «فاء» ، فيها «خلف» و «خلاف» و «خلوف» وغير ذلك. و «خالفين» إما أن يكونوا قد تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإما أن يكونوا خالفوا الرسول بأنهم رفضوا الخروج، وإما أن يكونوا خلوفاً. ويقول: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث عن الصيام: «الخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك» والخلوف هو تغير الرائحة، وتغير الرائحة يدل على فساد الشيء، فكأنهم أصبحوا فاسدين. ومخالفين تعني فاسدين لأنهم قد خالفوا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ول يقتصر جزاء هؤلاء المتخلفين فقط أن تشطب أسماؤهم من سجلات المجاهدين، بل هناك جزاء آخر يبينه قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5389 وصلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ميت هي رحمة له، وغفران لذنوبه؛ لأن الصلاة على الميت أن تطلب له الرحمة والمغفرة، وأن تطلب له من الله أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5389 يُلحقَه بالصالحين. وإذا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الكلام، ودعا بهذا الدعاء، فإن دعوة رسول الله مستجابة من الله. وهكذا حرمهم الله سبحانه وتعالى من رحمة يكون الإنسان في أشد الحاجة إليها حين ينتقل من الحياة الدنيا إلى حياة البرزخ. وقول الحق لرسوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} معناها نهي عن فعل لم يأت زمنه. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} أي: لا تذهب إلى قبره وتطلب له الرحمة، ولكن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} مع أن النهي عن المستقبل، أي: من مات بعد نزول هذه الآيات، فلماذا لم يقل الحق «يميت» أو «يموتوا» واستخدم الفعل الماضي {مَّاتَ} ؟ . ونقول: لأن الموت عملية حتمية مقررة عند الله ومُقدَّرة، فموعد الموت مكتوب ومعروف عند الله، وهو شيء لا يقرره الله مستقبلاً، بمعنى أن موعد الموت لا يحدد قبل حدوث بليلة أو ليلتين، ولكن الموعد قد حُدِّد وانتهى الأمر. أما قوله الحق: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم} فهو يدلنا على أن هذا الأمر ليس خاصّاً بسبب، ولكنه عموم حكم، فهناك: سبب للحكم، وهناك عموم حكم. وسبب الحكم مثل الآية التي نزلت في زعيم المنافقين عبد الله ابن أبيّ، فعندما مرض عبد الله بن أبيّ مرض الموت؛ جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وطلب منه أن يعطيه قميصه يُكفِّن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه ليصلي عليه ويستغفر له. وذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مجاملة لابنه عبد الله بن أبيّ الذي أسلم وحَسُن إسلامه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5390 وعندما وقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بجوار عبد الله بن أبيّ، قال له: «أهلك حب يهود» ؛ لأن ابن أبيّ كان يجامل اليهود ويعاونهم، ونفاقه في الإسلام كان مجاملة لليهود وكان يُظهِر أمام اليهود الكفر، ويُظهِر أمام المسلمين الإيمان. وهنا قال ابن أبيّ: يا رسول الله، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني. فاستغفر له الرسول صلى الله علهي وسلم، وهنا نزلت الآية الكريمة: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} [التوبة: 80] وطلب عبد الله بن أبيّ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يهبه ثوبه لكي يُكفَّن به، فلما ذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى بيته، أرسل له الثوب الأعلى. وقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يلبس ثوبين؛ ثوباً يلي جسده وثوباً فوقه. فلما جاء ابن أبيّ الثوب الأعلى، قال: أنا أريد الثوب الذي لامس جسد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. انظر إلى زعيم المنافقين والذي كان يملؤه الكبرياء في حياته، كبرياء على المؤمنين؛ ها هو ذا يطلب كل هذه الطلبات ساعة احتضاره. فماذا صنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ أرسل له القميص الذي لامس جسده الشريف. وكان كل هذا إرضاء لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ. ولم يتقبل هذا الفعل عدد المؤمنين ولم يشعروا بالارتياح، فعندما مات ابن أبيّ جاء ابنه عبد الله، وطلب من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يصلي عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5391 وعندما هَمَّ النبي أن يصلي عليه، وقف عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بين الرسول وبين القبلة. وهنا حسم الحق سبحانه وتعالى الموقف ونزلت الاية الكريمة: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} فقد أراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يصلي على أبيّ؛ لأنه رسول رحمة للعالمين. ولكن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقف بينه وبين القبلة حتى لا يصلي، فأنزل الحق قوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} وقالوا: تلك من الأمور التي وافق الوحي فيها عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. ومن المسائل التي وافق الوحي فيها عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه تغيير القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام. فقد كان عمر يرجوها، وكان يقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا رسول الله، لو اتخذت مقام إبراهيم مصلّى. ومن هذه الأمور أيضاً رأى في أسرى بدر، وأن من الواجب قتلهم، وكان رأي أبي بكر أن يقوم الأسرى بتعليم المسلمين القراءة والكتابة؛ أو يؤخذ فيهم الفداء، فنزلت الآية الكريمة: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة} [الأنفال: 67] بعض الناس يتساءل: كيف يستدرك عمر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ نقول: لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لن يُخلَّد في أمته؛ لذلك أراد أن يعطيهم الأُسْوة بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متى رأى رأياً حسناً نزل عليه. وبعض المستشرقين يقولون: إنكم تقولون دائماً عمر فعل كذا، ولماذا لا تقولون لنا محمد فعل كذا؟ ونقول: إذا فعل محمد فهو رسول الله، أما غير الرسول عندما يفعل فهو دليل على أن الفطرة الإسلامية من الممكن أن ترى شيئاً يتفق مع ما يريده الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5392 وبعد أن نزل قول الحق: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} صار الحكم عاماً في ألا يصلى رسول الله على المنافقين. لكن من أراد من الناس أن يصلي فليُصلِّ. وكان الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يكرم كل مسلم بالصلاة عليه، فلما نزلت هذه الآية امتنع عن الصلاة على المنافقين. كذلك امتنع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الصلاة على الميت وعليه دين، «فكان يسأل أهل الميت: هل عليه دَيْن؟ فإن قالوا: نعم. سأل: هل تريد ما يسده؟ . فإن قالوا: لا، قال:» صَلُّوا على صاحبكم «، وامتنع هو عن الصلاة.» ولكن ما ذنب من عليه دين أن يُحرَم صلاة رسول الله عليه؟ نجد الإجابة في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومَنْ أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» فلو كان هذا الميت المدين ينوي سداد دينه لأعانه الله على أن يُسدِّده، أما إذا ترك ما يفي بهذا الدين من عقارات أو أراض أو أموال في البنوك فلا يكن مديناً. ويقول الحق سبحانه هنا: {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} ونحن نعلم أن رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يذهب إلى قبر حمزة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، ويقف على قبور المؤمنين: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» ومنعه الحق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5393 من ذلك العمل على قبور المنافقين. ويعطينا الحق سبحانه العلة في ذلك فيقول: {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} وعرفنا كيف كفروا بالله ورسوله، لكن ماذا عن قوله الحق: {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} . فهل ماتوا وهم خارجون عن المنهج؟ نعم، تماماً مثلما نقول: فسقت الرطبة؛ لأن البلح في نضجه يكون أحمر اللون أو أصفر وتلتصق قشرته به، فإذا رطب انفصلت القشرة عن البلحة، بحيث تستطيع أن تنزعها بسهولة، فكأن منهج الله بالنسبة للمؤمنين لا بد أن يلتصق به كقشرة البلحة الحمراء، وإذا انفصل عنه مثل قشرة الرطبة يُصَابُ بالفساد. ولكن هنا نتساءل: أليس الكفر أكبر مرتبة من الفسق؟ لأننا نعلم أنه ليس بعد الكفر ذنب؟ فكيف يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} مع أنهم كفروا، والكفر أكبر الذنوب؟ ونقول: إن الكفر هو عدم الإيمان بالله ورسوله وعدم الدخول في الإسلام، ولكن الفسق هو عدم الالتزام بأية قيم، ذلك أن الدين قد أوجد في النفوس عامة قيماً معروفة يتبعها حتى الذين كفروا، فمثلاً عندما أرادوا بناء الكعبة قبل الإسلام، قالوا: نريد أن نبنيها بمال حلال، لا يدخل فيه مال بَغيٍّ. وكانوا في الماضي يُحضرون البغايا، ويُقيمون لهن الرايات، ويأخذون من أموالهن. لم يكن الإسلام قد جاء بَعْد، ولكن كانت هناك قيم من مناهج السماء التي جاءت قبل الإسلام. وجاء الإسلام موافقاً لبعضها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5394 إذن: فقوله الحق: {كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ، أي: لم يكونوا مسلمين. {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} أي: لم يلتزموا بأية قيم. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5395 ونعلم أن الحق قال في آية سابقة: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55] والنص القرآني إذا ما اتفق مع نص آخر، نقول: إن الأداء الخاص ومقتضيات الأحوال تختلف، ومن ينظر إلى خصوصيات ومقتضيات الأحوال يعلم أن هذا تأسيس وليس تكراراً، فقد تحمل آيتان معنى عامّاً واحداً، ولكن كل آية تمس خصوصية العطاء، ولنأخذ مثالاً من قوله الحق: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ... } [الأنعام: 151] وقوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ... } [الإسراء: 31] وقد ادعى بعض المستشرقين أن في القرآن تكراراً، وهذا غير صحيح؛ لأنهم ينظرون إلى عموم الآية ولا ينظرون إلى خصوصية العطاء. وخصوصية العطاء في الآية توافق مقتضى كل حال. ففي قوله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5395 سبحانه عن رزق الأولاد لم يلتفتوا إلى صدري الآيتين بل التفتوا إلى عجُز الآيتين، وذلك من جهلهم بملكة الأداء في البيان العربي. ولنا أن نسأل هؤلاء المستشرقين الذي يثيرون مثل هذه الأقاويل: هل ترون أن آية من الآيتين أقل بلاغة من الأخرى؟ ولن نجد إجابة عندهم؛ لأنهم لا يعرفون دقة البيان العربي. ونقول لهم: أنتم إن نظرتم إلى عَجُز كل آية وصدرها لوجدتم أن آخر الآية يقتضي أولها، وإلا لما استقام المعنى، فالله سبحانه وتعالى لم يَقُلٍ في الآيتين: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} وإنما قال: {مِّنْ إمْلاَقٍ} ، وقال: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} ولم يقل في الآيتين: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} بل قال: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} وقال: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . إذن: فبداية الآيتين مختلفة؛ الآية الأولى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} . والإملاق هو الفقر، فكأن الفقر موجود فعلاً. وقوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} ، فكأن الفقر غير موجود، ولكن الإنسان قد يخشى أن يأتي الفقر بمجيء الأولاد. إذن: فالآية الأولى تخاطب الفقراء فعلاً، والآية الثانية تخاطب غير الفقراء الذين يخشوْنَ مجيء الفقر إن رُزِقوا بأولاد؛ والفقير - كما نعلم - يُشغل برزقه أولاً قبل أن يُشغلَ برزق أولاده. ولذلك يطمئنه الحق سبحانه وتعالى على أن أولاده لن يأخذوا من رزقه شيئاً، فيقول: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أي: اطمئن أيها الفقير على رزقك فلن يأخذ أولادك منه شيئاً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يرزقك أولاً ويرزق أولادك أيضاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5396 أما غير الفقير الذي يخشى أن يجيء الولد ومعه الفقر فقد ينشغل بأن المولود الجديد سيأتي ليُحوِّل غناه إلى فقر. ويخاطبه الحق سبحانه وتعالى بقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} أي: أن رزقهم يأتي من عند الله قبل رزقكم أنتم، فلا تخشوا الفقر وتقتلوا أولادكم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى سيرزقهم، فلن يصيبكم الفقر بسبب الأولاد. وهكذا نرى أن معنى الآيتين مختلف تماماً وليس هناك تكرار. كذلك في الآية التي نحن بصددها، يقول بعض الناس: إن هذه الآية قد رودت في نفس السورة، نفول لهم: نعم. ولكن هذه لها معنى والأخرى لها معنى آخر؛ فأين الاختلاف في الآيتين؛ حتى نعرف أنهما ليستا مكررتين؟ الآية الأولى تقول: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55] والآية الثانية التي نحن بصددها تقول: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 85] أول اختلاف نجده في بداية الآيتين؛ ففي الآية الأولى: {فَلاَ تُعْجِبْك} ، والثانية: {وَلاَ تُعْجِبْكَ} . ففي الآية الأولى جاء الحق سبحانه وتعالى بالفاء، والفاء تقتضي الترتيب. إذن: فهذه الآية مترتبة على ما قبلها، وهي قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاوة إِلاَّ وَهُمْ كسالى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5397 فكأن هذه حيثيات كفرهم؛ فهم لا يُصلُّون إلا نفاقاً، ولا ينفقون مالاً في سبيل الله إلا وهم يكرهون ذلك. والمتعة في المال أن تنفقه فيما تحب، فإذا أحببت طعاماً أشتريته، وإذا أحببت ثوباً ابتعته. وتكون في هذه الحالة مسروراً وأنت تنفق مالك، ولكن هؤلاء ينفقون المال وهم كارهون. والمؤمن عندما ينفق ماله في صدقة أو زكاة فهو يفعل ذلك إيماناً منه بأن الله سبحانه وتعالى سيعطيه أضعاف أضعاف الأجر في الدنيا والآخرة. إذن: فحين ينفق المؤمن ماله في الزكاة، يكون فرحاً لأنه عمل لدنياه ولآخرته. أما المنافق الذي يضمر الكفر في قلبه، فهو لا يؤمن بالآخرة ولا يعرف البركة في الرزق، فكأنه أنفق ماله دون أن يحصل على شيء، أي: أن المسألة في نظره خسارة في المال ولا شيء غير ذلك. وإن أنفق الإنسان وهو كاره، فالمال الموجود لديه هو ذلة وتعب؛ لأنه حصل على المال بعد عمل ومشقة، ثم ينفقه وهو لا يؤمن بآخرة ولا بجزاء. ويريد الحق سبحانه أن يلفتنا إلى أن رزقه لهؤلاء الناس هو سبب في شقائهم وإذلالهم في الدنيا فيجعلهم يجمعون المال بعمل وتعب ثم ينفقونه بلا ثواب، أي: يخسرونه. والواحد منهم يذهب إلى الحرب نفاقاً، فينفق على سلاحه وراحلته، ولا يأخذ ثواباً، ويُربِّي أولاده ثم تأتي الحرب، فيذهبون نفاقاً للقتال؛ فيموتون دون استشهاد إن كانوا منافقين مثل آبائهم. وهكذا نجد أن كل أموال المنافق الذي يتظاهر بالإسلام، وهو كافر، تكون حسرة عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5398 ومن هنا فإياك أيها المؤمن أن تعجبك أموالهم؛ لأنها ذلة لهم في الدنيا؛ فهم يبذلونها نفاقاً؛ فإذا امتنعوا عنا الإنفاق وعن الجهاد وهم يتظاهرون بالإسلام؛ فكأنهم قد أعلنوا أنهم منافقون، وهكذا نجد إنفاقهم كرهاً هو إذلال لهم، وإن لم ينفقوا فهذا أمر يفضحهم، فكأن الأموال والأولاد عذاب لهم، وهذا أمر لا يقتضي الإعجاب، وإنما يقتضي الإشفاق عليهم. ولا تظن أنك حين حذفتهم من ديوان الغُزاة والمجاهدين بعدم الخروج معك وأنهم لن يقاتلوا معك عدوّاً، أن في أموالهم عوضاً عن الخروج، فلا تعجبك فإنها عقاب وفضيحة وإذلال لهم. ولكن في الآية الأولى، يقول الحق سبحانه: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} لماذا؟ لأن منهم من له مال يعتز به، ومنهم من له أولاد كثيرون هم عِزْوته، ومنهم من له المال والولد. إذن: فهم مختلفون في أحوالهم؛ لذلك جاء القول: {أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} لتؤدي المعاني كلها. ولتشمل من عنده مال فقط، ومن عنده أولاد فقط، ومن عنده المال والولد. أما في الآية الثانية التي نحن بصددها: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} إذن: فالحقُّ سبحانه وتعالى قد أعطاهم المال والولد للعذاب. ولكن هناك من يقول: ما دام الحق يريد تعذيبهم بالأموال والأولاد، فهل المال والأولاد علة للعذاب؟ وهل لأفعال الله علة؟ ألا يقول المسلمون: إن أفعال الله لا علة لها؛ ونقول: لقد قالوا مثل ذلك القول في قوله الحق: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5399 {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ولم يلتفتوا إلى أن العلة في الخلق لا تعود إلى الله، ولكنها علة ترجع للمخلوق؛ لأن في العبادة مصلحة ومنفعة للمخلوق. فسبب الخلق هو العبادة، وهذا السبب ليس راجعاً إلى الخالق ولا تعود على الله أدنى منفعة، فلا شيء يزيد في ملكه ولا شيء ينقصه. أو هي لام العاقبة. ومعنى «لام العاقبة» أن تفعل شيئاً فتأتي العاقبة بغير ما قصدت مصداقاً لقوله الحق: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ... } [القصص: 8] هل التقط آل فرعون موسى ليكون لهم عدوّاً؟ أم التقطوه ليكون لهم قرة عين؟ . لقد التقطوه ليكون قرة عَيْن لهم، ولكن النهاية جاءت بغير ما قصدوا؛ فأصبح الذي التقطوه ليكون وليّاً ونصيراً لهم هو الذي جاءت على يديه نهايتهم، ولو كان فرعون يعلم الغيب لما التقط موسى بل لقَتله، وشاء الحق أن يخفي عنه الغيب ليقوم هو بتربية من سيقضي على مُلكه، تماماً كما تُدخل ابنك إلى المدرسة فيفشل، وتنفق عليه فلا يتخرج، هل أنت أدخلته المدرسة ليخيب؟ طبعاً لا. كذلك قول الحق سبحانه وتعالى: {لِيُعَذِّبَهُمْ} ويريدنا الله أن نفهم أن العذاب ليس هو سبب جمعهم المال، وإنما السبب هو في ذلك هو حُبُّهم للمال والمتعة، وكذلك الأولاد ليس الهدف منهم أن يكونوا سبباً في عذاب آبائهم، بل هم يريدون الأولاد ليس الهدف منهم أن يكونوا سبباً في عذاب آبائهم، بل هم يريدون الأولاد عِزْوة لهم. ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء أن يعذبهم بالمال والأبناء في الدنيا. فالمال يجمعه المنافق من حلال ومن حرام، ثم بعد ذلك إما أن يفارقه المال بكارثة تصيبه، وإما أن يفارق هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5400 المال بالموت، وإما أن يكون هذا المال عذاباً له؛ فيعيش مع خشية الفقر وزوال النعمة، كذلك الأولاد يربيهم ويتعب في تربيتهم، ثم بعد ذلك إما أن يفارقوه بالموت، وإما أن يكبروا فاسدين؛ فيكونوا مصدر عذاب لهم. فكأن قول الحق سبحانه وتعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} هو كلام من الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين؛ لأن هؤلاء المنافقين قد يعطيهم الله الأموال والأولاد؛ ولكنها ليست خيراً لهم، بل هي عذاب لهم؛ لأنهم بإبطائهم الكفر وتظاهرهم بالإيمان؛ يفرضون على أنفسهم تكاليف تأخذ جزءاً من أموالهم وأولادهم، وحينئذ تكون عذاباً لهم لأنهم خسروا كل شيء ولم يكسبوا شيئاً، فليس لهم أجر على موت أبنائهم إن قتلوا، ولا أجر الزكاة والصدقة فيما ينفقونه رياء ونفاقاً. أما الآية الثانية: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} فهي حكم عام على من يعطيهم الله نعمة الدنيا ويكفرون به، وتكون هذه النعمة عليهم عذاباً، فهم في خوف من ضياع المال أو فقد الولد؛ لذلك يعانون من العذاب. وهم من خوفهم من الموت وترك النعمة مُعذَّبون، فهم لا يريدون أن يموتوا لأنهم لا يعتقدون في الآخرة، ويكون المال والولد حسرة عليهم؛ لأن المؤمن إن مات منه ولد، علم أن افتقاد الابن إنما يسد طاقة جهنم، ويقوده إلى رحمة الله، وله أجر على ذلك، فإن كان الولد صغيراً كان ذخراً له في الآخرة، وإن كان كبيراً فهو يتذكر قول الحق: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5401 {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم ... } [الطور: 21] وفي هذا سلوى عن افتقاد الولد، لكن المنافق يحيا في خوف وحسرة. وفي هذا عذاب. ويلفتنا الحق سبحانه إلى أن مال الكافر هو حسرة عليه دائماً فيقول: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36] أي أن الله سبحانه وتعالى يعاقب من ينفق لمحاربة دينه بأن يتركه ينفق، ثم ينصر الله دينه ليجعل ذلك حسرة في نفسه حين يرى المال الذي أنفقه وقد جاء بنتيجة عكسية هي انتصار الدين وانتشاره. وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} وهذه هي الحسرة الكبرى، فحين يموت الكافر ولا يجد له رصيداً في الآخرة إلا النار؛ لأنه مات على غير يقين بالجنة وعلى غير يقين بأنه قد قدم شيئاً، يُلْقَى في النار محسوراً على ما تركه في الدنيا، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل نقرأ قول الله: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ... } [الأنفال: 50] وهكذا يذوقون العذاب. ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى للمنافقين في قوله: {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5402 وهكذا شاء الحق أن يفضح المنافقين، هؤلاء الذين استمرأوا الاستمتاع بنفس حقوق المؤمنين لمجرد إعلانهم الإسلام، بينما تبطن قلوبهم الكفر والكيد للمسلمين. وقوله الحق: {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بالله وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ} هو خطاب للمنافقين يكشف بطلان إيمانهم؛ ولذلك جاء قوله الحق: {أَنْ آمِنُواْ} أي: اجعلوا قلوبكم صادقة مع ألسنتكم، فالله يريد إيماناً بالقلب واللسان، فيتفق السلوك مع العقيدة. وقول الحق: {وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ} أي: انفروا للجهاد مع رسول الله، فهذا هو التعبير العملي عن الإيمان، ولا تفرحوا بتخلفكم عن القتال في سبيل الله؛ لأن الجهاد والقتال في سبيل الله شرف كبير له ثواب عظيم. وامتناع إنسان عن الجهاد هو تنازل عن خير كبير، فالحق سبحانه يعطي جزيل الأجر لمن جاهد جهاداً حقيقيّاً. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ} و «استأذن» من مادة استفعل، وتأتي للطلب، كأن تقول: «استفهم» أي: طلب أن يفهم، و «استعلم» أي: طلب أن يعلم. إذن: فقوله: {استأذنك} أي: طلبوا الإذن، ولأنهم يتظاهرون بالإيمان ويبطنون الكفر، تجدهم ساعة النداء للجهاد لا يقفون مع المؤمنين، وكان من المفروض أن يكونوا بين المجاهدين، وأن يجدوا في ذلك فرصة لإعلان توبتهم؛ ورجوعهم إلى الحق فيكون جهادهم تكفيراً عما سبقه من نفاق، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل طلبوا الإذن بالقعود. ومن الذي طلب الإذن؟ إنهم أولو الطَّوْل. و «أولو» معناها أصحاب القوة والقدرة. و «الطَّوْل» هو أن تطول الشيء، أيك تحاول أن تصل إليه، فإذا لم تصل يدك إليه؛ يقال: إن هذا الشيء يدك لم تَطُلْه، أي: لم يكن في متناول يدك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5403 و {أُوْلُواْ الطول} أي: الذين يملكون مقومات الجهاد من سلامة البدن من الأمراض ووجود القوة، ولا يعانون من ضعف الشيخوخة، وأن يكون الإنسان قد بلغ مبلغ الرجولة وليس صبيّاً صغيراً؛ لأن الشيخ الكبير ضعيف لا يقدر على الجهاد، وكذلك الصبي الصغير لا يملك جَلَداً على الحرب. وأيضاً نجد المريض الذي قد يعوقه مرضه عن الحركة. أما أولو الطول فهم الذين يملكون كل مقومات الحرب، من قوة بدنية وسلاح، والذين لم يبلغوا سن الشيخوخة، ولا هم صبيان صغار ولا مرضى. إذن: فعندما تنزل آية فيها الجهاد، فالذين يستأذنون ليسوا أصحاب أعذار - لأنهم معفون - لكن الاستئذان يأتي من المنافقين الذي تتوافر فيهم كل شروط القتال، ويستأذنون في القعود وعدم الخروج للقتال. ويقولون ما يخبرنا الحق به: {وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين} والقاعد مقابله القائم. والقيام - كما نعلم - هو مقدمة للحركة. فإذا أراد الإنسان أن يمشي، قام من مكانه أولاً، ثم بدأ المشي والحركة، ومن القيام أخذتْ مادة (القوم) أي: الجماعة القائمة على شئونها، والقوم هم الرجال، أما النساء فلا يدخلن في القوم، مصداقاً لقول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ... } [الحجرات: 11] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5404 إذن: فالقيام يقابله القعود، والقوم يقابلهم النساء. والقعود هو مقدمة للسكون، فمتى جلس الإنسان فهناك مقدمة لفترة من السكون، وقعود المنافقين وتخلفهم واستئذانهم أن يبقوا مع النساء والعجزة والمرضى والصبية هو حَطٌّ من شأنهم. ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف ... } [التوبة: 87] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5405 و {الخوالف} ليست جمع «خَالِف» ولكنها جمع «خالفة» ؛ لأن «خَالف: لا تجمع على» فواعل «، وإنما» خالفه «هي التي تُجمَعُ على» فواعل «، وهم قد ارتضوا لأنفسهم أن يطبق عليهم الحكم الذي يُطبق على النساء. ولذلك كانوا {لاَ يَفْقَهُونَ} لأنهم ارتضوا لأنفسهم وصفاً لا يليق بالرجال وفرحوا بهذا الوصف دون أن ينتبهوا لما فيه من إهانة لهم؛ لأنهم يهربون من القتال كما تهرب النساء. والمنافق - كما قلنا - له ملكتان: ملكية قولية، وملكة قلبية. فقول المنافق إعلان بالإيمان، أما قلبه فهو ممتلئ بالكفر؛ وفي هذه الحالة تتضارب ملكاته. والله سبحانه وتعالى يوضح لهم: سوف نعاملكم في الدنيا بظاهر كلامكم، ونعاملكم في الآخرة بباطن قلوبكم، وسوف نطبع على هذه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5405 القلوب؛ فلا يخرج منها كفر، ولا يدخل إليها إيمان، ولذلك قال الحق سبحانه هنا {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} . وقد قال الحق سبحانه: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ ... } [البقرة: 7] وقال سبحانه: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ ... } [التوبة: 93] وما دام الكافر قد أعجبه كفر قلبه؛ فالحق سبحانه يختم على قلبه، بحيث لا يخرج ما فيه من كفر، ولا يدخل إلى قلبه؛ ما هو خارجه من إيمان، تماماً كما تختم الشيء بالشمع الأحمر؛ فيظل ما في داخله كما هو، وما في خارجه كما هو. ويطبع الله على قلبه؛ فيمنع ما فيه من الكفر أن يخرج، ويمنع ما في خارجه من الإيمان أن يدخل إليه. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} والفقه هو الفهم، أي: لا يفهمون ما حُرِموا منه من ثواب ونعيم الآخرة؛ لأنهم قد فرحوا بتخلفهم عن الجهاد، وهم يحسبون أن هذا خيراً لهم ولكنه شر لهم. ثم يريد الحق سبحانه أن يضع الطمأنينة في نفوس المؤمنين، ويطلب منهم ألا يفزعوا؛ لتخلف هؤلاء القادرين عن القتال رغم أنهم أصحاب الطَّوْل الذين يملكون الأموال والأولاد. ويزيل الحق أثر ذلك من نفوس المؤمنين، فيقول سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5406 {لكن الرسول والذين ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5407 أي: إياكم أن تحزنوا على هؤلاء المنافقين بسب قعودهم عن الجهاد معكم ولا تقولوا: نحن خسرناهم في قتالنا؛ لأن الحق لا يحتاج إليهم ولا إلى جهادهم. وسبحانه القائل: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] ويقول سبحانه: {فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وكذلك يقول الحق سبحانه: {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] وأيضاً نجد قوله الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... } [المائدة: 54] إذن: فتخلف بعض أصحاب القوة والمال والجاه عن الجهاد، يجب ألا يشيع الفزع أو الحزن في نفوس المؤمنين؛ لأن الله معهم، ولأنهم لهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5407 الخيرات، أي: لهم كل ما يطلق عليه خير: {وأولئك لَهُمُ الخيرات وأولئك هُمُ المفلحون} والمفلح: هو الفائز الناجي المستفيد بثمرة عمله، وأصلها فلح الأرض أي: شقها؛ لأن الزراعة تقتضي أن تحرث الأرض أولاً، وهذه مهمة الإنسان ليخرج الزرع. والحق سبحانه وتعالى يقول: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 64] ونحن حيث نحرث الأرض نهيجها، وبدلاً من أن تكون صلبة لا يدخلها هواء ولا تتخللها أشعة الشمس، تصير بعد الحرث مستقبلة للهواء وتتخللها أشعة الشمس؛ فتخلصها من أي ماء راكد في داخلها، وبذلك يتوافر للأرض الهواء اللازم لنمو جذور النبات؛ لأن إذا وضعت الحَبّ في أرض غير محروثة، فالزرع لا ينبت؛ لعدم وجود الهواء الذي تتنفس منه الجذور. ولكن إذا حرثت الأرض؛ جعلت أشعة الشمس تتخلل ما هو تحت السطح؛ وتبخر الماء المخزون؛ ليدخل الهواء بدلاً منه؛ فتستطيع جذور النبات أن تنمو. إذن: فكل عمل يؤدي إلى نتيجة طيبة نُسمِّيه فَلاحاً. وهو مأخوذ من الأمر الحسّي، الذي نراه كل يوم وهو الفِلاحة. وحين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا أمراً معنويّاً، فهو سبحانه يستحضر لنا صورة محسّة من الذي نراه أمامنا؛ حتى نستطيع أن نُقرِّب المعنى إلى الأذهان؛ خصوصاً في الغيبيات التي لا نراها، فإذا أراد سبحانه أن يقرِّبها إلى أذهاننا؛ فهو يضرب لنا الأمثال بأمور حسّية. والإنسان حين يفلح الأرض ويشقها ويبذر فيها الحب، تعطيه محصولاً وفيرا. ً وكذلك فإن كل عمل يؤدي إلى نتيجة طيبة نسميه فلاحاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5408 وعندما يحدثنا الحق سبحانه، فهو يعطينا المثل مما نراه كل يوم؛ ليقرب إلى أذهاننا جزاء الصدقة والزكاة، ومضاعفته لنا الأجرَ، فيقول: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ ... } [البقرة: 261] فإذا كانت الحبة عندما تضعها في الأرض تنبت سبعمائة حبة، وإذا كانت الأرض، وهي مخلوقة لله، قد أعطتك عن الشيء الواحد سبعمائة ضعف، فكم يعطي خالق الأرض؟ وكم يضاعف؟ إنها صورة مُحَسّة للجزاء على الصدقة والزكاة. وأنت ساعة تزرع الأرض لا تقول: أنا أنقصت المخزون عندي كيلة من القمح أو إردباً من القمح؛ لأنك تعلم أنك تأخذ مما عندك إردباً من القمح؛ لتزرعه في الأرض. ولكنك لا تنظر إلى الإردب الذي أخذته من المخزون عندك، بل انظر إلى ما سوف يجيء لك من هذا الإردب ساعة الحصاد، وكذلك الزكاة: إياك أن تنظر إلى ما سينقص من مالك عندما تؤدي الزكاة، ولكن انظر إلى كم سيضاعف الله لك من هذا المال. وقد ضرب الحق مثلاً بشيء مُحِسٍّ يعلمه الجميع، ومن صورة ما نراه أمامنا لنفهم ما ينتظرنا، فإذا كانت الأرض - وهي المصدر الأول للاقتيات - تُلقى فيها الحبة الواحدة، فتعطي لك سبع سنابل في كل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5409 سنبلة مائة حبة، وإذا كانت الأرض المخلوقة لله تعوضك عما وضعته فيها بسبعمائة ضعف، فكم يعطيك خالق الأرض؟ إذن: فهو سبحانه قادر أن يضاعف لمن يشاء بغير حساب. ولذلك يبشر الحق سبحانه وتعالى المؤمنين بقوله: {وأولئك لَهُمُ الخيرات وأولئك هُمُ المفلحون} وهذا جزاء المؤمنين في الدنيا، ولكن هناك جزاءاً آخر في الآخرة. وفي هذا يُبشِّرنا الحق سبحانه في قوله: {أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5410 وقد عرفنا من قبل أخبار الجنات والأنهار، وهنا يوضح لنا الحق الخير الذي يخلد فيه المؤمنون. ولماذا سمى الله سبحانه وتعالى جزاء الآخرة بأنه: {الفوز العظيم} . ذلك لأن هناك فارقاً بين الخير والفلاح في الدنيا، والفوز في الآخرة؛ فالدنيا موقوتة بعمرك وتتمتع فيها بقدر أسبابك. إذن: ففيها فوز محدود لا يسمى فوزاً عظيماً. أما الآخرة فالنعمة فيها لا تفارقك، ولا تفارقها أنت، فالنعمة خالدة، وأنت خالد، وهذه النعمة - في الوقت نفسه - ليست بقدراتك أنت، بل بقدرات خالقك سبحانه وتعالى، ولا تحتاج منك أي تعب أو عمل أو اجتهاد، بل يأتيك الشيء بمجرد أن يخطر على بالك، وهذا لا يحدث إلا في الآخرة وفي الجنة وهذا هو الفوز العظيم؛ لأنه دائم وبلا نهاية. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5410 {وَجَآءَ المعذرون مِنَ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5411 والحديث هنا المنافقين الذين كانوا يعيشون حول المدينة وكانوا يُسمَّون «الأعراب» ، وقد تحدثت الآيات السابقة عن منافقي المدينة الذين جاء فيهم قول الحق: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق ... } [التوبة: 101] وهنا يأتي الحديث عن المنافقين الذين كانوا يسكنون في البوادي التي حول المدينة وهم الأعراب. والحق سبحانه وتعالى يقول: {المعذرون} ، وهناك «مُعْذِرون» و «معتذرون» ، والمعذِّرون هم المعتذرون؛ فالمعتذر جمعه معتذرون بفتحة فوق التاء، لكن إذا وُضعَتْ الفتحة فوق العين فالحرف الذي بعدها يُسكّن، وعندما يُسكّن ما بعد العين، فهذا يعني أن هناك افتعالاً. إذن: فالمعذّرون أو المعتذرون هم الذين يريدون أن يتخلفوا عن القتال بأعذار مفتعلة، وهم أرادوا القعود والسكون ولم يتحركوا للقتال، وقد فعلوا ذلك دون عذر حقيقي. ويقال: «المعذرون» ، و «المُعَذّر» ، و «أعذره» أي: أذهب عذره، مثل: «أعجم الكتاب» أي: أذهب عُجْمته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5411 ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} لقد كذبوا الرسول في الإيمان نفسه؛ لأنهم لم يكلفوا أنفسهم حتى مجرد الاعتذار وتخلفوا، ولو كانوا قد صدقوا في الإيمان لما تقاعسوا عن القتال، أولا استأذنوا رسول الله في القعود. ثم يقول الحق: {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والكفر - كما نعلم - هو ستر الإيمان. والمنافقون من الإعراب أظهروا الإيمان وكانت قلوبهم تمتلئ بالكفر. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ ... } [الحجرات: 14] أي أنهم يؤدون أمور الإسلام الظاهرية بينما قلوبهم لم يدخلها الإيمان. ويعرفنا الحق سبحانه بالجزاء الذي ينتظر هؤلاء المتخلفين من الأعراب فيقول: {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وعرفنا من قبل أن وصف العذاب في القرآن إما أن يكون أليماً، وإما أن يكون مهيناً، وإما أن يكون عظيماً، وإما أن يكون مقيماً. وأراد الحق سبحانه أن يعطي رخصة للذين لا يقدرون على القتال ولهم العذر في أن يتخلفوا عنه؛ فقال: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5412 ونحن نعلم أن الضعيف هو من لا يقدر على العمل، لا بسبب المرض، بل لكبر سنه، أو هو صغير السن لا يقدر على الحرب، وكذلك يعفي الحق المرضى من القتال؛ وهم من أصيبوا بعاهة طارئة تجعلهم غير قادرين على القتال. وكذلك أعفى الله الذين لا يجدون ما ينفقون؛ لأنهم من شدة فقرهم لا يستطيعون شراء دابة تحملهم أو معدات قتال يقاتلون بها. والنفقة - كما نعلم - هي أن تقدر أن تعول نفسك في الذهاب والإقامة مدة الحرب والعودة. وكان على كل مجاهد أن يُعِدَّ مطلوبات الحرب. فالله سبحانه قد رفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقونه، وجعل لهم وظيفة أخرى تخدم الجهاد، فقال سبحانه وتعالى: {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: ينصحون ويشجعون أولئك القادرين على الجهاد؛ ليُحَمِّسوهم على القتال، ثم يكونون في عون أهل المجاهدين، ويواجهون الإشاعات والأكاذيب التي يطلقها المنافقون في المدينة؛ للنيل من الروح المعنوية للمسلمين فيردون عليها ليُخْرِسوا ألسنة السوء. ثم يقول الحق: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والسبيل: هو الطريق، ومعناها: ما عليهم من إثم أو لوم أو توبيخ أو تعنيف. وكل هذا لا يجد سبيلاً على المحسنين، ولم يقل الحق: «مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ» ؛ لأن السبيل يمر عليهم ولا ينتهي إليهم بلوم؛ لأن هناك فارقاً بين أن يمر عليهم وأن ينتهي إليهم، فالمرور أمر عادي، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5413 وليس هو الغاية؛ لذلك يوضح الحق أنه لا يوجد سبيل إليهم ولا إلى عتابهم؛ لأنهم أدوا كل ما تطلّبه الجهاد منهم، ولكنهم لم يذهبوا إلى ميدان القتال؛ لأسباب خارجة عن إراداتهم، وفعلوا كل ما يتطلّبه الإيمان. أما إذا كان المجاهد لديه ما ينفقه، ولكنه لا يملك راحلة يركبها، فعليه أن يذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويطلب منه راحلة، فإذا قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فهذا إذن بالقعود، وفي هذا يقول الحق سبحانه: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5414 إذن: فالمعفوْن من الجهاد هم: الضعيف والمريض، والذي لا يجد قوتاً، ولا يجد راحلة؛ فيطلبها من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول له رسول الله: {لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} ومن في مثل هذه الحالة يحزن مرتين ولا يفرح؛ الحزن الأول: بسبب عجز المسلمين في ذلك الوقت أن يملكوا ما ينهض بنفقات المقاتلين أو أن يجهزوا لهم وسائل الانتقال إلى ميدان القتال، والحزن الثاني: بسبب عدم تواجده في ميدان القتال مشاركاً ومجاهداً، ولا يبقى له إلا مشاركة الاستطاعة بجهاد يختلف عن الجهاد في ميدان القتال. إنه جهاد حماية القاعدين من إشاعات المنافقين. ذلك أن المنافقين لن يسكتوا عن محاربة الإيمان، بل سيرجفون بنقل الأخبار الكاذبة إلى أهالي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5414 المقاتلين، وهم من نسميهم في الاصطلاح الحديث «الطابور الخامس» ، وهم من يُثبِّطون همم ومعنويات أهالي المقاتلين. إذن: فمن قعد عن القتال بسبب عذر حقيقي فله جهاد آخر في حماية الجبهة الداخلية من أهالي المقاتلين في مواجهة حرب الإشاعات التي يقودها المنافقون. وهكذا نجد الجهاد فريضة من فرائض الإسلام، ومجاهدة غير المسلمين تكون لأمرين: الأمر الأول: حين يعارض غير المسلمين الدعوة إلى الإيمان، وأن يقفوا في سبيل الداعي ليسكتوه عن الدعوة إلى الله، والأمر الثاني: أن ينتشر المسلمون في الأرض ليُعْلوا كلمة الله، ليس إكراهاً عليها، فالدين لا إكراه فيه، والسيف الذي حُمل في الإسلام، لم يُحمل ليفرض ديناً، وإنما حُمل ليكفل حرية الاختيار الإنسان في أن يختار الدين الذي يريد اعتناقه بلا إكراه. وتحرير اختيار الإنسان؛ إنما ينشأ بإزاحة العقبات التي تفرض عليه ديناً آخر، ثم يستقبل الإنسان الأديان كلها، فيختار بحرية الدين الذي يرتضيه. إذن: فالإسلام لم يفرض بالسيف، وإلا فمن الذي فرض الإسلام على الذين سبقوا إليه حين كان ضعيفاً لا يملك أن يحمي من دخل فيه؟! وما دام الجهاد فريضة بهذا المعنى، فكل مسلم مكلف بأن يجاهد، إما فرض عين - إن غلب المؤمنون على أمر مكروه، وإما فرض كفاية - إن قام به البعض سقط عن الباقين. ولم يعذر الله من الجهاد إلا هذه الطوائف؛ الضعفاء بشيخوخة أو صغَر، والمرضى أصحاب الداءات، والذين لا يجدون ما ينفقون، وهم قسمان: قسم لا يجد ما ينفقه على نفسه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5415 وقسم لا يجد ما ينفقه على الحرب، أي: لا يجد أدوات القتال أو الراحلة التي يركبها. ورفع الحق سبحانه الحرج عن هؤلاء، ووظَّفهم سبحانه في وظيفة إيمانية تخدم الجهاد بأن يكونوا في عون أهل المجاهدين، ويقمعوا المرجفين الذين يريدون النيل من الروح المعنوية للمسلمين، وأن يردوا عليها، ويخرسوا ألسنة السوء، هذا بالنسبة للذين لا يجدون ما ينفقونه على أنفسهم خلال الجهاد من طعام وسلاح وغير ذلك. أما الذي يجد ما ينفق، ولا يجد الوسيلة التي تنقله إلى ساحة القتال؛ فعليه أن يذهب إلى ولي الأمر ليسأله الراحلة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو قائد الجهاد في حياته، فإن قال لأحد: ليس عندي ما أنقلك عليه إلى مكان القتال. فهذا إذن بالقعود، لكنه إذن لا يكفي لرفع الحرج عنه، بل يجب أن يعلن بوجدانه انفعاله في حب الجهاد، وحزنه على أنه لم يكن مع الذين يجاهدون. ولذلك قال الحق: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} وكلمة «تفيض أعينهم» توضح ما في قلب هؤلاء المؤمنين. والفيض دائماً للدموع، والدموع هي ماء حول العين؛ يهيجه الحزن فينزل، فإذا اشتد الحزن ونفد الدمع وجمدت العين عن البكاء؛ يؤخذ من سائل آخر فيقال: «بكيت دما» . وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا شدة حزن المؤمنين على حرمانهم من الجهاد، فلم يقل سبحانه وتعالى: «فاضت دموعهم» ، ولم يقل: «بكوا دماً بدل الدموع» ، وإنما قال: {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} ، فكأن العين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5416 ليس فيها ماء، ولا دم، ولم يعد إلا أن تفيض العين على الخد، وذلك إظهار لشدة الحزن في القلب، وهذا المجاهد لا لوم عليه ولا ذنب؛ لأنه فعل ما في وسعه وما في طاقته وعبر عن ذلك بحرقة مواجيده على أنه لم يكن من أهل الجهاد. ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّمَا السبيل عَلَى ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5417 هناك قال سبحانه: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} الذين كانت لهم أعذارهم في التخلف عن الجهاد، ولكن كانوا محسنين في تخلفهم هذا فقال تعالى: {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} . إذن: فعلى من يكون السبيل؟ وهنا تأتي إجابة الحق سبحانه: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ} . أي: أن طريق الإثم واللوم والتعنيف والتوبيخ إنما يتجه إلى هؤلاء الأغنياء الذين استأذنوا في أن يقعدوا عن القتال، ونعلم أن الغني إذا أطلق ينصرف إلى غنى المال، ولكن الغني إذا جاء بالمعنى الخاص، يكون معناه ما يدل عليه النص. فالذي لا يجد ما ينفقه أعْفيَ. إذن: فمن يجد ما ينفقه فهو غنيّ بطعامه. والضعيف قد أعفيَ، إذن: فالقويّ غنيّ بقوته. والمريض أعْفيَ، إذن: فالصحيح غنيّ بصحته، ومن لا يجد ما ينقله إلى مكان الجهاد قد أعفيَ، إذن: فمن يملك راحلة فهو غنيّ براحلته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5417 وعلى ذلك لا تأخذ كلمة «الغنى» على المال فقط، بل انظر إلى من تنطبق عليه شروط الجهاد؟ إذن: فاللوم والتوبيخ والتعنيف والإثم على الأغنياء بهذه الأشياء، وطلبوا أن يقعدوا عن الجهاد. ولسائل أن يقول: ولماذا يستأذنون وهم أغنياء؟ نقول: لأنهم منافقون، وقد وضعهم نفاقهم في موضع الهوان، حتى قال الحق سبحانه وتعالى عنهم: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} ومن يَرضَ أن يكون وضعه مع الخوالف، فهو يتصف بدناءة النفس وانحطاط الهمة؛ فهم رضوا ان يُعاملوا معاملة النساء، والخوالف - كما نعلم - جاءت على مراحل، فهم قالوا: {ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين} [التوبة: 86] وقلنا من قبل: إن القعود مقابل للقيام، والقيام من صفات الرجولة؛ لأن الرجل قَيَّم على أهله. والقعود للنساء، والخوالف ليست جمع خالف، وإنما هي جمع «خالفة» ، ولا يجمع بها إلا النساء، وكذلك كلمة «القواعد» يقول سبحانه: {والقواعد مِنَ النسآء ... } [النور: 60] أي: أنهم ارتضوا لأنفسهم دناءة وخسة؛ فتنازلوا عن مهام الرجال، وارتضوا أن يكونوا مع النساء هرباً من القتال، والشاعر يقول: وَمَا أدْرِي ولسْتُ إخَالُ أدْري ... أقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نسَاءُ أي: «القوم» في مقابل «النساء» . ثم يعلمنا الحق سبحانه وتعالى بعقابهم، فيقول: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5418 وفي الآية السابقة يقول سبحانه: {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ... } [التوبة: 87] ما الفرق بين النصين؟ إذا رأيت فعلاً تكليفيّاً مبنيّاً للمجهول، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ... } [البقرة: 216] وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ... } [البقرة: 183] قد يقول قائل: كان المفروض أن يقال: «كتب الله عليكم القتال» و «كتب الله عليكم الصيام» ، لأنه صار أمراً لازماً مفروضاً، فكان الأولى أن يقول: كتب الله، أي أن الذي يفرض هو الله. رغم أن الحق سبحانه هو الذي يكلف، إلا أن كل التكليفات تأتي بصيغة المبني للمجهول كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ... } [البقرة: 178] وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين ... } [البقرة: 180] والسبب في ذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يكلف كافراً بأي تكليفات إيمانية؛ فسبحانه لم يكلف بأي حكم من أحكام الإيمان إلا من آمن به وأسلم له؛ لذلك فعندما يخاطب سبحانه بالتكليف يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ... } [البقرة: 178] ومن هذا نعلم أنه سبحانه لم يكتب فرضاً أو مهمة على من لم يؤمن، والإنسان يدخل في الإيمان باختياره، فإذا دخل في الإيمان كتب الله عليه. إذن: فالإيمان هو مدخل الفريضة. وما دُمْتَ قد آمنتَ فقد أصبحتَ طرفاً فيما فرضه الحق سبحانه وتعالى عليك؛ لأنك لو لم تؤمن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5419 فليست عليك فرائض، إذن: فأنت الذي ألزمتَ نفسك بحكم الله؛ لأنك آمنت به إلهاً خالقاً معبوداً. وبإيمانك أنت؛ فرض الله عليك، فأنت طرف في كل فريضة عليك. ورغم أنه سبحانه وتعالى هو الذي فرض، فقد أحبَّ فيك أنك دخلْتَ في نطاق التكليف بإيمانك؛ فبنى الفعل للمجهول. وإذا جئنا إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَطَبَعَ على قُلُوبِهِمْ} نجد أن الحق يلفتنا هنا إلى أن المنافقين هم الذي جلبوا لأنفسهم هذا الطبع على القلوب؛ لأنهم وضعوا في قلوبهم الكفر، ثم أخذوا يتحدثون بألسنتهم عن الإيمان، ويحاولون خداع المؤمنين، ويخادعون الله؛ فأراد الله سبحانه وتعالى أن يوضح لهم: ما دمتم قد اخترتم النفاق والكفر في قلوبكم؛ فسنطبع على هذه القلوب، ونختم عليها حتى لا يخرج الكفر منها ولا يدخل إليها الإيمان. فسبحانه وتعالى - إذن - هو الذي طبع على قلوبهم، ولكن بعد أن ملأوا قلوبهم بالكفر ونافقوا، وهم الذين تسببوا بهذا الطبع لأنفسهم، بعد أن بدأوا بالكفر، فطبع الحق سبحانه وتعالى على قلوبهم بما فيها من مرض، ولو لم يبدأوا بالكفر لما طبع الله على قلوبهم؛ ولهذا جاء الفعل مبيّناً للمجهول، فهم مشتركون فيه. أما الآية التي نحن بصددها فيقول تعالى: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} وساعة ينسب الطَّبْع إلى الله يكون أقوى طبع على القلوب، ويأتي الطبع من الله سبحانه وتعالى كحكم نهائي من أن الله قضى عليهم به، فلا يخرج من قلوبهم ولو كان قدراً ضئيلاً من النفاق، ولا تغادر قلوبهم ذرة من كفر، ولا يتسرب إلى قلوبهم ذرة من إيمان؛ لأنهم لا يعلمون قدر الإيمان الحق، والإنسان قد لا يفهم شيئاً، أي: لا يفقهه. ولكن قد يفهمه غيره ويعلمه هو عنه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5420 لذلك فنفي الفقه أو الفهم لا ينفي العلم، ولكن حين ينفي العلم فهو ينفي الفهم عن الذات، وينفي الفهم عن الغير، ولذلك حين يقال: {لاَ يَفْقَهُونَ} أي: لا يفهمون بذواتهم، ولكن قد يتعلمون العلم من غيرهم. أما إذا قلنا: {لاَ يَعْلَمُونَ} فالمقصود أنهم يفهمون ولا يتعلمون. إذن: نفي العلم ينسب إلى طبع الله على قلوبهم، أما نفي الفقه فينسب نسبة عامة للفعل المبني للمجهول. فعندما نفى الحق سبحانه وتعالى الفقه عنهم بالفعل المبني للمجهول أوضح أنهم بنفاقهم لا يفقهون، ولكنه سبحانه وتعالى لم يَنْف احتمال أن يعلموا من غيرهم في المستقبل. ولكن عندما قال الحق: {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} قد نفى عنهم - أيضاً - العلم بذواتهم، وكذلك نفى قدرتهم على العلم من غيرهم، وهذه أقوى أثراً، وبذلك يكون الطبع على قلوبهم أقوى؛ لأنهم رفضوا العلم من ذواتهم ورفضوه من غيرهم. ولذلك نجد {لاَ يَفْقَهُونَ} في موضع، ونجد {لاَ يَعْلَمُونَ} في موضع آخر، وكلُّ تناسب موقعها الذي قيلت فيه. ثم يقول سبحانه: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5421 ومعنى «يعتذر» أي: يبدي عذراً عن شيء يُخرجه من اللوم أو التوبيخ، ويقال: «اعتذر فلان» أي: فعل شيئاً مظنة أنه ذم، فيريد أن يعتذر عنه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5421 والحق هنا يقول: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} وفي آية سابقة يقول مخاطباً النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ ... } [التوبة: 83] وهكذا نلاحظ أنه سبحانه حين نسب الرجوع إلى الصحابة والمجاهدين قال: {رَجَعْتُمْ} ، وعندما نسبه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} مما يدلنا على أن زمام محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيد ربه وحده، ولكن زمام أتباعه يكون باختيارهم. وهنا يقول الحق: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} ويأتي بعدها ذلك الرد الواضح على محاولة المنافقين في الاعتذار: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ} ، وفي هذا رد حاسم، فأنت حين يعتذر إليك إنسان فقد تستمع لعذره ولكنك لا تقبله، ومجرد استماعك للعذر معناه أن هناك احتمالاً في أن يكون هذا العذر مقبولاً أو مرفوضاً، ولكن حين ترفض مجرد سماع العذر، فمعنى ذلك ألاَّ وجه للمعذرة. والحق سبحانه وتعالى يقول لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} فكأنما ساعة أقبل المنافقون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمرمنين؛ وتهيأوا للاعتذار؛ وقبل أن ينطقوا بالعذر؛ أوضح لهم الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: لا تعتذروا، ورفض مجرد إبدائهم للعذر. ثم فاجأهم بالحكم في قوله تعالى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} ومادة «آمن» تدور حول عدة معان، نقول «آمن» أي: اعتقد وصدق مثل قولنا: «آمن بالله» ، ويقال: «آمن بالشيء» أي: صدَّقه، و «آمن بكذا» أي: صدَّق ما قيل. والحق هو القائل: {فَمَآ آمَنَ لموسى ... } [يونس: 83] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5422 وقال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] أي: لن تصدقنا. وآمن إذا تعدَّت بالباء فمعناها الاعتقاد، وإن تعدَّتْ باللام فمعناها التصديق، وإن تعدت بغير الباء وغير اللام فمعناها إعطاء الأمان، مثل قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] وتجيء أيضاً «آمن» و «أمن» بمعنى الائتمان، مثل قول الحق سبحانه وتعالى على لسان يعقوب: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ ... } [يوسف: 64] إذن: ف «آمن» إن تعدت بالباء فيكون معناها الاعتقاد الإيماني، وإنْ تعدَّتْ باللام فمعناها التصديق، وإن تعدَّتْ بنفسها إلى الفعل فهي إعطاء الأمان والسلام والاطمئنان، وإن تعدت بالمفعول أيضاً؛ فمعناها القدرة على أداء الأمانات، مصداقاً لقوله الحق: {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ... } [آل عمران: 75] وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق سبحانه وتعالى: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي: لن نصدقكم. فقد جاء المنافقون ليعتذروا بأعذار كاذبة، ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرفض مجرد سماع الاعتذار، وأعلن لهم: لن نصدقكم. ولو امتلك المنافقون ذرة من ذكاء لفهموا أن رب محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قد أخبره بكل شيء؛ حتى بما في قلوبهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5423 قبل أن ينطقوه، ولو امتلكوا ذرة من فطنة لرجعوا عن نفاقهم، ولدخلوا في الإيمان، ولكنهم لم يستوعبوا الدرس، فجاء الحق سبحانه وتعالى بالأمر واضحاً في قوله سبحانه: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} فكأن المسألة ليست فراسة استنتاج، ولكنها وحي من الله. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} . ما هو العمل الذي سيراه الله سبحانه وتعالى ورسوله، بعد أن رفض رسول الله عذرهم، وأخبرهم بأن الله قد أخبره بما يُخْفونه من كذب في صدورهم؟ فسبحانه العالم بالسرائر كلها، لقد شاء سبحانه ألا يغلق أمامهم باب المرجع إليه، وكان يجب من بعد ذلك أن يرتدعوا وأن يتيقنوا أن رب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا تخفى عليه حتى نواياهم. وما دُمْتم قد علمتم صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل ما أبلغكم به، أصبح عليكم - إذن - أن ترجعوا وتخرجوا من دائرة النفاق لتدخلوا حظيرة الإيمان؛ وتراكم الدنيا من بعد ذلك وقد اختلفت أعمالكم من النفاق إلى الإيمان، أما إن أصررتم على ما أنتم فيه؛ فمعنى ذلك أنكم لم تستفيدوا من العملية الإعجازية التي أنبأ الله فيها رسوله بكذبكم. إذن: فقد فتح الله باب التوبة أمامكم رحمة منه سبحانه، فانتهزوا هذه الفرصة؛ لأنه سبحانه سيرى أعمالكم في المستقبل، وعلى أساس هذه الرؤية يرتب لكم الجزاء على ما يكون منكم. ولذلك يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 94] وما دام سبحانه عالم الغيب، فمن باب أوْلى أنه عليم بعالم الشهادة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5424 والغيب - كما نعرف - هو ما غاب عنك، فلم تعرف عنه شيئاً. ولكن إنْ غاب عنك ولم يَغِبْ عن غيرك فهو غّيْبٌ نسبي؛ لأن هناك حجباً منعت عنك العلم، والمثَال: إن سُرق منك شيء فأنت لا تعرف السارق؛ ولكن السارق نفسه يعرف، ومن شاركه يعرف. والذي أخفى السارق عنده المسروقات يعرف. والذي ابتاع المسروقات يعرف. إذن: فهو غيب عنك وليس غيباً على غيرك. أما الغيب المطلق فهو ما غاب عنك وعن غيرك، وهناك من يلجأ إلى الدجالين ممن يدّعون قراءة الأفكار، ويسمونهم المنوِّمين المغناطيسيين، ويطلب المنوّم من أي واحد أن يُخرج ما في جيبه من نقود وأن يقوم بعدّها، ثم يخبره بعددها، وإن أردت أن تكشف ألاعيبه؛ ضع يدك في جيبك وأخرج كمية من النقود لا تعرف أنت مقدارها، واسأله عن هذا المقدار فلن يعرف، لماذا؟ لأنك نقلت المسألة من غيب قد يعرفه غيرك إلى غيب مطلق. إذن: فالغيب المطلق هو ما غاب عنك عن غيرك، وهو أيضاً ما لا تكون له مقدمات توصلك إليه، فأنت إذا أعطيت ابنك تمريناً هندسيّاً ليحله؛ فالحل غيب عنه ساعة يقرأ المسألة، ثم يستخدم المقدمات والنظريات حتى يصل إلى الحل، فكأن هناك أشياء لها مقدمات توصل إلى النتائج، وهذه ليست غيباً؛ لذلك لا يقال لمن اكتشف الكهرباء والذي اكتشف تفتيت الذرة أنهما علما الغيب. فقد كانت هناك مقدمات في الكون أوصلتهما إلى كشف بعض القوانين الموجودة بالفعل، لكنّنا لم نكُنْ نعرفها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5425 وفي بعض التدريبات، نجد من يضع المسألة المطلوب حلّها، ويضع النتيجة الأخيرة بجانبها؛ لأنه لا يهدف إلى معرفة النتيجة، ولكنه يهدف لتعليم التلميذ كيف يصل إلى أسلوب الحل الصحيح. ولذلك إذا أردت أن تحلّ شيئاً في الهندسة مثلاً، فلا بد لك من معطيات توصلك إلى الحل؛ كأن يُطلب منك - مثلاً - إثبات أن الخطين متوازيان، وفي هذه الحالة يجب أن تكون كل زاويتين متناظرتين متساويتين، وكل زاويتين متبادلتين متساويتين. إذن: فانت قد أخذت مقدمات أو معطيات أوصلتك إلى النتيجة، وكذلك في تساوي ضلعي المثلث أو أضلاعه؛ يكون إثباته بتساوي الزوايا. فهل في هذه الحالة يقال: إنك اهتديت إلى الغيب؟ أم أنك استخدمت مقدمات أوصلتك إلى نتائج؟ وأنت حين تبرهن على صحة النظرية المباشرة، تقول: إن هذا يساوي هذا حسب النظرية رقم تسعة مثلاً، وإن هذا مقابل لهذا حسب النظرية الجديدة، وإذا وصلت في براهينك إلى نظرية رقم واحد فهي النظرية التي لا مقدمات لها، ولا بد أن تكون بديهية. وهكذا نجد أن كل علم في هذا الكون بُني على نظريات أو مقدمات بديهية، ثم تطورت بعد ذلك إلى اكتشاف ما أودعه الله في كونه من أسرار. أما الحق سبحانه وتعالى فهو يقول عن نفسه: {عَالِمِ الغيب والشهادة} أي أنه سبحانه عالم بالغيب المطلق، الذي لا توجد له مقدمات توصلنا إليه؛ ولذلك لا نستطيع أن نعرف الغيب المطلق؛ لأنه ليس معروفاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5426 عند البعض، ومجهولاً عند غيرهم، وليس له مقدمات توصلنا إليه؛ لأنه الغيب الذي ينفرد به الحق عزّ وجلّ. ونجد الحق سبحانه يقول: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ... } [الجن: 26 - 27] فسبحانه عالم الغيب المطلق، وهو يختلف عن الغيب المستور عن البعض، ويقول الحق عن مواعيد الكشف عن أسرار الغيب المستور: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ ... } [البقرة: 255] وحين يشاء الله أن يكشف عن بعض أسرار الغيب فهو يحدد الوقت الذي يشاؤه لذلك، وكل شيء في الكون له ميعاد ميلاد؛ مثل: الكهرباء، والذرة، والوصول إلى القمر، وغزو الفضاء، وهذه كلها أشياء لها مواعيد ميلاد. ويبحث العلماء عنها باستخدام المقدمات. ولكنهم لا يصلون إلى سر ميلاد أي اكتشاف إلا بإذن الله حين يلفتهم إلى هذا السرّ؛ إما بالبحث العلمي، وإما أن يتم معرفته صدفة. وهكذا نجد أن البشر يُحَاطون عِلْماً بهذه الأسرار بعد مقدمات وبإذن من الله. وما دام الحق سبحانه هو عالم الغيب؛ فيكون سبحانه عالماً بالشهادة من باب أولى، وقد يظن ظان أنه جلس في مكان معزول مستور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5427 ويفعل ما يريد، فلن يشهده الله؛ لأنه قد يفعل ما يريد دون أن يراه أحد، لكن ذلك غير حقيقي؛ لأن الحق سبحانه عالم الغيب والشهادة، فلا يوجد مستور عنه في هذا الكون، فلا الغيب يغيب عن علمه، ولا العالم المشهود يغيب عن علمه. وما دام قد جاء الحق هنا بقوله: {عَالِمِ الغيب والشهادة} فلا بد أن يأتي من بعدها {يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: يخبركم مقدماً بجزاء ما ستفعلونه من خير أو شر حتى لا يقول أحد: إنه لم يكن يعرف، أو أنه لو علم أن فعله يؤدي إلى الشر لما فعل؛ وحتى يكون كل إنسان شهيداً على نفسه؛ لأن الله أبلغه بالجزاء، فيكون الجزاء عدلاً لا ظلماً. ولذلك يقول الحق سبحانه: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14] فأنت الذي تحكم على نفسك. ويقول الحق بعد ذلك: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5428 وكلمة {سَيَحْلِفُونَ} فيها سرّ إعجازي من الله؛ لأن حرف «السين» هنا تدلنا على أنهم لم يحلفوا بعد، أي أن الآية نزلت وقُرئت وسمعها المؤمنون والمنافقون قبل أن يحلف المنافقون، وآيات القرآن تُتْلى وتُقرأ في الصلاة، ولا تتغير ولا تتبدل إلى يوم القيامة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5428 ولو كان للمنافقين قدرة على التدبر لما جاءوا وحلفوا. ولقالوا: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في قرآن يوحي إليه: إننا سنأتي ونحلف، ونحن لن نأتي ولن نحلف؛ ولكن لأن الله هو القائل وهو الخالق وهو الفاعل، فقد شاء أن تغيب الفطنة عن أذهانهم، مثلما قال سبحانه من قبل: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ... } [البقرة: 142] وهم قد قالوا ذلك بعد نزول الآية. والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ} والانقلاب معناه التحول من حال إلى حال. ومعنى الانقلاب في هذه الآية مقصود به العودة إلى المدينة مقر السلام والأمن بعد الحرب، فكأن الاعتدال في القتال والانقلاب في العودة إلى المدينة. ولكن لماذا سيحلف المنافقون بالله للمؤمنين؟ يقول الحق سبحانه: {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} أي: لتعرضوا عن توبيخهم ولومهم وتعنيفهم؛ لأنهم لم يجاهدوا معكم. فقال الحق: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} أي أعطوهم مطلوبهم من الإعراض ولكنه لون آخر من الإعراض، فلا تولموهم ولا توبخوهم ولا تؤثموهم، بل أعرضوا عنهم إعراض احتقار وإهانة، لا إعراض صفح ومغفرة؛ جزاءً لهم على ما فعلوا؛ لأن التأنيب والتوبيخ هما من ألوان الجزاء على المخالفة، ولكنه قد يحمل الأمل في المخالف ليعود إلى الصواب. فأنت إن لم يذهب ابنك إلى المدرسة مثلاً تُوبِّخه وتُعنِّفه، وأنت تفعل ذلك لأنك تأمل في أن ينصلح حاله، ولكن إذا استمر على مثل هذه الحال فأنت تهمله، والإهمال دليل على أنك فقدت الأمل في إصلاحه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5429 كذلك كان الأمر بالنسبة للمنافقين، لو أن التوبيخ والإهانة كانت ستجعلهم يفيقون ويعودون إلى حظيرة الإيمان، فهذا دليل على أن هناك أملاً في الإصلاح، وهم لن ينصلح حالهم، وهم في ذلك يختلفون عن المؤمنين، فالمؤمن إن ارتكب إثماً فهو يستحق العتاب والتوبيخ من إخوته في الإيمان، وفي هذا إيلام له. والمؤمن عرضة أن تصيبه غفلة فيرتكب إثماً، فإذا حدث بعد هذا الألم إيلام له من نفسه، أو بواسطة إخوانه المؤمنين، فهو يفيق ويشعر بالذنب، وشعوره بالذنب وصول إلى التوبة. أما هؤلاء المنافقون فلا ينفع معهم التوبيخ أو الإيلام النفسي؛ لأنهم لن يعودوا أبداً إلى حظيرة الإيمان، ولذلك جاء الأمر: فأعرضوا عنهم؛ لأنهم لا يستحقون - حتى - اللوم، فالتوبيخ جزاء على ذنب قد يُقلع عنه من ارتكبه. ولكن هؤلاء لا أمل فيهم، والعلة يأتي بها القرآن: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} والرجس يطلق على معان متعددة، وقوله: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي: هم الخباثة بذاتها، ويقول العلماء: أي أن فيهم خبثاً وقذارة. وأقول: إن الرجس هو القذارة نفسها، فلا نقول: إنهم قذرون؛ لأننا إن قلنا ذلك فالمعنى يفيد أنهم طُهُرٌ أصابهم قذر، وهم ليسوا كذلك، إنهم «قذر» في حد ذواتهم، ولا يطهرهم شيء؛ لأن الذي يخرج من القذارة يكون مثلها؛ فهم خباثة لا يطهرها لَوْم أو توبيخ. وأطلق الرجس هنا مثلما قال الحق: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ ... } [التوبة: 28] ولم يقل: «نجسون» بل هم أنفسهم نجس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5430 والرجس يطلق أيضاً على الشيء القذر حسيّاً؛ مثل الميتة، والحق سبحانه يقول: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ ... } [الأنعام: 145] إذن: فالميتة قذارة حسّية، كذلك الخمر التي يقول فيها الحق: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان ... } [المائدة: 90] فالخمر نفسها رجس، أي: قذارة حسّية، وعطف عليها الحق - سبحانه - الميسر والأنصاب، والأزلام؛ وأخذوا حكم الخمر، وهكذا نفهم أن الخمر رجس حسّي، بينما الأنصاب والأزلام والميسر رجس معنوي. وهناك أيضا الرجز، ويطلق على وسوسة الشيطان، فالحق يقول: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان ... } [الأنفال: 11] إذن: فالرجس له متعلقات؛ معناه الكفر، والكافر هو قذارة في حَدّ ذاته لا أنه إنسان أصابته قذارة. ويقول الحق: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} والمأوى: هو المكان الذي يؤويك من شر يلحقك، ويقال: «آوى إلى كذا» أي: هرب من شر يُراد به، فإذا كان المأوى الذي يفزعون إليه هو جهنم، فمعنى ذلك أنهم بحثوا عن منفذ فلم يجدوا منفذاً إلا أن يدخلوا جهنم، وهي بطبيعة الحال بئس المصير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5431 وهل ذلك افتئات عليهم أم جزاء؟ يقول الحق: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ونعرف أن الحسنة يقال عنها: «كسب» ، والسيئة يقال عنها «اكتسب» ، والحق هو القائل: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ... } [البقرة: 286] وذلك لأن عمل الحرام المخالف لمنهج الله لا بد أن يشوبه الافتعال، أما عمل الحلال فهو أمر فطري لا يكلف النفس مشقة، ولا تتنازع فيه مَلَكَات، لكن بعض الناس الذين يعملون السيئات يألفونها إلْفَاً بحيث تصبح سهلة؛ فلا تكلفهم شيئاً، ويعتبر الواحد منهم السيئة كسباً، كأن تأتي لإنسان، فيحدثك بمغامراته في الخارج، ويروي عن رحلاته في باريس ولندن، وما فعل فيهما من منكرات. هو يظن أنه يحكي عن مكاسب، ولا يعلم أنه يحكي عن مصائب وقع فيها باختياره. مثل هذا الإنسان يفعل السيئة، وهو معتاد عليها؛ فتصير كَسْباً. وهو عكس إنسان آخر وقعت عليه المعصية؛ فيظل يبكي ويبكي ويبكي، ويندم، وقد يضرب نفسه كلما تذكر المعصية، ويبدم عليها. فالأول فرح بخطاياه ومعاصيه واعتبرها كسباً وصارت له دُرْبة وله رياضة وله إلْفٌ بتلك المعاصي. وهنا يقول الحق سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5432 {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5433 والرضا هو اطمئنان القلب إلى أمر فيه نفعٌ؛ فحين أقول: أنا راضٍ بالشيء الفلاني، فمعنى هذا أن كمية النفع التي آخذها منه تكفيني. ومرحلة الإرضاء تختلف من إنسان إلى آخر، فقد ترضى أنت بنفع ما، وعند غيرك ما هو أحسن منه لكنه غير راضٍ، ويتميز المؤمن بأن كل ما يجري عليه من غير كسب منه، لا بد أن يرضى به؛ لأن مجريه رحيم. وقد تكون الرحمة لأمر لا يعلمه المؤمن الآن؛ فقد يُضَن عليه بمال؛ لأنه وقد تكون الرحمة لأمر لا يعلمه المؤمن الآن؛ فقد يُضَن عليه بمال؛ لأنه سبحانه لو زَوَّده بالمال فقد يبعثره على أولاده، ويصبح المال وسيلة انحرافهم، فالحق سبحانه يعطيه المال بقدر ما يطعم أولاده إلى أن يمر أبناؤه من فترة المراهقة، ثم ينعم ربنا عليه بالمال بعد أن وصل الأبناء إلى النضج، وضنَّ الحق على العبد أحياناً هو عين العطاء، ولذلك يقال: «إذا لم يكُنْ ما تريد، فَلْتُرِدْ ما يكون» . ولماذا يحلف المنافقون؟ وتأتي الإجابة من الحق: {لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} وماذا يحقق رضا المؤمنين لهؤلاء المنافقين؟ ثم هل للمؤمن رضاء من خلف رضاء رسول الله؟ وهل لرسول الله رضا من خلف رضاء ربه؟ إن ما يُفرح هو رضا مَنْ يملك النفع، فأنتم حين ترضون عنهم بعد أن يحلفوا لكم، وتقتنعوا ببشريتكم؛ فترضوا عنهم، فليس لكم رضا ينفعهم، ولا لرسول الله رضا من وراء رضا ربه، فالرضا الحق هنا هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5433 رضا الله، فإياكم أن يخدعوكم بمعسول الكلام، وزيف الأساليب؛ كي ترضوا عنهم. ثم يقول الحق: {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} . أي: إن تحقق هذا الرضا منكم عنهم، فهو رضاً بعيد عن رضا الله ورسوله، وليس من باطن رضا رسول الله، ولا من باطن رضا الله؛ بذلك يُنْهي الحق الآية بقوله: {فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} وإن لم يَرْضَ الله فرضاكم لن ينفعكم، وطلبهم الرضا منكم غباء منهم، فإن رضاكم عنهم لن يقدم، ولن يؤخر؛ إلا إن كان من باطن رضا الله، ورضا رسوله. وهنا ملحظ: هم فاسقون أم كافرون؟ نقول: إن الحق سبحانه أوضح لنا: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار ... } [النساء: 145] أي أن مكان المنافق في النار أسفل من مكان الكافر. وكيف يكون المنافق فاسقاً مع أن المؤمن قد يكون فاسقاً؟ فالمؤمن قد يفسق بأن يرتكب كبيرة من الكبائر، وسبحانه يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله ... } [المائدة: 38] فالمؤمن قد يسرق، وقد يزني أيضاً. فسبحانه يقول: {الزانية والزاني ... } [النور: 2] وما دام سبحانه قد جرّم الفعل، ووضع له عقوبة؛ فمن الممكن أت يرتكبه المؤمن، ولكن علينا أن نُفرِّق بين الفاسق والعاصي، فمن يرتكب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5434 الكبائر فهو فاسق، ومن يرتكب الصغائر فهو عاص. فكيف يصف الله المنافقين بالفسق؟ ولنذكر ما نقوله دائماً من أن الكفر، إنما هو كفر بمحمد وبالإسلام، والفسق إذا جاء مع الكفر فهو ليس فسق ارتكاب المعصية والإنسان على دين الإسلام، لكنه الخروج عن الطاعة حتى في الأديان التي يتبعها أي قوم، فالأديان كلها تضم قدراً من القيم، وأتباعها محاسبون على القيم التي في أديانهم، لكنهم أيضاً يفسقون عنها. ويقول الحق بعد ذلك: {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5435 وقد تكلم الحق من قبل في المنافقين من غير الأعراب، وهم العرب الذين نزل لهم وللناس كافة منهج الله، وهنا يتكلم سبحانه من الأعراب، فما الفرق بين العرب والإعراب؟ العرب هم سكان القرى المتوطنون في أماكن، يذهبون منها أو فيها إلى مصالحهم؛ ويأوون إليها؛ وهذه مظهرها البيوت الثابتة، والتأهيل المستقر، لكن الأعراب هم سكان البوادي، وليس لهم استقرار في مكان، إنما يتتبعون مواضع الكلأ؛ وليس لهم توطُّن، ولا أنس لهم بمقام ولا بمكان. ومعنى ذلك أن كلاّ منهم ليس له سياسة عامة تحكمه في تلك البادية، وكل واحد منهم - كما يقال - صوته من دماغه، أو من دماغ رئيس القبيلة، وما داموا بهذا الشكل، وليس عندهم توطن؛ يوحي بالمعاشرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5435 التي تقتضي لين الجانب وحسن التعامل؛ لذلك يقال عن كل واحد منهم «مستوحش» أي: ليس له ألفة بمكان أو جيران أو قانون عام. أما الذي يحيا في القرية ويتوطنها فله جيران، وله قانون يحكمه، وله إلف بالمكان، وإلف بالمكين، ويتعاون مع غيره، ويتطبع بسكان القرية ويألفهم ويألفونه ومع الإلف والائتلاف يكون اللين في التعامل، عكس من يحيا في البادية، فهو يمتلئ بالقسوة، والفظاظة، والشراسة؛ لأن بيئته نضحت عليه والوحدة عزلته. فإذا سمعت «أعراب» فاعلم أنهم سكان البادية المشهورون بالغلظة؛ لأنه لا يوجد لهم تجمع يوحي لهم بلطف سلوك، وأدب تعامل، وكلمة «الأعراب» مفردها «أعرابيّ» . وهناك أشياء الفرق بين مفردها وجمعها التاء، مثل «عنب» و «عنبة» هي المفرد، وقد يفرق بين الجمع والمفرد «ياء» مثل «روم» والمفرد «رومي» . ف «أعراب» - إذن - هي جمع «أعرابي» وليس جمع عرب. وهؤلاء مقسومون قسمين: قسم له إلف بالحضر؛ لأن كل أهل حضر قد يكون لهم بادية يلجأون إليها، أي أن الأعرابي حين يذهب إلى البادية فهو ينزل ضيفاً عليهم، ويسمون «المعارف» ، وكل واحد في البادية قد يكون له واحد في الحضر، إذا اضطر للذهاب للمدينة أو للقرية فهو ينزل عنده. وهناك قسم آخر لا بادية لهم ولا حاضرة. وبعد أن تكلم الحق عن العرب ونفاقهم، يتكلم هنا عن الأعراب فيقول: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5436 {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ولماذا هم أشد كفراً ونفاقاً؟ لأنهم بعيدون عن مواطن العلم والدعوة، وعندهم غِلْظة، وعندهم جفاء، وقوله سبحانه: {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ} يعني: أحق ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله؛ لأن عرفان حدود ما أنزل الله من الأوامر والنواهي، والحلال والحرام، يأتي من التواصل مع العلم، وهذا لا يتأتَّى بالتنقل من مكان إلى آخر، بل لا بد من الاستقرار. والعلم - كما نعرف - ألا تغيب عن العالم قضية من قضايا الكون؛ وكل واحد منا يعلم علماً على قدر تجربته ومراسه في الحياة، وعلى قدر جلوسه إلى العلماء، لكن الله وحده لا يعلم علم الجميع. والعلم عند البشر قد يوظِّف، وقد لا يوظِّف، وكثير من الناس عندهم العلم لكنهم لا يوظِّفونه، ومن لا يوظِّف علمه يصير علمه حُجة عليه. أما من يُوظِّف علمه، ويضع الأمر في محله، والنهي في محله، والحلال في محله، والحرام في محله، والمشتبه يضع له حكماً مناسباً، فهو يوصف بالحكيم؛ لأنه وضع كل شيء في محله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5437 فإذا شرع الله أمراً، فسبحانه قد شرع عن «علم» وعن «حكمة» ، وما دام قد شرع يجب ألا نخالفه؛ لأن كل تشريع ينزله الله على رسوله إنما هو لتنظيم حركة الحياة؛ لأنه سبحانه هو الذي خلق الحياة وخلق كل المخلوقات، وإياك أن تدس أنت أنفك فتشرِّع ما يغضب الحق؛ لأن فساد الكون كله قد جاء من الذين أرادوا أن يُقِّننوا للخلق، رغم أنهم لم يخلقوهم. ونقول لهم: دعوا التقنين للخلق لمن خلق الخلق، فهو الصانع العالم بحدود ما صنع ووضع قوانين صيانة ما خلق، وهو سبحانه هو الذي يمكنه أن يصلحها إن أصابها عطب أو فساد. ومن هؤلاء الأعراب - الذين هم أشد كفاراً ونفاقاً، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله - قوم آخرون يقول عنهم الحق: {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5438 وعلى سبيل المثال: إذا ذهب إليهم داعية من الدعاة، وقال لهم فكرة عن الإسلام. فالواحد من هؤلاء الأعراب يدَّعي في ظاهر الأمر أنه يتبع الإسلام، وإن عُلِمَ أن في الإسلام زكاة فهو يعطي عامل الزكاة النصاب المقرر عليه، ويعتبر ما دفعه «مغرما» أي غرامة؛ لأنه أعطى النصاب وهو كاره. وما دُمْتُ كارهاً فأنت لا تؤمن بحكمته، وتظن أن ما دفعته مأخوذ منك. وتقول: «أخذوا عرقي» و «أخذوا ناتج حركتي» وأعطوه لمن لم يعرق ولم يتحرك في الحياة، متناسياً أن هذا الأخذ هو تأمين لحياتك؛ لأنك حين تعجز ستجد من يعطيك، والإسلام يأخذ منك وأنت قادر، ويعطيك إذا عجزت، وفي هذا تأمين لحياتك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5438 وأنت تعلم أن الأشياء أعراض في الكون؛ القوة عرض، والمرض عرض، والصحة عرض، والعجز عرض، وأنت عُرْضة إن كنت قادراً أن تصير عاجزاً، وإن كنت صحيح الجسد فأنت عرضة لأن تمرض، فإذا ما طمأنك المشرع على أن أخاك العاجز حين عجز أخذنا منك له حين قدرت؛ وبذلك تواجه أنت الحياة برصيد قوي من الإيمان والشجاعة، ويبين الحق لك أنك لا تعيش وحدك، ولكنك تعيش في مجتمع متكافل، إن أصابك شيء من عجز، فقدرة الباقي هي المرجع لك. وكان الواحد من هؤلاء الأعراب يؤدي نصاب الزكاة وهو كاره ويعتبرها مَغْرماً، ومنهم من كان يتمنى أن تصيب المسلمين كارثة؛ حتى لا يأخذوا منه الزكاة، وهكذا كان الواحد منهم يتربص بالمسلمين الدوائر، مصداقاً لقول الحق: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} . أي يتمنى وينتظر أن يصيب الملسمين كارثة؛ فلا يأخذوا منه الزكاة التي اعتبرها مغرماً. ولماذا قال الحق: {الدوائر} ؟ نعلم أن الخطْبَ الشديد حين يصيب الإنسان أو القوم إن كان فظيعاً وقويّاً يقال: «دارت عليهم الدوائر» . أي أن المصيبة أحاطت بهم؛ فلا منفذ لهم يخرجون منه، وكان بعض من الأعراب يتربصون بالمسلمين الدوائر؛ لأنهم كارهون لدفع الزكاة ويظنون أنها غرامة، ولا يستوعبون أن الزكاة تُكْتب في الميزان، وأنها تطهير ونماء للمال، وأنها حمل لعجز العاجز، إن عجز الواحد منهم؛ فسوف يجد من يحمله. والذي يتربص بكم الدوائر، ولا يفطن إلى حكمة الأخذ منه، هو الذي تأتي عليه دائرة السوء مصداقاً لقوله الحق: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ؛ لأن أيّاً منهم لم يفطن وينتبه لقيمة الوجود في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5439 المجتمع الإيماني الذي يعطي له الزكاة إن عجز، فإن تربصت الدائرة بمن يأخذ منك، ولم تفطن إلى أن من يأخذ منك يصح أن يأخذ من الغير لك؛ فسوف تأتي الدائرة عليك. وقوله الحق: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} تبدو كأنها دعوة، ومن الذي يدعو؟ إنه الله. وهناك فرق بين أن يدعو غير قادر، وبين أن يدعو قادراً. إن كان ربنا هو من يقول: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} ، فدائرة السوء قادمة لهم لا محالة. وينهي الحق الآية: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، فسبحانه يسمع كلماتهم حين يأتي عامل الزكاة ليأخذ نصاب الزكاة، وكيف كانوا يستقبلونه بما يكره، وقد يكرهون في طي نفوسهم ولا يتكلمون، فإن تكلموا فالله سميع، وإن لم يتكلموا، وكتموا الكراهية في قلوبهم، فالله عليم، إذن: فهم محاصرون بعلم الله وسمعه. وبعد ذلك جاء الحق سبحانه للصنف الثاني، وهم من لهم قليل من الإلف، فإن كان من أهل البادية فله أهل من الحضر، أو كان من الحضر فله أهل من البادية فيقول سبحانه: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5440 ومن هؤلاء من يؤمن بالله، ويؤمن باليوم الآخر، وما ينفقه من زكاة أو صدقة فهو يتخذه قربى إلى الله الذي آمن به، وكنزاً له في اليوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5440 الآخر، و «قربى» : أي: شيء يقربه إلى الله؛ يدخره له في اليوم الآخر، وقوله الحق: {وَصَلَوَاتِ الرسول} أي: يجعل ما ينفق قربة إلى الله وكذلك طلباً لدعاء الرسول؛ لأن الصلاة في الأصل هي الدعاء، فساعة يصل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نفقة للمسلمين الضعاف ممن يعتبرها قربة، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو له. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهم اغفر لآل أبي أوفى، وبارك لهم» وقد دعا بذلك حين جاء له ما تزكى وتصدق به بنو أبي أوفى، ودعوة الرسول مجابة إلا ما قال الله إنه سبحانه لا يجيبه لحكمة. ولقائل أن يقول ألا يعلم من يقدم الزكاة والصدقة قربى، أنه سبحانه غير مستفيد من هذا الحمل؟ ألا يعلم أنها قربى له شخصيّاً؟ نعم إنه يعلم، ويعلم أن الله يثيبه على أمر ينتفع به الفقراء، وفي هذه إشارة إلى أن كل تكليف من الله إنما يعود نفعه إلى المكلَّف لا إلى المكلِّف. وما دام العائد إلى المكلَّف؛ فالله يدعو لصالح ذاتك وإلى خير لك. ومن اعتبرها قربى إلى الله يأت لهم القول الحق: {ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ} وقد قال ذلك للأعراب الذين أنفقوا قربى لله، وطمعاً في دعوات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأوضح لهم سبحانه أنها قربى لهم؛ لأنهم المنتفعون بها، وأنه سيدخلهم في رحمته. ورحمة الله هي نعيم مقيم، وهي دائمة وباقية ببقاء الله الذي لا يُحَدّ، أما الجنة فباقية وخالدة. بإبقاء الله لها. إذن: فدخولك في رحمة الله أعلى من دخولك جنته. فحين يقال: «دخل في الرحمة» فمعنى ذلك أن الرحمة ستظله إلى ما لا نهاية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5441 وحينما يسمع أي أعرابي قول الحق: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله وَصَلَوَاتِ الرسول ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ} ؛ فعندما سمع الأعرابي هذه الآية جلس يحدث نفسه بالعطاءات الإلهية. فيكبح جماح خطرات السوء في نفسه، أو بالزلات أو بالهفوات التي قد ينطق بها، وقد يقول الأعرابي لنفسه: إني أخاف ألا يغفر الله الخطرات أو السيئات والهفوات، فتأتي الآية مظمئنة له ما دام قد فعل السيئة بغفلة أو بسهو، وعليه أن يعلم أن الله غفور رحيم، ولا داعي أن يعكر على نفسه بالظن بأنه لن يدخل في رحمة الله. لذلك جاء سبحانه بالقول: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لعل واحداً ممن يسمع هذا؛ يظن أن الجزاء والقربى والدخول في رحمة الله خاصٌّ بمن لم يذنب ذلك أبداً، فيوضح له القول: اطمئن. إن كنت قد حصلت منك هفوة أو غفلة، فاعلم أن الله غفور رحيم، فلا يعكر عليك ذنبك إيمانك بأنك سوف تدخل في رحمة الله. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {والسابقون الأولون ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5442 و «السابق» هو الذي حصل منه الفعل - بصدد ما هو فيه - قبل غيره، وكلنا والحمد لله مؤمنون، ومن أمنوا أولاً، ومن آمنوا بعد ذلك كلهم مؤمنون، لكنْ هناك أناس سبقوا إلى الإيمان، فهل كان سبقهم سبق زمان أم سبق اتباع؟ إن سبق الزمان يتحدد في الذين عاصروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإن ظن ظان أن المقصود بالسابقين هم الذين سبقونا سبق زمان، فقد يقول منا قائل: وما ذنبنا نحن وقد جئنا بعد زمانهم؟ ولذلك نقول: إنما السبق يعتبر من معاصر، أي: كان معهم أناس غيرهم وهم سبقوهم؛ ولذلك جاء القول: {مِنَ المهاجرين} ونعلم أن الذين هاجروا مع الرسول لم يكن كل مسلمي مكة، وجاء قوله: {مِنَ المهاجرين والأنصار} وأيضاً لم يكن كل الأنصار من أهل المدينة هم من السابقين. وينحصر المعنى في الذين سبقوا إلى الإيمان في مكة، وسبقوا إلى النصرة في المدينة، هؤلاء هم {السابقون} . وفي سورة الواقعة يقول الحق: {والسابقون السابقون أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم} [الواقعة: 10 - 12] ثم يأتي من بعدهم في المرتبة: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] ثم يحدد الحق هؤلاء فيقول: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} [الواقعة: 13 - 14] ولذلك حينما يأتي من يقول: لن يستطيع واحد من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تأخر عن عصر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يصل إلى منزلة الصحابة؛ لأن الله قال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5443 {والسابقون} ، نقول له: لا، بل افطن إلى بقية قوله سبحانه: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} ، وهذا دليل على أن بعضاً من الذين جاءوا بعد زمان رسول الله صلى الله عليه سينالون المرتبة الرفيعة، وهكذا لم يمنع الحق أن يكون من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سينالون المرتبة الرفيعة، وهكذا لم يمنع الحق أن يكون من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن تقوم الساعة مَنْ يصل إلى منزلة الصحابة. وقد طمأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الناس الذين لم يدركوا عهده حين قال: «وددت أنِّي لقيت إخواني» . فقال أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أو ليس نحن إخوانك؟ . قال: «أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني» وهذا قول صادق من المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن منا من تنحصر أمنيته في أن يحُجَّ ويزور القبر الشريف. ويضيف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في وصف أحبابه: «عمل الواحد منهم كخمسين» . قالوا: منهم يا رسول الله أم مِنَّا؟ قال: بل منكم؛ لأنكم تجدون على الخير أعواناً، وهم لا يجدون على الخير أعواناً « وهذا ما يحدث في زماننا بالفعل. ولكن من هم السَّابِقُونَ المقصودون في الآية التي نحن بصددها؟ {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين} ونعلم أن السابقين من المهاجرين هم أهل بدر، الذين دخلوا أول معركة في الإسلام، مع أنهم خرجوا من المدينة، لا ليشهدوا حرباً، ولكن ليعترضوا عيراً تحمل بضائع، ويرجعوا بالغنائم. ومع ذلك دخلوا الحرب، لا مع القوافل التي ضمَّتْ العير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5444 والحراس والرعاة، ولكن دخلوا الحرب مع النفير، وهم من جاءوا ونفروا من مكة، وهم صناديد قريش. وهكذا كانت منزلة أهل بدر، أنهم من سبقوا إلى الجهاد في أول معركة للإسلام. «ولذلك حين وشى حاطب بن أبي بلتعة بغزوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى مكة، فجاء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال له: ما الذي حملك على هذا؟ وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد أن يفتح مكة دون أن يعلم أحد؛ حتى لا يقاتل المسلمون القادمون بعضاً من المؤمنين الموجودين في مكة ولم يعرفهم أحد؛ لذلك أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المفاجأة في الفتح؛ حتى تهبط الشراسة الكفرية، لكن حاطب بن أبي بلتعة كتب خطاباً إلى بعض أهل قريش، فأخبر الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ومن معه: اذهب إلى مكان اسمه» روضة خاخ «في الطريق بين مكة والمدينة، فستجد ظعينة (مسافرة) معها كتاب إلى أهل مكة، خبأته في عقيصتها. فلما ذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومن معه يبحثون عن المرأة في الموضع الذي ذكره لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجدوا المرأة ولكنها أنكرت أن معها كتاباً، فهددوها؛ فأخرجته من عقيصتها؛ فوجده من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من مشركي قريش. وعاد به إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأحضر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حاطبا، وقال له: ما حملك على هذا يا حاطب؟ قال له: يا رسول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5445 الله: أنا لصيق بقريش ولي فيها أهل ومال، وليس لي بها غزوة؛ فأردت أن أتخذ يداً عند قريش يعرفونها لي؛ فيحافظوا على أهلي وعلى مالي، وعرفت أن ذلك لا يضرك شيئاً وأن الله ناصرك. وما فعلته ينفعني ولا يضرك، قال: صدقت. وأراد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن ينزل عله بسيفه، فقال النبي صلى الله عيله وسلم:» إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطّلَع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم « لأن أهل بدر دخلوا المعركة بدون عُدَّة، وبدون استعداد، ومع ذلك هانت نفوسهم عليهم، فكأن الله قال: أنتم عملتم ما عليكم، وقد غفرت لكم ما تفعلونه من السيئات. إذن: فالسابقون من المهاجرين هم أهل بدر وأهل الحديبية، وهم أهل بيعة الرضوان الذين رُدُّوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن العمرة، ثم عقد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع القرشيين المعاهدة. والسابقون من الأنصار هم من جاءوا للنبي في مكة، وأعطوا له العزوة وأعطوا له الأمان والعهد، وكانوا اثني عشر في بيعة العقبة الأولى، وخمسة وسبعين في العقبة الثانية. هؤلاء هم السابقون، وأضاف الحق إليهم {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} أي: من يأتي من بعدهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5446 وسيدنا عمر له وقفة في هذه الآية، فقد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقرأها هكذا: «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار» أي: يعطف كلمة الأنصار على «السابقون» وكانت قد نزلت: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} ويكمل سيدنا عمر بعد «والأنصار» «الذين اتبعوهم بإحسان» أي: أنه جَعل «الذين ابتعوهم» صفة للأنصار. وجاء زيد بن ثابت ليقول لسيدنا عمر: «قرأناها على غير هذا الوجه يا ابن الخطاب» . قال: فماذا؟ قال: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم} . فقال عمر: ابعث إلى أبيّ بن كعب، وكان ابن كعب حجة في القرآن فقال أبيّ: هكذا سمعتها - كا قال زيد - من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنت تبيع القَرَظ في البقيع. أي أن أبيّ بن كعب كان ملازماً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينما عمر يبيع القرظ، فضحك عمر وقال: لو قلت شَهِدت أنت وغِبْنا نحن، وقرأها عمر من بعد ذلك كما نزلت. {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} خصوصاً أن سيدنا أبيّاً البصير بالقرآن جاء بأكثر من دليل من غير هذه الآية فقد قال الحق: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ... } [الجمعة: 3] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5447 وقوله الحق في سورة الحشر: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان ... } [الحشر: 10] وهي معطوفة أيضاً. وهنا في الآية التي نحن بصددها يقول الحق: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 100] وفي هذا القول ما يطمئن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يَأتِ لنا فقط بخبر الفئة السيئة من المنافقين من العرب، والمنافقين من الأعراب، ولكنه أوضح لنا أن هناك أناساً وصلوا لنا جمال هذا الإيمان. ويقول الحق بعد ذلك: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5448 أوضح سبحانه: وطِّنوا أنفسكم على أن من حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون، وهذا التوطين يعطي مناعة اليقظة؛ حتى لا يندس واحد من المنافقين على أصحاب الغفلة الطيبين من المؤمنين، فينبههم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5448 الحق: انتبهوا فأنتم تعيشون في مجتمع محاط بالمنافقين. والتطعيم ضد الداءات التي تصيب الأمم وسيلة من وسائل محاربة العدو، ونحن نفعل ذلك ماديّاً حين نسمع عن قرب انتشار وباء؛ فنأخذ المصل الواقي منه، رغم أنه داء إلا أنه يعطينا مناعة ضد المرض. وهكذا يربي الحق المناعة بحيث لا يمكن أن يُهاجَم المؤمنون عن غفلة، فيقول: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق} و «مرد» يمرد أي: تدرب وتمرن، ويبقى الأمر عند حرفة، وكأن الواحد منهم يجيد النفاق إجادة تامة. وكل ذلك ليوجد مناعة في الأمة الإسلامية؛ حتى يكون المؤمن على بصيرة في مواجهة أي شيء، فإذا رأى أي سلوك فيه نفاق اكتشفه على الفور. واليقظة تدفع عنك الضر، ولا تمنع عنك الخير. وافرض أن واحداً قال لك: إن هذا الطريق مَخُوف لا تمشِ فيه وحدك بالليل. ثم جاء آخر وقال: إنه طريق آمن ومشينا فيه ولم يحدث شيء، فلو أنك احتطْتَ وأخذت معك سلاحاً أو رفيقاً فقد استعددت للشر لتتوقاه، فَهَبْ أنه لم يحدث شيء، فما الذي خسرته؟ إنك لن تخسر شيئاً. وهذه قضية منطقية فلسفية يُردّ بها على الذين يشككون في دين الله، مثل المنجِّمين، ومَن يدَّعون الفلسفة، ويزعمون أنه لا يوجد حساب ولا حشر ولا يوم آخر، فيقول الشاعر: زَعَم المنجِّم والطِّيبُ كلاهما ... لا تُحْشَرُ الأجسَاد قلْتُ إليكُمَا إنْ صَحَّ قولكُمَا فَلسْتُ بخَاسرٍ ... أوْ صَحَّ قَوْلِي فَالخسَار عليكُما أي: إن كان كلامكم صحيحاً من أنه لا يوجد بعث - والعياذ بالله - فلن أخسر شيئاً؛ لأني أعمل الأعمال الطيبة. وإن كان هناك بعث - وهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5449 حق - فسوف ألقى الجزاء في الجنة؛ وبذلك لم أخسر، بل كسبت. لكن افرضوا أنكم عملتم الشر كله وجاء البعث فأنتم الخاسرون. والقضية الفلسفية المنطقية هنا هي: إن لم أكسب فلن أخسر، وأنتم إن لم تخسروا فلن تكسبوا. والحق في هذه الآية يقول: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق. .} وكلمة {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} تفيد أنكم محاصرون، لا ممن حولكم فقط، بل أيضاً ببعض من الموجودين بينكم في المدينة، وهم من تدربوا على النفاق حتى صارت لهم ألفة به. وهذه الآيات - كما نعلم - قد نزلت تحكي حال المنافقين. والنفاق تتعارض في ملكات النفس الإنسانية بأن توجد ملكة كفر في القلب، بينما توجد ملكة إيمان في اللسان، فلا يتفق اللسان مع القلب، فالذين آمنوا يوافق ما ينطقون به ما في قلوبهم، والذين كفروا وافقت قلوبهم ألسنتهم. أما الصنف الثالث: وهم الذين نطقوا بالإيمان بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، فهؤلاء المنافقون. وهو لفظ مأخوذ من «نافقاء اليربوع» وهو حيوان صحراوي يشبه الفأر، ويخدع من يريد صيده، فيجعل لبيته أو جحره عدة فجوات، فإذا طارده حيوان أو إنسان يدخل من فجوة، فيتوهم الصائد أنه سيخرج منها، ويبقى منتظراً خروجه، بينما يخرج اليربوع من فجوة أخرى، فكأنه خادع الصائد، فالصائد يظن أن للجحر باباً واحداً، ولكن الحقيقة أن للجحر أكثر من مدخل ومخرج. والنفاق بهذه الصورة فيه ظاهرتان: ظاهرة مَرَضيّة في المنافق، وظاهرة صحية في المنافَق؛ ولذلك لم ينشأ النفاق في مكة، وإنما نشأ في المدينة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5450 ومن العجيب أن ينشأ النفاق في المدينة التي آوت الإسلام وانتشر منها، وانساح إلى الدنيا كلها، ولم يظهر في مكة التي أرادت أن تطمس الإسلام، وحارب سادتُها وصناديدُها الدعوةَ. إذن: فلا بد أن نأخذ من النفاق ظاهرتين: الظاهرة الأولى وهي الظاهرة المرضيّة، حيث قال الحق: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً ... } [البقرة: 10] أما الظاهرة الثانية فهي الظاهرة الصحية، فقد أصبح الإسلام قويّاً بالمدينة غيره عند بدء الدعوة في مكة. إنما يُنَافَق القوي؛ لأن المنافق يريد أن ينتفع بقوة القوى، كما أن المنافق يعرف أنه لن يستطيع مواجهة القوي، أو أن يقف منه موقف العداء الظاهر. إذن: فالنفاق حين يظهر، إنما يظهر في مجالات القوة، لا في مجالات الضعف، فالرجل الضعيف لا ينافقه أحد، والرجل القوي ينافقه الناس. إذن: فالنفاق ظاهرة مرضية بالنسبة للمنافق، وظاهرة صحية في المنافَق. وأراد الحق سبحانه أن يكشف للمؤمنين أمر المنافقين الذين يتلصصون عليهم، أي: يتخذون مسلك اللصوص؛ في أنهم لا يُواجهون إلا في الظلام، ويحاولون أن يدخلوا من مداخل لا يراهم منها أحد، ويتلمَّسون تلك المداخل التي لا تظهر، ويُخْفون غير ما يظهرون. أما مواجهة الكافر فهي مسألة واضحة، صريحة؛ فهو يعلن ما يبطن، ويواجهك بالعداء. وأنت تواجهه بجميع قوتك وكل تفكيرك؛ لأنه واضح الحركة. أما المنافق الذي يُظهر الإيمان وفي قلبه الكفر، فهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5451 يتلصص عليك، وعليك أن تحتاط لمداخله؛ لأنه ينتظر اللحظة التي يطعنك فيها من الخلف. وينبهنا الحق إلى ضرورة الاحتياط، وأن يمتلك المؤمنون الفطنة والفراسة وصدق النظر إلى الأشياء، فكشف لنا سبحانه كل أوجه النفاق؛ كشف منافقي المدينة حيث يوجد منافقون وغير منافقين، ومنافقي الأعراب الذين يوجد بينهم منافقون وغير منافقين، وعَلّم الحق سبحانه المؤمنين كيف يتعرفون على المنافقين بالمظاهر التي تكشف ما يدور في صدورهم. وسبحانه القائل عن المنافقين: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول ... } [محمد: 30] ولكنْ هناك لون من النفاق، نفاق فني دقيق، يغيب على فطنة المتفطن، وعلى كياسته. ولذلك يوضح لنا سبحانه: أنا لا أكلُكم إلى فطنتكم لتعلموا المنافقين، وإنما أنا أعلمه وأنتم لا تعلمونه؛ لأنهم قد برعوا في النفاق {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} ورغم فطنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكياسته فقد أوضح له الحق أنه سيغيب عنه أمرهم؛ لأنهم احتاطوا بفنيّة النفاق فيهم حتى لا يظهر. لقد عبّر القرآن التعبير الدقيق، فقال: {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} والمادة نفسها في كلمة {مَرَدُواْ} هي من مرد، يمرد، مروداً، ومارداً، ومريداً، هذه المادة تصف الشيء الناعم الأملس الذي لا تظهر فيه نتوءات، ومنه الشاب الأمرد، يعني الذي لم ينبت له شعر يخترق بشرته، إذن: المادة كلها تدل على الثبات على شيء، وعدم وجود شيء فيه يخدش هذا الثبات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5452 ويوضح سبحانه: تنبَّهوا، فممَّن حولكم من الأعراب منافقون، وقوله الحق: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} يشعر بأنهم محاطون بالنفاق، ولماذا يحاطون بالنفاق؟ لأن الدعوات الإيمانية لا تظهر إلا إذا طمّ الفساد في بيئة. ونعلم أن الحق قد جعل في النفس أشياء تطرد الباطل، وإن الحّ الباطل عليها فترة، تتنبه النفس إليه وتطرده. وهؤلاء هم الذين يتوبون، يقترفون الذنب ثم ترجع إليهم نفوسهم الإيمانية فتردعهم. إذن: فالردع إما أن يكون ذاتيّاً في النفس، وإما أن يكون من المجتمع للنفس التي لا يأتيها الردع من الذات، فهي نفس أمَّارة بالسوء، وهي لا تأمر بالسوء مرة وتنتهي، بل هي أمّارة به، أي: اتخذت الأمر بالسوء حرفة؛ لأن صيغة «فعّال» تدلنا على المزاولة والمداومة. وإذا كانت المناعة في النفس فهذا أمر يسير ويأتي من النفس اللوامة، وقد يكون المجتمع الذي حول الإنسان هو الذي يردع النفس إن ضعفت في شيء. وبهذا تكون المناعة رادعاً ذاتيّاً، ولا المجتمع فيه رادع؛ هنا لا بد أن تتدخل السماء، وتأتي دعوة الحق بآياتها، وبيناتها، ومعجزة الرسول. هنا يقف أصحاب الفساد - وتكون نفوسهم أمّارة بالسوء - موقفاً ينافقون به القوة الطارئة الجديدة، بينما تظل نفوسهم أمّارة بالسوء - موقفاً ينافقون به القوة الطارئة الجديدة، بينما تظل نفوسهم أمّارة بالسوء، فتظهر ظاهرة النفاق. وقوله الحق: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة} أي أنكم مطوقون في ذاتكم ومن حولكم، فالنفاق في ذات المكان الذي تقيمون فيه، وفيما حولكم أيضاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5453 وأخشى ما يخشاه الإنسان، أن يوجد الأمر الضار حوله وفيه؛ لأنه إن كان الأمر الضار في المكان الذي يعيش فيه، فمن حوله يستطيعون إنقاذه أو يستطيع هو أن يهجر المكان، لكن إذا كان محاصراً بالضرر ممن حوله ومن المكان الذي يحيا فيه، فإلى أين يذهب؟ ويريد سبحانه أن ينبه المؤمنين إلى أن ظاهرة النفاق متفشية؛ منها ما تستطيعون - أيها المؤمنون - معرفته بمعرفة حركات المنافقين وسكناتهم ولحن قولهم وتصرفاتهم، ومنها أمر دقيق خفي لا تعلمونه، ولكنه سبحانه يعلمه؛ ولأنكم غير مسلمين لأنفسكم، ولكم رب يعلمكم ما لا تعلمون فاطمئنوا؛ فسوف يفضحهم لكم. ونتيجة هذا العلم أنكم سترون فيهم العقوبات؛ فيأتي فيهم القول الحق: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} . هم إذن سيعذبون مرتين في الدنيا، ثم يردون لعذاب الآخرة، وأول عذاب لمن يستر نفاقه أن يفضح نفاقه؛ ولذلك خطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «قم يا فلان فأنت منافق، قم يا فلان فأنت منافق، قم يا فلان فأنت منافق» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5454 أو تأتي له مصائب الدنيا. ولقائل أن يقول: وهل المصائب عذاب للمنافق، إن المصائب قد تصيب المؤمن أيضاً؟ ونرد: إن المصائب تاتي للمؤمن لإفادته، ولكنها تأتي للمنافق لإبادته. فالمؤمن حين يصاب؛ إما أن يكفر الله به عنه ذنباً؛ وإما أن يرفعه درجة به لكن المصائب حين تصيب المنافق فهي مغرم فقط؛ لأن المنافق لا يرجو الآخرة؛ ولذلك يقال: إن المصاب ليس من أصيب فيما يجب، ولكن المصاب هو من حرم الثواب. فإن استقبل المؤمن المصيبة بالرضا، وعلم أن الذي أجراها عليه حكيم، ولا يجري عليه إلا ما يعلم الخير وإن لم يعلمه؛ فهو ينال الثواب على الصبر والأجر على الرضا، وهكذا يخرج من دائرة الألم العنيف. أما غير المؤمن فهو يتمرد على القدر، وبعدم إيمانه يُحْرَم من الثواب. أو أن العذاب مرتين، وغير الفضيحة بنفاقهم، فيتمثل في محاولتهم أن يظهروا بمظهر الإيمان والإسلام، فيخرج الواحد منهم الزكاة من ماله، والمال محبب للنفس؛ لذلك فهو يخرج الزكاة مرغماً؛ ويشعر أنه قد خسر المال لأنه لا يؤمن بإله؛ لذلك فمصيبته كبيرة. وقد يرسل المنافق ابنه للحرب وهو يعلم أنه ليس له في ذلك ثواب، وهذا لون آخر من العذاب. وهذا العذاب متحقق بقول الحق: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا ... } [التوبة: 85] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5455 أو أن يكون العذاب في الدنيا هو ما يرونه حين تغرغر النفس، لحظة أن تبلغ الروح الحلقوم، ويرى المُغَرْغِر الملائكة مصداقاً لقوله الحق: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الأنفال: 50] وكل هذه ألوان من العذاب في الدنيا. والإنسان - كما نعلم - في استقبال الزمن له ثلاث حالات: زمن هو حياته الدنيا، وزمن هو زمن موته، وزمن هو زمن آخرته. فحين يصاب المؤمن في الزمن الأول - زمن حياته - يُعزِّيه في مصابه الزمنُ الأخير، وهو زمن آخرته. أما حين يصاب الكافر أو المنافق في زمن حياته، فلا شيء يعزيه أبداً؛ لأنه لا يؤمن بالله ولا هو يطمع في شيء من خيره سبحانه. ويأتيه الزمن الثاني، وهو زمن الموت، وفيه عذاب القبر. والعذاب إنما يكون بأحد اثنين: إما عرض ما يعذب به، أو دخول فيما يعذب به، وهذا يكون في الآخرة. أما عرض العذاب فهو القبر كأنه يقول لك: انظر ما ينتظرك. وما دام الإنسان يرى الشر الذي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5456 ينتظره، أليس هذا عذاباً؟ إنه عذاب مؤكد. {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} ولو قال الحق: «نعذبهم مرتين» فقط بدون السين، لصار لها معنى آخر مختلف تماماً. يتلخص في أن من يصيبه عذاب، فقد انتهى حسابه. لكن قوله: {سَنُعَذِّبُهُم} يؤكد لنا كلما قرأناه أن العذاب متصل. ويُنهي الحق الآية الكريمة بقوله: {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} وكلمة {يُرَدُّونَ} مثلها مثل {يُرْجعون} أو {يَرْجعون} ونحن نقول مرة: «يُرْجعون» وأخرى «يَرْجعون» ، فكأن النفس البشرية تألف جزاءها في قولنا: «يَرْجعون» ، أما قولنا: «يُرْجعون» ففي الكلمة قوة عليا تدفعهم ألا يتقاعسوا. وهكذا نجد المعذَّب إما مدفوع بقوة عُليا، وإما أن توجد فيه بقوة ذاتية تجعله يذهب إلى العذاب. والإنسان قد يتصرف تصرفاً ما، ثم يرد إلى أفكاره فلا يعجبه هذا التصرف، ويستقبل نفسه بالتوبيخ وبالتعنيف؛ لأن هناك إلحاحاً من النفس على العقوبة، وهو إلحاح يأتي من ذات النفس. والنفس الأمارة بالسوء قد تقضي حياتك معها في أمر بالسوء، ثم حين يأتي العقاب فأنت تقول لها: «اشربي أيتها النفس نتيجة ما فعلت» . إذن فالمعذَّب يُدفع مرة للعذاب، وأخرى يندفع بذاته. {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} ومثلما قلنا من قبل: فإن هناك ألواناً متعددة من العذاب، فهناك العذاب العظيم، والأليم، والمهين، والمقيم. والعذاب العظيم يأتي إما بأسباب وإما بمسبِّب، وعذاب الدنيا كله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5457 بأسباب، فقد يكون العذاب بالعصا، أو بالكرباج، أو بالإهانة، والأسباب تختلف قوة وضعفاً، أما عذاب الآخرة فهو بمسبِّب، والمعذِّب في الآخرة واحد وقوته لا نهاية لها، وإن قسْتَ عذاب الآخرة بالعذاب في الدنيا فمن المؤكد أن عذاب الآخرة عذاب عَظيم. ويقول الحق من بعد ذلك: {وَآخَرُونَ اعترفوا ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5458 وقوله الحق: {وَآخَرُونَ} معطوفة على قوله: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق} ، فهل يظلون جميعاً على النفاق، أم أن منهم من يثوب إلى رشده؛ ليجد أن موقفه مخز حتى أمام نفسه؟ لأن أول ما ينحط المنافق إنما ينحظ أمام نفسه؛ لأنه نافق ولم يقدر على المواجهة، واعتبر نفسه دون من يواجهه؛ فيحتقر نفسه، ولا بد أن منهم من يأنف من هذا الموقف، ويرغب في حسم المسألة: إما أن يؤمن وإما أن يكفر، ثم يرجح الإيمان، ويتخلص من النفاق؛ بأن يعترف بذنوبه. وبذلك يصبح ممن يقول الحق عنهم: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} أي: ممن لم يُصرّوا على النفاق، واعترفوا بذنوبهم، والاعتراف لون من الإقرار. والإقرار بالذنب أنواع، فهناك من يقر بالذنب إفاقة، وآخر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5458 يقر الذنب في صفاقة، مثلما تقول لواحد: هل ضربت فلاناً؟ فيقول: نعم ضربته، أي أنه اعترف بذنبه، وقد يضيف: وسأضرب من يدافع عنه أيضاً، وهذا اعتراف فيه صفاقة. أما من يعترف اعتراف إفاقة، فهو يقر بأنه ارتكب الذنب ويطلب الصفح عنه، وهذا هو الاعتراف المقبول عند الله. وهم قد {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} اعتراف إفاقة، بدليل أن الله قال فيهم: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} وعملهم الصالح هنا هو إقرارهم بالذنب ومعرفتهم أن فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، أما عملهم السيء فهو التخلف عن الجهاد والإنفاق. واعترافهم هذا هو اعتراف الإفاقة، واختلف العلماء: هل هذا الاعتراف يعتبر توبة أم لا؟ نقول: إن الحق سبحانه وتعالى حينما قال: {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} ثم قوله: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: رجاء أن يتوب عليهم، وهذه مقدمات توبة وليست توبة، فإن صاحبها الندم على ما مضى، والإصرار على عدم العودة في المستقبل فيُنظر هل هذا كان منه مخافة أن يُفضح أم موافقة لمنهج الله؟ إن كان الأمر موافقة لمنهج الله فتكون التوبة مرجوَّة لهم. وكلمة {خَلَطُواْ} تؤدي معنى جمع شيئين كانا متفرقين، وجمع الشيئين أو الأشياء التي كانت متفرقة له صورتان؛ الصورة الأولى: أن يجمعهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5459 على هيئة الافتراق، كأن تأتي بالأشياء التي لا تمتزج ببعضها مثل: الحمص واللب والفول، وتخلط بعضها ببعض في وعاء واحد، لكن يظل كل منها على هيئة الانفصال، فأنت لم تدخل حبة اللب في حبة الحمص، ولم يتكون منهما شيء واحد؛ لأنه لو حدث هذا لصار مزيجاً لا خلطاً، مثلما تخلط الشاي باللبن؛ لأنك بعد أن تجمعهما يصيران شيئاً واحداً، بحيث لا تستطيع أن تفصل هذا عن ذاك. إذن: فهم حين خطلوا العمل الصالح والعمل السَّيِّئ، لم يجعلوا من العمل الصالح والعمل السَّيِّئ مزيجاً واحداً. لكن العمل الصالح ظل صالحاً، والعمل الفاسد ظل فاسداً. وقوله سبحانه: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} كلمة {عَسَى} معناها الرجاء وهو ترجيح حصول الخير. وهو لون من توقع حصول شيء محبوب. والرجاء يخالف التمني؛ لأن التمني هو أن تحب شيئاً وتتمنى أن يكون موجوداً، لكنه لا يأتي أبداً، مثل قول الشاعر: ألا لَيْتَ الشَّبابَ يَعُودُ يَوْماً ... فَأخبِرُه بِمَا فعلَ المشِيبُ إنه قد تمنى أن يعود شبابه، وهذا دليل على أن فترة الشباب محبوبة، لكن ذلك لا يحدث. إذن: فإظهار الشيء المحبوب له لونان: لون يتأتى، ولون لا يتأتى، فالذي يتأتى اسمه (رجاء) ، والذي لا يتأتى نسميه (التمني) ، مثل قول الشاعر: لَيْتَ الكَوَاكِب تَدْنُو لِي فَأنظِمَهَا ... عُقُودَ مَدْحٍ فما أرضَى لَكُمْ كَلَما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5460 فالشاعر يتمنى حدوث ذلك، ولكنه لن يحدث. أما الرجاء فهو أمل يمكن أن يحدث، والرجاء له منازل ومراحل بالنسبة للنفس الإنسانية. فأنت عندما ترجو لواحد شيئاً فتقول: «عسى فلان أن يمنحك كذا» ، فأنت مُترَجٍّ، وهناك مترجّىً له، هو من تخاطبه، ومترجّىً منه، وهو من يعطي، فهذه ثلاثة عناصر. لكن ألك ولاية على من يمنح؟ لا، لكن إن قلت: عسى أن أمنحك أنا كذا، فأنت ترجو لواحد غيرك أن تمنحه أنت، وهذا أرجى أن يتحقق. وحين تقول: «عسى أن أمنحك» فقد تقولها في لحظة إرضاء للذي تتحدث معه. ثم قد يبلغك عنه شيء يغير من نفسك، أو جئت؛ لتعطيه، فلم تجد ما تعطيه له، هنا لم يتحقق الرجاء. لكن عندما تقول: «عسى الله أن يمنحك» ، فأنت ترجو له من الله، وهو القادر على كل شيء ولا تؤثِّر فيه أغيار، أما إذا قال الله عن نفسه: «عسى الله أن يفعل» ، فهذا أقوى وسائل الرجاء. إذن: فنحن أمام أربع وسائل للرجاء. أن تقول: «عسى فلان أن يمنحك» أو أن تقول: «عسى أن أمنحك أنا» ، أو تقول: «عسى الله أن يمنحك» وقد يجيبني الله، أو لا يجيب دعائي، لكن حين يقول الحق: «عسى أن أفعل» فهذا هو اللون الرابع من ألوان الرجاء، وقالوا: الرجاء من الله إيجاب. {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ، فهذا رجاء أن يتوب الله عليهم، أما توبة العبد فمسألة تقتضي الندم على ما فات، والرجوع إلى منهج الله، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5461 والعزم ألا يغضب الله في المستقبل. أما توبة الله فهي تضم أنواع التوبة، فتشريع الله للتوبة رحمة بمن ارتكب الذنب، ورحمة بالناس الذين وقع عليهم السلوك الذي استوجب التوبة. فإن تُبْتُ؛ فقبول التوبة رحمة ثانية، فلو لم يشرع الله التوبة لاستشرى كل من ارتكب ذنباً واصطلى المجتمع بشروره. لكن حين يشرع الله التوبة؛ فهناك أمل أن يرجع العبد إلى الله، ويتخلص المجتمع من إمكانية عودته للذنب، وانتهى هو من أن يوقع مصائب بغيره. فإذا قَبِلَ الله التوبة، يقال: «تاب الله على فلان» ، فلله إذن أكثر من توبة، ولذلك حين تقرأ قوله الحق: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا ... } [التوبة: 118] أي: شرع لهم التوبة؛ ليتوبوا، فإذا تابوا فسبحانه قابل التوب. إذن: فالتوبة ثلاث مراحل: تشريع للتوبة، ثم توبة واقعة، فقبول للتوبة. والتوبة رجوع عن شيء، وهي بالنسبة للعبد رجوع عن ذنب، وبالنسبة لله إن كان الذنب يستحق أن يعاقب الله به، فإذا تبت أنت، فالحق يعفو ويرجع عن العقوبة. ويُنهي الحق الآية: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ؛ لأن المغفرة بالنسبة للعبد صعبة، فإن سرق واحد منك شيئاً فهو يضرك، ويلحّ عليك حب الانتقام منه؛ لأن الضرر أتعبك، لكن أيُتْعبُ أحد ربه بالمعصية؟ لا؛ لأنك إن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5462 كنت قد أضررت بأحد فإنما أضررت بنفسك، ولم تضر الله سبحانه؛ لأنه سبحانه لا يلحقه ضرر بذنبك، وإنما الذنب لحقك أنت. فحين يقول سبحانه: {غَفُورٌ} فهو غفور لك، و {رَّحِيمٌ} بك. والمصائب أو الكوارث نوعان؛ نوه للإنسان فيه غريم، ونوع يصيب الإنسان ولا غريم له. فإن مرض إنسان فليس له غريم في المرض، أما إذا سرق إنسان فاللص هو غريمه، ومصيبة الإنسان التي فيها غريم تدفع النفس إلى الانفعال برد العقوبة إليه، أما حين تكون المصيبة من غير غريم هي التي تحتاج لشدة إيمان، والحق يقول: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] هنا يؤكدها؛ لأن غريمه يلح عليه، فساعة يراه يتذكر ما فعله غريمه به، فتكون هناك إهاجة على الشر. أما قوله سبحانه: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] فلم يؤكدها، فالمصيبة هنا من سيكون غريمه فيها؟ والذين اعترفوا بذنوبهم هم قوم تخلفوا بغير عذر، ثم جاءوا وقالوا: ليس لنا عذر، ولم يختلقوا أعذاراً؛ لأننا نعلم أن هناك أناساً لم يعتذروا، وأناساً آخرين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5463 اعتذروا بأعذار صادقة، وآخرين اعتذروا باعتذارات كاذبة، وهم قد {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} أي: أعلنوا أن اعتذاراتهم عن الغزوة لم تكن حقيقية وأنه لم يكن عندهم ما يبرر تخلفهم عن الغزو؛ فهؤلاء تاب الله عليهم في نفوسهم أولاً، ورسول الله لا يزال في الغزوة في تبوك التي تخلفوا عنها. ثم عاد الرسول من الغزوة، ودخل المسجد كعادته حين يرجع إلى المدينة، وأول عمل كان يعمله بعد العودة هو أن يدخل المسجد، ويصلي فيه ركعتين. فوجد أناساً قد ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وهي الأعمدة فسأل عن هؤلاء، فقالوا: هؤلاء قوم تخلفوا وكانت أعذارهم كاذبة كلنهم اعترفوا بذنوبهم، وقد عاهدوا الله ألا يحلوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تحلهم وترضى عنهم فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم؛ رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين» . فلما أنزل الله هذه الآية حلهم رسول الله ومنهم: أبو لبابة. ولذلك من يذهب ليزور المدينة إن شاء الله، سيجد أسطوانة اسمها «أسطوانة أبي لبابة» وهو أول من ربط نفسه على الساري، وقلده الآخرون. وهذا يدلك على أن المؤمن حين تختمر في نفسه قضايا الإيمان فهو لا ينتظر أن يعاقب من الله، بل يبادر هو إلى أن يعاقب من الله، بل يبادر هو إلى أن يعاقب نفسه. ومثال ذلك: المرأة التي زنت، والرجل الذي زنا، واعترفا لرسول الله ليرجمهما، ومعنى ذلك أنهما لم ينتظرا حتى يعذبهما الله، بل ذهب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5464 كل منهما بنفسه. ولذلك حين جاء سيدنا عمر، وكاد أن يركل جثة أحدهما قال الرسول: «دعها يا عمر فقد تابت توبة لو وزعت على أهل الأرض لو سعتهم» . وكون أبي لبابة يربط نفسه بالسارية، فهذا يدل على أن المؤمن إذا اختمرت في نفسه قضية الإيمان، فإنه لا يترك نفسه إلى أن يلقاه الله بعذابه، بل يقول: لا، أنا أعذب نفسي كي أنجو من عذاب الله، فهو قد تيقن أن هناك عذاباًَ في الآخرة أقسى من هذا العذاب. فلما اعترفوا بذنوبهم وراجعوا أنفسهم متسائلين: ما الذي شغلنا عن الغزو، وجعلنا نعتذر بالكذب؟ وجدوا أنهم في أثناء غزوة تبوك وقد كانت في الحر، وفيه كانت تطيب جلسات العرب تحت الظلال وأن يأكلوا من التمر. فقالوا: والله، إن المال هو الذي شغلنا عن الغزو وجعلنا نرتكب هذا الذنب، ولا بد أن نتصدق به؛ لذلك قلنا: إن هذه لم تكن الصدقة الواجبة، بل هي صدقة الكفارة. وهؤلاء قالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: خذ هذا المال الذي شغلنا عن الجهاد، فلم يقبل حتى ينزل قول من الله، فأنزل الحق قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5465 هذه هي الصدقة غير الواجبة؛ لأنها لو كانت الصدقة الواجبة لما احتاجت إلى أمر جديد، بل هي صدقة الكفارة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5465 وقوله الحق: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} يعني أموال من اعترفوا بذنوبهم، وقد نسب الأموال وملكيتها لهم، رغم أن المال كله لله، مصداقاً لقوله: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ ... } [النور: 33] ولكن الحق ينقله إلى خلقه تفضلاً منه، وأوضح سبحانه إذا قلت لكم: أخرجوا شيئاً من المال الذي وهبتكم إياه فلن أرجع فيما وهبته لكم، ولذلك إذا احتاج مؤمن شيئاً من مؤمن مثله، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله ... } [البقرة: 245] وسبحانه واهب المال وهو يحترم هبته لصاحب المال. وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} لاحظ فيه العلماء أن المال حين يضاف إلى صاحبه فهو تطمين له، حتى يتحرك في الحياة حركة فوق ما يحتاج، ويبقى له شيء يتموَّله، وبذلك يحرص الإنسان على الحركة التي ينتفع بها الغير، وإن لم يقصد. فيوضح له الحق: اطمئن إلى أن كل شيء سيزيد عن حاجتك يصبح ملكاً لك، ولا يخرج المال عن ملكية صاحبه إلا إذا كان صاحبه غير أهل للتصرّف، مصداقاً لقوله الحق: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ ... } [النساء: 5] لأن السفيه لا يصح أن يتملك؛ لأنه بالحمق قد يضيع كل شيء، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5466 فينزل الحق الحكم: إن مال السفيه الذي يملكه ليس ماله إنما هو مالكم. ولكن إلى متى؟ فيأتي القول الحق: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ... } [النساء: 6] أي: ردوا إليهم أموالهم متى عادوا إلى الرشد وصاروا أهلاً للملكية. والحق في هذه الآية يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} والله سبحانه وتعالى هو صاحب المال، وهو يأتي بالمال، بالأسباب التي جعلها للبشر في حركة الحياة، وأمَّنهم على عرقهم، وأمَّنهم على ما يملكون؛ حتى لا يزهد أحد في الحركة؛ فلو أخذ كل واحد من حركته على قدر نفسه، ولم يتملك المال؛ لضنّ الناس بالحركة. وإذا ضن الناس بالحركة؛ فلن يستفيد غير القادرين على الحركة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما يزيد على حاجات الناس ملْكاً لهم؛ لأن النفس تحب أن تتملك، والتملك أمر غريزي في النفس؛ بدليل أن الله سبحانه وتعالى هو الذي طلب أن يؤخذ من الأموال، وأوضح أنه يضاعفها له، ومعنى أنه يضاعفها عنده أنه يُنمي فيه غريزة التملك. وقوله الحق: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} نلحظ فيه أن الأموال أضيفت لأصحابها، ما لم يكن فيهم سفه في التصرف أو عدم رشد؛ بأن يكون وارث المال قاصراً لا يقدر على التصرف فيه، فأوضح لنا سبحانه: لا تعتبروا مال السفيه ولا مال القاصر ماله، ولكن ليرعى الوصيّ المال باعتبار أنه ماله هو، وحذَّر سبحانه الوصيَّ: إياك أن تتعدى في ملكية هذا المال؛ لأن الذي جعله مالك، إنما جعل الملكية من أجل القيامة على المال، ولأجل هو أن يبلغ القاصر رشده، أو يرجع السفيه إلى عقله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5467 {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً ... } [النساء: 5] فإياك أيها الوصي، أن تظن أن الله قد أعطى لك هذا المال، بل جعل لك حق القيام عليه فقط، ثم يقول سبحانه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ولم يقل: «فادفعوا إليهم أموالكم» وإلا كان الأمر صعباً على الناس. وهنا ملحظية لحظها العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وهو أن المال إذا كان فيه حق معلوم للسائل والمحروم، فلا يصح أن ينسب الإنسان المال كله لنفسه؛ لأن له شركاء فيه هما السائل والمحروم، فالمال - إذن - ملكية صاحبه باستثناء حق السائل والمحروم. وفي آية أخرى قال الحق: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم} [المعارج: 24 - 25] و «الحق المعلوم» هو الزكاة المفترضة من نصاب معلوم بقدر معلوم، وأما الأمر الثاني فهو حق أيضاً، ولكن الذي يوجبه ويحدده هو صاحب المال على نفسه، وهو التطوع، ولذلك لم يقل: حق معلوم كما في سورة الذاريات: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 15 - 19] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5468 لقد ذكر سبحانه هنا الحق ولم يقل إنه معلوم؛ لأن صاحب المال داخل في مقام الإحسان، وهو المقام الذي يلزم الإنسان فيه نفسه بشيء فوق ما فرض الله من جنس ما فرض الله. والله سبحانه لم يفرض على الإنسان أن يقوم الليل كله، أو يظل الليل يستغفر، بل إن المسلم له أن يصلي العشاء وينام، ثم يقوم لصلاة الفجر. لكن إن وجد في نفسه نشاطاً، فهو يقوم الليل؛ لأنه يريد أن يدخل في مرتبة الإحسان. وكذلك يؤدي المسلم الزكاة وهذا حق معلوم، أما إن رغب المسلم في أن يدخل في مقام الإحسان فهو يزيد على الزكاة، وقد جعل الله هذا حقّاً لكنه غير معلوم؛ ليفسح لأريحيات الكرام أن يتجاوزوا الحق المعلوم، فبدلاً من اثنين ونصف بالمائة، قد يجعلها الداخل إلى مقام الإحسان ضعف ذلك أو أكثر. ووقف العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم هنا قالوا: إن قوله الحق: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} لا يعني اعتبار الجزء المأخوذ من المال للفقير هو حق الفقير، بل هو مال المؤدي، ولو بيّن الله حق الفقير وعزله عن مال صاحبه، فهذا يعني أن المال إن هلك فليس للفقير شيء، ولكن لأن المال مال الغني فحق الفقير محفوظ في ذمة صاحب المال، وهذا أفضل للفقير، فإن الغني لو لم يؤد الزكاة في ساعتها، وبعد ذلك حدث أن هلك المال، فالغني ضامن لحق الفقير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5469 {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} والصدقة تطهرهم؛ لأن الذنب الذي فعلوه واعترفوا به تسبّب في تقذير أنفسهم بالمعصية، وما داموا قد قذروا أنفسهم بالمعصية، فهم في حاجة أن يُطهَّرُوا بالمال الذي كان سبباً في عدم ذهابهم إلى الغزوة. وانظر هناك إلى ملحظ «الأداء البياني» في القرآن، فالحق سبحانه يقول: {خُذْ} وهو أمر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويقول: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} من أموال الأغنياء، هذه الصدقة ستذهب للمحتاج، إذن هنا أربعة عناصر: آخذٌ هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومأخوذ منه هو صاحب المال، ومأخوذ هو المال، ومأخوذ له هو الفقير المحتاج. وما دام الأمر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهذا الأمر ينسحب بالتالي على كل من وَلِيَ أمراً من أمور المسلمين. ولقائل أن يقول: ولكنها صدقة وليست زكاة. ونقول: ما دام الله هو الذي أمر بها تطهيراً فقد صارت واجباً، والآية صريحة، وتقتضي أنه ما دامت هناك ولاية شرعية، فولي الأمر هو الذي يأخذ من الناس ويؤدي للفقراء، أو لأوجه الصرف التي شرعها الله؛ لأن الله لا يريد أن يعذب الفقير بأن يمد يده آخذاً من مُسَاو له، أما إن أخذ من الوالي وهو المسئول عن الفقراء، فلن يكون عيباً، كما أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5470 الحق سبحانه يريد أن يحمي أهل الفقير من أن يعلموا أن البيت الفلاني يعطي لهم زكاة، فيعاني أولاد الآخذ من المذلة أمام أولاد المعطي، ويعيش أبناء المعطي في تعال لا لزوم له. إذن: فحين يكون الوالي هو الذي يعطي فلن يكون هناك مُسْتعلٍ أو مُستعلىً عليه. أما إن لم تكن هناك ولاية إسلامية، ولا يعلم الإنسان إلى أين ستذهب الأموال، فهنا يصبح كل إنسان أن يراعي محيط دينه وهو يخرج الزكاة وحينئذ يكون عندنا مُعْطٍ هو صاحب المال، ومال مُعْطىً، ومعطىً له هو الفقير. وعلى من يعود قوله الحق: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} ؟ السطحيون في الفهم يقولون: إنها تطهر من نأخذ منه المال، وتزكّى المال الذي نأخذ منه. لكن من يملك عمقاً في الفهم يقول: ما دامت هناك في هذه الآية عناصر، فضروري أن يعود التطهير والتزكية عليها، وإنها تطهر وتزكي المأخوذ منه صاحب المال، وكذلك تطهر وتزكي المال المأخوذ، وأيضاً تظهر وتزكي المأخوذ له وهو الفقير، لأن التطهير معناه إزالة قَذَر، والتزكية نماء. القذارة أمر عارض على الشيء الذي نغسله ونطهره، وتنمية له بشيء عائد عليه فيزداد، وهكذا تُطهر الصدقة وتزكى عناصر الفعل كلها. والتطهير لمن يعطي، له معنى مع، والزكاة لها معنى معه؛ لأنك إن أخذت منه المال، فقد يكون قد ل وأدخل في ماله شيئاً فيه شبهة، فالصدقة والزكاة تطهران هذا المال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5471 أما كيف تنمّي صاحب المال؟ أنت إن أخذت منه وهو قادر، معنى ذلك أنك تطمئنه أنه إذا احتاج فستعطيه، وبهذا يعرف أنه لا يعيش في المجتمع بمفرده، ولا يخاف أن يضيع منه المال، واطمأن لحظة أن أخذت منه المال وهو قادر كي تعطي المحتاج، فكأنك تطمئنه وتقول له: أنت لو احتجت فلن تضيع، وبذلك تُنمِّي تواجده وثقته، وطهرته أيضاً من أن يكون في ماله شبهة، هذا من ناحية صاحب المال. أما من ناحية المال نفسه، فالصدقة تطهر المال؛ لأن المال قد يزيد فيه شيء فيه شبهة فالزكاة تطهره. وقد يخيل إليك أنك حين تأخذ من المال فهو ينقص، عكس الربا الذي يزيد المال، فالربا مثلاً يحقق زيادة للمائة جنيه فتصبح مائة وعشرة مثلاً، أما المزكِّي فالمائة جنيه تصير سبعة وتسعين ونصفاً، والسطحي يرى أن الزكاة أنقصت المال وأن الربا يزيده، ولكن هذا بمقاييس البشر، لا بمقاييس من يملك الأشياء؛ فالزكاة التي تعتبرونها نقصاً تنمّي، والربا الذي تعتبرونه ينمّي إنما يُنقص، والحق يقول: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات ... } [البقرة: 276] إذن: فهناك مقاييس عند البشر، ومقاييس أخرى عند الحق، فما رأيته منقصاً لك، هو عند الله زيادة، وما رأيته مزيداً لك، هو في الواقع نقصٌ، كيف؟ لأن الناس لا ينظرون إلا إلى رزق الوارد الإيجابي، ويظنون أن هذا هو الرزق، ولا يتذكرون أن هناك رزقاً اسمه «رزق السلب» ، فرزق الإيجاب قد يزيد دخلك مثلاً من مائة إلى مائة وعشرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5472 وزرق السلب يتمثل في أنك تصرف سبعين فقط، بدلاً من أن تصرف مائةً، فيبقى لك ثلاثون، بالإضافة إلى أنه يمنع عنك مصارف الشر، هذا من ناحية المال. والحق يقول: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39] وكيف تكون الصدقة تطهيراً للآخذ وهو لم يذنب ذنباً يحتاج إلى تطهير، بل هو مُعطىً له لأنه محتاج؟ ونقول: إن الآخذ حين يأخذ من مال غيره، وهو عاجز عن الكسب فهو يتطهر من الحقد على ذي النعمة؛ لأنه وصله بعض من المال الذي عند ذي النعمة، فلا يحقد عليه ولا يحسده، فهو إن رأى عنده خيراً، دعا له بالزيادة؛ لأن بعضاً من الخير يعود عليه. والفلاحون في ريف مصر يهدون بعضهم بعضاً من لبن ماشيتهم، أو بعضاً من الخير الخارج من لبنها، وساعة أن تمرَّ إحداهما على أهل القرية يدعون الله بحمايتها، وهكذا تتطهر نفس الفقير من الحقد والحسد. هذا عن التطهير، فماذا عن التزكية والنماء؟ إن الفقير ساعة يرى نفسه فقيراً، ويرى أن المجتمع الإيماني يقوم برعايته ولا يتركه وحيداً، ويتسابق أهل الخير لنجدته، فنفسه تنمو بالاطمئنان؛ لأنه في مجتنع إيماني. إذن: فقوله الحق: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} راجع لكل العناصر في الآية. ثم يقول سبحانه: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادع لهم بالخير؛ ولذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلما أتاه قوم بأي صدقة قال: «اللهم صَلِّ عليهم» فأتاه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5473 أبو أوفى بصدقته، فقال: «اللهم صَلِّ على آل أبي أوفى» ، هذه هي التزكية القولية التي يحب كل مسلم أن يسمعها فيعطِي، ويجِدّ ويجتهد من ليس عنده؛ ليسمعها من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقوله الحق: {إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} أي: اطمئنان لهم، وما دام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد دعا له، فهو قد اطمأن إلى أن صدقته وصلت إلى مرتبة القبول حيث جازاها رسول الله بالدعاء. وإذا ما سمعها الآخذ للصدقة يقول بينه وبين نفسه: ولماذا لا أجِدّ في حياتي وأجتهد؛ حتى أظفر بتلك الدعوة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ ويُنهي الحق الآية بقوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي أنه سبحانه {سَمِيعٌ} لكل ما تعتبره قولاً. و {عَلِيمٌ} بكل ما تعتبره فعلاً. ويقول الحق بعد ذلك: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5474 و {أَلَمْ يعلموا} مكونة من ثلاث كلمات هي: همزة استفهام، «لم» حرف نفي «، و» يعلم «وهو فعل. فهل يريد الله هنا ان ينفي عنهم العلم أم يقرر لهم العلم؟ لقد جاء سبحانه بهمزة يسمونها» همزة الاستفهام الإنكاري «والإنكار نفي، فإذا دخل نفي على نفي فهو إثبات، أي» فليعلموا «. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5474 ولماذا لم يأت بالمسألة كأمر؟ نقول: إن الحق حين يعرضها معرض الاستفهام فهو واثق من أن المجيب لا يجيب إلا بهذا، وبدلاً من أن يكون الأمر إخباراً من الله، يكون إقراراً من السامع. {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} لماذا جاء الحق بكلمة {هُوَ} ، وكان يستطيع سبحانه أن يقول:» ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة «ولن يختل الأسلوب؟ أقول: لقد شاء الحق أن يأتي بضمير الفصل، مثلما نقول: فلان يستطيع أن يفعل لك كذا. وهذا القول لا يمنع أن غيره يستطيع إنجاز نفس العمل، لكن حين تقول: فلان هو الذي يستطيع أن ينجز لك كذا. فهذا يعني أنه لا يوجد غيره. وهذا هو ضمير الفصل الذي يعني الاختصاص والقصر ويمنع المشاركة. لذلك قال الحق: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة ... } [التوبة: 104] وهل كانت هناك مظنة أن أحداً غير الله يقبل التوبة؟ لا. بل الكل يعلم أننا نتوب إلى الله، ولا نتوب إلى رسول الله. ونحن إذا استعرضنا أساليب القرآن، وجدنا أن ضمير الفصل أو ضمير الاختصاص هو الذي يمنع المشاركة فيما بعدها لغيرها؛ وهو واضح في قصة سيدنا إبراهيم حين قال: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 70 - 77] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5475 ولم يقل سيدنا إبراهيم:» إنهم أعداء «، بل جمعهم كلهم في عصبة واحدة وقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} . و {إِنَّهُمْ} - كما نعلم - جماعة، ثم يقول بعدها {عَدُوٌّ} وهو مفرد، فجمعهم سيدنا إبراهيم وكأنهم شيءٌ واحد. وكان بعضٌ من قوم إبراهيم يعبدون إلهاً منفرداً، وجماعة أخرى يعبدون الأصنام ويقولون: إنهم شركاء للإله. إذن: كانت ألوان العبادة في قوم إبراهيم عليه السلام تتمثل في نوعين اثنين. ولما كان هناك من يعبدون الله ومعه شركاء، فقول إبراهيم قد يُفسر على أن الله داخل في العداوة؛ لذلك استثنى سيدنا إبراهيمُ وقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} ، أي: أن الله سبحانه ليس عَدُوّا لإبراهيم عليه السلام، وإنما العداوة مقصورة على الأصنام. أما إن كان قومه يعبدون آلهة دون الله، أي: لا يعبدون الله، لم يكن إبراهيم ليستثنى. والاستثناء هنا دليل على أن بعضاً من قومه هم الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى ... } [الزمر: 3] وهكذا تبرأ سيدنا إبراهيم عليه السلام من الشركاء فقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} وهذا كلام دقيق محسوب. وأضاف: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] ولم يقل: «الذي خلقتني يهديني» ، بل ترك «خلقني» بدون «هو» وخَصَّ الله سبحانه وحده بالهداية حين قال: {فَهُوَ يَهْدِينِ} ؛ لأن «هو» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5476 لا تأتي إلا عند مظنة أنك ترى شريكاً له، أما مسألة الخلق فلا أحدٌ يدّعي أنه خلق أحداً. فالخلق لا يُدَّعى، ولذلك لم يقل «الذي هو خلقني» . والحق سبحانه هو القائل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ... } [الزخرف: 87] فليس هناك خالق إلا هو سبحانه. إذن: فالأمر الذي لا يقول به أحد غير الله لا يأتي فيه الضمير. لكن الأمر الذي يأتي فيه واحد مع الله، فهو يخصِّص ب «هو» تأكيداً على تخصيصه لله وحده {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} فليس لأحد أن يُدخل أنفه في هذه المسألة؛ لأن أحداً لم يدّع أنه خلق أحداً، فمجيء الاختصاص - إذن - كان في مجال الهداية بمنهج الحق، لا بقوانين من الخلق. فمن الممكن أن يقول بشر: أنا أضع القوانين التي تسعد البشر، وتنفع المجتمع، وتقضي على آفاته، ونقول: لا، إن الذي خلقنا هو وحده سبحانه الذي يهدينا بقوانينه. إذن: فما لا يُدَّعى فلا تأتي فيه (هو) ، أما ما يمكن أن يُدَّعى فتأتي فيه (هو) . وقوله سبحانه: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] وجاء هنا أيضاً بضمير الفصل؛ لأن الإنسان قد يرى والده وهو يأتي له بالطعام والشراب فيظن أن الأب شريك لله؛ لذلك جاء ب {هُوَ} ، فأنت إن نسبت كل رزق يأتي به أبوك، لانتهيت إلى مالم يأتي به الأب؛ لأن كل شيء فيه سببٌ للبشر ينتهي مإلى ماليس للبشر فيه أسباب، فكل شيء من الله؛ لذلك قال سيدنا إبراهيم: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 79 - 80] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5477 وخصص الشفاء أيضاً؛ حتى لا يظن ظان أن الطبيب هو الذي يشفي، وينسى أن الله وحده هو الشافي، أما الطبيب فهو معالج فقط؛ ولذلك تجد أننا قد نأخذ إنساناً لطبيب، فيموت بين يدي الطبيب؛ ولذلك يقول الشاعر عن الموت: إنْ نَام عنْكَ فَأيُّ طِبٍّ نَافِعٌ ... أوْ لم يَنَمْ فالطِّبَّ مِن أذنَابِه فقد يعطي الطبيب دواءً للمريض، فيموت بسببه هذا المريض. وجاء سيدنا إبراهيم بالقصر في الشفاء لله؛ حتى لا يظن أحد أن الشفاء في يد أخرى غير يد الله سبحانه. ثم يقول سيدنا إبراهيم: {والذي يُمِيتُنِي ... } [الشعراء: 81] ولم يقل: «هو» يميتني؛ لأن الموت مسألة تخص الحق وحده، وقد يقول قائل: كان يجب أن يقول: «هو يمتني» ، ونقول: انتبه إلى أن إلا بنقض البنية، ويضيف الحق على لسان سيدنا إبراهيم: {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] . وأيضاً لم يقل: «هو يحييني» ؛ لأن هذا أمر خارج عن أي توهم للشركة فيه، فقد جاء ب «هو» في الأمور التي قد يُظن فيها الشركة، وهو كلام بالميزان: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] لم يأت أيضاً ب «هو» ؛ لأن المغفرة لا يملكها إلا الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5478 إذن فكل أمر معلوم أنه لا يشارَك فيه جاء بدون «هو» ، وكل ما يمكن أن يُدَّعى أن فيه شركة يجيء ب «هو» . وهنا يقول الحق: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} وظاهر الأمر أن يقال: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة «من» عبادة، ولكنه ترك «من» وجاء ب «عن» . والبعض يقولون: إن الحروف تنوب عن بعضها، فتأتي «من» بدلاً من «عن» . ونقول: لا، إنه كلام الحق سبحانه وتعالى ولا حرف فيه يغني عن حرف آخر؛ لأن معنى التوبة، أن ذنباً قد حدث، واستوجب المذنب العقوبة، فإذا قَبل الله التوبة، فقد تجاوز الله عن العقوبة؛ ولذلك جاء القول من الحق محدداً: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} أي: متجاوزاً بقبول التوبة عن العقوبة. وهكذا جاءت «عن» بمعناها؛ لأنه سبحانه هو الذي قَبِل التوبة، وهو الذي تجاوز عن العقوبة. ثم يقول سبحانه: {وَيَأْخُذُ الصدقات} صحيح أن الله هو الذي قال للرسول: {خُذْ} ولكن الرسول هو مناول ليد الله فقط، و «يأخذ» هنا معناها «يتقبل» واقرأ قول الحق: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ... } [الذاريات: 15 - 16] أي: متلقين ما آتاهم الله. ومثال ذلك ما يُروى عن السيدة فاطمة حينما دخلا عليها سيدنا رسول الله عليه وسلم فوجدها تجلو درهماً، والدرهم عملة من فضة. والفضة من المعادن التي لا تصدأ، والفضة على أصلها تكون لينة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5479 لذلك يخلطونها بمعدن آخر يكسبها شيئاً من الصلابة. والمعدن الذي يعطي الصلابة هو الذي يتأكسد؛ فتصدأ الفضة؛ لذلك أخذت سيدتنا فاطمة تجلو الدرهم. فلما دخل عليها سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سألها: ما هذا؟ قالت: إنه درهم. واستفسر منها لماذا تجلو الدرهم؟ فقالت: كأني رأيت أن أتصدق به، وأعلم أن الصدقة قبل أن تقع في يد الفقير تقع في يد الله فأنا أحب أن تكون لامعة. فعلت سيدتنا فاطمة ذلك؛ لأنها تعلم أن الله وحده هو الذي يأخذ الصدقة. {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} . كل هذه الآية نفي لمظنة أن يتشككوا إذا فعلوا ذلك مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأخذ رسول الله الصدقات، فإن توبتهم قد قُبلَتْ، ولكن الذي يقبل التوبة هو الله، والذي يأخُذ الصدقات هو الله؛ لأنه هو التواب الرحيم؛ لذلك جاء قول الحق من بعد ذلك: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5480 إذن: هم أعلنوا التوبة بعد أن اعترفوا بذنوبهم، وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وربطوا أنفسهم في سواري المسجد، وقالوا: لا نحل انفسنا حتى يحلّنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقالوا: خذ من أموالنا صدقة لتطهرنا؛ كل هذا جعل هناك فاصلاً بني ماضٍ ندموا عليه، ومستقبل يستأنفونه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5480 قد ولدت الآن. وبدأت صفحة جديدة، فهل أنتم ستسيرون على مقتضى هذه التوبة أم لا؟ ولا تظنوا أن أموركم ستكون في الخفية بل ستكون في العلن أيضاً، أم أموركم الخفية فسيعلمها الله؛ لذلك قال: {فَسَيَرَى الله} . أما الأمور التي تحتاج لفطنة النبوة فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيراها بنوره في سلوككم. أما الأمور الظاهرة الأخرى فسيراها {المؤمنون} . نحن هنا أمام ثلاثة أعمال: عمل يراه المؤمنون جميعاً، فالتزموا بهذا المنهج حتى يشهد لكم المؤمنون بما يرون من أعمالكم، وإياكم أن تخادعوا المؤمنين؛ لأن رسول الله بفطنته ونورانيته وصفائه وشفافيته سيعرف الخديعة، أما إن كانت المسألة قد تتعمَّى على المؤمنين وعلى الرسول، فالله هو الذي يعلم. {وَقُلِ اعملوا} أي: اعملوا عملاً جديداً يناسب اعترافكم بذنوبكم، ويناسب إعلانكم التوبة، ويناسب أنكم ربطتم أنفسكم في المسجد، ويناسب أنكم تصدقتم بالأموال، عمل تستأنفون به حياتكم بصفحة جديدة، واعلموا أننا سنرقب عملكم، الله يرقبه فيما لا يعلمه البشر، وهو النيَّات، ورسول الله يعلمه فيما يطابق نورانيته وإشراقه، والمؤمنون يعلمونه في عاديات الأمور. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5481 وهذه الرؤية من الله ومن الرسول ومن المؤمنين لا تكون لها قيمة إلا إذا ترتب عليها الجزاء ثواباً أو عقاباً، فهي ليست مجرد رؤية، بل إن الرائي يملك أن يثيب أو أن يعاقب. وأنكم راجعون إليه لا محالة. وإذا كنتم في الدنيا تعيشون في الأسباب التي يعيش فيها الكافر والمؤمن، ويعيش فيها الطائع والعاصي، فهناك عالم الغيب الذي يملكه الله وحده: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] إذن: سيعامل التائب معاملة جديدة، وما دام قد تاب، فلعله بسبب الغفلة التي طرأت عليه فأذنب؛ غفل عن اليوم الآخر، فيحتاج إلى تجديد التذكير بالإيمان. لذلك قال: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون} . قوله سبحانه: (فَسَيَرَى) ذكر الفعل مرة واحدة، فالرؤية واحدة ملتحمة بعضها ببعض لتروا هل أنتم على المنهج أم لا؟ {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} أما علم الغيب فانفرد به الله سبحانه، وأما عالم الشهادة فالرسول سوف يعلم عنكم أشياء، وكذلك المؤمنون يعلمون أشياء، وربنا عالم بالكل. وسبحانه لا يجازي على مجرد العلم، بل بنية كل إنسان بما فعل، وسبحانه يقول: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14] ولذلك يُنهي الحق هذه الآية بقوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وهؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم، وربطوا أنفسهم في السواري، وتصدقوا بالأموال، وأعطى الله فيهم حكمه بأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5482 جعل رسول الله هو من يحل وثاقهم من السواري، وقبل منهم الصدقات؛ ليسوا وحدهم، فهناك أناس آخرون فعلوا نفس الأمر، لكنهم لم يربطوا أنفسهم في سواري المسجد، ولا اعترفوا بذنوبهم؛ لذلك يجيء قوله الحق: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5483 والمقصودون بهذه الآية هم الثلاثة الذين سيخصهم القرآن بآيات خاصة يقول فيها: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118] وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وهم قد تخلفوا أيضاً عن غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر في التخلف أبداً، فكل واحد يملك راحلته، وعندهم مالهم، وعندهم كل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5483 شيء، وقد قصّ واحد منهم حكايته، وبيّن لنا أنه لم يكن له عذر: «وما كنت في يوم من الأيام أقدر على المال والراحلة مني في تلك الغزوة، كنت أقول: أتجهز غداً، ويأتي الغد ولا أتجهز، حتى أنفصل الركب، فقلت ألحق بهم، ولم ألحق بهم» . هؤلاء هم الثلاثة الذين جاء فيهم القول: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} و {مُرْجَوْنَ} أو «مرجَئون» والإرجاء هو التأخير. أي: أن الحكم فيهم لم يظهر بعد؛ لأن الله يريد أن يبين للناس أمراً، وخاصَّةً أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم ينشئ في الدولة الإسلامية سجناً يُعزَل فيه المجرم؛ وهذا لحكمة، فكونك تأخذ المجرم وتعزله عن المجتمع وتحبسه في مكان فهذا جائز. لكن النكال في أن تدعه طليقاً، وتسجن المجتمع عنه. وهكذا تتجلى عظمة الإيمان؛ لذلك أصدر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمراً بأن يقاطعهم الناس، فلا يكلمهم أحد، ولا يسأل عنهم أحد، حتى اقرباؤهم ولا يختلط بهم أحد في السوق أو في المسجد. وكان أحدهم يتعمد أن يصلي قريباً من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويختلس النظرات ليرى هل ينظر النبي له أم لا؟ ثم يذهب لبيت ابن عمه ليتسلق السور، ويقول له: أتعلم أنني أحب الله ورسوله؟ فيرد عليه: الله ورسوله أعلم. وهكذا عزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المجتمع عنهم، ولم يعزلهم عن المجتمع. وكذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5484 عزلهم عن زوجاتهم، وهو الأمر الذي يصعب التحكم فيه. وحذر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زوجاتهم أن يقربوهم إلى أن يأتي الله بأمره. {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} هذا بالنسبة لنا - إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم. لكن الحق سبحانه وحده هو الذي يعلم مصير كل واحد منهم. فالتشكيك إذن هو بالنسبة لنا؛ لأنهم مُرْجَوْن لأمر الله ولم يبت فيهم بحكم لا إلى النار ولا إلى الجنة، ولم يبَت فيهم بالعفو. أما أمرهم فهو معلوم له سبحانه إما أن يعذب وإما أن يتوب؛ لأن كل حكم من الله له ميعاد يولد فيه، ولكل ميلاد حكمة، وهناك قوم عجّل الله بالحكم فيهم، وقوم أخّر الله الحكم فيهم؛ ليصفى الموقف تصفية تربية، لهم في ذاتهم، ولمن يشهدونهم. وقد استمرت هذه المسألة أكثر من خمسين يوماً؛ ليتأدبوا الأدب الذي يؤدبهم به المجتمع الإيماني، فلم يشأ الله أن يبين الحكم حتى يستوفي هذا التأديب. وإذا أُدِّب هؤلاء، فإن تأديبهم سيكون على مَرْأى ومسمع من جميع الناس، فيأخذون الأسوة من هذا التأديب. ولو أن الله عجّل بالحكم، لمرّت المسألة بغير تأديب للمعتذرين كذباً وغيرهم، فقال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} وما دام سبحانه قد حكم هنا بأنهم مؤخَّرون لأمر الله، فليس لنا أن نتعجل قصتهم، إلى أن يأتي قول الله فيهم: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ ... } [التوبة: 118] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5485 وأراد الله أن يقص لنا قصة أخرى من أحوالهم، فقال: {والذين اتخذوا مَسْجِداً ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5486 يقص لنا القرآن هنا حالاً من أحوال المنافقين، وأحوالهم مع الإيمان متعددة. وقد ذكر الحق سبحانه عنهم أشياء صدَّرها بقوله: {وَمنْهُمْ} ، {وَمنْهُمْ} و {وَيَحْلِفُونَ} ، {وَيَحْلِفُونَ} ؛ ولذلك يسميها العلماء «مناهم التوبة» ، مثل قوله: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله ... } [التوبة: 75] وقول الحق: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي ... } [التوبة: 61] وقوله الحق: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ... } [التوبة: 49] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5486 وقال الحق عنهم أيضاً: {وَيَحْلِفُونَ} ، {وَيَحْلِفُونَ} ، {وَيَحْلِفُونَ} ويقولون عنها: «محالف التوبة» ، ويقص الحق هنا حالاً آخر من أحوال المنافقين، وقد قص له نظيراً فيما سبق، وهؤلاء المنافقون - كما قلنا - متعارضون في ملكاتهم، ملكة لسانية تؤمن، وملكة قلبية تكفر. والمزاوجة بين الملكات المتناقضة أمر عسير على النفس وشاق، ويتطلب مجهوداً عاطفيّاً، ومجهوداً عقليّاً، ومجهوداً حركيّاً، فَهُم إذا خَلَوْا إلى شياطينهم قالوا كلاماً، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا كلاماً، ويقص الحق ذلك حين يعلنون الإيمان بألسنتهم في قوله: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا ... } [البقرة: 14] أما إذا خَلَوْا إلى أنفسهم فالحق يصف حالهم: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ ... } [البقرة: 14] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5487 وهكذا تُكْبَت ملكات لسانهم في أن يقولوا وقت يكونوا مع المؤمنين، أما حين يكونون مع إخوانهم فهم يُنفِّسون عن ملكاتهم فيقولون قولاً مختلفاً، وهذه مسألة متناقضة؛ ولذلك قال القرآن فيما سبق: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 57] أي: لو أنهم يجدون مكاناً أميناً، لا يراهم فيه المؤمنون، لنفَّسوا عن أنفسهم، وسبّوا النبي، وسبّوا المؤمنين، وقالوا ما يريدون، إلا أنهم لا يجدون هذا المكان، إنهم يُنفِّسوا عن أنفسهم؛ إذن: {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} ، لكنهم لا يجدون. ويقص الحق سبحانه وتعالى هنا قصة أخرى من أحوالهم فيقول عَزَّ وَجَلَّ: {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً ... } [التوبة: 107] نحن نعلم أن كلمة «مسجد» في عمومها هي مكان السجود، وفي الخصوص هي مكان يحجز للسجود وللصلاة فقط، فإن أردت المعنى العام، فكل الأرض مسجد، وتستطيع أن تصلي في أي مكان فيصير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5488 مسجداً، لا بالمكان ولكن بالمكين، وبعد ذلك تزاول فيه أعمال الحياة، وقد تصلي في الفصل الدراسي أو المكتب أو المصنع أو الحقل أو في أي مكان تزاول فيه أسباب الحياة. وبذلك يصبح المكان الذي تصلي فيه مسجداً بالمكين، ولكن هناك مسجد آخر مخصص دائماً للصلاة حين يؤخذ حيز من المكان، ويقال: «حجز ليكون مسجداً» ، فلا تباشر فيه أي عملية من عمليات الحياة إلا الصلاة وهو مسجد - بالمكان -، ونحن نعلم أن أول مسجد أسِّس هو مسجد قباء والذين بنوه هم بنو عمرو بن عوف، ثم أراد المنافقون أن يُنفِّسوا عن أنفسهم في صورة طاعة، فبنوا مسجداً ضراراً، وقد بناه بنو غُنْم بن عوف وأرادوا بهذا المسجد أن ينافسوا مسجد قباء. ونعلم كيف يكون الضرار بين المتنافسين على شيء، كما يحدث الآن تماماً، وتسمع من يقول: ولماذا أقام الحي الفلاني مسجداً، ولم نقُم نحن مسجداً؟ وعلى ذلك فكل مسجد فيه هذه الصفة؛ صفة التنافس للحصول على سمعة أو تحيز لجهة على جهة، أو رياء، فهذا يعتبر مسجداً ضراراً؛ لأن كل هذه المسائل فرقت جماعة المسلمين. وقد يقول قائل: ولكن هذا الأمر ظاهرة صحية، ونقول: لا، إن لنا أن نعرف أنها ظاهرة مرضية في الإيمان؛ لأنك ترى المسجد وليس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5489 فيه صفان مكتملان، ثم يوجد بعده بعدة أمتار مسجد، وهناك مسجد ثالث بعد عدة أمتار، ثم مسجد رابع، فهذه كلها مساجد ضرار. إذن: ف «المسجد» بمعناه الخاص هو المكان الذي يحيز حتى يصير مسجداً، لا يزاول فيه شيء غير المسجدية، ولذلك نجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين رأى واحداً ينشد ضالته في المسجد، قال له: «لا رد عليك ضالتك» لأن المسجد حين تدخله فأنت تعلن نية الاعتكاف لتكون في حضرة ربك، وعندك من الوقت خارج المسجد ما يكفيك لتتكلم في مسائل الدنيا. إذن: فهؤلاء القوم أرادوا أن يُنفِّسوا عن نفاقهم بمظهر من مظاهر الطاعة، فقالوا: نقيم مسجداً، وبذلك نفرق جماعة الملسمين، فجماعة يصلون هنا، وجماعة يصلون هناك، وإن قعدنا نحن نصلي فيه فنكون أحراراً، ونتكلم مثلما نريد، أما حين نذهب للصلاة في المسجد الآخر، فنحن نجلس هناك مكبوتين، وغير قادرين على الكلام، ونحن نريد أن ننفس عن أنفسنا. فهم بَنَوْا المسجد، ثم طلبوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يصلي معهم في المسجد الجديد أثناء خروجه لغزوة تبوك فاعتذر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأوضح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5490 لهم: إننا في حال لا يسمح بذلك، وإن شاء الله عند عودتنا من الغزوة نصلي فيه. وبعد أن عاد من الغزوة حاولوا أن يستوفوه وعده، ويطلبوا منه الوفاء بوعده، فإذا بجبريل ينزل عليه بالآيات التي توضح حكاية هذا المسجد، وكيف أنه مسجد ضرار؛ لأن الله علم نيتهم في ذلك. ومعنى «الضرار» من المضارة، وأنهم أرادوا أن يأخذوا راحتهم في كل الزمن، وأن يبتعدوا عن التواجد مع المؤمنين في المسجد الذي يصلي فيه رسول الله، ويريدون أن يخلو بعضهم ببعض، وأن يتكلموا كما يريدون في مضارة المسلمين، ويفرقوا بين جماعة المسلمين. ثم يقول سبحانه: {وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين} . إذن: فكل ما يفتت جماعة المسلمين هو أمر ضار بمصلحة الإسلام؛ لأن الإسلام يريد أن يعلم الناس أنهم قوة مجتمعة، ويكون أمر هذه القوة واضحاً؛ ولهذا أباح الحق أن تصلي الصلوات في أي مكان، وحتَّم أن نصلي جميعاً يوم الجمعة في مكان واحد؛ ليفرح المسلمون حين يرون أنفسهم مقبلين على الدين، ويلتقي كل واحد منهم بالآخر؛ ولذلك كان مسجد الضرار هذا تفريقاً بين المسلمين. ثم يقول سبحانه: {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} والإرصاد هو الترقب، ولذلك يقال: لقد استمر القوم في المكان الفلاني لرصد فلان، أي: أنهم أناس يترقبون مجيئه بمكان ليفتكوا به، وهذا هو ترقب الكراهية لا ترقب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5491 الحب. والذين أقاموا هذا المسجد أرصدوه مترقبين ومنتظرين إنساناً له سابقة في عداء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو الذي طلب منهم إقامة هذا المسجد وهو «أبو عامر الراهب» وقد سماه رسول الله «الفاسق» . وأبو عامر هذا رجل تنصَّر في الجاهلية، ولم تكن الجاهلية بيئة ديانات، فمن كان مثلاً يسافر إلى مكان ويسمع بدين فهو يأتي به ليدعوا لهذا الدين ويترأس من يتبعونه، وأبو عامر من هؤلاء الذين تنصَّروا وصاروا في المدينة، فلما جاء رسول الله ليبطل كل هذه الأشياء في المدينة وزالت رياسته، عادَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى قال له في أحد: ما رأيت قوماً يقاتلونك إلا قاتلك معهم. وحين تمكن الإسلام في المدينة فر إلى مكة، ولما فتحت مكة فرّ إلى الطائف، لم يجد له وطناً فذهب إلى الروم «بالشام» . ثم كتب للمافقين أن أعدوا مسجداً؛ لأني سأتي لكم بقوة من ملك الروم؛ لأهاجم محمداً وأحاربه وأخرجه من المدينة. إذن: فهم قد بَنَوْا ذلك المسجد ضراراً، وكفراً، وتفريقاً، وإرصاداً، أي: ترقباً وانتظاراً لذلك الراهب الذي سيذهب إلى الشام ويأتي بجنود لمحاربة الله ورسوله. ورغم أنهم قد فعلوا ذلك، فقد امتلكوا جراءة الطلب من رسول الله ان يصلي معهم فيه بهدف ترسيم هذا المكان مسجداً ليصلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5492 فيه الناس ما دام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد صلى فيه، وظنوا أن هذه المكيدة سوف تفلح، ولكن الله الذي يحرس نبيه، ويحرس دينه من المنافقين، كشف له حقيقة هذا المسجد. وقد يتغافل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المنافقين بعض الشيء لحكمة، فهم قد أخذوا بالإسلام لوناً من الصحبة، ولم يفضحهم أولا حتى لا يقال: إن محمداً يحارب أصحابه؛ لذلك فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يعلم ما لم يكن يعلمه غيره؛ لذلك أراد أن يحمي الإسلام من لسان من لم يعلم. ولكن بعد أن انكشف الأمر أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مالك بن الدُّخْشم» و «عامر بن السكن» ، و «وحشيّ» قاتل حمزة، و «معن بن عدي» ليهدموا هذا المسجد، وأن يجعلوا في موضعه مكان «القمامة» . وبذلك فُضِحَ المنافقون، فَأسرّوها في نفوسهم. وأنت إذا رأيت من عدوك فعلاً تكرهه، فعليك أولاً أن تفسد عليه الفعل، هذه أول مرحلة، فإذا تكرر الفعل منه، ولم يرتدع، لا بد أن تضعه في مكانه اللائق به. والمنافقون أرادوا بهذا المسجد الضرر والإضرار بالإسلام، وكان يجب أن يكفوا عن مثل هذا العمل ما دام الحق قد كشفهم. لكنهم لم يكفوا، وظلوا سادرين في العداوة للإسلام؛ لذلك كان لا بد كما تخلصت أولاً من الفعل أن تتخلص من الفاعل؛ لذلك أصبحوا خائفين من أن يتجه الردع إلى الفاعل، والحق سبحانه يقول: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5493 {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64] ونعلم أن المريب يكاد أن يقول: خذوني. إنه بسلوكه إنما يدل على نفسه، ويأتي القرآن في سورة ثانية فيقول: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ... } [المنافقون: 4] وهم يتصرفون هكذا لأن الريبة تملأ أعماقهم، وكلما رأى واحد منهم مؤمناً يسير إلى ناحيته يظن أنه جاء ليؤدبه ضرباً أو قتلاً. والحق سبحانه يقول هنا: {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} ، وكلمة {مِن قَبْلُ} فيها إيحاء بأن لهم سوابق في محاربة رسول الله بغرض ان يؤذوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن الحق سبحانه يحميه دائماً، ولم يعد هناك مكر أو حرب يمكن أن ينالوا بها منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وفي هذا الأمر أمثلة كثيرة، فالقرآن حينما يقص على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحوال اليهود ويوضح له: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ... } [البقرة: 61] أليس هذا القول يدفع في خاطره احتمال أن يقتلوه؟ بلى فهم ما دامت عندهم الجرأة على قتل الأنبياء فما الذي يمنعهم من قتله؟ لكن الحق يطمئنه ويكبتهم ويقطع عندهم الأمل، ويأتي قوله الحق: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5494 {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ ... } [البقرة: 91] وقوله: {مِن قَبْلُ} هنا يعني أن ذلك لن يحدث الآن، فقد اختلف الموقف. وهكذا طمأن الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبذلك كُبتت هذه الفكرة إن فكروا فيها. وأيضاً حين يأتي القرآن بشيء في نيتهم أن يفعلوه، ولم يفعلوا بعد، ويفضحهم القرآن بإعلان ما في نيتهم، ومن غبائهم فهم يفعلون الأمر المفضوح، ولو كان عندهم قليل من ذكاء لامتنعوا عن فعل ما فضحهم به القرآن. ويتمثل ذلك في أحد المواقف التي يحلفون فيها، ولو كان فيهم رجل رشيد يملك التفكير المتوازن لقال لهم: إنكم سوف تحلفون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} فلا تحلفوا حتى يشك المسلمون في القرآن، ومن غبائهم أيضا أنهم حلفوا في أمر لهم فيه اختيار أن يفعلوه أو لا يفعلوه، مثلما قال الحق سبحانه: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا ... } [البقرة: 142] إنهم لم يكونوا قد قالوا بعد، وأنزل الحق ذلك في قرآن يتلى كل صلاة، ويعرفه كل مسلم، فيكف يقولون نفس القول بعد أن نزل به القرآن؟ لقد فعل اليهود ذلك؛ وهم بهذا الفعل قد اختاروا أن يكونوا سفهاء، ولم يخرج منهم عاقل واحد يحثهم على ألا يقولوا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5495 وهنا يقول الحق: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} والحق هنا قد أكد الأمر حين جاء بلام القطع. وهم قد أسهموا وقالوا: وما أردنا باتخاذ هذا المسجد إلا مصلحة المسلمين ولنيسر على المعذورين والمرضى، والعاجزين عن السير إلى المسجد الآخر، وإن كانت ليلة مطيرة أو ليلة شاتية، فيستطيع الناس أن يجدوا مسجداً ثانياً ليصلوا فيه، ولكن حكم الله ينزل {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . ويقول الحق بعد ذلك: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5496 فهل قوله الحق: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} معناه ألأن يظل المسجد قائما ولا تقام فيه صلاة؟ هل {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} صيغتها النهي، أي لا تُصَلِّ فيه، أم أنها إخبار من الحق بأنك لن تقيم فيه صلاة أبداً؛ لأنه لن يكون له وجود؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5496 إن قوله الحق سبحانه يعني أن هذا المسجد يجب ألا يكون له وجود، ثم تجد الله سبحانه يقول: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} إذن: فالمسألة ليست في بناء المسجد، ولكنها فيمن يدخل المسجد ويعمره، فهنا مسجد، وهناك مسجد، أما المسجد الأول فقد أسس على التقوى، وفيه أناس يحبون أن يتطهروا، أما مسجد الضرار فقد أقامه منافقون يحبّون أن يتقذروا؛ لأنهم المقابل لمن يحبون أن يتطهروا. ومعنى الحب هو ميل الطبع إلى شيء تنبسط له النفس وتخفُّ لعمله. وحينما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم هذا؟ قالوا: يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فهل مع ذلك من غيره؟» وهنا قال أهل قباء: «لا، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء» ، وكان الواحد منهم يمسك الحجر ويمسح به محل قضاء الحاجة؛ فيخفف من استخدام المياه؛ لأن المياه كانت قليلة عندهم، ثم يستخدم الماء بعد الأحجار ليكمل ويتم نظافته، وأضافوا: «ولا نبيت على جنابة، ولا نُصرّ على ذنب، فإن غلبنا الذنب تعجّلنا التوبة» . {يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} والحب هنا متبادل، فلا شيء أقسى على النفس من أن يكون الحب من طرف واحد، وهذا هو الشقاء بعينه. والشاعر يقول: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5497 أنتَ الحبِيبُ ولَكنِّي أعُوذُ بِكَ ... مِنْ أنْ أكُونَ حَبِيباً غَيْرَ مَحْبُوبِ وشقاء المحبين أن يكون الحب من جانب واحد، أما حين يكون الحب متبادلاً من الحانبين فهو قمة الإيعاد والإبعاد، فحين تكون العداوة من جانبين فهي تأخذ قمة الإسعاد، وكذلك حين تكون العداوة من جانبين فهي تأخذ قمة الإيعاد والإبعاد، فحين تكون العداوة من جانب واحد، تنتهي بسرعة، لكن عندما تكون من الجانبين فإنها لا تنتهي بل تزداد اشتعالاً. إذن: فحين يكون الحب متبادلاً تجد المحب كلما رأى حبّاً من حبيبه رد عليه بحب، فينمو الحب ويزداد، ولا يكون الأمر كذلك إلا إذا كان حب القلوب فيما لا يتغير وهو «الحب في الله» ، فإذا رأيت حبّاً بين اثنين يتناقص بمرور الزمن؛ فاعلم أنه حب لغير الله، وإن رأيت الحب ينمو كل يوم، فاعلم أنه حب في الله. والحق سبحانه يقول في قصة فرعون وموسى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ... } [القصص: 8] هم لم يلتقطوه ليكون عدواً لهم؛ فهذا الاحتمال لو كان قد جاء في بال آل فرعون لقتلوه، ولكنهم التقطوه ليكون قرة عين لهم، فانظر كيف يدخل الله على تغفيل الكافرين به، فآل فرعون هم من يربون موسى؛ ولذلك قال له فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] ولكن موسىعليه السلام لا يجامل في الحق؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو من ربّاه، أما تربية فرعون فلم يكن لها اعتبار في ميزان الحق، وقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5498 تكون العداوة هينة لو كانت من جانب موسى وحده، ولكن شاء سبحانه ألا تكون العداوة من جانب موسى فقط، بل من جانب فرعون أيضاً، فيقول سبحانه: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ... } [طه: 39] ويقول سبحانه في مجال الحب المتبادل: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... } [المائدة: 54] فحين يحبون الله يرد سبحانه على تحية الحب بحب زائد، وهم يردون على تحية الحب منه سبحانه بحب زائد، وهكذا تتوالى زيادات وزيادات؛ حتى نصل إلى قمة الحب، ولكن الحب عند الله لا نهاية له، وأنت حين تقرأ قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى ... } [النمل: 59] ويقول سبحانه أيضاً: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ ... } [الأحزاب: 44] لم يأت سبحانه هنا ب «ال» التعريفية؛ لأنها لو جاءت لانحصرت السلام في لون واحد. فأنت حين تقول: لَقيت الرجل، فأنت تحدد الرجل. لكنك إنْ قلت: لقيت رجلاً. فقد يكون الرجل هذا أو ذاك أو غيرهما. فإن جاء الاسم نكرة صار شائعاً، أما إن كان بالتعريف فيكون محدداً. والحق حين تكلم عن يحيى عليه السلام قال: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} [مريم: 15] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5499 لأنه يريد أن يكثر السلام. وحين تكلم عيسى عليه السلام عن نفسه قال: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33] وحين يلقاك إنسان فهو يقول لك: «سلام عليكم» ، وأنت ترد: «وعليكم السلام» ، لماذا؟ لأن «سلام عليكم» معناها أن السلام منى يكون عليك وعلى غيرك، أما ردُّك «وعليكم السلام» فيعني أنك خَصَصْته بهذا السلام. وهنا الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها زادت في التحية حيث يقول الحق سبحانه: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} وهذا لأن الذي يحب أن يكون طاهراً دائماً، قد أنس بفيوضات الله عليه، وما دامت ذراته كلها طاهرة من النجاسات المعنوية ومن النجاسات الحسية يصبح جهاز استقبال الفيوضات من الله عنده صالحاً دائماً للاستقبال، والحق سبحانه وتعالى يرسل إمداداته في كل لحظة، ولا تنتهي إمداداته على الخلق أبداً، وسبحانه يصف نفسه بأنه القيوم فاطمئنوا أنتم، فإن كنتم تريدون أن تناموا فناموا؛ فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم. إذن: فقد جاء الإيمان ليريحنا إلا ليتعبنا، كما أنه سبحانه يصف نفسه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ... } [المائدة: 64] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5500 أي: يطمئن الخلق أنهم بمجرد إيمانهم ستأتيهم إمدادات الله وفيوضاته المعنوية والمادية. فصحِّح جهاز استقبالك؛ بألا توجد فيه نجاسة حسيّة أو نجاسة معنوية؛ ولذلك إذا رأيت إنساناً عنده فيوضات من الحق فاعلم أن ذرات جسمه مبنية من حلال، ولا توجد به قذارة معنوية، ولا قذارة حسّية، ويتضح ذلك كله على ملامح وجهه، وكلماته، وحسن استقباله. وإن كان أسمر اللون فتجده يأسرك ويخطف قلبك بنورانيته. وقد تجد إنساناً أبيض اللون لكن ليس في وجهه نور؛ لأن فيوضات ربنا غير متجلية عليه. وكيف تأتي الفيوضات؟ إنها تأتي بتنقية النفس؛ لأن الإنسان إن افتقر إلى الفيوضات الربانية، فعليه أن يبحث في جهازه الاستقبالي. وأضرب هنا مثلاً بالإرسال الإذاعي، فمحطات الإذاعة ترسل، ومن يملك جهاو استقبال سليم فهو يلتقط البث الإذاعي، أما إن كان جهاز الاستقبال فاسداً فهذا لا يعني أن محطات الإذاعة لا تبث برامجها. ولذلك قال الحق: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ... } [المائدة: 64] فاحرص دائماً على أن تتناول من يد ربك المدد الذي لا ينتهي، والحديث الشريف يقول: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5501 والليل قد ينتهي عند إنسان، ويبدأ عند إنسان آخر، وهكذا النهار، فالليل مستمر دائماً والنهار مستمر دائماً، فيداه سبحانه مبسوطتان دائما ولا تنقبضان أبداً. ثم يقول سبحانه: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5502 وقوله: {أَفَمَنْ} استفهام، وكأنه يقول: وكيف تساوون بين مسجد أسِّسَ على التقوى من أول يوم، ومسجد اتُّخِذ للضرار وللكفر ولتفريق جماعة المسلمين وإرصاداً لمن حارب الله؟ إنهما لا يستويان أبداً، وساعة يطرح الحق هذه العملية بالاستفهام فسبحانه واثق من أن عبده سيجيب بما يريد الله. وقوله الحق: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} نجد كلمة «بنيان» وهي مصدر؛ «بنى» «بنياناً» ، لكن أطلق على الشيء المبني، فنقول، إن هذا البنيان فرعوني. إّذن: هناك فرق بين عملية البناء وبين الشيء الذي ينشأ من هذه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5502 العملية، وكلمة البنيان اسم جنس جمعي؛ لأنه يصح أن يكون جمعاً ومفرده «بنيانة» مثلما نقول: «رمان» ، ومفرده «رمانة» ، و «عنب» ومفرده عنبة «، وأيضاً» روم «مفرده» رومي «فياء النسب هنا دخلت على الجمع فجعلته مفرداً. إذن: يُفرق بين الواحد والجمع، إما بالياء وإما بالتاء. وقد حكم سبحانه بألا يصلوا في مسجد الضرار، وعليهم أن يصلوا في المسجد الآخر، وهو مسجد قباء، ثم يرد سبحانه الأمر إلى المؤمنين، ليعرفوا أن ما حكم به سبحانه هو ما تقبله العقول، وأن حكمهم يوافق حكم ربهم. ثم يقول سبحانه: {أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} وهنا ثلاث كلمات: شفا، وجُرف، وهَار. والشفا مأخوذ من الشَّفَة، و» الشفا «حرف الشيء وطرفه. وسكانُ سواحل البحار يعرفون أن البحار لها نحر من تحت الأرض، وتجد الماء يحفر لنفسه مساحة تحت الأرض ويترك شفة من الأرض، ولو سار عليها الإنسان لوقع؛ لأنها الطرف الذي ليس له قاعدة وأسفله مَنْحور. و» شفا جُرُف «أي طرف سينهار؛ لأنه» هار «أي غير متماسك، فتكون الصورة أن الماء ينحر في الساحل، فيصنع شفة لها سطح وليس لها قاعدة تحتها، وهذه اسمها» شفا جُرُف «. وقد قال القرآن في موضع آخر: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5503 {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا ... } [آل عمران: 103] إنها الحفرة في النار، فكيف يكون شكلها؟ لابد أنه مرعب. ونحن نعلم أنهم كانوا حين يحفرون الآبارليخأذوا منها الماء، كانوا يضعون في جدار البئر أحجاراً تمنع ردمه؛ لأن البئر إن لم يكن له جدار من حجارة قد ينهار بفعل سقوط الرمال من على فوهته، وهكذا تمنع الأحجار أي جزء متآكل من سطح البئر من الوقوع فيه، والجزء المتآكل هو جرف هَارٍ، وهكذا كان مسجد الضرار، ينهار بمن فيه في نار جهنم. ويذيل الحق الآية: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} وهم كانوا ظالمين بالنفاق؛ لذلك لم يَهْدِهم الله إلى عمل الخير؛ لأن الله لا يهدي الظالم. وسبحانه يقول في أكثر من موضع بالقرآن: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108] ويقول سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264] ويقول عَزَّ وَجَلَّ: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258] والهداية - كما علمنا من قبل - قسمان: هداية الدلالة، وهي لجميع الخلق ويدل بها الناس على طريق الخير، ولهم أن يسلكوه أو لا يسلكوه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5504 فهم أحرار، فلله هداية شملت الجميع، وهي هداية الدلالة، أما الهداية المنفية هنا فهي هداية المعونة. ويقول الحق بعد ذلك: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5505 البنيان الذي بنوا هو مسجد الضرار، وأرادوا به ضرراً وكفراً وتفريقاً وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد وعدهم أن يصلي فيه، وكشف له الحق أنهم أرادوا بصلاة رسول الله فيه ذريعة وأن يرسموا الصلاة فيه. ولما عاد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غزوة تبوك أنزل الله عليه: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} وأرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعضاً من صحابته ليهدموا هذا المسجد، ولم يكتف بالهدم، بل أمر أن يُجْعَل مكان المسجد قمامة إشعاراً منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن المسجد بنيته الأولى كانت نجاسته نجاسة معنوية، وحين توضع فيه النجاسة الحسّية، تكون طهارة بالنسبة للنجاسة المعنوية، فكأنه طهر المكان من النجاسة المعنوية بالنجاسة الحسيّة. ورسول الله يعلمنا هنا أن الأمر ليس أمر نجاسات حسيّة، وإنما النجاسات المعنوية أفظع من النجاسات الحسيّة، فالإنسان قد يتحرز من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5505 النجاسات الحسيّة، لكن النجاسات التي تخامر القلوب والعقائد والعواطف فهي التي تسبب للإنسان الشقاء. وهنا يقول الحق: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} فبعد أن هدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا البنيان وصار موقعه موضع القذارة، بقي أمر هذا البنيان موضع شك منهم وصاروا يتوجسون أن ينزل بهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العقاب، وظلوا في شك من ان يصيبهم رسول الله بسوء، ولن يذهب هذا الشك من قلوبهم إلا أن تقطع تلك القلوب بالموت. إن الشك والريبة محلها القلب، والقلب هو العضو الثاني في استبقاء الحياة، أما العضو الأول في استبقاء الحياة فهو المخ، فما دامت خلايا المخ سليمة، فمن الممكن أن تعود الحياة إلى الإنسان ولكن برتابة، أما القلب فحين يتوقف فالأطباء يحاولون أن يعيدوا له الحركة، إما بشق الصدر أو تدليك القلب ليعود إليه النبض، وقد يفلحون ما دامت خلايا المخ سليمة، فالمخ في الإنسان هو سيد الجسم كله، ولذلك تجدون أن الحق قد صان المخ بأقوى الصيانات بعظام الجمجمة. وكذلك النخاعات التي تتحكم في إدارة الجسد، نجده سبحانه قد كفل لها من العظام أعلى درجات الصيانة. وترى في الحفريات أن الجماجم هي أبقى شيء، مما يدل على أنه للحفاظ على المخ قد جعل الله له أقوى العظام، وما دام المخ سيد الجسم سليماً فمن الممكن أن تستمر الحياة، ولذلك نجد أن الجسم كله يخدم المدبر للجسم، ويحافظ على صيانته. والإنسان إن تعرض للجوع يأكل من شحمه، وحين يفوته ميعاد تناوله للطعام، يعرض عليه الطعام يقول: ليس لي رغبة في الأكل، وهذا ليس إلاّ تعبيراً علمياً لما حدث في الجسم، فأنت أكلت بالفعل، فما دام قد مر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5506 ميعاد طعامك ولم تأكل فإن جسمك يأخذ ما يحتاجه من الدهون المخزونة به، وإذا ما انتهى الدهن يأخذ الإنسان من لحمه، وإذا ما انتهى اللحم يأخذ الإنسان غذاءه من عظامه، وكل ذلك من أجل أن يبقى السيد وهو «المخ» مصاناً. ولذلك تجد القرآن حيثما عرض مسألة سيدنا زكريا، قال على لسانه: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي ... } [مريم: 4] أي: أن آخر مخزن للقوت قد قارب على الانتهاء، أما النبات فهو عكس الإنسان، فسيد النبات أسفل شيء فيه وهو الجذر، ويحاول النبات المحافظة على جذره، فإن امتنع الغذاء عن النبات بامتناع المياه عنه، بدأت أوراق النبات في الذبول؛ لأنها تعطي حيويتها ومائيتها للجذر، ثم تجد الساق تجف لأنها تعطي حياة للجذر ليستمر إلى أن يأتي قليل من المياه أو قليل من الغذاء، فيعود الجذر قويّاً. والقلب هو محل العقائد والاعتقادات، وهي الأشياء التي تنشأ من المحسّات، وتتكون في الفؤاد لتصير عقائد لا تطفو للمناقشة من جديد، أما العقل فهو يناقش كل المسائل، وما إن ينتهي من الاقتناع بفكرة حتى تستقر في القلب. وهنا يوضح لنا الله أن هذا البنيان سيظل أثره في قلوبهم، ولن ينتهي منهم أبداً إلا بشيء واحد هو: {أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} والقلوب لا تتقطع إلا بالموت، وكأن الشك من هذا البنيان سيظل يلاحقهم إلى أن يموتوا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5507 أو: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي: أن تتقطع توبة وأسفاً وحزناً. وهذا تهديد لهم بأنهم مسيئاتهم ليست من الخارج، وإنما مسيئاتهم من ذوات نفوسهم. ووجود الريبة في نفوسهم، يعني أنها لن تجعلهم يستشرون في الإفساد لخوفهم المستمر من العقاب. ثم يقول سبحانه: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وعلمه سبحانه شامل فلا تخفى عليه خافية، وحكمته سبحانه أنه يضع كل شيء في مكانه. ثم يقول سبحانه: {إِنَّ الله اشترى ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5508 بعد أن تكلم الحق عن الذين تخلفوا عن الغزو، وعن الذين اعتذروا بأعذار كاذبة، وعن الذين أرجأ الله فيهم الحكم، أراد أن يبين سبحانه أن تخلفهم ليس له أي أهمية؛ لأن الله سبحانه وتعالى عوَّض الإيمان وعوّض الإسلام بخير منهم، فإياكم أن تطنوا أنهم بامتناعهم عن الغزو سوف يُتعبون الإسلام، لا؛ لأن الحق سبحانه ينصر دينه دائماً. فيقول الله سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5508 {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} يقول العلماء: كيف يشتري الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وهو الذي خلق الأنفس وهو الذي وهب المال؟ وقالوا: ولكن هبة الله لهم لا يرجع فيها، بدليل أن المال مال الله، وحين أعطاه لإنسان نتيجة عمله أوضح له: إنه مالك بحيث إذا احتاجه أخ لك في الدين، فأنا أقترضه منك، ولم يقل: «أسترده» . فسبحانه القائل: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] لقد احترم الحق الهبة للإنسان، واحترم عرقه وسعيه، وكأنه سبحانه حينما وهب البشر الحياة، ووهبهم الأنفس أعلن أنها ملكهم حقّاً، ولكنه أعطاها لهم، وحين يريد أخذها منكم فلا يقول: إنه يستردها بل هو يشتريها منكم بثمن؛ ولذلك يقول النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إن سلعة الله غالية، إن سلعة الله غالية، إن سلعة الله هي الجنة.» أي: اجعلوا ثمنها غالياً. {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} . وكلمة {اشترى} تدل على أن هناك صفقة، عملية شراء وبيع. وإن كان هذا ملكاً لله، فالله هو المشتري، والله هو البائع، فلابد أن لهذا الأمر رمزية، وهذه الرمزية يلحظها الإنسان في الولي على اليتيم أو السفيه، فقد يصح أن يكون عندي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5509 شيء وأنا ولي على يتيم، فأشتري هذا الشيء بصفتي، ثم أبيعه بصفتي الأخرى، فالشخص الواحد يكون هو الشاري وهو البائع، فكأن الله يضرب لنا بهذا المثل: «إنكم بدون منهج الله سفهاء، فدعوا الله يبيع ودعوا الله يشتري» . وما الثمن؟ يأتي التحديد من الحق: {بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} هذا هو الثمن الذي لا يفنى، ولا يبلى، ونعيمك فيها على قدر إمكانيات الله التي لا نهاية لها، أما نعيمك في حياتك فهو على قدر إمكانياتك أنت في أسباب الله، وهكذا يكون الثمن غالياً. «وحينما جاء الأنصار في بيعة العقبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ ماذا قال رسول الله؟ أقال لهم ستفتحون قصور بُصْرى والشام وتصيرون ملوكاً، وينفتح لكم المشرق والمغرب؟ لم يقل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً من هذا، بل قال: «الجنة» ؛ لأن كل شيء في الدنيا تافه بالنسبة لهذا الثمن، قالوا: «ربح القليل لا نقيل ولا نستقيل» وبمجرد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5510 عقد الصفقة العهدية بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين الأنصار، كان من الممكن أن يموت واحد أو اثنان أو ثلاثة قبل أن يبلغ الإسلام حظه وذروته، وقد يقال: فلان مات ولم يأخذ شيئاً من ماديات الحياة. لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «الجنة» ، فمن مات يدخلها. {بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} هذا هو الثمن، وهو وعد بشيء يأتي من بعد، ولكنه وعد ممن يملك إنفاذه؛ لأن الذي يقدح في وعود الناس للناس، أنك قد تعدُ بشيء ولكن تظل حياتك ولا تفي به، أو أن تقل إمكاناتك عن التنفيذ. إذن: الوعد الحق هو ممن يملك ويقدر، وحيّ لا يموت، لذلك يقول في هذه الآية: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} ويقول في آخرها: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} و «وَعْد» مصدر، فأين الفعل، إننا نفهمها: أي وعدهم الله بالجنة وعداً منه سبحانه وهو الذي يملك وهو وعد حق. والقرآن حين يأتي بقضية كونية، فالمؤمن يستقبلها بأنها سوف تحدث حتماً، فإذا ما جاء زمنها وحدثت صارت حقّاً ثابتاً، مثلما يقول سبحانه: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] هذه قضية قرآنية، حدثت من قبل وثبتت في الكون. وماذا بعد أشتري الله من المؤمنين أموالهم وأنفسهم؟ هنا يحدد الحق المهمة أمامهم: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5511 {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} و «قَاتَل» ، و «قَتَلَ» غير «قَاتَلَ» . فالقتل عمل من جهة واحدة، لكن «قَاتَلَ» تقتضي مفاعلة، مثلها مثل «شَارَكَ زيدٌ عَمْراً» . وكل مادة «فاعَلَ» توضح لنا الشركة في الأمر، فكل واحد منهم فاعل، وكل واحد منهم مفعول. ولذلك تجد في أساليب العرب ما يدلك على أن ملحظ الفاعلية في واحد هو الغالب، وملحظ المفعولية في الآخر هو الغالب، ولكن على التحقيق فإن كل واحد منهم فاعل من جهة، ومفعول من الجهة الأخرى. فمثلاً: الرجل الذي سار في الصحراء التي فيها حيّات وثعابين، ولم يُهج الرجل أثناء سيره الحيّات ولا الثعابين، بل تجنبها، والثعبان ما دُمْت لا تهيجه فهو لا يفرز سمّاً؛ لأن سمّ الثعبان لا يفرز إلا دفاعاً. وساعة يرى الثعبان أنك ستواجهه يستعمل سُمَّه، فإذا كان الرجل سائراً وله قدرة المحافظة على عدم إهاجة الثعابين ولا الحيات، فهو قد «سالمها» ، والشاعر يقول: قد سَالَمَ الحيَّاتُ منه القَدَما ... والإفْعُوان والشُّجَاعَ الشَّجْعَما والأفعوان هو الثعبان الفظيع، ونلحظ أن «الأفعوان» منصوب، وأن «الحياتُ» مرفوعة، إذن: فالقدم مفعول، والحيات فاعل وجاء بالقدم منصوبة، وكذلك الشجعم لما في الحيات من المفعولية؛ لأن الحيّات إذا سالمت القدمَ فقد سالمها القدمُ، فكأنه قال: سالم القدمُ الحيّاتِ، ثم جعل الأفعوان بدلاً منها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5512 وهنا يقول الحق: {بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ} فمن يقاتل: إما أن يَقْتل وإما أن يُقْتَل، وفي قراءة الحسن يقدم الثانية على الأولى، ويقول: «فيُقْتَلُون ويَقْتُلوُنَ» ؛ فالمسألة صفقة بمقتضى قوله: {بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} لذلك يُقدم قتلهم، وهو الأقرب لمعنى الصفقة. وأيضاً فإن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً؛ وإذا ما جاء المؤمنون في جانب؛ والكفار في جانب آخر فالمؤمنون بنيان، والحق هو القائل: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4] فإذا ما سبق قوم من المؤمنين بأن يُقْتَلوا، فكأن الكل قُتل. إذن: فحين قتل بعض المؤمنين، يمكننا أن نقرأ قول الحق على قراءة الحسن ونقول: «فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ» . أو: أنهم حينما دخلوا إلى القتال وضعوا في أنفسهم أن يقتلوا، ولم يغلبوا جانب السلامة. وكلنا نعرف قصة الصحابي الذي قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أليس بيني وبين الجنة إلا أن ألقى هؤلاء فيقتلوني؟ قال له: «نعم» فأخرج الصحابي تمرة كانت في فمه، ودخل إلى القتال وكأنه يستعجل الجنة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5513 {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن} ، وهذا تأكيد بأن لهم الجنة، وهو وعد من الحق في التوراة والإنجيل والقرآن لمن يدخلون المعارك دفاعاً عن الإيمان. وكل دين في وقته له مؤمنون به، ويدخلون المعارك دفاعاً عنه. إذن: فالقتال في سبيل نصرة الدين والدفاع عنه ليس مسألة مقصورة على المسلمين، لكنها لم تكن عامة عند الرسل، فقد كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي يتدخل لعقاب أهل الكفر، وكان الرجل يبلِّغ، فإذا لم يستجِبْ له قومه؛ عاقبهم الله سبحانه، والقرآن يقول: {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا ... } [العنكبوت: 40] ولم تَأْتِ مسألة القتال في سبيل الله إلا عندما طلب اليهود من بعد سيدنا موسى عليه السلام أن يقاتلوا في سبيل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله ... } [البقرة: 246] إذن: فهذا وعد من الله في التوراة للذين آمنوا بموسى عليه السلام، وطالبوا بالقتال في سبيل الله، وكذلك في الإنجيل للذين آمنوا بعيسى عليه السلام، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5514 وأخيراً في القرآن للذين آمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. أو: أن هذا الوعد خاص بأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنها الأمة المأمونة للدفاع عن كلمة الله بالمجهود البشري. وبهذا يكون الوعد في التوراة والإنجيل والقرآن هو وعد لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكأن التوراة قد بُشِّر فيها بهذا للمسلمين المؤمنين بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذلك الإنجيل قد بُشِّر فيه بهذا الوعد للأمة المسلمة. والدليل على ذلك هو قول الحق سبحانه في آخر سورة الفتح: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ... } [الفتح: 29] إذن: فالدين لا يطبع المتدين لا على الشدة ولا على الرحمة، إنما يطبعه انطباعاً يصلح لموقف الشدة فيكون شديداً، ولموقف الرحمة فيكون رحيماً. ولو أنه مطبوع على الشدة لكان شديداً طوال الوقت، ولو طُبع على الرحمة فقط لكان رحيماً كل الوقت، ولكن شاء الحق أن يطبع المؤمنين ليكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم؛ ولذلك فالدين لا يطبع الناس على ذلة ولا على عزة، إنما يجعلهم أذلة على المؤمنين، وأعزة على الكفار. وبذلك يُطوِّع المؤمن نفسه، هو شديد ورحيم، عزيز وذليل، فهو طوع للمنهج، فحين يتطلب منه منهج الله أن يكون شديداً يشتد، وحين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5515 يتطلب منهج الله منه أن يكون رحيماً يرحم، وحين يتطلب الله من أن يكون ذليلاً بالنسبة لإخوانه المؤمنين يذل، وحين يتطلب الله منه أن يكون عزيزاً على الكافرين يعز. {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ... } [الفتح: 29] وتتابع صفات المؤمنين في قوله سبحانه: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ... } [الفتح: 29] وهم في ركوعهم وسجودهم إنما يعبرون عن قيم الولاء لله. ثم يصفهم سبحانه: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود ... } [الفتح: 29] وهم لا يريدون إلا رضاء الله وفضله، والنور يشع من وجوههم؛ لأنهم أهل للقيم، ويضيف سبحانه: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة ... } [الفتح: 29] أي: أن التوراة جاءت فيها البشارة بأن محمداً سيجيء بأمة فيها الخصال الإيمانية والقيمية التي لا توجد في اليهود، هؤلاء الذين تغلب عليهم المادية ولا ترتقي أرواحهم بالقيم الدينية، فأنت إن نظرت إلى التوراة المحرفة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5516 فلن تجد فيها أي شيء عن اليوم الآخر، بل كلها أمور مادية. أما في الإنجيل فقد جاءت المسيحية بالرهبنة، والماديات فيها ضعيفة؛ ولذلك جاء القرآن منهجاً متكاملاً تنتظم به الحياة، قيماً حارسة، ومادة محروسة؛ فالعالم يفسد حين تأتي المادة فتطغى وتنحسر القيم، أو حين توجد قيم ليس لها قوة مادية تدافع عنها، فيأبى القوي الظالم إلا أن يطغى بقوته المادية على القيم الروحية فيكون الخلل في البناء الاجتماعي. إذن: فنحن في حاجة دائمة إلى قيم تحرسها مادة، ومادة تحرسها قيم. وأخبر الله قوم موسى: أنتم لا تملكون القيم المعنوية، وتعتزون بالقيم المادية، لذلك ستأتي أمة محمد وهي تملك قيم الروح والمادة، فهم رُكَّع، سُجَّد، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود. وأبلغ سبحانه قوم عيسى عليه السلام أنه سيأتي في أمة محمد بمنهج يعطيهم ما فقدتموه من المادة؛ بسبب أنكم انعزلتم عن الحياة وابتدعتم رهبنة ما كتبها الله عليكم، بينما نحن نريد حركة في الحياة. {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار ... } [الفتح: 29] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5517 ومن حق المسلمين أن يقولوا: أيها الكافرون ليست لكم مادة تطغون بها علينا؛ لأن الإسلام يريد من حركة حياتنا على ضوء منهجه في الأرض أن تتوازن المادة مع القيم؛ لأن القيم هي التي تحرس الحضارة، والمادة إنما تحرس القيم، وحين يمتلك المسلمون القوة المادية فسيرتدع أي إنسان عن أن يطمع في فتنة المسلمين في دينهم؛ ولذلك قال الحق سبحانه: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ ... } [الأنفال: 60] فالكفار إذا رأوك قد أعددْتَ لهم يتهيبون. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن} وما دام الحق قد أعطى الوعد، فلن يوجد من هو أوفى منه؛ لذلك يقول: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} وبذلك يطمئننا سبحانه على أن وعده محقق؛ لأن العهد ارتباط بين مُعَاهَد ومُعَاهِد، والذي يخرج عن هذا الارتباط أمران: الأول: ألا يكون صادقاً حين أعطى عهداً، بل كان في نيته ألا يوفي، ولكنه أقام العهد خديعة حتى يستنيم له المعَاهَد. والأمر الثاني: أن يكون قد أعطى وعداً بما لا يستطيع تنفيذه، فهو كاذب. والله لا يليق به لا الكذب ولا الخديعة؛ فسبحانه مُنزَّه عن كل ذلك، ولا أحد أوْفَى بالعهد من الله. فقد يُطعن في العهد والوفاء به عدم القدرة، لكن قدرة الحق مستوفية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5518 إذن: فالعهد الحقيقي إنما يؤخذ من الله، وقد جاء الحق بهذه القضية بشكل استفهامي {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} ؟ فالإجابة: لا أحد؛ لأن الذي يقدح في مسألة العهد الخُلف والكذب وغير ذلك. والله سبحانه مُنزَّه عن الكذب والخديعة؛ لأن الخديعة لا تأتي إلا من ماكر، وإذا سمع أي إنسان {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} ثم أدار فكره في الكون ليبحث عن جواب، فلا يجد إلا أن يقول: «الله» ، ولا أحد أوفى من الله بالعهد. وما دام الوعد بالجنة، فالجنة لا يملكها إلا هو سبحانه ووعده حق، وكلها تأكيدات بأن المسألة واقعة وحادثة. ولهذا يقول سبحانه: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} [التوبة: 111] فالنتيجة لهذه المسألة كلها من شراء الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ثم وعده الحق المبيّن في التوراة والإنجيل والقرآن، وكلها شهادات مسجلة هي الاستبشار بما باعه المؤمن لله. فالإنسان - ولله المثل الأعلى - لا يسجل إلا ما يكون في صالح قضيته، ولا يسجل للخصم، فعندما يكون عندك صَكٌّ على فلان، فأنت الذي تحتفظ به وتحرص عليه؛ لأنه يؤيد حقك. والحق سبحانه يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] والقرآن هو الحجة الكاملة الشاملة في كل أمور الدنيا والآخرة، ومن فَرْط صدق القرآن أن البشر قد يصلون إلى قضية كونية ما، ومن بعد ذلك تُخَالَف، وحين تعود إلى القرآن تجد أن كلام القرآن هو الذي صدق، وقد حفظ الحق سبحانه القرآن لأن قضايا الكون الذي خلقه الله لا يمكن أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5519 تخرج عن قضايا القرآن؛ لأن منزل القرآن وخالق الكون واحد، فلا شيء يصادمه. {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} قوله الحق: {فاستبشروا} مأخوذ من «البشرة» ، وهي الجلد عامة، وإن كان الظاهر منه هو الوجه. وحين يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فقد يفهم أحد أن النفس سوف تضيع، وأن الأموال سوف تنفق، وهذا قد يُقبِضُ النفس فهذا فيه الموت، وخسارة للمال، وكان من الطبيعي أن يشحب وجه الإنسان ويفزع ويخاف. ولكن ساعة يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله اشترى} يجد بشرة المؤمن تطفح بالسرور. والبشر، ويحدث له تهلل وإشراق، مع أنه هنا سيأخذ نفسه، ولكن المؤمن يعرف أنه سبحانه سيأخذ نفسه ليعطيه الحياة الخالدة. إذن: قضايا الإيمان كلها هكذا لا يجب أن تصيبنا بالخوف، بل علينا أن نستقبلها بالاستبشار، ولذلك يقول الحق: {فاستبشروا} أي: فليظهر أثر ذلك على بشرتكم إشراقاً وسروراً وانبساطاً. {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ} وهل يستبشر الإنسان بالبيع؟ نعم؛ لأن الإنسان لا يبيع إلا ما يستغني عنه عادة، ويشتري ما يحتاج إليه، فهنا الاستبشار بالبيع وليس بالشراء، فالمؤمن هنا يبيع فانياً بباق. {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} وأنت إذا ما نظرت إلى الذين يخالفون العهد الذي أخذ عليهم، تجد الواحد منهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5520 يحتاج للمخالفة لأن وفاءه يتبعه. لكن الحق سبحانه ليس في حاجة لأحد وهو غني عن الجميع، ولا يوجد أدنى مبرر لخُلْف الوعد أبداً. وتأتي {وَذَلِكَ} إشارة إلى الصفقة التي انعقدت بينكم وبين ربكم. {وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} والفوز هو بلوغ الغاية المأمولة في عرف العقل الواعي، كما تقول لابنك: «ذاكر لتفوز بالنجاح» وتقول للتاجر: «اجتهد في عملك بإخلاص لتفوز بالربح» . إذن: فهناك «فوز» ، وهناك «فوز عظيم» والفوز في الدنيا أن يتمتع الإنسان بالصحة والمال وراحة البال. وهناك فوز أعظم من هذا؛ أن تضمن أن النعمة التي تفوز بها لا تفارقك ولا أنت تفارقها، فيكون هذا هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه؟ ويقول الحق بعد ذلك: {التائبون العابدون ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5521 وبعد أن عرض الحق هذه الصفقة، فمن هم المقبلون عليها؟ إنهم التائبون، والتوبة: هي الرجوع عن أي باطل إلى حق. وعمَّ يتوب هؤلاء التائبون؟ نحن نعلم أن هناك إيماناً اسمه إيمان الفطرة. نجد ذلك في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172 - 173] إذن: فالإيمان أمر فطري، والكفر هو الذي طرأ عليه، وقلنا من قبل: إن الكفر هو الدليل الأول على الإيمان؛ لأن الكفر هو الستر، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5522 فمن يكفر بالله - والعياذ بالله - إنما يستر وجوده، فكأن وجوده هو الأصل، ثم يطرأ الكفر فيسرته، ثم يأتي من ينبه في الإنسان مشاعر اليقين والإيمان فيرجع الإنسان إلى الإيمان بالله بعد أن يزيل الغشاوة التي طرأت على الفطرة. و {التائبون} : منهم التائبون عن الكفر الطارئ على إيمان الفطرة، وأخذوا منهج الله الذي آمنوا به، ومن هنا نشأت العبادة التي تقتضي وجود عابد ومعبود، والعبادة تعني الانصياع من العابد لأوامر ونواهي المعبود. {التائبون العابدون الحامدون} والعبادة كلها طاعة تتمثل في تطبيق ما جاء به المنهج من «افعل» و «لا تفعل» ، وقد يتدخل المنهج في حريتك قليلاً، وأنت بقوة الإيمان تعتبر أن هذا التدخل في هذه الحرية نعمة يجب أن تحمد الله عليها؛ لأنه لو تركك على هواك، كما يترك ولي الأمر التلميذ ابنه على هواه فهو يفشل، ولكن الأب الذي يحث ابنه على المذاكرة وينهاه عن اللعب والعبث، فلا بد أن ينجح. إذن: الأوامر والنواهي هنا نعمة، كان يجب أن نحمد ربنا عليها، وكل ما يجريه الله على العبد المؤمن يجب أن يأخذه العبد على أساس أنه نعمة. إذن: فالذين تابوا عن الكفر الطارئ على إيمان الفطرة هم تائبون يأخذون منهج الإيمان من المعبود، ويصبحون بذلك عابدين لله، أي: منفذين الأوامر، ومبتعدين عن النواهي، وهم يعلمون أن الأوامر تقيد حركة النفس وكذلك النواهي، ولكنهم يصدقون قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حُفَّتِ الجنةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5523 بالمكاره، وحُفَّت النارُ بالشَّهوات» حين تعرف أن العبادة أوصلتك إلى أمر ثقيل على نفسك، فاعرف أن هذا لمصلحتك وعليك أن تحمد الله عليه؛ وبذلك يدخل المؤمن في زمرة الحَامِدينَ. وأنت حين تؤمن بالله، يصبح في بالك، فلا يشغلك كونه عنه سبحانه، وإياك أن تشغل بالنعمة عن المنعم، واجعل الله دائماً في بالك، والحق سبحانه يقول: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] لذلك يفكر المؤمن في الله دائماً ويشكر المنعم على النعمة وآثارها من راحة في بيت وأولاد وعمل. و {الحامدون} أيضاً لا بد أن يستقبلوا كل قدر لله عليهم بالرضا؛ لأن الذي يُجري عليهم القدر - ما دام لم يأمرهم بما لم يقع في اختيارهم - فهو حكيم ولا يُجري سبحانه عليهم إلا ما كان في صالحهم. وبعد أن ترضى النفس بما أجرى عليها تعرف الحكمة؛ ولذلك يقول سبحانه: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله ... } [البقرة: 282] ويتابع الحق صفات المقبلين على الصفقة الإيمانية فيقول: {السائحون} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5524 ومعنى «سائح» هو من ترك المكان الذي له موطن، فيه بيته وأهله وأولاد وأنس بالناس، ثم يسيح إلى مكان ليس فيه شيء ما، قد يتعرض فيه للمخاطر، والمؤمن إنما يفعل ذلك؛ لأنه لا شيء يشغله في الكون عن المكوِّن، ويقول الحق سبحانه: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا ... } [الأنعام: 11] إذن: فالسياحة هي السير المستوعب، والسير في الأرض منه سير اعتبار لينظر في مكلوت السموات والأرض، وليستنبط من آيات الله ما يدل على تأكيد إيمانه بربه، ومنه سير استثمار بأن يضرب في الأرض ليبتغي من فضل الله. إذن: فالسياحة إما سياحة اعتبار، وإما سياحة استثمار، أما سياحة الاستثمار فهي خاصة بالذين يضربون في الأرض، وهم الرجال. أما سياحة الاعتبار؛ فهي أمر مشترك بين الرجل والمرأة، بدليل أن الله قال ذلك في وصف النساء: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ... } [التحريم: 5] إذن: {سَائِحَاتٍ} هنا مقصود بها سياحة الاعتبار، أو السياحة التي تكون في صحبة الزوج الذي يضرب في الأرض. وقيل أيضاً: إن السياحة أطلقت على «الصيام» ؛ لأن السياحة تخرجك عما ألفْتَ من إقامة في وطن ومال وأهل، والصيام يخرجك عما ألفْتَ من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5525 طعام وشراب وشهوة. إذن: القَدْرُ المشترك بين الرجال والنساء هو في سياحة الاعتبار وسياحة الصوم. ثم يقول الحق سبحانه: {الراكعون الساجدون} أي: المقيمون للصلاة، وقد جاء بمظهرين فقط من مظاهر الصلاة، مع أن الصيام قيام وقعود وركوع وسجود؛ لأن الركوع والسجود هما الأمران المختصان بالصلاة، وأما القيام فقد يكون في غير الصلاة، وكذلك القعود. إذن: فالخاصيَّتان هما ركوع وسجود؛ والحق يقول: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} [آل عمران: 43] أي: صلّي مع المصلِّين، وهكذا نجد أن الركوع والسجود هما الأمران اللذان يختصان بالحركة في الصلاة. ثم يقول سبحانه: {الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر} والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حيثية تخص الأمة المحمدية لتكون خير أمة أخرجت للناس، فالحق سبحانه يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر ... } [آل عمران: 110] فإذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا بد أن تكون بمنأى عن هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5526 المنكر فليس معقولاً أن تنهى عن شيء أنت مزاول له. إذن: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صلاح أو هدى مُتَعدٍّ من النفس إلى الغير، بعد أن تكون النفس قد استوفَتْ حظها منه. ويقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تعرف المعروف الذي تأمر به، وأن تعرف المنكر الذي تنهى عنه؛ لذلك لا بد أن تكون من أهل الاختصاص في معرفة أحكام الله، ومعرفة حدود الله حِلاّ وحُرْمة، أما أن يأتي أي إنسان ليُدخل نفسه في الأمر ويقول: أنا آمر بمعروف وأنا أنهى عن منكر، هنا نقول له: لا تجعل الدين، ولا تجعل التقوى في مرتبة أقل من المهن التي لا بد أن يزاولها أهل فكر ومتخصصون فيها. ثم يقول سبحانه: {والحافظون لِحُدُودِ الله} و «الحدود» جمع «حد» وتأتي الحدود في القرآن على معنيين: المعنى الأول هو المحافظة على الأوامر، وتلك التي يردفها الحق بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا ... } [البقرة: 229] وكل أمر يقول فيه ذلك هو حد الله فلا تتعدَّ هذا الحد، أما المعنى الثاني: فهو البعد عن المنهيات فلا يقول لك: لا تتعداها، بل يقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا ... } [البقرة: 187] ويُنهى الحق سبحانه الآية بقوله: {وَبَشِّرِ المؤمنين} أي: بَشِّرْ هؤلاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5527 الذين يسلكون هذا السلوك مطابقاً لما اعتقدوه من اليقين والإيمان، لا هؤلاء المنافقين الذي قد يصلون أو يصومون ظاهراً. وكلمة {وَبَشِّرِ} و «استبشر» و «البشرى» و «البشير» كلها مادة تدل على الخبر السار الذي يجعل في النفس انبساطاً وسروراً؛ بحيث إذا رأيت وجه الإنسان وجدته وجهاً متهللاً تفيض بشرته بالسرور. وبعد ذلك يتكلم الحق عن أمر شغل بال المؤمنين الذين كان لهم آباء على الكفر؛ ومن حقوق هذه الأبوة على الأبناء أن يستغفروا لهم لعل الله يغفر، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن رعاية حدود الله وحقوقه أوْلَى من قرابة الدم، وأوْلى من عاطفة الحنوّ والرحمة؛ فالحق سبحانه وتعالى أوْلى بأن يكون الإنسان باراً به من أن يكون بارّا بالأب الكافر، وقد جعل الحق سبحانه النسبَ في الإسلام نفسه. ثم يقول الحق سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5528 قبل أن يحظر الحق سبحانه على المؤمنين الاستغفار لآبائهم المنافقين، بدأ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالك {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} ، وإذا كان النبي ينهى، فالمؤمنون من باب أوْلى ليس بهم الحق في ذلك؛ لأن الله لو أراد أن يكرم أحداً من الآباء لأجل أحد، لأكرم أباء النبي إن كانوا غير مؤمنين. وكلمة {مَا كَانَ} تختلف عن كلمة «ما ينبغي» فساعة تسمع «ما ينبغي لك أن تفعل ذلك» فهذا يعني أن لك قدرة على أن تفعل، لكن لا يصح أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5528 تفعل، ولكن حين يقال: «ما كان لك أن تفعل» ، أي: أنك غير مؤهل لفعل هذا مطلقاً. ومثال ذلك أن يقال لفقير جدّاً: «ما كان لك أن تشتري فيديو» ؛ لأنه بحكم فقره غير مؤهل لشراء مثل هذا الجهاز، لكن حين يقال لآخر: ما ينبغي لك أن تشتري فيديو «أي: عنده القدرة على الشراء، لكن القائل له يرى سبباً غير الفقر هو الذي يجب أن يمنع الشراء. إذن: فهناك فَرْق بين نفي الإمكان، ونفي الانبغاء. وهنا يقول الحق سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم} أي: ما كان للنبي ولا المؤمنين أن يستغفروا للذين ماتوا على الشرك والكفر، ولو كانوا أولي قربى. فهذا أمر لا يصح. وحتى لا يحتج أحد من المؤمنين بأن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد استغفر لأبيه جاء الحق بالقول الكريم: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5529 {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5530 فقد وعد سيدنا إبراهيم عليه السلام أباه ما ذكره القرآن: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47] {حَفِيّاً} أي: أن ربَّ إبراهيم يحبه وسيكرمه في استغفاره لأبيه. {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} ويأتي الحق سبحانه بالحيثية الموحية، بأن إبراهيم له من صفات الخير، الكثير جداًّ، لدرجة أن الله خالقه يقول فيه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ... } [النحل: 120] أي: أن خصال الخير في إبراهيم عليه السلام لا توجد مجتمعة في إنسان واحد، ولا في اثنين ولا في ثلاثة، بل خصال الخير موزعة على الناس كلها، فهذا فيه صفة الأمانة، وثان يتحلى بالصدق، وثالث يتميز بالشهامة، ورابع موهوب في العلم، إذن: فخصال الخير دائماً ينشرها الله في خلقه، حتى يوجد تكافؤ الفرص بين البشر، كالمهن، والحرف، والعبقريات، والمواهب، فلا يوجد إنسان تتكامل فيه المواهب كلها ليصبح مجمع مواهب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5530 لكن شاء الحق أن يجمع لسيدنا إبراهيم عليه السلام خصال خير كثيرة فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي: فيه عليه السلام من خصال الخير التي تتفرق في الأمة. وبعد ذلك يعطينا الحيثية التي جعلت من سيدنا إبراهيم أمة، وجامعاً لصفات الخير بهذا الشكل، فإن أعطاه الله أمراً فهو ينفذه بعشق، لا مجرد تكليف يريد أن ينهيه ويلقيه من على ظهره، بل هو ينفذ التكليف بعشق، واقرأ قول الله سبحانه: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ... } [البقرة: 124] أي: أتى بها على التمام، فلما أتمهن أراد الله أن يكافئه، فقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ... } [البقرة: 124] فهو - إذن - مأمون على أن يكون إماماً للناس لأنه قدوة، أي أنه يشترك مع الناس في أنه بشر، ولكنه جاء بخصال الخير الكاملة فصار أسوة للناس، حتى لا يقول أحد: إنه فعل الخير لأنه ملك، وله طبيعة غير طبيعة البشر، لا. . إنه واحد من البشر، قال فيه الحق سبحانه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ... } [البقرة: 124] أي: أسوة وقدوة، والأسوة والقدوة يشترط فيها أن تكون من الجنس نفسه فلا تكون من جنس مختلف، فلا يجعل الله للبشر أسوة من الملائكة؛ حتى لا يقول أحد: وهل أنا أستطيع أن أعمل مثل عمله؟ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في عرض هذه القضية: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5531 فحين تعجَّب بعض الناس من أن ربنا قد بعث من البشر رسولاً أنزل الحق هذا القول وأضاف سبحانه: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] فما دُمتم أنتم بشر فلا بد أن يرسل لكم رسولاً منكم لتحقق الأسوة، لهذا يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] ولنَر كيف أتم سيدنا إبراهيم عليه السلام بعض التكاليف بعشق، فلننظر إلى قول الحق سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت ... } [البقرة: 127] ومعنى رفع القواعد أي إيجاد البعد الثالث، وهو الارتفاع؛ لأن البيت الحرام له طول وهذا هو البعد الأول، وله عرض وهو البعد الثاني وبهما تتحدد المساحة. أما الارتفاع فبضربه في البعدين الآخرين يعطينا الحجم، وقد أقام سيدنا إبراهيم عليه السلام البعد الثالث الذي يبرز الحجم، وقد قال بعض السطحيين: إن سيدنا إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة، لا لم يبن الكعبة، بل رفع القواعد التي تبرز حجم الكعبة؛ بدليل أنه حينما جاء هو أمرأته هاجر ومعها الرضيع إسماعيل عليه السلام قال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5532 {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم ... } [إبراهيم: 37] وهذا دليل على أن البيت كان معروفاً من قبل إبراهيم عليه السلام، وقد استقرت به هاجر وطفلها إسماعيل إلى أن كبر واستطاع أن يرفع مع أبيه القواعد، ولذلك نقول: إن هناك فرقاً بين «المكان» و «المكين» فالذي فعله إبراهيم هو إقامة «المكين» أي المبنى نفسه، أما المكان فقد كان معروفاً. ولنفترض أنه جاء سيل على الكعبة وهدمها فإلى أي شيء سنصلي؟ إلى أن نقيم المكين. إذن: عملية البناء هذه للمكان، وليبست للمكين. ويقول الحق عن البيت الحرام: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ... } [آل عمران: 97] وآيات جمع، وبينات جمع، ولم يأت من الآيات البينات إلا «مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ» . {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ... } [آل عمران: 97] أي: أن «مقام إبراهيم» هو مجموع الآيات البينات؛ لأن الله قد أمره أن يرفع القواعد، وكان لا بد أن يبحث عن الإمكانات التي تساعده في الرفع؛ لأنه لو رفعها على قدر ما تطول يده لما بلغ طول الكعبة فوق مستوى ما تطوله اليدان؛ لذلك فكر سيدنا سيدنا إبراهيم وتدبر وجاء بحجر ليقف فوقه ليطيل في ارتفاع جدران الكعبة، وهذا من دلائل أنه ينفذ التكليف بعشق، وعلى أتم وجه؛ لذلك قال الحق: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وفي هذا آيات واضحة على أن الإنسان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5533 إذا كلف أمراً فعليه ألا ينفذ الأمر لينهى التكليف بأية طريقة، ولكن عليه أن يؤدي ما يكلف به بعشق، ويحاول أن يزيد فيه، وبذلك يؤدي «الفرض» والزائد على الفرض وهو «النافلة» . ونحن هنا في قضية الاستغفار {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} وهنا وقفة توضح لنا طبع سيدنا إبراهيم كأواه حليم، والأواه هو الذي يكثر التوجع والتأوه على نفسه مخافة من الله، وعلى الناس إن رأى منهم معصية، فيحدث نفسه بما سوف يقع عليهم من عذاب، إنه يشعل نفسه بأمر غيره، فهذه فطرته، وهو أواه لأن التأوه لون من السلوى يجعلها الله في بعض عباده للتسرية عن عبادٍ له آخرين. ولذلك يقول الشاعر: ولا بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ ... يواسيك أو يسلّيك أو يتوجع أي: أنه إذا إصابت الإنسان مصيبة فهو يشكو إلى صاحب المروءة، فإما أن يساعده في مواجهة المشكلة، وإما أن يواسيه ليحمل عنه المصيبة، بأن يتأوه له ويشاركه في تعبه لمصيبته، وهذا التأوه علامة رقة الرأفة وشفافية الرحمة في النفس البشرية. فإبراهيم {أَوَّاهٌ} ، وهذا طبع فيه يسلكه مع كل الناس، فما بالك إن كان لقريب له؟ لا بد إذن أن يكثر من التأوه، وخصوصاً إن كان الأمر يتعلق بأبيه، ومع ذلك أراد الله أن يضع طبع إبراهيم عليه السلام في التأوه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5534 في موضعه الصحيح، ولكن الله أوضح له: إياك أن تستغفر لأبيك ولا شأن لك به، فالمسألة ليست في الطبع، ولكن في رب الطبع الذي أمر بذلك. وهنا قضية هامة أحب أن تصفى بين مدارس العلم والعلماء في العالم كله؛ لأنها مسألة تسبب الكثير من المشاكل، وتثار فيها أقضية كثيرة. لقد أمر الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام ألا يستغفر لأبيه، بعد أن تبين له أنه عدو لله، وما دام والد إبراهيم قد وصف بهذه الصفة وأنه عدو الله ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من نسل إبراهيم إذن: فلماذا يقول الرسول: «إنني خيار من خيار من خيار» ؟ ولو فهمنا قول الحق: إن أبا إبراهيم عدو لله، ففي هذا نقض لحديث رسول الله، وما دام أبو إبراهيم كان عدوا لله وتبرأ منه وقال له الحق: لا تستغفر. إذن: ففي نسبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحد أعداء الله، وفي ذلك نقض لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خيار من خيار خيار، ما زلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» ولهذا نريد أن نصفي هذه المسألة تصفية علماء، لا تصفية غوغاء، ولنسأل من هو الأب؟ الأب هو من نَسَلَكَ وأنجبك، أو نسل من نسلك. إذن: فهناك أب مباشر وأبوه يعتبر أبا لك أيضاً إلى أن تنتهي لآدم، هذا هو معنى كلمة «الأب» كما نعرفه، لكننا نجد ان القرآن قد تعرض لها بشكل أعمق كثيراً من فهمنا التقليدي، وأغنى السور بالتعرض لهذه المادة «سورة يوسف» ؛ لأن مادة «الأب» جاءت ثماني وعشرين مرة خلال هذه السورة، فمثلاً تجد في أوائل سورة يوسف، قول يوسف عليه السلام: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ... } [يوسف: 4] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5535 وبعد ذلك جاءت السورة بأن الله سوف يجتبئ يوسف ويعلمه من تأويل الأحاديث: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ ... } [يوسف: 6] والأبوان المقصودان هما إبراهيم وإسحاق عليهما السلام، ثم قال الحق من بعد ذلك: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا ... } [يوسف: 8] ثم جاء قوله الحق على لسان إخوة يوسف: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] وفي نفس السورة يقول الحق عن إخوة يوسف: {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ... } [يوسف: 9] ثم يمهد إخوة يوسف للتخلص منه، فيبدأون بالحوار مع الأب: {قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 11 - 12] وبعد أن ألقوه في غيابة الجب، وعادوا إلى والدهم: {وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ} [يوسف: 16] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5536 وكانت هذه هي المرة الثامنة في ذكر كلمة أب في سورة يوسف، ثم تأتي التاسعة: {قَالُواْ ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا ... } [يوسف: 17] ثم تدور أحداث القصة إلى أن دخل سيدنا يوسف السجن، وقابل هناك اثنين من المسجونين وأخبراه أنهما يريانه من المحسنين، وأن عندهما رؤى يريدان منه أن يفسرها لهما فقال لهما: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ ... } [يوسف: 37] وينسب ذلك الفضل إلى الحق سبحانه فيقول: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ... } [يوسف: 37 - 38] وهكذا ذكر اسم ثلاثة من آبائه: إبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام. ثم خرج يوسف من السجن وتولى أمر تنظيم اقتصاد مصر، وجاء إخوته للتجارة فعرفهم، ويحكى للقرآن عن لقائه بهم دون أن يعرفوه، وقال: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ ... } [يوسف: 59] وقال أيضاً: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5537 {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} [يوسف: 61] ثم عادوا إلى أبيهم يرجونه أن يسمح لهم باصطحاب أخيهم الأصغر معهم، وسمح لهم يعقوب عليه السلام باصطحابه بعد أن آتوه موثقاً من الله أن يأتوه به إلا أن يحيط بهم أمر خارج عن إرادتهم، ونزلوا مصر وطلبوا الميرة. {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ... } [يوسف: 70 - 75] قالوا: {إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 78] قال يوسف: {مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ... } [يوسف: 79] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5538 ويأمرهم سيدنا يوسف عليه السلام: {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] ويعودون إلى أبيهم الذي يعاتبهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً ... } [يوسف: 83] ثم يأمرهم أن يعودوا مرة أخرى قائلاً: {يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ... } [يوسف: 87] وعندما عرفهم يوسف بنفسه وعلم منهم أن والدهم قد صار أعمى قال لهم: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} [يوسف: 93] ثم يأمرهم يوسف عليه السلام بأن يأتوا بأهلهم أجمعين. {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94] ثم يقول الحق سبحانه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ... } [يوسف: 100] وما يهمنا في كل ذلك آيتان اثنتان: الأولى هي قوله سبحانه: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5539 وإسحق هو أبو يعقوب، وإبراهيم هو الأب الثالث. وحين قال يوسف: {واتبعت مِلَّةَ آبآئي ... } [يوسف: 38] . و «أبائي» جمع أب. وعندما أراد أن يذكر الأعلام من آبائه قال: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ... } [يوسف: 38] . ويعقوب هو أبو يوسف، وإسحق أبو يعقوب، وإبراهيم أبو إسحق، إذن: فإبراهيم أب، وإسحق أب، ويعقوب أب. وهكذا نرى أن كلمة «الأب» تطلق على الجد، وآباء الجد إلى آدم. وإذا نظرت في سورة البقرة تجد قول الحق سبحانه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ... } [البقرة: 133] ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، وهكذا يكون إبراهيم أباً، وإسماعيل أباً، وإسحق أباً، ولكن إسماعيل أخ لإسحق، إذن فقد أطلق الأب هنا وأريد به العم، وهكذا ترى أنه إذا ألحق بكلمة «أب» اسم معين هو المقصود بها، فالمعنى ينصرف إما إلى الجد وإما إلى العم، وإن جاءت من غير تحديد الاسم، فهي تنصرف إلى الأب المباشر فقط. والحق يقول في شأن إبراهيم مع أبيه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ... } [الأنعام: 74] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5540 لقد ذكر الحق هنا اسم الأب وحدده ب «آزر» ولو أنه أبوه حقيقة لما قال آزر، مثلما يأتيك إنسان ليسأل: أين أبوك؟ هنا نفهم أن السؤال ينصرف إلى الأب المباشر، لكن إذا قال: هل أبوك محمد هنا؟ فهذا التحديد قد ينصرف إلى العم. إذن: قول الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} يبين لنا أن آزر ليس هو الصُّلب الذي انحدر منه رسول الله، ولكنه عمه، وبذلك نحل الإشكال واللغز الذي حير الكثيرين. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] و «الحليم» هو خلق يجعل صاحبه صبوراً على الأذى صفوحاً عن الذنب. وقد شغل صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإخوانهم المؤمنين، الذين ماتوا قبل أن تكتمل عندهم أحكام الإسلام؛ لأن منهج الإسلام نزل في «ثلاثة وعشرين عاماً» . وليس من المفروض فيمن آمن أن يأتي بكل أحكام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5541 الإسلام عند بداية آياته، بل قد يكون قد آمن فقط بالشهادة، فاعتبر مسلماً، ومثال هذا مخيريق اليهودي الذي لم يصل ركعة واحدة في الإسلام؛ لأن الحرب قامت بعد إسلامه مباشرة، وقال: مالي كله لمحمد وسأذهب لأحارب معه، وحارب فقتل، وهكذا صار شهيداً. لأنه لم يمكث زمناً ينفذ فيه ما جاء به الإسلام قبل ذلك. ومن باب أولى أن الذي مات قبل أن تتم أحكام الإسلام يعتبر مسلماً، والذي مات مثلاً قبل أن تحرم الخمر تحريماً نهائيّاً، أيقال: إنه عاصٍ أو كافر؟ لا، إنه مسلم، والذي مات قبل أن يعلم أن القبلة قد حولت من بيت المقدس إلى الكعبة يعتبر مسلماً وشاء الحق أن يبين للمسلمين ألا يحزنوا على هؤلاء، فنزل الوحي: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115] وهذا يوضح ما نعرفه في عرف التقنين البشري أنه لا جريمة إلا بنص، ولا عقوبة إلا بتشريع، فنحن لا نعاقب إلا بعد تحديد الفعل الذي يعاقب عليه، وأن يكون النص المحدد للجريمة والعقوبة سابقاً على الفعل. إذن: لا عقوبة بتجريم، ولا تجريم إلا بنص. والذي لم يبلغه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5542 النص؛ لأنه مات قبل أن يوجد النص؛ لأنه لا رجعية في القانون السماوي، إنما الرجعية فقط عند البشر؛ ولذلك نجد الحق يقول في كثير من الآيات: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ... } [النساء: 22] إذن: فلا تحزنوا على من مات من إخوانكم قبل أن يستكمل الإسلام كل أحكامه. فإسلامهم هو ما بلغهم من هذه الأحكام؛ فإن أدوها استووا بالذي يؤديها بعد أن تتم أركان الإسلام كلها؛ لذلك جاء قوله الحق: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5543 وهنا الهداية هي هداية الدلالة حتى يبين لهم ما يتقون؛ {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} أي: ما كان الله ليحكم بضلالة قوم حتى يبين لهم ما يتقون. والتقوى التزام أمر الله ونهيه، فإذا وافقوا البيان هداهم هداية معونة، وإذا لم يوافقوا كانوا ضالين، وقد حكم الله بضلالة عم إبراهيم وما حكم الله بضلالته إلا بعد أن بين له منهج الهداية. وقد بين إبراهيم لعمه منهج الهداية فلم يهتد. ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم ألا يستغفر له. ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5543 ومادة ال (م. ل. ك) يأتي منها «مالك» ، و «مَلك» ، و «ملْك» ، ومنها «مُلْك» ، ومنها «ملكوت» ، و «المِلْك» هو ما تملكه أنت في حيزك، فإن كان هناك أحد يملكك أنت ومن معك ويملك غيرك، فهذا هو المَلِك، أما ما اتسع فيه مقدور الإنسان أي الذي يدخل في سياسته وتدبيره، فاسمه مُلك، فشيخ القبيلة له ملك، وعمدة القرية له ملك، وحاكم الأمة له ملك، ويكون في الأمور الظاهرة ... واما الملكوت فهو ما لله في كونه من أسرار خفية. مثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض ... } [الأنعام: 75] وساعة ترى «تاء المبالغة» في مثل «رهبوت» ، و «عظموت» تدرك أنها رهبة عظيمة. إذن: إياك أن تفهم أن الله حين يمنعك أن تستغفر لآبائك، وأنك إن قاطعتهم فذلك يخل بوجودك في الحياة؛ لأنهم هم ومن يؤازرهم داخلون في ملك الله، وما دام الله له ملك السموات والأرض، فلا يضيرك أحد أو شيء ولا يفوتك مع الله فائت، وما دام الله سبحانه موجوداً فكل شيء سهل لمن يأخذ بأسبابه مع الإيمان به. والحق سبحانه يبين لنا أنه سبحانه وحده الذي بيده الملك؛ فقال: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير ... } [آل عمران: 26] وفي هذا القول الكريم أربعة أشياء متقابلة: {تُؤْتِي الملك} و {وَتَنزِعُ الملك} ، وإيتاء الملْك في أعراف الناس خير، ونزعه في أعراف الناس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5544 شر، وإعزاز الناس خير، وإذلالهم شر، ولم يقل الله بيده: «الخير والشر» . وإنما قال في كُلّ: {بِيَدِكَ الخير} . إذن: فحين يؤتي الله إنساناً مُلْكاً؛ نقول: هذا خير وعليك أن تستغله في الخير. وحينما ينزع الله منه الملك نقول له: لقد طغيت وخفف الله عنك جبروت الطغيان، فنزعه الله منك فهذا خير لك. وإن أعزك الله، فقد يعذبك حقّاً، وإن أذلهم الله، فالمقصود ألا يطغوا أو يتجبروا. إذن: فكلها خير. {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير ... } [آل عمران: 26] ساعة تجد ملكاً عضوضاً، إياك أن تظن أن هذا الملك العضوض قد أخذ ملكه دون إرادة الله، لا، بل هو عطاء من الله. ولو أن المملوك راعى الله في كل أموره لرقق عليه قلب مالكه. ولذلك يقول لنا في الحديث القدسي: «أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيها بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، ولكن أطيعوني أعطفهم عليكم» وما دام الأمر كذلك، فلا بد أن نعرف أن كل حادثة له حكمة في الوجود. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5545 وإن رأيت واحداً قد أخذ الملك وهو ظالم، فاعلم أن الله قد جاء به ليربى به المملوكين، وسبحانه لا يربي الأشرار بالأخيار؛ لأن الأخيار لا يعرفون كيف يربون؛ وقلوبهم تمتلئ بالرحمة؛ ولذلك يعلمنا سبحانه: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً ... } [الأنعام: 129] والخيِّر لا يدخل المعركة بل يشاهد الصراع من بعيد، ويجري كل شيء بعلم الله؛ لأنه سبحانه لم ملك السموات والأرض وهو الذي يحيي ويميت، فإياك أن تُفْتَن في غير خالقك أبداً؛ لأن الخلق مهما بلغ من قدرته وطغيانه، لا يستطيع أن يحمي نفسه من أغيار الله في كونه ولذلك فليأخذ المؤمن من الله وليّاً له ونصيراً. وبعد أن قال لنا سبحانه: {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} يأتي لنا بالأمر الذي يظهر فيه أثر القدرة، ولا يشاركه فيه غيره، فقال: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} . وقال بعض العلماء في قوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} أنه سبحانه «يحيي الجماد» ، و «يميت الحيوان» ؛ لأنهم ظنوا أن الحياة هي الحس والحركة التي نراها أمامنا من حركة وكلام وذهاب وإياب، ونسوا أن الحياة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5546 هي ما أودعه الله في كل ذرة في الكون، مما تؤدي به مهمتها، ففي ذرة الرمل حياة، والجبل فيه حياة، وكل شيء فيه حياة، بنص القرآن حيث يقول: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ... } [الأنفال: 42] إذن: فالحياة مقابلها الهلاك، وفي آيات أخرى يقابل الحياة الموت، فالهلاك هو الموت. فإذا قال الحق سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ... } [القصص: 88] إذن: فكل شيء قبل أن يكون هالكاً كان حيّاً، وهكذا نعرف أن الحياة ليست هي الحس والحركة الظاهرتين، وبعد التقدم العلمي الهائل في المجاهر الدقيقة تكشفت لنا حركة وحس كائنات كنا لا نراها، وإذا كان الإنسان قد توصل بالآلات التي ابتكرها إلى إدراك ألوان كثيرة من الحياة فيما كان يعتقد أنه لا حياة فيها، إذن: فكل شي في الوجود له حياة تناسبه فلو جئت بمعدن مثلاً وتركته ستجده تأكسد، أي حدث فيه تفاعل مع مواد أخرى. . فهذه حياة. بعد ذلك يقول الحق: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5547 قلنا: إن التوبة لها مراحل، فهناك توبة شرعها الله، ومجرد مشروعية التوبة من الله رحمة بالخلق، وهي أيضاً رحمة بالمذنب؛ لأن الحق سبحانه لو لم يشرع التوبة لاستشرى الإنسان في المعاصي بمجرد انحرافه مرة واحدة، وإذا استشرى في المعاصي فالمجتمع كله يشقى عليه الذنب، فمشروعية التوبة نفسها رحمة بمن عمل الذنب. وأنت إذا سمعت قوله الحق سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا ... } [التوبة: 118] فافهم أن تشريع التوبة إنما جاء ليتوب العباد فعلاً، وبعد أن يتوبوا، يقبل الله التوبة. والحق هنا يقول: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي} وعطف على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {المهاجرين والأنصار} ، فأي شيء فعله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يقول الله: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي} ؟! ونقول ألم يقل الحق سبحانه له: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ... } [التوبة: 43] فحين جاء بعض المنافقين استأذنوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التخلف عن الغزوة، فأذن لهم، مع أن الله سبحانه قال: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ... } [التوبة: 47] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5548 إذن: فرسول لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان بالفطرة السليمة قد اتخذ القرار الصائب، ولكن الحق سبحانه لا يريد ان يتبعوا فطرتهم فقط، بل أراد أن يضع تشريعاً محدداً. وشاء الحق سبحانه أن يخبرنا بأنه قدم العفو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه أذن لمن استأذنه من المنافقين ألا يخرجوا إلى القتال، وهناك أشياء يأخذها الله على عبده؛ لأن العبد قام به ضد صالح نفسه، ومثال هذا من حياتنا ولله المثل الأعلى: أنت إذا رأيت ولدك يذاكر عشرين ساعة في اليوم؛ فإنك تدخل عليه حجرته لتأخذ منه الكتاب أو تطفئ مصباح الحجرة، وتقول له: «قم لتنام» . وأنت في هذه الحالة إنما تعنف عليه لأنك تحبه، لا، لأنه خالف منهجاً، بل لأنه أوغل في منهجٍ وأسلوب عملٍ يرهق به نفسه. وحين سمح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوم أن يتخلفوا، فهل فعل ذلك ضد مصلحة الحرب أم مع مصلحة الحرب؟ أنهم لو اشتركوا في الحرب لكثر ثوابهم حتى ولو حرسوا الأمتعة أو قاموا بأي عمل، إذن: فإذنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم بالتخلف هو تصعيب للأمر على نفسه. ولذلك نجد أن كل عتب على نبي الله، إنما كان عتباً لصالحه لا عليه فسبحانه يقول له: {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ ... } [التحريم: 1] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5549 والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يحل ما حرم الله بل حرم على نفسه ما أحل الله له، وهذا ضد مصلحته، وكأن الحق يسائله: لماذا ترهق نفسك؟ . إذن: فهذا عتب لمصلحة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأيضاً حين جاء ابن مكتوم الأعمى يسأل رسول الله في أمر من أمور الدين، وكان ذلك في حضور صناديد قريش، فالتفت صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الصناديد وهم كافرون، يريد أن يلين قلوبهم، وترك ابن أم مكتوم؛ فنزل القول الحق: {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى} [عبس: 1 - 2] وابن أم مكتوم جاء ليستفسر عن أمر إيماني، ولن يجادل مثلما يجادل صناديد قريش، فلماذا يختار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأمر الصعب الذي يحتاج إلى جهد أكبر ليفعله؟ . إذن: العتب هنا لصالح محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحين يقول الحق له: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ... } [التوبة: 43] ثم جاء ها في الآية بالمهاجرين والأنصار معطوفين على رسول الله، وذلك حتى لا يتحرج واحد من المهاجرين أو الأنصار من أن الله تاب عليه، بل التوبة تشمله وتشمل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نفسه؛ فلا تحرُّج. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5550 وهذه المسائل التي حدثت كان لها مبررات، فقد قال الحق: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} ويزيغ: يميل، أي: يترك ميدان المعركة كله؛ لأنها كانت معركة في ساعة العسرة، ومعنى العسرة الضيق الشديد، فالمسافة طويلة، والجنود الذين سيواجهونهم هم جنود الروم، والجو حارٌّ، وليس عندهم رواحل كافية، فكل عشرة كان معهم بعير واحد، يركبه واحد منهم ساعة ثم ينزل ليركبه الثاني، ثم الثالث، وهكذا، ولم يجدوا من الطعام إلا التمر الذي توالد فيه الدود. وقد بلغ من العسرة أن الواحد منهم كان يمسك التمرة فيمصها بفيه يستحلبها قليلاً، ثم يخرجها من فيه ليعطيها إلى غيره ليستحلبها قليلاً، وهكذا إلى أن تصير على النواة، وكان الشعير قد أصابه السوس، وبلغ منه السوس أن تعفن، وقال من شهد المعركة: «حتى إن الواحد منا كان إذا أخذ حفنة من شعير ليأكلها يمسك أنفه حتى لا يتأذى من رائحة الشعير» . كل هذه الصِّعاب جعلت من بعض الصحابة من يرغب في العودة. ولا يستكمل الطريق إلى الغزوة. إذن: فالتوبة كانت عن اقتراب زيغ قلوب فريق منهم. وجاء الحق بتقدير ظرف العسرة، ولذلك تنبأ بالخواطر التي كانت في نواياهم ومنهم أيضاً من همّ ألا يذهب، ثم حدجثته نفسه بأنه يذهب مثل أبي خيثمة الذي بقي من بعد أن رحل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الغزوة ومرت عشرة أيام، ودخل الرجل بستانه فوجد العريشين، وعند كل عريش زوجةٌ له حسناء، وقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5551 طَهَتْ كل منهما طعاماً، وهكذا رأى أبو خيثمة الظلال الباردة، والثمر المدلَّى، فمسّته نفحة من صفاء النفس؛ فقال: «رسول الله في الفيح - أي الحرارة الشديدة جدّاً - والريح، والقُرّ والبرد، وأنا هنا في ظل بارد، وطعام مطهوّ، وامرأتين حسناوين، وعريش وثير، والله ما ذلك بالنِّصَفة لك يا رسول الله، وأخذ زمام راحلته وركبها فكلًَّمته المرأتان، فلم يلتفت لواحدة منهما وذهب ليلحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فقال صحابة رسول الله: يا رسول الله إنَّا نرى شبح رجل مُقْبل. فنظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «كن أبا خيثمة» ، ووجده أبا خيثمة، هذا معنى الحق: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 117] وفي واقعة الصحابة الذين راودتهم أنفسهم أن يرجعوا وتاب الله عليهم أيضا على آخرين اعترفوا بذنوبهم، فتاب الحق عليهم حين قال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5552 {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 102] وأرجأ الحق أمر آخرين نزل فيهم قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله ... } [التوبة: 106] وما دام الله قد قال: {مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} أي: ما بَتّ الله سبحانه في أمرهم بشيء؛ فلا بد من الانتظار إلى أن يأتي أمر الله، ويجب ألا نتعرض لهم حتى يأتي قول الله. وتاب أيضاً على الثلاثة الذين خلفوا، في قوله سبحانه: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5553 قد يظن أحد أن (خُلِّفُوا) هنا تدل على أن أحداً قال لهم: اقعدوا عن الخروج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن لم يقل لهم أحد هذا. إنما (خُلِّفُوا) معناها: لم يظهر أمر الشارع فيهم كما ظهر في غيرهم، بل قال الحق فيهم من قبل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} [التوبة: 6] ، وما دام قد تأخر فيهم الحكم فلا بد من الانتظار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5553 {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118] ونعلم أن الإنسان إذا شغله همّ يُحدّث نفسه بأن يترك المكان الذي يجلس فيه، ويسبب له الضيق، لعل الضيق ينفك. ولكن هؤلاء الثلاثة قابلوا الضيق في كل مكان ذهبوا إليه حتى ضاقت عليهم الأرض بسعتها، فلم يجد واحد منهم مكاناً يذهب إليه، وهذا معناه أن الكرب الذي يحيطهم قد عَمَّ، والإنسان قد تضيق عليه الأرض بما رحبت ولكن نفسه تسعه. والحق يقول عنهم: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي: ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم أيضاً، فقد تخلف الثلاثة عن الغزوة، لا لعذر إلا مجرد الكسل والتواني، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المسلمين بمقاطعتهم، فكان كعب بن مالك يخرج إلى السوق فلا يكلمه أحد، ويذهب إلى أقربائه فلا يكلمه أحد، ويتسوَّر عليهم الحيطان لعلهم ينظرون إليه، فلا ينظرون إليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5554 وبعد ذلك يتصاعد الأمر في عزل هؤلاء، حتى تعدى إلى نسائهم، فأمرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بألا يقربوا نساءهم هكذا بلغ العزل مبلغاً شديداً ودقيقاً، فقد كان التحكم أولاً في المجتمع، ثم في الأقارب، ثم في خصوصيات السكن وهي المرأة، حتى إن امرأة هلال بن أمية ذهبت إليه وقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية، رجل مريض ضعيف، وأنا أستأذنك في أن أصنع له ما يقيمه، قال لها: «ولكن لا يقربنك» . قالت والله يا رسول الله ما به حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. وذهب بعض المسلمين إلى كعب بن مالك ليبلغوه أن رسول الله صرح لامرأة هلال أن تخدمه، وقالوا له: اذهب إلى رسول الله واستأذنه أن تخدمك امرأتك. قال: إن هلالاً رجل شيخ، فماذا أقول لرسول الله وأنا رجل شاب؟ والله لا أذهب له أبداً. وظل الثلاثة في حصار نفسي ومجتمعي لمدة خمسين يوماً إلى أن جاء الله بالتوبة، وفي هذا تمحيص لهم، فكعب بن مالك - على سبيل المثال - يقص عن حاله قبل الغزوة قائلاً: لم أكن قط أقوى ولا أيسر منِّي حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة. أي: أنه لم يكن له عذر يمنعه. بعد ذلك يجيء البشير بأن الله قد تاب عليه، فيأتي واحد من جيل سَلْع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5555 فيقول: يا كعب أبشر بخير يوم مرّ عليك. فقد أنزل الله فيك قرآناً وأنه تاب عليك. قال كعب: فلم أجد عندي ما أهديه له لأنه بشَّرني إلا ثوبيّ فخلعتهما وأعطيتهما له، ثم استعرت ثوبين ذهبت بهما إلى مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال: يا رسول الله، إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي - الذي سبَّب لي هذا العقاب - صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه. إذن: فتأخر الحكم كان المراد منه تمحيص هؤلاء، وإعطاء الأسوة لغيرهم. فحين يرون أن الأرض قد ضاقت عليهم بما رحبت، وكذلك ضاقت عليهم أنفسهم يتيقنون من قول الحق: {وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ} [التوبة: 118] أي: أن أحداً لا يجير إلا الله، وسبحانه يجير من نفسه. كيف؟ أنت تعلم أنك ساعة لا يجيرك إلا من يتعقبك، فاعلم أنه لا سلطان لأحد أبداً؛ ولذلك نقول: أنت تلجأ إلى الله لا من خلقه، ولكنك تلجأ إلى الله ليحميك من الله، فسبحانه له صفات جلال وصفات جمال، وتتمثل صفات الجلال في أنه: قهار، وجبار، ومنتقم، وشديد البطش، إلى آخر تلك الصفات. وفي الحق سبحانه صفات جمال مثل غفور، ورحيم، وغيرها، فإذا ما أذنب الإنسان ذنباً، فالمجال في هذه الحالة ان يُعاقب من صفات الجلال، ولا ينفع العبد وقاية من صفات الجلال إلا صفات الجمال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5556 وكلنا يعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد دعا الله بقوله: «أعوذ بك منك» أي: أعوذ بصفات الجمال فيك من صفات جلالك، فلن يحميني من صفات جلالك إلا صفات جمالك. ولذلك حينما جاء في الحديث الشريف عن آخر ليلة من رمضان قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. «فإذا ما كان آخر ليلة من رمضان تجلَّى الجبَّار بالمغفرة.» يظن بعض الناس أن هذه المسألة غير منطقية، فكيف يتجلَّى الجبّار بالمغفرة؟ ألم يكن من المناسب أن يقال: «يتجلّى الغفّار» ؟ ونقول: لا؛ فإن المغفرة تقتضي ذنباً، ويصبح المقام لصفة الجبار، وهكذا تأخذ صفة الرحمة من صفة الجبار سُلْطتها، وكأننا نقول: يا جبار أنت الحق وحدك، لكننا نتشفع بصفات جمالك عند صفات جلالك. هذا هو معنى: «يتجلى الجبار بالمغفرة» . وقد سمع الأصمعي - وهو يطوف - مسلماً عند باب الملتزم، يقول: اللهم إني أستحي أن أطلب منك المغفرة؛ لأني عصيتك، ولكني تطلَّعْتُ فلم أجد إلهاً سواك. فقال له: يا هذا، إن الله يغفر لك لحُسْن مسألتك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5557 ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} والتوبة أولاً - كما عرفنا - هي تشريعها، ثم تأتي التوبة بالقبول، وقوله: {ليتوبوا} أي: أنها تصبح توبة رجوع وعودة إلى ما كانوا عليه قبل المعصية. ويُنهي الحق الآية بقوله: {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} فلا توَّاب ولا رحيم سواه سبحانه وتعالى. ويقول الحق بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5558 وساعة ينادي الحق عزّ وجلّ عباده المؤمنين، فهو سبحانه إما أن يناديهم بحكم يتعلق بالإيمان، وإما أن يناديهم بالإيمان ويطلب منهم الإيمان مثل قوله الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ... } [النساء: 136] والحق سبحانه يُبيّن للذين آمنوا به قبل أن يخاطبهم، أنه من الممكن أن يؤمن الإنسان ثم يتذبذب في إيمانه، فيطلب منه الحق «دوام الإيمان» . فإذا طلب الله من عباده ما كان موجوداً فيهم ساعة الخطاب، فالمطلوب دوامه، وإن طلب منهم حكماً يتعلق بالأيمان، فهو يوجّههم إلى الاستماع وتطبيق ما يطلب منهم، ومثال هذا قول الحق سبحانه: {اتقوا الله} [التوبة: 119] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5558 وكلمة {اتقوا} تعني: اجعلوا بينكم وبين الله وقاية، ويتساءل البعض: هل يطلب أحد من الإنسان أن يجعل بينه وبين وقاية؟ إن العبد المؤمن يطلب أن يكون في معيَّة الله. وهنا تأتي ضرورة فهم صفات الجمال وصفات الجلال. إن قوله سبحانه: {اتقوا الله} يعني: اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية، مثلما قال سبحانه: {اتقوا الله} [البقرة: 24] لأن النار من جنود صفات الجلال، فاجعلوا بينكم وبين الله وقاية من صفات الجلال. وهنا يقول الحق: {اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} ، وفسر بعض العلماء قوله: {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} بمعنى كونوا من الصادقين، أي: أن «مع» هنا بمعنى «من» والمقصود أن يعطي هذا القول معنى إجماليّاً عامّاً. لكني أقول: هنام فرق بين {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} و «كونوا من الصادقين» ، فقوله الحق: {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} أي: التحموا بهم فتكونوا في معيّتهم وبعد أن تلتحموا بهم يأتي الذين من بعدكم ويجدونكم مع الصادقين. ويقتضي الأمر هنا أن نتذكر ما سبق أن قلناه عن النسبة الكلامية والنسبة الذهنية، فأيُّ قضية تمر على ذهنك قبل أن تقولها هي نسبة ذهنية، مثل قولك: «محمد زارني» ، وأنت قبل أن تقول هذه العبارة جاء في ذهنك أن تنطقها، وهذه «نسبة ذهنية» . ومن يسمعك لا يدري بها، ولكونك المتكلم فأنت وحدك الذي تدري بها، فإذا ما نطقتها وسمعها منك المخاطب؛ علم أن نسبة ذهنية جاءت في ذهنك فترجمتها قولاً بالنسبة الكلامية. فحين قلت: «محمد زارني بالأمس» ؛ جاءت في ذهنك قل أن تقولها، فلما سمعها السامع عرف أن هناك نسبتين؛ نسبة سمعها عن نسبة عندك. وحين يمحّص السامع هذا القول؛ يعلم أن هناك واحداً في الواقع اسمه محمد وعلم منك أنه قد زارك، وخبرته معك أنه قد زارك، وخبرته معك دائماً أنك صادق، إذن: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5559 فالصدق هو أن تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع. أما إذا قلت: إن محمداً قد سافر إلى أمريكا، وهو لم يسافر، فهذا يعني أن النسبة الكلامية لم تتطابق مع النسبة الواقعية وهذا هو الكذب. إذن: فهناك «نسبة ذهنية» و «نسبة كلامية» و «نسبة واقعية» . فإن تطابقت النسبة الكلامية مع النسبة الواقعية، فذلك هو الصدق، وإن لم تتطابق يكون الكذب. وكل نسبة تقولها تحتمل أن تكون صادقة أو كاذبة، والفيصل في هذا الأمر هو الواقع، هل يتطابق ما تقول أم لا؟ . أما إن قلت لك: «زُرْ فلاناً» فهذه نسبة إنشاء؛ لأن الواقع يأتي بعدها، لا قبلها. وهنا يقول الحق سبحانه: {اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} والصدق هو الخَلَّة التي تجمع كل الإيمان، ولنر التطبيق لذلك في قصة الرجل البدوي الذي ذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: يا رسول الله، إن فيَّ خلالاً ثلاثة لا أقدر على التخلِّي عنها أبداً، أما الأولى فهي النساء، وأما الثانية فهي الخمر، وأما الثالثة فهي الكذب، وقد جئتك يا رسول الله، لتختار لي خصلة من الثلاثة وتقوِّيني عليها، وأعاهد ربنا عليها. فاختار رسول الله للأعرابي أن يتوب عن الكذب، وأن يتحلّى بالصدق، فقال له: كن صادقاً وما عليك. وحين أحب الأعرابي أن يشرب كأس خمر؛ تساءل: وماذا إن سألني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشربت الخمر؟ وامتنع عن الخمر حتى لا يكذب على الرسول. وحين جاء ليختلس النظر إلى امرأة؛ قال لنفسه: «وماذا إن سألني صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكيف أُخزي نفسي بصفة لا تليق بمسلم؛ فامتنع عن النظر إلى المحارم، وهكذا سيطر الصدق على الرجل فهذّب سلوكه. وحين سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال: نعم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5560 فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: لا. لأن مدخل الإيمان هو التصديق بالقضية العقدية الجازمة، وهكذا تجد أن الصدق هو» رأس الأمر كله «. وقوله الحق: {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} أي: لا تقولوا كلاماً لا يصادفه الواقع، وكذلك إياكم أن تقولوا كلاماً تناقضه أفعالكم، لهذا يقول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب وَأَقَامَ الصلاوة وَآتَى الزكاوة ... } [البقرة: 177] ولننتبه إلى الملاحظ الدقيقة في هذه الآية، فقد قال الحق هنا: {وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى} [البقرة: 177] ثم ذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلماذا إذن ذكر {وَآتَى المال} ؟ أقول: لقد ذكر الحق هنا المال الذي ينفقه المؤمن دون أن يكون مفروضاً عليه إخراجه مثل الزكاة، فالزكاة واجبة، أما إيتاء المال تصدقاً، فهذا فوق الواجب. ثم يقول سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5561 {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة: 177] هذه هي صفات من صدقوا، وهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد تصدقوا واتقوا. {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} [التوبة: 119] وقد جاء الحق بصفة «الصدق» هنا؛ لأن المجال هو الحديث عمن تخلّف عن الغزوات، وكذب في الأعذار التي افتعلها؛ لذلك يأتي التوجيه السماوي أن ادخلوا من باب الصدق. يقول الحق بعد ذلك: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5562 والحديث هنا فيه رجوع إلى الذين تخلفوا عن الغزوة، وعرفنا من قبل أنك ساعة تقول: «ما كان لك أن تفعل كذا» أي: أنك تنفي القدرة على الفعل، أما إن قلت: «ما ينبغي» أي: عندك قدرة على الفعل، ولا يجب أن تفعله. وهنا يقول الحق: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} وبعضهم قد تخلف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الغزو. ثم يقول سبحانه: {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} وهنا حديث عن نوعين من الأنفس: أنفس من قالوا بالتخلف، ونفس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنت إذا قلت: «رغبت» ، معناها: أنك ملتَ ميلاً قلبياً، فإن قلت: «رغبت في» كان الميل القلبي إلى ممارسة الفعل وفيها التغلغل، أما إن قلت: «رغبت عن» وفيها التجاوز، هذا يعني أن الميل القلبي يهدف إلى الابتعاد عن الفعل. إذن: فحرف الجر هو الذي يحدِّد لون الميل القلبي. وقوله الحق: {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي: أنهم زهدوا في أمر صدر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفضَّلوا أمر نفوسهم على أمر رسول الله، فيبين الحق لهم أنهم ما كان لهم أن يفعلوا ذلك؛ لأنكم ما دمتم آمنتم بالله، فإيمانكم لا يكمل حتى يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحب إليكم من نفوسكم. ولذلك نجد سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما سمع أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» ، فقال: يا رسول الله، أنا أحبك عن أهلي وعن مالي إنما عن نفسي، فلا. « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5563 وهكذا كان صدق عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فكرر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القول:» لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه «فعلم عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حازم في هذه القضية الإيمانية، وعلم أن الحب المطلوب ليس حب العاطفة، إنما هو حب العقل، وهناك فرق بين حب العاطفة وحب العقل؛ فحب العاطفة لا تكليف فيه، لكن حب العقل يأتي بالتكليف. وعلى سبيل المثال: فأنت تحب ابنك بعاطفتك، حتى وإن لم يكن ذكيّاً، لكنك تحب بعقلك ابن عدوك إن كان ذكيّاً وأميناً وناجحاً. وضربنا المثل من قبل وقلنا: إن الإنسان قد يحب الدواء المرّ؛ لأن فيه الشفاء، والإنسان لا يحب هذا الدواء بعواطفه، ولا يتلذذ به وهو يشربه، بل يحبه بعقله؛ لأن هذا الدواء قد يكون السبب في العافية، وإن لم يجده في الصيدليات يغضب ويشكو، ويسرّ بمن يأتي له به من البلاد الأخرى. إذن: فالذين تخلفوا عن رسول الله من أهل المدينة أو ممن حولهم ما كان لهم أن يتخلفوا؛ لأن هذا يناقض إيمانهم في أن يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحب إليهم من أنفسهم، وكان من الواجب أن يرغبوا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أنفسهم، أما أن يكون الأمر بالعكس، فلا. لأن اتباع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما يأتي لهم بالخير. أما اتباع حبهم لأنفسهم فهو حب ضيق البصيرة، سيأتي لهم بالشرور، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5564 وإن جاء لهم بخير فخيره موقوت، وبحسب إمكاناتهم، ولكن حبهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أنفسهم يأتي لهم بالخير الثابت الدائم الذي يتناسب مع قدرة الله سبحانه. ثم يقول سبحانه: {ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} و {ذلك} إشارة إلى حيثيات الترغيب التي يأخذون بها الجزاء الطيب من الحق سبحانه بأنهم {لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} ، ونعلم أن الظمأ قد أصابهم في جيش العسرة لدرجة أن المقاتل كان يذبح البعير، ويصفي الماء الذي في معدته لِيبُلَّ ريقه، وريق زملائه. {وَلاَ نَصَبٌ} والنَّصَب: هو التعب، وكانت الغزوة في جو حار مرهق. {وَلاَ مَخْمَصَةٌ} أي: المجاعة، وقد كانوا يأكلون التمر الذي أصابه الدود، والشعير الذي انتشر فيه السوس. وإن كاناو قد عانوا من كل ذلك فهو في سبيل الله القادر على أن يمُنَّ عليهم بكل خير جزاء لما يقدمونه في سبيل نصرته. {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار} نعلم أن الكفار كان لهم رقعة من الأرض يتمركزون فيها، فحين يغير عليهم المؤمنون ويزحزحونهم عن هذا المكان، وينزلون إلى الوديان والبساتين التي يملكها الكفار، فهذا أمر يغيظ أهل الكفر، إذن: فهم حين يطأون موطئاً، فهذا يغيظ الكفار. {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} أي: يأخذون من عدوٍّ منالاً، والمعنى: أن يقهروا العدو فيتراجع ويشعر بالخسران، حينئذ يأخذون الجزاء الخيِّر من الله، وكل ما حدث أن الظمأ والنصب والمخمصة ووطء موطء يغيظ الكفار والنيل من عدوهم نيلاً. كل واحدة من هذه الأحداث لها جزاء يحدده الحق: {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} . إذن: فالذين رغبوا عن رسول الله بأنفسهم ولم بخرجوا للغزوة قد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5565 خسروا كثيراً؛ خسروا ما كتبه الحق سبحانه قابله مَنْ خرجوا مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويُنهي الحق سبحانه الآية: {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} فهؤلاء الذين أحسنوا لا يضيع الله أجرهم أبداً. ثم يأتي بأحداث أخرى غير الظمأ والنصب والمخمصة ووطء الموطئ الذي يغيظ الكفار، والنَّيْل من عدو الله نيلاً، فيقول سبحانه: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5566 كل شيء - إذن - محسوب، فحتى هؤلاء الذين أنفقوا، فالله سبحانه يعلم ماذا أنفقوا وسيجازيهم عليه، وهؤلاء الذين ساروا الطريق الطويل وقطعوا الوديان ليلحقوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزواته، فالله سبحانه يكتب لهم الخير. وبعد ذلك تدفق المسلمون على تنفيذ أوامر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى كادت المدينة تفرغ من المسلمين؛ ليلحقوا بالسرايا التي يبعثها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لنشر الدعوة. وجاء قول الحق: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5566 {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5567 هذه الآية جاءت عقب آيات المتخلفين عن الغزو مع رسول الله، وجاءت بعد أن بيّن الله سبحانه مزايا المجاهدين وما يثيبهم الله به جزاء هذا الجهاد في قوله سبحانه: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121] كانت تلك الحيثيات التي ترغِّب الناس في الجهاد ترغيباً يخرجهم عما ألفوا من العيش في أوطانهم وبين أهليهم وأموالهم؛ لأن الثمن الذي يتلقونه مقابل ذلك ثمن كبير، ثم جاءت هذه الآية. وحينما استقبل العلماء هذه الآية قالوا: إنها تتمة لآيات الجهاد، وما دام الله قد رغَّب في الجهاد هذا الترغيب، فإن الناس أقسموا بعده ألا يتركوا غزوة من الغزوات ولا سرية من السرايا إلا ذهبوا إليها، فنشأ عن ذلك أن المدينة كادت تخلو على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحده، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسقبل وحي الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5567 واستقبال وحي الله يقتضي وجود سامعين ليبلغوه، فلما انصرف الناس إلى مسألة الجهاد أراد الله أن يعدل هذه الموجة من الرغبة في الجهاد، فبيّن أن الإسلام مُنزَّل من الله على رسوله ليبلغه للناس؛ لأن دين الله يحتاج إلى أمرين: أمر يحمله إلى الناس، وأمر يثبت صدقه في الناس، وحين يرى الناس إنساناً يضحى بنفسه ويدخل معركة، وآخر يضحي بماله، حينئذ يعلم الناس أن من يفعل ذلك لا بد أنه متيقن تمام التيقن من العقيدة التي يبذل في سبيلها الغالي والرخيص. لكن يبقى أمر آخر، هو ضرورة وجود من يحملون العلم بالإسلام، فإذا كان المناضلون المضحّون بالنفس، والمنفقون المضحّون بالمال هم دليل صدق الإيمان، فهذا لا يعني الاستغناء عن هؤلاء الذين عليهم أن يسمعوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يوحي به الله. إذن: فهناك منهج من الله، وهناك استقبال لهذا المنهج من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولاً، ومن السامعين لرسول الله ثانياً؛ ليسيحوا به في البلاد، سياحة إعلام بدين الله لنشر الإسلام، وهكذا كانت الإقامة مع رسول الله هي استقبال لذلك الإعلام، وإلا فماذا يُعْلِمون؟ إذن: فلا بد أن يحافظ الملسمون على أمرين: أمر بقاء الاستقبال من السماء، وأمر الإعلام بما استقبلوه إلى البلاد. فإن كنتم قد انصرفتم إلى الجهاد في سبيل الله فقد حقّقتم أمراً واحداً، ولكنكم لم تحققوا الأمر الآخر وهو أن تظلوا؛ لتستقبلوا من رسول الله. فأراد الله سبحانه أن يقسم الأمرين بين مجاهدين يجاهدون للإعلام، وباقين مع رسول الله ليستقبلوا إرسال السماء لهذه الأرض، فقال: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5568 وساعة تسمع «كَانَ» منفيةً فاعلم أنها جحود لهذه المسألة، أي: ما كان يصح أن ينفر المسلمون كافة، أي: جميعاً، بدون أن يبقى منهم أحد. و {كَآفَّةً} مأخوذة من كف الشيء، وأنت تسمع خائط الثياب يقول: «أريد أن أكفّف الثوب» معنى هذا أن الخائط حين يقص القماش، فهناك بعض من الخيوط تخرج منه؛ فيكففها حتى لا يتفكك نسيج الثوب، إذن: فمعنى كلمة {كَآفَّةً} : جميعاً. ولنا أن نتساءل: لماذا لا ينفر المسلمون إلى الجهاد جميعاً، أليس الجهاد إعلاماً بمنهج الله؟ نقول: نعم هو إعلام وسياحة بمنهج الله في الأرض، ولكن الذي يسيح للإعلام بمنهج الله لا بد أن تكون عنده حصيلة يُعْلم بها، وهذه الحصيلة كانت تأتي في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من منهج السماء حين ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن: فلا بد من أناس يسمعون وحتى السماء ثم يعلمون به ويرسلونه لأهل الأرض جميعاً، ولو انصرف كل هؤلاء المؤمنين إلى الجهاد لما تحقق أمر حمل الدعوة للإسلام؛ لذلك قال الحق: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} وفي هذا نفي أمر فيه انبغاء أي: لهم قدرة عليه، ويستطيعون تنفيذ ما يطلبه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم. ونحن نعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نشأ في أمة عربية لها فصاحة وبلاغة، أمة بيان وأداء قويّ يسحر، وكان في هذه الأمة كثيرون يتمتعون بموهبة الشعر والقول، لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يشتهر بهذا، وحاول بعضهم أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5569 يقلل من فصاحة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالوا: إنها فصاحة دون من خطب، ودون من قال، ودون من شعر، فجاء الرد عليهم من الحق: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ ... } [يس: 69] أي: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لا يستطيع أن يتفوق في ذلك، لكن الحق سبحانه لم يُعلِّمه الشعر؛ لأنه لا ينبغي له أن يتعلَّمه، لماذا؟ لأن العرب يعلمون أن أعذب الشعر أكذبه، وما دام أعذبه أكذبه، فالحق سبحانه لا يريد أن يعلم الناس أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُرْتاض على صناعة البيان أساليب الأدب، وبعد ذلك يُفاجئ الدنيا بالبيان الأعلى في القرآن، ويعلن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن هذا البيان ليس من عنده. وقد عاش الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينهم مدة طويلة، ولم يسمعوا منه شعراً، فكل ما جاء به بلاغاً عن الله لا يُنسب لمحمد، ولكنه منسوب إلى رب محمد. وقوله الحق: {وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69] أي: لا يصح أن يكون الأمر، رغم استعداد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، وكان من الممكن أن يعلِّمه ربه الشعر وفنون القول؛ ولذلك حينما قال أناس: إن القرآن من عند محمد، جاء القول الحق مبلِّغاً محمداً: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] وقد عاش بينهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أربعين عاماً ولم يقل قصيدة أو مقالة. ومن الذي يستطيع أن يؤخر عبقريته إلى الأربعين؟ نحن نعلم أن ميعاد بَدْء العبقرية إنما يظهر من قبل العشرين، أي: في العقد الثاني من العمر، ولا أحد يؤخر عبقريته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5570 إذن: فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما نزل عليه القرآن بالترغيب في الجهاد كادت المدينة تخلو من المسلمين؛ فجاء قوله الحق: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وفي هذا القول الكريم محافظة على أمرين؛ أمر استقبال وحي الله، وأمر الإعلام به، وبذلك يتنوع الجهاد، طائفة تستقبل، وطائفة تعلِّم وترسل؛ لأنهم لو تركوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جميعاً، فكيف يصل الوحي من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المؤمنين؟ ولو أنهم جلسوا جميعاً في المدينة فمن الذي يسيح في الأرض معلِّماً الناس؟ أما إذا بقي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنون معه، في فترة لا قتال فيها، فهذا أمر مختلف؛ لأنها ستكون فترة استقبال فقط. وكذلك إن خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى القتال فعلى المؤمنين القادرين على القتال أن يصحبوه؛ لأن الرسول القادر على استقبال الوحي من الله موجود معهم، وكذلك الإعلام بالرسالة موجود. إذن: فالمشكلة كانت في حالة عدم وجود رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع الخارجين للجهاد، فإذا ما خرج المقاتلون للجهاد، وظل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة، فعليهم أن ينقسموا قسمين: قسماً يبقى مع رسول الله ليتعلم منهج الله، وقسماً يخرج إلى القتال. حين كان الرسول يخرج إلى اقلتال فالمهمة تسمى غزوة، وإذا لم يخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأرسل جماعة للقتال سُمِّيت العملية ب «السَّرِية» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5571 ولم يخرج عن التسمية بالسرية إلا عملية واحدة سُمِّيت غزوة ولم يخرج فيها رسول الله، وكان المفروض أن تُسمى سرية ولكنها سميت غزوة. وقد خرجت المهمة عن اصطلاح السرية إلى اصطلاح الغزوة، رغم أن رسول الله لم يحضرها؛ لأن المعركة حدث فيها أشياء كالتي تحدث في الغزوات، فقد كانت معركة حاسمة وقُتل فيها عدد من المسلمين، وحمل الراية مقاتل واستشهد فحملها غيره وقتل، فحملها ثالث، وكانت المعركة حامية الوطيس فقالوا: لا يمكن أن نسمي تلك المعركة ب «السَّرية» بل هي غزوة؛ لأن فيها عنفاً شديداً. لم يلحظوا شيئاً واحداً وهو أن التسمية بالغزوة انطبقت تمام الانطباق على مؤتة؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في المدينة والمسلمون خارجون للغزو وأرسل إلى القوات: إن مات فلان في القتال فيليه فلان، وإن مات فلان ففلان يخلفه، أي: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد سلسل أمور الغزوة قبل أن تبدأ. وهي الحملة القتالية الوحيدة التي خرجت بهذه التعليمات، من بين مثيلاتها، من الحملات المحددة التي لم يخرج فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع المقاتلين، وكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يعلم مُقدّماً بمن سيموت من هؤلاء الخارجين إلى القتال. ثم وصلت الحملة إلى موقعها فسمعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتكلم؛ قال: أخذ الراية فلان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5572 فقُتل، ثم أخذها بعده فلان فقُتِل. ثم قال: وأخذها بعده فلان، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقصّ المعركة وهو في المدينة فقالوا: لم يقل ذلك إلا لأنه شهد. وحينما عاد المقاتلون عرف الصحابة منهم أن الأمر قد دار كما رواه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو جالس في المدينة، وقد حدث مطابقاً غاية التطابق، فقالوا: شهدها رسول الله؛ وما دام قد شهدها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهي غزوة. ونعود إلى الآية التي يقول فيها الحق: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين ... } [التوبة: 122] وساعة تسمع كلمة «لولا» فلك أن تعرف أن في اللغة ألفاظاً قريبة من بعضها، ف «لو» و «لولا» و «لوما» و «هلاَّ» ، هي - إذن - ألفاظ واردة في اللغة، وإذا سمعت كلمة «لو» فهذا يعني أن هناك حكماً بامتناع شيئين. شيء امتنع لامتناع شيء، مثل قولك: «لو كان عندك زيد لجئتك» وهنا يمتنع مجيئك لامتناع مجيء زيد، فكلمة «لو» حرف امتناع لامتناع، وتقول: لو جئتني في بيتي لأكرمتك. إذن: فأنا لم أكرمك لأنك لم تأت. وتقول: «لولا زيد عندك لجئتك» أي: أنه قد امتنع مجيئي لك لوجود زيد. إذن: ف «لولا» حرف امتناع لوجود. ونلحظ أن «لولا» هنا جاء بعدها اسم هو «زيد» ، فماذا إن جاء بعدها فعل، مثل قولك: «لولا فعلت كذا» ؟ هنا يكون في القول حضٌّ على الفعل، مثل قوله الحق: {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ... } [النور: 12] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5573 ومثل قوله: {لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ ... } [النور: 13] ومثلها أيضاً «لوما» مثل قوله الحق: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الحجر: 7] وأيضاً قولك: «هَلَّ» . فهي أيضاً تحضيض مثل قولنا: «هلا ذاكرت دروسك» ؟ وأنت بذلك تستفهم ب (هل) ، وجئت بالمد لتصبح (هلاَّ) ؛ لتحثه على المذاكرة. أو قولك: «هلا أكرمت فلاناً؟» وفي هذا حَثٌّ على أن تكرم فلاناً. والأسلوب هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يجمع المؤمنين ويقول لهم: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} ثم يأتي الحث على أن ينقسموا إلى قسمين في قوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} ، والقسمان يذهب أحدهما للإعلام وللجهاد. والقسم الثاني يظل مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يستقبل منهج السماء. وقوله الحق: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} فيه كلمة {نَفَرَ} وهي من النفور. لكنها استعملت دائماً في مسألة الخروج للحرب، مثل قول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ بالحياوة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ ... } [التوبة: 38 - 39] ولماذا يجيء الحق بالنفرة في الجهاد؟ نقول: لأن الذي يعوق الإنسان عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5574 الجهاد حبه لدَعَته، ولراحته، ولسعادته بمكانه، وبأهله، وبماله، فإذا ما خرج للقتال شَق ذلك على نفسه، ولذلك يقول الحق: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ... } [البقرة: 216] وفي ذكر أمر الكُرْه إنصاف لهم، فصحيح أن القتال أمر صعب ويكرهه الإنسان، لكن الحق قد كتبه، والمسلم إذا استحضر الجزاء عليه فهو يحتقر ما يتركه؛ لأنه قليل بالنسبة لعطاء الله؛ لذلك ينفر المؤمن الحق من الذي يملكه، ويذهب للثواب الأعلى، وهذا هو معنى التحديد في أنهم سمّوا الجهاد نفرة، فحين يقارن المؤمن بين حصيلة ما يأخذه من الجهاد وما يمسكه عن الجهاد لتساءل: ما الذي يجعلني أتمسك بالأقل ما دام هناك عطاء أكثر؟ فلما جاءت {فَلَوْلاَ نَفَرَ} فهموا أن هذه الآية من تتمة الكلام عن الجهاد، ولتبقى طائفة من المؤمنين؛ لتسمع من رسول الله الوحي، وقد يتساءل المسلم حين يقرأ الآية ويجد قوله الحق: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} ، هنا يقول المسلم لنفسه: وهل تنفر الطائفة التي تتفقه في الدين، إنها الفرقة الباقية والمستقرة مع رسول الله في المدينة؟ ونجيب: إن قول الحق: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} نجد فيه كلمة {فِرْقَةٍ} وهي الجماعة، والجماعة إنما تنقسم إلى طوائف. مثلما نسمي في الجيوش «الفرقة الأولى» و «الفرقة الثانية» و «الفرقة الثالثة» ، ثم تنقسم الفرقة الواحدة إلى: «جماعة الاستطلاع» و «جماعة التموين» و «الشئون المعنوية» ، ونجد كلمة {طَآئِفَةٌ} وهي تعني «بعض الكثرة» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5575 وما دام الحق قد قال: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} فهذا يعني أنه سبحانه قسمهم إلى طائفتين، إحداهما تنفر، والأخرى تبقى لتتفقه في الدين. إذن: فكأن أسلوب القرآن أسلوب أدائي كل ينفر لمهمته. {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} يبين أن طائفة منهم تكون قتالية والأخرى إعلامية مهمتها {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ} فمن يجلس مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليستمع إليه، فهو يجهز للمقاتل حيثيات ما يجاهد على مقتضاه، وحين يرجع المقاتلون يُبلِّغهم من جلس مع الرسول ما نزل عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وحي، ويتناوب المسلمون الجلوس مع الرسول في المدينة، والقتال، وكل طائفة تؤدي مهمتها. وهناك من العلماء من رأي رأياً آخر، وأخذ المسألة كلها مكتملة على بعضها، وقال: إن من بقي مع رسول الله له لون آخر من المجاهدة، ولأنه يأخذ من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علْماً جديداً، يتبادله مع المقاتلين في ساحة القتال بعد أن يعودوا، فالمقاتلون في ساحة الجهاد يعودون بما يؤكد نصرة الله للقلة على الكثرة، وإمداد الله سبحانه للمؤمنين بالملائكة، وتهدم العدو، والمعجزات التي رأوها من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كنبوع الماء من بين أصابعه في حال قلة المياه عند العطش. ثم إنهم يسمعون من المجاهدين الجالسين لتلقي العلم أخبار الوحي والفقه، وهكذا يتكافأ المؤمنون في المهامن وكأنهم البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً. وما تقدم فهو فهم للآية إذا كانت خاصة بالجهاد، فماذا إذا كان للآية موضوع آخر غير الجهاد؟ نقول: إن الجهاد إعلام بمنهج الله في الأرض، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5576 والإعلام بمنهج الله في الأرض يقتضي المنهج المعلوم من السماء الذي يوضح مصير المجاهدين، ومصير المتخلفين. وهو هنا سبحانه يوضح أمر استقبال ما نجاهد من أجله. {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} أي: يذهب بعض المسلمين إلى البلاد التي حول المدينة؛ ليقولوا للناس حقيقة الإسلام، وأيضاً أن يأتي آخرون من البلاد الأخرى لِيَعْلَمُوا أمر الدين، ويعلموه لأهاليهم. ويكون قول الحق: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} مقصود به هؤلاء الذين يأتون من الأماكن البعيدة عن المدينة؛ ليجلسوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليسمعوا، ويتفقهوا في الدين؛ ليرجعوا إلى مجتمعاتهم، ويعلموهم أمور الإيمان. إذن: فالآية إما أن تكون من تتمة آيات الجهاد، وإما أن تكون أمراً مستقلاً للذين يبعد بهم المكان عن منبع المنهج، وهو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلِّم من يأتون إليه من أي مجتمع؛ ليرجعوا بعد ذلك لقومهم، ويبلغوهم مطلوبات المنهج، وهذه مسألة بعيدة عن القتال. إذن: تكون النفرة للتفقه في الدين على أي معنى، ليس هناك فرق بين الطائفة الباقية التي تتفقه؛ لتعلِّم الطائفة التي تجاهد، أو الطائفة التي تجاهد تتفقه بالمعجزات وبالأحداث التي حدثت أثناء قتالهم وتعلمها للطائفة التي لم تخرج للقتال. أو أن المعنى هو الأمر الثاني الذي لا قتال فيه، بل يتناول أمر استقبال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لطائفة من كل بلد ليسمعوا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد سماها الحق «نفرة» ؛ لأنها جهاد في البحث في المنهج وتعلمه، وهي نفرة النفرة؛ لأن النفرة للجهاد بالقتال تتطلب فهماً لحيثيات الدفاع عن هذا المنهج المنزَّل من الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5577 وقوله الحق: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} علمنا منه أن الفرقة هي الجماعة، والجماعة إما أن تنقسم إلى أفراد وإما إلى طوائف، والفرقة أقلها ثلاثة؛ لأنها جمع. وحينما يذهب اثنان من هذه الفرقة للتعلم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويعودان للبلاغ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نكون أمام خبر من شاهدين اثنين بأن النبي قال كذا وأبلغ بكذا، وكذلك قد يصح أن يكون المبلِّغ عن الرسول شاهداً واحداً، واختلف العلماء المسلمون فيما بينهم، هل يأخذون الخبر عن واحد فقط مبلِّغ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أم لا بد من الأخذ بالخبر من شاهدين اثنين؟ وقد جاءت الآية صريحة في أنه {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} والفرقة أقلها ثلاثة، والطائفة إما أن تكون اثنين وإما أن تكون شخصاً واحداً يرجع إلى قومه؛ ليفقههم في الدين، ويؤدي البلاغ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وتحفَّظ البعض على ذلك بأن قالوا: إن الذي نفر ليس فرداً من الفرقة، بل طائفة من الفرقة، ومفردات الفرقة طوائف ولا واحد، وكلمة طائفة مقصود بها الجماعة. والنفرة لها علة محددة يذكرها الحق: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} فالتفقُّه إذن هو سبب النفرة، مثلما نبعث بعثة في أي بلد متقدم؛ لنأخذ بعلوم الحضارة، فإن خرج واحد عن حدود البعثة؛ ليلعب، ويلهو، فهو لم يحقق النفرة. لا بد إذن من ان يستوعب كل واحد في البعثة أنه قد جاء للتفقه. والفقه في اللغة: هو الفهم، ويقال عن أي أمر تفهمه: فقهتُ الأمر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5578 الفلاني. فإن فهمت في الهندسة فهذا فقه، وإن فهمت في العلوم فهذا فقه، ولكن المعنى الذي غلب هو الفقه لأحكام الله؛ لأن هذا الأمر هو أهم أمور الحياة، فالفقيه في الدين هو من يبيّن للناس حدود المنهج ب «افعل» و «لا تفعل» . إذن: الفقه مطلقاً هو الفهم، لكنه أصبح مصطلحاً يعني فهم أحكام الله؛ لأنه هو الذي يحدد الصواب والخطأ. ولا يقال: «الفقيه» إلا لمن فَقُه. وهناك فرق بين فَقه وفَقُه. فَقُهَ في دين الله، أي: أصبح الفقه عنده ملكه، وساعة تسأله في أي موضوع لا يتردد، بل يجيب؛ لأن الفقه صار ملكه عنده، والملكة: الصفة التي ترسخ في النفس من مزاولة أي عمل؛ فيسهل أداء هذا العمل. وكذلك الفقه. وهكذا نعرف أن معنى فَقِهَ: «فهم شيئاً» . أما فَقُهَ فمعناها: صار الفقه عند مَلَكَة. وقوله الحق: {لِّيَتَفَقَّهُواْ} أي: ليعلموا أحكام الله، ويصير هذا العلم: من بعد ذلك مَلَكَة عندهم. ولكنْ ماذا إن نفروا لشيء آخر مثلما ينفر واحد من البدو ليسأل جماعته: إلى أين تذهبون؟ فيجيبون: نذهب إلى رسول الله لنسمع منه، فيذهب معهم. لكنه لا يسمع بل يذهب هنا أو هناك، ولا يجلس لتفقُّه العلم، على الرغم من أن علّة نفوره مع غيره هي التفقّه في الدين؛ وليعلم حقائق هذا الدين؛ لينذر به قومه حين يعود إليهم، فالفقيه لا يطلب جاهاً، أو رئاسة، أو وظيفة، بل هو يبين للناس متطلبات الحركة على هذا المنهج الحق، ولينذرهم {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أي: يتجنَّبون ما يضرُّهم. وحين ندقق في هذا الأمر نجده عدة مراحل: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} هذه هي المرحلة الأولى، ثم {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} هذه هي المرحلة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5579 الثانية وهي التفقه، أما الثالثة {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ} ، ومن تفقه لغير هذا؛ ليشار إليه بالبنان مثلا؛ نقول له: أنت من الذين قال الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياوة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 104] إذن: فالتفقه يكون للدعوة تبشيراً وإنذاراً؛ حتى يتجنب القوم ما يضرهم. ويقول سبحانه بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5580 ينقلنا الحق هنا إلى الحديث عن الجهاد مرة أخرى. ولنا أن نتساءل: لماذا - إذن - جاء الحديث عن النفرة والفقه كفاصل بين حديث متصل عن الجهاد؟ أجيب: شاء سبحانه هنا أن يعلمنا أن كل من ينفر؛ لتعلُّم الفقه، وليعلِّم غيره؛ هذا المسلم في حاجة إلى مرحلة التعلُّم، ومعرفة الأسباب التي يقاتل من أجلها المسلمون وحيثيات الجهاد في سبيل الله. وقد قسَّم الحق سبحانه الناس في آيات الجهاد إلى قسمين: فرقة تنفر، وطائفة منها تبقى مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإذا استوى الأمر، فرقة تجاهد، وفرقة تَتَعَلم وتعلُّم، وتبادل الفرقتان الخبرة الإيمانية والقتالية، تصبح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5580 الملكات الإيمانية متساندة غير متعاندة، ومن بعد ذلك يتجهون إلى الكفار. {ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ} وهذا يعني أن هناك قوماً قريبين منهم ما زالوا كافرين، وهناك قوم أبعد منهم، والحق قد قال: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ... } [التوبة: 36] إذن: فهناك أولويات في القتال، وقتال الكفار القريبين منك تأمين معسكر الإيمان؛ لذلك جاء الأمر بقتال الأقرب؛ لأنه قتال لن يتطلب رواحل ولا مؤونة للسفر البعيد، كما أن العدو القريب منك أنت أعلم بحال الكفار البعيدين عنك؛ لذلك فأنت تعلم مواطن قوتهم وضعفهم، وكيفية تحصيناتهم. فإذا تيسر أمر قتال العدو الأقرب كان ذلك طريقاً لمجابهة العدو الأبعد، بدلاً من أن تواجه العدو البعيد؛ فيتفق مع العدو القريب، ويصنع الاثنان حولك «كماشة» بلغة الحرب، فلا بد أن تحمي ظهرك أولاً، من شر العدو الأقرب. إذن: فلا تعارض بين محاربة العدو البعيد والعدو القريب. ولا تَعارض بين قوله الحق: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} وقوله سبحانه: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} ؛ لأن معنى {كَآفَّةً} أي: جميعاً، ولكن الجماعة لها أولوية. فخذ القريب منك؛ لتضمه إليك، فإذا كان الخصم معه سيف ومعك سيف، وبعد ذلك دخلت المعركة فأوقعت سيفه من يده؛ فأخذته؛ فبذلك يصبح معك سيفان وهو لا سيف معه. ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى للكفار: اعتبروا أيها الكفار، فأنتم لا ترون الأرض كل يوم وهي تنقص من تحت أقدامكم، وما ينقص من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5581 أرض الكفار يزيد في أرض الإيمان. وما دام الحق قد جاء بكلمة «قتال» فهذه الكلمة تحتاج إلى عزيمة، وجرأة تُجَرِّيء على القتال، وصبر عليه، فقد تجد في مواجهتك من هو أقوى منك أو من هو أشجع منك، فإن رأى شجاعة منك تفوق شجاعتهن وأحسَّ منك قوة ومثابرة تفوق قوته ومثابرته، فهذا ينزع من قلبه الأمل في الانتصار عليك؛ ولذلك يقول الحق: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} والغلظة صفة، ويقال: غِلْظَة، وغُلْظَة، وغَلْظَة، والمعروف أنها الشدة، فحين تضرب عدوكَ اضربه بقوة، وبجرأة، وبشجاعة. وحين يحاول عدوك أن يضربك استقبلْ الضربة بتحمُّل، وهكذا نجد أن الغلظة مطلوبة في حالتين اثنتين؛ في حالة الإرسال منك، وفي حالة الاستقبال منه، فلا يكفي أن تضرب عدوك ضربة قوية، وحين يردُّ لك الضربة تخور وتضعف. إن الحق يطلب منك غلظة تحمِلُ على عدوّك، وغلظة تتحمَّل من عدوّك. ولذلك نجد آية آل عمران يقول فيه الحق: {اصبروا ... } [آل عمران: 200] ولكن هَبْ أن عدوَّك يصبر أيضاً، فيأتي الأمر من الحق: {وَصَابِرُواْ ... } [آل عمران: 200] أي: حاول أن تغلبه في الصبر. وحذَّر الحقُّ من إلقاء السلاح بعد انتهاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5582 المعركة؛ لأن العدو قد يستنيم المؤمن؛ لذلك جاء الأمر من الحق: {وَرَابِطُواْ ... } [آل عمران: 200] أي: استقر أيها المؤمن في الأرض؛ ليعلم العدو أنك تنتظره إن حاول الكرّة من جديد أو حدَّثته نفسه بالقتال مرة أخرى. إذن: فالغلظة تطلب منك أن تهاجم، وتطلب منك أن تتحمّل، والتحمُّل يقتضي صبراً، والتحامل يقتضي شجاعة، فإذا ما كان في خصمك صبر وشجاعة؛ فعليك أن تصابره أي: تصبر أكثر منه، وهي مأخوذه في الأصل من «نافس فلان فلاناً. . أي سابقه وحاول أن يسبقه» ، والمنافسة من النفس، والحق يقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} [المطففين: 26] أي: تنافسوا في الخير، ونحن نعلم أن تركيبة النفس الإنسانية تحتاج إلى شيء مرة أو مرتين في اليوم، وتحتاج إلى شيء ثالث دائماً. فأنت في الأكل تأكل ثلاث وجبات، وفي الشراب تحتاج إلى لترين أو أربعة من الماء أو أكثر. أما التنفس فأنت لا تصبر على الانقطاع عنه، وهو أهم الضروريات لحياة الإنسان. وقلنا قديماً: إن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه قد يملك إنسان طعامَ إنسان، وقد يستطيع الإنسان الصبر عن الطعام لأسابيع، ولا يصبر الإنسان عن انقطاع الماء إلا أياماً تتراوح من ثلاثة إلى عشرة، حسب كمية المياه التي في جسمه؛ لذلك لم يُملِّك الحق سبحانه الماء مثلما مَلَّك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5583 الطعام، وأما الهواء فأنت لا تصبر على افتقاده للحظات؛ ولذلك لم يملِّك الله الهواء لأحد أبداً، وكأنه سبحانه علم أن عباده غير مأمونين على بعضهم البعض، ولذلك سُمّي استنشاق الهواء وزفيره بالتنفس، وهو من النفس، وهو سبب وجود النفْس وهي مزيج من المادة والروح، والأساس هو نَفَس الهواء الذي يضمن استمرار النفس في الحياة. وإذا ما نافست العدو فأنت تصطاد الشيء النفيس، وهو إعلاء منهج الله. وحين تصابر أهل الباطل، فكل واحد من أهل الباطل قد يصابر لجاجة لمدة قصيرة ثم يتراجع؛ لأن الباطل زهوق، وهنا يقول سبحانه: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} يفيد أن الغلظة ليست صفة دائمة، بل تعني أنك تَطَلّبَ الأمُر فيجب أن تتوافر فيك، وكذلك قلنا: إن الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5584 لم يطبع المؤمن على الغلظة، ولم يطبعه على الشدة، ولم يطبعه على العزة، بل قال: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ... } [الفتح: 29] وقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين ... } [المائدة: 54] ويُنهي الحق الآية: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} . إياك أن تفهم أنك تواجه أعداءك من الكفار بعددك وعُدَّتك، ولكن العدد والعدة أمران مطلوبان؛ لتدخل المعركة، وعندك شيء من الاطمئنان. ومثال هذا من يسلك مفاوز أو صحاري مقفرة أو طريقاً موحشاً، ويحتمل أن يصادف قُطَّاع طريق، نجده يستعد بحمل سلاح؛ فهو يعطيه شيئاً من الاطمئنان فقط، وهكذا الحال مع العدد والعدة. أما النصر فهو من المدد الرَّبَّاني من الحق سبحانه وتعالى. وما دام الله مع المتقين، ولله معيَّة مع المتقين فلا بد أن يمدهم بمدده؛ لذلك جاء الحق هنا بقوله: {أَنَّ الله مَعَ المتقين} لننتبه إلى أن الداخل في الحق هو من سيسلك سلوكاً غليظاً مع الأعداء، وقد يسلك بالغلظة طمعاً في المغنم، فيدخل على الكافرة بالقسوة، وقد يكون قلب هذا الكافر مستعداً للإيمان، فيقول: أسلمت واستسلمت، لكن من دخل عليه تعجبه مطية هذا الكافر، ويعتبرها مغنماً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5585 لذلك يأتي التحذير في قول الحق سبحانه: {أَنَّ الله مَعَ المتقين} فإن سلَّم لك واستسلم؛ فاستأسره، وإياك أن تؤذيه أو تأخذ معداته على أنها مغنم، فأنت لم تذهب للقتال من أجل الغنائم، أو لتكسب مكانة في مجتمعك كمقاتل، بل أنت تقاتل حين يكون القتال مطلوباً، وتسلك بالخلق الإيماني اللائق في إطار أنك من المتقين لله، وتحارب لتكون كلمة الله هي العليا وهنا تكون معيه الله لك {أَنَّ الله مَعَ المتقين} . إذن: فالغلظة لا تعني أنها طبع أصبح فيك، ولكن عدوك يجد فيك غلظة إن احتاج الأمر إلى غلظة. فإن لم يحتج الأمر إلى غلظة؛ فلا بد أن يوجد في طبعك اللين والموادعة. ولذلك يقولون: الرجل كل الرجل هو من كانت له في الحرب شجاعة، وفي السلم وداعة، وخيركم من كان في الجيش كميًّ وفي البيت صبيّاً، فلا يصطحب غلظته مع العدو إلى البيت والزوجة والأبناء؛ لأن ذلك وضع للطاقة في غير مجالها. هكذا نفهم قوله الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} [التوبة: 123] أي: كونوا في حربكم غلاظاً بما يناسب الموقف؛ لأن الحرب تتطلب القسوة والشدة، ولكن إياك أن تستعمل هذه الأمور لصالحك، ولكن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5586 استعملها لله؛ لتضمن أن تكون في معية الله ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5587 قوله الحق: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ} يعني: إذا نزلت، ونعلم أن هناك «نَزَل» و «أَنْزلَ» و «نَزَّل» ف «أنَزَل» للتعدية، فالقرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. ثم نزّله الحق نجوماً. فالتنزيل معناه: موالاة النزول لأبعاض القرآن، فالقرآن قد أنزل كله، ثم بعد ذلك نزله الحق، ونزل به جبريل - عليه السلام - على سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقد جمعت الآية تنزيل الحق للقرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزول جبريل - عليه السلام - بالقرآن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والحق سبحانه يقول: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ ... } [الإسراء: 105] وفي آية أخرى يقول سبحانه: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5587 وهنا يقول الحق: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} والسورة هي الطائفة من القرآن المسورة بسور خاص؛ أوله مثلاً: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} وآخره تأتي بعده سورة أخرى تبدأ بقوله الحق: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} ومأخوذة من السور الذي يحدد المكان. وهل المقصود بقوله الحق هنا نزول سورة كاملة من القرآن أم نزول بعض من القرآن؟ إن المقصود هو نزول بعض من القرآن. وتتابع الآية: {فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} والمقصود بهذا المنافقون الذين رجعوا عن الإيمان. ونحن نعلم أن القرآن حق وأنه من عند الله، وله أسر وفاعلية إشراقية في صفاء النفس، وقد سمعه الكفار من قبل، وشهدوا له، أما المؤمنون فحين سمعوه فقد أسرهم. وهذا الأمر بسبب الاستعداد لتلقيه؛ لأن المسألة في كل الأحداث ليست من الفاعل وحده، ولكن من الفاعل والقابل للفعل - ولله المثل الأعلى - أنت تأتي بمطرقة مثلاً، وتطرق قطعة حديد فترق وتزيد مساحتها، أما إن طرقت بالمطرقة قطعة صلب أقوى من المطرقة؛ فلن تؤثر فيها. إذن: فالطرق شيء وقابلية الطرق شيء آخر، وهكذا لا بد للفاعل من قابل، والمطلوب من القابل للشيء أن يستقبله بغير خصومة له نابعة من قلبه. فإذا أراد أحد أن يسمع القرآن فعليه أن يخرج ما في قلبه مما هو ضد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5588 القرآن، ويضع القرآن وضده خارج قلبه وليسمع هذا وهذا وما ينفذ إلى قلبه بعد هذا فليصدقه. لكن أن يستقبل القرآن بما في قلبه من كراهية القرآن؛ فلن يتأثر به، مثلما قابل بعض المنافقين القرآن وقالوا: لم نتأثر به. وسبب هذا أن هناك ما يسمى بالحيز، وعدم التداخل في الحيز، فالقلب حيز لا يسع الشيء ونقيضه، فلا تملأ قلبك ببغضك للدين، ثم تقول: لقد سمعت القرآن ولم يؤثر فيَّ. هنا نقول لك: أخرج من قلبك ما يكون ضد القرآن، واجعل القرآن أيضاً خارج قلبك، ثم انظر في الاثنين لترى ما الذي يستريح له قلبك، لكن أن تكون مشحوناً ضد القرآن ثم تقول: إن القرآن لم يؤثر فيك، فهذا يعني أنك لم تنتبه إلى الفرق بين الفاعل والقابل، ولم تنتبه إلى ما يسمى بالحيز، ومدى قدرته على الاستيعاب. فالزجاجة ذات الفوهة الضيقة لا تستقبل بداخلها الماء إن أغرقتها فيه؛ لأن ضيق الفوهة لا يساعد الهواء الذي بداخلها على الخروج، ولا يساعد الماء على الدخول؛ لأن الماء لن يدخل إلا إذا خرج الهواء؛ لذلك لا بد أن تكون فوهة الزجاجة واسعة تسمح بخروج الهواء ودخول الماء، وعند ذلك سترى فقاقيع الهواء وهي تعلو الفوهة. وإذا كان الأمر كذلك في الحسيات، فما بالك في الأمور المعنوية وهي مثل الأمور الحسية. إذن: فأخْرج ما يناقض الحق من قَلْبك، واجعل الباطل والحق خارجاً، ثم استقبل الاثنين. لا يمكن لك في مثل هذه الحالة إلا أن تستقبل الحق. ويصف سبحانه المصرين على الكفر: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ ... } [التوبة: 93] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5589 أي: أن ما هو خارج هذه القلوب لا يدخل إليها، وما في داخلها لا يخرج منها. إذن: ما دام الحق قد ختم على قلوبهم؛ فلن تفتح هذه القلوب للإيمان، وستظل محتفظة بالكفر. فإذا كان من هؤلاء الكافرين أو المنافقين من يسمع القرآن، ولا يأسره بيانه؛ فذلك بسبب عجزهم عن النظر إلى ما فيه من معان وقيم؛ لأن الإنسان حينما يسمع القرآن، وتكون نفسه صافية ليس فيها ما يشوش على ما في القرآن من جاذبية وبيان يؤثر فيه وتطمئن إليه نفسه. ولذلك حين قرأ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - القرآن، وكان من قبل ذلك شديداً على الإسلام، ثم ذهب إلى أخته؛ ليتحقق من أمر إسلامها، وحين سال منها الدم رقت عاطفته لها، ثم قرأ القرآن فاستقر في قلبه. إذن: لا بد أن تخرج ما في ذهنك أولاً؛ لتستقبل القرآن. فإذا ما أنزلت سورة يستقبلها المؤمن بصفاء. أما الكافرون والمنافقون، فمنهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5590 من يقول: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} وتعطينا الآية معنى أننا أمام فريقين: واحد يقرأ، والثاني يسمع. ونفهم من سياق الآية أن الذي يتساءل مثل هذا السؤال إنما يوجه لفريقين: أحدهما من ضعاف الإيمان، أو حديثي الإسلام، أو المنافقين، وهؤلاء هم الذين لم يُخْرجوا الكفر أو بعضه من قلوبهم، وقابلية بعضهم لاستقبال الإيمان لم تتأَكد بعد، ومنهم من قال فيهم الحق: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً ... } [محمد: 16] ويقول: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ... } [فصلت: 44] إذن: الفاعل شيء، والقابل شيء آخر. هم سمعوا القرآن بدليل أن الحق يقول: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} وسياق الآية يوحي لنا أن هناك همساً من بعضهم: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} وهذا الهمس يأتي بلهجة المستهزئ، وقائل الهمس يعني أن سماعه للقرآن لم يزد شيئاً عنده، ولم ينقص، وهو يهمس لمنافق مثله، أو لضعيف الإيمان {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} فيرد الله على القضية النفسية، ويعلمنا أنه سبحانه قد قسم الناس قسمين: قسم كافر أو منافق، وهذا القسم يزيده القرآن كفراً، أما القسم المؤمن؛ فاستقباله للقرآن يزيد من إيمانه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5591 إذن: الفاعل شيء والقابل مختلف. ووقف العلماء أمام هذه الآية موقفاً فيه اختلاف بينهم {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} فقال بعضهم: إن الإيمان ينقص ويزيد، وقال بعضهم: إن الإيمان لا ينقص ولا يزيد، وقامت معركة بين علماء الكلام، ولا تتسرب معركة بين عقلاء إلا إذا كانت جهة الفهم في الأمر الذي يختلفون فيه منفكة، فمنهم من يذهب فكره إلى ناحية، ومنهم من يتجه فكره إلى ناحية أخرى. فالذين قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فلحظة أن يتألق الإيمان في القلب؛ يستقر فيه، وهو الإيمان بالله، وأن لا إله إلا الله ولا معبود سواه، وأن محمداً رسوله المبلغ عنه؛ هذا الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمثال: هو قول الإمام على كرم الله وجهه: لو انكشف عني الحجاب ما ازدادت يقيناً. أما العلماء الذين قالوا بأن الإيمان يزيد ولا ينقص، فقد قصدوا بذلك تطبيق مستلزمات الإيمان من الآيات، فكل آية تحتاج ممن يصدقها أن يكون مؤمناً بالله أولاً، ثم ينفذ متطلبات الآية. وكل المسلمين مؤمنون بالله، ولكن في جزئيات التطبيق نجد من يطبق عشرين جزئية وآخر يطبق ثلاثين، أما أصل الإيمان الذي استقبل به الإنسان التكليف وهو التوحيد، فلا يزيد أو ينقص. وهؤلاء المنافقون عندما قالوا: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} هل تداولوا ذلك سرّاً أم قالوه علناً؟ لا بد أنهم قالوا ذلك سرّاً وفضحهم الحق سبحانه، وكان يكفي أن يعلموا أن الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5592 يخبر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكل ما يكتمونه، ولكنهم احترفوا اللجاجة؛ لذلك قالوا: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} . ويرد الحق سبحانه: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} و «يستبشر» أي: يملأ السرور بشرته، فترى البريق، والفرحة، والانبساط. وكلها من علامات الاستبشار، ومن يستبشر بآية من آيات الحق فهو الذي يفهم من الآية شيئاً جديداً؛ يدخل على نفسه السرور؛ ولذلك فهو يرتاج لنزول تكليفات إيمانية جديدة، ليعظم ويزداد ثوابه، وهو غير ذلك الذي يكره أن ينزل حكم جديدة من الله هذا هو معنى «يستبشر» . أما الآخرون فيقول الحق سبحانه عنهم: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5593 والرجس: هو الشيء المستقذر، وتكون القذارة حسية، ومرة تكون معنوية. فالميتة مثلاً قذارتها حسية؛ لأنها ماتت ودمها فيها، والدم - كما نعلم - له مجريان؛ مجرى للدم قبل أن يكرر، ومجرى آخر للدم بعد أن يكرر، والدم قبل أن يكرر يمر على الرئة والكلى فتنفيه الرئة والكلى من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5593 الأشياء الضارة التي تصل إليه نتيجة تفاعلات أعضاء الجسم المختلفة. وبعد أن تتم تنقية عن طريق الرئتين والكلى يصير دماً صالحاً. فإذا مات الحيوان بقي فيه دمه الصالح ودمه الفاسد؛ لذلك نحن نذبح الحيوان قبل أن نأكله، ونضحي بدمه الصالح مع الفاسد؛ حتى لا يصيبنا الدم الفاسد بالأمراض؛ ولذلك تعتبر الميتة رجساً. والخمر أيضاً نجاسة حسية ورجس. وهناك رجس معنوي، ولذلك قال الحق: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه ... } [المائدة: 90] إذن: فهناك رجس حسي، ورجس معنوي، ويطلق الرجس على الكفر أيضاً، ومرة يطلق الرجس على همسات الشيطان ووسوسته. وفي ذلك يقول الحق: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان ... } [الأنفال: 11] وهنا يقول الحق: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} ولأنهم يكفرون بالله وبآياته؛ فهذا يزيدهم رجساً على رجسهم ويصبح كفرهم مركَّباً، وهكذا نجد البشارة للمؤمنين، أما الكافرون فلهم النذارة؛ لأن كفرهم يزيد، ويموتون على ذلك الكفر. ويقول سبحانه بعد ذلك: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5594 {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5595 وقوله الحق: {أَوَلاَ يَرَوْنَ} أي: ألا يستشهد المنافقون تاريخهم مع الإسلام، ويعلمون أنهم يفتنون في كل عام مرة بالمصائب ومرة بالفضيحة، فتجد رسول الله حين يراهم يخرج بعضهم من بين الصفوف ويقول لهم: «اخرج يا فلان فإنك منافق» . ثم بعد شهور يتكرر الموقف، وهنا يذكرهم الحق سبحانه بأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصفيهم كل عام مرة أو مرتين. الأصل في الفتنة أنها امتحان واختبار، وهي ليست مذمومة في ذاتها، لكنها تذم بالنتيجة التي تأتي منها، فالامتحان - أي امتحان - غير مذموم، لكن المذموم هو أن يرسب الإنسان في الامتحان. إذن: الابتلاء أو الفتنة في ذاتها ليست مذمومة، إنما المذموم أن تأتي النتيجة على غير ما تشتهي، وهم يفتنون حين يرون انتصار المسلمين وغم نفاقهم وكيدهم للمسلمين، وكان يجب أن يعلموا أنهم لن يستطيعوا عرقلة سير الإسلام؛ لأنه منتصر بالله. وكان يجب أن يعتبروا ويتوبوا لينالوا خير الإسلام، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5595 فخيره ممدود رغم أنوفهم، والخسارة لن تكون على الإسلام، وإنما الخسارة على من يكفر به. ونحن نعلم أن الإسلام بدأ بين الضعفاء إلى أن سار الأقوياء إليه، وتلك سنة الله في الكون، بل إننا نجد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بدء الرسالة كان مطلوباً منه أن يؤمن بأنه رسول. وكما تقول أنت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، كان على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيضاً أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وسبحانه جل شأنه، الخالق الأكرم، آمن بنفسه أولاً، بدليل قوله سبحانه: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ... } [آل عمران: 18] فأول شاهد بالألوهية الحقة هو الله، وقد شهد لنفسه، ومعنى ذكر شهادته لنفسه لنا أن نؤمن بأنه سبحانه يزاول قيوميته وطلاقة قدرته بكلمة «كن» وهو عالم أن مخلوقاته تستجيب قطعاً، وكان لا بد أن يعلمنا أنه آمن أولاً بأنه الأول، وأنه الإله الحق، بحيث إذا أمر أي كائن أمراً تسخيرياً فلا بد أن يحدث هذا الأمر، وسبحانه لا يتهيب أن يأمر؛ لذلك قال لنا: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال، وحين يشهد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه رسول الله فهو يؤمن بأنه رسول، ولو لم يؤمن برسالته لتهيب أن يبلغنا بالرسالة، وبعد أن آمن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه رسول من الله جاءه التكليف من الحق: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] وظل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى الإسلام، ويبلغ آيات الحق إلى أن جاءت آيات الدفاع عن دين الله، وقال الحق: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5596 {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ ... } [التوبة: 123] إذن: في البداية كان لا بد أن يؤمن أنه رسول، وأن يبلغ الدعوة إلى قريش وسائر الجزيرة، وتعبر دعوته بعد ذلك من الجزيرة إلى الشام، وتتعدى الرسالة الشام بالإعلام في كل بقاع الأرض، ولذلك كانت الرمزية في إرسال الكتب: كتاب لفلان وكتاب لفلان؛ ليفهم العالم أن دعوة النبي صلى الله بالإيمان والإسلام دعوة متعدية؛ لأنها خالفت دعوات الرسل عليهم السلام، فقد كان رسول إنما يعلم أن حدود دعوته هي أمته. أما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد كانت لرسالته مراحل: آمن بذلك أولاً، ثم دعا الأقربين، ثم من بعد ذلك قريش، ثم أبلغ العرب، ثم الشام، وتعدت الدعوة بالكتب إلى جميع الملوك في العالم، وصارت أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مؤتمنة على حمل الدعوة ونشرها في أي مكان ومعها حجتها وهي القرآن. وشاء الله أن يختم رسول الله الرسالات، وأرسله بالإسلام الذي يغلب الحضارات، رغم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أمة أمية لا تعرف شيئاً؛ حتى لا يقال عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5597 الإسلام أنه مجرد وثبة حضارية، وجاء لهم منهج غلب الحضارات المعاصرة له: فارس والروم في وقت واحد. إذن: فالمسألة كانت مسألة قبيلة، يحكمهم واحد منهم هكذا، دون تمرس بالنظم الاجتماعية، ولم يعرفوا شيئاً قبل الإسلام، بل هم أمة متبدية لا شأن لها بالنظم السياسية أو الاقتصادية، وطن الواحد منهم جمله وخيمته وبضعة أدوات تعينه على الحياة، وتستقر كل جماعة في أي مكان يظهر به العشب ويوجد به الماء، وبعد أن تأكل الأغنام والأنعام العشب، ينتقل العربي مع جماعته إلى مكان آخر، بعد أن ينظر الواحد منهم إلى السماء؛ ليعرف مسار الغمام وأين ستمطر السحب، ثم ينساح هؤلاء بالدعوة بعد ذلك، فلو كان لهم انتماء إلى وطن أو بيت أو مكان لصار الرحيل صعباً عليهم، لكنهم كانوا متمرسين بالسياحة في الأرض. والآية التي نحن بصددها تكشف ضعف إيمان البعض، ونفاق البعض، فيقول الحق: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي: كان لا بد أن يتوبوا أو يتعظوا ويعلموا أن وقوفهم ضد الإسلام لم ولن يحجب الإسلام وأنهم سينسحقون ويضيعون، فلماذا لا يتذكر كل منهم تفسه، ويرى مصلحته في الإيمان. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5598 ومن قبل جاء قول الحق: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً ... } [التوبة: 124] أي: أن هؤلاء المنافقين يشعرون بالضيق والحصار، ويخافون أن يتكلموا؛ لأنهم موجودون مع المسلمين، ولكنهم لا يعدمون وسيلة للتعبير عن كفرهم، فيغمز الواحد منهم بعينه، أو يشير إشارة بيده، فإذا ما كانوا قد تساءلوا من قبل ب {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} فقد كان هذا السؤال يتعلق بالتكاليف، أما في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فليس فيها تكاليف جديدة. لقد كانوا يريدون أن يقولوا شيئاً، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتكلموا بأفواههم، فتكلموا بأعينهم ونظراتهم، فكأن النظر نفسه كان فيه هذه الكلمة: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} ، وهذا قد تراه من واحد يسمع خطبة الخطيب، ولكنه يرى بها أشياء لا تعجبه، فتجده يعبر بانفاعالات وجهه عن عدم رضاه. إذن: فهناك نظر، وهناك كلام، وهم قد تساءلوا: هل يراكم من أحد؟ زمثلها مثل قولك: ما عندي من مال؟ أي أنك لا تملك بداية ما يقال عنه مال، والقول الكريم أبلغ بالقطع من أن تقول: هل يراكم أحد. إن قوله الحق: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} دليل على أنهم في خوف من أن يضبطهم أحد، ومن بعد ذلك تجدهم يتسللون خارج دائرة الاستماع للقرآن أو للرسول؛ لأنهم لا يطيقون الاستمرار في الاستماع؛ لأن منطق الحق يلجم الباطل، والواحد منهم غير قادر على أن يؤمن بالحق وغير قادر على إعلان الكفر؛ فينسحبون، وينصرف كل واحد منهم؛ لذلك نجد أن بعضهم قد قال من قبل: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5599 {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ ... } [فصلت: 26] وقد قالوا ذلك لأن الكافر أو المنافق قد تأتيه لحظة غفلة عن الباطل، فيتسلل الإيمان إلى قلبه، كما أن المؤمن قد تأتيه لحظة غفلة عن الحق، لكنه يستغفر الله عنها. وإذا ما أتت للمنافق أو الكافر لحظة غفلة عن كفره أو نفاقه؛ فتأتيه هجمة الإيمان فيخافها، فيقول لمن هم مثله: من الأفضل أن نقول لمن معنا لا تسمعوا هذا القرآن. لماذا؟ حتى لا يصادف فترة غفلة عن النفاق، فإذا صادف فترة غفلة عن النفاق فمن الممكن أن يدخل الإيمان القلب. ولذلك قالوا: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن} ، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل طلبوا من الأتباع ان يلغوا فيه، أي: أن يشوشوا عليه: {والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ... } [فصلت: 26] إذن: لا غلبة لهم مطلقاً إلا بعدم الاستماع إلى القرآن، أو أن يشوشوا عند سماع القرآن؛ حتى لا ينفذ القرآن إلى القلوب. وهنا يقول الحق سبحانه عن هؤلاء المنافقين: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} كانوا يقولون ذلك؛ لأنهم كمنافقين سبق لهم إعلان الإسلام، وكانوا يدعون أنهم متقدمون في تطبيق أحكام الإيمان، وكانوا يصرون على الوقوف أثناء الصلاة في الصف الأول؛ حتى يدفعوا عن أنفسهم تهمة النفاق، وكما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5600 يقول المثل: يكاد المريب أن يقول خذوني. وينظر بعضهم إلى بعض متسائلين: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا} لأنهم لا يطيقون الجلوس إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو إلى المؤمنين. وينهي الحق الآية: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} وذلك نتيجة لانصرافهم نفسيّاً إلى النفاق؛ فيساعدهم سبحانه على ذلك، فما داموا لا يعرفون قيمة الإيمان؛ فليذهبوا بعيداً عنه، فالحق لهم يصرفهم إلا باختيارهم، حتى لا يقول أحد: إن الله هو مصرف القلوب، فما ذنبهم؟ لا، لقد انصرفوا هم بما خلقه الله فيهم من اختيار، فصرف الله قلوبهم، لماذا؟ لأنهم {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أي: لا يفهمون. والفهم أول مرحلة من مراحل الذات الإنسانية، وهناك فرق بين الفهم والعلم. فالفهم يعني أنك تملك القدرة على تَفَهُّم ذاتية الأشياء بملكة فيك، لكن العلم يعني أنك قد لا تفهم أنت بذاتك، وإنما يفهم غيرك ويعلمك. فأنت قد تعلم جزئية لا من عندك وإنما من معلم لك. ولكن قد يقول قائل: ما داموا لا يفقهون فما ذنبهم؟ ونقول: الذي لا يفهم عليه أن يتقبل التعليم، لكن هؤلاء لم يفهموا ولم يتعلَّموا، وأصروا على عدم قبول العلم. وبعد ذلك يتأتى ختام سورة التوبة. والسورة بدأت بالقطيعة: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} [التوبة: 1] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5601 ووردت لنا أحوال الكفار والمنافقين وتكاليف الجهاد الشاقة، وأراد الحق أن يختم السورة بما يبرر هذه المشقات المتقدمة، فبيّن لنا: إياكم أن تنفضُّوا عن الرسول أو تغضبوه؛ لأنه وإن جاء لكم ببلاغ فيه أمور شاقة عليكم فخذوا هذه الأمور الشاقة على أنها من حبيب لكم، لا من عدو لكم. إنك مثلاً إن رأيت عدوّا ضرب ابنك وجرحه، يكون وقع هذا الأمر شديداً عليك؛ لأنه عدو. لكنك إذا أخذت ابنك للطبيب وقرر الطبيب إجراء جراحة للابن، فأنت تقبل ذلك؛ لتزيل عن ابنك خطراً. إذن: فهناك فارق بين جرح عدوك لابنك وجرح الطبيب له رغم أن الإيلام قد يكون واحداً. إذن: لا ترفض الأمور الشاقة عليك لمجرد ورود المشاق عليك، ولكن اعرف أولاً من الذي أجرى المشاق عليك، فإن كان ربك، فربك بك رحيم. وإن كان الرسول فخذ أوامر الرسول وطبيقها؛ لأنها من حبيب يريد لك الخير. وهنا يقول الحق: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5602 ونلحظ هنا أن الحق قد نسب المجيء هنا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يقل: جئتكم برسول. وكلنا يعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يأت من عند نفسه، ولم يدع هذا الأمر الجليل لنفسه، ولكن الشحنة الإيمانية تفيد أنه خلق بما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5602 يؤهله للرسالة، وبمجرد أن نزل عليه الوحي امتلك اندفاعاً ذاتيّاً لأداء الرسالة، ولم يحتج لمن يدفعه لأداء الرسالة؛ لذلك أراد الحق سبحانه أن يثبت للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المجيء ذاتيّاً، ولكن هذا المجيء الذاتي ليس من عند محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البداية، بل هو رسول من عند الله، فأتى الحق سبحانه هنا بكلمة «جاء» . وكلمة {رَسُولٌ} تدل على أنه ليس من عنده، وكلمة «جاء» تدل على أن الشحنة الإيمانية جعلت لذاته عملاً، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعشق الجهاد من أجل الرسالة، ويعشق الكفاح من أجل تحقيق هذه الرسالة. إذن: لا تنظروا إلى ما جاءكم به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نظرتكم إلى الأمور الشاقة التي تتعبكم، ولكن انظروا ممن جاءت، إن كانت من الأصل الأصيل في إرسال الرسل، فالرب رحيم، خلقكم من عدم وأمدكم من عدم، ويوالي نعمة عليكم حتى وأنتم في معصيته. فأنت تعصاه ويحب الله سبحانه من يستر عليك، فلا تشك ولا تتشكك. وعليك أن تأخذ التكاليف على أنها من حبيب فلا تقل: إنها مشقة. فأنت - ولله المثل الأعلى - تطلب من ابنك أن يستذكر دروسه، وتراجعها معه قهراً عنه في بعض الأحيان، وأنت قد تمسك بيدي ابنك ليعطيع الطبيب حقنة من الدواء الذي جعله الله سبباً للشفاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5603 إذن: فلا تأخذ الأحوال بوارداتها عليك، ولكن خذها بوارداتها ممن قدرها وقضاها؛ وهو الحق سبحانه وتعالى. وهنا يقول الحق سبحانه: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: أن الحق سبحانه لم يأت بإنسان غريب عنكم، بل جاء بواحد منكم قادر على التفاهم معكم. ولقوله الحق: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} معان متعددة، فمرة يكون معناها ب «من جنسكم» ، مثلما قال الحق عن حواء: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ... } [النساء: 1] أي: خلق حواء من نفس جنس آدم البشري، فلا يقولن أحد: كيف بعث الله لنا بشراً رسولاً؟ لأن الحق أراد الرسول من البشر رحمة بالناس؛ ولذلك يؤكد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على بشريته أكثر من مرة وفي مواقع كثيرة. والقرآن يقول: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] إذن: فبشرية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا تؤخذ على الله، ولكن تؤخذ لله؛ لأنه أرسل واحداً من نفس الجنس؛ ليكون قادراً على أن يتفاهم مع البشر، وتكون الأسوة به سهلة. ولذلك قال سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5604 {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] وقوله الحق: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: من جنس العرب، ولم يأت به من الروم أو من فارس، لكن اختار لكم من هو أعلم بطبائعكم. أو أن معنى {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: من نفس القبيلة التي تنتمون إليها معشر قريش. أو أن {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} تعني: أنكم تعلمون تاريخه، وتعرفون أنه أهل لتحمل أمانة السماء للأرض، كما تحمل أماناتكم من الأرض للأرض؛ ولأن هذا هو سلوكه، فهو قادر على أن يتحمل أمانة السماء للأرض. ولقد سميتموه الصادق الأمين، والوفي، وكلها مقدمات كانت توحي بضرورة الإيمان به كرسول من عند الله. وإن كانت سلسلة أعماله معكم تثير فخركم، فمجيئة كرسول إنما يرفع من ذكركم، ويعلي من شأنكم. فأنتم أهل قريش ومكة ولكم السيادة في البيت الحرام، وقد جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ليزيد من رقعة السيادة لكم، فإذا كنتم قبل بعثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سادة البيت، فأنتم بعد بعثته سوف تصيرون سادة العالم. ويقول الحق سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44] فهو نبي الله للعالم أجمع ومن العرب ومن قريش، وكان يجب أن يفرحوا برسالته وأن يؤيدوها، لكن الله لم يشأ ذلك؛ لأن قريشاً قبيلة قد ألفت السيادة على العرب، وهذا جعل العرب يعملون لها حساباً، وخافت منها كل قبائل العرب في أنحاء الجزيرة العربية، وكانت لها مهابة هائلة؛ لأن كل العرب مضطرون للحج إلى الكعبة، وأثناء الحج تكون القبائل كلها في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5605 أرض قريش؛ لذلك كانت كل القبائل ترعى قوافل قريش، ولا تتعرض أي قبيلة لقريش أبداً، فقوافلها تروح وتغدو، جنوباً وشمالاً، ولا تقدر قبيلة أن تقف في مواجهة قريش، أو أن تتعرض لها. وكل هذه المكانة وتلك المهابة أخذتها قريش من خدمتها لبيت الله الحرام؛ ولذلك شاء الحق ألا يمكن أبرهة من هدم البيت لتظل السيادة لقريش، فلو انهدم البيت الحرام وانصرف الحج إلى اليمن كما كان يريد أبرهة، فمن أين تأتي السيادة لقريش؟ لذلك قال الحق عن أبرهة وقومه: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5] وأتبعها بقوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 1 - 2] وما دام الحق سبحانه قد شاء هذا فيأتي أمره في الآية التالية: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] وشاء الحق سبحانه أن يبعث بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً يدعو أولاً الصناديد، والقبيلة ذات المهابة والمكانة، وأن تكون الصيحة الإيمانية في آذان سادة الجزيرة الذي تهابهم كل القبائل، حتى لا يقال: إن محمداً قد استضعف قلة من الناس وأعلن دعوته بينهم، لا، بل جاءت دعوته في آذان الصناديد، والسادة، وسفه أحلامهم، وحين رفضوا دعوته هاجر، ثم جاءه الإذن بقتالهم، ولم تأت نصرة الإسلام من السادة، بل آمن به الضعاف أولاً، ثم هاجر إلى المدينة؛ لتأتي منها النصرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5606 فلو أن النصرة جاءت من السادة لقالوا: جاءت نصرة الإسلام من قوم ألفوا السيادة، ولما ظهر واحد منهم يقول: إنه رسول؛ أرادوا أن يسودوا به، لا الجزيرة العربية، بل الدنيا كلها، فتكون العصبية لمحمد هي التي خلقت الإيمان بمحمد، والله يريد أن تكون النصرة من الضعيف؛ حتى يفهم الجميع أن الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو السبب في العصبية لمحمد. هكذا نفهم معنى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} أي: مرسل من الله و {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} بكل ما تعنيه مراحل النفس، وهو مبلغ عن الله، فلم يأت بشيء من عنده، بل كل البلاغ الذي جاء به من ربه، والرب بإقراركم هو الذي خلق لكم ما تنتفعون به من السموات والأرض. وسبحانه يقول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ... } [الزخرف: 87] ويقول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ... } [لقمان: 25] إذن: فالمخلوق هو الخليفة الإنسان، وما خلقه الله في الكون، إنما خلقه لخدمتكم كلكم، وأنتم تقرون ذلك، فإذا كان الرب قد سبق لكم بهذه النعم، وجاء الرسول الذي جاء لكم من عنده بما يسعدكم، وقد استقبلتم خيره قبل أن يأتي لكم بالتكاليف، واستقبلتم نعمته قبل أن تكونوا مخاطبين له، إذن: فالله الذي أرسل رسوله بالتكاليف والمنهج لكم، لا بد أن يكون قد كلف من هو مؤتمن عليكم، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يأت من جنس الملائكة، بل هو بشر مثلكم، فإذا قال لكم: افعلوا كذا وكذا وأنا أسوة لكم في الفعل، فلا تتعجبوا، لكن غبار الكافرين بالله جعلهم يريدون أن يكون الرسول ملكاً، فقال الحق: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5607 {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 94 - 95] أي: إن كنتم تريدون مَلَكاً، فالملك له صورة لا ترونها، ولا بد أن نجعله ملكاً في صورة بشر؛ ليخاطبكم، إذنك فهل المشكلة مشكلة هيئة وشكل؟ ثم إن الملائكة بحكم الخلق: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] فإذا قال لكم الرسول الملك: أنا أسوة لكم في العمل الصالح، أكانت تصح الأسوة؟ من المؤكد أن بعضنا سيقول: لا، لن تنتفع الأسوة؛ لأنك مَلَك مطبوع على الخير، وليس لك شهوة بطن، ولا شهوة فرج، إذن: فأسوتنا بك لا تصلح. إذن: فمن رحمته سبحانه بكم أن جعل لكم رسولاً من أنفسكم، ومن قبيلتكم، ومن العرب، لا من فارس والروم، وهو يخاطبكم بلغتكم؛ لأنكم أنتم أول آذان تستقبل الدعوة؛ فلا بد أن يأتي الرسول بلسانكم، وجاءكم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالأنس والألفة؛ لأن من قريش التي لها بطون في كل الجزيرة ولها قرابات، وأنس وألفة بكل العرب، وأنس ثالث أنه من البشر، وجاء به الحق سبحانه فرداً من الأفراد، محكوم له بالصدق والأمانة قبل أن يبلغكم رسالته من الله. إذن: فإذا جاءكم الرسول بتكليف قد يشق عليكم، فاستصحبوا كل هذه الأشياء؛ لتردوا على أنفسكم: هو بشر وليس مَلَكاً. هو من العرب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5608 وليس من العجم. هو من قبيلتكم التي نشأ بينكم فيها. هو من تعرفون سلوكه قبل أن يبلغ عن الله، فما كذب على البشر في حق البشر. أفيكذب على البشر بحق الله؟ وقرأ عبد الله بن قسيط المكي هذه الآية: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمقياس البشري هو من أقدركم وأحسنكم. ولذلك حينما جاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالدعوة عن الله، هل انتظرت سيدتنا خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن يأتي لها بمعجزة؟ هل انتظر أبو بكر أن يأتي له بمعجزة؟ لا، لم ينتظر أحدهما لأن كلاّ منهما أخذ المعجزة من ناحية تاريخه الماضي. وحينما قال لخديجة: «يأتيني ويأتيني ويأتيني» وكانت ناضجة التكوين والفكر والعقل، وعلمنا مما قالت لماذا اختار الله له أن يتزوجها وعمره خمسة وعشرون عاماً، وعمرها أربعون سنة، مع أن المألوف أن يحب الإنسان الزواج ممن هي دونه في العمر. لكن المسألة لم تكن زواجاً بالمعنى المعروف، لكنه زواج لمهمة أسمى مما نعرف، ففي فترة هذا الزواج ستكون الفترة الانتقالية بين البشرية العادية إلى البشرية التي تتلقى من السماء، وهذه فترة تحتاج إلى قلب أم، ووعاء أم تحتضنه وتُربِّت عليه. فلو كانت فتاة صغيرة وقال لها مثلما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لخديجة لشكت في قواه العقلية، لكن خديجة العاقلة استعرضت القضية استعراضاً عقليّاً بحتاً. فحين قال لها: أنا أخاف أن يكون الذي يأتيني رئي من الجن. قالت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5609 له: «إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق، والله لا يخزيك الله أبداً» . إذن: فقد أخذت من مقدمات حياته قبل البعثة ما يدل على صدقه بعد البعثة. وكذلك أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، حينما قالوا له: إن صاحبك يدعي أنه رسول. قال: أهو قالها؟ قالوا: نعم. قال: إنه رسول من الله لأنه لم يكذب طوال عمره. وبعد ذلك يقول الحق: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} . وكلمة {عَزِيزٌ} أي: لا يُنال ولا يقدر عليه أحد، والشيء العزيز أي نادر الوجود. وقد تقول لإنسان: «قد تكن وزيراً» ؛ فيصمت رجاء، لكن إن قلت له: «ستصبح رئيس وزراء» فيقول: هذه مسألة مستعصية وكبيرة عليَّ بعض الشيء. إذن: فالعزة تأتي لامتناع شيء إما لقدرته، أو عزيز بمعنى نادر، أو يستحيل. والعزيز - هو الأمر الذي يعز على الناس أن يتداولوه، فيقال: «عز عليّ أن أصل إلى قمة الجبل» . {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} أي: شاق عليه أن يعنتكم بحكم؛ فقلبه رحيم بكم، وهو لا يأتي لكم بالأحكام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5610 لكي تشق عليكم، بل تنزل الأحكام من الله لمصلحتكم، فهو نفسه يعز عليه أن يشق عليكم. ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها. وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار. فتغلبوني تقحمون فيها.» فإذا كان الرسول صفته أنه من أنفسكم أو من أنفسَكم أو يحبكم حبّاً يعز عليه أن تكونوا في مشقة. إذن: فخذوا توجيهاته بحسن الظن وبحسن الرأي فيها، وذلك هو القانون التربوي الذي يجب أن يسود الدنيا كلها. فقد يقسو والد على ولده بأوامر ونواه: «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» لا تذهب إلى المكان الفلاني، ولا تجلس إلى فلان، ولا تسهر خارج المنزل بعد الساعة كذا. كل هذه أوامر قد تشق على الولد فنقول له: مشقة التكليف ممن صدرت؟ لقد صدرت من أبيك الذي تعرف حبه لك، والذي يشقى ليوفر لك بناء المستقبل، ويتعب؛ لترتاح أنت، فكيف تسمح لنفسك أن تصادق صعاليك يخرجونك عن طاعة أبيك إلى اللهو وإلى الشر. وانظر إلى والدك الذي تحمل المشقة حتى لا تتحمل أنت المشقة، ويشق عليه أن تتعب فهو أولى بأن تسمع كلامه. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عزيز عليه مشقتكم، والمشقات أنواع: مشقات في الدنيا تتمثل في التكاليف التي يتطلبها الإيمان، ولكنها تمنع مشقات أخلد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5611 في الآخرة؛ لذلك فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحزن أن ينالكم في الآخرة تعب، وتعب الدنيا موقوت وينتهي، لكن تعب الآخرة هو الذي يرهق حقّاً ويتعب. ولذلك يقول الحق في تصوير هذه المسألة بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] لماذا؟ لأنك تعرف يا محمد أنهم إن لم ينتهوا فسوف يجدون العنت كله في الآخرة. أو أن مشقة الآخرة هي التي يجب أن نتلافاها، وأن نتحمل المشقات الزائلة العرضية التي تورد ثماراً. فنحن قد نجد الرجل يقول لابنه مثلاً: اخرج إلى الحقل، واحمل السباخ فوق الحمار واحرث وارْو، كل هذه مشقات ستجد لذتها يوم الحصاد، وتعطيك الأرض من خير الله كذا إردب قمحاً أو غير ذلك. ولو ترك الأب ابنه لكسله فهذه هي المشكلة الأكبر، وحث الأب لابنه على العمل هو دفع لمغبة الضياع. وقد يأخذ الأب ابنه للطبيب، ويجد الطبيب مشغولاً، ويرجوه الأب أن يجري للابن جراحة تنجيه وتنقذه من خطر رغم أن الأب يعلم أن الطبيب سيستخدم مع ابنه أدوات جراحية كالمشارط وغيرها، ولكن ليعلم الابن أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5612 هذا المشرط سيمسُّ أباك قبل أن يمسَّك، وعلى ذلك إذا أُمرت بتكليف شاق فانظر مَنْ أمرك؟ أهو ممن تعز عليه ومن تحبه وممن يريد لك الخير؟ إن كان الأمر كذلك؛ فعليك أن تقبل ولا تسيء الظن، ولا تُرهق مَنْ يحبك. واعلم أن والدك حين يصرفك عن أصدقاء السوء - مثلاً - فهو يرد عنك مصارف الشر؛ لأنك إن اجتهدت في عملك؛ فسوف تحصد النتيجة الطيبة، أما إن اتجهت إلى مصارف الشر فسوف تُشَرّد وتجوع، وسوف تدق باب بيت أبيك. وعندئذ ستسمع مثلاً عاميّاً يلخص الحكمة التي تقول «من يأكل لقمتي فليسمع كلمتي» . وهنا يقول الحق: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ومعنى الحرص: أن يحوطكم بالرعاية؛ حتى لا تقعوا في المشقة الأكبر. ولذلك قلنا: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد صوَّر هذه المسألة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار - أي أمسككم من خلفكم حتى لا تذهبوا إلى النار - وأنتم تفلتون من يدي» والحق يُسَرّي عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} [الكهف: 6] ويقول الحق أيضاً لرسوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5613 فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو الناس إلى إتقان العمل في الدنيا؛ ليصلوا إلى الجنة في الآخرة؛ لأن كل مؤمن عزيز عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويخشى أن يُرهَق إنسان واحد في الآخرة، ولذلك قال الحق: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] أي: إياك أن تحزن أنك حريص على أن يؤمنوا؛ لأن الحق سبحانه يقدر أن ينزل عليهم آية تجعل رقابهم خاضعة، ولكن الرب لا يريد رقاباً تخضع؛ وإنما يريد قلوباً تخشع. {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} والرأفة والرحمة قد تلتقيان في المعنى العام، ولكن هناك أموراً تسلب مضرّة، وأموراً تجلب منافع. وسلب المضرّات - دائماً - مُقدّم على جلب المنافع، فحين نواجه عملاً يضر وعملاً ينفع؛ نُقدم على العمل لدرء ما يضر، ثم ننجز العمل النافع. وساعة يطرأ عليك أمر يضر، وأمر ينفع، وأنت في حال متساوية ولا بد أن تدرأ عن نفسك الأمر الضار الذي يخرجك عن الاستواء، ثم تقبل على الأمر الذي يزيد من الارتقاء. وحتى نقرب هذه المسألة إلى الذهن، سأضرب هذا المثل الحسّي: هَبْ أن واحداً معه حجر يريد أن يضربك به، وآخر يريد أن يقذفك بتفاحة، فهل تنشغل بالتقاط التفاحة أو تنشغل برد الحجر؟ إنك تنشغل أولاً بدرء الضرر، ثم تقبل على جلب المنفعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5614 ومثال آخر: هب أنك ترى إنساناً يغرق أمامك في البحر، فهل توبخه؛ لأنه نزل البحر دون أن يتعلم العوم؟ أم تنقذه أولاً وتدفع الأذى عنه، ثم توبّخه وتعاقبه بعد ذلك جزاء إهماله؟ إنك تنقذه أولاً، وبذلك تكون قد قدمت الإحسان بدفع المضرة أولاً، وحتى إن عاقبته فهو يتقبل منك العقاب أو النهر؛ لأن صنيعك أنقذه من الموت. والحق يقول: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ ... } [آل عمران: 185] إذن: فمراحل الفوز أن يُزْحزح الإنسان أولاً عن النار، ففي هذا سلب للمضرَّة، وجلب للمنفعة، وإن ظل الإنسان في موقعه لا هو في الجنة ولا هو في النار؛ فهذا هين أيضاً. وإن أدخل الجنة فهذا هو الخير كله. وإذا كانت هذه هي بعض من خصال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} ، و {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} ، و {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ، و {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ، فهذه خصال إن استوعبها الإنسان فهو يندفع إلى اتباع هذا الرسول. وقوله الحق: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} نرى فيه الوصف ب «الرءوف» والرأفة هي سلب ما يضر من الابتلاء والمشقة، و «رحيم» هو الذي يجلب ما ينفع من النعيم والارتقاء. وحسبكم من هاتين الصفتين أن الله سبحانه وتعالى وصف رسوله بهذين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5615 الوصفين {رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وقد ثبت أنه سبحانه قد وصف نفسه بقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 7] إذن: فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يسلك بما عنده، بل يسلك برأفة مستمدة من رأفة العل الأعلى، وكذلك رحمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مستمدة من رحمة العلي الأعلى. وكأن الحق سبحانه يبيّن لنا أنه أعطى محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعضاً من الصفات التي عنده، فكما يبلغكم المشقات في التكاليف، فهو يبلغكم السلامة من المشقات في الرأفة، وترقية المنعمات بالرحمة؛ ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] ونعلم أن الشفاء إنما يكون من المرض، أي: أن القرآن يسلب المضرة أولاً، ثم يأتي لنا بالمنفعة بعد ذلك وهي الرحمة. وقوله الحق: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} هذا القول خلاصته: إن استقبلتم مشقات التكليف من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فاعلموا ممن جاءت هذه المشقات، واعلموا أن مجيئه بها إنما هو ليرفع عنكم مشقات أكبر وأخلد؛ لأن مشقات التكليف تنتهي بانتهاء زمن التكليف وهو الدنيا، ثم يذهب المؤمن إلى الجنة ليحيا بلا تكليف، وما يخطر على باله من أشياء، يجده فوراً؛ بدءاً من الطعام والشراب وجميع ما خلقه الله لأهل الجنة من نعيم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5616 وإن نظرنا إلى متع الدنيا نجد أن من اجتهدوا في حياتهم، يستأجرون من يقوم لهم بالأعمال التي كانوا يقومون بها لأنفسهم؛ فالثري الذي كان يطهو طعامه قبل الثراء، يستأجر طاهياً؛ ليعد له طعامه، والفلاح الذي كان يبني بيته لنفسه، ثم رزقه الله بالرزق الوفير فاستأجر من يبني له، وكل الأعمال التي تسعد الإنسان وكان يقوم بها بنفسه ولنفسه، صار يستأجر من يقوم له بها، فما بالنا بالآخرة حيث تعيش في رضا الله وبأسرار كلمة {كُن} . وهكذا نجد الحق سبحانه وتعالى قد جاء في هذه السورة بمشقات التكليف، والثواب عليها وطمأن المؤمنين بان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتميز بكل المواصفات الموحية: من أنه بشر، وأنه حريص عليهم، وأنه لا يكلفهم إلا بالمشقات التي تنجيهم من المشقات الأبدية، وأنه رءوف بهم ورحيم. فإن استعموا إلى هذه الحيثيات وآمنوا، فأهلاً بهم في معسكر الإيمان، وإن تولوا ولم يسمعوا لهذه الحيثيات ولم يدخل القرآن قلوبهم، فإياك أن تظن - يا رسول الله - أنك منصور بهم؛ لأنك منصور بالله، فإن تولوا عنك وأعرضوا عن الإيمان بالله، وأعرضوا عن الاستماع لك، فاعلم أن ركنك الشديد هو الله، لذلك يختم الحق السورة بقوله: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5617 {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5618 ولم يقل الحق لرسوله: «إن تولوا وأعرضوا فاعتقد أن حسبك الله» لا، بل أعلنها للناس كافة؛ حتى يسمعوها، ولعل في إعلانك لها ما يلفتهم إلى الحقيقة؛ لأنك إن قلتها؛ فلن تقولها إلا وعندك رصيد إيماني بها، وإن فعل أحدهم شيئاً ضدك؛ فسوف يعاقبه الله. وحين تعلن: {حَسْبِيَ الله} بعد أن كذبوك، فالأحداث التي سوف تأتي بعد إعلانك {حَسْبِيَ الله} ستؤكد أن حسبك في مكانه الصحيح، ولله المثل الأعلى - أنت تقول: «حسبي نصرة فلان» ؛ لأنك تثق في قدرة فلان هذا، ولكن القوة في الحياة أغيار، وحين تقول: {حَسْبِيَ الله} فلا إله غيره سبحانه، ولا إله آخر يعارضه في هذا أو في غيره. وقل {حَسْبِيَ الله} برصيد {لا إله إِلاَّ هُوَ} و {لا إله} نفي، و {إِلاَّ هُوَ} إثبات، إذن: ففي هذا القول: {لا إله إِلاَّ هُوَ} نفي منطقي مع سلب، وإثبات منطقي مع الإيجاب، وهنا نفي أيِّ ألوهية لغير الله، والاستثناء من ذلك هو الله، ورحم الله شيخنا عبد الرحمن عزام حين ترجم عن محمد إقبال شاعر باكستان الكبير، فقال: إنَّما التوحيد إيجابٌ وسلبٌ ... فيهما للنفسِ عزمٌ ومضاءُ إيجاب في {إِلاَّ هُوَ} ، وسلب في {لا إله} ، فيهما للنفس عزم ومضاء، أي: هما للنفس قطبا الكهرباء، فاسلب الألوهية من غير الله وأثبتها لله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5618 والناس - كما نعلم - ثلاثة أقسام: قسم ينكر وجود إله للكون مطلقاً، وهم الملاحدة، وقسم ثان يقول: إن هناك الله الذي يوحده المسلمون؛ لكن له شركاء ينفعوننا عند الله. وقسم ثالث يقول بوحدانية الله. وساعة نقول {لا إله إِلاَّ هُوَ} نكون قد أثبتنا الألوهية لله، وأثبتنا أن لا شريك له، وأثبتنا ألا إله غيره، وسبحانه يقول: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} وهذا أمر طبيعي، ويمكن أن نعرفه بالحساب؛ ولذلك جاء ب {حَسْبِيَ} من الحساب. واحسبها فلن تجد إلا الله. وما دام حسبك الله ولا إله إلا هو، فسبحانه يبسط عليك حمايته ونصرته لك، فمن العقل أن تضع نفسك بين يدي رسولك، الذي أبلغك البلاغ الكامل عن الله، وأن تتوكل عليه سبحانه. وما دام سبحانه هو حسبك ولا إله إلا هو، والواجب يفرض عليك أن تظل في مَعيَّته سبحانه، ومعيّة الله مرحلتان: الأولى بأخذ الأسباب التي أمدّ بها خلقه، ومعية إيمانك المطلق بأن الأسباب إن عجزت معك، فأنت تلجأ إلى مسبِّب الأسباب الموجود وهو رب الوجود. وترى - مثلاً - الناس وهي تحتاج إلى المياه؛ لأنها ضرورة للحياة؛ فيذهبون إلى البئر فلا يجدون الماء رغم وجود البئر؛ لأن المياه التي تأتي من جوف الأرض لم تعد تتسرب إليه، ولماذا؟ لأن المخزون من ماء المطر الذي كان يأتي من أعالي الجبال ويتسرب تحت الأرض قد نفد، ولهذا نحتاج إلى مدد من أمطار السماء؛ لتجري إلى المسارب تحت الأرض وتعود المياه إلى البئر. وإذا جفَّت الآبار المحيطة بنا، هل نيأس؟ لا؛ لأن ربنا بيَّن لنا: ارفعوا أيديكم لربكم. إذن: فنحن إذا استنفدنا الأسباب نطلب من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5619 المسبب، ولذلك أتحدى أن يستنفد واحد أسباب الله الممدودة إليه، ويلجأ إلى الله فيرده. إن يد الله ممدودة لنا بالأسباب ولا يصح أن يهمل إنسان ولا يأخذ بالأسباب، ويقول: أنا متوكل على الله، إن على الإنسان أن يأخذ أولاً بالأسباب وأن يستنفدها، وبعد ذلك يقول: ليس لي ملجأ إلا أنت سبحانك، واقرأ إن شئت قول الله سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] والمضطّر: هو من استنفد أسبابه، وليس له إلا الله. لكن أن يقول إنسان: أنا أدعو الله ليل نهار وأسبِّحُه سبحانه وأقرأ سورة يس مثلاً، ولا يستجيب الله لدعائي. ونقول لمثل هذا القائل: أنت لا تدعو عن اضطرار ولم تأخذ بالأسباب، خذ بالأسباب التي خلقها الله، أولاً، ثم ادْعُ بعد ذلك. ولا تدْعُ إلا إذا استنفدت الأسباب؛ فيجيبك المسبِّب، وبذلك لا تفتن بالأسباب، فحين تمتنع الأسباب؛ تلجأ إلى الله. ولو كانت الأسباب تعطي كلها لفُتِنَ الإنسان بالأسباب، والحق سبحانه يقول: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] لذلك نجد الحق يبيّن دائماً أن كل الأسباب بيده، فنرى من يحرث ويبذر ويروي ويرعى، ثم يقترب الزرع من النضج، وبعد ذلك تأتي موجة حارة تميته، أو ينزل سيل يجرفه. إذن: خذ بالأسباب واجعل المسبب دائماً في بالك، وهنا يصح توكلك على الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5620 وكثير من الناس يخطئ في فهم كلمة «التوكُّل» ، وأقول: إن التوكل يعني أن تأخذ، أولاً، أسباب الله التي خلقها سبحانه في كونه، فإن عَزّت الأسباب ولم تصل إلى نتيجة؛ فاتجه إلى الله، مصداقاً لقوله: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} . ونحن ندعو أحياناً عن غير اضطرار ونهمل الأسباب، والمثال تجده في حياتنا حين يقول الابن لأمه: «ادعي لي حتى أنجح» وتجيب الأم الأمية قائلة كلمة بسيطة هي: «ساعد الدعاء بقليل من المذاكرة» ، وهي بذلك تدل ابنها على ضرورة الخذ بالأسباب. إذن: فمعنى التوكل، أن تستنفد الأسباب التي مدَّتها يد الله إليك. فإذا استنفدتها؛ إياك أن تيأس؛ لأن لك ربّاً، وهو سبحانه ركن شديد ترجع إليه. ومثال آخر: إذا كنت سائراً في الشارع ومعك جنيه واحد مثلاً ثم وقع منك أو سُرق، ولا تملك في البيت أو في البنك مليماً واحداً، هنا تغضب وتحزن، أما إن كان في البيت عشرة جنيهات؛ فنسبة الغضب والحزن ستكون قليلة، وإذا كان في البيت عشرة جنيهات وفي البنك مائة جنيه؛ فلن تحزن أو تغضب لضياع الجنيه الواحد. وهكذا تثق بالمثل عوضاً عن المثل، أفلا تثق بواهب هذا المثل عن عوض المثل؟ إذن: فالتوكل هو أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب. والكسالى هم من يريدون أن يكون التوكل للجوارح وليس القلوب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5621 وكان من الممكن أن يغيّر الحق الأسلوب في الآية فيقول: توكلت عليه. بدلاً من {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} ولكن إن وفقت الفهم عن قوله الحق، ستجد أن الإنسان إن قال: «أنا اعتمدت عليك» فقد تعطف قائلاً: «وعلى فلان وعلى فلان» . لكن قولك: عليك توكلت لا يمكن أن تعطف من بعدها، وفيها تنزيه لله ولا أحد غيره يتوكل عليه الخلق، مثلما تقول في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي: لا نعبد غيرك، فتكون قد قصرت العبادة عليه سبحانه. وتوكلك على الله له رصيد؛ لأن ربك ورب الكون الذي استقبلك، ولا تصل قدرتك إليه، فأنت في الأرض تحرثها، وتبذرها، وترويها، ثم تأخذ من عطاء الله لك؛ فهو ربك، ورب الكون الذي استقبلك، وأًصبح هذا الكون مسخراً لك، وأنت لم تكن قادراً على تسخير الكون. صحيح أنك قد تُسخِّر الدابة وتربطها وتمتطيها وتحمل عليها السماد مثلاً وكل ذلك مسخر لك وفي قدرتك، وهذا من فضل الله عليك. ويزيد فضله سبحانه، وترى مخلوقات مُسخَّرة لك؛ تشرق كل يوم بالدفء وبالحرارة، وكذلك القمر، والغمام، وكل هذه مخلوقات ليس في قدرتك السيطرة عليها، بل سخرها الله لخدمتك. وربك رب الكون الذي استقبلك سخر لك ما ليس في يدك، وهو سبحانه رب الملكوت الذي يدير كل ذلك وأنت لا تراه، وهو الذي يدير كل هذه الأشياء. فلا تنظر إلى ظواهر العطاء فقط، بل انظر إلى مسبِّبات العطاء في ظواهر العطاء، ولا تلتفت إلى ظاهرة إلا لتعرف ما وراء هذه الظاهرة. وما وراء أي ظاهرة كثير. ويقول الحق سبحانه: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} نعم، هو رب الكون الذي استقبلك وسخر لك ما في يدك وما ليس في يدك، وما وراء المرئيات من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5622 عالم الملكوت؛ ليدير بكمال قدرته كل شيء، وكل ما في الكون ملك لله. وله سبحانه العرش العظيم، فما هو العرش؟ نعرف لأول وهلة أن العرش هو السقف، فحين تبني دوراً واحداً تصنع له السقف؛ ليحميك من وهج الشمس والمطر، وإن كانت الأرض رخوة فالمباني تهبط، وبنينا السقوف حتى تحمي الجدران من عوامل التعرية. وقول الله سبحانه: {العرش العظيم} معناها: استواء الأمر استواءً يدخل فيه كل مقدور؛ ولذلك عبر سبحانه عن الملك مثلاً في ملكة سبأ على لسان الهدهد فقال: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] العرش، إذن، رمز السيطرة، وفي حياتنا - ولله المثل الأعلى - نجد أن الذي يأخذ الملك من واحد قبله يبدأ في تطهير الجيوب المحيطة به ويبحث عن الأنصار؛ ليعيد ترتيب الملك بما يراه مناسباً له؛ حتى تستقر له الأمور، ثم يجلس بعد ذلك على العرش. إذن: فالجلوس على العرش معناه استتباب الأمر استتباباً نهائياً للمالك الأعلى. وسبحانه يقول: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ... } [غافر: 7] وساعة تسمع كلمة «العرش» خذها على أنها رمز لللاستتباب الأمر لله، وأن كل شيء دخل في حيِّز قدرته، وفي حيِّز {كن} ، كما يستقر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5623 للملك المحَسِّ، فلا يجلس على العرش، ولا يهدأ، إلا إذا استقرت الأمور. هذا ما نراه في الأمور الدنيوية، فما بالنا باستقرار كل الكون من الأزل لله سبحانه وتعالى؟ يقول الحق سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش ... } [الأعراف: 54] أي: أن الأمور قد استتبت له. وهكذا نجد أن كلمة «الْعَرْشِ» وردت في عروش الدنيا، وفي عرش الله سبحانه، فعروش الدنيا ترمز إلى استتباب الأمر لمن يجلس عليها، والعرش بالنسبة لله رمز للاستتباب أمر الكون كله له سبحانه لا ينغص عليه شيء ولا يخرج من ملكه شيء. والكون كله، بكل ما فيه مستتب لكلمة «كن» ومخلوق بها وخاضع لسلطان الحق سبحانه وتعالى. وهنا يقول الحق: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} ولا يوصف العرش بأنه عظيم إلا وفي أذهان الناس عروش الملوك التي نراها في حياتنا، مثلما قال الهدهد عن ملكة سبأ: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] أي: بمقاييس البشر. أما قوله تعالى هنا: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} [التوبة: 129] فهو بمقاييس رب البشر، إنه عرش الخالق العظيم سبحانه وهو فوق التصور البشري؛ لذلك نفهمه في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5624 و {الر} ثلاثة حروف، وقد سبقتها سورة البقرة ب {الم} و {الم} في أول سورة آل عمران، وفي أول سورة الأعراف {المص} وهنا {الر} في أول سورة يونس . ونلاحظ أن {الم} و {المص} و {الر} كلها أسماء حروف. وكل شيء له اسم وله مسمى، أنا اسمي الشعراوي صحيح، والمسمَّى هو صورتي. فإذا أُطلق الاسم جاءت صورة المسمَّى في الذهن. فساعة نقول: «السماء» يأتي الذهن «ما علاك» . وساعة تقول: «المسجد» يأتي إلى الذهن المكان المحيّز للصلاة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5630 إذن: فهناك فرق بين الاسم والمسمّى. وكل إنسان أمّي، أو متعلم، له قدرة على الكلام، لكن لا ينطبق بأسماء الحروف إلا من تعلَّم. وفي الإنجليزية نطلب ممن يتعلمها أن يتهجَّى أسماء الحروف. إذن: فالكُلّ - كل متكلم - يعرف النطق بمسمَّيات الحروف ولكن الذي يعرف المسميات ويعرف الأسماء هو من جلس إلى معلِّم. وعرف أنك حين تقول: «أكلت» ، فهذه الكلمة مكونة من (همزة، وكاف، ولام، وتاء) . فإن كانت بعض سور القرآن قد بَدأت ب {الم} وهذه أسماء حروف، لا مسمَّيات حروف، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمّيّ لم يتعلم، فمن الذي علَّمه أسماء الحروف؟ هي، إذن، رمزية على أنه - بإقرار الجميع - أمي ولم يجلس إلى معلم، ولم يقل له أحد شيئاً، ثم نطق بعد ذلك بأسماء الحروف «ألف لام ميم» ولو نظرت إلى المنطوق بالأسماء تجدها أربعة عشر حرفاً تكررت، وهي نصف حروف الهجاء. ومن العجيب أن توصيف حروف الهجاء جاء بعد أن نزل القرآن. وقسمناها نحن إلى حروف مهجورة وحروف مهموسة وحروف رقيقة وحروف رخوة. وقد حدث هذا التقسيم بعد أن نزل القرآن. وبالاستقراء تجد الأربعة عشر حرفاً التي تأتي في فواتح السور تمثل كل أنواع الحروف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5631 من: رقيق، ومفخم، ومجهور، ومهموس، ومستعلٍ، وبدأ الله بها على أشكال مختلفة، فمرة يبدأ بحرف واحد: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] ويقول سبحانه: {ق والقرآن المجيد} [ق: 1] ويقول سبحانه: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] إذن: فثلاث سور ابتدأت بحرف واحد. وهناك سور ابتدأت بحرفين اثنين مثل: {طه} . {يس} . {طس} ، {حم} . وهناك سور بدئت بثلاثة حروف: {الم} مثلما بدأت سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة العنكبوت، وسورة الروم، وسورة السجدة. وهناك سور قد بدئت ب {الر} . وثلاث سور تتفق في الألف واللام. وتختلف في «الميم والراء» و {الر} في أول سورة يونس و {الر} في أول سورة يوسف. و {الر} في أول سورة إبراهيم، و {الر} في أول سورة الحجر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5632 وهناك سورة قد بدئت بأربعة حروف مثل: {المص} في أول سورة الأعراف، وكذلك سورة الرعد بدأت ب {المر} . وهناك سور قد بدأت بخمسة حروف مثل سورة مريم {كهيعص} . وكذلك سورة الشورى بدأت ب {حم عسق} . ومرة يطلق الحرف أو الحرفان في أول السورة ولا تعتبر آية وحدها؛ بل جزءاً من آية، وهناك سورتان تبدآن بأحرف وتعتبر آية مثل {طه} ، و {يس} . أما في سورة النمل فهي تبدأ ب {طس} ولا تعتبر آية وحدها. إذن: فمرة تنطق الحروف وحدها كآية مكتملة، ومرة تكون الحروف بعضاً من آية، ومرة تأتي خمسة حروف مثل {كهيعص} ، وكل هذا يدلك على أن القرآن توقيفي. ولم تأت آياته على نسق واحد؛ لننتبه إلى أن الحق سبحانه أنزل هذه الحروف هكذا، وكذلك نجد كلمة «اسم» في القرآن في {بسم الله} وتكتب من غير ألف، وهي ألف وصل، أي: تنطقها حين تقرأها لكن الحرف يسقط عند الكتابة، ولكنها لا تسقط عندما نكتب الآية الأولى من سورة العلق: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5633 ومثال آخر لو استعرضت في القرآن الكريم كلمة «تبارك» ، ستجد فيها ألفاً بعد الباء، وتأتي مرة من غير ألف، وكلمة «البنات» نجدها مرة بألف ومرة من غير ألف، كل ذلك؛ لنفهم أن المسألة ليس لها رتابة كتابة؛ لأنها لو كانت رتابة كتابة؛ لجاءت على نظام واحد. وقد شاء الحق هذا الأمر؛ لتكون كتابة القرآن معجزة، كما كانت ألفاظه وتراكيبه معجزة. وقد قال البعض: إن العرب المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكونوا أهل إتقان للكتابة، ونقول: لو كانوا على غير دراية بالكتابة لما كتبوا «بسم» من غير ألف في موقعها، لقد علموا أن القرآن يجب أن يكتب كما نزل به جبريل عليه السلام على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كتابة توقيفية، أي: كما أمر الحق سبحانه. وعجيبة أخرى أن كل آيات القرآن مبنية على الوصل، فأنت لا تقرأ ختام السورة بالسكون، بل تلتفت لتجد الكلمة التي في ختام أي سورة مشكلة بغير السكون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5634 والمثال هو: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} وجاء الحرف الأخير بالكسر لا بالسكون؛ لتقرأ موصولة بما بعدها، فتقرأ كالآتي: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} . وهذه الحركة دلت على أن جميع آيات القرآن موصولة ببعضها، وإياك أن تجعل القرآن {عِضِينَ} فلا تأخذ بعضاً من آياته مفصولاً عن غيرها، بل القرآن كله موصولة، فليس في القرآن من وقف واجب، بل الآيات كلها مبنية على الوصل، وإن كانت الكلمة الأخيرة تنتهي بالفتحة فأنت تقرأها منصوبة ومن بعدها {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} فنحن لا نسكِّن الحرف الأخير في أي سورة؛ لأنها موصولة بما بعدها. وحتى في الحكم التجويدي إن وجد إقلاب ننطقه إقلاباً، وإن وجد إظهاء ننطقه إظهاراً؛ لأن آيات القرآن مبنية على الوصل. ولقائل أن يقول: إذا كان القرآن قد بني على الوصل، فكان المفروض أن آيات القرآن التي بدئت بحروف المعجم تنبني على طريق المعجم. فلا نقول (ألف لام ميم) بل نقول «ألم» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5635 ونقول لمثل هذا القائل: لا، إن حروف القرآن التي بدئت بها السور يجب أن ننطقها كما هي، فننطق «ألف» ثم نقف، ونقرأ «ميم» ثم نقف، ونقرأ «لام» ثم نقف، ونقرأ «ميم» ثم نقف؛ لأن هذه الحروف جاءت هكذا، وعلّمها جبريل عليه السلام لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هكذا، حتى لا نقول رتابة كلام، بل إن لذلك حكمة عند الله سواء فهمتها أنت الآن أم لم تفهمها. وقد نزل القرآن على أمة عربية وظل أناس على كفرهم، وكانوا يعاندون رسول الله، ويترصدون لأي هفوة؛ ليدخلوا منها للتشييك في القرآن، ولكن أسمعتم رغم وجود الكافرين الصناديد أن واحداً قال: ما معنى {الم} ؟ لم يقل أحد من الكافرين ذلك، رغم حرصهم على أن يأتوا بمطاعن في القرآن، بل اعترفوا بمطلق بلاغة القرآن الكريم، مما يدل على أنهم فهموا شيئاً من {الم} بملكتهم العربية، ولو لم يفهموا منها شيئاً؛ لطعنوا في القرآن. لكنهم لم يفعلوا. وأيضاً صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم أهل حرص على الفهم، هل سمعت أن أحداً سأل رسول الله عن معنى {الم} ؟ لم يحدث، مما يدل على أنهم انفعلوا لقائلها بسرِّ الله فيها، لا بفهم عقولهم لها؛ لأن الوارد من عند الله لا يوجد له معارض من النفس، وإن لم العقل فهو يرفضه مع استراحة النفس له. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5636 وضربنا من قبل مثلاً، فقلنا: إن آل فرعون حين استحيوا نساء بني إسرائيل وذبحوا الذكور، فماذا فعلت أم موسى؟ لقد أوحى لها الله ما جاء خبره في القرآن: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم ... } [القصص: 7] هاتِ أيَّ أمٍّ وقُلْ لها: حين تخافين على وليدك فارميه في البحر، طبعاً لن تنفذ أي أم هذا الاقتراح. كان من الممكن أن تحاول أم موسى إخفاء موسى بأي وسيلة. أما أن تلقيه في البحر مظنّة أن تنجيه من الذبح، فهذا أمر غير متخيَّل، ولكن هذا أمر وارد من الرحمن بالإلهام والوحي، فلا يأتي الشيطان؛ ليعارضه أبداً؛ ولذلك طمأنها الحق سبحانه؛ لأن الآيات وردت: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم ... } [القصص: 7] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5637 وكأن هناك تمهيداً يعلِّمها الاستعداد للأمر قبل أن يقع، وحين جاء الأمر: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم ... } [طه: 38 - 39] والكلام هنا كلام عَجَلَة؛ لأن هذا وقت التنفيذ، وطمأنها سبحانه بأن أصدر أوامره للبحر أن يقذفه إلى الشاطئ: {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل ... } [طه: 39] وأصدر الحق أوامرع إلى العدوِّ أن يأخذه؛ ليربيه: {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ... } [طه: 39] إذن: وارد الرحمن لا يأتي له رد أبداً. وكذلك يستقبل المؤمن {الم} بسر الله فيها، لا بفهم عقله. وأنا أنصح من يريد أن يقرأ القرآن تعبداً ألا يشغل نفسه بالمعنى، على خلاف من يقول: «اقرأ لتستنبط» ؛ لأن من يريد أن يستنبط هو الذي يقف عند اللفظ، ويطلب معناه. فإذا قرأت القرآن للتعبد؛ فلتقرأه بسر الله فيه؛ حتى لا تحدد القرآن بمعلوماتك؛ فتأخذه أخذاً ناقصاً بنقصك البشرى؛ لذلك في قراءة التعبد نأخذ اللفظ بسر الله في اللفظ؛ فليس كل قارئ للقرآن متخصصاً في اللغة؛ ليعرف أصل كل كلمة، والكثير منا أمي، يريد التعبد بالقرآن، إذن - فليأخذ القرآن بسر من لقنه إياها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5638 وقد فهم العربي القديم عن الحروف التوقيفية في أوائل بعض السور أشياء، وللغته فيها نظائر؛ لأنه مثلاً حين يقرأ الشعر، ويلتفت إلى شاعر يقول: ألا هُبِّي بِصحْنكِ فَاصبِحينا ... ويقول: ألا لايَجْهَلنْ أحدٌ عليْنا ... فَنجهَل فوْقَ جَهل الجَاهِلينَا ما معنى ألا هنا، ولماذا جاءت؟ فالمعنى واضح بدونها، لكن العربي القديم قد نطق هذا البيت، وعرف أن الكلام وسيلة إفهام وفهم بين المتكلم والسامع. والمتكلم هو مالك الزمام في أن يتكلم، أو لا يتكلم، والسامع مفاجأ بالكلام، فإذا ما ألقيت الكلام إلى السامع؛ قد يكون في ذهنه مشغولاً، وإلى أن ينتبه لكلماتك، قد تفوته جزئية من جزئيات الكلام؛ فتنبه أنت إلى ما قلت؛ فيتنبه؛ ليستوعب كل ما قلت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5639 إذن: فما المانع أن يكون الحق سبحانه وتعالى يريد أن يهيئ الأذهان ب {الم} ؛ حتى نسمع، ثم تأتي الآيات الحاملة للمنهج من بعد ذلك؟ وما المانع في أن نفهم أن النبي الأمي لا يعرف كيف ينطق بأسماء الحروف، فهو إن نطق فإنما يصدر ذلك بعد تعليم الله له؟ ولماذا لا نفهم منها أيضاً أن وسائل الفهم لا تنتهي إلى أن تقوم الساعة؟ وإلا لو انتهت عند البشر؛ لكان كلام الله قد حددت صفته بفهم البشر، وسبحانه قد شاء أن نغترف من معاني كلماته الكثير على مدى الأزمان، والقرآن كلام الله، وكلام الله صفته، وصفته لا تتناهى في الكمال، فإن عرفت كل مدلولاتها، تكون قد حددت الكمال بعلم، لكن القرآن لا نهاية له. ولماذا لا نفهم أن القرآن الذي بيّن الحق سبحانه وتعالى أنه معجزو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو من جنس ما نبغ فيه قومه؛ فتحداهم من جنس ما برعوا فيه. ويقول لهم: هاتوا مثيلاً له، ولن تستطيعوا، ولو أنه جاء بالقرآن على غير لغتهم في الكلام لقالوا: لا نستطيع؛ لأن حروف هذه اللغة جديدة علينا. وقد شاء الحق أن يكون القرآن من نفس الحروف التي يتحدثون بها، وبالكلمات التي يعرفونها في لغتهم، وشاء سبحانه أن يجعل حروف وكلمات وآيات وأساليب القرآن غير قابلة للتقليد؛ لأن المتكلم مختلف، وبهذا جاءت عظمة القرآن لا من ناحية المادة الخام التي تبني منها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5640 الكلمات وهي الحروف؛ بل المعاني والنسق الذي جاءت به الحروف، فالمادة الخام - وهي الحروف - واحدة. وصار القرآن معجزة؛ لأن المتكلم هو الله. وضربنا من قبل المثل لنقرب ذلك إلى الأذهان: هب أننا نريد أن نقيس مهارة من ينسجون الأقمشة، ونضع أمام كل منهم مجموعة من غزل الصوف وغزل القطن، وغزل الحرير، وهذه مواد خام يختلف كل منها عن الآخر، ونقول لهم: كل واحد منكم عليه أن ينسج قطعة من كل صنف لنعرف الأفضل في النسج. وسنسمع من يقول: إن نتيجة نسج الصوف نسيج خشن، وناسج القطن سينسج قطعة تأخذ صفات القطن، وناسج الحرير سينسج لنا نسيجاً ناعماً، أما إن أعطينا كلاّ منهم نوعاً واحداً من الغزل؛ صوفاً أو قطناً أو حريراً، هنا سنعرف من الأقدر على النسج. إذن: لو أن القرآن جاء بغير حروف العرب، وبغير كلمات العرب؛ لقالوا: لو كانت عندنا هذه الحروف وهذه الكلمات؛ لأتينا بأحسن منها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5641 لذلك شاء الحق أن يأتي القرآن من جنس الحروف والكلمات. ولذلك تحوم العقول حول مقدمات آيات السور؛ لتعرف شيئاً من الإيناسات بعد أن تواصلت الثقافات، ولم تعد اللغة العربية متوافرة مثلما كان الحال أيام نزول القرآن، ومن كانوا يملكون هذه الملكة الصافية أيام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سمعوا الحروف التي في أوائل بعض السور وقبلوها، والحق سبحانه يقول: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [يونس: 1] و {تِلْكَ} : إشارة، ولا بد أن نفرق بين الإشارة والخطاب؛ لأن البعض يخلط بينهما، فالإشارة هي التي تشير إلى شيء مثل قولنا: هذا وذا، أو تلك، وهذا: إشارة لمذكر، والمثال هو قولنا: هذا القلم جميل، أما قولنا: تلك الدواة جميلة، فهذه إشارة لمذكر، والمثال هو قولنا: هذا القلم جميل، أما قولنا: تلك الدواة جميلة، فهذه إشارة لمؤنثة. أما «الكاف» : فهي حرف للخطاب، فالتاء: إشارة للآيات وهي مؤنثة، و «الكاف» في {تِلْكَ} : للمخاطب، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فالله يقول لرسوله: تلك الآيات يا محمد. وعلى ضوء الفوارق بين الإشارة والخطاب تختلف أساليب القرآن، مثل قوله الحق: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ ... } [القصص: 32] و {فَذَانِكَ} : إشارة لشيئين اثنين: للعصا. و {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ... } [النمل: 12] ويقول الحق أيضاً: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي ... } [يوسف: 37] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5642 وهذا ما قاله سيدنا يوسف عليه السلام للسجينين اللذين كانا معه. وتُظهر لنا العبارة أنه كان يخاطب اثنين، ولكنه يشير إلى التأويل ب «ذا» . وحين دعت امرأة العزيز النسوة؛ ليشاهدن جمال سيدنا يوسف، وأعطت كل واحدة منهن سكيناً؛ وقالت: اخرج عليهن، ولأنه مفرد مذكر، وهن جماعة إناث، فالعبارة تأتي بخطاب لجماعة الإناث، وإشارة إلى المفرد المذكر فقالت: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي ... } [يوسف: 32] و «ذا» إشارة إلى سيدنا يوسف، و «كن» خطاب للنسوة. والقرآن حين يخاطب جماعة يقول: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ ... } [فصلت: 23] إذن فهناك فرق بين الإشارة والآيات، فال «ت» إشارة للآيات، والآيات مؤنثة، والمخاطب الأول بالتكليف هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والآيات - كما عرفنا من قبل - جمع آية، والآية هي الأمر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5643 العجيب، وكل منا يسمع من يقول: إنها آية في الحسن أو آية في الجمال، أو آية في الفن، أو آية في الروعة. فالآية إذن هي الشيء العجيب، أو الشيء الذي بلغ من الحسن ومن الجمال درجة هائلة. وتطلق الآيات إطلاقات متعددة: فهي إما أن تكون المعجزات التي أمدَّ الله بها رسله؛ ليثبت صدقهم. {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132] وإما أن تطلق الآيات على الأشياء العجيبة في الكون مثل قوله الحق: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار ... } [يس: 37] وقوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ ... } [الإسراء: 12] وقوله الحق: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ... } [المؤمنون: 50] إذن: فالآية إما أن تكون شيئاً في الكون، وإما أن تطلق على المعجزة التي جاء بها الرسل؛ لتثبت صدقهم في البلاغ عن الله، وقد يكون المقصود بها آيات القرآن. إذن: فالآيات تطلق على ثلاثة أمور: الآيات الكونية للنظر والاعتبار، وآيات إعجازية لصدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البلاغ عن الله، وآيات قرآنية تحمل الأحكام والتحدي للمشركين أن يأتوا بمثلها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5644 وهنا في قوله الحق: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} المراد بها: الآيات القرآنية، وما دام الله هو خالق الآيات الكونية الحسية، وخالق المعجزات؛ وهو منزَِّل القرآن؛ فلا تعارض بين الآيات؛ لأن مصدرها واحد. وقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [يونس: 1] وكلمة {الحكيم} معناها: الذي يضع الشيء في موضعه الدقيق بحكمة، فلا ينظر إلى ظاهر معطيات الشيء الآن ويغفل ما قد يأتي به من مضرّة. ولله المثل الأعلى أقول: إنك قد تصل إلى الشيء، وتظن أنه يخلصك من متاعب أخرى، لكنه قد يؤدي إلى شيء أضر، وهذا هو السبب في اختلاف ألوان ووظائف العقاقير المختلفة، ولذلك نجد الطبيب الحاذق يكتب عدداً من الأدوية؛ ليستخلص المريض منها ما يشفيه، ويحاول بقدر الإمكان أن يُجنبه الآثار الجانبية لتلك الأدوية. إذن: فهذه حكمة؛ لأن الطبيب لا يكتب الدواء الواحد الذي قد يأتي منه أثر ضار، بل يكتب معه دواء يخفّف من ضرره، وهذه حكمة منه لأنه يعمل احتياطات لما قد ينشأ من ضرر أو أثر جانبي. وفي أوائل الخمسينات، حاول العلماء أن يقللوا من أثر تهديد الحشرات للزروع، واخترعوا مادة اسمها «د. د. ت» لمقاومة الحشرات، وافتخروا بهذا كل الفخر حتى علا كل صوت، وهذا لأن البشرية وصلت إلى مادة تقضي على الحشرات، ولكنهم اكتشفوا أن هذه المادة تضر الكائنات الحية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5645 الأخرى، والآن تُوقع العقوبة على من يستخدم تلك المادة؛ لأن ذلك عمل قد تم بغير حكمة. قد نأخذ منه ظاهر النفع، لكن له جوانب متعددة من الضرر، فقد سمّم الحيوانات وسمّم الزروع. إذن: فالحكمة تعني: أن تضع الشيء في موضعه؛ ليعطيك فائدة لا تحدث ضرراً فيما بعد. وقد أنزل الله المنهج في الكتاب ليقود حياتنا إلى كل صلاح. فإن طبقناه؛ فلسوف يأتي منه كل نفع، ولن يأتي لنا أي ضرر، وضربنا المثل في المعطيات التي أعطاها الحق لنا في الكون، فسبحانه خلق لنا الحيوانات؛ لنأخذ من لبنها، ونأخذ من أصوافها، ونأخذ من أصوافها، ونأخذ من جلودها، ونأكل من لحومها. وهو القائل: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس ... } [النحل: 7] أي: أنها ستعطينا درجة من الراحة، وإذا كان الإنسان قد اخترع أدوات أخرى تحمل عنا هذه المشقات، وتبلغنا غاياتنا بدون تعب؛ فهذه اختراعات تحقق مصلحة البشرية - وقد كانت البشرية تحمل أمتعتها فوق الحمار أو البغل - وقد صنع الإنسان هذه الاختراعات؛ فصارت عندنا السيارات الكبيرة التي تحمل أطناناً من المواد والمتاع، ولكن لم نلتفت إلى ما تحدثه من عوادم تسبب فساد الهواء، وتلوثه على عكس فضلات الحمار أو البغل، التي تفيد في خصوبة الأرض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5646 إذن: فصناعة السيارات إن لم تتخلص من عيوب عوادمها بأسلوب ما، فهي اختراع بلا حكمة، ويجب البحث عن وسائل لإزالة أضرار احتراق الوقود، وبذلك نستفيد من سرعة السيارات، وقدرتها على حمل البضائع، ونتخلص مما تسببه من ضرر. وهكذا نعرف أن الحكمة هي: وضع الشيء في موضعه المفيد فائدة دائمة لا يأتي من بعدها ضرر. ولقائل أن يقول: وما معنى قول الحق: {الكتاب الحكيم} هل الكتاب بمفرده له حكمة؟ أم أن الحكيم هو من أنزل الكتاب؟ ونقول: إن معنى {الكتاب الحكيم} أنه الكتاب الذي يمتلئ بالحكمة الصادرة من الله، أو الكتاب الذي أنزله الرب الحكيم. وكلمة «حكيم» على وزن «فعيل» ، ومثلها مثل «كريم» و «رحيم» وتأتي مرة بصيغة فاعل، ومرة بصيغة فعيل، وموضعها هو الذي يبين لنا ذلك. ومعنى كلمة «الحكيم» يتضح لنا من سياقها: فإن نسبت الأمر إلى الحكم فهو كتاب صادر من الحق سبحانه، وإن أردت الوصف بمعنى فاعل فهو من حاكم؛ والحاكم هو الذي يحكم في قضايا؛ ليبين وجه الحق فيها، والقرآن يحكم في كل قضايا الإيمان. وقمة العقيدة التي يحكم فيها القرآن هي لا إله إلا الله. ومن يفعل عكس ذلك هو الظالم، وسبحانه القائل: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] والقرآن يحسم هذه القضايا، وهو كحاكم فاصل فيها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5647 فإن قلت: «محكم» تكون قد نسبته لله، وإن قلت: «حاكم» فهو الفاعل وهو يحكم في قمة العقيدة «لا إله إلا الله» ، وهي شهادة ذات لذات، وشهادة مشهد من الملائكة، وشهادة أدلة من الخلق: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم ... } [آل عمران: 18] وساعة يفصل القرآن في هذه القضية، فهو يحكم حكماً عدلاً يبين وجه الحق في قمة العقائد. وهو حاكم في الأفعال؛ فيبين الحلال من الحرام ويضع حدّاً فاصلاً في الأحكام بين الحلال والحرام. وحاكم في الأخلاق. إذن: «حاكم» تعني ما بين وجه الحق فيما تتعارض فيه الآراء والأفكار والمعسكرات المتضاربة. و «حكيم» : إما أن تكون بمعنى «فاعل» وإما أن تكون بمعنى (مفعول) ووقعت الحكمة من قائله عليه، فصار «محكماً» ، وإن كانت كلمة الحكيم بمعنى فاعل تكون بمعنى «حاكم» وكلمة حاكم تدل على أن هناك فريقين: فريق يقول قضية، وفريق آخر يناقضه، فيأتي الحاكم؛ ليفصل بين الأمرين، وليعدل وينصف. وقد جاء القرآن هكذا: حاكماً في أمر القمة التي اختلف الخلق فيها؛ فمنهم من أنكر وجود إله وهم الملاحدة. ومنهم من قال: إن الإله هو غير الله، ومنهم من قال: الإله شريك لغيره، فجاء القرآن؛ ليفصل في هذه المسألة، وحكم فيها حكماً واضحاً، وبيِّن: يا من تقولون: لا إله؛ أنتم كذابون، ويا من تقولون: إن الإله غير الله؛ أنتم كذابون، ويا من تقولون: إن الإله غير الله؛ أنتم كذابون، وبا من تقولون: إن الإله له شركاء مع الله؛ أنتم كذابون، بل هو إله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5648 واحد، وهذا أول حكم في قضية القمة. وما دام الحكم في قضية القمة قد صح؛ إذن: فالاستقبال للمنهج سيكون واحداً، فلا آلهة متعددة يضارب هذا ذاك، أو يناقضه، بل هو إله واحد، يصدر عنه حكم واحد يحقق الوحدة في التكاليف للناس جميعاً، ويُخرج جميع الناس من أهوائهم إلى مراده هو سبحانه، ويكون القرآن حاكماً أيضاً في الأفعال، فقد يختلف الناس في تقييمهم لفعل واحد. فهذا يقول فعل حسن، وآخر يقول: فعل قبيح، ويحسم القرآن الأمر ويحدد الفعل الحسن؛ فيأمر به؛ ويحدد الفعل القبيح؛ فينهي عنه، ويبين القرآن لنا الحلال من الحرام. إذن: فالقرآن حكم في العقائد وفي الأفعال وفي ذوات الأشياء حلاّ وحُرْمة، وهو يحكم أيضاً في قضية هامة تلي قضية الحكم في قمة العقيدة، وهي صدق البلاغ عن الله، فهذا الرسول الذي يحمل البلاغ عن الله لا بد أن يكون صادقاً، وقد جاء القرآن بالحكم في هذه القضية بمعنى أنه قد جاء معجزاً، فإن لم تكونوا قد صدقتم بأن هذا رسول؛ فأتوا بمثل ما جاء به هذا الرسول. فإن عجزتم؛ فالرسول بنفسه يخبركم أن القرآن ليس من عنده، بل من عند خالقه وخالقكم. وسواء أكانت «حكيم» بمعنى «فاعل» أم بمعنى «مفعول» فقد دلتنا على أنها تعني وضع الأشياء في نصابها وضعاً يحقق النفع منها دائماً، ولا ينتج عنها ضاراً أبداً. ثم يقول الحق بعد ذلك: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5649 {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5650 ما هو العجيب - إذن - في أن الله أوحى إلى رجل منكم أن يبلغكم إنذار الله وبشارته؟ ما الذي تعجبتم منه؟ وما موضع العجب فيه؟ وجاء تحديد العجب فيه ما ذكرته الحيثية في آخر السورة السابقة من أنه: {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ... } [التوبة: 128] أي: من البشر، ومن العرب، ومن قبائلكم، ومن أنفسكم ممن تعرفون كل خُلُقه، فما العجيب في أن يرسله الله رسولاً إليكم؟ إنكم قد ائتمنتموه على أموركم من قبل أن ينزل عليه الوحي من الله، فكأنكم احترمتم طبعه الكريم، وأنكم في كثير من الأشياء قبلتم منه ما يصل إليه من أحكام. ودليل هذا أنكم حين اختلفتم في بناء الكعبة، وقالت كل قبيلة: نحن أولى بأن نضع بأيدينا أقدس شيء في الكعبة، وهو الحجر، حين ذلك اختلفت القبائل؛ فما كان إلا أن حَكَّموا أول داخل؛ فشاء الله أن يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5650 أول داخل هو محمد بن عبد الله، فكيف يحل محمد بن عبد الله هذه المشكلة، ولم يكن قد نزل عليه وحي بعد؟ إنها الفطرة التي جعلته أهلاً لاستقبال وحي الله فيما بعد، فماذا صنع؛ لينهي هذا الخلاف؟ جاء برداء، ووضع الحجر على الرداء، ثم قال لكل قبيلة: أمسكوا بطرف من الرداء، واحملوا الحجر إلى مكانه. وتلك هي الفطرة السليمة. ورأينا أيضاً سيدنا أبا بكر عندما قالوا له وهو راجع من الرحلة التي كان يقوم بها: لقد ادعى صاحبك النبوة، قال: «إن كان قد قالها فقد صدق» . من أي أحداث جاء حكم أبي بكر. أهو سمع من رسول الله كلاماً معجزاً؟ أسمع منه قرآناً؟ لا، بل صدٌّقه بمجرد أن أعلن أنه رسول. فقد جربه في كل شيء ووجده صادقاً، وجربه في كل شيء ووجد أنه أمين، فما كان محمد لِيصْدُقَ فيما بين البشر، ليكذب على الله. وكذلك خديجة بنت خويلد حينما قال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يأتيني كذا وأخاف أن يكون كذا، فبينت له أن المقدمات التي في حياته لا توحي بأن الله يخذله ويفضحه ويسلط عليه الجن: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5651 الكَلَّ وتنصف المظلوم، ولن يخزيك الله أبداً» وبذلك كانت السيدة خديجة أول فقيه مستنبط في الإسلام. وقوله سبحانه: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} يعني: التعجب من أن يصدر منهم العجب، والقرآن يتعجب كيف يصدر منهم هذا العجب؟ وما دام يتعجب كيف يصدر منهم هذا العجب؟ فمن المنطقي ألا يكونوا قد تعجبوا؛ لأنك حين تتعجب من شيء فإما أن تتعجب منه؛ لأنه بلغ من الحسن مبلغاً فوق مستوى ما تعرف من البشر، مثلما ترى صنعة جميلة وتقول: ما أحسن هذه الصنعة، ونتساءل: ما الذي جعل هذه الصنعة جميلة إلى هذا الحد غير المتصور؟ وأنت تقول ذلك؛ لأن الصنعة قد بلغت من الجمال مبلغاص لا تصدق به أن أحداً من الموجودين في إمكانه أن يصنعها. والمثال على ذلك: نجد من يقول: ما أحسن السماء؛ وهو يتعجب من الشيء الذي يفوق تصوره. وقد يتعجب من شيء قبيح، ما كان يجب أن يرد على الخاطر، ولذلك يقول القرآن: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله ... } [البقرة: 28] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5652 أي: قولوا لنا: كيف قبلتم لأنفسكم الكفر؟ لأن الكفر مسألة عجيبة تتنافى مع الفطرة. وهنا يقول الحق: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ ... } [يونس: 2] وهنا نتساءل: كيف تتعجبون وقد جئناكم برسول من أنفسكم، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] أليس هذا هو المطلوب في الرائد، فكيف تعجبون؟ . إن عجبكم يدل على أن بصيرتكم غير قادرة على الحكم على الأشياء، وما كان يصح أن يُستقبل الرسول بالعجب، ونحن نتعجب من عجبكم هذا. وحين تتعجب من العجب؛ فأنت تبطل التعجب. {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ ... } [يونس: 2] أي: أن إيحاءنا لرجل منكم كان عجيباً عندكم، وما كان يصح أن يكون أمراً عجيباً؛ لأنه أمر منطقي وطبيعي. ثم ما هو الوحي؟ لقد سبق أن أوضحنا أن الوحي هو الإعلام بخفاء. وهناك إعلام واضح مثل قولك لابنك: يا بني اسمع كذا، وافعل كذا. هذا إعلام واضح. وهناك إعلام بخفاء، كأن يدخل عندك ضيف؛ ثم يسهو خادمك - مثلاً - عن تحيته، فتشير للخادم إشارة؛ تعني بها أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5653 يُسرع بتقديم التحية للضيف؛ من مرطبات، أو حلوى، وهكذا تكون قد أعلمت خادمك بخفاء. والحق سبحانه وتعالى يوحي إلى الجماد، فسبحانه يقول: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 1 - 5] أي: أنه سبحانه وتعالى قد أعلمها إعلاماً خفيّاً؛ وهي قد فهمت بطريقة لا نعرفها. وسبحانه يوحي للحيوانات، فهو القائل: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل ... } [النحل: 68] أي: أنها فهمت عن الله بما أودع فيها من الغرائز. وسبحانه يوحي للملائكة وهو القائل: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة ... } [الأنفال: 12] ويوحي الحق سبحانه إلى غير الرسل؛ كما أوحى إلى أم موسى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5654 {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم ... } [القصص: 7] وأوحى سبحانه إلى الرسل جميعاً. إذن: فسبحانه يوحي للجماد، ويوحي للحيوان، ويوحي للملائكة ويوحي للصالحين من غير الأنبياء، ويوحي للأنبياء وللرسل. والوحي - كإعلام بخفاء - يقتضي مُعْلِماً، وهو الحق سبحانه وتعالى، ومُعْلَماً؛ وهو إما: الأرض، وإما النحل، وإما الملائكة، وإما إلى بعض الصالحين من غير الأنبياء، وإما إلى الرسل والأنبياء. وقد يأتي الوحي من غير الله، فسحبحانه يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً ... } [الأنعام: 112] إذن: فالشياطين يُعلمون بعضهم البعض إعلاماً خفياً. ويقول الحق: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ... } [النساء: 163] والموحى إليه هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو وحي خاص بالرسول، فلا تقل: أنا لم أسمع ماذا أوحى إلى محمد، ولا أعرف كيف نزل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5655 الوحي، فقد جاء جبريل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبلغه أن يعلن ما أوحي إليه، ولو كنت أنت قادراً على سماع الوحي من جبريل، فما ضرورة إرسال الرسول إذن؟ إن الطاقة والقدرة العالية المرسلة إلى الموحى إليه تحتاج إلى قوة تحمل، وضربنا المثل من قبل بأن الإنسان حين ينقل طاقة من مصدر عال قوى إلى مصدر ضعيف فهو لا يُسرب الطاقة من القويّ إلى الضعيف دفعةً واحدة، وإلا لما تحمَّل الضعيف تلك الطاقة من القادمة إليه من القوى، ولذلك نحن نأتي بمحوِّل يتحمل طاقة قوى، ثم ينقل للضعيف ما يناسب قدرته، ومثال ذلك هو شراؤنا لمحول كهربي حين ننقل الكهرباء من مصدر طاقة عالي الجهد إلى مصدر آخر ضعيف قليل الجهد؛ مثل المصباح الصغير الذي تضيئه في المنزل ليلاً لينير بالقدر المناسب كيلا نرتطم بالأشياء، وهو ما نسميه بالعامية «ونّاسة» . إذن: فمهمة المحول أن يستقبل من مصدر الطاقة القوي؛ ليضيء لمصدر الطاقة الضعيف. فإذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي يوحي للرسول، والرسول من البشر لا يمكنه التلقي المباشر عن الله؛ لذلك لا بد من واسطة تبلغ في الارتقاء بما يمسح لها بالتلقي عن الله، وتستطيع أن تلتقي بالبشر؛ وهذه خاصية المَلَك. ورغم أن أصاب الجهد والتعب سيدنا رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول تلقيه للوحي، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرف حتى يتفصد العرق من جبينه، وإذا انصرف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5656 عنه الوحي قال: «زمّلوني. . زملوني» ويرتعد. وكان الصحابة يقولون: كان إذا نزل الوحي على رسول على رسول الله، وهو قاعد؛ وقد تكون ركبته على فخذ أحد الصحابة، فيجد الصحابي ثقلاً على رجله من شدة وطأة ركبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإذا نزل الوحي، والرسول يركب مطيه فهي تئط منه. إذن: كان الوحي يُتعب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبعد أن يُسرِّي عنه التعب؛ تبقى له حلاوة ما أوحي إليه؛ فيتشوّق ثانية للوحي. وقد شاء الحق أن يشوّق النبي صلى الله عليه وسلك، للوحي ففتر الوحي لمدة من الزمن. وحين اشتاق النبي للوحي؛ كان ذلك يعني أنه قد شحن نفسه بطاقة متقبلة لاستقبال هذا الوحي؛ بما فيه من تعب. ولله المثل الأعلى دائماً، قسْ أنت الجهد المبذول في رحلة إلى من تحب، أثناء المطر، والأرض موحلة ومليئة بالشوك، ورغم ذلك أنت تقطع الرحلة دون أن تلتفت لما فيها من إرهاق وتعب. وشاء سبحانه أن يرغِّب رسوله شوقاً إلى الوحي، رغم ما فيه من جهد؛ لأن التقاء مَلَك ببشر، وهذا اللقاء يكون على صورتين: إما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5657 أن ينقلب الملَك إلى مرتبة بشرية؛ وهذه الصورة ليس فيها إجهاد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن عملية التحويل جاءت في الأعلى بينما يظل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما هو، «مثلاً دخل جبريل على رسول الله، وكان معه بعض من الصحابة، وسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما الإيمان؟ وما الإسلام؟ وما الإحسان؟ ثم اختفى السائل، فسأل الصحابة رسول الله عن هذا السائل؛ فقال:» هذا جبريل جاءكم يُعلِّمكم أمور دينكم. « هذه هي الصورة الأولى في الوحي، والتحول فيها كان من جهة الإرسال فلا مشقة فيها على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. أما الصورة الثانية، فقد كان فيها مشقة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الملك يظل على طبيعته، والتحول إنما يحدث لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان التحول يقتضي عملية كيمياوية تصيبه بالجهد؛ فيقول بعد أن يُسرى عنه:» زمّلوني. « وشاء الحق أن يتلطف برسوله، ففتر الوحي فترة من الزمن. وقال الكافرون من العرب: إن رب محمد قد قلاه وهذا غباء منهم؛ لأنهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5658 اعترفوا أن لمحمد ربّا. وما داموا قد اعترفوا، فعدم إيمانهم صلف وغباء، وارادوا بذلك أن ينسبوا النقص لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالوا: إن الله قد قلى محمداً. وقد شاء الحق أن ينقطع الوحي عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه المدة؛ ليكشفهم أمام أنفسهم وأمام غيرهم، لتنكشف نواياهم، وتثبت قلّة بصيرتهم، وافتقادهم للمنطق السليم، فهم حين اعترفوا أن لمحمد ربَّا، كان عليهم أن يحتكموا إلى عقولهم؛ ليعرفوا أنهم قد أقروا بالألوهية، لكنهم أرادوا بهذا الاعتراف أن ينسبوا النقص لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولو قاضيناهم إلى عقولهم، وإلى الكون الذي عاشوا فيه، وإلى الظواهر المادية المحسوسة لهم، لعرفوا أن الأحداث لا بد لها من زمان ومكان؛ لأن كل حديث يتطلب زماناً ومكاناً، وإذا لم يوجد حدث؛ لا يوجد زمان أو مكان. ولذلك أقول دائماً لمن يسأل: أين كان الله؟ أقول له: أنت جئت بالأينية من الزمان، والمكانية من المكان، وهذا لا يتأتى إلا بوجود حدث. وما دام الله غير حدث، فلا زمان يحدده، ولا مكان يُجيّزه؛ لأن الزمان كان به، والمكان كان فيه. والأحداث هي عند البشر، فهم من يستقون في المكان، ويتوالى عليهم الزمان. والزمان الذي يحدث فيه أي حدث اسمه» ظرف زمان «، والمكان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5659 الذي يحدث فيه الحدث اسمه» ظرف مكان «؛ وظرف المكان ظرف قارّ ثابت، بينما ظرف الزمان غير قارٍ، بل هو حال، وبعد قليل يصبح الحال زمناً ماضياً؛ ويأتي المستقبل ليكون حاضراً، ثم يصبح ماضياً. وهكذا نعلم أن زمناً يحدث فيه التناوب بين المستقبل والحال والماضي، والليل والنهار هما أوضح صور ظرف الزمان وفيهما اختلاف، فالليل يأتي والنهار خلفه؛ لأن النهار جعله الله ضياء؛ للحركة والكدح والعمل، وجعل سبحانه الليل ظلاماً؛ للسكون والراحة، فإن لم ترتحْ بالليل؛ لا تقوى علة العمل في الصباح، وهكذا يكون الليل مكملاً للنهار لا مناقضاً له. وكذلك شاء الحق أن يكون الوحي بهذا الشكل، فحين جاء الوحي لأول مرة أجهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم فتر الوحي ليستريح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وتتجدد قدرته على استقبال الوحي من بعد ذلك. وحين قال الكافرون: إن ربَّ محمد قد قلاه، ردّ عليهم الحق سبحانه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5660 وتعالى: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} والضحى ضحوة النهار وهي - كما قلنا - للعمل والحركة، فإذا جاء الليل فهو يبدو وكأنه ضد النهار، لكنه غير ذلك، بل هو مكمل له ويساعده. إذن: ففتور الوحي لمدة من الزمن كان لمساعدة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتجديد الحيوية. وقد أقسم الحق سبحانه بالضحى والليل، وهو قسم بالظاهرة الكونية المشاهدة والتي يعترف بها كل إنسان، مؤمنهم، وكافرهم! أقسم الحق بالضحى أنه ما قلى رسوله، بل شاء بفتور الوحي أن يعطيه طاقة تزيد من حركته، وتزيد من جهده ليشتاق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأمر الوحي. وبذلك أعانه الحق على مهمته، وفي هذا أبلغ ردٍّ على من قالوا: إن رب محمد قد قلاه، وإثبات أن الحق قد شاء لفترة فتور الوحي أن تكون كالليل سكوناً، ليهدأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد الضحى المجهد الذي استقبل به الوحي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5661 وبعد أن تتجدد حيويته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأتي الوحي من جديد؛ لذلك قال الحق: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 4 - 5] وبعد هذه السورة يقول الحق سبحانه في سورة الشرح: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الشرح: 1 - 4] وهكذا بيَّن لنا الحق أن مسألة فتور الوحي وعودته هي عملية متكاملة، لكن الأغبياء فقط هم من يظنون أنها نتناقضة ويقولون: (ظلمة - وضوء) ، و (ليلٌ - ونهارٌ) والحق أنها متكاملة. ومثل هذا الأمر تجده أيضاً فيمن يحاولون خَلْق عداوة بين الرجل والمرأة، ولم يتفهَّموا أن الذكر متمّم للأنثى، وأن الأنثى متمّمة للذكر. وهنا يقول الحق {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا ... } [يونس: 2] والإنذار - كما نعلم - هو الإخبار بشيء يمكن أن تتلافاه. أما البشارة فهي الإخبار بخير يحثُّك من يبشرك على أن تقتنيه. وأنت تنذر من يهمل في دراسته بأنه قد يرسب، وأنت حين تنذره إنما تطالبه بأن يجتهد، وفي المقابل فأنت تبشر المجتهد بالنجاح وبالمستقبل الطيب. إذن: فالإنذار يعني أن تحث الإنسان على ألا يقبل أو يُقْدِمَ على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5662 ما يضره. والتبشير يعني أن تحث الإنسان على أن يجتهد؛ لينال ما يحبه. والأمور في الأحداث كلها تدور بين سَلْب وإيجاب. ولسائل أن يقول: ولماذا جاء سبحانه بالإنذار قبل البشارة؟ فنقول: إن كلمة «الإنذار» كلمة عامة لكل الناس، حتى يتجنبوا ما يقودهم إلى النار، لكن البشارة تكون لمن آمن فقط. أو أن الإنذار والبشارة للمؤمنين، ولكن شاء الحق أن يجعل المؤمنين في صف البشارة دائماً، وأن يكون الإنذار لوناً من ضرورة التخلية من العيوب، قبل التحلية بالكمال. فأنت تدفع عن نفسك الأمر الذي يأتي بالضُرّ أولاً، ثم تتجه إلى ما يجلب النفع من بعد ذلك؛ لأن دَرْء المفسدة مُقدّم على جلب المصلحة. ونجد الحق سبحانه يحدد الإنذار بأنه للناس، والناس: هم الجنس المنحدر من آدم إلى أن تقوم الساعة. وقد وقف بعض المستشرقين عند كلمة «الناس» ، وأرادوا أن يدخلونا من خلالها إلى متاهات التشكيك في القرآن، وقالوا: إن القرآن فيه تكرار لا لزوم له. وأهم سورة أخذها هؤلاء المستشرقون هي سورة «الناس» حيث يقول الحق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس مَلِكِ الناس إله الناس مِن شَرِّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5663 الوسواس الخناس الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس مِنَ الجنة والناس} [الناس: 1 - 6] وهذا الجمع من المستشرقين فهموا أن المعنى لكلمة «الناس» في كل آية من آيات هذه السورة هو معنى واحد. ولنهم لم يتمتعوا بملكة اللغة؛ لم يلتفتوا إلى أن معنى كلمة «الناس» في كل موقع هو معنى مختلف وضروري؛ لأن الحق سبحانه أراد بكل كلمة في القرآن أن تكون جائبة لمعناها، وأن يكون كل معنى جاذباً للكلمة المناسبة له. والمثال أيضاً في كلمة «الناس» ؛ هو قول الحق سبحانه: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ ... } [النساء: 54] فهل كل الناس تتلقى الحسد؟ لو كان الأمر كذلك فمن الحاسد؟ إذن: فقوله الحق: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس ... } [النساء: 54] إنما يعني أن هناك أناساً حاسدين، وآخرين محسودين، ولا تكون كلمة «الناس» عامة شاملة لكل الأفراد إلا في حالة الحكم العام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5664 والمثال هو قوله الحق: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ... } [آل عمران: 96] وهذا القول الحق يحل لنا إشكالاً عاماً، فالبيت الحرام موضوع لكل الناس، من لَدُن آدم، وآدم أبو الناس. ولا بد - إذن - أن يكون البيت موضوعاً قبل أن يكون آدم، وأن الذي وضعه هو من غير الناس، فالذي وضعه هو بأمر من الحق سبحانه، فلا يقولن أحد: إن إبراهيم - عليه السلام - هو الذي وضع البيت الحرام؛ لأن مهمة إبراهيم - عليه السلام - كانت هي رفع القواعد من البيت؛ لأننا لو قلنا: إن إبراهيم - عليه السلام - هو الذي بنى البيت؛ فكيف ينسجم هذا مع قوله الحق: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ ... } [البقرة: 127] وهو قول نفهم منه أن إسماعيل كان شريكاً لوالده في الرفع والبناء، ولا بد أن يكون قد امتلك درجة من القوة تجعله قادراً على مساعدة الأب في العمل. وهذا القول أيضاً نفهم منه أن عملية رفع القواعد من البيت لم تتم وقت أن كان إسماعيل رضيعاً؛ لأن الحق سبحانه قال على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم ... } [إبراهيم: 37] وهذا يعني أن البيت كان موجوداً قبل ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5665 وقولنا هذا يرد على بعض العلماء الذين قالوا: إن إبراهيم - عليه السلام - هو أول من بنى الكعبة فنقول لهم: وماذا عن الخلق البشري من قبل إبراهيم إلى لَدُنْ آدم، أليسوا ناساً؛ فلماذا لم يكن لهؤلاء الناس من قبل إبراهيم بيتٌ محرّمٌ؟ وهكذا شاء الحق سبحانه أن يكون البيت الحرام لكل الناس من لدن آدم، وأنه موضوع من قِبَلِ الله. وكلمة الناس - إذن - عامة حين يتعلق الأمر بحكم عام، وتكون خاصة في مواقع أخرى، مثل قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ ... } [النساء: 54] وأما سورة «الناس» بالاستقراء الدقيق في هذه السورة، نجد الحق سبحانه يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} [الناس: 1] وهذا إعلان للربوبية لكل الخلق، فهو الرب الذي أوجد وأعطى الصفات لكل مخلوق. ولا تحسب أنك تستطيع أن تشرد منه؛ فهو سبحانه يقول: {مَلِكِ الناس} [الناس: 2] أي: أنه يملك كل الخلق، وجعل لهم الاختيار في أشياء؛ ومنع عنهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5666 الاختيار في أشياء، ولم يقل: «مليك النَّاس» ؛ لأن هذا القول يعني أنهم مجبورون على الإيمان، ولا يسعهم غير هذا، ولكن الله جعلهم مختارين في الأمور التي هي مَنَاط للتكليف، وغير مختارين في أمور هي ليست محلاّ لهذا. وأقول لأي واحد ممن تمرّدوا على الإيمان؛ فكفروا بالله؛ أقول: أنت متمرّد على الله، وتكفر به، وتنكر الألوهية، فلماذا لا تكون منطقيّاً مع نفسك، وتتمرّد على كل الأحداث التي تصيبك، فإن أصابك مرض؛ قل له: لا، لن أمرض. فلا أحد يستطيع أن يدفع عن نفسه قدراً شاءه الله؛ لأن الأحداث ستنال من كل إنسان من كل إنسان ما قدره الله له. إذن: فكل إنسان هو مملوك لله. وهكذا نجد الفرق بين أن يقول سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} [الناس: 1] وان يقول: {مَلِكِ الناس} [الناس: 2] و «الناس» في الآية الأولى هم المربون، والناس في الآية الثانية هم «المملوكون لله» فلا أحد يخرج عن قدرة الله في الأمور القهرية. وتأتي «الناس» في الآية الثالثة: {إله الناس} [الناس: 3] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5667 لتؤكد أن الحق هو الإله المعبود بحق، وهو الذي يقيك مما ستأتي به الآية الرابعة: {مِن شَرِّ الوسواس الخناس} [الناس: 4] والآية الخامسة: {الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس} [الناس: 5] والوسواس الخناس: هو الذي يزين لك أفعال الشر في أذنك، وهو خَنّاس؛ لأنه يخنس ساعة يسمع قولك: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» وهو يوسوس في صدور الناس المُوَسْوَسِ إليهم. وهكذا نجد أن كلمة «الناس» قد جاءت؛ لتعبر عن المربوبين، والمملوكين، والمأهولين، والموسوس إليهم، وأن من يوسوِس قد يكون من الجن، وقد يكون من الناس. إذن: فليس هناك تكرار بل جاءت الكلمة الواحدة بمعنى يناسب كل موضع جاءت فيه. والمثال في حياتنا - ولله المثل الأعلى - قد أكون معلِّماً متميزاً واختارتني الكلية التي أقوم بالتدريس فيها لأكون رائداً للطلاب، ورئيساً لجمعيتهم الصحفية، ومشرفاً عليهم في الرحلات، ومراجعاً لتصحيح أوراق إجاباتهم، وهكذا تكون كلمة «الطلاب» لها معنى مختلف في كل موقع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5668 والحق يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ... } [يونس: 2] والحديث موجه لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو الرسول الخاتم. إذن: فالمراد بإنذار الناس هنا؛ هم جميع الناس. وما المقصود بقوله: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] إن القدم كما نعرفه: هو آلة السعي إلى الحركة، كما أن اليد آلة الإعطاء؛ فتقول: فلان له يد عندي، أو تقول: أنا لا أنسى أياديك عليّ حين يقدم لك صديق هدية ما، وهو قد سار على قدميه؛ ليحضر لك الهدية، ولكنه يناولك لها بيديه. إذن: فكل جارحة لها ظاهر في الحركة؛ وفي الأعمال. فالقدم تسعى إلى الأشياء، واليد تتحرك في العطاء، والأذن في السمع، والعين في الرؤية. وهكذا يكون معنى {قَدَمَ صِدْقٍ} هو سابقة فضل؛ لأنهم حين استمعوا إلى منهج الله، وأدَّوْا مطلوبات هذا المنهج كما يحب الله؛ فعليك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5669 يا محمد ان تبشرهم بالجنة. ذلك أن لهم سابق قدم، سعي إلى الخير، وهو قدم صدق. لكن هل هناك ما يمكن أن نسميه «قدم كذب» ؟ نعم، وهو ما يخلعه الأفاقون على تواريخ الناس، فيصفونهم بما لم يكن فيهم، وهكذا نفرق بين قدم الصدق وقدم الكذب. قدم الصدق - إذن - هو سابقة في الفضل أهّلتهم لأن يكونوا موضع البشارة، فهم قد صدقوا المنهج، وأعطوا من واعد حق. والصدق - كما نعلم - هو الخصلة التي لا يمكن لمؤمن أن يتنحى عنها؛ لأنه لو تنّحى عنها، فهذا يعني التنحّي عن الإيمان. وحينما سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: لا. إذن: فالصدق هو جماع الخير. وعلى الصدق تدور الحركة النافعة في الكون. وحين يصدق التاجر في ثمن الأشياء؛ ويصدق العامل في إخلاصه للعمل؛ ويصدق الصحفي في نقل الخبر، ويصدق كل فرد في المجتمع، هنا يتكامل المجتمع وينسجم؛ لأن الفساد في الكون إنما ينشأ من الكذب، والكذب هو الذي يخل بحركة الحياة. لذلك أتى الله بكلمة الصدق في القرآن في أكثر من موضع، فهو القائل: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ... } [يونس: 93] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5670 فحين قالوا: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ ... } [البقرة: 61] أنزلهم الله بمكان يحقق لهم ما طلبوا من طعام، فلم يخدعهم سبحانه، ويأتي الحق مرة ثانية بكلمة الصدق فيقول: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84] أي: اجعل لي ذكْراً حسناً فيمن يأتون من بعدي، فلا يقال في تاريخي كلام كذب، وألا يخلع عليَّ الناس ما ليسَ فيّ. وقد قال الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن الإنسان: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين} [الأحقاف: 15] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5671 ثم يقول الحق سبحانه: {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] ولماذا يصف الحق الوعد هنا بأنه وعد حق؟ لأن هناك من يعد الوعد الكاذب، حين يعد أحدهم بما لا يملك، أو أن تعد بما لا تقدر عليه، أو أن تعد بما لا تمهلك الحياة لإنفاذه. ولذلك قال الحق لنا: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ... } [الكهف: 23 - 24] إذن: لا بد أن تسبق أي وعد بمشيئة الله؛ لأنك حين تَعد؛ قد لا تملك إنفاذ ما وعدت به، فقد تعد إنساناً بأن تلقاه في الغد في مكان ما لتتحدثا في أمرٍ ما. ونقول: أضمنت أن تستمر حياتك إلى الغد؟ ها هو أول عنصر قد يُفقد؛ أضمنت أن تستمر حياته؟ هذا هو العنصر الثاني الذي قد يُفقد، ثم أضمنت ألا يتغير السبب الذي من أجله تلقاه؟ ثم أضمنت إن اجتمعت كل هذه العناصر ألا تُغير أنت رأيك في هذه المسألة؟ إذن: لا تجازف بأن تعد بشيء ليس عندك عنصر من عناصر الوفاء له، وأسند كل عمل إلى من يملك كل العناصر، وقل: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ... } [الكهف: 24] إذن: فوعد الصدق معناه أن يكون الوعد ممن هو قادر على أن يحققه قطعاً؛ ولا تخرج الأشياء مهما كانت عن قدرته، ولم يترك الأشياء؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5672 لأنه باقٍ. ولن يتغير رأيه؛ لأنه ليس حدثاً يتغير. بل بيده كل شي وهو على كل شيء قدير. وسبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55] هكذا وعد الحق عباده المتقين بأنهم سوف يقعدون في حضرته مقعد صدق وهو المليك المقتدر. وسبحانه يقول: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ... } [الإسراء: 80] أي: أدخلني في هذه البلدة مدخل صدق للغاية التي لا أستحي من أن أقولها، لا أن أدخل بغرض أمام الناس وأن أخفي غرضاً آخر، وكذلك أخرجني منها مخرج صدق. إذن: فكلمة الصدق دائرة {قَدَمَ صِدْقٍ} و {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} و {مَقْعَدِ صِدْقٍ} و {مُدْخَلَ صِدْقٍ} و {مُخْرَجَ صِدْقٍ} وكل هذا يُحببنا في الصدق؛ لأن كل أمور الحياة؛ وفضائلها؛ وخيراتها، وما ينتظر الناس من سعادة؛ كل ذلك قائم على كلمة الصدق. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: {وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2] أي: أن لهم سابقة فَضْلٍ عند ربهم يجازيهم بها؛ لأنهم عملوا بمقتضى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5673 منهجه، أما موقف الكافرين فهو مختلف؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 2] ولماذا جاء سبحانه بخبر الكافرين هنا رغم أن الموقف هو إنذار وبشارة؟ ونقول إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين أبلغ المنهج عن الله، استقبله أهل الإيمان بالتصديق، أما الكافرون فقد اختلف موقفهم، فَإِتَّهمَ بعضهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه ساحر. وجاء قول الحق على هذه الصورة المبينة بالآية؛ لأن القرآن يحذف أشياء أحياناً، لأن لباقة السامع ستنتهي إليها، فلا يريد أن يكرر القول. وانظر إلى قصة بلقيس، حيث نجد الهدهد يقول لسيدنا سليمان: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ... } [النمل: 22] هذا هو الهدهد وهو المخلوق الأقل من سليمان عليه السلام يقول له: لقد عرفت ما لم تعرفه أنت، وكأن هذا القول قد جاء؛ ليعلمنا حسن الأدب مع من هو دوننا، فهو يهب لمن دوننا ما يُعَلِّمُه لنا، ألم يُعلِّمنا الغراب كيف نواري سوأة الميت؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5674 {فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض ... } [المائدة: 31] ويقول قابيل: {ياويلتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] وهكذا يتعلم الإنسان ممن هو دونه، وممن سخره الله له. وانظر كيف أبرز لنا الله أن الأدنى إن رأى خبراً، لا بد أن يبلغه للأعلى، فتتحقق سيولة المعلومات، التي يتخذ الأعلى على ضوئها القرار المناسب؛ فالهدهد يقول لسيدنا سليمان: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] ويتخذ سليمان قراراً ينفذه الهدهد: {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28] وتتتابع الحكاية من بعد ذلك فيقول الحق: {قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] فكأن الهدهد أخذ الكتاب وألقاه إلى بلقيس فما قرأته؛ جمعت قومها؛ لتخبرهم. وهكذا حذف القرآن بعضاً من التفاصيل التي إن رُويت تكون تكراراً؛ ولكن جاءت المسألة بهذه الصورة؛ ليدلنا الحق على أن أوامر التلقي كانت سريعة بحيث لا يوجد فاصل بين الأمر وتنفيذ الأمر، فالتحم الأمران معاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5675 إذن: فقوله الحق: {قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 2] جاء منسجماً مع ما يُفهم من النص، فهم لم يقولوا ذلك الاتهام إلا بعد أن بلغهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله قال له: بَشِّر وأنذر، فلما بشَّر وأنذر، جاء قولهم بأن الرسول ساحر، وهكذا نفهم كيف تكوَّن موقفهم هذا من سياق الآية؛ لأنهم لم يقولوا ذلك إلا بعد بلاغ الإنذار، أو بلاغ البشارة. وهكذا نجد أن القرآن قد لا يذكر الأشياء التي إذا سمع السامع الأسلوب أخذها من نفسه دون أن يتطلبها كلام منطوق، ومثل هذا الأمر جاء في لقطة أخرى في قصة سبأ، فبعد أن ائتمر الهدهد بأمر سليمان وذهب بالكتاب فألقاه إلى ملكة سبأ، وقرأته، وجمعت القوم؛ لتأخذ رأيهم فيما تفعله مع سليمان، فكان من أمرها معهم ما ذكره القرآن ثم علم سيدنا سليمان بأمر مقدمها مع قومها، فنجد سيدنا سليمان عليه السلام يسأل من حوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5676 إذن: فهو قد عَلِم أنهم مُقبلون عليه بالإسلام، فأراد أن ينقل العرش من مملكتها إلى مملكته؛ قبل أن يجيئوا، وما داموا قادمين في الطريق، فعلى من يذهب ليفك العرش وينقله، لا بد أن تكون له طاقة تفوق قدرة الإنسان العادي، ولذلك لم يتكلم الإنس العادي، لكن الذي تكلم جني غير عادي، ذكي، فمن الجن من يتميز بالذكاء، ومنهم غير ذلك. وجاء قول الحق سبحانه: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] ومقام سليمان مع قومه قد يستمر ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات. وسيدنا سليمان يريد التعجيل بنقل عرش بلقيس، لذلك تجده يستمع إلى من عنده علم من الكتاب: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ... } [النمل: 40] ألم يكن مثل هذا القول يحتاج إلى إذن من سيدنا سليمان، وأن يقول سليمان اذهب فيذهب ويحل العرش ويعود به؟ نعم، الأمر يحتاج كل ذلك، ولكن القرآن جاء بالقصة في تصوير متتابع للسرعة، وجاء القرآن بخبر العرش، وقد جاء إلى حيث يجلس سليمان عليه السلام: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ ... } [النمل: 40] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5677 وهكذا حذف التفاصيل التي يسهل معرفتها، والتي وقعت بين قول مَنْ عنده علم من الكتاب، وبين تنفيذ نقل عرش بلقيس. وكذلك حذف القرآن قدراً من الأحداث في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فعندما بلَّغهم رسول الله الإنذار، هنا قال الكافرون: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 2] وقد قال الكافرون هذا الاتهام أكثر من مرة، فمرة يقولون عن القرآن: إنه سحر، ومرة يقولون عن محمد: إنه ساحر. ولنسأل: ما معنى كلمة ساحر؟ إن الساحر هو الذي يصنع أشياء، ويوهمك أنها حقيقة؛ وهي ليست بحقيقة. ولذلك يجب أن نفرق بين السحر وبين معجزة موسى، حتى لا يقال: إن معجزة موسى عليه السلام وهي العصا كانت من جنس ما برع فيه سحرة فرعون، صحيح أنها من جنس ما برع فيه قوم فرعون، ولكنها ليست سحراً؛ لأن الحق شاء أن يُغير من حقيقة العصا فجعلها أفعى، أما سحر قوم فرعون فهو لا يغير حقيقة الأشياء، بل يوهم مَنْ يراها بأنها تغيرت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5678 والسحر يقتضي ساحراً، ويقتضي مسحوراً، ويقتضي عملية السحر ذاتها. أما عن الساحر فهو الذات التي تقوم بعملية السحر. ويقول الحق عن السحرة: {سحروا أَعْيُنَ الناس ... } [الأعراف: 116] أي: سحروا الأعين التي ترى الأمر المسحور على غير حقيقته، رغم بقاء الشيء المسحور على حقيقته. إذن: فهم قد أوهموا المسحورين بغير واقع، لكن المعجزة - معجزة موسى - ليست كذلك؛ لأنها لا تُغير من الرائي، بل تغير من حقيقة المرئي فعلاً. وقد دَلَّنَا القرآن على حقيقة هذه المسألة بالتجربة العملية حين اختار الله موسى وقال له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 17 - 18] وحين أمر الحق سبحانه موسى بإلقاء العصا، رآها موسى عليه السلام حيّةً تسعى: {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 19 - 20] فعندما رأى موسى عصاه، قد تحوَّلتْ إلى حية تسعى على الأرض، فرَّ هارباً خائفاً، ولكن الله أراد أن يثبّت قلبه ويؤمنه إعداداً له للموقف الذي سيقفه فيما بعد أمام سحرة فرعون فقال له رب العزة: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5679 إذن: فلم يكن هناك سحر في عيني موسى، ولكن كان هناك تغيُّر فعليّ في حقيقة العصا. فلما خاف طمأنه الحق سبحانه وأمره بأن يلتقط العصا؛ لأنها ستعود - بإذن الله - إلى سيرتها الأولى. والدليل على ان التغير قد حدث في حقيقة العصا، أن السحرة الذين جمعهم فرعون من كل مكان، ووقفوا في منافسة مع سيدنا موسى، وقالوا له: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} [طه: 65] وقبل موسى عليه السلام التحدي، وتجد القرآن يصور المسألة فيقول: {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] وقوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} يعني: أن الحبال والعصى لم تتغير حقيقتها ولم تسعَ. وما إن رمى موسى عصاه حتى تحولت إلى حية فعْليّة تلقف ما صنعوا، وهذا ما جعل السحرة يسجدون ويعلنون الإيمان؛ لأنهم رأوا حقيقة واضحة، وهي أن العصا قد تحولت بالفعل إلى حية. إذن: فالساحر يرى الشيء على حقيقته، والمسحور هو الذي تتغير رؤيته إلى الشيء، فيُخيَّل إليه أنه شيء آخر؛ ولذلك لم يقل أحد: إن موسى تعلّم السحر، وإن من علّمه غلبهم، لا، بل عرفوا أنها مسألة أكبر من طاقة البشر؛ لأن حقيقة العصا نفسها قد تغيرت، فقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هارون وموسى} [طه: 70] ولم يقولوا: آمنا بموسى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5680 إذن: فالتخييل إنما يحدث في عيني المسحور. أقول ذلك حتى نفهم غباء كفار قريش حين اتهموا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه ساحر، يسحر الناس، فيخرج الولد على أبيه، وأهله. ويجعل العبيد يتمردون على سادتهم. ولو كان رسول الله ساحراً، فلماذا لم يُسحَر من قالوا هذا الاتهام. وبقاء من يقول بمثل هذا الاتهام دليل على أن مسألة الإيمان بالمنهج وبالرسول لا علاقة لها بالسحر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5681 ومن بعد ذلك يرد الحق على حكاية العجب من أن الله أوحى لرسوله، وكذلك مسألة اتهام الرسول بالسحر، فيلفتهم إلى قضية فوق هذه القضية، وأنهم كان عليهم أن يروا العجب في غير مسألة الوحي إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. أي: كان عليكم ان تروا هذه المسألة العجيبة، وهي خلق السموات والأرض وتتأملوا صنعها، وكيف حدثت؟ وإذا كان الله هو الذي خلق السموات والأرض، وجعلك أيها الإنسان تطرأ على عالم، وعلى كون معدّ لك إعداداً دقيقاً، فكان يجب أن تلتفت إلى هذه المسألة قبل أي شيء آخر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5681 وضربنا من قبل المثل، وقلنا: هَبْ أن إنساناً ركب طائرة، ثم نفد وقودها وسقطت في الصحراء، وكُتبت له النجاة وتلفَّت حوله فلم يجد ماء أو طعاماً أو أي دليل من أدلة الحياة، ثم غلبه النوم، فلما استيقظ من نومه، وجد مائدة عليها من أطايب الطعام، وأطايب الشراب، أما كان يسأل نفسه قبل أن يأكل ويشرب: من الذي صنع وأحضر كل هذا الطعام، وكل هذا الشراب؟ وهذا الكون قد أعدَّ لك أيها الإنسان، أما كان يصح أن تفكر فيمن أعدَّ لك هذا الكون، وخلق لك كل ما ليس في متناول قدرتك، وسخّر كل ذلك لك؟ وقد أبلغك الحق: أنا خلقت السماء، وخلقت الأرض، والشمس، والنجوم، وحين وصلك هذا البلاغ، فإما أن يكون صدقاً، فلتنفذ ما أمر به الخالق. وإن لم يكن هذا الكلام صدقاً، فمن الذي خلق إذن؟ إن كان هناك إله غيره قد خلق الكون، وسمع مثل هذا البلاغ، ولم يتحرك لبيان صدق المسألة، لما كان هذا الآخر يستحق أن يكون إلها. وما دام لم يظهر معارض له سبحانه، فهو الخالق؛ لأن الدعوى إذا ما صدرت من واحد، ولم يظهر لها معارض، فصاحبها هو من أصدرها إلى أن يوجد له معارض. وقد ضربنا مثلاً؛ فقلنا: هَبْ أن جماعة من أصدقائك جاءوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5682 لزيارتك، ثم خرجوا من عندك، ووجدت أنت حافظة نقود، ولم تعرف لمن هي، ثم بعثت بخادمك؛ ليسأل من كانوا في زيارتك، وقال كل واحد منهم: إن حافظة نقوده لم تضع منه، إلا واحداً قال: نعم، هي حافظة نقودي. وهكذا تثبت ملكية هذا القائل لحافظة النقود، إلى أن يثبت العكس. والحال هنا هكذا، فحين أبلغنا الحق أنه خلق السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم وجعل في الأرض رزق البشر، ولم يعارضه أحد، إذن: يجب أن نصدق أنه الخالق. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكم كل هذا الكون مُسخَّراً أفلا تتركون له حرية أن يختار رسولاً منكم إليكم؟ فما وجه الاعتراض إذن؟ يكشف الحق منطقهم حين قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] إذن: هم قد اعترفوا أن القرآن لا غبار عليه، لكنهم ساخطون ويعيشون في ضيق؛ لأن هذا القرآن قد جاء على يد يتيم أبي طالب. ويكشفهم الحق أيضاً فيأتي بما جاء على ألسنتهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء ... } [الأنفال: 32] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5683 ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا. فالعداوة هي لرسول الله، وهي عداوة حاقدة غير منطقية؛ لأن كل واحد منكم كان إذا ملك شيئاً نفيساً عزيزاً عليه، فهو لا يجد أميناً عليه إلا محمداً. إذن: فلماذا لا تغشون أنفسكم في مسألة استئمان محمد على الأشياء النفيسة، ولو كنتم غير مؤمنين بصدقه. فلماذا استأمنتموه على نفائسكم؟ أليس هو محمد بن عبد الله الذي هاجر وترك عليَّ بن أبي طالب؛ ليرد الأمانات لأصحابها؟ إذن: فلا محمد دون مستوى الرسالة والأمانة، ولا القرآن دون المستوى، بشهادتكم أنتم؛ بشهادتي القول والفعل. وهنا يقول الحق: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... } [يونس: 3] . وفي موقع آخر بالقرآن يقول سبحانه: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] وما دام هذا الخلق العجيب قد صدر منه، فالتصرفات التي دون ذلك لا بد أن تكون مقبولة منه سبحانه وتعالى، وأن تكون لحكمة ما. وتعالوا نتحاكم إلى أنفسكم، أنتم تقولون: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] إذن: لا شك عندكم في القرآن لا طَعْنَ فيه، بل تطعنون في مسألة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5684 أنه جاء على يد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتمنيتم لو أن القرآن قد جاء على يد واحد آخر تقبلونه. وأنتم في هذه المسألة غير منطقيين؛ لأنكم تريدون أن تتدخلوا في قسمة الله ورحمته في أن يُنزِل الوحي على من تشاءون، لا من يشاء هو سبحانه. وأنتم بذلك تريدون أن تتحكموا في الرحمة العليا من الله في أن يختار رسولاً؛ ليبلغكم عنه. وتتناسون أنكم في هذه الدنيا لا تقسمون الأرزاق؛ لذلك يقول الحق: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ... } [الزخرف: 32] فإذا كنتم تريدون أن تقسموا رحمة الله، فاعلموا هذا القول من الله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا ... } [الزخرف: 32] وهذا الأمر السهل؛ تقسيم المعيشة في الحياة الدنيا تصرف فيه الحق سبحانه، فكيف لكم - إذن - أن تطمعوا في تقسيم الأمر العلوي وهو رحمة الله العليا في أن يرسل رسولاً. والحق سبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله} . وساعة تسمع كلمة «رب» ينصرف الذهن إلى الخلق وإلى التربية، ولذلك نحن نستعمل هذه الكلمة ونقول: «فلان رب هذه الأسرة» أي: أنه المتولي تربيتها، وكلمة «الرب» بمعناها المطلق تنصرف إلى الله، فهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5685 الخالق الذي خلق من عَدَم وأمدَّ من عُدْمٍ، وهو بهذا الوصف ربّ كل خلقه: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي. وما دام الله سبحانه ربّاً لكل الخلق، فهو الرازق لكل خلقه، فهو الذي استدعى خلقه إلى هذه الدنيا، وهو الذي يعطي كل مخلوق الرزق الذي كتبه الله له، وهو سبحانه يأمر نواميس الكون وأسبابه أن تعطي له أو لا تعطي، فإن زرع الأرض وأحسن زراعتها؛ أعطى سبحانه الأمر للأرض أن تعطي هذا المخلوق الرزق. وكل مخلوق يأخذ بالأسباب، ويوفر له الحق النجاح في الأسباب. وأقول دائماً لمن يرون تقدم الكفار في أمور الدنيا، ويتساءلون: لماذا يتقدم الكفار في أمور الدنيا ونتأخر نحن؟ أقول لهم: لقد أخذوا من عطاء الربوبية في الأسباب، وأنتم لم تاخذوا من عطاء الربوبية؛ حتى لا يسبقكم الكافرون إليها، ولا تجلسوا في موقع المتفرج، بل المفروض فيكم أن تسبقوا الكفار إلى عطاء الربوبية. أما عطاء الألوهية، وهو أن يُقِرَّ الإنسان بأن الله هو المعبود بحق، وهو المطاع في «افعل» و «لا تفعل» ، فهذا العطاء لا يناله إلا مَنْ آمن به. إذن: فالله رب الجميع، ولكنه إله مَنْ آمكن به. إذن: هناك فارق بين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5686 عطاء الإله، وهو المنهج المتمثل في «افعل» و «لا تفعل» ، وعطاء الربوبية المتمثل في الأمور المادية وهي شركة بين كل الناس: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي. وحين يُحسن الكافرُ الأخذ بالأسباب؛ فهو يأخذ نتائجها. والحق سبحانه هو القائل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] إذن: فواجب على المؤمنين أن يستقبلوا عطاء الربوبية بحسن الأخذ بالأسباب؛ ليأخذوا النتيجة، ولا يتقدم أهل الكفر عليهم؛ لأن الكافر حين يسبقك في الأخذ بالأسباب، ربما استغل هذه المسألة في ان يفرض عليك ما يخالف دينك. وهنا يقول سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله ... } [يونس: 3] أي: أن الذي ربَّي، هو الذي كلَّف، ويجب أن تستمعواإلى منهجه. ثم يقول سبحانه: {الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... } [يونس: 3] وكلمة {سِتَّةِ أَيَّامٍ} هذه وردت في كل آيات القرآن التي تحدثت عن زمن مدة الخلق للأرض والسموات، لكن هناك آية جاءت بتفصيل ويظهر من أسلوبها أن الخلق قد استغرق ثمانية أيام، وهي في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5687 أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 9 - 10] وهذه ستة أيام. ثم يقول سبحانه: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِي يَوْمَيْنِ وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} [فصلت: 11 - 12] وهكذا يكون المجموع ثمانية أيام، وهذا هو الفهم السطحي؛ لأن آيات الإجمال جاءت كلها بخبر الخلق في ستة أيام. وتعلم أن كل مُجمل يفسره مُفصَّلة إلا العدد؛ فإن مفصَّله محمول على مجمله، فالأرض خلقها الله في يومين، وجعل فيها رواسي، وبارك فيها، وكل مخلوق ثان هو تَتمَّة للأول، فاليومان الأولان إنما يدخلان في الأربعة الأيام، وأخذت بقية الخلق اليومين الأخيرين، فصار المجموع ستة أيام. إذن: فالزمن تتمة الزمن، ولذلك تجد أن اليوم على كوكب الزهرة أطول من عامها؛ لأن عامها بتوقيت الأرض هو مائتان وخمسة وعشرون يوماً، أما طول اليوم فيها فهو بتوقيت الأرض مائتان وأربعة وأربعون يوماً. إذن: فاليوم على كوكب الزهرة أطول من العام فيها. والسر في ذلك أن كوكب الزهرة يخضع لدورة تختلف في سرعتها عن سرعة الدورة التي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5688 تخضع لها الأرض، فدورة كوكب الزهرة حول نفسه بطيئة، ودورته حول الشمس سريعة. إذن: فكل كائن له نظام. وما هو اليوم إذن؟ اليوم في اعتبارنا هو دورة الأرض حول نفسها دورة يتحقق فيها الليل والنهار. ولكننا نجد القرآن الكريم يطلق كلمة اليوم ويفصلها عن الليل، فيقول سبحانه: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ... } [سبأ: 18] وهنا جعل الحق اليوم للضوء والكدح، والليل للظُّلمة والراحة. والحساب الفلكي يسمى الليل والنهار يوماً. ويبين القرآن لنا أن هناك يوماً للدنيا، ويوماً للأخرة، ويوم الدنيا هو ما نحسبه نحن من شروق إلى شروق آخر، وكذلك هناك يوم عند الله هو بحساب الدنيا يقدر بألف سنة مما يحسبه البشر: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] ويقول الحق في موضع آخر: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] إذن: فالأزمنة متعددة، ومنوعة، وتختلف من قياس إلى آخر، ومن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5689 كوكب إلى آخر. وما أظهره الله لنا في القرآن من الأزمنة إنما يدل على اختلافها، لا على التعارض والتناقض. ثم يقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} ووقف العلماء عند كلمة «اسْتَوَى» طويلاً، واستعرضوا القرآن كله؛ ليحصروها في كتاب الله؛ فوجدوها قد جاءت في اثنتي عشرة سورة: البقرة والأعراف ويونس والرعد وطه والفرقان والقصص والسجدة وفصلت والفتح والنجم والحديد. وأول سورة جاء فيها ذكر استواء الله على العرش هي «الأعراف» يقول الحق: {الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5690 مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} [الأعراف: 54] وما دام الله سبحانه هو الذي خلق فلا تعترض أن يكون الأمر له، وأن يبعث سبحانه من شاء؛ ليكون رسولاً؛ لذلك فلا عجب أن أرسل لكم رجلاً منكم؛ لأنه لو كان هناك غيره سبحانه هو الذي خلق، ثم جاء ليفتئت فيأمر فيما خلق، لكان للخلق شأن آخر، لكن الله هو الذي خلق، وهو سبحانه الذي أرسل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول فيها الحق: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} ، أي: استتب له الأمر. ثم تأتي آية سورة الرعد: {الله الذي رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ استوى عَلَى العرش وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] أما الصفات التي توجد في البشر، ووصف الله نفسه بها، هذه الصفات لا تؤخذ على مقتضى ما هي في البشر، فكل إنسان هو ممكن الوجود. ولكن الحق سبحانه وتعالى هو واجب الوجود؛ لذلك تؤخذ تلك الصفات في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11] ومثال هذا: أن الحق سبحانه وتعالى له عِلْم بأنك تقرأ الآن في التفسير، وفي أي مكان تقرأه، والذين من حولك يعلمون ذلك، ولكنْ أعلْمُ الله يساوي علمَك وعلمَ مَنْ حولك؟ لا، فعلمه سبحانه وتعالى هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5691 عِلْم أزليّ، عِلْم قبل أن توجد أنت أو يوجد غيرك؛ لذلك فأنت إذا عَلمت شيئاً، وعَلمَ الله شيئاً، فعِلْم الله يناسبه، وعلْم البشر يناسبك. وأيُّ صفة من صفات الله مطلقة، وأيُّ صفة من صفاتك نسبية؛ لأن الحق سبحانه هو واجب الوجود الأزلي، وأنت في هذه الحياة مجرد حدثٍ محدود العمر بين قوى الميلاد والموت. فالله غني، وقد تكون أنت غنيّاً، لكن غناك لا يمكن أن يتساوى مع غنى الله. وأنت موجود والله موجود، ولكن وجودك لا يمكن أن يُقَاس بوجود الله. فذاتُ الله ليست كذواتنا، وكذلك صفات الله ليست كصفاتنا، وفعْله ليس كفعْلنا، واستواؤه سبحانه ليس كاستوائنا، بل في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لأن الذي يُفْسد الفهم أن يقال: «استوى» بمعنى: قعد. أو فلنأخذ الاستواء كتمثيل للسيطرة، وسبحانه مسيطر على كل شيء، والاستواء: يعني التمكن. وسبحانه القائل: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى ... } [القصص: 14] إذن: فاستوى: تعني بلوغ تكوين الكمال في الذات. والإنسان منا وهو صغير - قبل البلوغ - إنما تنقصه بعض من درجات النضج في الجهاز العصبي، وكذلك في الجهاز التناسلي، فإذا ما بلغ اكتمل النضج، ويقال: (اَسْتَوَى) أي: صار قادراً على إنجاب مثله، وتمت له رجولته. ويقال عن الثمرة: إنها استوت {فاستوى على سُوقِهِ} [الفتح: 29] أي: نضجت نُضْجاً يبلغها أن تعطي من ثمرتها مثل ذاتها، وبذلك تضمن بقاء نوعها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5692 وحين بلغ الطوفان تمامه استوت مركب سيدنا نوح ومعه المؤمنون من قومه، وقال الحق: {واستوت عَلَى الجودي ... } [هود: 44] أي: استقرت على الجبل واستتب الأمر. إذن: فكل استواء لله يجب أن يؤخذ على أنه استواء يليق بذاته، وصفاته، التي قد يوجد في البشر مثلها، لكنها صفات مطلقة في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11] وفعْل الله لا يمكن أن يتساوى مع فعل البشر؛ ولذلك قلنا في حديث الإسرَاء: إن الكفار المعاصرين للإسراء حينما كذَّبوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أنه قد أسرى به، قالوا: أتدَّعي أنك أتيتَ بيت المقدس في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ وهذا القول المستنكر يؤكد أنهم قد فهموا أن الإسراء قد حدث حقيقة. ورغم ذلك تجد بعض المعاصرين - الذين يدعون المعاصرة والفهم - يتساءلون: ولماذا لا تقولون: إن الإسراء قد تَمَّ بالروح؟ ونقول لهم: إن كفار قريش أنفسهم الذين عاصروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقولوا ذلك، وفهموا أن الإسراء قد تمَّ بالجسد؛ لذلك قالوا: «أنضرب إليها أكباد الإبل شهراً، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5693 وتدَّعي أنك أتيتها في ليلة؟» بل، ولم يقولوا له: إنه رأى بيت المقدس في رؤيا أو حُلْم؛ لأنه لا أحد يُكذِّب رؤيا أو حُلْماً، وهكذا كان تكذيبهم دليلاً على التصديق للإسراء إلى أن تقوم الساعة. ونقول لمن يدَّعي أن الإسراء إنما تَمَّ بالروح: افهم جيّداً أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أسري بي» . إذن: فعْل الإسراء منسوب لله، لا لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والقرآن يقول: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ... } [الإسراء: 1] وما دام الحق قد قال: (سُبْحَانَ) أي: أن الله مُنَزَّهٌ عَمَّا في بال البشر من المسافات والقوة وغيرها. ولقد ضربنا مثلاً لهذا - ولله المثل الأعلى - برجل يصعد بابنه الرضيع قمة جبل «إفرست» ، فلا يقال: وهل يصعد الرضيع قمة الجبل؟ فالصعود منسوب هنا للرجل، ولقدرة الرجل وقوته، لا إلى الطفل. وهكذا - ولله المثل الأعلى - فالزمن والقدرة على الإسراء منسوبان لله سبحانه، لا إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونحن في مجالنا البشرى تختلف قدراتنا في قطع المسافات وأزمانها، فمن يركب عربة يجرُّها حصان فقد يصل من القاهرة إلى الإسكندرية في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5694 أيام، ومَنْ يركب سيارة فقد يصلها في ساعتين. ومَنْ يركب طائرة فقد يصلها في نصف ساعة. إذن: فكلما زادت القوة تجد الزمن يقل، فما بالنا بقوة القويِّ؛ أيكون معها زمن؟ طبعاً لا. وقال الحق سبحانه لسيدنا نوح: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك ... } [المؤمنون: 28] أي: بعد أن ركب معك يا نوح مَنْ آمن من قومك، واطمأننت على نجاتهم، ستسير السفينة بإذن ربها. إذن: فقول الحق عن ذاته: {استوى عَلَى العرش. . .} [يونس: 3] يعني أن الأمور قد استتبت وتمت. وهكذا نفهم أن كل شيء يتعلق بالحق سبحانه وتعالى نأخذه في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11] وأن كل صفة من صفاته يأتي تمثيلها ليقرب المعنى فقط ولا يعطي حقيقة المعنى؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء. وهكذا فسبحانه له استواء يليق بذاته، لا كاستواء البشر. والشاعر أبو تمام حين جاء ليمدح الخليفة المعتصم، نظر إلى الصفات التي اشتهر بها بعض القوم، «فحاتم» على سبيل المثال كان قمة الكرم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5695 و «عنترة» هو قمة الشجاعة، «والأحنف بن قيس» قمة الحكمة، فقال الشاعر أبو تمام عن الخليفة: إقْدَامُ عَمْروٍ في سَمَاحةِ حاتمٍ ... في حِلْمِ أحْنَفَ في ذكاء أيَاسِ وهكذا صار الخليفة مَجْمع فضائل؛ لأنه أخذ إقدام عمرو، وكرم حاتم، وحلم الأحنف، وذكاء إياس. ولكن حاسد الشاعر قال: إن الأمير فوق كل من وَصَفْتَ، فهؤلاء جميعاً بالنسبة للخليفة صغار. وقال أحد الشعراء: وشبهه المدَّاح في البأس والنَّدى ... بمَنْ لو رَآهُ كان أصغَر خادِمِ ففي جَيْشِه خَمسُون ألْفاً كَعنْترٍ ... وَفي خَزَائِنه ألفِ حاتمِ وحين سمع الشاعر الأول ذلك، وكانت قصيدته الأولى «سينية» ، أي: أن آخر حرف في كل أبياتها هو حرف السين، فجاء بأبيات أخرى من نفس بحر القصيدة الأولى: وقال: لا تُنْكِروا ضَرْبي له مَنْ دُونهُ ... مَثلاً شَروداً في النَّدَى والباسِ فالله قَدْ ضَرَبَ الأقَلَّ لنورهِ ... مثلاً من المِشْكَاةِ والنِّبراسِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5696 إذن: فهناك فَرْق بين تمثيل الشيء، وبين حقيقة الشيء، فحين قال الحق: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ ... } [النور: 35] فهذا مثل توضيحي للبشر. وشاء الحق ذلك ليعطينا مجرد صورة؛ لأنه يتكلم عن أشياء لا وجود لها عندك. ولذلك نجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول عن الجنة: «فيها ما لا عَينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قلبِ بَشَر» . وأنت حين ترى؛ فللرؤية حدود. وحين تسمع فأنت تسمع مرائي غيرك، وما لا يخطر على البال هو القمة، فقد ارتقى الرسول في وصفه للجنة من حدود ما تراه العين إلى آفاق ما تسمعه الأذن، ثم ارتقى من حدود السمع إلى ما لا يخطر على البال؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علم أن اللغة هي ألفاظ تعبر عن معان، والمعاني تزجد أولاً ثم نأتي لها بالألفاظ؛ ولذلك فالأمثال لمجرد التوضيح باللغة. وهكذا نطون قد استوفينا فهم قوله الحق: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} بما يليق بذات الله، فلا نأخذ الاستواء على المعنى الذي يدل على مكان محيّز؛ لأنه سبحانه مُنَزَّه عن أن يكون متحيزاً في مكان؛ فذاته سبحانه ليست كالذوات، وفعله ليس كالأفعال، وصفاته ليست كالصفات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5697 ثم يقول بعد ذلك: {يُدَبِّرُ الأمر} أي: أنه يرتب الوجود ترتيباً يجعل كل شيء موضوعاً في مكانه بحكمة. والحق سبحانه وتعالى له صفة علم، وصفة إرادة، وصفة قدرة، وصفة العلم هي التي تخضع كل شيء في مكانه بحكمة. وصفة الإرادة هي التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه. وصفة القدرة تبرز المراد لله. إذن: فهناك علم، وهناك إرادة، وهناك قدرة تبرز المراد على وفق العلم. ومن المنطقي أن يدبر الله كل أمر؛ لأنه سبحانه هو الذي خلق السموات وخلق الأرض. واستوت له الأمور بحيث لم يعد هناك خلق جديد إلا ما يبرزه ب «كن» . وهو سبحانه بعد أن خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وسخَّر له السموات والأرض؛ لذلك لا بد أن يدبر سبحانه للإنسان أمور مادياته، وأمور قيمه. أما أمور الماديات فد ظهرت في خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والماء والهواء. وما في الأرض من عناصر تنبت للإنسان ما يحتاج إليه في قوام حياته، وهو سبحانه الذي خلق كل ذلك قبل أن يخلق الإنسان، ثم جاء بالإنسان ليكون الخليفة والسيد. إذن: فالإنسان هو الذي طرأ على هذه الأمور المادية، وكان لا بد أن يُنزِلَ الحق سبحانه قيماً يحيا بها الإنسان كخليفة في هذه الأمور المادية. وهكذا خلق الله القيم المعنوية، فلا تقولوا: لماذا أرسل رسولاً لا يُحسب في نظر بعض الناس من عظماء أقوامهم، ولا تقولوا لماذا أرسل محمداً بالتحديد؛ لأن هذا الإرسال هو من ضمن تدبير الأمور، و {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ... } [الأنعام: 124] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5698 إذن: فقوله: {يُدَبِّرُ الأمر} جاء ليؤكد نَفْي التعجب من أن يكون الوحي لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ ... } [يونس: 2] وعلتها أن الله هو ربكم وهو الذي خلق، ولا يجادل أحدٌ الله فيما خلق، وفيمن خلق. وإذا كان هو سبحانه الذي خلق الإنسان والكون، فلا بد أن ينظم حركة الوجود بين الإنسان والكون؛ لذلك اختار الرسول المناسب؛ ليحمل منهج القيم للإنسان في «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» . ثم ترك الحق للإنسان أموراً لا يقول له فيها: افعلها أو لا تفعلها، فهي من المباحات. وإذا استقرأت الأفعال والأحداث، ستجد أن الذي قال الله فيه «افعل» قليل، والذي قال الله فيه «لا تفعل» قليل. وبذلك تجد المباحات أكثر من «افعل» وأكثر من «لا تفعل» . وما دام سبحانه هو الذي شاء ذلك، وترك لك أيها الإنسانُ الكثير من الأمور المباحة، فاترك القيم لله؛ لأن الكون المادي المخلوق لله في غاية الدقة وفي غاية النظام، ولم تمتنع الشمس أن تشرق أو تعطي ضوءها وحرارتها للناس، وما امتنع القمر أن يعطي نوره، وما امتنع السحاب أن يسقط مطراً مدراراً، وما امتنعت الأرض أن تتفاعل مع أي غَرْس تغرسه فتعطيك الغذاء، وكل شيء داخل في نطاق القدرة في النواميس العليا؛ مُحكم؛ ولا خلل فيه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5699 وإذا نظرتم إلى غير ذلك وجدتم الخلل قد حدث؛ لأن الشيء الذي لا تدخل فيه قدرة الإنسان وإرادته هو على أتم ما يكون من النظام، ولا يفسد إلا الشيء الذي للإنسان فيه عمل واختيار، ولا يعني ذلك أن كل أعمال الإنسان تعاني من الخلل، لكن الأعمال التي تعاني من الخلل هي الأعمال التي يُقبل عليها الإنسان دون منهج الله. ولو اخترنا البدائل على ضوء منهج الله، لاستقامت القيم كلها، كما استقامت لنا نواميس الكون العليا. فإذا رأيتم فساداً فلوموا أنفسكم؛ لأن الأمر الذي لا تتناولونه بأيديكم ولا دخل لكم فيه، يعمل غاية في الدقة، فإن أردتم أن تعمل أموركم الاختيارية بغاية الدقة؛ فخذوا منهج الله في الأفعال، ولا تفسدوها أنتم بأن تختاروا البدائل على غير مرادات الله. ولذلك أقول دائماً: إنك إذا ما رأيت عورةً في الوجود، يتعب منها المجتمع، فاعلم أن حدّاً من حدود الله قد عُطِّل. وإن وجدت أمة متخلفة، فاعلم أنها عطلت حدود الله، وإن وجدت أمة تعاني من أمراض اجتماعية جسيمة، فاعلم أنها لا تطبق منهج الله. ويخطئ مَنْ يقصر فَهْمَ عبادة الله على أنها الانقطاع في المسجد، أو الصوم، أو إخراج الزكاة في ميعادها، أو الذهاب إلى الحج، فكل هذه هي رؤوس الإسلام تشحن العبد ليعمل وَفْق منهج الله، فالصلاة هي إعلان الولاء لله خمس مرات في اليوم، ومدة الصيام شهر كل عام، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5700 والزكاة إنما هي من فائض المال، والحج هو تَرْكٌ للمال والأهل والولد. كل ذلك من أجل شحن الطاقة، فإذا ما شحنت الطاقة، فوجِّه الطاقة إلى عمل آخر. ولنأخذ الصلاة مثلاً: فأنت تحتاج إلى طاقة تُقيمك وتُقعدك وتستبقي حياتك؛ وقوة حركتك تحتاج كل ذلك لتصلي! إذن: فأنت تحتاج إلى طعام، ولن تُطْعم ما لم يَكُنْ لك عمل يتيح لك شراء الطعام، وحتى يبيع لك التاجر الخضر واللحم، والفاكهة والخبز، هو يحتاج إلى مَنْ ينتج ذلك، ومَنْ ينتج الأطعمة يحتاج إلى مَنْ يدرس طبيعة الأرض والبذور ومعرفة الأوقات، وكل هذه الأمور تحتاج إلى أجهزة منظمة لإنتاج الطعام. فمن يزرع يحتاج إلى محاريث تحرث، وهذا يستلزم وجود الحديد وآخرين ليصهروه ويستخرجوا منه ما يصلح لصناعة المحاريث. إذن: فقيامك إلى الصلاة يحتاج إلى كل هذه الأعمال. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهكذا تجد أن كل الأعمال التي تُسهِّل لك العبادة هي أعمال واجبة. والمثال: أنك حين تصلي تحتاج إلى سَتْر عورتك؛ لذلك تشتري القماش ليُفصِّل لك الخائط ما ترتديه من ملابس، وكل هذه الأعمال التي تنتج القماش وتصنع الثياب هي أعمال واجبة، بدءاً من زراعة القطن أو الكتان أو التيل وغيرها إلى المغازل ومصانع النسيج، وغير ذلك. وهكذا تجد أن كل الأعمال التي يتم الواجب بها هي أعمال واجبة، فَسَتْر العورة أمر شرعي، وهكذا يتسع مفهوم العبادة ليكون معناها: كل حركة تؤدي إلى إبقاء الصالح على صلاحه وزيادة الصالح إلى ما هو أصلح. والمثال الذي أضربه دائماً: هو حاجة الإنسان إلى الماء للشرب، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5701 والغُسْل من الجنابة وطهو الطعام وغير ذلك، وكان الإنسان قديماً يشرب من الآبار، ثم تطور التفكير إلى إقامة شبكات لتوزيع المياه بعد تنقيتها، كل هذه أعمال تُزيد الأمر الصالح صلاحاً؛ لأنك أخذت الماء من المطر الذي ملأ النهر، وأعليْتَ الماء في خزانات لتنقيته، ثم اكتشفت قوانين الاستطراق ومضخات المياه؛ ليصل الماء الطاهر إلى كل من يحتاجه. وهكذا تزيد الصالح صلاحاً بالتفكير واستخدام العلم بما يفيد الإنسان، إذن: فهذا عمل عبادي ما دامت النية فيه لله. وانظر إلى يوم السوق في أي قرية، تجد من يدخله ومعه الماشية والأنعام التي يرغب في بيعها، وتجد مَنْ يدخل بالفواكه والأطعمة، ومَنْ يدخل ومعه الثياب أو أدوات المنزل، وتجد من يدخل ليس معه شيء، وبعد انتهاء السوق تجد كل إنسان قد خرج بما يحتاج، لا بما دخل لبيعه. وهكذا ألقى الله الخواطر في قلب وتفكير إنسان ما ليبيع ما لا يحتاجه، وآخر ليشتري ما يحتاجه من إنتاج غيره. وأنت إذا نظرت إلى قرية ما، ستجد واحداً من أعيانها يرغب في بيع أرضه وقصره، ويرغب في الرحيل إلى بلدة أخرى، وهكذا ترى الميزان الاقتصادي الإلهي، الذي يوزع العباد في الأماكن التي تليق بكل واحد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5702 منهم، فإذا ما زاد واحد عن الحاجة في مكان، فهو يرحل إلى مكان آخر يحتاجه. وهذا هو التدبير الإلهي على أحسن ما يكون. وقد تجد - مثلاً - الطفل يكتب بيده اليسرى، على عكس أقرانه، وقد تضربه على ذلك، فيعجز عن الكتابة باليمنى وباليسرى، وحين يقول لك الطبيب: لقد شاء الله أن يجعل ابنك موهوباً في الخط الجميل، وهو يكتب بيده اليسرى، فأنت تتعجب، وتكتشف بالفعل أن خط الطفل باليد اليسرى جميل. وأقول دائماً لمن يشكون أن بعضاً من أولادهم يكتبون باليد اليسرى أو يأكلون باليد اليسرى، أقول لهم: إن هذه المسألة تتعلق بالجهاز العصبي للإنسان، فهناك من خلقه الله ليَعْملَ باليد اليمنى، وهناك من خلقه الله ليعمل باليد اليسرى، وهناك من خلقه الله ليعمل بيديه الاثنتين، مثل سيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وكان «أضبط» أي: يعمل بيديه الاثنتين. وعلينا أن نحترم أقدار الله فيما خلق ومَنْ خلق. فسبحانه يخلق ما يريد، لا وَفْق قوالب، بل يخلق ما يشاء، ومع كل خَلْق مراد معين. وكما أحسن الحق تدبير ما ليس لكم دَخْلٌ فيه، فاعلموا أنه قد أنزل المنهج الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5703 لِيُحسِّن مما لكم فيه دَخْلٌ، ويجعل أموركم منتظمة، وكل ذلك يدخل ضِمْنَ تدبير الأمر. وأنت إذا نظرت إلى معنى كلمة «أمر» تجد أنها كل شيء ينشأ، ولماذا عدل سبحانه عن قول: «شيء» إلى قول: «أمر» ؛ لأن كل شيء لا يوجد في الوجود إلا ب «كن» وهي أمر. وسبحانه القائل: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] وسبحانه يدبر الأمر في السنن المادية التي لا تتناولها يد الإنسان، فإن أراد الإنسان أن يضبط أمور حياته، فليأخذ بالمنهج الذي أنزله الله ب «افعل» و «لا تفعل» ، وأما المباحات فهي كثيرة، والإنسان حرٌّ فيها. وإذا ما سأل سائل: ولماذا اتَّبِع المنهج؟ أقول: إن الحق شاء أن يخلق الإنسان على هيئتين: هيئة إرغامية قهرية، وهيئة اختيارية، فأنت أيها الإنسان مقهور في أشياء، ومُحتار في أشياء أخرى؛ أنت مقهور في التنفس، وتتنفس آلياً دون تدخُّل منك، تتنفس مستيقظاً أو نائماً، ولو كان التنفس باختيارك، لاحتجْتَ إلى مَنْ يدير حركة تنفسك وأنت نائم؟ إذن: فمن رحمته سبحانه أن جعلك مقهوراً في مثل هذه المسألة وكذلك نبضات قلبك، أنت مقهور فيها، وكذلك أنت مقهور في الحركة الدودية للأمعاء، وللحركة الانبساطية والانقباضية في المعدة، وإفراز العصارات الهضمية، كل ذلك أنت مقهور فيه، وأنت مُختار في أشياء أخرى، كأن تشتري من البائع الفلاني، أو بائعٍ غيره، وأنت مُخَيِّر في أن تختار أصناف الطعام التي تهواها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5704 والمباحات في الوجود كثيرة، وما أكثر ميادين الحرية في الحياة، وما حدده لك الحق سبحانه وتعالى ب «افعل» و «لا تفعل» ، لا يخرج عن أمور محصورة تصونك وتصون مجتمعك، وكذلك الكون الذي تحيا فيه. وإنْ مارسْتَ أيها الإنسان حريتك في الأمور المباحة على أي لون شئت، فذلك لا يفسد الكون. وقد شاء الحق سبحانه - أيضاً - أن تكون مقهوراً في بعض الأمور حتى لا يفسد الكون، فإن أكلت ما شئت من المأكولات غير المحرمة؛ فأنت حرٌّ، وإن سلك كل إنسان كما يهوى في الأمور المباحة؛ فلا مانع لذلك. وكل البشر يختلفون. وأراد سبحانه أن يحمي الإنسان والكون؛ لأنه علم أزلاً أن أهواء البشر تتضارب، وهو القائل: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض ... } [المؤمنون: 71] ولهذا نرى أن تدبير الله فيما لا دخل لنا فيه، تدبير مُحْكَم، وما يسير بدون تَدَخُّل من البشر إنما يتبع نظاماً مستقيماً، وشاء الحق أن يجعل نواميس الكون تعمل بدقة يندهش لها المؤمنون بالله والكافرون به، فسبحانه يحكم في مُلْكه بدقة متناهية؛ حتى إن بعض العلماء ممن لا يؤمنون بمنهج الله قد حددوا مواعيد الكسوف الكلي أو الجزئي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5705 للشمس أو القمر بدقة متناهية وذلك باستقرائهم لمعطيات الكون. وما دُمْتم أنتم تتميزون على الكافرين بالإيمان بالله، فخذوا منهج الله في حياتكم؛ لتستقيم أموركم بمثل استقامة الكون. ولذلك قال سبحانه: {يُدَبِّرُ الأمر ... } [يونس: 3] ويضيف: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} وجاء الحق بمسألة الشفاعة بعد مسألة تدبير الأمر؛ لأن هؤلاء الكافرين الذين تعجبوا من إرسال الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كانوا يعبدون ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون: إن تلك الأصنام تشفع لهم عند الله، مصداقاً لقوله الحق: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله ... } [يونس: 18] ولذلك يُفصِّل الحق سبحانه مسألة الشفاعة. فالإنسان لا يحتاج إلى شفاعة عند مَنْ يملك الأمر إلا إذا ارتكب جُرْماً أو حدث منه تقصير في أمر ما. والآية أوضحت أنهم يعبدون ما لا يضرهم إن لم يعبدوه، وما لا ينفعهم إن عبدوه. واقرأوا أن مثل هذه الأصنام إنما تشفع لهم، والشفاعة من الشفع، والشفع ضد الوتر. والوتر هو ما لا يقبل القسمة على اثنين، فيكون الوتر رقماً فرديّاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5706 والعبد من هؤلاء له موقف من الإله الذي يعبده، وهو غير قادر على مواجهته؛ لأنه مقصر، فبدلاً من أن يقابله فرداً يأتي بآخر معه؛ ليشفع له، وهكذا يكون معنى الشفع هو تعضيد الفرد بواحد آخر؛ فينتقل من كونه وتراً إلى كونه شفعاً. وكان الكفار على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولون عن تلك الأصنام: إنهم شفعاء لهم عند الله، فيقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ... } [يونس: 3] لأن الشفاعة تقتضي شافعاً ومشفوعاً عنده، ومشفوعاً له، ومشفوعاً فيه، هذه هي الأربعة العناصر في الشفاعة. والذي يستشفع هو المقصِّر، وهؤلاء الكفار قالوا عن الأصنام: إنها شفعاء لهم عند الله، وهذا إقرار منهم بالتقصير، وأقروا بأن المشفوع عنده هو الله، وأما المشفوع فيه؛ فهو تخفيف العذاب أو إنهاء العذاب. إذن: فالمشفوع فيه أمر مشترك، والمشفوع عنده أمر مشترك، أما الأمر في الشافع، والأمر في المشفوع له، فهما مختلفان. وأنت - على سبيل المثال، لا تأتي بإنسان يسير في الطريق وترسله ليشفع لك (مثلاً) عند المحافظ أو عند الوزير؛ إن كانت لك حاجة عند أي منهما، بل تأتي بإنسان تعلم رضا المحافظ عنه أو رضا الوزير عنه، وله منزلة ومكانة، وهذه المنزلة والمكانة تسمحان له بالإذن في أن يكلِّم المحافظ أو الوزير في أمور الناس. وإذا كان هذا هو الحال في الشفاعة من البشر لدى البشر، فما بالنا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5707 بالشفاعة للإنسان لدى الله؟ لذلك بيَّن الحق هنا أن الشفيع لا بد أن يكون بإذن منه سبحانه {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] وفي سورة البقرة يقول سبحانه: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ... } [يونس: 3] وفي آية أخرى يقول سبحانه: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109] إذن: فالشفيع لا بد له من إذن ورضاً من الله. أما المشفوع له فقد قال الحق: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى ... } [الأنبياء: 28] هكذا بيَّن لنا الحق عناصر الشفاعة: الشافع، والمشفوع له، والمشفوع عنده وهو الله سبحانه، والمشفوع فيه هو الذنوب وهي معروفة. ولقائل أن يتساءل: ما دام الحق سبحانه قد رضي عن عبد، فلماذا يحتاج العبد إلى الشفاعة؟ وأقول: لننتبه إلى أن الإنسان يتعرض لأعمال كثيرة، وله نقاط ضعف في حياته؛ قد تكون كثيرة، وقد تكون قليلة، فإذا جاء في نقطة الضعف وأذنب ذنباً، فعليه أن يزيد من فعل النقاط القوية التي تُكتب له بها الحسنات؛ لأن المعيار هو: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5708 فالعبد حين يزيد من الحسنات فالحق سبحانه قد يمحو السيئات، وليعلم كل إنسان أنه إن اختلس من الله حكماً فهو لن يستطيع أن يهرب من العقاب، وعليه أن يزيد من الحسنات، ويرجو المغفرة من الله؛ وقبول التكفير بالحسنات عن السيئات، ولن يُفلت أحد من ملكوت الله. وهَبْ أن إنساناً فيه نقطة ضعف، وأذنب ذنباً، وعنده نقطة قوة يطيع فيها الله بسهولة ويُسْر، هذا الإنسان له أن يعلم أن الله يحبه لأجل نقطة قوته هذه، وقد ي رَحِمَهُ اللَّهُ سبحانه فيما أذنب من الذنوب، ويجعل المأذون له في الشفاعة يشفع له عنده سبحانه. فلماذا أراد الحق ذلك؟ شاء الحق ذلك حتى لا يُحرَمُ العالم من الحسنات التي يجيدها ذلك الإنسان. ويحكي لنا الحديث النبوي الشريف عن الرجل الذي لقي كلباً يلهث من العطش، ولم يجد الرجل إناء يملأه ماء من البئر ليسقي الكلب، فنزل البئر وملأ خفه، وعاد إلى الكلب ليسقيه. وبطبيعة الحال لم يكن هذا الرجل لينافق الكلب، بل منتهى الرحمة بهذا الحيوان، كذات خلقها الله؛ لذلك غفر الحق سبحانه لهذا الرجل. وهكذا نفهم أن الحق يغفر ويمحو السيئات. وقد جعل الحق سبحانه الشفاعة لرسول الله تكريماً له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكذلك في المأذون له في الشفاعة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5709 حتى يعلم المسلم أن الرسول قد يشفع له، وأن المؤمن قد يشفع لأخيه، وأن الأب قد يشفع لابنه، وحين يعلم المسلم ذلك، فهو يحسن إلى كل هؤلاء؛ لعله يحصل على الشفاعة منهم، ويحسن اتباع سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويحسن معاملة المؤمنين، ويحسن الابن معاملة والديه، وهكذا يعيش المجتمع في كرامة الشفاعة بعمل الخير وإخلاص النية. وإذا رأيت إنساناً محسناً في دينه، فلا بد لك أن تحترمه؛ لأن إحسانه في دينه قد ينفعك أنت؛ ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وكان الحق سبحانه قادراً أن ينزلها «إياك أعبد وإياك أستعين» ولكنه شاء أن تنزل على صورتها تلك؛ حتى يأذن سبحانه بقبول الصفقة من كل قائليها، فيتقبل من عباده أعمالهم بما يغفر لبعضهم الأشياء المعيبة. ولذلك أقول: إن رأيت إنساناً مستغرقاً في العبادة فلا تسخر منه ولا تهزأ به؛ لأن حرصه على الطاعة وانشغاله بالعبادة قد تنفعك أنت. وساعة تتلقى آمراً من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتجده شاقّاً، فعليك أن تتذكر أنه المرجع الذي قد يشفع لك في الأمور التي لم تقدر عليها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5710 ولا بد أن يرضى الحق عن المشفوع له؛ لأنه قد أجاد فعل حسنات. وإن كانت له سيئات، وقد رأى رجل سيدنا عمر في رؤيا، فسأل الرائي سيدنا عمر بن الخطاب: ماذا افعل الله بك يا ابن الخطاب؟ فقال سيدنا عمر: غفر الله لي. فسأل الرائي: بماذا؟ أجاب سيدنا عمر: لأني رأيت غلاماً يعبث بعصفور فاشتريته حتى لا أفجعه في عصفور يملكه، وأخذت العصفور وأطلقته. واعترض أحد السامعين للرؤيا متسائلاً: ألم يفعل ابن الخطاب أعمالاً تؤهله لمغفرة الله إلا مسألة العصفور هذه؟ فقال له قائل: أحسن الفهم يا رجل؛ فمسألة إطلاق العصفور إنما تخص غفر الخطايا، وأما أعمال عمر بن الخطاب الجليلة فهي لرفع الدرجات. وفي القرآن آيتان جاءتا بنص متقارب، فالحق يقول: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ... } [البقرة: 48] والآية الثانية تقول: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ... } [البقرة: 123] ومن حاولوا المقارنة بين الآيتين بغرض الطعن في القرآن، هم من الغرباء عن اللغة ولا يملكون ملكة البيان التي يمكن أن يستقبلوا الأساليب بها، ولو امتلكوا هذه الملكة لعلموا أن الصدر في الآيتين محتمل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5711 لوجهين، فهناك نفس جازية هي التي تتشفع ونفس مجزيٌّ عنها هي التي يُتشفع لها. والضمير الذي يأتي في قوله الحق: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا} و {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا} و {وَلاَ تَنفَعُهَا} ، هذا الضمير يصح أن يرجع إلى النفس الشافعة، ويصح أن يرجع إلى النفس المشفوع لها. والإنسان منا إذا ما كان عليه شيء لإنسان آخر، وغير قادر على أن يستبرئ ذمته منه، فهو يلجأ إلى صديق لهذا الآخر، له مكانة عنده ليستشفع له. وفور أن يذهب صاحب المكانة إلى هذا الاخر فهو يقول له: هل تقبل شفاعتي لفلان؟ فإن قال صاحب الأمر: لن أقبل الشفاعة، فالمستشفع عنده يقول له: إذن: سأدفع العدل، أي: ما يساوي قيمة ما كنت سأتشفع له فيه. وهكذا نجد أنفسنا أمام نفسين: شافعة، ومشفوع لها. والضمير يعود على أي من النفسين. وهكذا نجد أن صدر كل آية من الآيتين اللتين يقال عنهما: إنهما متشابهتان، صدر كل منهما منسجم مع عجزها. وينهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بعد أن أوجزت الآية فكرة عن خلق الله تعالى للكون، وأنه يشفع لمن شاء ويختار من يقدم له الشفاعة، فيقول: {ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3] فسبحانه خلق الكون، واستتبَّت بيده مقاليد الأمور، وخلق الإنسان ليعمر هذا الكون، ونعلم أنه سبحانه قد شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو، وحين يشهد الحق لنفسه، فسبحانه على ثقة تامة بأن أوامره في كونه نافذة. وقوله سبحانه: {ذلكم} أي: إشارة إلى ما تقدم من خلق السموات والأرض، والاستواء على العرش، وتدبير الأمر كله، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5712 ولا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، هذا هو الله ربكم، وما دام هو ربكم فاعبدوه؛ لأنه هو الذي خلق من عدم، وأمد من عُدْم، وله كل صفات الكمال المطلق. وهذه العبادة لا تعود عليه سبحانه بأي فائدة، فسبحانه منزَّه عن فائدة تعود عليه؛ لأنكم إن عبدتموه فلن تزيدوا في ملكه شيئاً، وإن لم تعبدوه فلن تنقصوا من ملكه شيئاً. والعبادة يعود نفعها عليكم؛ لأنكم ستأخذون بها منهجاً يخرج كل الخلق عن أهوائهم، ويصير هوى الموجِّه واحداً، فلا تصطدم إرادة بإرادة، بل تتساند الإرادات؛ فيتكامل العالم. إذن: فالعبادة توحِّد أهواء الخلق إلى مراد واحد، لا يأنف الإنسان منا أن يخضع له؛ لأن هذا ليس خضوعاً من بشر لبشر، بل خضوعاً من مخلوق لخالق، وبذلك تستقيم أموركم الاختيارية، كما استقامت أموركم غير الاختيارية. وهكذا لا تنحصر العبادة في أركان الإسلام الخمسة فقط، بل تكون هذه الأركان الخمسة هي الدعائم التي تقوم عليها عمارة الإسلام، وكل الإسلام هو كل أمر لله وكل نهي له سبحانه؛ ولذلك حين نتابع تسلسل الأمور، سنجد أن أركان الإسلام الواجبة تعتمد على حركة الحياة كلها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5713 ويقول الحق في آخر الآية: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} والذهن أو المخ - كما نسميه - فيه ملكات متعددة مثل: ملكة التخيُّل، وملكة الحفْظ والاختزان، وكثير من الملكات الأخرى منها مَلكَةُ التذكُّر. ومعنى التذكُّر أن شيئاً سبق لك إلْفٌ به، فطرأ عليك ما أنساك، وحين تنسى أمراً يخصُّ أحد أقرانك، فهو يقول لك: تذكر يا أخي الأمر الفلاني، وهو لا يأتي لك بأمرٍ مجهول لم تعرفه أولاً، بل يأتي لك بأمر كان معلوماً لك، ولكنك نسيته. والإنسان حين ينظر إلى الكون نظرة غير متحيزة لا بد أن يؤمن بأن لهذا الكون إلهاً، وهذا الأمر لا نأخذه من الفلاسفة، بل من رجل الشارع، وراعى الشاة؛ فقد جاء في الأثر أن راعياً كان يسير في الصحراء فرأى بَعْراً في الطريق، فقال: إذا كان البعر يدل على البعير، والسير يدل على المسير، أفلا يدل كل هذا الكون على وجود اللطيف الخبير؟! والمثال من حياتنا اليومية: أن غسَّالة الملابس الكهربية - وهي لا تدل على شيء ضروري في الحياة، بدليل أن السابقين علينا كانوا يغسلون ملابسهم بدونها، فهي تمثل ترفاً، لا ضرورة - نجد الناس يعرفون من الذي ابتكرها، ومن أوصلها بالكهرباء ومَنْ صنع لها توقيتات دورات الغسيل، ومثلها مثل المصباح الكهربي ومَنْ صنع لها توقيتات دورات الغسيل، ومثلها مثل المصباح الكهربي الذي يفسد بعد عدد معيّن من الساعات، ونجد التلاميذ يدرسون تاريخ من صنعه، فهل يمكن أن ننسى من خلق الشمس التي تضيء الكون؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5714 بل ونجد في زماننا العالم والكافر وهو يمدُّنا بأدلة الإيمان، فكل اختراع نجد مَنْ يسجله؛ حتى لا يسرقه غيره، فما بالنا بالشمس التي تضيء وتُدْفئ، والقمر الذي يحدد الشهور، والنجوم التي تدل الناس على الاتجاهات ولا شيء في كون الله يحتاج إل قطع غيار، ألا نعترف بمن خلق كل ذلك، ها هو ذا سبحانه يدلنا على مَنْ خلق ويبلغنا ما يسجل له ملكية ما خلق، فأنزل القرآن على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليدلنا على أنه سبحانه الذي خلق، وأبقى الله الكافرين ليتحدى مَنْ يناقض قضية الخلق. وسجل الحق سبحانه ما خلقه لنفسه، ولم يقدر أحد من الكافرين على إنكار ذلك. ولن نأخذ الأدلة على وجود الله من الفلاسفة الذين يرتبون النتائج على المقدمات، ومطابقة قياس الشكل على الموضوع، بل سوف نأخذ الدليل من كلمة «الكفر» نفسها، هذه الكلمة (كفر) تعني: (ستر) ، فهل يُسْتَرُ إلا موجودٌ؟ إذن: فالكفر بالله دليل على وجود الله، وما دام الكفر سَتْراً، فالكفر أمر طارئ، نتيجة للغفلة، والغفلة إنما تأتي لأن مقتضيات الإيمان تقيد النفس في حركتها؛ لذلك قد يغفل الإنسان متناسياً أن قيود المنهج لا تطبق عليه وحده، بل تطبق على كل الناس. فحين يُحرَّم الله السرقة، فهو لم يحرمها علىإنسان واحد، بل حرمها على كل إنسان، فقيَّد الآخرين ومنعهم من أن يسرقوا منك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5715 وحين يأمرك بغضِّ بصرك عن محارم جارك، فهو يحمي محارمك أن ينظر إليها غيرك. إذن: فالإيمان جاء بالنفعية لكل إنسان. وما دام الأمر كذلك، نجد الحق سبحانه يقول: {اذكروا ... } [فاطر: 3] وحين يجلس الإنسان بمفرده ولا تُحركه شهواته فهو يهتدي إلى الإيمان بأن هذا الكون لم يَأتِ صدفة. واسم الخالق للكون لا يمكن أن يعرفه الإنسان بعقله؛ لأن التصورات تختلف من إنسان لآخر. وتجد الفلاسفة حين أقروا بأن هذا الكون لا بُدَّ له من خالق لم يتعرفوا على الاسم، بل أخطأ بعضهم التصور وظنوا أن من خلق الكون ترك النواميس لتعمل، وتناسوا أن الخالق لا يباشر سلطانه في الكون مرة واحدة. لذلك جاء الرسل بالمعجزات التي تخرق النواميس؛ ليدلنا سبحانه على أنه هو الذي خلق، وله قيومية على ما خلق، فليست المسألة مسألة نواميس تعمل بذاتها، بل شاء سبحانه أن يدلنا على عدم الآلية في الكون. ونحن نعلم أن الآلية التي يصممها البشر في بعض المعدات تتسبب في إحداث جمود، فالعقل الإلكتروني ليست له قيومية على المعلومات المختزنة فيه، فلا يستطيع أن يخفي منها شيئاً إذا طلبت منه. أما عقل الإنسان فله سيطرة على معلوماته ويستطيع أن يخفي ما شاء منها، ولذلك قال الحق سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5716 {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42] فما دام قيل للإنسان: لا تكتم الحق. إذن: فله قدرة على الإخفاء. والوردة الطبيعية - على سبيل المثال - حيويتها في ذبولها على عكس الوردة الصناعية التي تظل على جمودها ليس فيها حياة. والحق حين يقول: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ... } [المؤمنون: 80] أو {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ... } [السجدة: 4] فهو يحرّض الإنسان على أن يتذكر، ويتفكر، ويعتبر. ولو كان القرآن يريد أن يخدع الإنسان، لما أثار انتباهه إلى ضرورة التذكر والتفكر والتدبر والاعتبار. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى: هب أنك ذهبت إلى محل للصوف لتشتري قماشاً متميزاً، فتجد البائع يفرد أمامك القماش، ويشده بيديه ليبين لك متانته، ثم يأخذ منه خيطاً ويحرقه ليبين لك أنه صوف خالص نقي، إن هذا البائع يحاول أن يشرح لك خبايا صناعة الصوف؛ لأنه واثق من جودة ما يبيع. هذا ما يحدث فيما بين البشر، فما بالنا حين يعرض خالق الكون على مخلوقاته أسرار الكون ويدعوهم عبر منهجه إلى التذكُّر والتعقُّل والتفكُّر والتدبُّر والاعتبار. والحق سبحانه يطلب منا ذلك ثقة منه في أن الإنسان منا، إن فعل ذلك؛ فسيصل إلى مراد الحق من الخلق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5717 وإياكم أن تظنوا أن الله خَلَق لكم، ثم خلق لكم، ثم أنزل لكم المنهج ليسعد حياتكم في الدنيا والآخرة، ثم اعتزلكم. لا، بل هو قيُّوم حياتكم ولا تأخذه سنةٌ ولا نوم، ولا يفلت منه شيء، ولا أحد بقادر علىأن يختلس منه شيئا. وفي الحديث القدسي: «يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم. وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فَلِم جعلتموني أهون الناظرين إليكم» . وأنت في الحياة اليومية تعرف أن أحداً لا يقترب من إنسان قوي منتبه. ويقول سبحانه بعد ذلك: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5718 وحين يقول سبحانه: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} فهذا إعلام لكل الخلق أن كل الأمور معلومة له سبحانه، فقد أنزل التكليف الذي قد يُطاع؛ وقد يُعصى. فمن أطاع يفرح بقوله سبحانه: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} ، ومن عصى يحزن؛ لأنه سيلقى عقاب العصاة حين يرجع إلى الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5718 ونجد القرآن يقول مرة: «يُرْجَعُون» ومرة يقول: «يَرْجِعون» ، فمن عمل صالحاً؛ فهو يفرح بالرجوع إلى الله، ومن عصى وكفر؛ فهو يحزن ويخاف ويتردد ويحاول ألا يرجع، لكنه يُرجَع رغم أنفه، والحق سبحانه يقول: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] وقوله سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ... } [يونس: 4] وسُمِّي هذا المرجع في نفس الآية: {وَعْدَ الله حَقّاً ... } [يونس: 4] ولقائل أن يقول: ولكن الوعد يطلق على الأمر الذي سيأتي بخير، فإن كان المرجع للطائع فهذا هو الخير، ولكن العاصي لن يرى في الرجوع خيراً، فلماذا لم يقل الله: إن المرجع للعاصي وعيد؟ وأقول: إن الحق سبحانه إنما ينبه الإنسان لما ينتظره في المستقبل، ويعظه، وترك له الاختيار، وهذا تقديم للخير، وهكذا تصبح المسألة كلها وعْداً. والصيغة التي يتقدم فيها المجرور رغم أن من حقه التأخير، فهي تعني تفرُّد المرجع، فكلنا نرجع إليه سبحانه، مثل قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ ... } [الفاتحة: 5] إذن: فالطائع يفرح بجزاء الله له، وعلى العاصي أن يراجع نفسه قبل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5719 أن يرجع إلى الله. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت تنبه التلاميذ إلى أن يذاكر طوال العام، فالذي يذاكر فعلاً، يفرح بالامتحان؛ لأنه سوف ينجح فيه، والذي لا يذاكر قد يراجع نفسه ويقبل على المذاكرة خوفاً من الرسوب، والتذكير لون من ألوان الإنذار؛ ليتهيب الموقف ويرتدع، وهكذا يصير التذكير وعداً لا وعيداً. ويضيف الحق سبحانه لوصف وعده بأنه حق، فيقول: {وَعْدَ الله حَقّاً} ولقائل أن يقول: أليس كل وعد من الله حقّاً؟ ونقول: نعم. كل وعد من الله هو حق، وشاء الحق سبحانه هنا أن يَصِفَ وعده بأنه حق ليذكرنا بان الحق هو الشيء الثابت؛ فإن خُيِّل إليك في بعض الأوقات أن الباطل هو السائد والسيد، فلتعلم أن الباطل لا ثبات له ولا سيادة. وسبحانه يقول: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17] فحين ينزل المطر نجد كل وادٍ يأخذ من الماء على قَدْر حاجته، وساعة ينزل المطر ويتجمع، نجد القشّ يطفو ومعه الحشائش والأشياء التي لا فائدة منها؛ لأن الماء في لحظة النزول إنما يُنظف المكان الذي ينزل عليه؛ لذلك تطفو الأشياء الخفيفة وغير المفيدة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5720 كذلك الباطل إنما يطفو على السطح لكنه لا يفيد ولا يزعزع الحق الذي يستقر وينفع الأرض والناس، وطفو الباطل إنما هو تنبيه لجنود الحق، والباطل مَثَلُه مَثَلُ الألم الذي ينبه للمرض، وأخطر الأمراض هو الذي لا ألم فيه، فيستفحل إلى الدرجة التي يصبح علاجه صعباً ومستحيلاً. إذن: فالألم كالباطل ينبه جنود الحق؛ ولذلك أنت تلحظ أنه إذا ما أهيج الإسلام من أي عدو، تجد الحماسة وقد دبَّتْ في الناس جميعاً، حركة وتعاوناً، ونسياناً للأحقاد؛ للدفاع عن الإسلام. وفي الأمراض التي تنتقل ببعض الفيروسات، نجد الأطباء وهم يُطَعِّمون الناس من نفس ميكروبات أو فيروسات المرض بجرعات ضعيفة لتستثير مقاومة الجسم، إذن: فالباطل جندي من جنود الحق، كما أن الألم جندي من جنود العافية. وإذا كان الحق هو القائل: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} فلا بد أنه الوعد الحق؛ لأنه سبحانه يملك ما يعد به، وسبحانه منزه عن الكذب وعن الخديعة؛ لأنه القائل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} [النساء: 122] ولأنه أقوى مما خلق؛ وممَّنْ خلق. ولا تخونه إمكاناته؛ لأنه يملك الكون كله. وكلمة «الرجوع» في قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} تفيد أن تكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5721 على شيء ثم تفارق هذا الشيء وبعد ذلك ترجع له، فهي وجود أولاً، ثم خروج عن الوجود، ثم عودة إلى الوجود الأول. فإذا كانت في مكان، ثم ذهبت إلى مكان آخر، وترجع إلى المكان الأول، فهذا هو الرجوع. والقول هنا يفيد أننا سنموت جميعاً، مصداقاً لقوله الحق: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26 - 27] وقد قال الكافرون ما ذكره القرآن: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3] . كأنهم قد استبعدوا فكرة البعث، وقالوا أيضاً: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... } [السجدة: 10] أي: أنهم تساءلوا: هل بعد الموت والدفن وتحلُّل الجثمان إلى عناصر تمتزج بعناصر الأرض، أبعد كل ذلك بعث ونشور؟ وجاء هنا قوله سبحانه: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} ليفيد أن الخروج إلى الوجود بالميلاد إلى الحياة، ثم بعد ذلك خروج على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5722 الحياة إلى مقابلها وهو الموت، ومن بعد ذلك البعث. وقد وقف الكافرون عند هذه النقطة واستبعدوها، فأراد الله أن يبيّن لنا هذه المسألة؛ لأنها تتمة التمسك بالمنهج، وكأنه يقول لنا: إياكم أن تظنوا أنكم أخذتم الحياة، وأفلتم بها وتمتعتم، ثم ينتهي الأمر؟ لا، إن هناك بعثاً وحساباً. لذلك قال: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً} [يونس: 4] فإن قال قائل: كيف يكون ذلك. يأتي القول الحق: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} فالذي قدر على أن يخلق من عدم؛ أيعجز أن يعيد من موجود؟ إنه الحق القائل: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] فإذا شاء أن يعيدكم فلا تتساءلوا كيف؟ لأن ذراتكم موجودة، والحق سبحانه يقول: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] هكذا يستدل الحق سبحانه بالخلق الأول على إمكان الخلق الثاني، فإن كنتم تتعجبون من أنكم تعودون بعد أن أوجد الحق أجزاءكم وذراتكم ومواصفاتكم؛ فانظروا إلى الخلق الأول؛ فقد خلقكم من لا شيء؛ أفيعجز أن يعيدكم من شيء؟ {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5723 وجاء الفلاسفة وأقاموا ضجة، فجاء الحق سبحانه وتعالى من الكون بالأدلة، وقال: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً ... } [الحج: 5] أي: أرضاً ميتة وليس فيها أي حياة. {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] إذن: فلا عجب أن تصدر حياة عن موت، وأنتم ترون ذلك كل ساعة. والحياة التي تراها أمامك ليست إلا دورة؛ لأن الله حين خلق الكون، خلق عناصره، ولا زيادة على هذه العناصر. وخذ مادة واحدة وهي المياه، فمنذ أن خلق الحق سبحانه المياه لم تزد ولم تنقص، ويشرب منها الإنسان والحيوان، ولو أخذ كل واحد في حياته أيّ قدر من المياه، تظل المياه كما هي؛ لأن هذا الإنسان يفرز ما شربه على هيئة عرق وإفرازات مختلفة، وكل ذلك يخرج منه، ويبقى ما يمثل وزنه. إذن: فما أخذته من المياه إنما يخرج منك مختلطاً بأشياء نتيجة التفاعل الذي يعطيك طاقة الحياة، وبعد ذلك يتبخر الماء، وعملية التبخير هي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5724 تقطير للماء، فأنت إذا أردت تقطير المياه تسخنها إلى درجة الغليان فتتحول بعد ذلك إلى بخار، ثم تكثفها لتعود مياهاً من جديد. إذن: فالماء له دورة، نروي منه الزرع؛ فيأخذ المائية ويصير أخضر اللون، ويخرج منه الماء الزائد عن حاجته في عملية النتح، ثم يجف، بعد أن تخرج منه المياه بالتبخر، وكل ذلك دون أن يشعر أحد بحكاية التبخير هذه. وأنت حين تُحضِّر كوباً من الماء المقطر في الصيدلية، تتكلف كثيراً، وتحتاج موقداً وإناءً وأنابيب، ثم إلى مياه أخرى باردة لتكثف البخار، ولكن هذه مسألة تحدث في الكون ملايين المرات، ولا يدري بها أحد. وبعد أن تتبخر المياه تصير سحاباً، ثم ينهمر المطر وهو مياه مقطّرة. ولذلك تجد أن مساحة رقعة الماء ثلاثة أرباع الأرض لتخدم الربع الباقي (اليابسة) ؛ لأن الله يريد اتساع سطح الأرض، وهذا الاتساع هو الذي يساعد على التقطير والتبخير والتكثيف. مثلما تجيء أنت بكوب ماء، وتضعه في حجرة، ثم تغيب شهراً عن الحجرة، فعند عودتك إيها قد تجد الكوب نقص ما مقداره نصف سنتيمتر تقريباً، لكنك إن أخذت كوب الماء نفسه وألقيت ما فيه من ماء ليسيح على أرض الغرفة، فستجد أن الأرض جفت خلال ساعات قليلة، وهكذا نجد ان اتساع الرقعة إنما يساعد على سرعة البخر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5725 إذن: الكمية التي خلقها الله من المياه كما هي، لم تَزدْ ولم تنقص، تدور الدورة التي شاءها الحق، وهكذا نرى أن الشيء يعود إلى أصله مرة أخرى، ويمكن أن نرى ذلك في كل أوجه الحياة، والحق سبحانه يقول: {والذاريات ذَرْواً فالحاملات وِقْراً فالجاريات يُسْراً فالمقسمات أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات: 1 - 5] يقسم الحق سبحانه هنا بالرياح التي تحمل السحاب، وتمطر كل سحابة على الموقع المحدَّد لها بأمر من الله، ويلفتنا الحق سبحانه هنا إلى دورة الماء، الذي هو قوام الحياة، بان الوعد منه سبحانه يتحقق حتماً. تأمّل الوردة، تجد لها نعومة ونضارة؛ لأن فيها شيئاً كثيراً من المائية، ولها لون جميل ورائحة ذكية تفوح، فإذا قطفتها تتساقط أوراقها وتجف؛ لأن ما فيها من المائية يتبخر؛ فما أخذته الوردة من الماء عاد إلى مخزنه مرة أخرى، وكذلك الرائحة تظل في أرواقها الذابلة إلى أن تنتهي، وكذلك اللون، ثم تخرج وردة جديدة. إذن: حياة كل كائن في الوجود والعالم في حركته ناشئة عن هذه الدورة، فإذا كانت مائية حياتكم تدور؛ أتستبعد أن تدور أنت بمكنوناتك؟ هَبْ أن إنساناً وُجد ومات؛ بخروج الروح من الجسد ويُواري الجثمان ويتبخر ما فيه من ماء، وتتحلل مواد الجثمان مع عناصر الأرض الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5726 لتصير تراباً، فهل يعجز الحق أن يعيد إلى الوجود أبعاض هذا الإنسان؟ طبعاً لا يمكن أن يعجز. الحياة - إذن - احتكاك هذه الدورات لتلك العناصر، فلم يزد شيء عليها، ولم ينقص منها شيء. واقرأ القرآن بتبصر تجد قوله الحق: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] وهكذا يبيِّن لنا الحق أن العناصر كلها موجودة في الكون، قد تزيد في مخلوق عن الآخر، لكن المجموع الكلي لكل العناصر ثابت، وإذا كان العلم قد توصل إلى أن هناك ستة عشر عنصراً تكوِّن الكائنات، فهذه العناصر ثابتة الكمية، وإن اكتشفوا زيادة في عددها، فالزيادة في عدد العناصر ستكون أيضاً ثابتة الكَمِّ لكل عنصر. وقال العلماء: إن الستة عشر عنصراً هي: الأوكسوجين، والكربون، والهيدروجين، والنتروجين، والمغنيسيوم، والبوتاسيوم، والصوديوم، وغيرها. كل هذه العناصر تعود إلى أصلها بعد أن تموت الكائنات وتتحلل. هكذا يصدق قول الحق: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] وقد حاول بعض الفلاسفة أن يعترضوا اعتراضاً ثانياً وقالوا: هي أن إنساناً مات، ثم تحللت عناصره في الأرض. ألا تذهب عناصره إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5727 كائنات أخرى، مثل شجرة أنتجت ثمرة أو غير ذلك، ثم أكلها إنسان آخر، فدخلت في أجزائه، إذن: فمن مات ونشأت على أنقاضه ثمرة، أو غير ذلك، ودخلت المكونات في إنسان آخر، فكيف يبعث الله كلَّ إنسان من جديد؟ ونقول: أنت عرفت شيئاً، وغابت عنك أشياء. انظر مثلاً إلى السِّمنة والنحافة كظاهرة موجودة في الناس وتراها كل يوم، ومعنى السمنة أن كمية من مادة معينة تزيد في الإنسان السمين أكثر من مادة الإنسان الآخر النحيف. وقد يطرأ على السمين ما يجعله نحيفاً أو العكس. فهل هذا يغيِّر من شخصيته؟ طبعاً لا، وهكذا نجد فارقاً بين المشخصات وبين تكوين المشخصات من العناصر. وما دام الحق سبحانه قد أعلمنا أنه لا شيء ينقص من الأرض إلا بمقدار مكونات الكائنات الموجودة عليها، فالعناصر التي في الأرض تكفي كل الكائنات، ويوزعها سبحانه بالنسب اللازمة، وأنت إن جمعت هذه العناصر فستجدها ثابتة الكم وإن اختلفت في كيفية تكوين الكائنات. مثال ذلك: أنك تجد إنساناً وزنه مائة كيلو جرام، ويمرض؛ فيهزل وينقص وزنه إلى سبعين كيلو جراما، ومعنى ذلك أن الثلاثين كيلو جراما الأخرى ذهبت إلى الأرض، فلكل جسم قاعدة يقف عندها الوزن إلى سن معينة، وتُعتبر هذه هي القاعدة التي يزيد فوقها الوزن، أو يقل عنها حسب ظروف التغذية والصحة. وأنت ترى الطفل يفرز أقل مما يتناول من الغذاء؛ حتى ينمو، ولو كان يُخرج إفرازات تساوي - في الكمية - ما يأكل ويشرب لَمَا كبر. ومن بعد ذلك يكبر إلى أن يصل إلى وزن ثابت تقريباً، فتخرج منه إفرازات تساوي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5728 ما يدخل إليه، ثم تأتي الشيخوخة فيخف الوزن، وهذا يعني أن ما يخرج منه أكثر مما يدخل إليه؛ فتنشأ النحافة. وهَبْ أن طبيباً حاذقاً استطاع أن يعلم الداء الذي يسبب إصابة مريض ما بالهزال، وأعطاه من الدواء ما جعله يسترد عافيته، ومعها ما فُقد من الوزن، وتتحسن تغذية هذا المريض أثناء فترة العلاج، فهل تتغير شخصية هذا المريض؟ طبعاً لا؛ لأن ما خرج منه أثناء الهزال ذهب إلى الأرض، ثم استرد مثله من الأغذية أثناء الشفاء. إذن: فلا تقل: إن هناك شيئاً نقص، فعند الله كتاب حفيظ فيه مكونات كل الكون، ويأتي بعناصر معينة، ويأمرها ب «كن» فتكون إنساناً، أو تكون كائناً آخر حسب مشيئة الله سبحانه. وإذا كنا نتحدث الآن كيميائياً فنحن نتكلم بذلك؛ ليثبت عقديّياً وعقليّاً؛ لأننا آمنا بأن هناك منهجاً من المكلِّف، والمنهج عُرْضة لأن يطاع أو يعصى، ومَنْ يُطع الله في المنهج، فهو يحدد حريته، والذي لم يُطع الله واستسلم للضياع فهو الخاسر؛ لأن منطق العقل يؤكد أن من يأخذ المنهج ويلتزم به ويكبح شهواته؛ لا يمكن أن يستوي مع من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5729 عبث، ولا بد أن يفترض منطق العقل أن يوجد بعث يجازي بالطيبات مَنْ سار على المنهج، ويعاقب مَنْ خرج على المنهج. وما دام قد وجد إله، ووجد بلاغ عن الله بواسطة الرسل، ووجد تكليف ب «افعل» و «لا تفعل» ، ووجدت طاعة للتكليف، ومعصية للتكليف، إذن: لا بد بعد هذه الحياة من بعث، ويأخذ من أحسَنَ جزاءه، وينال مَنْ أساء عقابه؛ ولذلك قال الحق: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط. . .} [يونس: 4] جاء هذا القول مطمئناً الملتزمين بالمنهج بأن هناك بعثاً وحساباً؛ لأن المؤمن المطيع لا بد أن ينال حسن الثواب، وأن ينال العاصي الشرير الذي شقيت الدنيا كلها بعصيانه العقاب، ولذلك لا بد من الإعادة؛ ليجزي الله كل واحد بعمله بالقسط. والقسط - كما أوضحنا من قبل - معناه العدل، والمادة هي القاف والسين والطاء. ننطقها مرة «القسط» بكسر القاف. وننطقها مرة أخرى «القسط» بفتح القاف والقسط «بالكسر» هو العدل؛ والقسط «بالفتح» هو الظلم، ولذلك نجد قوله الحق: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5730 {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] والمقصود بالقاسطين: الجائرون على حقوق غيرهم. ونجد قوله الحق: {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] والمقْسِطون: هم العادلون بين الناس. إذن: فهناك «قِسْط» و «قَسْط» ، وهناك شيء اسمه «قَسَط» بالفتحتين وهو الانحراف في الرِّجلين. إلا أن المستعمل في كلمة «قِسْط» هنا مقصود به العدل، واسم الفاعل منها «قاسط» واستعملت في الجوْر. وهي مأخوذة من القَسْط لا من القِسْط، وتجد من أسماء الله «المُقْسِط» ، ولم يصف نفسه بالقاسط بمعنى العادل، أي: ابتدأ بالعدل أولاً، وشاء سبحانه فوصف نفسه بالمُقْسِط، لأنه هو الذي يرفع الجور فيحقق العدل. وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق سبحانه: {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} أي: جزاء منه بالعدل، وأيضاً يمكن أن نقول: إنه سبحانه يجزيهم؛ لأنهم عدلوا في العقيدة؛ لأن القرآن الحكيم - كما نعلم - جاء حاكماً وفيصلاً بين قضايا العقائد وقضايا الاختيار في الأفعال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5731 وقضايا الأخلاق، وهؤلاء قد أخذوا المنهج بدون ظلم لله فلك يشركوا به أحداً، والحق سبحانه هو القائل: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] إذن: فهم بعدلهم وبقسطهم في أمر العقيدة وأنهم لم يرتكبوا إثم الشرك الذي هو ظلم عظيم؛ وبذلك لم يظلموا أنفسهم أيضاً، ولم يأخذ واحد منهم لنفسه متعة عاجلة؛ لذلك أنقذهم الله من الشقاء الأبدي الطويل، وهم لم يظلموا الناس. ولكل ما تقدم لا بد أن يجزيهم الله على العمل الصالح بسبب عدلهم وقسطهم. وقد يقال: إن الجزاء بالقسط لا زيادة فيه ولا نقصان، فإذا كان الجزاء من الله، فالعدل على مقتضى التشريع أن تكون الحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف سبحانه لمن شاء، هذا هو عدل الله بالتشريع. أو أن الجزاء يُعطى بلا زيادة ولا نقصان جزاء العدل، ولكن ذلك لم يحدد الفضل في هذه الآية. ولذلك حدث إشكال بين علماء الكلام في قول الله سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5732 {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] فقال بعضهم: إذا كان الإنسان لا يأخذ إلا جزاء ما سعى، فكيف يُجزى جزاء على الحسنة بعشر أمثالها؟ وكذلك ماذا عن صلاة الجنازة؟ وهل ينتفع بها الميت حين ندعو له بالمغفرة؟ وإن كان الإنسان لا يأخذ إلا ما سعى فلن ينتفع بها الميت، فلماذا كلفنا الحق سبحانه بصلاة الجنازة كفرض كفاية، لا فرض عين؟ ونقول: إن وجود اللام في قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ} يفيد الملْك، أي: الحق، والآية تعطي الحق ولكنها لم تمنع الفضل، أو نقول: هل نصلي على كل ميت؟ نحن نصلي على الميت المؤمن، والإيمان من عمله، وهو يُجَازي بصلاتنا عليه، أي: جزاء عمله. ويقول سبحانه: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} وهكذا نعرف أن العذاب الأليم قد جاء لهم بسبب الكفر، مثلما يجيء الجزاء على الأعمال الصالحة للمقابل لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح. إذن: فالقسط هنا تعود على قسط الله، وهو العدل، وكذلك قسطهم هم؛ لأنهم حكموا في الربوبية بالعدل. أما الكافرون، فالعدل معهم أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5733 يذيقهم الله شراباً من حميم بما كانوا يكفرون، وهذا ما يرجح أن القسط هنا هو قسطهم هم. وكلمة {حَمِيمٍ} مأخوذة من مادة «الحاء» و «الميم» و «الميم» وهي مادة كل موارد معانيها فيها الحرارة والسخونة. والحق سبحانه يقول في آية أخرى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه ... } [الكهف: 29] و {كالمهل} أي: أنه يغلي، وحين تكون المادة من غير الماء، فدرجة حرارتها أثناء الغليان تكون أعلى من درجة حرارة غليان الماء؛ فالنحاس مثلاً حين يغلي تكون درجته أعلى من درجة غليان الماء، وكذلك الحديد والذهب وغيرها، وسبحانه يقول: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم كالمهل يَغْلِي فِي البطون كَغَلْيِ الحميم} [الدخان: 43 - 46] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5734 إذن: فدرجة غليان المهل أعلى من درجة غليان الماء، والمادة كلها تفيد الحرارة. وإن نظرنا إلى كلمة «حمّام» و «استحم» ، فهي تعني أن الماء حين ينزل على البدم يكون له ثلاث صور: الصورة الأولى مسح، والصورة الثانية غسل، والصورة الثالثة استحمام. والمسح أن تبل الشيء بالماء بدون أن يقطر منه شيء، والغسل أن تُسَيِّل الماء من الجسد المغسول، والاستحمام أيضاً فيه سيولة للماء. والغسل للتطهير، لكن الاستحمام للتنظيف، فإن أحدثت فأنت تقوم لتتوضأ. {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ ... } [المائدة: 6] تنفيذاً لأمر الله وهو غسل التطهير، ويقوم مقامه التراب في حالة عدم وجود الماء وهو التيمم. أما إذا كانت المسألة تنظيفاً فهي تحتاج إلى الاستحمام؛ لأن مسام الإنسان لها إفرازات قد تكون دهنية، وبعد ذلك تطرأ عليها أتربة تسدها، وهذه المسام أبعاض من الإنسان وأبعاض من تراب طاهر جاء على الجسم، وهي لا تنسجه، فإن اغتسلت فيكفي أن تصب الماء على الجسم، ولو بقي بعض من ذرات التراب على البدن فهذا لا يمنع الطهارة، لكن حين يستحم الإنسان فهو يأتي بماء حار؛ ليذيب القذارة وينقّي المسام، وتخرج بعض الأتربة ومعها الخلايا الجلدية الميتة وكأنها خيوط رفيعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5735 إذن: هناك فرق بين الغَسْل وهو للتطهير؛ وبين الاستحمام الذي هو للنظافة. ونأخذ منه الحمام، إذن: مادة الحاء والميم والميم فيها الحرارة وفيها السخونة. ويقول الحق هنا: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} ، وكلمة {شَرَابٌ} تفيد الارتواء، فلماذا جاء بها الله هنا؟ إنها تصعيد للعذاب؛ لأن الإنسان يرغب في الشراب ليرطِّب جوفه، فإذا ألهبه ما يشرب، فهذا أكثر إيلاماً مثل قوله تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب ... } [الكهف: 29] وحين تسمع هذه الآية تجد انبساط الأمل في صدر الآية {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} وهم يستشرفون للنجاة، ثم يأتيهم غوث من لون يناسب ما اقترفوه من ذنوب {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل} . إذن: ف {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي: بسبب كفرهم. وعرفنا أنهم كفروا بالقضايا العقدية. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5736 {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ... } الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5737 وبعد أن بيَّن الحق أنه خلق السماء والأرض وخلق الكون كله وسخره للإنسان جاء لنا بنعم من آياته التي خلقها لنا، والتي جعلها الله سبحانه وتعالى سبباً لقوام الحياة؛ فالشمس هي التي تُنضج لنا كل شيء في الوجود، وتعطي لكل كائن الإشعاع الخاص به، كما أن الشمس تبخر المياه - كما قلنا من قبل - لينزل الماء بعد ذلك عذباً فراتاً، يرتوي منه الإنسان وتشرب منه الأنعام ونروي به الزرع. والشمس هي الأم لمجموعة من الكواكب التي تدور حولها، فدورة الأرض حول الشمس تمثل السنة، ودورة الأرض حول نفسها تمثل اليوم. فيقول الحق سبحانه هنا: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} ولو نظرت إلى المعنى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5737 السطحي في الشمس والقمر لقلت: إن الشمس تعطي نوراً وكذلك القمر، ولكن النظرة الأعمق تتطلب منك أن تفرِّق بين الاثنين؛ فالشمس تعطي ضياء، والقمر يعطي نوراً. والفرق بين الضياء والنور يتمثل في أن الضياء تصحبه الحرارة والدفء، والنور إنارة حليمة، ولذلك يسمى نور القمر النور الحليم؛ فلا تحتاج إلى الظل لتستظل من حرارته، لكن الشمس تحتاج إلى مظلة لتقيك حرارتها. إذن: فالنور هو ضوء ليس فيه حرارة، والحرارة لا تنشأ إلا حين يكون الضوء ذاتيّاً من المضيء مثل الشمس. أما القمر فضوؤه غير ذاتي ويكتسب ضوءه من أشعة الشمس حين تنعكس عليه، فهو مثل المرآة حين تسلط عليها بعضاً من الضوء فهي تعكسه. إذن: القمر مضيء بغيره، أما الشمس فهي تضيء بذاتها. لذلك قال الحق هنا: {جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} . وكلمة {ضِيَآءً} إما أن تعتبرها مفرداً مثل صام صياماً، وقام قياماً، وضاء ضياءً. وإما أن تعتبرها جمعاً، مثلها مثل حوض جمعه: حياض، ومثل روض جمعه رياض، وكذلك جمع ضوء هو ضياء. إذن كلمة {ضِيَآءً} تصلح أن تكون جمعاً وتصلح أن تكون مفرداً، وحين يجيء اللفظ صالحاً للجمع وللإفراد، لا بد أن يكون له عند البليغ ملحظ؛ لأنه يحتمل هذه المعاني كلها، وقبل معرفتنا أسرار ضوء الشمس وقبل تحليله، كنا نقول: إنه ضوء، لكن بعد أن حللنا ضوء الشمس، وجدنا أن ألوان الطيف سبعة منها ضوء أحمر، وضوء أخضر، وضوء أصفر، وغيرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5738 إذن: ف «ضياء» تعبر عن تعدد الألوان المخزونة في ضياء الشمس، فإن قلت: ضياء جمع ضوء، فهذا بتحليل الضوء إلى عناصره كلها، وإن قلت: ضياء مثل قيام، ومثل صيام، فهذا يصلح في المعنى العام. ولذلك كان القرآن ينزل بما تحتمله العقول المعاصرة لتزوله التي لا تعرف المعاني العلمية للظواهر. ولو قال القرآن هذه الحقائق، لقال واحد: إنني أرى الشمس حمراء لحظة الغروب، وأراها صفراء لحظة الظهيرة، وهو لا يعلم أن الحمرة وقت الغروب هي حمرة في الرؤية لطول الأشعة الحمراء، وهي لا تظهر إلى حين الغروب حيث تكون الشمس في أبعد نقطة، فلا يصل إلينا إلا الضوء الأحمر، أما بقية الأضواء فهي تشع في الكون ولا تصل إلينا. إذن: كلمة {ضِيَآءً} ، إما أن تعتبرها جمع ضوء، مثل سوط وسياط، وحوض وحياض، وروض ورياض، وإما أن تعتبرها مفردة. هذه صالحة للمعنى لعام، وتلك صالحة للمعنى التحليلي؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61] والسراج هو ما يعطي الضوء والحرارة، وهو وصف مناسب للشمس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5739 وهنا يقول الحق: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} ، وكلمة {وَقَدَّرَهُ} تعود في ظاهر الأمر إلى القمر. لكن في الواقع أن الشمس لها منازل أيضاً، وقال الحق: {وَقَدَّرَهُ} لأن هناك شيئاً اسمه «الجعل» ، فهو سبحانه جعل الشمس ضياء، وجعل القمر نوراً. إذن: فالجَعْل جاء بأمرين اثنين؛ جعل للشمس ضياء وجعل للقمر نوراً، هذا الجعل نفسه جعله الله لنقدر به الزمن، فهو صالح للاثنين؛ للشمس وللقمر؛ لنعلم عدد السنين والحساب. وفي العبادات نحتاج إلى تحديد بداية شهر رمضان؛ لنمارس عبادة الصوم، ونحتاج إلى تحديد أشهر الحج، وكذلك تحتاج المرأة مثلاً إلى حساب شهور العدة، وكل هذه التقديرات تخضع للهلال، فهو علامة واضحة للكل، فهو يبدأ صغيراً ويكبر ثم يصغر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5740 {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم} [يس: 39] و «العرجون» هو ما نسميه «السباطة» التي تحمل «شماريخ» البلح، وكانوا يصنعون منها قديماً المكانس التي يكنسون بها بيوت البادية والريف، وهكذا أعطانا الله تشبيهاً من البيئة التي عاش فيها العربي القديم. وفي أول شهر كلنا نرى الهلال كعلامة مخبرة عن ميلاد الشهر، وهكذا تعلَّم الإنسان أن يحسب الشهور بتقدير منازل القمر، وبالنسبة للسنة؛ فالحق سبحانه يقول: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض ... } [التوبة: 36] والتقدير هنا اثنا عشر شهراً هلاليّاً. أما اليوم فيقدر بالشمس؛ لذلك فهي تدخل في تقدير المنازل. وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد شاء أن يجعل «الجعل» لأمرين؛ مجعول الشمس، ومجعول القمر، مصداقاً لقوله: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} . والحق - كما أوضحنا - هو الشيء الثابت الذي لا يتغير. وحين نتأمل مسار الأفلاك، ومسار الشمس، ومسار القمر، لا نجد فيها خلافاً، بل نجد مراصد الكفار تعلن مواعيد تواجد القمر بين الأرض والشمس، وقد توجد الأرض بين القمر والشمس، ويتسبب هذا في ظاهرتي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5741 الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، وكل هذه الأمور تجدها عندهم غاية في الدقة. {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] وهذا القول الحكيم قد أثبت للعرب حكماً يعتقدونه، ونفى حكماً آخر يعتقدونه، فالعرب كانت تعتقد أن الليل قبل النهار، بدليل أن تحديد الليلة الأولى في رمضان هو الميعاد الذي يبدأ فيه شهر الصوم، وما داموا قد حكموا بأن الليل هو الذي يسبق النهار، فلا بد من حكم مقابل؛ وهو أن النهار لا يسبق الليل. وجاء القرآن إلى القضية المتفق عليها وتركها، وهي أن النهار لا يسبق الليل مثلما اعتقد العرب، ونفي القرآن أن يسبق الليل النهار. وكان المخاطب - إذن - يعتقد أن الليل يسبق النهار، ويصحح الله المفاهيم فلا الليل يسبق النهار ولا النهار يسبق الليل. وهكذا عرض الحق سبحانه للكونيات عرضاً رمزيّاً في القرآن؛ لأنه لو جاء بالتوضيح العلمي لذلك لكَذَّب العرب القرآن، فلو قال القرآن بصريح العبارة: إن الأرض كروية، لعارض الناس ذلك وقت نزول القرآن، وما زلنا نجد من يعارض تلك الحقيقة في أواخر القرن العشرين؛ لذلك لم يكشف الحق كل الحقائق الكونية، بل أشار إليها بما يحتمل قبول العربي البسيط لها. وما دام لا يسبق النهار، والنهار لا يسبق الليل، فكيف جاء هذا الأمر - إذن؟ ونقول: هل خلق الله الشمسَ مواجهة لسطح الأرض أولاً، ثم الشمس فجاء الليل؟ كان الأمر يصح لو أن الأرض كانت مسطوحة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5742 ولكن الحق سبحانه خلق الأرض كروية، وذلك دليل على أن الحق سبحانه خلق الشمس والأرض على هيئة يوجد فيها الليل والنهار معاً، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأرض كروية، فالنصف المواجه للشمس يكون الوقت فيه نهاراً، وغير المواجه لها يكون الوقت فيه ليلاً، ثم تدور الأرض؛ فيأتي النهار إلى القسم الذي كان ليلاً، ويأتي الليل للقسم الذي كان نهاراً. إذن: فالحق سبحانه حكى في القرآن الكريم عن الأمور الكونية - التي سوف تستكشفها العقول بعد نزول القرآن - وعالجها بحكمة ودقة، وعلى سبيل المثال نجد قوله الحق: {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً ... } [الفرقان: 62] . ثم يأتي التعليل: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] . فالليل خلْفة النهار، ومعنى خلفه أي: يخلف غيره. والمثال من حياتنا نجده في دوريات الحراسة، نجد إنساناً يحرس موقعاً ما - مدّة ست ساعات مثلاً - وبعد انتهاء فترة الحراسة يسلم المهمة لحارس ثان، وبذلك يخلف واحدٌ الآخر، لكن من الذي بدأ المهمة الأولى في الحراسة قبل أن يأتي إنسان ليتسلم منه دورية الحراسة؟ وكذلك الأمر في الليل والنهار، فبيّن الحق سبحانه أن الليل والنهار خلْفة، ومعنى ذلك أن كلا منهما كان موجوداً من البدء ولأن الأرض تدور جَاء النهار في البلاد التي تشرق فيها الشمس، وجاء الليل في البلاد التي تغيب عنها الشمس، وتتابع الليل والنهار. هكذا فَصَّل الحق سبحانه آياته الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5743 لنا، وقال سبحانه: {يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . ويقول سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ فِي اختلاف اليل ... } . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5744 وهكذا بينّ الحق اختلاف الليل عن النهار مما يؤكد أنهما وجدا معاً، وعطف عليها {وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} ؛ لأنه سبحانه خلق الكون بما فيه من مقومات حياة من مأكل ومشرب وهواء، وغير ذلك، ثم سخَّر الكون كله؛ لخدمة السيد وهو الإنسان. ولو نظرتَ إلى مقومات الحياة لوجدت فيها احتياجات أساسية تتمثل في نفس هواء، وشراب ماء، وطعام؛ هذه أهم احتياجات الإنسان من مقومات الحياة. ويصبر الإنسان على المأكل أكثر مما يصبر على المشرب، ويصبر على المشرب أكثر مما يصبر على نَفَس الهواء، بل ولا يملك الإنسان الصبر على نَفَس الهواء مقدار شهيق وزفير. لذلك شاء الحق أن يملك قومٌ طعام غيرهم، لأن الجسم يمكنه أن يصبر على الطعام لمدة قد تصل إلى الشهر ويعتمد في ذلك على إذابة الدهن المتراكم بداخله، عكس ما اخترع البشر من آلات، فالسيارة لا يمكن أن تسير لمتر واحد دون وقود، أما الجسم فيتحمل لعل مَنْ يملك الطعام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5744 يخفف من القيود، أو لعل الإنسان الجائع يجد طريقه لينال ما يقتات به. أما الماء فقد شاء الحق أن يقلل من احتكار البشر له؛ لأن الإنسان أكثر احتياجاً للماء من الطعام. أما الهواء فسبحانه وتعالى لم يُملِّك الهواء لأحد؛ لأن الهواء هو العنصر الأساسي للحياة؛ ولذلك اشتق منه لفظ النّفس، ونَفْس ونَفَس. ولو نظرتَ إلى الهواء في الوجود كله لوجدته عامل صيانة لكل الوجود من ثبات الأرض، إلى ثبات المباني التي عليها، إلى ثبات الأبراج، إلى ثبات الجبال، كل ذلك بفعل الهواء؛ لأن تياراته التي تحيط بجوانب كل الأشياء هي التي تثّبتها، وإنْ تخلخل الهواء في أي ناحية حول تلك المباني والجبال فهي تنهدم على الفور. إذن: الهواء هو الذي يحفظ التوازن في الكون كله. ولذلك قلنا: إنك لو استعرضتَ ألفاظ القرآن لوجدت أن الحق سبحانه حينما يتكلم عن تصريف الرياح، فهو سبحانه يتكلم بدقَّةِ خالقٍ، بدقة إله حكيمٍ، فهو يرسل من الرياح ما فيه الرحمة، مثل قوله الحق: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ ... } [الحجر: 22] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5745 لكن إذا جاء بذكر ريح ففي ذلك العقاب، مثل قوله: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] . ومثل قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين} [الأحقاف: 25] . لأن الرياح تأتي من كل ناحية، فتوازن الكائنات، أما الريح فهي تأتي من ناحية واحدة فتدهم ما في طريقها. وهنا يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} أي: أنه جاء بالمخلوقات الأخرى مجملة بعد أن جاء بذكر الشمس والقمر كآيتين منفصلتين، ثم ذكر السماوات والأرض وما فيهما من آيات أخرى: من رعد، وبرق، وسحاب، ونجوم وعناصر في الكون، كل ذلك مجمل في قوله: {وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} ؛ لأنه لو أراد أن يفصِّل لَذَكَرَ كثيراً من الآيات والنعم، وهو القائل: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا ... } [إبراهيم: 34] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5746 والقرآن ليس كتاباً لبسط المسائل كلها، بل هو كتاب منهج، ومن العجيب أنه جاء ب «إن» وهي التي تفيد الشك في قوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} ؛ لأن أحداً مهما أوتي من العلم ليس بقادر أن يُحصي نعمَ الله في الكون؛ ولأن الإقبال على العَدّ فرض إمكان الحصر، ولا يوجد إمكان لذلك الحصر؛ لذلك لم يأت ب «إذا» ، بل جاء ب «إنْ» وهي في مقام الشك. والأعجب من هذا أنك تجد أن العَدَّ يقتضي التكرار، ولم يقل الله سبحانه: وإن تعدوا نعم الله، بل جاء ب «نعمة» واحدة، وإذا استقصيتَ ما في النعمة لوجدتَ فيها آلاف النعم التي لا تُحصَى. ويُنهي الحق الآية بقوله: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} ، والآيات تطلق ثلاث إطلاقات: الإطلاق الأول آيات القرآن، والإطلاق الثاني على المعجزة الدالة على صدق الرسول، والإطلاق الثالث للآية أنها تحمل عجيبة من عجائب الكون الواضحة في الوجود الدالة على عظمة الله سبحانه. وهذه الآيات خلقها الله لتُلْفت إلى مُكَوِّن هذه الآيات، واللفتة إلى مُكوِّن هذه الآيات ضرورة لينشأ الإنسان في انسجام مع الكون الذي أنشيء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5747 من أجله، بحيث لا يأتي له بعد ذلك ما ينغّص هذا الانسجام، فهبْ أن إنساناً ارتاح في حياته الدنيا ثم استقبل الآخرة بشقاء وجحيم، فما الذي استفاده من ذلك؟ إذن: كل المسائل التي تنتهي إلى زوال لا يمكن أن تُعتبر نعمة دائمة؛ لأن النعمة تعني أن تتنعم بها تنعُّماً يعطيك يقيناً أنها لا تفارقك وأنت لا تفارقها، والدنيا في أطول أعمارها؛ إما أن تفوت النعمةُ فيها الإنسان، وإما أن يفوت هو النعمة. والحق - سبحانه وتعالى - يبقى الذين يريدون أن يتقوا الله؛ ليصلوا إلى نعيم لا يفوت ولا يُفَات، ويجب أن ينظروا في آيات الكون؛ لأنهم حين ينظرون في آيات الكون بإمعان يكونون قد أفادو فائدتين: الفائدة الأولى أن يفيدوا مما خلق الله، والفائدة الثانية أن يعتبروا بأن هذا الكون الذي خلقه الله إنما جعله وسيلة ومَعْبراً إلى غيره، فقد خلق فيه الخلق ليعيش بالأسباب، لكنه يريد أن يُسْلمه بعد ذلك إلى حياة يعيش فيها بالمسبِّب وهو الله. فالذين يتقون هم الذين يلتفتون، والذين لا يتقون لا يعتبرون بالنظر في الكون وتمر على الإنسان منهم الأشياء فلا يعتبرون بها، كما قال الله: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] . إذن: فهم لا يلتفتون إلى ما في آيات الحق من الآيات الدالة على عظمة قدرة الله سبحانه؛ فهم غير حريصين على أن يَقُوا أنفسهم عذاب الآخرة. ويقول الحق بعد ذلك: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5748 {إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ... } . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5749 والرجاء هو طلب شيء محبوب متوقع، والتمنى طلب شيء محبوب إلا أنه غير ممكن الحدوث، ولكن تعلن بتمنّيك أنه أمر تحبه، مثل من قال: ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً ... فأخبِرَهُ بما فَعَلَ المَشِيبُ هو بهذا القول يبين أن الشباب أمر محبوب ومرغوب. لكن هل يتأتى هذا؟ طبعاً لا. إذن: التمني هو طلب شيء محبوب لا يمكن أن يقع؛ ومثل قول الشاعر: ليتَ الكواكبَ تَدْنُو لي فَأْنْظِمَها ... عُقُودَ مَدْحٍ فما أرضَي لكُم كَلِمِي وهذا غير ممكن. أما الرجاء فهو أن تطلب شيئاً محبوباً من الممكن أن يقع. وهنا يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} ، فلماذا لا يرجون لقاء الله؟ لأن الذي يرجو لقاء الله هو من أعد نفسه لهذا اللقاء؛ ليستقبل ثواب الله، لكن الذي لم يفعل أشياء تؤهله إلى ثواب الله، وعمل أشياء تؤهله إلى عقاب الله؛ فكيف له أن يرجو لقاء الله؟ إنه لا يرجو ذلك. وعلى سبيل المثال: إن الرجل الذي يستشهد ويقدم نفسه للشهادة، ونفسه هي أعز شيء عنده، إنما يفعل ذلك لوثوقه بأن ما يستقبله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5749 بالاستشهاد خير مما يتركه من الحياة. إذن: فالذي يرجو لقاء الله هو الذي يُعدُّ نفسه لهذا اللقاء؛ بأن يتقي الله في أوامره، ويتقي الله في نواهيه؛ ولذلك تمر على الإنسان أحداث شَتّى؛ وهي في مقاييس اليقين بين أمرين اثنين: حسنات وسيئات، وكل واحد يعلم أية حسنات قد فعل، وأية سيئات قد اقترف، ولا يغشُّ أحد نفسه، فإذا ما كان حيّاً فقد يجعله الأمل يكذّب نفسه، ولا يرى إلا ما فات من المغريات. أما إذا جاء لحظة الغرغرة في الموت، فهو يستعرض كل صفحته. فإن كانت حسنة استبشر وجهه، وإن كانت سيئة اكفهرَّ وجهه، ولذلك يقال: «فلان كانت خاتمته سيئة، وفلان كانت خاتمته متهللة» . وهذا كلام صحيح؛ لأن الروح ساعة أن تُقبض فهي تترك الجسم على ما هو عليه ساعة فراقها، فإن كان ضاحكاً ومستبشراً، فقد رأى بعضاً مما ينتظره من خير. والإنسان وقت الغرغرة لا يكذب على نفسه، فهو ساعة يمرض بمرض فهو يأمل في العافية، فإذا أتى وقت انتهاء تُعْرَضُ عليه أعماله عَرْضاً سريعاً، فإن كانت الأعمال حسنة تنفرج أساريره؛ لأنه يستشرف ما سوف يلقاه من جزاء. وهذا مثل التلميذ حين يكون مُجِدّاً ومجتهداً ثم يقولون له: هناك من جاء لك بالنتيجة؛ فيجري عليه مطمئناً. وإن كان غير مُجِدٍّ؛ لم يجب، ويخاف من لقاء مَنْ يحمل النتيجة. كذلك الذين يرجون لقاء الله؛ عملوا استعداداً لهذا اللقاء وينتظرون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5750 الجزاء من الله، أما من لم يعملوا فهم يخافون من لقاء الله ولا يرجونه وسبب ذلك أنهم لم يعملوا للآخرة {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا} وكأنهم قد اكتفوا بها ولم يرغبوا في الآخرة. وقد سمى الله هذه الدار اسماً كان يجب بمجرد أن نسمعه ننصرف عنها، فقال: {بالحياة الدنيا} ولا يوجد اسم أقل من ذلك، والمقابل للحياة الدنيا هي الحياة العليا. والإنسان قد يبحث في عُمْر الدنيا ويقول: إنها تستمر عشرة ملايين من السنين، أو مائة مليون سنة، وقد لا يلتفت إلى أن عمره هو موقوت في هذه الدنيا. إذن: فالدنيا بالنسبة لك هي مقدار عمرك فيها، لا مقدار عمرها الحقيقي إلى أن تقوم الساعة، وماذا تستفيد منها وهي تطول لغيرك؟ إن عمر الدنيا بالنسبة للإنسان هو مقدار مُكْث الإنسان فيها، وهو مظنون وغير متيقن، وقد يمت وهو في بطن أمه أو يموت وهو ابن شهر، أو ابن سنة، أو بعد أن يبلغ المائة. فالذي يرضي بغير المتيقن قصير النظر. ولذلك انظر إلى القرآن وهو يقول: {أَرَضِيتُمْ بالحياوة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5751 وحتى إن قسْت عُمْر الدنيا من بدء الخلق إلى أن تقوم الساعة، فه إلى فناء، وما دامت إلى فناء، فهي متاع قليل، ومن يطمئن إلى هذا المتاع القليل فهو غافل؛ لذلك يُنهي الحق الآية: {والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} عكس ما قال في الذين يعرفونَ قيمة العمل للآخرة. حين يقول الحق: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6] . والغفلة: هي ذهاب المعنى عن النفس، فما دام المعنى موجوداً في النفس، فاليقظة توجد، والغفلة تذهب. إذن: الغفلة ذهاب المعنى عن النفس، واليقظة هي استقرار المعنى في النفس. ونحن نعرف أن المعلومات التي يستقبلها الذهن البشري إنما تلتقطها بؤرة الشعور، مثلما تلتقط آلة التصوير الفوتوغرافية أية صورة. وإياك أن تظن أن الإنسان يعرف المعلومة من تكرارها مرتين مثلاً أو أكثر؛ لأن كل الأذهان تتفق في أنها تلتقط المعلومة من مرة واحدة، ويتميز إنسان عن آخر في قدرته على أن يستقبل المعلومة بذهن مستعد لها؛ لأن بورة الشعور لا تلتقط إلا معنى واحداً، ثم يتزحزح المعنى إلى حاشية الشعور؛ لتأتي المعلومة الثانية، فإن استقبلت المعلومة وفي بؤرة شعورك معنى آخر؛ لا تثبت المعلومة؛ لذلك تكرر القراءة مرة واثنتين وثلاث مرات، حتى تصادف المعلومة خُلُوَّ بؤرة الشعور. ومثال هذا: الطالب حين يحاول حفظ قصيدة، فلو كان ذهنه مستعداً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5752 لاستقبال القصيدة فهو يحفظها من مرة واحدة. لاستقبال القصيدة فهو يحفظها من مرة واحدة. إذن: الذهن كآلة الغوتوغرافيا؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ... } [الأحزاب: 4] . فإن كنت تريد أن تستقبل معلومة ما، فكُن حريصاً على أن تُفرِّغ ذهنك، من أي معلومة؛ لتأتي المعلومة الجديدة، فتصادف خلاء لبؤرة الشعور؛ فتستقر فيها. والمدرس الناجح هو الذي يلفت أذهان كل التلاميذ لما يقول، وما دامت الأذهان قد التفتت إليه؛ فلن تمر كلمة دون أن يستوعبها التلاميذ، عكس المدرس غير الناجح الذي يؤدي عمله برتابة وركاكة تَصْرف عنه التلاميذ. ونجد المدرس الناجح، وهو يُلفت انتباه تلاميذه ويقطع الدرس؛ ليسأل أي واحد منهم عمَّا قال؛ فيستمع إليه التلاميذ من بعد ذلك بانتباه؛ لأن كل واحد منهم يتوقع أن يُسأل عن المعلومة التي قِيلتْ من قبل. والتلميذ المجتهد هو الذي يقرأ الدرس بعقلية قادرة على مناقشة ما فيه من أساليب ومعلومات، وهو يستصحب حضور الذهن أثناء القراءة، أما التلميذ الفاشل فهو يقرأ دون يقظة أو انتباه. مثال آخر: إن الفلاح الذي ينام على حافة بئر الساقية لا يقع في بئرها؛ لأنه ينام وهو مستصحب لفكرة أنه إن تقلَّب على جنبٍ ما فسوف يقع في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5753 البئر. وكذلك الإخوة حين ينام اثنان منهم على سرير واحد، يقوم كل واحد منهما في الصباح وهو مستصحب أن هناك آخر بجانبه، ولكن إذا نام كل منهما في سرير منفصل، فهو يستيقظ ليجد رأسه في ناحية وساقيه في ناحية أخرى، وتسمى هذه عملية الاستصحاب واليقظة، ويقال «فلان يقظ» ، وكلمة «يقظ» ضد «نائم» ؛ لأن اليقظان يحتفظ بالوعي والانتباه. إذن: فالغفلة هي ذهاب المعنى من النفس وانطماسه، والذين يمرون بالآيات وهم غافلون عنها لن ينتفعوا بشيء من هذه الآيات، ثم تأتي لهم محصلة غفلتهم في الآخرة. ويقول الحق سبحانه عنهم: {أولئك مَأْوَاهُمُ ... } . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5754 وأنت تقول: «أويت إلى كذا» ، إذا كان هذا هو المكان الذي يعصمك من شيء، وهنا يقول الحق: {مَأْوَاهُمُ النار} فإذا كان ذلك هو المأوى، فلا بد أن ما خارجها بالنسبة لهم أشد عذاباً. وهم يأوون إلى النار {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: بسبب ما كانوا يعملون من ذنوب وسيئات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5754 ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ الذين آمَنُواْ ... } . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5755 هنا يتحدث الحق سبحانه عن المقابل، وهم الذين آمنوا، ويعُلِّمنا أنه سبحانه: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} . والهداية - كما قلنا من قبل - معناها الدلالة على الخير، بالمنهج الذي أرسله الحق سبحانه لنا، وبه بيَّن الحق السُّبُلَ أمام المؤمن والكافر، أما الذي يُقبل على الله بإيمان فيعطيه الحق سبحانه وتعالى هداية أخرى؛ بأن يخفف أعباء الطاعة على نفسه، ويزيده سبحانه هدى بالمعروف؛ لذلك قال سبحانه: {واستعينوا بالصبر والصلاوة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] . وهكذا يتلقى المؤمن مشقات الطاعة بحب؛ فيهونّها الحق سبحانه عليه ويجعله يدرك لذة هذه الطاعة؛ لتهون عليه مشقتها، ويمده سبحانه أيضاً بالمعونة. يقول الحق سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5755 {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} . وما داموا قد آمنوا؛ فسبحانه يُنزِل لهم الأحكام التي تفيدهم في حياتهم وتنفعهم في آخرتهم، أو أن الهداية لا تكون في الدنيا بل في الآخرة، فما دامو قد آمنوا، فهم قد أخذوا المنهج من الله سبحانه وتعالى وعملوا الأعمال الصالحة، يهديهم الحق سبحانه إلى طريق الجنة. ولذلك يقول الحق سبحانه: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ... } [الحديد: 12] . ويقول سبحانه: {والذين آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ... } [التحريم: 8] . أي: أن نورهم يضيء أمامهم. أما المنافقون فيقولون للذين آمنوا: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا ... } [الحديد: 13] . أي: أن هذا ليس وقتَ التماس النور، فالوقت - لالتماس النور - كان في الدنيا؛ باتباع المنهج والقيام بالصالح من الأعمال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5756 إذن: فالحق سبحانه يهدي للمؤمنين نوراً فوق نورهم في الآخرة. والآية تحتمل الهداية في الدنيا، وتحتمل الهداية في الآخرة. ويصف الحق سبحانه حال المؤمنين في الآخرة فيقول: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جَنَّاتِ النعيم} [يونس: 9] . وقلنا: إن الجنة على حوافِّ الأنهار؛ لأن الخضرة أصلها من الماء. وكلما رأيتَ مجرى للماء لا بد أن تجد خضرة، والجنات ليست هي البيوت، بدليل قول الحق سبحانه: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ... } [التوبة: 72] . ونجد الحق سبحانه يقول مرة: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار ... } [التوبة: 100] . ويقول سبحانه في مواضع أخرى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ... } [البقرة: 25] . والحق سبحانه يعطينا صوراً متعددة عن الماء الذي لا ينقطع، فهي مياه ذاتية الوجود في الجنة لا تنقطع أبداً. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ ... } . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5757 دعواهم: أي دعاؤهم. وهل الآخرة دار تكليف؛ حتى يواصلوا عبادة الله؟ لا، ولكنها عبادة الالتذاذ، وهم كُلَّما رأوا شيئاً يقولون: لقد أكلنا ذلك من قبل، ولكنهم يعرفون حين يأكلون ثمار الجنة أن ما في الأرض كان يشبه تلك الثمار، لكنه ليس مثلها. {قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ... } [البقرة: 25] . أو يقولون: {سُبْحَانَكَ اللهم} اعترافاً بالنعمة، وأنت حين ترى شيئاً يعجبك تقول: سبحانك يا رب. وبعد أن تأتي لك النعمة وتقول: سبحان الله، وتُفاجَأ بأشياء لم تكن في الحسبان - من فرط جمالها؛ فتقول: الحمد لله. إذن: فأنت تستقبل النعمة «بسبحان الله» ، وينتهي من النعمة «بالحمد لله» . ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} والذي يجعل للحياة الدنيا معنى، ويجعل لها طعماً ويجعل لها استقراراً، أن يكون الإنسان في سلام، ومعنى السلام: الاطمئنان والرضا؛ فلا مُهيِّجات، ولا مُعكِّرات، ولا يأتي ذلك إلا بعدم اصطدام في ملكات النفس؛ فيتحقق سلام الإنسان مع نفسه، وسلام الإنسان مع أهله، وهذا هو المحيط الثاني، وسلام الإنسان مع قومه، وسلام الإنسان مع العالم كله، كل ذلك اسمه سلام، لا مُنغِّص، لا من نفسه، ولا من أهله، ولا من قومه، ولا من العالم. وكلما اتسعت رقعة السلام زاد الإحساس الإنسان بالاطمئنان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5758 وحين يقول الحق سبحانه: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} ، فالسلام وارد في أشياء متعددة، والحق سبحانه يقول: {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 55 - 58] . وهذا هو السلام الذي له معنى؛ فهو سلام من الله. ولم يقل سبحانه: «سلام يورثك اطمئناناً ونفساً راضية» فقط، بل هو سلام بالقول من الله، وانظر أي سعادة حين يخاطبك الحق سبحانه وتعالى مباشرة. وهناك فرق بين أن يشيع الله فيك السلام وبين أن يحييك كلامه بالسلام. وهذا هو السبب في قوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] . وهذا سلام الله، ثم من بعده هذه المنزلة يأتي سلام الملائكة: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم ... } [الرعد: 23 - 24] . إذن: فقول الحق هنا: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} نجد فيه كلمة السلام رمز الرضا والاستقرار في الجنة؛ فالسلام هو أول الأحاسيس التي تحبها في نفسك، ولو كانت الناس كلها ضدك. لكنك ساعة تستقر، فأنت تسائل نفسك: ماذا فعلت ليكون البعضُ ضدي؟ وحين تجيب نفسك: «إنني لم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5759 أفعل إلا الخير» ؛ فأنت تحس السلام في نفسك، وإذا ما رحَّب الآخرون بما تفعل، فالحياة تسير، بلا ضدّ ولا حقد، وهذا ما قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فيدخل رجل عرفه القوم فلما انصرف؛ قام واحد من الصحابة، وذهب إلى الرجل؛ ليعلم ماذا يصنع، وسأله: ماذا تفعل حتى يبشّرك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالجنة؟ فوجد سلوك الرجل مستقيماً ومتبعاً للمنهج دون زيادة، فسأله الصحابي: لماذا - إذن - بشّرك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالجنة؟ قال الرجل: والله إني لأصلّي كما تصلّون، وأصوم كما تصومون، وأزكّى كما تزكون، ولكني أبيت وما في قلبي غلٌّ لأحد. هذا هو السلام النفسي، وإذا ما وصل الإنسان إلى السلام مع النفس؛ فلا تضيره الدنيا إن قامت، وبعد ذلك يضمن أن يوجد سلامه مع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5760 الله تعالى، ومن عنده سلام مع نفسه، ومع بيئته، ومع مجتمعه؛ فهو ينال سلاماً من الله سبحانه. ويقول لنا القرآن عن الذين يعانون من مأزق في الآخرة: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] . هؤلاء هم الذين شقوا في النار، أما الذين سُعدوا ففي الجنة، فماذا عن حال الذين لا هم شقوا ولا هم سعدوا - وهم أهل الأعراف؛ لأن الموقف يوم القيامة ينقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام؛ فقد قال الله سبحانه: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6 - 9] . ولم يقل الحق سبحانه لنا أمر الذين تساوت الكفتان لهم أثناء الحساب؛ لأنه سبحانه قال في حديث قدسي: «إن رحمتي غلبت غضبي» . ويبين لنا الحق سبحانه رحمته فيقول: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5761 {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44] . ويأتي أمر رجال الأعراف فيقول سبحانه: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ... } [الأعراف: 46] لقد عرفوا المؤمنين بسيماهم، وعرفوا الكفار بسيماهم، وجليس البعض على الأعراف؛ ينتظرون وينظرون لأهل الجنة قائلين: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46] . ثم يعطينا الحق سبحانه صورة ثانية فيقول: {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} [الأعراف: 50] . أهل الأعراف - إذن - يسعدون بعطاء الله لأهل الجنة، ويطمعون أن يغفر الله - سبحانه وتعالى - لهم. ونحن في حياتنا نسمع المشرفين على المساجين أو المحكوم عليهم بالإعدام يقولون: قبل أن يحكم على المجرم بالإعدام ينخفض وزنه، ثم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5762 يزيد بعد الحكم؛ لأن الأمر قد استقر. والذين يُشغلون بأن يعرفوا مكانهم في الآخرة، أهو في الجنة أو في النار، لا ينسون أن يقولوا للمؤمنين. {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ... } [الأعراف: 46] . وهنا يقول الحق سبحانه عن أهل الجنة: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} وقد تكون آخر دعواهم، أي: آخر كلمة. فالواحد منهم يقول: أنا حمدت ربنا على الشيء الفلاني والشيء الفلاني. وآخر حَمْد هو قمة الحمد؛ لأنهم حمدوا الله على النعمة في الدنيا التي تزول، ويحمدونه في الآخرة على النعمة التي لا تزول، فلئِنْ يوجد حَمْد على النعمة التي لا تزول فهو قمة الحمد. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم ... } . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5763 وهذه الآية تتناول قضية عقدية قد تكون شُغُل الناس الشاغل في الدعاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5763 لله تعالى، وقد لا يُجاب دعاؤهم مع كثرة الدعاء، ويُحزنهم على أنفسهم ويقول الواحد منهم: لماذا لا يقبل الله دعائي؟ أو يقع بعضهم في اليأس. ونقول لكل إنسان من هذا الفريق: لا، أنت تدعو، مرة تدعو بالشر ومرة تدعو بالخير، فلو أن الله سبحانه وتعالى قد أجابك في جميع الدعاء، فسوف يجيب دعاءك في الشر ودعاءك في الخير، ولو أن الله سبحانه وتعالى عجَّل لك دعاء الشر، كما تحب أن يُعجَّل لك دعاء الخير، لَقُضِي إليك أجلك وانتهت المسألة، وهناك من قالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . ولو استجاب الحق لمثل هذا الدعاء، لكان وبالاً على مَنْ دعوا ذلك الدعاء. إذن: فمن مصلحتك حين تدعو على نفسك أو تدعو بأي وبال ألا يجيبك الله تعالى، وافهم أن لله تعالى حكمة في الإجابة؛ لأنه سبحانه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5764 وتعالى مُنزَّه عن أن يكون موظفاً عند الخلق، ومَن يدعُهُ بشيء يجبه عليه، بل لا بد من مشيئته سبحانه في تقرير لون الإجابة؛ لأنه لو كان الأمر عكس ذلك لانتقلت الألوهية للعبد. لقد صان الحق سبحانه عباده بوضع رقابة على الدعاء؛ وأنت تعتقد أن دعاءك بالخير، ولكن رقابة الحق سبحانه التي تعلم كل شيء أزلاً تكاد أن تقول لك: لا، ليس خيراً. وانتظر الخير بعدم استجابة دعائك؛ لأنه القائل سبحانه: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ... } [البقرة: 216] . إذن: فمعرفتك ليست نهائية في تقرير الخير والشر؛ لذلك دَعِ الإلهَ الأعلى - وهو المأمون عليك - أن يستجيب أو لا يستجيب لما تدعوه وأنت في ظنك أنه الخير، فالمعرفة العليا هي التي تفرق بين الخير والشر، وفي المنع - أحياناً - عين العطاء؛ ولذلك يقول الحق: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] . وقد تلحّ في دعاء لو استجيب لك؛ لكان شرّاً. والله سبحانه يعلم ما هو الخير لك، وهو سبحانه يجيب أحياناً بعض خلقه في أشياء كان الإنسان منهم يتمنى أن توجد، ثم يكتشف الإنسان أنها لم تكن خيراً، وأحياناً يأتي لك بأشياء كنت تظن أنها شر لك، فتجد فيها الخير. وهكذا يصحّح لك الحق سبحانه بحكمته تصرفاتك الاختيارية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5765 وقد قال الكافرون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . ومن قالوا هذا القول هم: العاص بن وائل السهمي، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يهود، وكانوا قد وصلوا إلى قمة الاضطراب؛ فهم قد اضطربوا أولاً حين اتهموه بأنه ساحر، ولم ينتبهوا إلى غباء ما يقولون؛ لأنه إن كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قدرة السحر؛ فلماذا لم يسحرهم هم ليؤمنوا أيضاً؟ واضطربوا مرة ثانية، وحاولوا أن يقولوا: إن القرآن شعر، أو له طبيعة الشعر والكلام المسجوع، والقرآن ليس كذلك. ولو أن جماعة غيرهم قالت مثل هذا القول لكان لهم عذرهم لأنهم ليسوا أهل لغة، أما هؤلاء فهم قوم أهل دُرْبة على الفصاحة والبلاغة، وكانوا يعقدون أسواق الشعر والخطابة، ثم اضطربوا مرة ثالثة، وحاولوا الطعن في مكانه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم يُقروّن بعظمة القرآن؛ فقالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5766 والحق سبحانه وتعالى حينما يتعرض لحادثة وقعت في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع الكافرين؛ لا يقتصر في الحدث على ما وقع، ولكنه يعالج قضية عامة كونية إلى أن تقوم الساعة، ويجعل الحدث الحاصل في زمنه سبباً فقط؛ ليعطي عموم الحكم في كل زمان وفي كل مكان. وإلا اقتصر الأمر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقد جاء القرآن للناس كافة، وجاء للزمان عامة، فلا بد أن تكون القضية المعروضة - أيّ قضية - أمام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قوم عاصروه لها سبب خاص، ولكن العبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السبب. ويعالج الله سبحانه وتعالى في هذه المسألة الشخصية من هؤلاء الذين قالوا ذلك قضيةً كونيةً ستظل إلى أن تقوم الساعة. فقد دَعَوْا على أنفسهم: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . كما قال قوم عاد لهود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 70] . إذن: هم قد دعوا بشرٍّ على أنفسهم. ويعالج الله قضية الدعاء بالخير أو الدعاء بالشرّ، لأن الإنسان قد يضيق ذَرْعاً بأمور تحيط بذاته أو بالمحيط به؛ فإذا ضاق ذرعاً بأمور تحيط به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5767 في ذاته من ألم كمرض - مثلاً، أو عاهة لا يقوى على الصبر عليها، أو لا يقوى على تحمّلها؛ فيقول: «يا رب، أرحني يا رب» ، وهو هنا يدعو على نفسه بالموت. فلو أن الله سبحانه وتعالى استجاب دعاءه لَقُضيت المسألة. ولكن الله هو الحكيم العزيز، لا يأتمر بأمر أحد من خلقه، ولا يعجل بعَجَلة العباد، وكما يؤجل لك استجابته لدعوة الخير منك، فهو يؤجل أيضاً إجابتك لدعوة الشرّ منك على نفسك؛ وفي ذلك رحمة منه سبحانه. وإذا كنت تقول: أنا أدعو بالخير، والله سبحانه وتعالى لا يعطيني، فخذ مقابلها: أنك تدعو بالشرّ على نفسك، ولا يجيبك الله. ثم ألا يضيق الأب أحياناً ذَرْعاً بمن حوله، فيقول: فليأخذني الله؛ لأستريح من وجوهكم؟ هَبْ أن الله سبحانه أجابه إلى هذه الدعوة، فماذا يكون الموقف؟ وقد تجد من يقول: يا رب أصبني بالعمى فلا أراهم، أو تدعو المرأة على نفسها أو على أولادها. وأنتم تحبون أن يجيب الله تعالى دعاءكم، فلو كان يجيبكم على دعاء الشرّ لانتهت حياتكم إلى الفزع، مثل هذه الأم التي تدعو بالمتناقضات فتقول لولدها - مثلاً: «ربنا يسقيني نارك» فتطلب السُّقيا بالنار، رغم أن السُّقيا للرِّي، والنار للحرارة. إذن: قد يضيق الإنسان ذرعاً بنفسه، أو يضيق ذرعاً بمن حوله؛ فيدعو على نفسه بالشرّ، وحين يدعو الإنسان فيجب عليه أن ينزّه الحق سبحانه تعالى عن أن ينفذ ما يدعو العبد به دون أن يمر الدعاء على حكمته سبحانه وتعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5768 {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} ، فكما قبلتم أن يؤجل الله تعالى لكم دعاء الشر على أنفسكم؛ فاقبلوا منه تأجيل دعائكم بالخير؛ لأن الخير فيما تطلبون غير الخير فيما يعلم الله؛ فهو العليم الخبير. وقد تطلب خيراً تعلمه ولكن الله يعلم فيه شراً؛ فمن مصلحتك ألا يجيبك. وكما تحترم عدم إجابته لك في الشر على نفسك، أو على من تحب، فاحترم عدم إجابته لك فيما تظنه خيراً لك، أو لمن تحب؛ لأن الله لا يعجل بعجله عباده؛ لأنه سبحانه هو الذي خلقهم، وهو أعلم بهم، فهو القائل: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ ... } [الأنبياء: 37] . وهو سبحانه القائل: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37] . والحق سبحانه لو استجاب لهؤلاء الذين دعوا: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5769 {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ... } [الأنفال: 32] . لكانت نهايتهم بجنس ما دعوا به، وقُضي عليهم، ثم انتهوا بعد ذلك إلى عذاب الجحيم. ولكن الحق سبحانه شاء لهم البقاء؛ ليؤمن من يختار الإيمان، أما من اختار الكفر؛ فعليه أن يتحمّل تبعة الطغيان التي تتمثل في أن الواحد منهم لا يختار الكفر فقط، بل يتجاوز الحد، ويطلب ممن آمن أن يرتد عن إيمانه، وفي ذلك مجاوزة للحد؛ ولذلك فهم يعمهون في هذا الطغيان، أي: تتكاثر عليهم الظروف، ويثبت - لهم ولمن بعدهم - عجز الكفر عن مواجهة قدرة الحق. وفي الحياة أمثلة - ولله المثل الأعلى - فهناك من يملك عدوه، فيضربه؛ لكنه لا يقتله، ثم يتكرر من هذا الخصم الإساءة، فيضربه من جديد، ثم تتكرر الإساءة فيضربه، وهو لا يقتله أبداً ليداوم على إذلاله، والقويّ لا يقتل خصمه، بل يؤلمه؛ فلا يرفع الخصم رأسه. والحق سبحانه يقول: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . أي: أن الحق سبحانه يترك أهل الباطل؛ لتتجمع عليهم سيئاتهم، ويذوقون ويل خصومة الإسلام فلا يرفعون رءوسهم؛ لأن أهل الإسلام يردّون لهم الإساءة مضاعفة، ولسوف ييأس أهل الباطل من أنهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5770 سينتصرون على الحق بأي شكل وبأي لون. وهم مهما تحايلوا في أساليب النكاية في الإسلام، تجد الحق سبحانه وتعالى ينصر المسلمين. والمثل أمامنا من سيرته حين أمره الحق سبحانه بأنه يهاجر، وكان الكفار يحاصرون بيته بشباب من القبائل، فخرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يشعروا، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «شاهت الوجوه» . وشاء سبحانه ذلك؛ ليعلموا أنهم لن يستطيعوا الانتصار على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لا بالمواجهة، ولا بتبييت المكر. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ... } . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5771 يصور الحق سبحانه حال البشر؛ الذين لم يرتبطوا دائماً بالإله، وبمنهج الإله؛ هؤلاء الذين يتجهون إلى الله في لحظات الأزمات، ثم ينسون الإيمان وتكاليفه من بعد ذلك. وحياتنا مليئة بهذا الصنف من البشر. وفي قريتنا - على سبيل المثال - كان الذي يشرف على رعاية صحة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5771 الناس حلاّق الصحة، إلى أن تخرَّج أحد أبناء القرية في كلية الطب، فأخذ حلاق الصحة يشيع عنه ما لا يليق، وفي أحد الأيام لاحظ الفلاحون خروج حلاق الصحة مبكراً وهو يحمل لِفافة كبيرة، فأرادوا أن يعرفوا ما بها، واكتشفوا أن ابن حلاق الصحة مريض وهو يريد أن يذهب به إلى الطبيب، هو - إذن - لا يخدع نفسه، رغم محاولته خداع أهل القرية بالشائعات الكاذبة عن الطبيب. وكذلك الإنسان مع منهج الله، قد يخدع الآخرين في لحظة اليسر، لكنه لا ينسى الله لحظة العسر. وساعة يأتيه الضر، وحين تعزُّ الأسباب عليه فهو لا يجد إلا كلمة «يا رب» . وأنت تجدها من أعتى الفُجَّار، ومن أقسى العُتاة، تجد الواحد من هؤلاء وهو يدعو الله ساعة الضرّ. وهذا ما يقوله الحق سبحانه هنا: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ} . والمثل من حياة هؤلاء الكافرين الذين دعوا على أنفسهم، ولو كانوا يرغبون في إنهاء الحياة، فلماذا يدعون الله وهم قد كفروا به؟ إنه كذب مفضوح، والإنسان حين يضيق بنفسه قد يدعوا على نفسه بالضُّر؛ مثلما قال المتنبي: كَفَى بِكَ داءً أن تَرَى الموتَ شَافياً ... وحَسْب المنايا أن يكُنَّ أمَانِيَا أي: يكفي أن يصل الإنسان إلى الدرجة التي يتمنى فيها الموت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5772 ونلحظ أن الحق سبحانه قد جاء بموقف الإنسان من الضر في أكثر من موضع، فنجد آية تفرد الإنسان بمعنى؛ وآية ثانية تفرده بمعنى آخر، وآية ثالثة تصور وضع الإنسان بشكل آخر. يقول سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ ... } [الزمر: 8] . ويقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا} . ويقول سبحانه في موضع آخر: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 53 - 54] . إذن: فالحق سبحانه يأتي بها مفردةً مرّة، ومرة يأتي بها جمعاً. ومرة يأتي بها مفردة على ألوان شتّى، ومرة ثاني بها جمعاً بألوان شتّى، ومرة يذكرها في البر، ومرة يذكرها في البحر: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ... } [الإسراء: 67] إذن: فالآيات تستوعب حالات الإنسان المختلفة؛ إذا ما أصابه ضرّ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5773 ولم يجد مَفْزعاً له لا من ذاته ولا من البيئة المحيطة به، فلا يجد من يلجأ إليه إلا ربه. ومن الأسف أن هذا الإنسان يكون كافراً بالله. والآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تعطينا صوراً متعددة؛ فالحق سبحانه يقول: {دَعَانَا لِجَنبِهِ} أي: وهو مضطجع، {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} . وهكذا تتناول الآية الإنسان في تصرفاته في الكون. والآية متمشية مع أطوار تكوين الإنسان؛ فالطفل الصغير لا يستطيع أن يتقلّب، بل يقلّبه أهله؛ لينام على جنبه، يكبر قليلاً فهو يتقلب بمفرده ثم تأتي حركة القوة الثانية؛ فيقعد الطفل، ثم يقف دون أن يمشي، ثم يمشي من بعد ذلك. والآية هنا تعطينا التصوير الدقيق لثلاث حالات: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} ، ولم تَأت حركة المشي؛ لأن المتحرك للمشي لا يقعده الضر، لكن من يمر بالمراحل الأخرى قائماً أو قاعداً أو راقداً على الجنب، فقد يناله الضر. وتلك هي مراحل النقض لمظاهر الحياة، فالإنسان يعيش الطفولة، ثم فُتوَّة الشباب، ثم يأتيه الضعف والشيب، فلا يستطيع أن يمشي بقوة الشاب، وإن كان يستطيع الوقوف، ثم تدخل عليه الشيخوخة؛ فيقعد، ولا يستطيع أن يقف، ثم تتقدم به الشيخوخة؛ فلا يمشي، ولا يقف، ولا يقعد، ويظل راقداً على جنبه، وقد يقلّبه أهله. إذن: نقض كل شيء إنما يأتي على عكس بنائه؛ فكما بنيت مراحل الإنسان هكذا جنباً، فقعوداً فقياماً، فسعياً وحركة، فهي تنتهي بالعكس؛ لأن النقض دائماً على عكس البناء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5774 ومن هذا خرجنا بالاستدلال على صدق الله في إخباره لخلقه بكيفية الخلق؛ لأننا لم نشاهد عملية الخلق، مصداقاً لقوله سبحانه: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] . ولأن الحق لم يُشْهدْ أحداً على كيفية خَلْق السماء والأرض وخلق الإنسان، فنحن لا نأخذ معلومات عن كيفية الخلق بعيداً عن القرآن؛ لذلك لا نصدق الافتراضات القائلة بأن الأرض كانت قطعة من الشمس وانفصلت عنها ثم انخفضت درجة حرارتها؛ فكل هذه افتراضات لم تثبت صحتها، والحق سبحانه قد قال: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ... } [الكهف: 51] . وهذا القول يدل على أن العقل البشري لا يمكن أن يصل إلى معرفة كيفية خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، وهو معزول عن منهج السماء. فإن حُدِّثْتُمْ كيف خُلقتم بصورة تختلف عما جاء في القرآن فقولوا: كذبتم، وإن حُدِّثتم كيف خُلقت السماوات والأرض بغير ما جاء في كتاب الله؛ فقولوا: كذبتم؛ لأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض والإنسان وحده، ولا أحد معه، وما شهد أحد من هؤلاء مشهداً ليخبركم به. ويقول الحق سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5775 {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] . والمضلون: هم الذين يقولون لكم افتراضات غير صحيحة عن تطور القرد حتى صار إنساناً، وأن الأرض كانت قطعة من الشمس وانفصلت عنها؛ كل هذه افتراضات قالها من سمّاهم الحقُّ سبحانه: {المضلين} . ولو لم يقل الله تعالى هذه الآية، ثم جاء قوم ليقولوا: الإنسان كان في الأصل قرداً، لقلنا: إن القرآن لم يتعرض لذلك، وكان من الممكن أن نصدقهم، لكن الله سبحانه شاء لنا أن تكون لدينا المناعة ضد هذا الإضلال. وعملية الخلق غيب عنا، أخبرنا عنها من خلقنا سبحانه، فلم يكن معه شاهدٌ رأي هذا المشهد؛ ليقول لنا. والخلق الذي به الحياة ينقضه الموتُ، ولكن الموت مشهد نشهده، وأي نقض لشيء - كما عرفنا - إنما يأتي على عكس بنائه، فإن بنينا عمارة من عشرين طابقاً، وأردنا أن نهدمها لسبب أو لآخر؛ فنحن نهدم الطابق العشرين أولاً، ثم نوالي الهدم بعد ذلك، فما بُني أولاً يهدم أخيراً؛ لأن نَقْض كل شيء يأتي على عكس بنائه. وبما أن الموت نَقْضٌ للحياة؛ فالروح إذا ما خرجت من الجسم، وتُرك الجثمان بلا دفن، فالجثمان يتصلَّب، ثم يصير جيفَةً، ثم يتبخر منه الماء، ويتحلل الجسد إلى العناصر الأولى في التراب، هذه مراحل الموت. وقد أخبرنا الحق عن كيفية الخلق، فبيَّن أنه سبحانه خلق الإنسان من التراب والماء فصار طيناً، ثم استوى الطين، فصوَّره الحق صورة الإنسان ونفخ فيه الروح، وآخر مراحله في الإيجاد هي الروح؛ لذلك فخروج الروح هو أول مرحلة في الموت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5776 والله سبحانه وتعالى في هذه الآية جاء بوضع الإنسان على الجنب وقائماً وقاعداً، ولم يأت بالمشي؛ لأن الماشي عنده قدرة فلا ضرّ في ذاته، إن أصابه ضرّ فمن غيره، والضرّ مقابل النفع، والنافع هو مَنْ يُبقِي الشيء على صلاحه الممتع المريح، في الذات أو في الخارج. فساعة تكون ذاتك مستقيمة وملكاتها وأعضاؤها كلها سليمة؛ فليس عندك ضرّ، لكن إذا حدث خلل في أي عضو من الأعضاء؛ فالمتاعب تبدأ، ولذلك يقال عن السلامة العامة: هي ألا تشعر بأن لك أعضاء؛ لأنك حين تشعر أن لك عَيْناً - مثلاً - فاعرف أنها تؤلمك، وإذا شعرت بأذنك فاعرف أنها تؤلمك. وأنت تطحن الطعام بضروسك وتأكل ولا تدري بها. ويوم أن تدري بها فهذا المعنى أن ألماً قد بدأ. وهكذا لا يشعر الإنسان بفقد السلامة إلا إذا عرف وانتبه إلى أن له عضواً من أعضائه، فيقول: «آه يا عيني» ، و «آه يا أذني» . ونقول: إن وجع العين مؤلم ألماً مخصوصاً، وكذلك نقول: على أي عضو من الأعضاء، أما من لا يشكو بأعضائه فهو لا يشعر بها؛ لأنها تؤدي أعمالها على الوجه المناسب. والسلامة فيمن حولك تتمثل في أن يحققوا لك المتعة والصفاء بدون كدر. وبذلك تظهر منفعتهم لك. وكل إنسان له كبرياء ذاتي، يبيّنها قول الحق سبحانه وتعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] . ولا يذل الإنسان إلا حين يعاني من آفة ما، ولا يأتي طغيانه إلا عند استكمال النعمة في الخارج والنعمة في الداخل، وإن بدأت النعمة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5777 في الانقباض عن الإنسان، فكبرياؤه تتطاير. ومن كان يستعرض قوته على الناس، قد يرجو القيام من الوقود؛ ليخطو بضع خطوات فلا يستطيع. والإنسان لا يستغني إلا بما هو ذاتي فيه؛ لا بما هو موهوب له؛ لذلك فعليه ألا يغتر؛ لأن الواهب الأعلى قد يقبض هبتَه، فقد يأخذ منك العافية، وكثيراً ما رأينا أصحّاء قد مرضوا، ورأينا أغنياء قد افتقروا، وأصحاب جاه قد خرجوا من جاههم. إذن: فلا داعي للغرور؛ لأن الله قد وهبك كل شيء، وليس لك شيء ذاتيٌّ فيك أبداً؛ لذلك يجب أن ينعدم الغرور، فما دام كل ما فيك موهوباً من الواهب الأعلى سبحانه، فالواهب قد يسلب ما وهب، وما إن تُسلب من الإنسان نعمة فهو ينتبه. فلا داعي - إذن - لأن يغتر أحد؛ حتى لا يسلم نفسه رخيصة للضياع. والمثال: قد تكون عاديْتَ طبيباً، وهو الوحيد في المكان الذي تقطنه، وقد يحاول البعض الإصلاح بينك وبين هذا الطبيب، فتتأبَّى أنت، ثم يأتي لك مرض؛ فتلجأ إليه؛ لأن الله قد وهبه القدر السليم من التشخيص بالعلم، فلا يجب - إذن - أن تغتر أو تتعالى على أحد. لكن الإنسان هو الإنسان؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر ... } [يونس: 12] . والكافر ما إن يمسّه الضرّ؛ حتى يقع في بئر الهوان. أما المؤمن فهو مع ربه دائماً، وإذا مسّه الضرّ فهو يدعو الله تعالى دائماً ولا ينساه؛ لذلك يتلطف به سبحانه، عكس الكافر الذي يدعو الله ساعة الضرّ فقط. وأين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5778 كان ذلك الكافر ساعة أن دعاه الله سبحانه بالرسل إلى الإيمان؟ ونسيان الإنسان أمر وارد في تكوينه الفطري الأول؛ لأن الإنسان حين يعيش في محيط ما. فهو يحب النفع من خارجه، وإذا امتنع عنه هذا النفع الخارجي، فهو يأخذ النفع من ذاته؛ من تحرُّك أبعاضه وخدمتها لبعضها البعض. ثم لا يجد له مفزعاً إلا أن يؤمن بمن خلقه أولاً. وانظر إلى التعبير القرآني: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ. .} [الإسراء: 67] . إذن: فمن يَعْبُد غيرَ الله - سبحانه وتعالى - يضل عنه معبوده، ولا يعرف كيف ينقذ من يعبده؛ لذلك يعود المشرك إلى الله، ولا يجد سواه سبحانه، فهو الذي ينقذ الإنسان لحظة الخطر؛ لأنه الرب الخالق هو أرحم بصنعته، وهذه الرحمة تنقذ الإنسان حتى لو كان كافراً، وهذا كلام منطقي؛ لأننا شهدنا بوحدانية الله تعالى في عالم الذر؛ حينما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5779 أخذ الله سبحانه علينا العهد الأول، وقال لنا: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ... } [الأعراف: 172] . قلنا: {بلى ... } [الأعراف: 172] . وهذا إيمان الفطرة قبل أن توجد الغفلة أو التقليد؛ لذلك حين تتفرق الآلهة الباطلة من حول الكافر فهو يرجع إلى نفسه ويدعو الله، بل ويوسِّط من يسأله أن يدعو له الله سبحانه. وقد يدعو الإنسان من يواسيه لحظة المرض فلا يجد ولداً من أبنائه، أو قريباً من أقربائه، ولكنه فور أن يدعو الله تعالى؛ تلمسه رحمته سبحانه، وقد تجد إنساناً حين يستجيب الحق سبحانه لدعائه قد تركبه حماقة الغرور من جديد، ويقول ما جاء به الحق على لسان قارون: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي ... } [القصص: 78] . ويقول: كنت محتاطاً وقد رتبت أموري، ثم يأخذه الحق سبحانه وتعالى أخْذَ عزيز مقتدر. فإذا مسكم الضر؛ فلن تجدوا من البيئات الخارجة عنكم، ولا من ذوات نفوسكم، ما يغنيكم عن خالقكم، وفي لحظة الخطر لا تستطيعون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5780 الكذب على أنفسكم؛ فلا تسألون حينئذ أحداً إلا الله سبحانه، وتتذكرون في تلك اللحظة عهد الذَّر الأول، وتعودون إليه سبحانه. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} . وقوله الحق: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} يصوّر الضرّ وكأنه يغطي الإنسان ويلفّه، فلا منقذ له أبداً؛ لأن الكشف هو رفع لغطاء يغطي كل الإنسان، وهكذا يعطينا الله تعالى صورة لاستيعاب الضرّ للجسم كله؛ حتى وإن كان بأداة من أدوات الإدراك مثل قوله سبحانه: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] . فكأن الجوع والخوف قد لفّ القرية كلها، فلم تعُد البطون وحدها هي الجائعة، بل كل ما في الأجسام جائع وخائف. وهنا يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} . وكلمة {مَرَّ} تفيد أن هنا وقفة، فحين يقال: إن فلاناً مرّ عليَّ؛ مقابلها: وقف عندي. ونفهم من قوله الحق: إن هذا الذي مسهّ الضرّ كان له وقفة عند الله سبحانه؛ حين لفّه الضرّ ولم يجد معيناً له غير الله تعالى، أما قبل ذلك فقد كان يأخذ الخير من الله ولا يتذكر الإيمان به سبحانه، وبعد أن يذهب عنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5781 الضرّ وينسى الإيمان؛ {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} وكأنه قد نسي تذلّله إلى الله، فهو يمر من مرحلة الذلة والخضوع والدعاء إلى الله إلى مرحلة الاستكبار، فلم يقف عند من أنقذه من ضره، وهذه هي الصفاقة. ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله: {كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وهنا يأتي قضية ثانية؛ فالحادثة حادثة خاصة وينقلها الحق سبحانه إلى عمومية تأتي في الكون كله؛ فالمسرفون قديماً حصل لهم هذا، والذي زَيِّن لهم المرور إما أن يكون الشيطان، وإما أن يكون الحمل من الحق على صفات موجودة فيه، فالحق سبحانه هو القائل: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً ... } [البقرة: 10] . وقوله تعالى هنا: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ. . .} [يونس: 12] . وهذا ما حدث للمسرفين سابقاً، وما سوف يحدث من المسرفين لاحقاً. والإنسان له عمل مكوَّن من القول والفعل، والعمل هو كل حادثة متفرعة عن جوارح الإنسان، وإن كان القول مقابله الفعل؛ فالاثنان عمل. وبعد أن يعرض الحق سبحانه هذه القضية في عمومها، وفي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5782 خصوصها، وفي انسحابها على الكون كله، يبيّن لنا ضرورة الانتباه للكافرين برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويحذر الكافرين: أأسلمنا رسولاً إلى خصومه أم نصرنا كل رسول جاء على خصومه؟ إن السوابق تدل على أن كُّلاً أخذناه بذنبه، فاحذروا أن تكونوا كذلك. ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ ... } . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5783 فإياكم أن تسوّل لكم أنفسكم أن تظلوا على عداوتكم لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنكم لن تنالوا منه شيئاً، وسيتم الله نوره، فلستم بدعاً عن سابق الخلق. و {القرون} : جمع قرن، والقرن من المقارنة، وكل جماعة اقترنوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5783 في شيء نسميهم «قرنا» . وقد يكون القرن في الزمنية، ولذلك حسبوا القرن مائة سنة، والبشر الذين يجتمعون في مائة سنة يسمونهم قرناً. أو القرن جماعة يقترنون في شيء يجمعهم، مهما طال بهم الأمد. وقوله الحق: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} فهل لو أمهلهم الله - تعالى - كانوا سيؤمنون؟ لا، فلله علمٌ أزليٌّ، يعلم الأشياء على وفق ما تكون عليه اضطراراً أو اختياراً. والمثل من حياتنا وأعرافنا - ولله المثل الأعلى - نجد الإنسان حين يريد بناء بيت، فالأمر يختلف حسب مقدرته؛ الفقير مثلاً يطلب بناء حجرتين؛ فيخطط رجل البناء لبناء حجرتين، وإذا كان الإنسان متوسط الحال؛ فهو يتجه إلى مهندس يصمِّم له بناء على قدر سعته، وإن كان الإنسان ثرياً؛ فهو يستدعي المهندس الذي يبني له بيتاً حسب إمكانات ورغبات هذا الثرى، ويصمم المهندس نموذجاً للبناء قبل أن يبدأ فيه، وتظهر فيه كل التفاصيل، حتى ألوان النوافذ والأبواب والحجرات. والعالم قبل أن يخلقه الله سبحانه وتعالى كانت هيئته مقدرة أزلاً عنده سبحانه، وهذا هو مطلق القدرة من الحق تعالى، ويأتي واقع الكون على وفق ما قدره الخالق سبحانه أزلاً؛ حتى ولو كان هناك اختيار للمخلوق الكافر، فالله سبحانه يعلمه. وقد صحَّ أن القلم جفَّ حتى في الأمور الاختيارية، وسبحانه يعلم ما تجري به الأمور القهرية وما يقضيه على خلقه بدون اختيار منهم، أما في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5784 الأمور الاختيارية فقد أعطى لخلقه الاختيار. وقد علم ما سوف يفعلونه غيباً؛ فصمم المسألة على وفق ما علم. وإياك أن تظن أنه أراد بذلك أن يُلزمك، لا، فقد علم أنك ستختار. وهكذا علم الحق سبحانه من سيظلم نفسه - أزلاً - وسبق في علمه أن أهل القرون السابقة الذين أهلكهم لا يؤمنون. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} والظلم معناه نقل الحق من صاحبه إلى غيره، والحقوق الموهوبة من الخالق للبشر قد يظلمون فيها بعضهم البعض، لكن أعلى درجات الظلم حين يظلم أحدٌ حقَّ الإله الأعلى في أن يكون إلهاً واحداً، وأن ينقل ذلك لغيره. تلك هي قمة الظلم؛ لذلك قال سبحانه: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . وهم قد ظلموا في قضية العقيدة الأولى، أو ظلموا في الحقوق بينهم وبين أنفسهم مصداقاً لقوله تعالى: {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] . والواحد منهم ظالم ومظلوم في آن واحد؛ لأن الإنسان ملكاته متعددة، ومن هذه الملكات ملكة الإيمان الفطري، وملكة النفع العاجل الذاتي. فإذا تغلبت ملكة النفع العاجل؛ تخرج النفس اللوَّامة؛ لتعيد الأمر إلى صوابه، أما إن كانت نفس تأمر بالسوء فهي تطلب تحقيق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5785 الشهوات فقط؛ لأنها نفس أمَّارة بالسوء. أما إن اطمأنت النفس إلى حكم الله تعالى ورضيت به ونفذت ما قاله الله سبحانه، فهي نفس مطمئنة. ومن يظلم نفسه فهو الذي يتبع شهوات نفسه، وهو قد أعطاها متعة عاجلة؛ ليستقبل بعد ذلك شقاءً آجلاً؛ فيكون قد ظلم نفسه. والحق سبحانه لم يتركهم، بل أرسل الرسل مُؤيَّدين بالمعجزات؛ ليبصّروهم. لكن الله تعالى يعلم أنهم لا يؤمنون؛ لذلك قال: {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي: أنه سبحانه لو تركهم أحياء فلن يؤمنوا، فهو الذي خلقهم وقد علم أزلاً لن يختاروا الإيمان. والحق سبحانه هو العالم الأعلى الذي يعلم الأشياء على وفق ما تكون عليه، لا على وفق ما يقهر خلقه عليه، فلو كان علمه - سبحانه - على وفق ما يَقْهر الخلق عليه لكانت المسألة منتهية. والمثال - ولله المثل الأعلى - أنت في البيت وتريد أن تقوم وزوجتك برحلة، فإن كان الأولاد صغاراً؛ فأنت تغلق عليهم الباب بعد أن تقول لهم: إن طعامكم في الثلاجة؛ لحماً وسمكاً وجبناً وزيتوناً. وبعد أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5786 تخرج أنت وزوجتك تقول لها: إن أبناءنا لن يأكلوا إلا جبناً وزيتوناً؛ لأنهم سوف يستسهلون هذا الطعام. ولو لم يكن في الثلاجة إلا الجبن، لما قلت ذلك؛ لأن هذا هو لون الطعام القهري. لكن ما دام في الأمر اختيار؛ فأنت تستشف من سابق سلوك الأبناء. وعندما ترجع تجد أبناءك قد تصرفوا وفق ما حكمت به، رغم أنك تركت لهم الاختيار. ومثال هذا في القرآن قوله الحق: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 1 - 3] . وفي هذا حكم من الله تعالى بان أبا لهب سيموت كافراً، وهذا حكم مُعْلَن ويُردَّد في الصلاة، ونحفظه، وأبو لهب هو عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان كافراً مثل غيره من الكفار. وقد آمن من الكفار الكثير. ألم يسلم عمر؟ ألم يسلم عكرمة بن أبي جهل؟ ألم يسلم عمرو بن العاص؟ ألم يسلم خالد بن الوليد؟ فما المانع أن يسلم أبو لهب هو الآخر؟ لا، لم يسلم وعلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ربه أن ذلك لن يكون منه. وما كان من الممكن أن يمكر أبو لهب ويعلن إسلامه تكذيباً للقرآن؛ لأن الحق علم أزلاً سلوك أبي لهب. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5787 وقوله: {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء الذي كان للأمم السابقة التي أهلكت في القرون الماضية تجري ممن يحدِّد كل شيء؛ لأن القضايا في الكون واحدة. فالقضية الإيمانية موجودة من أول ما أرسلت الرسل إلى أن تنتهي الدنيا. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ ... } . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5788 و {خَلاَئِفَ} : جمع خليفة، وهو من يَخْلُف غيره. والحق سبحانه وتعالى حينما وصف الإنسان أصدر أول بيان عن الإنسان قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ... } [البقرة: 30] . والله سبحانه وتعالى قادر، وسميع، وعليم، وله من كل صفات الكمال المطلق، وأنت قد تكون لك قدرة وقد تُعَدِّى أثر قدرتك إلى غيرك، ولكنك لن تستطيع أن تُعدِّي قدرتك إلى سواك، فإن كنت قوياً؛ فلن تستطيع أن تَهَبَ ضعيفاً قدراً على قوتك. بل كل الذي تستطيعه هو أن تهبه أثر قدرتك، فإن كان غير قادر على أن يحمل شيئاً؛ فأنت قد تحمله عنه، وإن كان غير قادر على المشي؛ فأنت تأخذ بيده، لكنك لا تستطيع أن تهبه جزءاً من قوتك الذاتية، فيظل هو عاجزاً، وتظل أنت قادراً - كما أنت. هذا هو حال الخلق: تجد غنياً وآخر فقيراً، ويُعطي الغني للفقير من غناه، ويُعطي العالمُ للجاهل بعضَ العلم، لكنه لا يهبه مَلَكَة العلم؛ ليعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5788 أما الحق الأعلى سبحانه فهو وحده القادر على أن يهب من قدرته المطلقة للخلق قدرة موهوبة محدودة، وقد أعطاهم سبحانه أثر القدرة العالية في الأفلاك التي صنعها ولا دخل للإنسان فيها؛ من شمس، وقمر، ونجوم، ورياح، ومطر. وأعطى الحق سبحانه للإنسان طاقة من قدرته في الأمور التي حوله؛ فأصبح قادراً على أن يفعل بعض الأفعال التي تتناسب مع هذه الطاقة الموهوبة. وبذلك عدَّي له الحق سبحانه من قدرته؛ ليقدر على الفعل، ومن غناه؛ ليعطي الفقير، ومن علمه؛ ليعطي الجاهل، ومن حلمه؛ ليحْلِم على الذي يؤذيه. إذن: فالخلق لا يعدّون صفاتهم إلى غيرهم ولكنهم يعدون آثار صفاتهم إلى غيرهم، وتظل الصفة هنا قوة، والصفة هناك ضعفاً. أما الواحد الأحد فهو الذي يستطيع أن يهب من قدرته للعاجز قدرة؛ فيفعل. فهل كل الكون هكذا؟ إن الكون قسمان: قسم وهبة الله سبحانه وتعالى للإنسان بدون مجال له فيه. وقد أقامه الحق بقدرته، وهذا القسم من الكون مستقيم في أمره استقامة لا يتأتّى لها أي خَلَل، مثل: نظام الأفلاك والسماء ودوران الشمس والقمر والريح وغيرها، ولا تعاني من أي عطب أو خلل، ولا يتأتى لهذا القسم فساد إلا بتدخُّل الإنسان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5789 وقسم آخر في الكون تركه الحق سبحانه للإنسان؛ حتى يقيمه القوة الموهوبة له من الله. وأنت لا تجد فساداً في كون الله تعالى إلا وجدت فيه للإنسان يداً، أما الأمور التي ليس للإنسان فيها يد فهي مستقيمة، ولذلك يقول الحق سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] . والمراصد تحدِّد موقع الأرض بين الشمس والقمر، وموقع القمر بين الأرض والشمس بدقة تتناسب مع قوله الحق: {بِحُسْبَانٍ} ؛ لأن الإنسان ليس له دخل في هذه الأمور. وفيما لنا فيه اختيار علينا أن نتدخل بمنهج الله تعالى؛ لتستقيم حركتنا مثل استقامة الحركة في الأكوان العليا التي لا دخل لنا فيها. إذن: فالذي يُفْسد الأكوان هو تدخُّل الإنسان - فيما يحيط به، وفيما ينفعل له وينفعل به - على غير منهج الله؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 1 - 5] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5790 أي: هذه الأكوان مخلوقة بحساب، وتستطيعون أن تُقَدِّروا أوقاتكم وحساباتكم على أساسها. ويقول سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 5 - 9] . وحتى تستقيم لكم الأمور الدنيا في حركتكم في الكون - كما استقامت لكم الأمور العليا؛ وازنوا كل الأمور بالعدل؛ فلا يختل لكم ميزان؛ لأن الذي يُفسد الكون أنكم تتدخلون فيما أعطي لكم من مواهب الله قدرة وعلماً وحَركة على غير منهج الله. فادخلوا على أمور حياتكم بمنهج الله في «افعل» و «لا تفعل» ؛ ليستقيم لكم الكون الأدنى كما استقام لكم الكون الأعلى. وهنا يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض} وقد خلف الإنسان الله تعالى في الأرض، في أنه - مثلاً - يحرث الأرض ويسقيها؛ فيخرج له الزرع، وحين يأخذ الإنسان أسباب الله فهو ينال نتيجة الأخذ بالأسباب. ولكن آفة الإنسان بغروره، حين تستجيب له الأشياء، فهو يظن أنه قادر بذاته، لا بأسباب الله. والحق سبحانه وتعالى يُعطي بعطاء ربوبيته للمؤمن، وللكافر؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعى الإنسان إلى الوجود، لكنه جلّ وعلا ميَّز المؤمن، لا بعطاء الأسباب فقط، ولكن بالمنهج، والتكليف المتمثل في « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5791 افعل كذا» و «لا تفعل كذا» ، فإن أخذ العطاءين من الله يبقَ له حسن الجزاء في الدنيا والآخرة، وإن أخذ العطاء الثاني في «افعل» و «لا تفعل» ، فهو يأخذ الآخرة، أما دنياه فتظل متخلّفة. ومن يُردْ أن يأخذ حُسْن الدنيا والآخرة، فليأخذ عطاء ربوبية الله تعالى بالأخذ بالأسباب، وعطاء الألوهية باتّباع المنهج. إلا أن آفة الخليفة في الأرض أنه لا يرى بعض الأمور مستجيبة له؛ فيطغي، ويظن أنه أصيل في الكون، ونقول له: ما دمت تظن أنك أصيل في الكون فحافظ على روحك، وعلى قوتك، وعلى غناك، وأنت لن تستطيع ذلك. فأنت إنْ تمردت على أوامر الله بالكفر - مثلاً، فلماذا لا تتمرد على المرض أو الموت؟ إذن: أنت مقهور للأعلى غصباً عنك، ويجب أن تأخذ من الأمورالتي تنزل عليك بالأقدار؛ لتلجمك، وتقهرك، إلى أن تأخذ الأمور التي لك فيها اختيار بمنهج الله سبحانه. ولو ظن الخليفة في الأرض أنه أًصيل في الكون، فعليه أن يتعلّم مما يراه في الكون، فأنت قد توكّل محامياً في العقود والتصرفات؛ فيتصرف في الأمور كلها دون الرجوع إليك ولا يعرض عليك بياناً بما فعل، فتقوم أنت بإلغاء التوكيل. فيلتفت مثل هذا المحامي إلى أن كل تصرف له دون التوكيل قد صار غير مقبول. فماذا عن توكيل الله للإنسان بالخلافة؟ يقول الحق سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5792 {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض} فاذا كنتم قد خَلَفْتُم من هلكوا، فمن اللازم أن تأخذوا العظة والعبرة في أن الله تعالى غالب على أمره، ولا ترهقوا الرسل، بل تأخذوا المنهج، أو على الأقل، لا تعارضوهم إن لم تؤمنوا بالمنهج الذي جاءوا به من الله. واتركوهم يعلنون كلمة الله، وليعيدوا صياغة حركة المؤمنين برسالاتهم في هذا الكون على وفق ما يريده الله سبحانه، وأنتم أحرار في أن تؤمنوا أو لا تؤمنوا. {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ... } [الكهف: 29] . والدليل على ذلك أن الإسلام حينما فتح كثيراً من البلاد ترك لهم حرية اعتناق الإسلام أو البقاء على أديانهم، مع أنه قد دخل بلادهم بالدعوة أو الغلبة، ولكنه لم يقهر أحداً على الدين، وأخذ المسلمون منهم الجزية مقابل حماية المسلمين لهم. ولو كان الإسلام قد انتشر بالسيف لما أبقي أحداً على دينه، ولكن الإسلام لم يُكْره أحداً، وحمى حرية الاختيار بالسيف. ولأن الذين لم يؤمنوا بالإسلام عاشوا في مجتمع تتكفّل الدولة الإسلامية فيه بكل متطلبات حياتهم، والمسلم يدفع زكاة لبيت المال، فعلى من لم يؤمن - وينتفع بالخدمات التي يقدمها المجتمع المسلم - أن يدفع الجزية مقابل تلك الخدمات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5793 وإذا اعتقد الإنسان أنه خليفة، وظل متذكراً لذلك، فهو يتذكر أن سطوة من استخلفه قادرة على أن تمنع عنه هذه الخلافة. إذن: فخذوا الأمر بالتسليم، وساعدوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على دعوته، وآمنوا به أولاً، وإن لم يؤمنوا به فاتركوه؛ ليعلن دعوته، ولا تعاندوه، ولا تصرفوا الناس عنه؛ لأن الحق هو القائل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] . وساعة تأتي لأمر يعلله الله بكلمة {لِيَعْلَمَ ... } [المائدة: 94] . أو {لِنَنظُرَ ... } [يونس: 14] . فاعلم أن الله عالم وعليم، علم كل الأمور قبل أن توجد، وعلم الأشياء التي للناس فيها اختيار، وهو القائل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب ... } [الحديد: 25] . وقد علم الحق سبحانه أزلاً كل شيء، وإذا قال الله: {وَلِيَعْلَمَ} فليس معنى ذلك أن هناك علماً جديداً لم يكن يعلمه سوف ينشأ له، لكنه يعلم علم مشهد وإقرار منك؛ حتى لا يقول قائل: لماذا يحاسبنا الله على ما عَلمَ أزلاً؟ بل يأتي سبحانه بالاختيار الذي يحدِّد للعبد المعايير التي تتيح للمؤمن أن يدخل الجنة، وللعاصي أن يُحاسَب ويُجازَي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5794 وبذلك يعلم الإنسان أن الحق سبحانه شاء ذلك؛ ليعرف كل عبد عِلم الواقع، لا عِلْم الحصول. إذن: فذكر كلمة {وَلِيَعْلَمَ} وكلمة {لِنَنظُرَ} في القرآن معناها علم واقع، وعلم مشهد، وعلم حُجّة على العبد؛ فلا يستطيع أن ينكر ما حدث، وقوله الحق: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} [الحديد: 25] . هذه الآية تبين لنا أدوات انتظام الحكم الإلهي: رسل جاءوا بالبرهان والبينة، وأنزل الحديد للقهر، قال الحق سبحانه: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] . وقرن ذلك بالرسل، فقال: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ} والنصرة لا تكون إلا بقوة، والقوة تأتي بالحديد الذي يظل حديداً إلى أن تقوم الساعة، وهو المعدن ذو البأس، والذي لن يخترعوا ما هو أقوى منه، وعلْم الله سبحانه هنا عِلْم وقوع منكم، لا تستطيعون إنكاره؛ لأنه سبحانه لو أخبر خبراً دون واقع منكم؛ فقد تكذبون؛ لذلك قال سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} وفي هذا لون من الاحتياط الجميل. وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ} كأن الله يطلب منكم أن تنصروه، لكن إياكم أن تفهموا المعنى أنه سبحانه ضعيف، معاذ الله، بل هو قوي وعزيز. فهو القائل: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5795 بل يريد سبحانه أن يكون أعداء الإيمان أذلاء أمامكم؛ لأنه سبحانه يقدر عليهم. إذن: فقول الحق سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ} إنما يعني: أن يكون علم الله بمن ينصر منهجه أمراً غيبيّاً؛ حتى لا يقول أحدٌ إن انتصار المنهج جاء صدفة، بل يريد الحق سبحانه أن يجعل نُصْرة منهجه بالمؤمنين، حتى ولو قَلَّت عدَّتُهم، وقلّ عددهم. إذن: قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ} [يونس: 14] . أي: نظر واقع، لا نظر علم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5796 نحن نعرف أن الآيات ثلاثة أنواع: آيات كونية، وهي العجائب التي في الكون ويسميها الله سبحانه آيات، فالآية هي عجيبة من العجائب، سواء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5796 في الذكاء أو الجمال أو الخُلُق، وقد سَمَّى الحق سبحانه الظواهر الكونية آيات؛ فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37] وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم: 21] وهذه من الآيات الكونية. وهناك آيات هي الدليل على صدق الرسل عليهم السلام في البلاغ عن الله، وهي المعجزات؛ لأنها خالفت ناموس الكون المألوف للناس. فكل شيء له طبيعة، فإذا خرج عن طبيعته؛ فهذا يستدعى الانتباه. مثلما يحكي القرآن عن سيدنا إبراهيم عليه السلام أن أعداءه أخذوه ورموه في النار فنجّاه الحق سبحانه من النار؛ فخرج منها سالماً، ولم يكن المقصود من ذلك أن ينجو إبراهيم من النار، فلو كان المقصود أن ينجو إبراهيم عليه السلام من النار؛ لحدثت أمور أخرى، كألا يمكِّنهم الحق عزَّ وجلّ من أن يمسكوه، لكنهم أمسكوا به وأشعلوا النار ورموه فيها، ولو شاء الله تعالى أن يطفئها لفعل ذلك بلقليل من المطر، لكن ذلك لم يحدث؛ فقد تركهم الله في غيّهم، ولأنه واهب النار للإحراق قال سبحانه وتعالى لها: {يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5797 وهكذا تتجلّى أمامهم خيبتهم. إذن: الآيات تُطلَق على الآيات الكونية، وتطلق على الآيات المعجزات، وتطلق أيضا على آيات القرآن ما دامت الآيات القرآنية من الله والمعجزات من الله، وخلق الكون من الله، فهل هناك آية تصادم آية؟ لا؛ لأن الذي خلق الكون وأرسل الرسل بالمعجزات وأنزل القرآن هو إله واحد، ولو كان الأمر غير ذلك لحدث التصادم بين الآيات، والحق سبحانه هو القائل: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] وقوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [يونس: 15] أي: آيات واضحة. ثم يقول الحق سبحانه {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} وعرفنا أن الرجاء طلب أمر محبوب ومن الممكن أن يكون واقعاً، مثلما يرجو إنسان أن يدخل ابنه كلية الطب أو كلية الهندسة. ومقابل الرجاء شيء آخر محبوب، لكن الإنسان يعلم استحالته، وهو التمنِّي، فالمحبوبات إذن قسمان: أمور مُتمنَّاه وهي في الأمور المستحيلة، لكن الإنسان يعلن أنه يحبها، والقسم الثاني أمور نحبها، ومن الممكن أن تقع، وتسمى رجاء. {الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} هم مَن لا يؤمنون، لا بإلهٍ، ولا ببعثٍ؛ فقد قالوا: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5798 وقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] وإذا كان الإنسان لا يؤمن بالبعث؛ فهو لا يؤمن بلقاء الله سبحانه؛ لأن الذي يؤمن بالبعث يؤمن بلقاء الله، ويُعدّ نفسه لهذا اللقاء بالعبادة والعمل الصالح، ولكن الكافرين الذين لا يؤمنون بالبعث سيُفاجَأون بالإله الذي أنكروه، وسوف تكون المفاجأة صعبة عليهم؛ ولذلك قال الحق سبحانه: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور: 39] السراب: هو أن يمشي الإنسان في خلاء الصحراء، ويخيل إليه أن هناك ماءً أمامه، وكلّما مشى ظن أن الماء أمامه، وما إن يصل إلى المكان يجد أن الماء قد تباعد. وهذه العملية لها علاقة بقضية انعكاس الضوء، فالضوء ينعكس؛ ليصور الماء وهو ليس بماء: {حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ} [النور: 39] إنه يُفاجَأ بوجود الله سبحانه الذي لم يكن في باله، فهو واحد من الذين لا يرجون لقاء الله، وهو ممن جاء فيهم القول: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5799 {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10] رغم أن الكون الذي نراه يُحتِّم قضية البعث؛ لأننا نرى أن لكل شيء دورة، فالوردة الجميلة الممتلئة بالنضارة تذبل بعد أن تفقد مائيَّتها، ويضيع منها اللون، ثم تصير تراباً. وأنت حين تشم الوردة فهذا يعني أن ما فيها من عطر إنما يتبخر مع المياه التي تخرج منها بخاراً، ثم تذبل وتتحلل بعد ذلك. إذن: فللوردة دورة حياة. وأنت إن نظرت إلى أي عنصر من عناصر الحياة مثل المياه سوف تجد أن الكمية الموجودة من الماء ساعة خلق الله السموات والأرض هي بعينها؛ لم تَزِدْ ولم تنقص. وقد شرحنا ذلك من قبل. وكل شيء تنتفع به له دورة، والدورة تُسلم لدورة أخرى، وأنت مستفيد بين هذه الدورات؛ هدماً وبناءً. والذين لا يرجون لقاء الله، ولا يؤمنون بالبعث، ولا بثواب أو عقاب لا يلتفتون إلى الكون الذي يعيشون فيه؛ لأن النظر في الكون وتأمُّل أحواله يُوجِب عليهم أن يؤمنوا بأنها دورة من الممكن أن تعود. وسبحانه القائل: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5800 {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] وهؤلاء الذين لا يرجون لقاء الله يأتي القرآن بما جاء على ألسنتهم: { ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] هم هنا يطلبون طلبين: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ} ، {أَوْ بَدِّلْهُ} . أي: يطلبون غير القرآن. ولنلحظ أن المتكلم هو الله سبحانه؛ لذلك فلا تفهم أن القولين متساويان. {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} هما طلبان: الطلب الأول: أنهم يطلبون قرآناً غير الذي نزل. والطلب الثاني: أنهم يريدون تبديل آية مكان آية، وهم قد طلبوا حذف الآيات التي تهزأ بالأصنام، وكذلك الآيات التي تتوعدهم بسوء المصير. ويأتي جواب من الله سبحانه على شق واحد مما طلبوه وهو المطلب الثاني، ويقول سبحانه: {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي} ولم يرد الحق سبحانه على قولهم: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ} . وكان مقياس الجواب أن يقول: «ما يكون لي أن آتي بقرآن غير هذا أو أبدله» ؛ لكنه اكتفى بالرد على المطلب الثاني {أَوْ بَدِّلْهُ} ؛ لأن الإتيان بقرآن يتطلب تغييراً للكل. ولكن التبديل هو الأمر السهل. وقد نفى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5801 الأسهل؛ ليسلِّموا أن طلب الأصعب منفي بطبيعته. وأمر الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي} أي: أن أمر التبديل وارد، لكنه ليس من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. بل بأمر من الله سبحانه وتعالى، إنما أمر الإتيان بقرآن غير هذا ليس وارداً. إذن: فالتبديل وارد شرط ألا يكون من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولذلك قال الحق سبحانه: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] وهو ما تذكره هذه الآية: {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي} و {تِلْقَآءِ} من «لقاء» ؛ فتقول: «لقيت فلاناً» ، ويأتي المصدر من جنس الفعل أو حروفه، ويسمون «التلقاء» هنا: الجهة. والحق سبحانه يقول في آية أخرى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} [القصص: 22] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5802 و {تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} أي: جهة مدين. و «التلقاء» قد تأتي بمعنى اللقاء؛ لأنك حين تقول: «لقيته» أي: أنا وفلان التقينا في مكان واحد، وحين نتوجّه إلى مكان معيّن فنحن نُوجَد فيه. ويظن بعض الناس أن كل لفظ يأتي لمعنيين يحمل تناقضاً، ونقول: لا، ليس هناك تناقض، بل انفكاك جهة، مثلما قال الحق سبحانه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] والشطر معناه: الجهة؛ ومعناه أيضاً: النصف، فيقال: «أخذ فلان شطر ماله» ، أي: نصفه، و «اتجهت شطر كذا» ، أي: إلى جهة كذا. وهذه معان غير متناقضة؛ فالإنسان منا ساعة يقف في أي مكان؛ يصبح هذا المكان مركزاً لمرائيه، وما حوله كله محيطاً ينتهي بالأفق. ويختلف محيط كل إنسان حسب قوة بصره، ومحيط الرؤية ينتهي حين يُخيَّل لك أن السماء انطبقت على الأرض، هذا هو الأفق الذي يخصُّك، فإن كان بصرُك قويّاً فأفقك يتَّسع، وإن كان البصر ضعيفاً يضيف الأفق. ويقال: «فلان ضَيِّق الأفق» أي: أن رؤيته محدودة، وكل إنسان منا إذا وقف في مكان يصير مركزاً لما يحيطه من مَرَاء؛ ولذلك يوجد أكثر من مركز، فالمقابل لك نصف الكون المرئي، وخلفك نصف الكون المرئي الآخر، فإذا قيل: إن «الشطر» هو «النصف» ، فالشطر أيضاً هو «الجهة» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5803 وهنا يقول الحق سبحانه: {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} . أي: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يأتي بالقرآن من عند نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بل يُوحَى إليه. ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15] أي: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو جاء بشيء من عنده، ففي هذا معصية لله تعالى، ونعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يُعرف عنه أنه كان شاعراً، ولا كان كاتباً، ولا كان خطيباً. وبعد أن نزل الوحي عليه من الله جاء القرآن في منتهى البلاغة. وقد نزل الوحي ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الأربعين من عمره ولا توجد عبقرية يتأجَّل ظهورها إلى هذه المرحلة من العمر، ولا يمكن أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أجَّل عبقريته إلى هذه السِّن؛ لأنه لم يكن يضمن أن يمتد به العمر. ويأتي لنا الحق سبحانه بالدليل القاطع على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يتَّبِع إلا ما يُوحَى إليه فيقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15] ويأتي الأمر بالرَّدِّ من الحق سبحانه على الكافرين: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ... .} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5804 وهنا يبلِّغ محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هؤلاء الذين طلبوا تغيير القرآن أو تبديله: لقد عشت طوال عمري معكم، ولم تكن لي قوة بلاغة أو قوة شعر، أو قوة أدب. فمن له موهبة لا يكتمها إلى أن يبلغ الأربعين، ورأيتم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يجلس إلى معلِّم، بل عندما اتهمتموه وقلتم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] وفضحكم الحق سبحانه بأن أنزل في القرآن قوله تعالى: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103] ولم يخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من شبه الجزيرة العربية، ولم يقرأ مؤلَّفَات أحد. فمن أين جاء القرآن إذن؟ لقد جاء من الله سبحانه، وعليكم أن تعقلوا ذلك، ولا داعي للاتهام بأن القرآن من عند محمد؛ لأنكم لم تجرّبوه خطيباً أو شاعراً، بل كل ما جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بعد أن نزلت عليه الرسالة، هو بلاغ من عند الله. وبطبيعة الحال لا يمكن أن يُنسَب الكمال إلى إنسان فينفيه، فالعادة أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5805 يسرق شاعر مثلاً قصيدة من شاعر آخر، أو أن ينتحل كاتب مقالة من آخر. لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبلِّغكم أن كمال القرآن ليس من عنده، بل هو مجرد مبلِّغ له، وكان يجب أن يتعقَّلوا تلك القضية بمقدِّماتها ونتائجها؛ فلا يلقوا لأفكارهم العنان؛ ليكذبوا ويعاندوا، فالأمر بسيط جداً. يقول الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] إذن: فالمقدمة التي يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقنع بها الكافرين أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أرسله الله رسولاً من أنفسهم، فإن قلت: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] أي: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جنس الناس، لا من جنس الملائكة، أو {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: من أمة العرب، لا من أمة العَجَم، أو {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: من قبيلتهم التي يكذِّب أصحابُها رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن: فحياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معروفة معلومة لكم، لم يَغِبْ عنكم فترة؛ لتقولوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5806 بُعِثَ بعثةً؛ ليتعلَّم علماً من مكان آخر، ولم يجلس إلى معلِّم عندكم ولا إلى معلِّم خارجكم، ولم يَتْلُ كتاباً، فإذا كان الأمر كذلك، فيجب أن تأخذوا من هذا مقدِّمة وتقولوا: فمن أين جاءت له هذه الحكمة فجأة؟ أنتم تعلمون أن المواهب والعبقريات لا تنشأ في الأربعينات، ولكن مخايل العبقرية إنما ينشأ في نهاية العقد الثاني وأوائل العقد الثالث، فمن الذي آخّر العبقرية عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليقول هذا القول البليغ الذي أعجزكم، وأنتم أمّة البلاغة وأمة الفصاحة المرتاضون عليها من قديم، وعجزتم أمام ما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ كان يجب أن تقولوا: لم نعرف عنه أنه يعلم شيئاً من هذا، فإذا حَلّ لكم اللغز وأوضح لكم: أن القرآن ليس من عندي؛ كان يجب أن تصدقوه؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعزوه إلى خالقه وربه سبحانه. والدليل على أنكم مضطربون في الحكم أنكم ساعة يقول لكم: القرآن بلاغ عن الله، تكذِّبونه، وتقولون: لا، بل هو من عندك، فإذا فَترَ عنه الوحي مرّةً قلتم: قلاه ربُّه. لماذا اقتنعتم بأن له ربّاً يَصِلُه بالوحي ويهجره بلا وحي؟ أنتم إذن أنكرتم حالة الوصل بالوحي، واعترفتم بالإله الخالق عندما غاب عنه الوحي، وكان يجب أن تنتبهوا وتعودوا إلى عقولكم؛ لتحكموا على هذه الأشياء، وقد ذكر الحق سبحانه ذلك الأمر في كثير من آياته، يقول سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5807 {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] ويقول سبحانه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44] ويقول سبحانه: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: 45] ويقول سبحانه: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48] فمن أين جاءت تلك البلاغة؟ كان يجب أن تأخذوا هذه المقدِّمات؛ لتحكموا بأنه صادق في البلاغ عن الله؛ لذلك يُنهى الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} . وحين ينبهك الحق سبحانه وتعالى إلى أن تستعمل عقلك، فهذا دليل على الثقة في أنك إذا استعملت عقلك؛ وصلت إلى القضية المرادة. والله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5808 سبحانه وتعالى مُنزَّه عن خديعة عباده، فمن يخدع الإنسان هو من يحاول أن يصيب عقله بالغفلة، لكن الذي ينّبه العقل هو من يعلم أن دليل الحقيقة المناسبة لما يقول، يمكن الوصول إليه بالعقل. وقول الحق سبحانه في آخر الآية: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} يدلنا على أن القضية التي كذَّبوا فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نشأت من عدم استعمال عقولهم، فلو أنهم استعملوا عقولهم في استخدام المقدمات المُحسَّة التي يؤمنون بها ويسلمون؛ لانتهوا إلى القضية الإيمانية التي يقولها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولو أنهم فكّروا وقالوا: محمد نشأ بيننا ولم نعرف له قراءة، ولا تلاوة كتاب ولا جلوساً إلى معلِّم، ولم يَغبْ عنا فترة ليتعلَّم، وظل مدة طويلة إلى سِنِّ الأربعين ولم يرتض على قول ولا على بلاغة ولا على بيان؛ فمن أين جاءته هذه الدفعة القوية؟ كان يجب أن يسألوه هو عنها: من أين جاءتك هذه؟ وما دام قد قال لهم: إنها جاءته من عند الله، فكان يجب أن يصدِّقوه. ومهمة العقل دائما مأخوذة من اشتقاقه، «فالعقل» مأخوذ من «عقال» البعير. وعقال البعير هو الحبل الذي يربط به ساقي الجمل؛ حتى لا ينهض ويقوم؛ لنوفِّر له حركته فيما نحب أن يتحرك فيه، فبدلاً من أن يسير هكذا بدون غرض، وبدون قصد، فنحن نربط ساقيه؛ ليرتاح ولا يتحرك، إلى أن نحتاجه في حركة. إذن: فالعقل إنما جاء؛ ليحكم المَلَكَات؛ لأن كل مَلَكَة لها نزوع إلى شيء، فالعين لها مَلَكَة أن ترى كل شيء، فيقول لها العقل: لا داعي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5809 أن تشاهدي ذلك؛ لأنه منظر سيؤذيك، والأذن تحب أن تسمع كل قول، فيقول لها العقل: لا تسمعي إلى ذلك؛ حتى لا يضرك. إذن: فالعقل هو الضابط على بقية الجوارح. وكذلك كلمة «الحِكْمة» ، مأخوذة من «الحَكَمة» هي في «اللِّجام» الذي يوضع في فم الفرس؛ حتى لا يجمح، وتظل حركته محسوبة؛ فلا يتحرك إلا إلى الاتجاه الذي تريده. إذن: شاء الحق سبحانه أن يميّز الإنسان بالعقل والحكمة؛ ليقيم الموازين لملكات النفس؛ فخذوا المقدمات المُحَسَّة التي تؤمنون بها وتشهدونها وتسلمونها لرسول الله صلى الله عليه سلم لتستنبطوا أنه جاء بكلامه من عند الله تعالى. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5810 وهنا يوضح القرآن على لسان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أأكذب على الله؟ إذا كنت لم أكذب عليكم أنتم في أموري معكم وفي الأمور التي جرَّبتموها، أفأكذب على الله؟! إن الذي يكذب في أول حياته من المعقول أن يكذب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5810 في الكِبَر، وإذا لم أكذب علكيم أنتم، فهل أكذب على الله؟ وإذَا لم أكن قد كذبت وأنا غير ناضج التفكير، في طفولتي قبل أن أصل إلى الرجولة، فأنا الآن لا أستطيع الكذب. فإذا كنتم أنتم تتهمونني بذلك، فأنا لا أظلم نفسي وأتهمها بالكذب، فتصبحون أنتم المكذبين؛ لأنكم كذبتموني في أن القرآن مبلغ عن الله، ولو أنني قلت: إنه من عند نفسي لكان من المنطق أن تُكذِّبوا ذلك؛ لأنه شرف يُدَّعى. ولكن أرفعه إلى غيري؛ إلى من هو أعلى مني ومنكم. وقوله الحق: {فَمَنْ أَظْلَمُ} أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله سبحانه كذباً؛ لأن الكاذب إنما يكذب ليدلِّس على من أمامه، فهل يكذب أحد على من يعلم الأمور على حقيقتها؟ لا أحد بقادر على ذلك. ومن يكذب على البشر المساوين له يظلمهم، لكن الأظلم منه هو من يكذب على الله سبحانه. والافتراء كذب متعمد، فمن الجائز أن يقول الإنسان قضية يعتقدها، لكنها ليست واقعاً، لكنه اعتقد أنها واقعة بإخبار من يثق به، ثم تبين بعد ذلك أنها غير واقعة، وهذا كذب صحيح، لكنه غير متعمد، أما الافتراء فهو كذب متعمد. ولذلك حينما قسم علماء اللغة الكلام الخبري؛ قسموه إلى: خبر وإنشاء، والخبر يقال لقائله: صدقت أو كذبت، فإن كان الكلام يناسب الواقع فهو صدق، وإن كان الكلام لا يناسب الواقع فهو كذب. وقوله الحق: {افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} يبين لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن قلتم إنني ادعيت أن الكلام من عن الله، وهو ليس من عند الله. فهذا يعني أن الكلام كذب وهو من عندي أنا، فما موقف من يكَذب بآيات الله؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5811 إن الكذب من عندكم أنتم، فإن كنتم تكذبونني وتدَّعون أني أقول إن هذا من الله، وهو ليس من الله، وتتمادون وتُكذِّبون بالآيات وتقولون هي من عندك، وهي ليست من عندي، بل من عند الله؛ فالإثم عليكم. والكذب إما أن يأتي من ناحية القائل، وإما من ناحية المستمع، وأراد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عدالة التوزيع في أكثر من موقع، مثلما يأتي القول الحق مبيِّناً أدب النبوة: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] وليس هناك أدب في العرض أكثر من هذا، فيبين أن قضيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقضيتهم لا تلتقيان أبداً، واحدة منهما صادقة والأخرى كاذبة، ولكن من الذي يحدد القضية الصادقة من الكاذبة؟ إنه الحق سبحانه. وتجده سبحانه يقول على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وفي ذلك طلب لأن يعرضوا الأمر على عقولهم؛ ليعرفوا أي القضيتين هي الهدى، وأيهما هي الضلال. وفي ذلك ارتقاء للمجادلة بالتي هي أحسن من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5812 {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] أي: كل واحدة سيُسأل عن عمله، فجريمتك لن أسأل أنا عنها، وجريمتي لا تُسأل أنت عنها. ونسب الإجرام لجهته ولم يقل: «قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تجرمون» وشاء ذلك ليرتقي في الجدل، فاختار الأسلوب الذي يُهذِّب، لا ليهيِّج الخصم؛ فيعاند، وهذا من الحكمة؛ حتى لا يقول للخصم ما يسبب توتره وعناده فيستمر الجدل بلا طائل. وهنا يقول الحق سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} فإذا كان الظلم من جهتي؛ فسوف يحاسبني الله عليه، وإن كان من جهتكم؛ فاعلموا قول الحق سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون} ولم يحدد من المجرم، وترك الحكم للسامع. كما تقول لإنسان له معك خلاف: سأعرض عليك القضية واحكم أنت، وساعة تفوضه في الحكم؛ فلن يصل إلا إلى ما تريد. ولو لم يكن الأمر كذلك لما عرضت الأمر عليه. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5813 وكلمة {وَيَعْبُدُونَ} تقتضي وجود عابد؛ ووجود معبود؛ ووجود معنى للعبادة. والعابد أدنى حالاً من المعبود، ومظهر العبادة والعبودية كله طاعة للأمر والانصراف عن المنهي عنه. هذا هو أصل العبادة، ووسيلة القرب من الله. وحتى تكون العبادة في محلها الصحيح لا بد أن يقر العابد أن المعبود أعلى مرتبة في الحكم على الأشياء، أما إن كان الأمر بين متساويين فيسمونه التماساً. إذن: فهناك آمر ومأمور، فإن تساويا؛ فالمأمور يحتاج إلى إقناع، وأما إن كان في المسألة حكم سابق بأن الآمر أعلى من المأمور؛ كالأستاذ بالنسبة للتلميذ، أو الطبيب بالنسبة للمريض، ففي هذا الوضع يطيع المأمور الآمر لأنه يفهم الموضوع الذي يأمر فيه. وكذلك المؤمن؛ لأن معنى الإيمان أنه آمن بوجود إله قادر له كل صفات الكمال المطلق؛ فإذا اعتقدت هذا؛ فالإنسان ينفذ ما يأمر به الله؛ ليأخذ الرضاء والحب والثواب. وإن لم ينفذ؛ فسوف ينال غضب المعبود وعقابه. إذن: فأنت إن فعلت أمره واجتنبت نهيه؛ نلت الثواب منه، وإن خالفت؛ تأخذ عقاباً؛ لذلك لا بد أن يكون أعلى منك قدرة، ويكون قادراً على إنفاذ الثواب والعقاب، والقادر هو الله جل علاه. أما الأصنام التي كانوا يعبدونها، فبأي شيء أمرتهم؟ إنها لم تأمر بشيء؛ لذلك لا يصلح أن تكون لها عبادة؛ لأن معنى العبادة يتطلب أمراً ونهياً، ولم تأمر الأصنام بشيء ولم تنه عن شيء، بل كان المشركون هم الذين يقترحون الأوامر والنواهي، وهو أمر لا يليق؛ لأن المعبود هو الذي عليه أن يحدد أوجه الأوامر والنواهي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5814 إذن: فمن الحمق أن يعبد أحدٌ الأصنم؛ لأنها لا تضر من خالفها، ولا تنفع من عبدها، فليس لها أمر ولا نهي. ومن أوقفوا أنفسهم هذا الموقف نسوا أن في قدرة كل منهم أن ينفع الصنم وأن يضره، فالواحد منهم يستطيع أن يصنع الصنم، وأن يصلحه إذا انكسر، أو يستطيع أن يكسره بأن يلقيه على الأرض. وفي هذه لحالة يكون العابد أقدر من المعبود على الضر وعلى النفع، وهذا عين التخلف العقلي. إذن: فمثل هذه العبادة لون من الحمق، ولو عُرِضَتْ هذه المسألة على العقل؛ فسوف يرفضها العقل السليم. وعندما تجادلهم، وتثبت لهم أن تلك الأصنام لا تضر ولا تنفع، تجد من يكابر قائلاً: {هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} وهم بهذا القول يعترفون أن الله هو الذي ينفع ويضر، ولكن أما كان يجب أن يتخذوا شفيعاً لهم عند الله، وأن يكون الشفيع متمتعاً بمكانة ومحبة عند من يشفع عنده؟ ثم ماذا يقولون في أن من تُقدم له شفاعة هو الذي ينهى عن اتخاذ الأصنام آلهة وينهي عن عبادتها؟ وهل هناك شفاعة دون إذن من المشفوع عنده؟ من أجل ذلك جاء الأمر من الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5815 {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [يونس: 18] إذن: فمن أين جئتم بهذه القضية؛ قضية شفاعة الأصنام لكم عند الله؟ إنها قضية لا وجود لها، وسبحانه لم يبلغكم أن هناك أصناماً تشفع، وليس هذا وارداً، فقولكم هذا فيه كذب متعمد وافتراء. فهو سبحانه الذي خلق السموات وخلق الأرض، ويعلم كل ما في الكون، وقضية شفاعة الأصنام عنده ليست في علمه، ولا وجود لها، بل هي قضية مفتراة، مُدَّعاة. وقوله الحق هنا: {أَتُنَبِّئُونَ الله} مثلها مثل قوله الحق: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} [الحجرات: 16] ويعني هذا القول بالرد على من قالوا ويقولون: إن المطلوب هو تشريعات تناسب العصر، وكلما فسد العصر طالبوا بتشريعات جديدة، وما داموا هم الذين يشرِّعون، فكأنهم يرغبون في تعليم خالقهم كيف يكون الدين، وفي هذا اجتراء وجهل بقدرة وحكمة مَنْ خلق الكون، فأحكمه بنظام. وقوله الحق: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فيه تنزيه له سبحانه، فهو الخالق لكل شيء، خالق الملك والملكوت ويعلم كل شيء، وقضية شفاعة الأصنام إنما هي قضية مفتراة لا وجود لها؛ لذلك فهي ليست في علم الله، والحق سبحانه مُنزَّه أن توجد في ملكه قضية لها مدلول يقيني ولا يعلمها، ومُنزَّه جل وعلا عن أن يُشرَك به؛ لأن الشريك إنما يكون ليساعد من يشركه، ونحن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5816 نرى على سبيل المثال صاحب مال يديره في تجارة ما، ولكن ماله لا ينهض بكل مسئوليات التجارة، فيبحث عن شريك له. وسبحانه وتعالى قوي وقادر، ولا يحتاج إلى أحد في ملكية الكون وإدارته، ثم ماذا يفعل هؤلاء الشركاء المدَّعون كذباً على الله؟ إن الحق سبحانه يقول: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] وهذا القول الحكيم ينبه المشركين إلى أنه بافتراض جدلي أن لهؤلاء الشركاء قوة وقدرة على التصرف، فهم لن يفعلوا أي شيء إلا بابتغاء ذى العرش، أي: بأمره سبحانه وتعالى. وهم حين ظنوا خطأ أن لكل فلك من الأفلاك سيطرة على مجال في الوجود، وأن النجوم لها سيطرة على الوجود، وأن كل برج من الأبراج له سيطرة على الوجود، فلا بد في النهاية من الاستئذان من مالك الملك والملكوت. ومن خيبة من ظنوا مثل هذه الظنون، ومعهم الفلاسفة الذين أقروا بأن هناك أشياء في الكون لا يمكن أن يخلقها إنسان، أو أن يدَّعى لنفسه صناعتها؛ لأن الجنس البشري قد طرأ على هذه المخلوقات، فقد طرأ الإنسان على الشمس والقمر والنجوم والأرض، ولا بد إذن أن تكون هناك قوة أعلى من الإنسان هي التي خلقت هذه الكائنات. كل هذه الكائنات تحتاج إلى مُوجِد، ولم نجد معامل لصناعة الشمس أو القمر أو الأرض أو وجدنا من ادعى صناعتها أو خلقها. ولكن الفلاسفة الذين قبلوا وجود خالق للكون لم يصلوا إلى اسمه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5817 ولا إلى منهجه، وقوة الحق سبحانه مطلقة، ولا يحتاج إلى شريك له، وإذا أردنا أن نتأمل ولو جزءاً بسيطاً من أثر قوة الله التي وهبها للإنسان، فلنتأمل صناعة المصباح الكهربي. وكل منا يعلم أنه لا توجد بذرة نضعها في الأرض، فتنبت أشجاراً من المصابيح، بل استدعت صناعة مصباح الكهرباء جهد العلماء الذين درسوا علما الطاقة، واستنبطوا من المعادلات إمكان تصور صناعة المصباح الكهربي، وعملوا على تفريغ الهواء من الزجاجة التي يوضع فيها السلك الذي يضيء داخل المصباح، وهكذا وجدنا أن صناعة مصباح كهربي واحد تحتاج إلى جهد علماء وعمل مصانع، كل ذلك من أجل إنارة غرفة واحدة لفترة من الزمن. فما بالنا بالشمس التي تضيء الكون كله، وإذا كان أتفه الأشياء يتطلب كمية هائلة من العلم والبحث والإمكانات الفنية والتطبيقية، وتطوير للصناعات، فما بالنا بالشمس التي تضيء نصف الكرة الأرضية كل نصف يوم، ولا أحد يقدر على إطفائها، ولا تحتاج إلى صيانة من البشر، وإذا أردت أن تنسبها فلن تجد إلا الله سبحانه. وأنت بما تبتكره وتصنعه لا يمكن أن يصرفك عن الله، والذكي حقاً هو من يجعل ابتكاراته وصناعاته دليلاً على صدق الله فيما أخبر. وإذا كان الحق سبحانه قد خلق الشمس ضمن ما خلق وإذا أشرقت أطفأ الكل مصابيحهم؛ لأنها هي المصباح الذي يهدي الجميع، وإذا كان ذلك هو فعل مخلوق واحد لله، فما بالنا بكل نعمة من سائر مخلوقاته. ونور الشمس إنما يمثل الهداية الحسية التي تحمينا من أن نصطدم بالأشياء فلا تحطمنا ولا نحطمها، فكذلك يضيء لنا الحق سبحانه المعاني والحقائق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5818 وإياك أن تقول: إن الفيلسوف الفلاني جاء بنظرية كذا؛ فخذوا بها، بل دع عقلك يعمل ويقيس ما جاء بهذه النظرية على ضوء ما نزل في كتاب الحق سبحانه، وإن دخلت النظرية مجال التطبيق، وثبت أن لها تصديقاً من الكتاب، فقل: إن الحق سبحانه قد هدى فلاناً إلى اكتشاف سر جديد من أسرار القرآن؛ لأن الحق يريد منا أن نتعقل الأشياء وأن ندرسها دراسة دقيقة، بحيث نأخذ طموحات العقل؛ لتقربنا إلى الله، لا لتبعدنا عنه، والعياذ بالله. وإذا قال الحق سبحانه: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فذلك لأن الشركة تقتضي طلب المعونة، وطلب المعونة يكون إما من المساوي وإما من الأعلى، ولا يوجد مساوٍ لله تعالى، ولا أعلى من الله سبحانه وتعالى. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5819 وقد جاءت آية في سورة البقرة متشابهة مع هذه الآية وإن اختلف الأسلوب، فقد قال الحق سبحانه في سورة البقرة: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين} [البقرة: 213] والذين يقرأون القرآن بسطحية وعدم تعمق قد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5819 لا يلتفتون إلى الآيات المشابهة لها في المعنى العام، وهذه الآيات توازن بين المعاني فلا تضارب بين آية وأخرى. ولذلك نجد بين المفكرين العصريين من يقول: إن الناس كانوا كلهم كفاراً، ثم ارتقى العقل محاولاً اكتشاف أكثر الكائنات قوة؛ ليعبدوه، فوجدوا أن الجبل هو الكائن العالي الصلب؛ فعبدوه. وأناس آخرون قالوا: إن الشمس أقوى الكائنات فعبدوها، وآخرون عبدوا القمر، وعبد قوم غيرهم النجوم، واتخذ بعض آخر آلهة من الشجر، وكل جماعة نظرت إلى جهة مختلفة تتلمس فيها القوة. وهم يأخذون من هذا أن الإنسان قد اهتدى إلى ضرورة الدين بعقله، ثم ظل هذا العقل في ارتقاء إلى أن وصل إلى التوحيد. ونرد على أصحاب هذا القول: أنتم بذلك تريدون أن تعزلوا الخلق عن خالقهم، وكأن الله الذي خلق الخلق وأمدهم بقوام حياتهم المادية قد ضَنَّ عليهم بقوام حياتهم المعنوية، وليس هذا من المقبول أو المعقول، فكيف يضمن لهم الحياة المادية، ولا يضمن لهذه المادية قيماً تحرسها من الشراسة وتحميها من الفساد والإفساد؟ وقوله الحق: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] لذلك فَهِمَ البعض أن الناس كانوا أمة واحدة في الكفر، وحين جاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5820 النبيون، اختلف الناس؛ لأن منهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر، ولكن لو أحسن الذين قالوا مثل هذا القول الاستنباط وحسن الفهم عن الله لوجدوا أن مقصود الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الآن إنما هو: ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا؛ فبعث الله النبيين؛ ليخرجوهم عن الخلاف ويعيدوهم إلى الاتفاق على عهد الإيمان الأول الذي شهدوا فيه بربوبية الحق سبحانه وتعالى؛ لأن الأصل في المسألة هو الإيمان لا الكفر. ومن أخذ آية سورة البقرة كدليل على كفر الناس أولاً، نقول له: اقرأ الآية بأكملها؛ لتجد قوله الحق: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ} [البقرة: 213] وهكذا نرى أن الاختلاف الذي حدث بين الناس جاء في آية البقرة في المؤخرة، بينما جاء الاختلاف في هذه الآية في المقدمة، وهذا دليل على أن الناس كانوا أمة واحدة على الإيمان، فليس هناك أناس أوْلَى من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5821 أناس عند الخالق سبحانه وتعالى، ولم يكن عدل الله ليترك أناساً متخبطين في أمورهم على الكفر، ويرسل الرسل لأناس آخرين بالهداية؛ فالناس بالنسبة لله سواء. وما دام الحق سبحانه قد أوجد الخلق من البشر فلا بد أن يُنزل لهم منهجاً؛ ولذلك حين نقرأ قول الحق سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] نجد فيه الرد على من يقول إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى الكعبة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يترك الخلق من آدم إلى إبراهيم دون بيت يحجون إليه، ولكن الحق سبحانه وضع البيت؛ ليحج إليه الناس من أول آدم إلى أن تقوم الساعة، والذي وضع البيت ليس من الناس، بل شاء وضع البيت خالق الناس، وما فعله سيدنا إبراهيم عليه السلام هو رفع القواعد من البيت الحرام. أي: أنه أقام ارتفاع البيت بعد أن عرف مكان البيت طولاً وعرضاً، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5822 وهكذا يَصْدُق قول الحق سبحانه بأن البيت قد وُجد للناس قبل آدم، وهو الناس إلى أن تقوم الساعة، وهكذا نعلم أن الحق سبحانه خلق الخلق وأنزل لهم المنهج، والأصل في الناس هو الإيمان، لكن الكفر هو الذي طرأ على البشر من بابين: باب الغفلة، وباب تقليد الآباء. والدليل على ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلَّم عن ميثاق الذر، قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172173] إذن: فالتعصِّي عن الحكم الإيماني مدخله بابان: الأول باب الغفلة، أي: أن تكون قد عملتَ شيئاً، ولم تجعله دائماً في بؤرة شعورك؛ لأن عقلك يستقبل المعلومات، ويستوعبها من مرة واحدة، إن لم تكن مُشتَّتَ الفكر في أكثر من أمر، فإن كنت صافي الفكر ومنتبهاً إلى المعلومة التي تَصِلُكَ؛ فإن عقلك يستوعبها من مرة واحدة، ومن المهم أن يكون الذهن خالياً لحظة أن تستقبل المعلومة الجديدة. ولذلك نجد فارقاً بين إنسان وإنسان آخر في حفظ المعلومات، فواحد يستقبل المعلومة وذهنه خالٍ من أي معلومة غيرها، فتثبت في بؤرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5823 الشعور، بينما يضطر الآخر إلى تكرار قراءة المعلومة إلى أن يخلو ذهنه من غيرها؛ فتستقر المعلومة في بؤرة الشعور، وحين تأتي معلومة أخرى، فالمعلومة الأولى تنتقل إلى حاشية الشعور إلى حين أن يستدعيها مرة أخرى. وإذا أراد طالب على سبيل المثال أن يستوعب ما يقرأ من معلومات جديدة، فعلية أن ينفض عن ذهنه كل المشاغل الأخرى؛ ليركِّز فيما يدرس؛ لأنه إن جلس إلى المذاكرة وباله مشغول بما سوف يأكل في الغداء، أو بما حدث بينه وبين أصدقائه، أو بما سوف يرتدي من ملابس عند الخروج من البيت، أو بغير ذلك من المشاغل، هنا سوف يُضطر الطالب أن يعيد قراءة الدرس أكثر من مرة؛ حتى يصادف الدرسُ جزئية خالية من بؤرة الشعور؛ فتستقر فيها. وقد نجد طالباً في صباح يوم الامتحان وهو يسمع من زملائه أن الامتحان قد يأتي في الجزء الفلاني من المقرر؛ فيفتح الكتاب المقرر على هذا الجزء ويقرأه مرة واحدة؛ فيستقر في بؤرة الشعور، ويدخل الامتحان، ليجد السؤال في الجزء الذي قرأه مرة واحدة قبل دخوله إلى اللجنة؛ فيجيب عن السؤال بدقة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5824 ولذلك فالتلميذ الذكي هو من يقوم بما يسمِّيه علم النفس «عملية الاستصحاب» ، أي: أن يقرأ الدرس ثم يغلق الكتاب؛ ليسأل نفسه: «ما الجديد من المعلومات في تلك الصفحة؟» ويحاول أن يتذكر ذلك، ويحاول أن يتعرف حتى على الألفاظ الجديدة التي في تلك الصفحة، وما هي الأفكار الجديدة التي صحَّحَتْ له معلومات أو أفكاراً خاطئة كانت موجودة لديه. وهكذا يستصحب الطالب معلومات بتركيز وانتباه. وكذلك الأستاذ المتميز هو من يشرح الدرس ثم يتوقف؛ ليسأل التلاميذ؛ ليشير انتباههم؛ حتى لا ينشغل أحدهم بما هو خارج الدرس، والأستاذ المتميز هو الذي يلقي درسه بما يستميل التلاميذ، كما تستميلهم القصة المروية، وحتى لا تظل المعلومات الدراسية مجرد معلومات جافة. وبهذا يستمر الذهن بلا غفلة، والغفلة تأتي إلى القضايا الدينية؛ لأن في الإنسان شهوات تصادم الأوامر والنواهي؛ فيتناسى الإنسان بعض الأوامر وبعض النواهي إلى أن يأتي الران الذي قال عنه الحق سبحانه: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] ويبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك بالحديث الشريف: «نزلت الأمانة في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السُّنَّة» . ثم يحدثنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن رفع الأمانة فيقول: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5825 من قلبه؛ فيظل أثرها مثل أثر الوكْت» أي: مثل لسعة النار وهكذا تتوالى؛ حتى يأتي الرَّانُ على القلب. إذن: فالغفلة تتلصص على النفس الإنسانية، وكلما غفل الإنسان في نقطة، ثم يغفل عن أخرى وهكذا. ولكن من لا يغفل فهو من يتذكر الحكم، وبطبقه، ويذوق حلاوته. ومثال هذا: المسلم الذي يشرح الله تعالى قلبه للصلاة، فإن لم يُصّلِّ يظل مُرْهقاً وفي ضيق. ولذلك جاء في الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيّ قلب أشْرِبها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه» . إذن: فالغفلة هي أول باب يدخل منه الشيطان؛ فيبعد الإنسان عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5826 أحكام الله. وإذا ما غفل الأب، فالأبناء يُقلِّدون الآباء، فتأتيهم غفلة ذاتية. وهكذا يكون الغافل أسوة لمن بعده. ولذلك قال الحق سبحانه عن الأبناء الذين يتعبون غفلة الآباء: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} [البقرة: 170] وإلْف تقليد الآباء قضية كاذبة؛ لأننا سلسنا مسألة الإيمان إلى آدم عليه السلام، وهو الأب الأول لكل البشر؛ لوجدنا أن آدم عليه السلام قد طبَّق كل مطلوب لله، فإن قلت: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} فهذا القول يحتم عليك ألا تنحرف عن الإيمان الفطري، وإلا كنت من الكاذبين غير المدققين فيما دخل على الإيمان الفطري من غفلة أو غفلات، تبعها تقليد دون تمحيص. والحق سبحانه قد شاء أن تكون كل كلمة في القرآن لها معنى دقيق مقصود، فالحق سبحانه يقول على ألسنة الكافرين في القرآن: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ولم يقل: «مهتدون» بل قال: «مقتدون» ، والمقتدي من هؤلاء هو من اتخذ أباه قدوة، لكن المهتدي هو مَنْ ظن أن أباه على حق. إذن: فالمقتدي هو من لا يهتم بصدق إيمان أبيه، بل يقلده فقط، وتقليد الآباء نوعان: تقليد على أنه اقتداء مطلق لا صلة له بالهدى أو الضلال، وتقليد على أنه هدى صحيح لشرع الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5827 وقد حدث خلاف حول آدم عليه السلام أهو رسول أم نبي فقط؟ فهناك مَنْ قال: إن أول الرسل هو نوح عليه السلام ونقول: وهل من المعقول أن يترك الله الخلق السابقين على نوح عليه السلام دون رسول؟ إن الحق سبحانه وهو القائل: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] والذي أشكل على هؤلاء المفسرين الذين قالوا: إن أول رسول هو نوح عليه السلام أنهم قد فكروا تفكيراً سطحياً، وفهموا أن الرسول يطرأ على المرسل إليهم، وما دام لم يكن هناك بشر قبل آدم فكيف يكون آدم مبعوثاً برسالة، ولمن تكون تلك الرسالة؟ ولم يفطن هؤلاء المفسرون إلى أن آدم عليه السلام كان رسولاً وأسوة إلى أبنائه، فالحق سبحانه قد قال له: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] وسبحانه قد قال لآدم عليه السلام: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] وما دام الحق سبحانه قد ذكر الهدى، فهذا ذكر للمنهج، وهو الذي طبقه سلوكاً يقلده فيه الأبناء. وغفل هؤلاء المفسرون أيضاً عن استقراء قوله الحق: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} [المائدة: 27] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5828 وابْنَا آدم عليه السلام قد قدَّمنا القربان إلى الله تعالى. إذن: فهما قد عرفا أن هناك إلهاً. وحين قال قابيل لأخيه: {لأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة: 27] بعد ما تقبل الله قربان أخيه ولم يتقبل منه. قال هابيل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] ثم في قول هابيل: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [المائدة: 28] إذن: لو لم يكن آدم عليه السلام رسولاً فمن بلَّغ أبناءه بأن الله يثيب ويعاقب؟ والحق سبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وفي هذا إشارة إلى أن الله سبحانه قبل رسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يعاقب مَن يكذِّب البلاغ عنه وما جاء به السابقون من الرسل، يقول سبحانه: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5829 إلا أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] أي: أنه سبحانه قد أجَّلَ الجزاء والعقوبة عن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الآخرة. وهذه الكلمة التي سبقت، أنه سبحانه لا يؤاخذ أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذنوبهم في الدنيا، ولكنه يؤخِّر ذلك إلى يوم الجزاء. ويقضي سبحانه في ذلك اليوم بين من اتبعوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن عاندوه، وبطبيعة الحال يكون الحق سبحانه في جانب من أرسله، لا من عاند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5830 والآية كما عرفنا هي الشيء العجيب، وإما أن تكون آية كونية، أو آية إعجاز، أو آية قرآن تشتمل على الأحكام. ولماذا لم يصدقوا آيات القرآن، وهي معجزة بالنسبة إليهم؟ نقول: إن استقبال القرآن فَرْع تصديق للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد حدث اللبس عندهم؛ لأنهم ظنوا أن الآية هي الآيات المحسّة الكونية المشهودة، وما علموا أن الآيات التي سبق بها الرسل إنما جاءت لتناسب أزمان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5830 رسالاتم، ولتناسب مواقعهم من المرسل إليهم. فقد كان الرسل السابقون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى جميع الرسل السلام قد بُعث كل منهم لأمة محدودة زماناً ومكاناً؛ ولذلك كانت الآيات التي اصطحبوها آيات حسية، وكل آية كانت من جنس ما نبغ فيه القوم المبعوث إليهم. أما رسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فهي لعامة الزمان وعامة المكان. فلو جعل الله سبحانه له آية حسية لآمن بها مَنْ شاهدها، ولَصارَتْ خبراً لمن يشاهدها. ونحن على سبيل المثال كمسلمين لم نصدِّق أن موسى عليه السلام قد ضرب البحر فانشق له البحر؛ إلا لأن القرآن قال ذلك؛ لأن كل أمر حسي يقع مرة واحدة فمن شاهده آمن به، ومن لم يره إن حُدِّث به له أن يكذِّب، وله أن يصدِّق، ولكنّا صدقنا؛ لأن القائل هو الحق سبحانه وقد أبلغنا ذلك في القرآن. وثقتنا فيمن قال هي التي جعلتنا نصدق معجزات الرسل السابقين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقد يتساءل البعض عن السر في عدم إرسال معجزات حسية مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فنقول: لقد شاء الله سبحانه أن يرسل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمعجزة باقية إلى أن تقوم الساعة وهي معجزة القرآن. وتتحدث كتب السيرة أن الماء نبع من بين أصابعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فمن صدَّق صدَّق، وإن قرأت ولم تصدِّق ذلك، فاعلم أنك لست المقصود بها، فقد كان المقصود بها هم المعاصرون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5831 لها، وقد جاءت لتربيب الإيمان في القوم المعاصرين؛ لأنهم كانوا في حاجة إلى شَدِّ أزْرِهم الإيماني، وحدَّثتنا كتب السيرة أيضاً عن حفنة الطعام التي أكل منها عدد كبير من الرجال، ومن صدَّق الرواية؛ فليصدِّقها، ومَن لم يصدِّقها، فهذه الآية لم تأتِ له، لكنها جاءت للمعاصرين له صلى الله عليه وسلام. وهذا لا يمنع أن يكون للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معجزات حسية كباقي إخوانه من الرسل علينا أن نؤمن بها بالثقة فيمن أخبر بها. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} وإن دخلت «لولا» على جملة اسمية، فالمقصود بها عدم شيء لوجود شيء، كقول إنسان لآخر: لولا زيد عندك لأتيتك، وبذلك ينعدم ذهابه إلى فلان لوجود زيد عنده. وهكذا تكون «لولا» حرف امتناع لوجود، وكذلك كلمة «لوما» إن وجدتها تدخل على جملة اسمية فاعرف أنها امتناع شيء، لوجود شيء وإن دخلت «لولا» على جملة فعلية فاعلم أنها حثٌّ وتحضيض. وهم هنا قد قالوا: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} وكأنهم لا يعترفون بالقرآن، وطلبوا آية حسية؛ لذلك نجد الحق سبحانه يقول في موقع آخر بالقرآن الكريم: {لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى} [القصص: 48] وهذا تأكيد أنهم طلبوا الآية الحسية؛ لأنهم علموا بالآيات الحسية للرسل السابقين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن قولهم هذا كان تشبثاً بالكفر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5832 رغم أنهم شهدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل أحواله، وقد حدثت الآيات الحسية ورآها مَنْ آمن به، وزاد تمسكهم بالإيمان. والذين طلبوا أن يأتي لهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمعجزة حسية، كمعجزة موسى عليه السلام، نسوا أن موسى عليه السلام قد بُعث إلى قوم محدودين هم بنو إسرائيل. أما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد بُعث إلى الناس كافة؛ لذلك كان لا بد أن تكون معجزته متتجّدة العطاءات، وتحمل المنهج المناسب لكل زمان ومكان. أما المعجزة الحسية فهي تنقضي بانقضاء زمانها ومكانها. أو هم طلبوا الآيات التي اقترحوها مثل قولهم: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} [الإسراء: 9093] إذن: فهم قد طلبوا آيات اقترحوها بأنفسهم، والآيات لا تكون باقتراح المرسل إليهم، بل بتفضُّل المُرْسِل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5833 ولقائلٍ أن يقول: ولماذا لم يُرسِل الحق سبحانه لهم آية حسية معجزة كما قالوا؟ فنقول: إن الحق سبحانه قد قال: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإسراء: 59] وعلى ذلك يكون قولهم بطلب الآيات مدحوضاً؛ لأن الحق سبحانه قد أرسل الآيات من قبل وكذَّب بها الأولون، أو هم طلبوا آيات اقترحوها، ويقول الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} وفي هذا إقرار منهم بأن لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربّاً، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُبلِّغ عنه، فكيف إذن يُنكرون أنه رسول؟! ونعلم أنهم قالوا من قبل: «إن رب محمد قد قلاه» حين فتر الوحي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن الحق سبحانه ردّ عليهم: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3] إذن: هم قد ناقضوا أنفسهم، ففي الوصل منعوا وأنكروا أن يكون له ربُّ، وفي الهجر سلّموا بأن له ربّاً، وهذا تناقض في الشيء الواحد، وهو لون من التناقض يؤدي إلى اضطراب الحكم، واضطراب الحكم يدل على يقظة الهوى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5834 ثم يقول الحق سبحانه رداً على طلبهم للآية الحسية: {فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ} وهكذا يُعلِّم الحق سبحانه وتعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جواباً احتياطياً، فمن الممكن أن يُنزل الحق سبحانه الآية الحسية، ومن الممكن ألا ينزلها، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يحكم على ربه؛ لأن الغيب أمر يخصه سبحانه، إن شاء جعل ما في الغيب مشهداً، وإن شاء جعل الغيب غيباً مطلقاً، وليس عليكم إلا الانتظار، ويعلن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه معهم من المنتظرين {فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} [يونس: 20] ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5835 والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين ضاق ذرعاً بالكافرين من صناديد قريش دعا عليهم أن يهديهم الحق بسنين الجدب كالسنين التي أصابت مصر واستطاع سيدنا يوسف عليه السلام أن يدبر أمرها، فلسط الحق سبحانه على قريش الجدب والقحط، ثم جاء لهم بالرحمة من بعد ذلك. وكان من المفروض أن يرجعوا إلى الله، وأن يؤمنوا برسالة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بعد أن علموا أن ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5835 مسَّهم من القحط ومن الجدب كان بسبب دعوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهم اجعلها عليهم سنين كَسِنِيِّ يوسف» . وانتهت السنوات السبع وجاء لهم الرحمة ممثلة في المطر، ولم يلتفتوا إلى ضرورة شكر الله والإيمان برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكنهم ظلوا يبحثون عن أسباب المطر، فمنهم من قال: لقد جاء مطرنا نتيجة لِنوْءِ كذا، ولأن الرياح هبَّت على مناطق كذا، وفعلوا ذلك دون التفات لانتهاء دعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، مثلهم مَثَل مَنْ جلس يبحث في أسباب النصر في الحرب، وجعلوا أسبابها مادية في العُدَّة والعتاد، ولا أحد ينكر أهمية الاستعداد للقتال وجدواه، ولكن يبقى توفيق الله سبحانه وتعالى فوق كل اعتبار؛ لأن المؤمنين بالله الذين استعدوا للقتال ودخلوا المعارك وجدوا المعجزات تتجلى بنصر الله؛ لأن الحق سبحانه ينصر مَنْ ينصره. أما الذين يحصرون أسباب النصر في الاستعداد القتالي فقط، فالمقاتلون الذين خاضوا الحرب بعد التدريب الجاد، يعلمون أن التدريب وحده لا يصنع روح المقاتل، بل تصقل روحه رغبته في القتال ونَيْل الشهادة ودخول الجنة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5836 إذن: فلمدد السماء مدخل، ومَن رأى من المقاتلين آية مخالفة لنواميس الكون، فليعلم علم اليقين أن يد الله كانت فوق أيدي المؤمنين المقاتلين. ومن يدعي أن أي نصر هو نتيجة للحضارة، يجد الرد عليه من المقاتلين أنفسهم بأن الحضارة بلا إيمان هي مجرد تقدم مادة هش لا يصنع نصراً، والنصر لا يكون بالمادة وحدها، وقد أمرنا الله بحسن الاستعداد المادي، ولكن النصر يكون بالإيمان فوق المادة. ولذلك نجد مَنْ خاضوا حربنا المنتصرة في العاشر من رمضان 1393هـ يعلمون أن مدد الله كان معهم بعد أن أحسنوا الاستعداد، ولا أحد من المقاتلين يصدق أن الاستعداد المادي وحده يمكن أن يكفي للنصر، إنه ضرورة، ولكن بالإيمان وحسن استخدام السلاح يكون النصر؛ ولذلك لا يصدق المقاتلون من ينسب النصر للمادة وحدها، وينسحب عدم التصديق على كل ما يقوله من ينكر دور الإيمان في الانتصار. وهكذا نجد أن مَنْ يجرد النصر من قيمة الإيمان إنما يخدم الإيمان؛ لأن إنكار الإيمان يقلل من قيمة الرأي المادى. وهكذا ينصر الله دينه حتى يثبته في قلوب جنده، ويقلل من قيمة ومكانة مَنْ ينكرون قيمة الإيمان. ومثال هذا في تاريخ الإسلام أن اليهود الذين كانوا يستفتحون على أهل المدينة من الأوس والخزرج بأن رسولاً سوف يظهر، وأنهم أي: اليهود سيتبعونه، وسوف يقتلون العرب من الأوس والخزرج قَتْل عادٍ وإرم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5837 ولما جاء وقت ظهور محمد بن عبد الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة، أسرعت الأوس والخزرج إلى الإيمان به، وقالوا: إنه النبي الذي تهددنا به يهود، فَلْنسبق إليه حتى لا يسبقونا. هكذا كانت كلمة اليهود هي دافع الأوس والخزرج إلى الإيمان. إذن: فالله ينصر دينه بالفاجر، رغم ظن الفاجر أنه يكيد للدين. وكذلك حين جاءت لهم الرحمة بعد القحط أرجفوا وظلوا يحللون سبب سقوط المطر بأسباب علمية محدودة بالمادة، لا بالإيمان الذي فوق المادة. ولذلك يقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [يونس: 21] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5838 والمكر: هو الكلام الملتوي الذي لا يريد أن يعترف برحمة الله، والادعاء بأن نوء كذا هو السبب في سقوط المطر، وبرج كذا هو السبب في سقوط المطر. وقوله الحق: {مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} والمكر هو الكيد الخفي، والمقصود به هنا محاولة الالتفاف؛ لتجريد العجائب من صنع الله لها، وحتى العلم وقوانينه فهو هبة من الله، والحق هو القادر على أن يوقف الأسباب وأن يفعل ما يريد وأن يخرق القوانين، فهو سبحانه رب القوانين، فلا تنسبوا أي خبر إلا له سبحانه؛ حتى لا نضل ضلال الفلاسفة الذين قالوا بأن الله موجود، وهو الذي خلق الكون وخلق النواميس؛ لتحكم الكون بقوانين. ونقول: لو خلق الحق سبحانه القوانين والنواميس وتركها تتحكم لما شَذَّ شيء عن تلك القوانين، فالمعجزات مع الرسل على سبيل المثال كانت خروجاً عن القوانين. وأبقى الله في يده التحكُّم في القوانين، صحيح أنه سبحانه قد أطلقها، ولكنه ظل قيُّوماً عليها، فيعطل القانون متى شاء ويبرزه متى شاء ويُوجِّه كيفما شاء. والمكر كما نعلم مأخوذ من التفاف أغصان الشجرة كالضفيرة، فلا تتعرف على منبت ورقة الشجر ومن أي غصن خرجت، فقد اختلطت منابت الأوراق؛ حتى صارت خفية عليك، وأخذ من ذلك الكيد الخفيّ، وأنت قد تكيد لمساويك، لكنك لن تقدر على أن تكيد لمن هو أعلى منك، فإن كنتم تمكرون فإن الله أسرع مكراً، والحق سبحانه يقول: {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً} ، وهذه أسمها «مشاكلة التعبير» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5839 أي: عليك أن تأخذ ذلك في مقابله في ذات الفاعل والفعل، ولكن لا تأخذ من هذا القول اسماً لله، فإياك أن تقول: إن الله سبحانه وتعالى ماكر؛ لأن المكر كيد خفيٌّ تفعله أنت مع مساويك، ولكنك لن تستطيع ذلك مع من هو مُطَّلع على كيدك، ولا تطّلع أنت على ما يشاء لك. وانظر إلى أي جماعة تكيد لأي أمر، وستجد من بينهم من يبلغ عنهم السلطات، وأجهزة الأمن، فإذا كان كيد البشر للبشر مفضوحاً بمن يشي منه بالآخرين، بل هناك من البشر غير الكائدين من يستطيع بنظرته أن يستنبط ويستكشف من يكيدون له. وهناك من الأجهزة المعاصرة ما تستطيع تسجيل مكالمات الناس والتنصُّت عليهم؛ وكل ذلك مكر من البشر للبشر، فما بالنا إن كاد الله لأحد، وليس هناك أحد مع الله سبحانه وتعالى ليبلغنا بكيده، ولا أحد يستطيع أن يتجسَّس عليه؟! مكر الله سبحانه إذن أقوى من أي مكرٍ بشري؛ لأن مكر البشر قد يُهدَم من بعض الماكرين أو من التجسس عليهم، لكن إذا كاد الله لهم، أيعلمون من كيده شيئاً؟ طبعاً لا يعملون. وكلمة {أَسْرَعُ مَكْراً} تلفتك إلى أن هناك اثنين يتنافسان في سباق، وحين تقول: فلان أسرع من فلان، فمعنى ذلك: أن كلاّ منهما يحاول الوصول إلى نفس الغاية، لكن هناك واحداً أسرع من الآخر في الوصول إلى الغاية. ومكركم البشري هو أمر حادث، لكن الله سبحانه أزلي الوجود، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5840 يعلم كل شيء قبل أن يقع، ويرتِّب كل أمر قبل أن يحدث؛ لذلك فهو الأسرع في الرد على مكركم، إن مكرتم. وهناك يقول الحق سبحانه: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} و «إذا» الأولى ظرف، أما إذا الثانية فهي «إذا الفجائية» مثلما تقول: خرجت فإذا الأسد بالباب. وهم حين أنزل الحق لهم الأمطار رحمة منه، فهم لا يهدأون ويستمتعون ويذوقون رحمة الله تعالى بهم من الماء الذي جاءهم من بعد الجدب، بل دبروا المكر فجأة، فيأتي قول الحق سبحانه: {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} . وهكذا ترى أن ما يبطل كيد الماكرين من البشر، يكون بإحدى تالك الوسائل: إما أن يكون بوشاية من أحد الماكرين، وإما أن يكون بقوة التخابر من الغير، وإما أن يكون من رسل العليّ القدير وهم الملائكة الذين يكتبون كل ما يفعله البشر، فسبحانه القائل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 1012] واقرأ أيضاً قول الحق سبحانه: {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5841 وجاء الحق سبحانه بكل ما سبق؛ لأنه سبحانه قد شاء أن يعطي لقريش فرصة التراجع في عنادها للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، هذا العناد الذي قالوا فيه: إنهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم، وهذا قول مغلوط؛ لأن الآباء في الأصل كانوا مؤمنين، ولكن جاءهم الضلال كأمر طارىء، والأصنام التي عبدوها طارئة عليهم من الروم، جاء بها إنسان ممن ساحوا في بلاد الروم هو «عمرو بن لحيّ» ، فإن رجعتُم إلى الإيمان بعد عنادكم؛ فهذا هو الطريق المستقيم الذي كان عليه آباؤكم بالفطرة والميثاق الأول. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5842 وهذه الآية الكريمة جاءت مرحلة من مراحل إخبار الله سبحانه وتعالى عن المعاندين لدعوة الإسلام، التي بدأها الحق سبحانه بأنه قد رحمهم فأجّل لهم استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر، ولو أنه أجابهم إلى ما دَعَوْا به على أنفسهم من الشر في قولهم: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5842 لقضي أمرهم: فمن رحمة الله تعالى أنه لم يُجِبْهم إلى دعائهم. وإذا كان الله سبحانه قد أجَّل استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر رحمة بهم، فيجب أن يعرفوا أن تأجيل استجابتهم بدعاء الخير رحمة بهم أيضاً؛ لأنهم قد يدعون بالشر وهم يظنون أنهم يدعون بالخير، وبعد ذلك دلّل على كذبهم في دعائهم على أنفسهم بالشر بأنهم إذا مسّهم ضرٌّ دعوا الله تعالى مضطجعين وقاعدين وقائمين. فلو كانوا يحبون الشر لأنفسهم؛ لظلوا على ما هم فيه من البلاء إلى أن يقضي الله تعالى فيهم أمراً. ثم عرض سبحانه قضية أخرى، وهي أنه سبحانه إذا مسهم بضر؛ ليعتبروا، جاء الله سبحانه برحمته؛ لينقذهم من هذا الضر. فياليتهم شركوا نعمة الله تعالى في الرحمة من بعد الضر، ولكنهم مرُّوا كأن لم يدعوا الله سبحانه إلى ضر مسَّهم. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يصور لنا الحق سبحانه وضعاً آخر، هو وضع السير في البر والبحر، فيقول: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} [يونس: 22] . وكلمة {يُسَيِّرُكُمْ} تدل على أن الذي يسِّير هو الله، ولكن في القرآن آيات تثبت أن السير يُنسب إلى البشر حين يقول: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض} [النمل: 69] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5843 وحين يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29] . وهو سبحانه يقول: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ: 18] فكأن هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد نسبت التسيير إلى الله سبحانه، وبعض الآيات الأخرى نسبت التسيير إلى النفس الإنسانية، ونقول لمن توهموا أن في ذلك تعارضاً: لو أنكم فطنتم إلى تعريف الفاعل عند النحاة وكيف يرفعونه؛ لعرفتم أن تحقق أي فعل إنما يعود إلى مشيئة الله سبحانه، فحين نقول: «نجح فلان» فهل هو الذي نجح، أم أن الذي سمح له بالنجاح غيره؟ إن الممتحن والمصحِّح هما من سمحا له بالنجاح؛ تقديراً لإجاباته التي تدل على بذَل المجهود في الاستذكار. وكذلك نقول: «مات فلان» ، فهل فلان فعل الموت بنفسه؟ خصوصاً ونحن نعرب «مات» كفعل ماضٍ، ونعرب كلمة (فلان) «فاعل» أو نقول: إن الموت قد وقع عليه واتَّصف به؛ لأن تعريف الفاعل: هو الذي يفعل الفعل، أو يتّصف به. وإذا أردنا أن ننسب الأشياء إلى مباشرتها السببية؛ قلنا: «سار الإنسان» . وإذا أردنا أن نؤرِّخ لسير الإنسان بالأسباب، وترحَّلنا به إلى الماضي؛ لوجدنا أن الذي سيَّره هو الله تعالى. وكل أسباب الوجود إنْ نظرتَ إليها مباشرة؛ وجدتها منسوبة إلى من هو فاعل لها؛ لكنك إذا تتبَّعتها أسباباً؛ وجدتّها تنتسب إلى الله سبحانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5844 فمثلاً: إذا سُئلت: مَنْ صنع الكرسي؟ تجيب: النجار. وإنْ سألت النجار: من أين أتيت بالخشب؟ سيجيبك: مِن التاجر. وسيقول لك التاجر أنه استورده من بلاد الغابات، وهكذا. إذن: إذا أردت أن تسلسل كل حركة في الوجود؛ لا بد أن تنتهي إلى الله تعالى. وحين قال الحق سبحانه: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29] نفهم من ذلك أن موسى عليه السلام قد سُيِّر بأهله؛ لأن التسيير في كل مقوماته من الله تعالى. والمثال الآخر: نحن نقرأ في القرآن قوله الحق: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] فهو سبحانه الذي خلق الضحك، وخلق البكاء. فنجد من يقول: كيف يقول الله سبحانه إنه خلق الضحك والبكاء وهو الذي يقول في القرآن: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} [التوبة: 82] ونقول: أنت إن نظرت إلى القائم بالضحك، فهو الإنسان الذي ضحك، وإن نظرت إلى من خلق غريزة الضحك في الإنسان؛ تجده الله سبحانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5845 وغريزة الضحك موجودة باتفاق شامل لكل أجناس الوجود، وكذلك البكاء فلا يوجد ضحك عربي، وضحك انجليزي، ولا يوجد بكاء فرنسي، أو بكاء روسي. إذن: فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الضحك والبكاء. وقد صدق قوله الحق: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] لكن الضاحك والباكي يقوم به الوصف. وكذلك قوله الحق: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] فقد شاء الحق سبحانه أن يمكن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالبشرية أن يرمي الحصى، ولكن إيصال الحصى لكل فرد في الجيش المقابل له، فتلك إرادة الله. إذن: فقول الحق سبحانه: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} . لا يتعارض مع أنهم هم الذين يسيرون، وأنت إذا علّلت السير في الأرض أو في البحر؛ ستجد أن السير هو انتقال السائر من مكان إلى مكان، وهو يحدِّد غاية السير بعقله، والأرض أو البحر الذي يسير في أي منهما بأقدامه أو بالسيارة أو بالمركب، هذا العقل خلقه الله تعالى، والأرض كذلك، والبحر أيضاً، كلها مخلوقات خلقها الله سبحانه وتعالى. وأنت حين تحرِّك ساقيك؛ لتسير، لا تعرف كيف بدأت السير ولا كَمْ عضلة تحركت في جسدك، فالذي أخضع كل طاقات جسمك لمراد عقلك هو الله تعالى. إذن: فكل أمر مرجعه إلى الله سبحانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5846 وهنا ملحظ في السير في البر والبحر، فكلاهما مختلف، فالإنسان ساعة يسير في الأرض على اليابسة، قد تنقطع به السبل، ويمكنه أن يستصرخ أحداً من المارة، أو ينتظر إلى أن يمر عليه بعض المارة؛ ليعاونه. أما المرور في البحر؛ فلا توجد به سابلة أو سالكة كثيرة؛ حتى يمكن للإنسان أن يستصرخهم. إذن: فالمرور في البحر أدق من المرور في البر؛ ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول عن السير في البحر: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22] وهكذا لا نجد أن في الآية نفسها حديثاً عن السير في البر؛ لأن الحق سبحانه ما دام قد تكلم عن إزالة الخطر للمضطر في البحر، فهذا يتضمن إزالته عمن يسير في البر من باب أولى. وإذا ما جاء الدليل الأقوى، فهو لا بد أن ينضوي فيه الدليل الأقل. ومثال هذا قول الحق سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف: 15] . وجاءت كل الحيثيات بعد ذلك للأم، ولم يأت بأي حيثية للأب، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5847 فيقول: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وشاء الحق سبحانه ذلك؛ لأن حيثية الأم مبنية على الضعف، فيريد أن يرقق قلب ابنها عليها، فالأب رجل، قد يقدر على الكدح في الدنيا، كما أن فضل الأب على الولد يدركه الولد، لكن فضل أمه عليه وهو في بطنها؛ لا يعيه، وفي طفولته الأولى لا يعي أيضاً هذا الفضل. ولكنه يعي من بعد ذلك أن والده يحضر له كل مستلزمات حياته، من مأكل وملبس، ويبقى دور الأم في نظر الطفل ماضياً خافتاً. إذن: فحيثية الأم هي المطلوبة؛ لأن تعبها في الحمل والإرضاع لم يكن مُدْرَكاً من الطفل. وكذلك هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، ترك الحق سبحانه حيثية البر وأبان بالتفصيل حيثية البحر: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} [يونس: 22] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5848 وكلمة (الفلك) تأتي مرة مفردة، وتأتي مرة جمعاً، والوزن واحد في الحالتين ومثال هذا أنه حين أراد الله سبحانه أن ينجي نوحاً عليه السلام، وأن يغرق الكافرين به، قال لسيدنا نوح: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] . إذن هي تطلق على المفرد، وعلى الجمع، ولها نظائر في اللغة في كلتا الحالتين، فهي في الإفراد تكون مثل: قُفْل، وقُرْط. وعند الجمع تكون مثل: أسْد. والحق سبحانه وتعالى يصف الريح هنا بأنها طيبة، والقرآن الكريم طبيعة أسلوبه حين يتكلم عن الريح بلفظ الإفراد يكون المقصود بها هو العذاب، مثل قوله الحق: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 2425] . وإن تكلم عنها بلفظ الجمع فهي للرحمة، وسبحانه القائل: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] . ويقول سبحانه أيضاً: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات} [الأعراف: 57] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5849 والرياح هنا جاءت في صيغة الجمع، وعلّة وجود ريح الشر، ورياح للخير، يمكنك أن تستشفها من النظر إلى الوجود كله؛ هذا النظر يوضح لك أن الهواء له مراحل، فهواء الرُّخَاء هو الذي يمر خفيفاً، مثل النسيم العليل، وأحياناً يتوقف الهواء فلا تمر نسمة واحدة، ولكننا نتنفس الهواء الساكن الساخن أثناء حرارة الجو، ثم يشتد الهواء أحياناً؛ فيصير رياحاً قوية بعض الشيء، ثم يتحول إلى أعاصير. والهواء كما نعلم هو المقوِّم الأساسي لكل كائن حي، ولكل كائن ثابت غير حي، فإذا كان الهواء هو المقوم الأساسي للنفس الإنسانية، فالعمارات الضخمة مثل ناطحات السحاب لا تثبت بمكانها إلا نتيجة توازن تيارات الهواء حولها، وإن حدث تفريغ للهواء تجاه جانب من جوانبها؛ فالعمارة تنهار. إذن: فالذي يحقق التوازن في الكون كله هو الهواء. ولذلك نجد القرآن الكريم قد فصّل أمر الرياح وأوضح مهمتها، وهنا يقول الحق سبحانه: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} وكأنه سبحانه يتكلم هنا عن السفن الشراعية التي تسير بالهواء المتجمِّع في أشرعتها. وإذا كان التقدم في صناعة السفن قد تعدَّى الشراع، وانتقل إلى البخار، ثم الكهرباء، فإن كلمة الحق سبحانه: {برِيحٍ طَيِّبَةٍ} تستوعب كل مراحل الارتقاء، خصوصاً وأن كلمة «الريح» قد وردت في القرآن الكريم بمعنى القوة أيا كانت: من هواء، أو محرك يسير بأية طاقة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5850 وسبحانه القائل: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] . وهكذا نفهم أن معنى الريح ينصرف إلى القوة. وأيضاً كلمة «الريح» تنسجم مع كل تيسيرات البحر. وقوله الحق: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} هذا القول الكريم يضم ثلاثة وقائع: الوجود في الفُلْك، وجرى الفُلْك بريح طيبة، ثم فرحهم بذلك؛ هذه ثلاثة أشياء جاءت في فعل الشرط، ثم يأتي جواب الشرط وفيه ثلاثة أشياء أيضاً: أولها: {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} وثانيها: {وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ} وثالثها: {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} . أما الريح العاصف: فهي المدمرة، ويقال: فلان يعصف بكذا، وفي القرآن: {كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5] . إذن: {رِيحٌ عَاصِفٌ} هي الريح المدمِّرة والمغرِقة. وقوله الحق: {وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ} . فالموج يأتي من أسفل، والريح تأتي من أعلى، وترفع الريح الموج فيدخل الموج إلى المركب، ونعلم أنهم يقيسون ارتفاع الموج كل يوم حسب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5851 قوة الريح: فحين تكون الريح خفيفة؛ يظهر سطح مياه البحر مجعّداً، وحين تكون الريح ساكنة؛ فأنت لا تجد صفحة المياه مجعدة، بل مبسوطة، وقد جاءتهم الريح عاصفاً فيزداد عنف الموج، ويتحقق نتيجة لذلك الظن بأنهم قد أحيط بهم. ومعنى الإحاطة هو عدم وجود منفذ للفرار؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يتكلم عن الكافرين بقوله: {والله مُحِيطٌ بالكافرين} [البقرة: 19] . أي: ليس هناك منفذ يفلتون منه. ولحظة ظنهم أنه قد أحيط بهم؛ لا يسلمون أنفسهم لهذه الحالة؛ بدعوى الاعتزاز بأنفسهم غريزياً، بل يتجهون إلى الله بالدعاء، هذا الإله الذي أنكروه، لكنهم لحظة الخطر لا يكذب أحد على نفسه أو يخدعها. ولذلك نجد سيدنا جعفر الصادق يجيب على سائل سأله: أهناك دليل على وجود الصانع الأعلى؟ فيقول سيدنا جعفر: ما عملك؟ فيجيب السائل: تاجر أبحر في البحر. فسأله سيدنا جعفر: أوَلم يحدث لك فيه حال؟ قال الرجل: بل حدث. فسأل سيدنا جعفر: ما هو؟ قال: حملت بضائعي في سفينة، فهبت الريح وعلا الموج وغرقت السفينة وتعلقت بلوح من الخشب. قال سيدنا حعفر: الم يخطر على بالك أن تفزع إلى شيء؟ قال الرجل: نعم. قال سيدنا جعفر: هذا الصانع الأعلى. وكذلك لجأ هؤلاء الذين كفروا بالله إلى الله تعالى حين عصفت بهم الريح، وعلا عليهم الموج، وظنوا أنهم قد أحيط بهم ويقول الحق سبحانه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5852 وتعالى وهم في مثل هذه الحالة: {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} وهذا يعني أنهم لم يدعوه فقط، بل دَعَوْه بإخلاص وأقروا بوحدانيته، وألاّ شريك له أبداً؛ لأنهم يعلمون أن مثل هذا الشريك لن ينفعهم أبداً. ثم يجيء الحق سبحانه بصيغة دعائهم: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} فهل وَفَّوْا بالعهد؟ لا؛ لأن الحق سبحانه يقول بعد ذلك: {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5853 وبعد أن أنجاهم الحق سبحانه مباشرة تأتي «إذا» الفجائية لتوضح لنا أنهم لم ينتظروا إلى أن يستردوا أنفاسهم، أو تمر فترة زمنية بينهم وبين الدعاء، وتحقق نتيجة الضراعة، لا، بل بغوا على الفور في الأرض {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} . والبغي: هو تجاوز الحدّ في الظلم وهو إفساد؛ لأن الإنسان إذا ما أخرج أي شيء عن صلاحه، يقال: «بغى عليه» ، فإن حفرت طريقاً مُمهّداً؛ فهذا إفساد، وإنْ ألقيت بنفاية في بئر يشر منه الناس؛ فهذا إفساد وبغي، وأي شيء قائم على الصلاح فتخرجه عن مهمته وتطرأ عليه بما يفسده؛ فهذا بغي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5853 والبغي: أعلى مراتب الظلم؛ لأن الحق سبحانه هو القائل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76] . ويعطينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صورة البغي الممثَّلة في الاعتداء بالفساد على الأمر الصالح، فيقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أسرع الخير ثواباً: البِرّ وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة: البغي وقطيعة الرحم» . والحق سبحانه لا يؤخر عقاب البغي وقطعية الرحم إلى الآخرة، بل يعاقب عليهما في الدنيا؛ حتى يتوازن المجتمع؛ لأنك رأيت ظالماً يحيا في رضاً ورخاء ثم يموت بخير، فكل مَنْ يراه ويعلم ظلمه ولم يجد له عقاباً في الدنيا، سوف يستشري في الظلم. ولذلك تجد أن عقاب الله تعالى لمثل هذا الظالم في الدنيا وأن يُرِي الناس نهايته السيئة، وحين يرى الناس ذلك يتعظون؛ فلا يظلمون، وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع. وإلا فلو ترك الله سبحانه الأمر لجزاء الآخرة؛ لشقي المجتمع بمن لا يؤمن بالآخرة ويحترفون البغي؛ ولذلك يرى الناس عذابهم في الدنيا، ثم يكون لهم موقعهم من النار في الآخرة. ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ محذراً: «لا تَبْغِ، ولا تَكُنْ باغياً» . فالباغي إنما يصنع خللاً في توازن المجتمع. والذي يبغي إنما يأخذ حق الغير، ليستمتع بنتائج من غير كدِّه وعمله، ويتحوّل إلى إنسان يحترف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5854 فرض الإتاوات على الناس، ويكسل عن أي عمل غير ذلك. وأنت ترى ذلك في أبسط المواقع والأحياء، حين يحترف بعض ممن يغترون بقوتهم الجسدية، وقد تحولوا إلى (فتوات) يستأجرهم البعض لإيذاء الآخرين، والواحد من هؤلاء إنما احترف الأكل من غير بذل جهد في عمل شريف. والبغي إذن هو عمل مَنْ يفسد الناس حركة الحياة؛ لأن من يقع عليهم ظلم البغي، إنما يزهدون في الكَدِّ والعمل الشريف الطاهر. وإذا ما زهد الناس الكَدِّ والعمل الشريف؛ تعطلت حركة الحياة، وتعطلت مصالح البشر، بل إن مصالح الظالم نفسها تتعطل؛ ولذلك قال الحق سبحانه: {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} [يونس: 23] . ولقائل أن يسأل: وهل هناك بَغْي بحق؟ أقول: نعم؛ لأن البغي اعتداء على الصالح بإفساد. وأنت ساعة ترى إنساناً يفسد الشيء الصالح، فتسأله: لماذا تفعل ذلك؛ وقد يجيبك بأن غرضه هو الإصلاح، ويُعدِّد لك أسباباً لهذا البغي، فهذا بغي بحق، أما إن كان بغياً دون سبب شرعي فهذا هو البغي، بل قمته. ومثال البغي بحق، أقول: ألم يَسْتول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أرض «بني قريظة» ، وأحرق زرعهم وقطع الأشجار في أَراضيهم، وهدم دورهم؟ أليس في ذلك اعتداء على الصالح؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5855 لقد فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك؛ لأنه ردّ على عدوان أقسى من ذلك. وهكذا نرى أن هناك بغياً بحق، وبغياً بغير حق. ولذلك يسمى الله جزاء السيئة سيئة مثلها، ويقول سبحانه: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] . ويسميه الحق سبحانه «اعتداء» رغم أنه ليس اعتداء، بل ردّ الاعتداء. ويطلقها الحق سبحانه وتعالى قضية تظل إلى الأبد بعد ما تقدم، فيقول: {ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} [يونس: 23] . وهنا يبين الله سبحانه وتعالى وكأنه يخاطب الباغي: يا مَنْ تريد أن تأخذ حق غيرك، اعلم أن قصارى ما يعطيك أخذ هذا الحق هو بعض من متاع الدنيا، ثم تجازى من بعد ذلك بنار أبدية. وأنت إن قارنت زمن المتعة المغتصبة الناتجة عن البغي بزمن العقاب عليها؛ لوجدت أن المتعة رخيصة هينة بالنسبة إلى العقاب الذي سوف تناله عليها ولا تأخذ عمرك في الدنيا قياساً على عمر الدنيا نفسها؛ لأن الحق سبحانه قد يشاء أن يجعل عمر الدنيا عشرين مليوناً من السنوات، لكن عمرك فيها محدود. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5856 فاربأوا على أنفسكم وافهموا أن متاع الدنيا قليل، إن كان هذا المتاع نتيجة ظلمكم لأنفسكم؛ لأن نتيجة هذا الظلم إنما تقع عليكم؛ لأن مقتضى ما يعطيكم هذا الظلم من المتعة والنعمة هو أمر محدود بحياتكم في الدنيا، وحياتكم فيها محدودة، ولا يظن الواحد أن عمره هو عمر البشرية في الدنيا، ولكن ليقسْ كل واحد منكم عمره في الدنيا وهو محدود. ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} [النساء: 77] . وهنا يؤكد الحق سبحانه: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} [يونس: 23] . وقد يتمثل جزاء البغي في أن يشاء الحق سبحانه ألا يموت الظالم إلا بعد أن يرى مظلومه في خير مما أخذ منه؛ ولذلك أقول دائماً: لو علم الظالم ما ادخره الله للمظلوم من الخير؛ لضنَّ عليه بالظلم. وعلى فرض أن الظالم يتمتع بظلمه وهو من متاع الدنيا القليل، نجد الحق سبحانه يقول: {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} [يونس: 23] وحين نرجع إلى الله تعالى فلا ظلم أبداً؛ لأن أحدكم لن يظلم أو يُظلم فكل منكم سوف يَلْقى ما ينبئه به الله سبحانه إنْ ثواباً أو عقاباً؛ مصداقاً لقوله الحق: {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 23] . وقد جاء الخبر عن نبأ الجزاء من قبل أن يقع؛ ليعلم الجميع أن لكل فعلٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5857 مقابلاً من ثواب أو عقاب، كما أن في ذكر النبأ مقدَّماً تقريعاً لمن يظلمون أنفسهم بالبغي. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5858 والماء الذي ينزل من السماء، هو الماء الصالح للري وللسقي؛ لأن المياه الموجودة في الوجود، هي مخازن للحياة، وغالباً ما تكون مالحة، كمياه البحار والمحيطات، وشاء الحق سبحانه ذلك، لحمايتها من العفن والفساد، ثم تتم عملية تقطير المياه بأشعة الشمس التي تحوّل الماء إلى بخار، ويتجمع البخار كسحاب، ثم يسقط ماء عَذْباً مقطراً صالحاً للشرب والرّي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5858 والحق سبحانه يقول هنا: {كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} [يونس: 24] والاختلاط: اجتماع شيئين أو أشياء على هيئة الانفصال بحيث يمكن أن تعزل هذا عن ذاك، فإن خلطت بعضاً من حبات الفول مع بعض من حبّات الترمس؛ فأنت تستطيع أن تفصل أيا منهما عن الآخر، ولكن هناك لوناً آخر من جمع الأشياء على هيئة المزج، مثلما تعصر ليمونة على ماء محلّى بالسكر، وهذا ينتج عنه ذوبان كل جزىء من الليمون والسكر في جزيئات الماء. وهنا يقول الحق سبحانه: {كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} وقد يُفهم من ذلك أن الماء والنبات قد اختلطا معاً، لكن النبات كما نعلم ككائن حي مخلوق من الماء مصداقاً لقول الحق سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] . وهنا لا بد أن نلتفت إلى الفارق بين «باء» الخلط، و «باء» السببية فالباء هنا في هذه الآية هي باء السببية، وبذلك يكون المعنى: فاختلط بسببه نبات الأرض. وأنت ترى بعد سقوط المطر على الأرض أن المياه تغطي الأرض، ثم تجد بعد ذلك بأيام أو أسابيع، أن سطح الأرض مغطى بالزروع، وكلها مختلطة متشابكة، وكلما تشابكت الزروع مع بعضها فهذا دليل على أن الري موجود والخصوبة في هذه الأرض عالية، وهذا نتيجة تفاعل الماء مع التربة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5859 أما إن كانت الأرض غير خصبة، فأنت تجد نَبْتة في منطقة من الأرض، وأخرى متباعدة عنها، وهذا ما يطلق عليه أهل الريف المصري أثناء زراعة الذرة على سبيل المثال: «الذرة تفلس» أي: أن كل عود من أعواد الذرة يتباعد عن الآخر نتيجة عدم خصوبة الأرض. إذن: فخصوبة الأرض لها أساس هام في الإنبات والماء موجود لإذابة عناصر الغذاء للنبات، فتنتشر بها جذور النبات. وإن سمحتْ لك الظروف بزيارة المراكز العلمية للزراعة في «طوكيو» أو «كاليفورنيا» ؛ فلسوف ترى أنهم يزرعون النباتات على خيوط رفيعة؛ تُسقى بالماء الذي يحتوي على عناصر الغذاء اللازمة للإنبات؛ لأنهم وجدوا أن أي نبات يأخذ من الأرض المواد اللازمة لإنباته بما لا يتجاوز خمسة في المائة من وزنه، ويأخذ من الهواء خمسة وتسعين في المائة من وزنه. إذن: فالمطر النازل من السماء خلال الهواء هو الذي يذيب عناصر الأرض؛ ليمتصها النبات. والحق سبحانه وتعالى هنا أراد أن يضرب لنا المثل، والمثل: هو قول شُبِّه مَضْرِبُهُ بِمَوْلِدِه، أي: شيء نريد أن نمثله بشيء، ولا بد أن يكون الشيء الممثل به معلوماً، والشيءُ المأخوذ كمثلٍ هو الذي نريد أن نوضح صورته؛ ولذلك لا يصح أن نمثل مجهولاً بمجهول، وإنما نمثل مجهولاً بمعلوم. وتجد من يقول لك: ألا تعرف فلاناً؟ فتقول: لا أعرفه، فيرد عليك صاحبك: إنه مثل فلان في الشكل. وهكذا عرَّفْتَ المجهول بمعلوم. وبعض من الذين يحاولون الاعتراض على القرآن، دخلوا من هذه الناحية، وقالوا: إذا كان الشيء مجهولاً ونريد أن نعرِّف به، ألا نعرِّفه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5860 بمعلوم؟ فما بال الله سبحانه وتعالى يقول في شجرة الزقوم: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 6465] . ما بال الله سبحانه يبين شجرة الزقوم، وهي شجرة في النار لا نعرفها، فيعرِّفها للمؤمنين به بأن طلعها يشبه رءوس الشياطين، وبذلك يكون سبحانه قد مثَّل مجهولاً بمجهول. والذين قالوا ذلك فاتهم أن الذي يتكلم هو الله تعالى. وقد أراد الحق سبحانه أن يُمثِّل لنا شجرة الزقوم بشيء بشع معلوم لنا، والبشع المعلوم هو الشيطان. وشاء الحق سبحانه ألا يحدد البشاعة؛ حتى لا ينقضي التشبيه؛ لأن الشيء قد يكون بشعاً في نظرك، وغير بشع في نظر غيرك. ويريد الله سبحانه أن يبشع طلع شجرة الزقوم؛ فاختار الشيء المتفق على بشاعته، وهو رءوس الشياطين، وليتصور كل إنسان صورة الشيطان، بما ينفر منه ويقبِّحه، وهكذا تتجلَّى عظمة الحق سبحانه في أن جعل شكل الشيطان مبهماً. وأما المثل الذي نحن بصدده هنا وهو تشبيه الحياة الدنيا بأنها كالماء الذي أنزله الحق سبحانه من السماء فاختلط به نبات الأرض، والحياة الدنيا نحن ندرك بعضها، وكلٌّ منا يدرك فترة منها، ولم يدرك أولها، وقد لا يدرك آخرها، فجاء الحق سبحانه بمثل يراه كل واحد منا، وهو الزرع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5861 الذي يرتوي بالمطر، فأراد الحق سبحانه أن يجمع لنا صورة الدنيا في مثلٍ معروف لنا جميعاً، وندركه جميعاً؛ فندرك ما سبق، وما يلحق، فكل شيء يأخذ حظه في الازدهار، والجمال، ثم ينتهي، كذلك الدنيا. يقول الحق سبحانه: {كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} [يونس: 24] والزخرف: هو الشيء الجميل المستميل للنفس وتُسرُّ به حينما تراه، وتتزين الدنيا بالألوان المتنوعة في تنسيق بديع، ثم يصبح كل ذلك حصيداً وهذا ما نراه في حياتنا، وهكذا جمع الله سبحانه وتعالى مثل الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها بالصورة المرئية لكل إنسان، حتى لايخدع إنسان بزخرف الدنيا ولا بزينتها. والحق سبحانه هو القائل: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ فَإِذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5862 جَآءَتِ الصآخة يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 2437] . إذن: فالدنيا بكل جمالها الذي تراه إنما تذوي، وما تراه من بديع ألوانها إنما يذبل، ومهما ازدانت الدنيا فهي إلى زوال، فإياك أن تبغي؛ لأن البغي فيه متاع الدنيا، والدنيا كلها إلى زوال؛ كزوال الروض التي ينزل عليها المطر؛ فتنبت الأرض الأزهار، ثم يذوي كل ذلك. وقد قال الحق سبحانه: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم} [القلم: 1720] . إذن: فالدنيا بهذا الشكل وعلى هذا الحال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5863 وهنا يقول الحق سبحانه: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت} [يونس: 24] . والأرض تتزين بأمر ربها، والحق سبحانه ينسب الإدراكات إلى ما لا نعرف أن له عقلاً أو إرادة. ألم يقل الحق سبحانه في قصة العبد الصالح: {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} [الكهف: 77] . فهل يملك الجدار إرادة أن ينقضَّ؟ ولو حققنا الأمر جيداً؛ لوجدنا أن الحق سبحانه جعل لكل كائن في الوجود حياة تناسبه، وله إرادة تناسبه، وله انفعال يناسبه. وقد ضرب الحق سبحانه لنا في ذلك صوراً شتّى، فنجد أن الشيء الذي يعزُّ على عقولنا أن تفهمه يبرز لنا ببيان من الله تعالى. ومثال هذا: معرفة الهدهد في قصة سليمان عليه السلام بالتوحيد، وكيف أخبر هذا الهدهد سيدنا سليمان عليه السلام بحكاية مملكة سبأ حيث يسجد الناس هناك للشمس من دون الله، فكأن الهدهد قد علم مَنْ يستحق السجود له إذ قال: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25] . ومن كان يظن أن الهدهد، وهو طائر، يكون على هذه البصيرة بالعقائد على أصفى ما تكون؟ لأن الحق سبحانه أراد أن يبيّن لنا أن هذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5864 الطائر لا هوى له يفسد عقيدته، وأن أهواءنا هي التي تفسد العقائد، ومَنْ أعطاه الله سبحانه البدائل هو الذي يفسد الاختيار ما دام لا يحرس الاختيار بالإيمان، وأن يختار في ضوء منهج الله تعالى. ونحن نرى أن ما دون الإنسان من طائر أو حيوان لا يفسد شيئاً؛ لأن غريزته تقوده، فلا نجد حيواناً يأكل فوق طاقته، لكننا نجد إنساناً يصيب نفسه بالتخمة، ولا نجد حماراً يقفز فوق قناة من الماء لا يقدر عليها، بل نراه وهو يتراجع عنها، وكلنا نجد إنساناً يشمر عن ساعديه؛ ليقفز فوق قناة مياه؛ فيقع فيها. إذن: فنحن بأهوائنا التي تسيطر على غرائزنا نوقع أنفسنا فيما يضرنا، ما لم نحرس أنفسنا بمنهج الله سبحانه وتعالى. ونجد في مثال الهدهد صفاءً عقدياً في التوحيد كأصفى ما يكون المتصوِّفة، ويأتي بما يهمه {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} لأن الخبء هو رزق الهدهد، فهو لا يأكل من الشيء الظاهر على سطح الأرض، بل يضرب بمنقاره الأرض؛ ليأتي لنفسه بما يطعمه. ويعطينا الحق سبحانه مثلاً آخر بالنملة التي قالت: {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5865 وهذه دقة عدالة من هذه النملة، فإنها لم تقل: إن سليمان وجنوده سيحطمون أخواتها من النمل ظلماً لهم، بل قالت: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} لأنكم لا تظهرون تحت أرجلهم. إذن: كل كائن في الوجود له حياة تناسبه، ولكن الآفة أننا نريد أن نتصور الحياة في كل كائن، كتصورها في الكائن الأعلى وهو الإنسان. ولا بد لنا أن نعلم أن النبات له حياة تناسبه، والحيوان له حياة تناسبه، والجماد له حياة تناسبه، وكل شيء في الحياة له لون من الحياة المناسبة له. وقد أوضحنا من قبل أن الحق سبحانه قد قال: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] . والهلاك مقابل للحياة، والحياة مقابلة للموت، والهلاك يساوي الموت. والحق سبحانه يصور الحالة يوم القيامة فيقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] . إذن: فالجماد هالك، ولكنه يتمتع بلون من الحياة لا نعرفه، وكذلك كل كائن له حياة تناسبه، والآفة أن الإنسان يريد أن يعرِّف الحياة التي في الجماد كالحياة في الإنسان. وانظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله الحق: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} [يونس: 24] . وقد جاء هذا القول من قبل أن يتقدم العلم ويثبت أن الأرض تشبه الكرة، وأنها تدور، وأن كل ليل يقابله نهار، وكذلك جاء قول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5866 {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} [الأعراف: 9798] . إذن: فأمر الله سبحانه يتحقق حين يشاء، وهو أمر واحد عند من يكونون في ضحى أو في ليل. ثم يقول الحق سبحانه: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} [يونس: 24] . أي: كأنها لم يكن لها وجود. ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] . فإذا كانت الدنيا كلها مثل عملية الزرع في الأرض الذي ينمو ويزدهر ويزدان، ثم ينتهي، ألا يجب أن ننتبه إلى أن كل زخرف إلى زوال؛ وعلينا ألا نفتتن بزينة الدنيا ومتاعها في شيء، وأن نحرص على ألا نبغي في الأرض؛ لأن البغي متاع الحياة الدنيا، وهي إلى زوال. ونجد القرآن يأتي بذكر التفصيل للآيات، ويتبع ذلك بأن هذا التفصيل لقوم «يتفكرون» ، أو «يتذكرون» ، أو «يعقلون» ، أو «يتدبرون» . وكل هذه عمليات تتناول المعلوم الواحد في مراحل متعددة، فالتعقُّل: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5867 هو أن تأتي بالمقدمات؛ لتستنبط ولترى إلى أي نتائج تصل. والتذكُّر يعني: ألا تنسى وألا تغفل عن الأمر الهام. والتفكُّر: هو أن تُعْمل الفكر. والفارق بين الفكر والعقل هو أن العقل أداة التفكُّر. والتدبُّر: هو ألا تنظر إلى ظواهر الأشياء، بل إلى المعطيات الخفية في أي أمر. والحق سبحانه يقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} [النساء: 82] . أي: اجعل بصيرتك تمحِّص البدايات والنهايات؛ لتعرف أن المرجع والمصير إلى الله تعالى. والعاقل هو مَنْ يعدّ نفسه للقاء الله سبحانه، وقد يرهق نفسه في الدنيا الفانية؛ ليستريح في الآخرة. وإذا نظرنا إلى الدنيا والآخرة من خلال معادلة تجارية، سنجد أن الآخرة لا بد وأن ترجح كفتها؛ لأن عمر الإنسان في الدنيا مظنون، ولا يعرف فرد هل يحيا في الدنيا عاماً أو عشرة أو سبعين أو مائة عام. ومهما طالت الدنيا مع كل الخَلْق فهي منتهية، والنعيم فيها على قدر: إمكاناتك البشرية وعلى قدر تصورك للنعيم، أما الآخرة فهي بلا نهاية، وأمر الإنسان فيها متيقَّن، والنعيم فيها على قدر عطاءات الله تعالى ومراده سبحانه للنعيم. فإن قارنت هذا بذاك وقارنت الدنيا بالآخرة لرجحتْ كفّة الآخرة. لذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5868 وفي قوله سبحانه: {لَهِيَ الحيوان} . مبالغة في كونها حياة لا فناء فيها. فاتبع منهج الله سبحانه؛ ليأخذك هذا المنهج إلى دار السلام والسلامة من الآفات. واضمن لنفسك الخروج من دار الفناء والأغيار، وَضَعْ يدك في يد من يدعوك إلى دار السلام. ولذلك يقول الحق سبحانه: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5869 ودار السلام: هي الآخرة التي تختلف عن دار الدنيا المليئة بالمتاعب، هذه الدنيا التي تزهو وتتزخرف، وتنتهي إلى حطيم؛ لذلك يدعو الله تعالى إلى دار أخرى، هي دار السلام؛ لأن من المنغِّصات على أهل الدنيا، أن الواحد منهم قد يأخذ حظه جاهاً، ومالاً، وصحة، وعافية، ولكن في ظل أرق من أمرين: الأول هو الخوف من أن يفوته هذا النعيم وهو حي، والثاني أن يفوت هو النعيم. أما الآخرة فالإنسان يحيا فيها في نعيم مقيم؛ ولذلك يقول الله سبحانه: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} . وهذه الآخرة لن يشاغب فيها أحدٌ الآخر، ولن تجد من يأكل عرق غيره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5869 مثلما يحدث في الدنيا، وإذا كنا نعيش في الدنيا بأسباب الله، فنحن في الآخرة نعيش بالله سبحانه وتعالى، فكل ما يخطر على بالك تجده. فإذا كانت الأسباب تتنوع في الدنيا وتختلف قدرات الناس فيها مع أخذهم بالأسباب، فإنهم في الآخرة يعيشون مع عطاء الله سبحانه دون جهد أو أسباب؛ لأن دار السلام هي دار الله تعالى، فالله تعالى هو السلام. ولله المثل الأعلى، فأنت إذا دعاك ولي أمرك إلى داره، فهو يُعدّ لدعوتك على قدره هو، وبما يناسب مقامه، فما بالك حين يدعوك خالقك سبحانه وقد اتبعت منهجه. إنه سبحانه هو القائل: {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 5558] . وهذا السلام ليس من البشر؛ لأن من البشر من يعطيك السلام وهو يُكِنُّ لك غير السلام، أو قد يعطيك السلام وهو يريد بك السلام، ولكنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5870 من الأغيار؛ فيتغير فلا يقدر أن يعطيك هذا السلام، لكن إذا ما جاء السلام من الله تعالى، فهو سلام من رب لا يعجزه شيء، ولا يُعوزه شيء، ولا تلحقه أغيار؛ لذلك يقول سبحانه: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 2324] . والملائكة حين يقولون ذلك إنما أخذوا سلامهم من باطن سلام الله تعالى، وحتى أصحاب الأعراف الذين لم يدخلوا الجنة، ويرون أهل الجنة وأهل النار، هؤلاء يلقون السلام على أهل الجنة. وهكذا يحيا أهل الجنة في سلام شامل ومحيط ومطمئن؛ لأن الداعي هو الله سبحانه، ولا أحد يجبره على أن ينقض سلامه. ودعوة الله سبحانه هي منهجه الذي أرسل به الرسل؛ ليحكم به حركة الحياة حركة إيمانية، يتعايش فيها الناس تعايشاً على وَفْق منهج الله تعالى، بما يجعل هذه الدنيا مثل الجنة، ولكن الذي يرهق الناس في الدنيا أن بعض الناس يعطلون جزئية أو جزئيات من منهج الله سبحانه. وأنت إذا رأيت مجتمعاً فيه لون من الشقاء في أي جهة؛ فاعلمْ أن جزءاً من منهج الله تعالى قد عُطِّل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5871 ولو أن الناس قد ساروا على منهج الله سبحانه وتعالى؛ لما كان بالوجود عورة واحدة؛ فالذي يُظهر عورات الوجود غفلة بعض الناس عن منهج الله سبحانه. وأنت إنْ رأيت فقراء لا يجدون ما يأكلونه؛ فاعلمْ أن هناك مَنْ عطَّل منهج الله تعالى، إما من الفقراء أنفسهم، الذين استمرأ بعضهم الكسل، وإما أن الأغنياء قد ضنوا برعاية حق الله تعالى في هؤلاء الفقراء؛ وبذلك يتعطل منهج الله سبحانه. أما إذا سيطر منهج الله تعالى على الحياة؛ لصارت الحياة مثل الجنة. ويقول الحق سبحانه: {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ونعلم أن الهداية نوعان: هداية الدلالة بالمنهج، فمن أخذ المنهج سهَّل الله تعالى له طريق الصراط المستقيم؛ وبذلك انتقل العبد من مرحلة الهداية بالدلالة إلى الهداية بالمعونة، وحين تقوم القيامة يهديهم الله سبحانه بالنور إلى الجنة: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] . إذن: فمن أخذ هداية الله بالدلالة وهي المنهج، واتبع هذا المنهج؛ فالحق سبحانه يجعل له نوراً يسعى بين يديه: {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8] . والحق سبحانه يقول: {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [يونس: 25] . لأن كل شيء في هذا الكون لا يخرج عن مشيئته سبحانه، فالقوانين لا تحكمه، بل هو الذي يحكم كل شيء. وإذا كان الله قد بيّن من شاء هدايته، فهو أيضاً قد بيّن لنا من شاء إضلاله بقوله سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5872 وقوله سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 24] . إذن: فقد بيّن الحق سبحانه لنا من الذين يهديهم إلى الجنة ومن الذين لا يهديهم، فلا يقولن أحد: وما ذنب الكافرين والفاسقين؟ لأن الحق سبحانه قد بين منهجه، فمن أخذ به؛ جعل له نوراً يسعى بين يديه، ويدخله الجنة. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5873 وكلمة {الحسنى} مثلها مثل قولنا: «امرأة فُضْلى» ونقول أيضاً: امرأة كبرى، وهي أفعل تفضيل، أي: مبالغة في الفضل. والمقصود بقوله سبحانه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} أي: بالغوا في أداء الحسنات، والحسنة كما نعلم بعشرة أمثالها، وهنا يقول الحق سبحانه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} فما هذه الزيادة؟ نقول: هي عطاء زائد في الحسنات، فهناك «كادر» للجزاء بالحسنات، يبدأ بعشرة أمثال الحسنة ويصل إلى سبعمائة ضعف، أما السيئة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5873 فبواحدة. وهذا «الكادر» لا يحدد فضل الله تعالى، بل الحق سبحانه يزيد من فضله مَنْ يشاء. ولذلك يجب ألا نفرق بين عدل الله سبحانه في أن الشيء يساوي الشيء، وفضل الله تعالى في أن يجزى على الشيء الحسن بأضعاف أضعاف ما نتصور. والحق سبحانه يقول: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] . وقال قوم من العارفين بالله: إن الزيادة المقصودة هي في العشرة الأمثال والسبعمائة ضعف، والفضل هو ما فوق ذلك. وهكذا تتعدد مراتب الجزاء: فهناك العشرة الأمثال، والسبعمائة ضعف، والحسنى، والزيادة عن الحسنى، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذلك: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم. فيقولون: ألم تُبيِّض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة وتُنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عَزَّ وَجَلَّ» . ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} أي: لا يغطي وجوههم غبار، وهو سبحانه القائل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 2223] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5874 وهو سبحانه القائل: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 4041] . وترهقها: أي تغطيها، وقترة تعني: الغبار، وهي مأخوذة من القُتار وهو الهواء الذي يمتلىء بدخان الدُّهْن المحترق من اللحم المشوي، وقد تكون رائحته أخَّاذة ويسيل لها اللعاب، ولكن مَنْ يوضع على وجهه هذا القتار يصنع له طبقة سوداء. ويقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [يونس: 26] . لأنهم اتقوا الله سبحانه وأحبوا منهجه. ويقول الحق سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] . فليس المقصود هو لون الوجه في الدنيا؛ لأنك قد تجد إنساناً أسود اللون لكنه بالإيمان قد أشرق وجهه، وأحاطت ملامحه هالة من البهاء. وهناك من هو أبيض الوجه ولكنه من فرط معصية الله صار وجهه بلا نور. ويقول الحق سبحانه: {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26] . أي: أنهم ملازمون للجنة ملازمة الصاحب لصاحبه، أو «أصحاب الجنة» أي: مَنْ يملكونها. يقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5875 {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5876 وما دام الحق سبحانه قد جاء بمن دعاهم إلى دار السلام وأعطاهم الجنة جزاء للعمل الحسن، فذكر مقابل الشيء يجعله ألصق بالذّهن، والحق سبحانه هو القائل: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} [التوبة: 82] . وأيضاً من أمثلة المقابلة في القرآن قوله الحق: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 1314] . إذن: فمجيء المقابل للشيء إنما يرسِّخه في الذهن؛ ولأن الحق سبحانه قد تكلم عن الدعوة إلى دار السلام، ومن دخل هذه الدعوة؛ فله الجنة خالداً فيها، لا يرهق وجهه قتر ولا ذلة، كان لا بد أن يأتي بالمقابل، وأن يبشِّع رفض الدعوة لدار السلام، ويحسِّن الأمر عند من يقبلون الدعوة. ولا بد إذن أن يفرح المؤمن؛ لأنه لن يكون من أهل النار، ولا بد أيضاً أن يخرج بعض من الذين ضلّوا عن الغفلة؛ ليهربوا من مصير النار، ويتحولوا إلى الإيمان. وهنا يقول الحق سبحانه: {والذين كَسَبُواْ السيئات} [يونس: 27] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5876 ونحن نعلم أن الكسب إنما يكون في الأمر الفطري ويناسب الطاعات؛ لأن الطاعة أمر مناسب وملائم للفطرة، فلا أحد يستحي أن يصلِّي، أو يتصدق، أو يصوم، أو يحج، لكن من الناس من يستحي أن يُعرف عنه أنه كاذب، أو مُرَابٍ، أو شارب خمر. والإنسان حين يرتكب السيئة يمر بتفاعلات متضاربة؛ فالذي يسرق من دولاب والده وهو نائم، تجده يتسلل على أطراف أصابعه ويكون حذراً من أن يرتطم بشيء يفضح أمره، كذلك الذي ينظر إلى محارم غيره. كل هذا يدل على أن ارتكاب الشيء المخالف فيه افتعال، أي: يحتاج إلى اكتساب، ولكن الكارثة أن يستمر الإنسان في ارتكاب المعاصي حتى تصير دُرْبة، ويسهل اعتياده عليها؛ فيمارس المعصية باحتراف؛ فتتحول من اكتساب إلى كسب. أوأن يصل الفاسق من هؤلاء إلى مرتبة من الاستقرار على الانحلال؛ فيروي ما يفعله من معاصٍ وآثام بفخر، كأن يقول: «لقد سهرنا بالأمس سهرة تخلب العقل، وفعلنا كذا وكذا» ، ويروى ذلك، وكأنه قد كسب تلك السهرة بما فيها من معاص وآثام. ومن رحمة الله سبحانه بالخلق أنه يجازي مرتكب السيئة بسيئة مثلها، فيقول سبحانه: {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} ، وتتجلى أيضاً رحمة الحق سبحانه وتعالى حين يعطي من لا يرتكب السيئة مرتبة؛ فيصير ضمن من قال عنهم الحق سبحانه: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} لكن الذين لم يهتدوا منهم من يقول الحق سبحانه عنهم: {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي: لن يجيرهم أحد عند الله تعالى، ولن يقول أحد لله سبحانه: لا تعذِّبْهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5877 أو أن (لا عاصم لهم) بمعنى: أن الله تعالى لن يأمر بعد ذلك بألاّ يُعذَّبوا. ولا يقتصر أمرهم على ذلك فقط، بل يقول الحق سبحانه: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اليل مُظْلِماً} أي: كأن قطعاً من الليل المظلم قد غطت وجوههم، ويكون مأواهم النار {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . هذا هو حال الذين كذَّبوا بآيات الله تعالى وكذبوا الرسل، وتأبَّوا عن دعة الله سبحانه وتعالى إلى دار السلام واتبعوا أهواءهم واتخذوا شركاء من دون الله تعالى. وشاء الحق سبحانه أن يُجلِّي لنا ذلك كله في الدنيا؛ حتى يكون الكون كله على بصيرة بما يحدث له في الآخرة؛ لأنه نتيجة حتمية لما حدث من هؤلاء في الدنيا. يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5878 والحشر: هو أخذ الناس من أمكنة متعددة إلى مكان واحد، وستقذف هذه الأمكنة المتعددة مَنْ فيها مِنَ الكَفَرة؛ ليصيروا في المكان الذي شاءه الله سبحانه لهم. وكلما اقترب الناس من هذا المكان؛ ازدحموا، وذلك شأن الدائرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5878 بمحيطها، والمحيطات الداخلة فيها إلى أن تلتقي في المركز، فأنت إذا نظرت إلى محيط واسع في دائرة، وأخذت بعد ذلك الأفراد من هذا المحيط الواسع؛ لتلقي بهم في المركز؛ فلا شك أنك كلما اقتربت من المركز؛ فالدوائر تضيق، ويحدث الحشر. فكأننا سنكون مزدحمين ازدحاماً شديداً، ولهذا الازدحام متاعب، ولكن الناس سيكونون في شغل عنه بما هم فيه من أهوال يوم القيامة. وقوله الحق: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} تفيد الجمع المؤكد لحالات الذين لم يستجيبوا لمنهج الله تعالى، ولا لدعوة الله سبحانه لهم لدار السلام، وكذبوا رسلهم، واتخذوا من دون الله تعالى أنداداً، فيجمع الله سبحانه المُتَّخذَ أنداداً، والمُتَّخَذَ ندّاً، ويواجههم؛ لتكون الفضيحة تامة وعامَة، بين عابد عبد باطلاً، ومعبودٍ لم يطلب من عابده أن يعبده، أو معبود طلب من عابده أن يعبده. لذلك يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ} [يونس: 28] وهكذا يتلاقى من عَبَدَ الملائكة مع الملائكة، ويتلاقى من عَبَدَ رسولاً وجعله إلهاً، ومن عبد صنماً، أو عبد شمساً، أو عبد قمراً، أو جِنّاً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5879 أو شيطاناً من شياطين الإنس او شياطين الجن. إذن: فالمعبودون متعددون، وكل معبود من هؤلاء له حكم في ذلك الحشر، وستكون المواجهة علنية مكشوفة. فإذا نظرنا إلى العابد الذي اتخذ إلهاً باطلاً سواء أكان من الملائكة أو رسولاً أرسل إليهم؛ ليأخذهم إلى عبادة إله واحد هو الله سبحانه وتعالى ففتنوا في الرسول وعبدوه، أو عبدوا أشياء لا علم لها بمن يعبدها: كالأصنام، والشمس، والقمر، والأشجار. أما المعبود الذي له علْم، وله دعوة إلى أن يعبده غيره، فهو يتركز في شياطين الإنس، وشياطين الجن، وإبليس. أما الملائكة فإن الله سبحانه وتعالى يواجههم بمن عبدهم، فيسألهم: أأنتم وعدتم هؤلاء؛ ليتخذوكم آلهة، فيقولون: سبحانك أنت وليُّنا، ويتبرأون من هؤلاء الناس، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166] . والملائكة لا علم لهم بمن اتخذهم آلهة، وإذا انتقلنا إلى البشر وعلى قمَّتهم الرسل عليهم السلام، فيأتي سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، ويَقول الحق سبحانه له: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] . فيقول سيدنا عيسى عليه السلام ما جاء على لسانه في القرآن الكريم: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] . فكأن هؤلاء قد عبدوا من لا علم له بهذا التأليه، ولم يَدْعُ إليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5880 والأصنام كذلك ليس لها علم بمن ادَّعى ألوهيتها، ولكن الذي له علم بتلك الدعوة هو إبليس، ذلك أنه حينما عز عليه أنه عاص لله، أغوى آدم، ثم تاب آدم عليه السلام وقَبِل الله سبحانه وتعالى توبته، أما إبليس فلم يتب عليه الحق سبحانه؛ لأنه رد حكم المولى عَزَّ وَجَلَّ بالسجود لآدم، واستكبر، وظن نفسه أعلى مكانة. أما آدم عليه السلام فلم يرد الحكم على الله تعالى. يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 1112] . ومن ذلك نأخذ مبدأ إيمانياً موجزه أن الذين لا يقدرون على أنفسهم في أخضاعها لمنهج الله تعالى، فمن الخير لهم أن يقولوا: إن منهج الله سبحانه هو الصدق، وحكمه سبحانه هو الحق، ولكننا لم نستطع أن نُخضِعَ أنفسنا للحكم؛ وبذلك يخرجون من دائرة رد الأمر على الآمر، وبإمكانهم أن يتوبوا بنية عدم العودة إلى المعصية. إذن: فالمخاصمة والمحاجّة موجهة من إبليس لذرية آدم، فقد أقسم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5881 إبليس بعزة الله سبحانه أن يُغوِي كل أبناء آدم إلا الذين استخلصهم الله لعابدته سبحانه وتعالى؛ فقد علم إبليس أنه غير قادر على إغوائهم. وهكذا تكون عزة الله سبحانه هي التي تمكِّن إبليس وذريته من الشياطين من غواية أو عدم غواية خلق الله سبحانه وتعالى. والشياطين هم الجن العُصَاة؛ لأننا نعلم أن الجن جنس يقابل جنس البشر، ومن الجن من هو صالح طائع، ومنهم من هو عاصٍ، ويُسمّى شيطاناً، ويخدم إبليس في إغواء البشر، فيتسلَّط على الإنسان فيما يعلم أنها نقطة ضعف فيه. فمن يحب المال يدخل الشيطان إليه من ناحية المال، ومن يحب الجمال يدخل له الشيطان من ناحية الجمال، ومن يجب الجاه يجد الشيطان وهو يزيِّن له الوصول إلى الجاه بأية وسيلة تتنافى مع الأخلاق الكريمة ومنهج الله عَزَّ وَجَلَّ. وكل إنسان له نقطة ضعف في حياته يعرفها الشيطان ويتسلل منها إليه، وقد يُجنِّد إبليس وذريته أناساً من البشر يعملون بهدف إغواء الإنسان لإفساده. فهناك إذن ثلاثة يطلبون أن ينصرف الناس عن منهج الله تعالى ودعوة الحق؛ وهؤلاء الثلاثة هم: إبليس، والعاصون من الجن (أي: الشياطين) ، ثم البشر الذين يشاركون إبليس في الإغواء، وهم شياطين الإنس الذين يعملون أعمالاً تناهض منهج الرسل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5882 وهل يكون الحوار يوم القيامة بين الملائكة ومَنْ عَبَدُوهم مِنَ البشر؟ وهل يكون الحوار بين الأصنام والذين عبدوها دون علمها؟ وهل يكون الحوار بين عيسى عليه السلام ومن اتخذوه إلهاً دون علمه؟ ها نحن نجد عارفاً بالله يقول على لسان الأصنام: «عَبَدُونا ونحن أعْبَدُ للهِ ... مِنَ القائمينَ بالأسْحَارِ» لأن الحق سبحانه هو القائل: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] . ويكمل العارف بالله: «اتَّخَذُوا صَمْتَنَا علينا دليلاً ... فَغَدوْنا لَهُم وَقُودَ النارِ» والحق سبحانه هو القائل: {فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] . ويتابع العارف بالله: «قَدْ تَجَنَّوا جهلاً كما تَجَنَّوا ... على ابنِ مَرْيم والحَوَارِي» فما موقف الله سبحانه من هؤلاء وأولئك؟ فنقول: إن للمُغَالِي جَزَاءهُ، والمُغَالَى ... فيه تُنْجِيه رحمةُ الغَفَّارِ «. وهكذا وَضُحَ موقف كل من يعبد غير الله سبحانه أو يشرك به، هؤلاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5883 الذين يشملهم قول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 28] وهكذا يُحشَر مَنْ عبدوا الأصنام أو الكواكب أو أشركوا بالله، وكذلك شياطين الجن والإنس، الجميع سيحشرون في الموقف يوم الحشر، وليتذكر الجميع في الدنيا أن في الحشر ستُكشَفُ الأمور ويُفصح فيه كل إنسان أشرك مع الله غيره، سبحانه، وستحدث المواجهة مع مَنْ أشركه بالعبادة مع الله سبحانه دون عِلْم من الملائكة أو الرسل أو الكواكب أو الحجار بأمر هؤلاء، ويأتيهم جميعاً أمر الحق سبحانه: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} [يونس: 28] . وحين تسمع الأمر:» مكانك «فهو يعني:» الزمْ مكانك «وهي لا تُقال للتحية، بل تحمل التهديد والوعيد، وانتظار نتيجة موقف لن يكون في صالح من تُقال له، ونعرف أن الملائكة، والرسل، والكواكب، والحجارة ليس لها علم بأمر هؤلاء الذين عبدوهم. إذن: فالذين ينطبق عليهم هذا الأمر هم هؤلاء المشركون الذين ظنوا أن بإمكانهم الإفلاتَ من الحساب، لكنهم يسمعون الأمر {مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ} ، فهل يعني ذلك أنهم سوف يأتون مع الملائكة ومَنْ عُبد من الرسل والكواكب والحجارة في موكب واحد؟ لا؛ لأن هؤلاء العبيد اتفقوا على موقف باطل، ويشاء الحق سبحانه أن يفصل بين الحق والباطل. لذلك يقول الحق سبحانه: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5884 أي: جعل من المشركين فريقاً، وجعل من الذين عُبدُوا دون علمهم فريقاً آخر، وأعلن فريقُ مَنْ عُبِدوا دون علمهم: {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28] أي: ما كنتم تعبدوننا بعلمنا. وانظروا إلى الموقف المُخْزِي لمن عبدوا غير الله سبحانه، أو أشركوا به، إن الواحد منهم قد عبد معبوداً دون أن يدري به المعبود، مع أن الأصل في العبادة هو التزام العابد بأمر المعبود، وهذا المسألة تَصْدُق على الملائكة وسيدنا عيسى عليه السلام، وتصدق أيضاً على الكواكب والأحجار؛ لأن الحق سبحانه الذي يُنطق أبعاض الإنسان يوم القيامة؛ لتشهد على صاحبها، قادر على أن يُنْطِق الأحجار. والحق سبحانه هو القائل: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 1921] . ونجد الصنم يوم القيامة وهو يلعن مَنْ عبده، تماماً مثلما يتبرأ الجلد من صاحبه إنْ عصى الله تعالى، فالحق سبحانه يقول: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] . ولكن لا تترك عقلك يتخيل كيفية تكلُّم الصنم، فأنت آمنت أن جوارح الإنسان من يد ورجل وجلد ستنطق يوم القيامة، فهل تعقَّلت كيف تنطق اليد، وكيف ينطق الجلد، وكيف تنطق الرِّجْل في الآخرة، أنت تؤمن بخبر الآخرة فلا تنظر إلى معطيات أمور الآخرة بقوانين الدنيا؛ لأن كل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5885 شيء يتبدَّل في الآخرة، ألم تخبرك السنة أنك ستأكل في الجنة، ولا تُخْرِج فضلات؟ وهذا أمر غير منطقيّ بقوانين الدنيا ولكننا نؤمن به، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى يخبرنا بأشياء سوف تحدث في الجنة، لو قسْناها بعقولنا على ما نعرف في الدنيا لوقفت أمامها عاجزة، لكن القلب المؤمن يعقل أمور القيامة والآخرة على أساس أنها غيب، والمقاييس تختلف فيها؛ لأن الإنسان مظروف بين السماء والأرض. وللدنيا أرض وسماء، وللآخرة أيضاً أرض وسماء؟ والحق سبحانه يقول: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] . إذن: فكل شيء يتبدّل يوم القيامة، فإذا حُدِّثْتَ أن الأصنام تنطق مستنكرة أن تُعبَد من دون الله تعالى، وأن الملائكة تلعن من عبدوها من دون الله سبحانه، فلا تتعجب. ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فكفى بالله شَهِيداً} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5886 إذن: فالكائنات التي عُبِدتْ من دون الله تعالى تعلن رفضها لمسألة عبادتها، فإذا كان الطير ممثلاً في الهدهد قد أعلن من قبل اندهاشه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5886 من أن بعضاً من البشر قد عبد غير الله تعالى. واستدل الهدهد على قدرة الحق سبحانه بما يخصُّه هو من الرزق، حيث يعلم أن الحق سبحانه قد عَلِمَ الخبء في السموات والأرض، إذا كان الهدهد قد عرف ذلك فالاستنكَار أمر منطقي من غيره من المخلوقات، سواء أكانت من الملائكة، أو من عيسى عليه السلام، أو من الأصنام والأشجار والكواكب. ولذلك نجد الحق سبحانه يضرب المثال بسؤاله للملائكة: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] . فيجيب الملائكةُ بقوله: {سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 41] . والحق سبحانه وتعالى يعرض هذه المواقف في سُوَر القرآن الكريم عرضاً منثوراً مكرراً بما لا يدع للغفلة أن تصيب الإنسان، فمثلاً يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس} [الأنعام: 128] . ويقول على ألسنة من اتخذوا الشياطين أولياء: {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5887 وقولهم هذا يتضمن الحديث عن ذواتهم والحديث عن الجن. ولسائل أن يسأل: وكيف يأخذ الجن كثيراً من الإنس؟ ونقول: إن الحق سبحانه قد خلق الجن على هيئة تختلف عن هيئة الإنس، فجعل للجن خواصّاً تختلف عن خواص الإنس، ومن هذه الخواص ما قال عنه الحق سبحانه: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] . وأعطى الحق سبحانه للجن قوة أكثر مما أعطى للإنس، وأعطاهم القدرة على النفاذ من السواتر الحديدية والجدران وغيرها، وهذا أمر منطقي مع أصل تكوين الجن، فالجن مخلوق من النار، والإنسان مخلوق من الطين. وهناك اختلاف بين طبيعة كل من النار والطين، فما يخرج من الطين قارٌّ، أي: لا يشع، وما يخرج من النار له إشعاع وحرارة. بمعنى: أنك لو كنت تجلس في حجرة، وخلف ظهرك في الحجرة الأخرى نار موقدة؛ فالساتر أيا كان سوف يحمل لك بعضاً من حرارة النار، إلا لو كان عازلاً للحرارة. أما لو كانت هناك تفاحة وهي مخلوقة من الطين موجودة في الحجرة الأخرى، فلن ينفذ طعمها أو رائحتها إليك. إذن: فالنار لها قانونها، والطين له قانونه. وقانون المادة المخلوقة من الطين لا ينتقل إلا إذا نَقلْتَ الجِرْم إلى المكان الذي توجد فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5888 ونلمح هذه المسألة التقنينية في قصة سيدنا سليمان عليه السلام حين علم أن ملكة سبأ تسير في الطريق إليه لتعلن إسلامها، وأراد سيدنا سليمان عليه السلام أن يأتي لها بعرشها من مكانه قبل أن تصل. فقال لمن هو في مجلسه: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] ؟ وهذا يدل علىأنه كان في مجلسه أجناس مختلفة، ولكل جنس منهم قدرات مختلفة عن قدرات الجنس الآخر، ونقل العرش من اليمن إلى مكان سيدنا سليمان عليه السلام يحتاج إلى زمن وإلى قوة، فلو أنهم كانوا متساوين في قدرتهم ما قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي} [النمل: 38] . فكان أول من تقدم لتنفيذ ما أراده سليمان عفريت من الجن لا جِنّاً عاديّاً، فمن الجن من هو خائب قليل الذكاء، ومنهم من هو ذكي، فهم وأن كانوا من جنس واحد فهم متفاوتون أيضاً، وكان عفريت الجن هو أول من تكلم، وقال: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [النمل: 39] . ولكن مقام سليمان قد يستمر ساعة أو بضع ساعات، والمتكلم هو عفريت من الجن الذي يعلم أن له صفات أقوى من صفات الإنس. أما الإنس العادي ممن كان حاضراً مجلس سليمان فلم يتكلم؛ لأن المطلوب ليس في قدرته، أما الذي تكلم من الإنس فهو مَنْ عنده علم من الكتاب، فقال: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] . ولم يأخذ الأمر شيئاً من الزمن؛ لذلك عبَّر القرآن التعبير السريع بعد ذلك، فقال: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5889 إذن: فللجن قوة على أشياء لا يقوى عليها الإنس، ولم يأخذ الجنِّي خواصَّه في الخفة والقدرة ومهارة اختزال الزمن بذات تكوينه، ولكن بإرادة المكوِّن سبحانه؛ ولذلك شاء الحق أن يُذكِّر الجن أنهم قد أخذوا تلك الخصوصيات بمشيئته سبحانه، والحق هو القادر على أن يجعل الإنس وهو الأدنى قدرة، قادراً على تسخير الجن؛ ولذلك يحاول الإنس أن يأخذ من تسخير الجن قوة له فيقوى على نظيره من الإنس. ولكن الحق سبحانه أصدر الحكم على مَنْ يحاول ذلك بأن تسخير الجن يزيد رَهَقاً. واقرأوا قول الحق سبحانه: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102] . إذن: فتعليم الجن السحر للإنس دليل على تفوق قدرات الجن وتميزها عن قدرات الإنس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5890 ولكن الملكين هاروت وماروت حينما عَلَّمَا الإنسان السحر حذَّراه اولاً من أن يأخذ من ذلك فرصة زائدة تطغيه على بني جنسه ويظلم بها، إنما الأمر كله اختبار، فإن تعلَّمته فذلك لتقيَ نفسك من الشر لا لتوقعه بغيرك، ثم إنك أيها الإنسان من الأغيار قد تضمن نفسك وقت التحمُّل، ولكن ماذا عن وقت الاداء؟ مثلما يأتي لك إنسان ليُودِعَ عندك ألفاً من الجنيهات كأمانة، ولكن أتظل على الأمانة، أم أنك قد تنكر المال أصلاً حين يطالبك به صاحبه، أو قد تمر بك أزمة مالية فتتصرف بهذا المال؟ ولذلك تجد الذكي هو مَنْ يقول لمودع هذا المال: «احفظْ عليك مالك، لأني من الأغيار» . وتلك هي القضية الإيمانية الأصيلة في الكون كله؛ لأن الحق سبحانه هو القائل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] والأمانة هي ما يكون في ذمة المؤتمن، ولا حجة للمؤتمن عنده إلا ذمته، ولا شهود عليه، ولا يوجد إيصال بتلك الأمانة، بل هي وديعة لا توثيق فيها؛ إلا ذمة المؤتمن، قد يقرُّ بها، وقد يُنكرها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5891 وعلى ذلك فحقُّ المؤتمن عند المؤتمَن خاضعٌ لخيار المؤتمَن؛ ولذلك وجدنا السماء والأرض والجبال قالت: يا رب لا نريد أن نُدخِلَ أنفسنا في هذه التجربة، افعل بنا ما شئت واجعلنّا مقهورين ولا اختيار لنا، ولا نريد تحمُّل الأمانة. أما الإنسان فقد ميَّزه الله بالعقل، وقدرة الاختيار بين البدائل؛ لذلك قَبلَ الإنسان حَمْل الامانة، وحين جاء وقت الأداء لم يجد نفسه أميناً على الأَشياء مثلما ظَنَّ في نفسه وقت التحمُّل. وكذلك الذين يتعلمون السحر، يقول الواحد منهم لنفسه: سوف أتعلمه لأدفع الضُّرَّ عن نفسي، ونقول له: أنت لا تضمن نفسك؛ لأنك من الأغيار، فقد بغضبك أو يثير أعصابك إنسان؛ فتستخدم السحر فتصيب نفسك بالرَّهق. إذن: فحين قال الله سبحانه: {يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس} [الأنعام: 128] . أي: أخذتم من الإنس كثيراً بأن اعطيتموهم سلاحاً يحقق لهم فرصة وقوة على غيرهم من البشر. وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى لنا أن بعض البشر الذين استجابوا للجن قالوا: {استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128] . واستمتاع الإنس بالجن مصدره أن الإنس يأخذ قوة فوق قوة غيره من البشر، واستمتاع الجن بالإنس مصدره أنه سوف يُعين هذا الإنسان على معصيته؛ تطبيقاً لِقَسَمِ إبليس اللعين: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5892 ولكن هذا الاستمتاع في النهاية لا يعطي أمراً زائداً عن المقدور لكل جنس؛ ولذلك تجد أن كل مَنْ يعمل بالسحر وتسخير الجن إنما يعاني؛ مصداقاً لقول الحق سبحانه: {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] . وأنت تجد رزق الذي يقوم بالسحر أو تسخير الجن يأتي من يد مَنْ لا يعلم السحر، ولو كان في تعلُّم ذلك ميزة فوق البشر؛ لجعل رزقه من مصدر آخر غير من لا يعلمون السحر أو تسخير الجن. وأنت حين ترى الواحد من هؤلاء، تجد على ملامحه غَبَرَةً، وفي ذريته آفة أو عيباً، فمنهم مَنْ هو أعور أو أكتع أو أعرج؛ لأنه أراد أن يأخذ فرصة في الحياة أكثر من غيره من البشر؛ بواسطة الجن، وهذه الفرصة تزيده رهقاً؛ ولذلك فليلزم كل إنسان أدبه وقدره الذي شاءه الله سبحانه وتعالى له؛ فلا يفكر في أخذ فرصة تزيد من رهقه. ونحن نرى في البشر مَنْ يستخدم صاحب القوة الجسدية أو قدرة تصويب السلاح؛ ليُرهِب غيره، وقد ينجح في ذلك مرة أو أكثر، ثم ينقلب هذا (الفتوَّة) أو ذلك القاتل المأجور على مَنْ استأجره. إذن: فلا بد أن يحترم كل إنسان قَدَر الله سبحانه وتعالى في نفسه، وألاّ يأخذ فرصة من جنس آخر؛ يظن أنها تزيده في دنياه شيئاً، لكنها في الواقع ستزيده تعباً وتزيده رهقاً. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول عنهم: {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النار مَثْوَاكُمْ} [الأنعام: 128] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5893 وهكذا نرى أن مصير الاستمتاع بقوة الجن هو النار للإنس الذي استخدم الجن، وللجن الذي أغوى الإنس. ثم يعرض لنا الحق سبحانه وتعالى قضية أخرى في هذه المسألة؛ فيقول سبحانه: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] . والأخلاء: هم الجماعة التي يجمع أفرادها صحبة ومودَّة، ويتخلّل كل منهم حياة الآخر. وأنت تجد الناس صنفين: أناساً اتخذوا الخُلَّة في الله تعالى، فيذهبون إلى المساجد، ويستذكرون العلم، ولا يأكلون إلا من حلال، ويقرأون القرآن، وإن همَّ واحد منهم بمعصية وجد من صديقه ما يردّه عن المعصية، ويحجّون إلى بيت الله الحرام، ويعتمرون، وتدور حياتهم في إطار حديث المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه» وهذا لون من الخُلَّة. واللون الآخر يضم أناساً يساعد بعضهم البعض على المعصية، ويشربون الخمر، ويلعبون الميسر، ويفعلون كل المعاصي، فإذا جاء يوم القيامة يقابلون حكم الله تعالى: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} [البقرة: 254] . فلا خُلَّة إلا خُلَّة اللقاء في الله تعالى، فإذا التقى الأخلاء في الله تعالى فرحوا ببعضهم؛ لأن كلاّ منهم حمى أخاه من معصية، أما من كانوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5894 يجتمعون في الدنيا على المعصية، فكل منهم يلعن الآخر، ويصدق حكم الله سبحانه وتعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] . ولذلك نجد الحوار بين الذين استضعفوا والذين استكبروا، ونجد الحق سبحانه وتعالى يأتي لنا بهذا الحوار في القرآن: {فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ} [إبراهيم: 21] . فيرد الآخرون: {لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم: 21] ٍ. وبعد ذلك يأتي اعتراف الشيطان الذي يقول عنه الحق سبحانه: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5895 وهذا الحوار هو الذي يكشف لنا ما سوف يحدث يوم القيامة، ونجد الحق سبحانه يقول: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله ... } [الحشر: 16] . هذه كلها لقطات من مشاهد يوم القيامة، جاءت في خواطرنا ونحن نتناول قول الحق سبحانه: {فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 29] . هكذا يعلن كل مَنْ عُبد من الملائكة أو الرسل أو الأصنام، وبذلك تتم فضيحة الذين عبدوهم من دون الله سبحانه ويأخذون طريقهم إلى النار. ولذلك نجد الحق سبحانه يقول: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22] . ولننتبه هنا إلى أن الأزواج متقدمون في الإغواء والتوجيه إلى الشر، قبل الأعداء؛ لأن الزوج أو الزوجة قد يكون هو الشيطان الملازم الذي يُهيِّيء الانحراف إلى ما يريد. ونجد الحق سبحانه يقول بعد ذلك: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] . ومثلها مثل قوله سبحانه: {مَكَانَكُمْ} نفهم من ذلك أنهم كانوا معاً في الدنيا وهي دار الاختبار، وهم الآن في دار جبرية الاقتدار؛ لذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5896 {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} [الصافات: 2428] . أي: كنتم تستعملون قوتكم؛ لتجعلونا نتبعكم، فلا يظنن ظانٌّ أنها قوة البطش فقط، أو قوة التذليل، بل المقصود بذلك أيّ قوة، حتى وإن كانت قوة الإغواء. إذن: فالمواقف مفضوحة، وهذا لون ومقدمة من ألوان العذاب؛ ليبين الله سبحانه وتعالى صدقه في قوله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] . وشاء الحق سبحانه ذلك؛ ليبين لنا كيف يختار الإنسان خليله في الدنيا، فلا يختار الخليل الذي يزيِّن الخطأ والمعصية، بل يختار الذي يعينه على الطاعة. ويذكر الحق سبحانه موقفاً من مواقف يوم القيامة فيقول سبحانه: {وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} [فصلت: 29] . هكذا يكون حال الذين ضلُّوا يوم القيامة، يتبرأون ممن أوقفهم هذا الموقف بل يطلبون من أضلهم لإيقاع العذاب بهم بأنفسهم؛ لذلك يقول الحق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5897 سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 29] . هكذا يتبرَّأ الملائكة والرسول الذي عُبِدَ، وحتى الأصنام، من الذين عَبَدُوهم في الدنيا. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5898 وقول الحق سبحانه: {هُنَالِكَ} يعني: في هذا الوقت، أو في هذا المكان. والزمان والمكان هما ظَرْفَا الحدث؛ لأن كل فعل يلزم له زمان ومكان، فإن كان الزمان هو الغالب، فيأتي ظرف الزمان، وإذا كان المكان هو الغالب فيأتي ظرف المكان. وجاءت {هُنَالِكَ} أيضاً في قصة سيدنا زكريا عليه السلام، إذ يقول الحق سبحانه: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] . أي: في ذلك الوقت الذي قالت فيه مريم رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قولةً أدَّت بها قضية اعتقادية إيمانية لكفيلها، وهو سيدنا زكريا عليه السلام وهو الذي يأتي لها بالطعام، وشاء لها الحق سبحانه وتعالى أن تعلِّمه هي. يقول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5898 سبحانه: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37] . والرزق ما به انتفع، وكان زكريا عليه السلام يكفلها بكل شيء تحتاجه، لكنه فوجىء بوجود رزق لم يَأت هو به؛ بدليل أنه قال: {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] . وهذه ملحظية ويقظة الكفيل حين يجد مكفوله يتمتع بما لم يأتِ به. وهذه هي قضية «من أين لك هذا» ؟ ، وهي قضية الكفيل العام للمجتمع حين يرى واحداً يتمتع بما لا تؤهله له حركته في الحياة، وبذلك يُكشف مختلس الانتفاع بما يخص الغير دون أن يَعرف كافله، ولو أن كافله أصرَّ على معرفة من أين تأتي مصادر دخله؛ لَحَمى المجتمع من الفساد. وانظر إلى جواب مريم عليها السلام على قول زكريا عليه السلام الذي ذكره رب العزة سبحانه: {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] . قالت مريم: {هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 37] . ثم تعلَّل الجواب: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . قالت ذلك، لأنه وجد عندها أشياء لا توجد في مثل هذا الوقت من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5899 السنة، فعجَبُ سيدنا زكريا عليه السلام إذن كان من أمرين اثنين: شيء لم يأت هو به، وشيء مخالف للفترة التي هو فيها، كأنْ وجد عندها عنباً في زمن غير أوانه، أو وجد برتقالاً في غير أوانه، وسؤاله كان دليل يقظة الكفيل، وإجابتها كانت قضية إيمانية عقدية {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . وما دام {مِنْ عِندِ الله} سبحانه وتعالى ما طرح حسابك أنت للأشياء في ضوء هذه القضية. ولكن هل غفل سيدنا زكريا عليه السلام عن قضية الإيمان بأن الله تعالى يرزق مَنْ يشاء بغير حساب؟ فنقول: لا، لم يغفل عنها، ولكنها لم تكن في بؤرة شعوره حينئذ؛ فجاءت بها قولة السيدة مريم لتذكر بهذه القضية، وهنا تذكَّر زكريا نفسه، كرجل بلغ من الكبر عتياً، وامرأته عاقر، وما دام الله سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب، فليس من الضروري أن يكون شاباً أو تكون زوجته صغيرة لينجب، فجاء الحق معبراً عن خاطر زكريا في قوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] . أي: في هذا الوقت أو ذلك المكان، أو في الاثنين معاً زماناً ومكاناً، وهنا جاءته الإجابة من ربه سبحانه وتعالى: {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5900 وقد جاء الحق سبحانه بهذه القضية ليمنع أيَّ ظانٍّ من أن يسيء الظن بعفة مريم عليها السلام؛ لأنها في موقف اللجوء فأنطقها الحق بقوله: {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . وما دام الرزق بغير حساب وفي غير وقته وغير مكانه وبلا سبب وبغير علم كافلها، فعند ذلك تحقق اللجوء إلى الله بالقبول الحسن الذي دعت به امرأة عمران: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 3637] . ويطبقها زكريا عليه السلام على نفسه، ثم تتعرض هي لها، حين يبشِّرها الحق سبحانه بغلام اسمه المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام. فهي ستلد من غير أن يمسسها ذكر، وهي تعلم أن الأسباب جارية في أنه لا يوجد تناسل إلا بوجود ذكر وأنثى، وشاء الحق سبحانه أن يقدِّر لها أن تلد دون هذه العملية، فجاء سبحانه بتلك المقدمة على لسانها {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . وحين تساءلت: {رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47] . جاءتها الإجابة بأن اسمه المسيح عيسى ابن مريم، يقول سبحانه: {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ} [آل عمران: 45] . فبيقظتها الإيمانية فطنت إلى أن هذا الطفل سينسب إلى أمه؛ فعرفت أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5901 أباه ملغي؛ وأدركت أن هذا الولد لن يأتي نتيجة زواج ولو فيما بعد، وبذلك كان عليها أن تعود إلى القضية الإيمانية التي ذكرتها: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] أي: في ذلك الوقت تُختبر كل نفس، وترى هل الجزاء طيب أم لا؟ فإن كانت قد عملت الشر؛ فستجد الجزاء شَرّاً. إذن: فالإنسان وقت النتائج يختبر نفسه بما كان منه. ثم يقول الحق سبحانه: {وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الحق} [يونس: 30] وكأنهم كانوا في الدنيا عند مولىً آخر غير الإله الحقّ سبحانه، والمولى غير الحق هو الشريك أو الشركاء الذين اتخذهم بعض الناس مَوالِيَ لهم، وهنا في اليوم الآخر يُردُّون إلى الإله الحق والمولى الحق سبحانه. وكلمة «رُدُّوا إلى كذا» لا تدل على أنهم كانوا مع الضِّدِّ، وجاءوا له، بل تدل على أنهم كانوا معه أولاً، ثم ذهبوا إلى الضِّدِّ، ثم رُدُّوا إليه ثانياً، مثل قول الحق سبحانه عن موسى عليه السلام: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ} [القصص: 13] . فدلَّت علىأنه كان مع أمه، ثم فارقها، ثم رُدَّ إليها. وقول الحق سبحانه هنا: {وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الحق} [يونس: 30] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5902 أي: أنهم كانوا مع الله أولاً، ثم أخذهم الشركاء، وفي هذا اليوم الآخر يرجعون لربهم سبحانه. والإنسان يكون مع ربّه أولاً بالفطرة التكوينية المؤمنة، ثم يتجه به أبواه إلى المجوسية أو أيّ ديانة أخرى تحمل الشرك بالله تعالى، وهم في ظل تلك الديانات المشركة، كانوا عند مولىً وسيِّدٍ وآمرٍ ومشرِّعٍ، لكنه مَوْلىً غير حق؛ لأن الحق هو الثابت الذي لا تدركه الأغيار. {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] . أي: عرفت كل نفس ما فعلت، ويُعرف كل إنسان بفضيحته في جزئيات ذاته، وكذلك الفضيحة العامة لكل إنسان أشرك بالله سبحانه. ثم يقول الحق سبحانه: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [يونس: 30] . أي: أن الآلهة التي عبدوها لا تتعرف إلى أمكنتهم ومواقعهم، وأنهم في خطر؛ فتأخذ بأيديهم؛ لأن هذه الآلهة لا علم لها بهم، ولو أن هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله سبحانه على شيء من الحق؛ ووجودوهم في مأزق؛ لكان يجب أن يدافعوا عنهم، لكنهم لم يعرفوا أماكنهم {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [يونس: 30] . أي: ماكنوا يكذبونه كذباً متعمداً. وبعد أن كشف سبحانه المسألة وما سوف يحدث في الآخرة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5903 وخوَّفهم وبشَّع لهم ما سوف ينتظرهم من مصير إنْ ظلوا على الكفر؛ لعلَّهم يرتدعون، ويتذكرون ضرورة العودة إلى عبادة الإله الحق سبحانه، ياتي الحق سبحانه وتعالى بما يعيد إليهم رُشْدَ الإيمان في نفوسهم، فيقول: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5904 أي: أن الحق سبحانه يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اسألهم هذا السؤال، ولا يسأل هذا السؤال إلا مَنْ يثق في أن المسئول لو أدار في ذهنه كل الأجوبة، فلن يجد جواباً غير ما عند السائل. ومثال ذلك من حياتنا والله المثل الأعلى إن جاء لك من يقول: أبي يهملني، فتمسك به، وتسأله: من جاء لك بهذه الملابس وذلك القلم ويُطعمك ويُعلِّمك؟ سيقول لك: أبي. وأنت لا تسأله هذا السؤال إلا وأنت واثق أنه لو أدار كل الأجوبة فلن يجد جواباً إلا الذي تتوقعه منه، فليس عنده إجابة أخرى؛ لأنك لون كنت تعرف أنه سوف يجيبك إجابة مختلفة لما سألته فكأنك ارتضيت حكمه هو في المسألة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5904 والحق سبحانه وتعالى قال في بداية هذه الآية الكريمة: {قُلْ} كما أنزل عليه مثيلاتها مما بُدىء بقوله سبحانه: {قُلْ} مثل قوله سبحانه: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الصمد: 1] . وهذا ما اقتضاه خطاب الحق سبحانه دائماً للخَلْق، ويختلف عن خطاب الخَلْق للخَلْق، فحين تقول لابنك: «اذهب إلى عمِّك، وقُلْ له كذا» . فالابن يذهب إلى العمِّ ويقول له منطوق رسالة الأب، دون أن يقول له: «قُلْ» ، أما خطاب الحق سبحانه للخلق، فقد شاء سبحانه أن يبلِّغنا به رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما نزل {قُلْ} فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمين في البلاغ عن الله تعالى، لا يترك كلمة واحدة من الوحي دون أن يبلِّغها للبشر، وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي أمره، فهو يبلغ ما أمِرَ، حتى لا يحرم آذان خلق الله تعالى من كل لفظ صدر عن الله سبحانه. وكذلك أمر الحق سبحانه هنا لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يقول: {مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} [يونس: 31] . ونحن نعلم أن الرزق هو ما يُنتفع به، والانتفاع الأول مُقوِّم حياة، والثاني تَرَفٌ أو كماليات حياة، والرزق الذي هو أصل الحياة هو ماء ينزل من السماء، ونبات يخرج من الأرض. وهكذا قال الحق سبحانه السؤال والإجابة معروفة مقدَّماً، فلم يَقُلْ لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أجِب أنت» بل ترك لهم أن يجيبوا بأنفسهم. وكذلك جاء الحق سبحانه بسؤال آخر: {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} [يونس: 31] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5905 والسمع والبصر هما السيدان لملَكَات الإدراك؛ لأن إدراك المعلومات له وسائل متعددة، إنْ أردتَ أنْ تُدرك رائحة؛ فبأنفك، وإن أردتَ أنْ تدرك نعومة؛ فبلمسك وببشرتك، وإنْ أردتَ أن تدرك مذاق شيء فبلسانك، وإنْ أردت أن تتكلم فبأجهزة الكلام وعمدتها اللسان، وإنْ أردتَ أن تسمع فبأذنك. وكذلك تتجلَّى لك المرائي بعينيك، ثم تأتي إدراكات متعددة من الحواس؛ لتُكوِّن أشياء نسميها الخميرة، توجد منها القضية العقلية الأخيرة، فالطفل أمام النار يجد منظرها جميلاً جذاباً، لكن ما إن يلمسها حتى تلسعه؛ فلا يقرب منها أبداً من بعد ذلك؛ لأنه اختبرها بحواسه فارتكزت لديه القضية العقلية وهي أن هذه نار محرقة، واستقر هذا لديه يقيناً. وهكذا تكون الإدراكات الحسية إدراكات متعددة تصنع خميرة في النفس تتكون منها الإدراكات المعنوية. إذن: فوسائل العلم للكائن الحي هي الحواس، وهذه الحواس تعطي العقل معطيات تنغرز فيه لتستقر من بعد ذلك في الوجدان؛ فتصبح عقائد. إذن: فمراحل الإدراك هي: إدراك حسيٌّ، وتفكُّر عقليٌّ، فانتهاء عَقَدِيٌّ؛ ولذلك نسمِّي الدين عقيدة. أي: أنك عقدت الشيء في يقينك بصورة لا تحلُّه بعدها من جديد لتحلّله، فهذا يُسمى عقيدة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5906 ولذلك حينما أراد الله سبحانه وتعالى أن يقصَّ علينا مراحل الإدراك في النفس الإنسانية؛ ليربي الإنسان معلوماته، قال الحق سبحانه: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . لذلك يقال: «كما ولدته أمه» ، أي: لم يُعْطَ القدرة على استخدام حواسِّه بعد، ثم يجعل له الحق سبحانه الحواس، ويجعله قادراً على استخدامها. ولم يذكر بقية الحواس، بل جاء بالسيدين، وهما السمع والبصر؛ لأن آيات الكون تحتاج إلى الرؤية، وإبلاغ الرسل يحتاج للسماع، وهما أهم آلتين في البلاغ، فأنت ترى بالعين آيات الكون ومعجزات الرسل، وتسمع البلاغ بمنهج الله سبحانه وتعالى من الرسل. وقد لفتنا الإمام علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى العجائب فقال: «اعجبوا لهذا الإنسان، ينظر بشحمٍ، ويتكلم بلَحْمٍ، ويسمع بعظمٍ، ويتنفس من خَرْمٍ» . فالصوت يطرق عظمة الأذن، ويرنّ على طبلتها، ونرى بشحمة العين، وننطق بلحمة اللسان. وأضاف البعض: «ونشمْ بغضروف، ونلمس بجلد، ونفكر بعجين» . فالإنسان يولد وكأن مخه قطعة من العجين التي تعمل في استقبال المعلومات من الكون وتخزينها فيه، وهي التي ستكون ركيزة لتشكيل الفؤاد من بعد ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5907 وجاء قول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بوسيلتين من وسائل الإدراك، وترك بقية الوسائل الثلاث الأخرى الظاهرة، مع أن العلم الحديث حين تلكم عن وظائف الأعضاء، احتاط للأمر وقرر أن هذه الحواس هي الحواس الخمس الظاهرة. وهذا يعني أن هناك حواسّاً أخرى غير هذه سيكشف عنها، وهي حواس لم يكن القدماء يعرفونها، مثل حاسة البَيْنَ بَيْنَ، التي نفرق بها بين أنواع الأقمشة والأوراق وغيرها، وكثافة هذا النوع من ذلك، وهذه الحاسة توجد بين لمستين من إصبعين متقاربين. وكذلك حاسة العَضَل التي تزن ثقل الأشياء، وتعرف حين تحمل ثقلاً ما مدى الإجهاد الذي يسببه لك، وهل يختلف عن إجهاد حَمْل ثقلٍ آخر. وحين نظر العلماء في معاني الألفاظ قالوا: «النظائر حين تخالف فلا بد من علّة للمخالفة» فالسمع آلة إدراك، والبصر آلة إدراك، فلماذا قال الحق سبحانه في آلة الإدراك «السمع» ، وقال في الآلة الثانية «الإبصار» ؟ ، ولماذا جاء السمع بالإفراد، وجاء الإبصار بالجمع، ولم يأتْ بالاثنين على وتيرة واحدة؟ فنقول: إن المتكلم هو الله تعالى، وكل كلمة منه لها حكمة وموضوعة بميزان، وأنت، حين تسمع، تسمع أي صوت قادم من أي مكان، لكنك بالعين ترى من جهة واحدة، فإنْ أردتَ أن ترى ما على يمينك فأنت تتجه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5908 بعينيك إلى اليمين، وإنْ أردت أن ترى ما خلفك، فأنت تغيِّر من وقفتك، فالأذن تسمع بدون عمل منك، لكن البصر يحتاج إلى عمليات متعددة؛ لترى ما تريد. وأيضاً فالسمع لا اختيار لك فيه، فأنت لا تستطيع أن تحجب أذنك عن سماع شيء، أما الإبصار فأنت تتحكم فيه بالحركة أو بإغلاق العين. وجاء الحق سبحانه وتعالى بالسمع أولاً؛ لأن الأذن هي أول وسيلة إدراك تؤدي مهمتها في الإنسان، أما العين فلا تبدأ في أداء مهمتها إلا من بعد ثلاثة أيام إلى عشرة أيام غالباً. وهنا يقول الحق سبحانه: {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} [يونس: 31] . والحق سبحانه يملكها؛ لأنه خالقها وهو القادر على أن يصونها، وهو القادر سبحانه على أن يُعَطِّلها، وقد أعطانا الحق مثالاً لهذا في القرآن فقال عن أصحاب الكهف: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11] فَعَطَّل الله سبحانه أسماعهم بأن ضرب على آذانهم، فذهبوا في نوم استمر ثلاثة قرون من الزمن وازدادوا تسعاً. كيف حدث هذا؟ . . إن أقصى ما ينامه الإنسان العادي هو يوم وليلة، ولذلك عندما بعثهم الله تساءلوا فيما بينهم: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] . ولكن هيئتهم لم تكن تدل على هذا، فإن شعورهم قد طالت جدّاً، بل إن لونها الأسود قد تبدل وأصبحوا شيباً وكهولاً، ولذلك قال الحق سبحانه: {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف: 18] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5909 ونلحظ هنا ملحظاً يجب الانتباه إليه، ففي هذه الآية الكريمة يقول الحق سبحانه: {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} [يونس: 31] . بينما يقول في آية أخرى في سورة السجدة: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار} [السجدة: 9] . ولا بد أن ننتبه إلى الفارق بين «الخَلْق» و «الجَعْل» ، و «الملْك» ، فالخلق قد عرفنا أمره، وملكية كل شيء لله تعالى أمر مُلْزِمٌ في العقيدة، ومعروف، أما «الجَعْل» ، فهو توجيه ما خلق إلى مهمته. فأنت تجعل الطين إبريقاً، والقماس جلباباً، هذا على المستوى البشري، أما الحق سبحانه وتعالى فقد خلق المادة أولاً، ثم جعل من المادة سمعاً وبصراً، وزاد من بعد ذلك {أَمَّن يَمْلِكُ} ، فمن خَلَق هو الله تعالى، ومن جَعَلَ هو الله تعالى، ومن مَلَكَ هو الله تعالى. وهو سبحانه ينبهنا إلى ذلك، فالأشياء النافعة لابن آدم يخلقها الله سبحانه، ويجعلها، ثم يُملِّكها له. أما ذات الإنسان وأبعاضه من سمع وبصر وغيرهما وإن كانت قد خُلقت في الإنسان، وجُعلت له للانتفاع بها، ولكنها ستظل مِلْكاً لله، يبقيها على حالها، او يخطفها أو يصيبها بآفة، أو يعطلها. إذن: فهي خُلقت لله، وجُعلت من الله، وتظل مملوكة لله، ويُصيِّرها كيف يشاء، فدقات القلب والحب والكراهية والأمور اللا إرادية التي تعمل لصالح الإنسان هي مملكة الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5910 والحق سبحانه على سبيل المثال جعل لكلِّ حيوان جلداً؛ ننتفع به وندبغه إلا جلدين اثنين: جلد الإنسان وجلد الخنزير، وقد حُرِّم استخدام جلد الإنسان؛ لكرامته عند خالقه، وحُرِّم استخدام جلد الخنزير؛ ليدُلَّ على حرمته ونجاسته. وعلينا أن ننتبه إلى أن الحق سبحانه قد خَلَقَ وجَعَلَ ومَلَكَ، ودليل ملكية الحق سبحانه وتعالى أنه حَرَّم الجنة على المُنتحِر؛ لأنه لا يأخذ الحياة إلا واهبُ الحياة، فأنت أيها الإنسان لستَ مِلْكَ نفسك. ولا عذر لأحد ما دام قد وصله هذا البلاغ، وعليه أن يستوعبه أما من لايستوعب؛ فيلقى مصيره. لذلك فإنه سبحانه هو الذي رزق، وهو سبحانه الذي يملك. ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} [يونس: 31] . ونحن نعلم أن لكل كائن في الوجود حياة تناسبه، بدليل قول الحق سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] . وما دام كل شيء سيأتي له وقت يهلك فيه، فمعنى ذلك أن لكل شيء حياة، إلا أن حياتنا نحن في ظاهر الأمر عبارة عن الحس والحركة، والإنسان يأكل الخضروات والخبز والفاكهة، ومن هذه المأكولات وغيرها يكوِّن الجسمُ الحيوانات المنوية في الرجل، والبويضات في المرأة، ومنهما يأتي الإنسان، وكذلك يخرج الكتكوت من البيضة المخصَّبة؛ لأن البيضة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5911 غير المخصبة لا تُخرِج كتكوتاً؛ فهي بدون حياة؛ ولذلك لا يتكون منها جنين، فهناك فرق بين قابلية الحياة، وبين الحياة نفسها. وكذلك نواة التمرة، إذا ما ألقيتْ دون أن توضع في الأرض، فلن تكون نخلة أبداً، ولكن إذا ما زُرعتْ في الأرض، ووجدت لها البيئة المناسبة؛ خرجَتْ نخلة. ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَن يُدَبِّرُ الأمر} [يونس: 31] . والتدبير هو عملية الإدارة لأي شيء؛ حتى يؤدي مهمته، وبالله من يُدير قلبك؟ ومن يدير حركة أمعائك؟ لتستخلص من الطعام ما يفيدك، ثم تخرج ما لا يفيدك. إياك أن تقول: إنني أنا الذي أدير ذلك؟ ونقول: كنت طفلاً في مرحلة الطفولة، فهل كنت تدير حركة قلبك أو أمعائك؟ ومَنْ الذي يدير حركة رئتيك؟ إن الذي يديرها هو خالقها؛ لذلك اطمئنوا على حركة أجهزتكم التي لا دخل لكم فيها؛ لأن الذي خلقها فيكم قيُّوم لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يؤوده حفظ ذلك. ويجيب مَنْ يسألهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على كل تلك الأسئلة بأمر الله تعالى الإجابة التي حددها الله سبحانه سلفاً {فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31] . إذن: أما كان يجب أن نرهف الآذان، ونُعْمِل الأبصار؛ لنرى قدرة الله سبحانه الذي وهب لنا كل تلك النعم من رزق، وسمع، وبصر، وإحياء، وإماتة، وإحياء من ميت، وتدبير الأمر كله؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5912 أما كان يجب أن نقول: يا مَنْ خَلَقْتَنَا ماذا تنتظر مِنَّا؛ لنعمِّر الكون الذي أوجدتنا فيه؟ فكيف إذن يتجه البعض بالعبَادة لغير الله تعالى؛ لشمسٍ أو قمرٍ، أو ملائكة، أو نبيّ، أو صنمٍ؟ كيف ذلك والعبادة معناها إطاعة العابد للمعبود فيما يأمر به؟ وهل هناك إله بغير منهج يأمر به عباده، ومن عبد الشمس هل كَلَّفته بشيء؟ . . لا. إذن: يتساوى عندها مَنْ عبدها، ومَنْ لم يعبدها، وفي هذا نقض لألوهية كل معبود غير الله تعالى. ولذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس: 31] . فما دام الله سبحانه هو الذي خلق كل ذلك، وأنزل منهجاً، فعليكم أن تجعلوا بينكم وبينه وقاية؛ تحميكم من صفات الجلال، وتقرّبكم من آثار صفات الجمال وأن تسمعوا إلى البلاغ من الرسل عليهم السلام، وإلى مطلوباته سبحانه. وما دام كل إنسان سيجيب عن أسئلة هذه الآية، ويعترف أن الخالف سبحانه والمالك هو الله تعالى، فعلى الإنسان أن يقي نفسه النار. والعجيب أن الجميع يجيب بأن الله سبحانه هو الذي خَلَق، فالحق سبحانه يقول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] . ويقول أيضاً: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] . وما دام الله تعالى هو الذي خلق، وزرق، ودبَّر الأمر، فكيف تتركون عبادته وتتجهون لعبادة غيره؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5913 ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5914 وقد جاء قول الحق سبحانه: {فذلكم} إشاره منه إلى ما ذكره قَبْلاً من الرزق، وملكية السمع والأبصار، وقدرة إخراج الحيّ من الميت، وأخراج الميت من الحي، وتدبير الأمر. إذن: فقوله سبحانه: {فذلكم} إشارة إلى أشياء ونعم كثيرة ومتعددة أشار إليها بلفظ واحدٍ؛ لأنها كلها صادرة من إله واحد. {فذلكم الله رَبُّكُمُ الحق} [يونس: 32] . ولا يوجد في الكون حقَّان، بل يوجد حق واحد، وما عداه هو الضلال؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32] . إذن: أنتم إنْ وجَّهتم الأمر بالربوبية ألى غيره؛ تكونون قد ضللتم الطريق، فالضلال أن يكون لك غاية تريد أن تصل إليها، فتتجه إلى طريق لا يوصِّل إليها. فإن صُرفتم من الإله الحق فأنتم تصلون إلى الضلال. ولذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بما يبين أنه لا يوجد إلا الحق أو الضلال، فيقول سبحانه: {فأنى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5914 أي: أنكم إن انصرفتم عن الحق سبحانه وتعالى، فإلى الضلال، والحقُّ واحد ثابت لا يتغيَّر. ومَنْ عبد الملائكة أو الكواكب أو النجوم؛ أو بعض رسل الله عليهم السلام أو صنماً من الأصنام؛ فقد هوى إلى الضلال. وإن كنتم تريدون أن نجادلكم عقلياً، فَلْنقرأ معاً قول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5915 قوله: {كَذَلِكَ} إشارة إلى ما تقدم من رزق الله تعالى للبشر جميعاً، ومن مِلْك السمع والبصر، ومن تدبير الأمر كله، ومن إخراج الحيّ من الميت، وإخراج الميت من الحي، ذلك هو الإله الحق سبحانه، وقد ثبت ذلك بسؤاله سبحانه وتعالى هذا السؤال الذي علم مُقدَّماً ألا إجابة له إلا بالاعتراف به إلهاً حقاً: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32] . ومثل هذه القضية تماماً قَوْلُ الحق سبحانه: {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33] . لأنهم أساءوا الفهم في الوحدانية، وفي العقيدة، واستحقوا أن يُعذَّبوا؛ لأنهم صرفوا الحق إلى غير صاحب الحق. وقد كان هذا خطاباً للموجودين في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن بعضهم آمن بالله تعالى؛ ولذلك فالعذاب: إنما يحُلّ على مَنْ لم يؤمن. وهذا القول متحقق فيمَنْ سبق في علم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5915 وكذلك حقَّتْ كلمة ربك على هؤلاء الذين فسقوا ولا ينتهون عن فسقهم وكفرهم، وإصرارهم على الانحراف بالعبودية لغير الله الأعلى والرَّبِّ الحق سبحانه وتعالى. والدليل على العلم الأزليِّ لله سبحانه ما نقرأه في سورة البقرة: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] . إذن: معلوم لله تعالى مَنْ يؤمن ومَنْ لا يؤمن، ومَنْ يستمر ويُصِرّ على كفره؛ هو الذي يَلْقَى العذاب، بعلم الله تعالى فيه أنه لن يؤمن. ثم يذكر الحق بعد ذلك ما يمكن أن يُجادَلَ به الكافرون بمنطق أحوالهم، ففي ذوات نفوس غير المؤمنين بإله توجد نزعة فطرية لفعل الخير، وتوجيه غيرهم إليه، وهو موجود حتى في الأمم غير المؤمنة، فكل قوم يُوجِّهون إلى الخير بحسب معتقداتهم، فنجد بين الشعوب غير المؤمنة بإلهٍ حكماء وأطباء وعلماء، وهؤلاء يوجهون الناس إلى بعض الخير الذي يرونه. ونجد الطفل الصغير يكتسب المعتقدات والعادات والاتجاهات من والديه، ومما يسمعه من توجيهاتهم، فنجده يبتعد عن النار مثلاً أو الكهرباء؛ لأنه ترسخت في ذهنه توجيهات ونصائح غيره؛ بل إنه يتعلم كيف يتعامل مع هذه الأشياء دون أن تصيبه بالضرر. إذن: يوجد توجيه من الخلق إلى الخلق لجهات الخير، ألا نجد في الدول غير المؤمنة بإله مَنْ يرشد الناس إلى الطرق التي يمكن أن يسيروا فيها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5916 باتجاهين، والطرق التي عليهم أن يسيروا فيها باتجاه واحد؟ ألا يوجد مَنْ يدل الناس على المنحنيات الخطرة على الطرق، وكذلك يوجّههم إلى ضرورة خفض سرعة السيارات أمام مدارس الأطفال؟ نعم، يوجد في البلاد غير المؤمنة مَنْ يفعل ذلك. إذن: فالتفكير في الخير لصالح الأمم أمر طبيعي غريزي موجود في كل المجتمعات، وإذ كان التوجيه للخير يحدث من الإنسان المساوي للإنسان، ألا يكون الله سبحانه هو الأحق بالتوجيه إلى الخير، وهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يقيم حياته على الأرض، ولذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5917 وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يسألهم: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34] . ومعنى أن الله يسأل القوم هذا السؤال أنه لا بد أن تكون الإجابة كما أرادها هو سبحانه. وإنْ قال قائل: وكيف يأمنهم على مثل هذا الجواب، ألم يكن من الجائز أن ينسبوا هذا إلى غير الله؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5917 نقول: إن هذا السؤال: لا يُطرح إلا وطارحه يعلم أن له إجابة واحدة، فلن يجد المسئول إجابة إلا أن يقول: إن الذي يفعل ذلك هو الله سبحانه ولا يمكن أن يقولوا: إن الصنم يفعل ذلك؛ لأنهم يعلمون أنهم هم الذين صنعوا الأصنام، ولا قدرة لها على مثل هذا الفعل. فالإجابة معلومة سلفاً: إن الله سبحانه وتعالى وحده هو القادر على ذلك، وهذا يوضح أن الباطل لجلج والحق أبلج، وللحق صَوْلة؛ فأنت ساعة تنطق بكلمة الحق في أمر ما، تجدها قد فعلت فِعْلها فيمن هو على الباطل، ويأخذ وقتاً طويلاً إلى أن يجد كلاماً يرد به ما قلته، بل يحدث له انبهار واندهاش، وتنقطع حجته. ولذلك لم يَقُل الحق سبحانه هنا مثلما قال من قبل: {فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31] . بل قال: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34] . وجاء بها الحق سبحانه هكذا؛ لأنهم حينما سُئلوا هذا السؤال بهرهم الحق وغلب ألسنتهم وخواطرهم؛ فلم يستطيعوا قول أي شيء. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى نجد وكيل النيابة يضيّق الخناق على المتهم بأسئلة متعددة إلى أن يوجه له سؤالاً ينبهر المتهم من فرط دقته وليس له إلا إجابة واحدة تتأبى طباعة ألا يجيب عنه، فيجيب المتهم معترفاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5918 والإنسان كما خلقه الله تعالى صالح لأن يؤمن، وصالح لأن يكفر، فإرادته هنا تتدخل، لكن أبعاضه مؤمنة عابدة مسبحة، فاللسان الذي قد ينطق الكفر، هو في الحقيقة مؤمن مُسبِّحٌ، حامد، شاكر، لكن إرادة الإنسان التي شاءها الله سبحانه متميزة بالاختيار قد تختار الكفر والعياذ بالله فينطق اللسان بالكفر. وقد تأتمر اليد بأمر صاحبها؛ فتمتد لتسرق، أو تسعى الأقدام مثلاً إلى محل احتساء الخمر، ولكن هل هذه الفاعلات راضية عن تلك الأفعال؟ لا، إنها غير راضية، إنما هي خاضعة لإرادة الفاعل. وحين يسأل السؤال: من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ فاللسان بفطرية تكوينه المؤمنة يريد أن يتكلم؛ لكنه لا يملك إرادة الكلام، فيبين الحق سبحانه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يجيب نيابة عن الأبعاض المؤمنة، فيقول سبحانه: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34] وهو بذلك يؤكد الصيغة، ويكفي أن يقول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا القول مُبلِّغاً عن ربه، وينال هذا القول شرف العندية: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ فأنى تُؤْفَكُونَ} [يونس: 34] . والإفك: هو الكذب المتعمَّد، وهو الافتراء، وهناك فارق بين الكذب غير المتعمد والكذب المتعمد، فالكذب غير المتعمد هو من ينقل ما بلغه عن غيره حسبما فهم واعتقد، وهو لون من ألوان الكذب لا يصادف الحق، ويتراجع عنه صاحبه إن عرف الحق. أما الافتراء فهو الكذب المتعمد، أي: أن يعلم الإنسان الحقيقة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5919 ويقلبها؛ ولذلك نجد العلماء قد وقفوا هنا وقفة؛ فمنهم من قال: هناك صدق، وهناك كذب، لكن علماء آخرين قالوا: لا، إن هناك واسطة بين الصدق والكذب. ومثال ذلك: أن يدخل ابنٌ على أبيه، بعد أن سمع هذا الابن من الناس أن هناك حريقاً في بيت فلان، فيقول الابن لوالده: هناك حريق في بيت فلان؛ فيذهب الأب ليعاين الأمر، فإن وجد حريقاً فقول الابن صدق، وإن لم يكن هناك حريق فالخبر كاذب، ولكن ناقل الخبر نقله حسبما سمع. إذن: فهناك فَرْق بين صدق الخبر وصدق المُخْبِر، فمرة يَصْدُق الخبر ويصدُق المخبر، ومرة يصدُق الخبر ولا يصدُق المخبِر، ومرة يصدق المخبر ولا يصدق الخبر. فهُنا أربعة مواقف، والذين قالوا إن هناك واسطة بين الصدق والكذب هم مَنْ قالوا: إن الصدق يقتضي مطابقة بين الواقع والخبر. أما الكذب فهو ألا يطابق الواقع الخبر. لذلك يجب أن نفرِّق بين صدق الخبر في ذاته، وصدق المخبر، بأنه يقول ما يعتقد. أما صدق الخبر فهو أن يكون هو الواقع. وقول الحق سبحانه: {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي: فكيف تقلبون الحقائق؛ لأنكم تعرفون الواقع وتكذبونه كذباً متعمداً؟ وكلنا نعلم قول الحق سبحانه: {والمؤتفكة أهوى} [النجم: 53] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5920 والمؤتفكة: هي القرى التي كُفئت أعلاها إلى أسفلها، كذلك الكذَّاب يقلب الحقيقة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5921 وهذا أمر للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يسألهم سؤالاً جديداً، لا إجابة له إلا ما يفرضه الواقع، والواقع يؤكد أن الهداية لا تكون إلا للحق؛ لأن كل كائن مخلوق لغاية، فلا شيء يُخلق عبثاً. ونحن بقُدرتنا المحدودة نصنع (الميكرفون) و {التليفزيون) أو الثلاجة أو السرير وغيرها، كلّ منها له غاية، وكل له قوانين صيانته الخاصة به، والذي يحدِّد الغاية من هذا المصنوع أو ذاك هو صانعه، ويضع لها قوانين صيانتها؛ لتؤدّي غايتها، فالغاية من أي شيء توجد قبل الشيء نفسه؛ ليوجد الشيء على مقتضى الغاية منه. وآفة العالم الآن أنهم يعلمون أن الله سبحانه خلق الإنسان، ولكنهم يصنعون من عندهم قوانين لصيانة الإنسان وحركة الإنسان، وهذا غباء وغفلة من الذين يفعلون ذلك، كان عليهم أن يتركوا أمر صيانة الإنسان للقوانين التي وضعها خالق الإنسان سبحانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5921 فالحق سبحانه وتعالى قد حدد الغاية من خَلْق الإنسان وحدّد قوانين صيانته، والشر الموجود حالياً بسبب الجهل بغاية الإنسان، والعدول عن المنهج الذي يجب أن يسير عليه الإنسان، فقال الحق سبحانه: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} [يونس: 35] . أي: هل من هؤلاء الشركاء مَنْ يهدي الإنسان إلى غايته؟ هل قالت الشمس مثلاً غايتها؟ هل قالت الملائكة غايتها؟ هل قالت الأشجار أو الأحجار أو الرسل الذين عبدتموهم شيئاً غير مراد الله تعالى؟ إنهم آلهة لا يعرفون الغاية من العابد لهم، ولا يعرفون الطريق الموصل إلى تلك الغاية. ولذلك يأتي القول الفصل: {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35] . فالله هداك أيها الإنسان إلى الحق في كل حركة تتحركها بالمنهج الذي أنزله الله سبحانه مكتملاً على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من بدء «لا إله إلا الله» إلى إماطة الأذى عن الطريق، وهو منهج مستوعب مستوفٍ لكل حركات الإنسان. وجاءت الإجابة من الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنهم انبهروا بالسؤال وتلجلجوا ولم يوجد عند أي منهم قدرة على المعارضة، فالغاية من خلق الإنسان وغيره يوجزها قول الحق سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . والعبادة ليست أركان الإسلام فقط، بل هي عمارة الكون كبنيان حيّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5922 للإسلام، والذي حدد الغاية هو الخالق سبحانه، وهو سبحانه الذي يحدد طريق الوصول إليها. ونحن حين نرغب في الوصول إلى مكان في الصحراء مثلاً، إنما نحدد أولاً المكان، ونختار طريق الوصول، فإن كان الطريق المستقيم مليئاً بالعقبات والجبال، فإنك ستضطر للانحراف عن هذا الطريق وصولاً إلى غايتك، فهذا الطريق المعوج هو الطريق المستقيم؛ لأنه الطريق الذي يجنبنا العقبات. ومثال ذلك: السيول التي تنزل على هضباب الحبشة، فاختارت لنفسها المجرى السهل فكان نهر النيل، فلا أحد قد حفر النيل مثلما حفرنا الرياحات أو قناة السويس، بل نزل السيل واختار لنفسه الطريق السهل فسار فيه بين التعاريج والرمال والصخور. ولذلك أنت تجد كل ما لا دخل للبشر به قد يتعرج لينفذ، أما ما صنعه البشر فلا يستطيع ذلك. وكل خلق لا بد له من غاية؛ لذلك نجد سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام يقول: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] . فمن خلق هو الذي يحدد الغاية؛ لأن هذه الغاية توجد عنده أولاً ليخلق، وتتجلى الدقة في قول القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام، فلم يقل: الذي خلقني يهديني، بل قال: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} مما يدل على أن هذه القضية ستخالَف، وبعد أن يخلق الإنسان سيقوم بعض الناس حماية لمصالحهم بوضع طريق أخرى تخالف الغاية؛ فتوصل إلى الضلال. أما الحق سبحانه فقد أنزل القرآن فيه الهداية الحقة، فالذي خلق هو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5923 الذي يقنن، ولذلك يذكر القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] . وبهذا القول وصل سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى أن الذي رزق الآباء قدرة استنباط الرزق مطعماً ومشرباً هو الله سبحانه. وذكر القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] . فالإماتة والإحياء هما من الحق سبحانه، فلا أحد يسأل عمن يملك الإماتة والإحياء، أما عن شفاء المرض فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . فأنت قد تذهب إلى الطبيب وتظن أنه هو الذي يشفيك؛ بل هو يعالج، ولكن الله هو الذي يشفي. وهكذا نعلم أن قول سيدنا إبراهيم عليه السلام: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] . هو كلام منطقي؛ لأن خالق الشيء هو الذي يهدي إلى الغاية من الشيء؛ فالغاية أولاً، ثم الخلق، ثم توضيح الطريق الموصل إلى تلك الغاية، فإذا خولف في شيء من ذلك فلا صلاح لكون أبداً. وتجد في القرآن على لسان سيدنا موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5924 فما دام الحق سبحانه قد خلق فهو يهدي إلى السبيل الموصل إلى الغاية، ويقول القرآن أيضاً: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 13] . وهكذا يتأكد لنا أنه ما دامت هناك غاية، فلا بد من وجود طريق يهدينا إليه من خَلَقَنَا. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35] لأن سبحانه هو الذي خلق؛ ولذلك فمن المنطقي أن يأتي بعد ذلك التساؤل: {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: 35] ؟ وسبب وجود اللام في قوله: {يهدي إِلَى الحق} هو النظرة إلى الغاية، وسبب وجود: {إِلَى الحق} هو لفت الانتباه إلى أن الوصول إلى الغاية يقتضي طريقاً، فأراد الحق سبحانه في آية واحدة أن يجمع التعبيرين معاً. ونحن نعلم أن هذه الآية قد نزلت في الذين اتخذوا لله شركاء، فهم يعترفون بالله تعالى ولكنهم يشركون به غيره، فالله سبحانه وتعالى تفرَّد بالألوهية بربويته للخلق؛ لأنه خلق من عَدَمٍ، وزرق من عُدْمٍ، وخَلَق لنا وسائل العلم ودبَّر لنا الأمر، وأخرج الحي من الميت، وأخرج الميت من الحي، وهدى للحق. فإين إذن هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم مع الله تعالى؟ وهل صنع واحد منهم أو كُلُّهم مجتمعين شيئاً واحداً من تلك الأشياء؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5925 لذلك قال سبحانه: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} [يونس: 35] إذن: فالذي يهدي هو الذي خَلَق، وهؤلاء الذين أشركوا اعترفوا بالله خالقاً بشهاداتهم حين قال الحق سبحانه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] . إذن: فالذين أشركوا قد ارتكبوا الإثم العظيم، وهؤلاء الشركاء إما أن يكونوا من الملائكة، أو من الأنبياء والرسل الذين فُتن بهم بعض الناس، وهناك من اتخذ وسائط أخرى مثل: الشمس والقَمر والنجوم؛ وهذه أشياء عُلوية، وبعض الناس اتخذوا وسائط سفلية كالأشجار والأحجار، فهل أي شيء من كل ذلك يهدي إلى الحق؟ وما منهج أي منهم إذن؟ وكيف بلَّغوكم به؟ إن كل هؤلاء يعلمون أن أيّاً منهم لا يستطيع أن يَهدي، بل هو يُهْدَى من الله سبحانه وتعالى، فمن أين قلتم إن الملائكة ستهديكم؟ أو من أين جاء الذين فُتنوا برسولهم واتخذوه إلهاً؟ ومن أين جاء هذا الرسول بمنهجه؟ إن كل كائن لا يَهدي إلا بعد أن يُهدى من الله أولاً، وإن كانت الأشياء المتخذة شركاء لا هداية لها، ولا منهج، ولا عقل، ولا تفكير، كالشمس والقمر والنجوم في العلويات، والأشجار والأحجار في السفليات، فماذا قالت هذه الأشياء؟ إنها لم تقل شيئاً. وهكذا لا يستقيم أمر اتخاذهم شركاء مع الله، حتى الملائكة، فالله هو الذي يختار منهم المَلَكَ الذي يُبلِّغ عن الله سبحانه، وكذلك الرسل عليهم السلام: {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: 35] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5926 {لاَّ يهدي} تقرأ هكذا، وللغة فيها عملية تخفيف جَرْس لسلامة نطقها واستقامة اللغة العربية، فنحن نعرف أن {يهدي} يعنى: يهتدي. . أصلها يهتدي. . ويهتدي فيها هاء ساكنة وتاء ودال وياء. . وفيها تقارب لمخارج الحروف، وهذا التقارب يجعل المعنى غائماً، والنطق ثقيلاً، فتقوم اللغة بعملية إبدال وإدغام، وتخلّص من التقاء الساكنين فتصل إلى مسامعنا كما أنزلها الله تعالى لسلامة النطق وجمال المعنى؛ لأن القرآن أدَّب اللغة بكلام السماء؛ لتكون خالدة اللفظ والمعنى. فإذا كنتم على طريق هداية، فالأصل في الهداية هو الله تعالى. ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35] . أي: ماذا أصاب عقولكم لتحكموا هذا الحكم؛ فتشركوا بالله ما لا منهج له، أو له منهج ولكنه موصول بالله تعالى جاء ليبلغه لهم؟ وساعة تسمع {كَيْفَ} فهي للاستفسار عن عملية عجيبة ما كان في عُرْف العاقل أن تحدث. كأن تقول: «كيف ضربت أباك؟» أو «كيف سببت أمك؟» ، وهذا كله من الأمور التي تأباها الفطرة ويأباه الطبع والدين. وقوله سبحانه: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} كأنه أمر عجيب ما كان يصح أن يحدث؛ لأن الحق سبحانه وحده هو الإله، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغيَّر غاية وطريقاً. والله سبحانه وحده هو الذي حدد لنا الغاية والطريق الموصل إليها، وهو سبحانه القائل: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} [يونس: 25] . والمنهج هو الطريق الذي يوصل إلى دار السلام من آفة الأغيار؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5927 لأن الدنيا كلها أغيار، فأنت قد تكون قوياً ثم تضعف أو صحيحاً فيصيبك المرض، أو غنياً فتفتقر، أو مبصراً فيضيع منك بصرك، أو تكون صحيح الأذن سمعياً فتصير أصم بعد ذلك. إذن: فهي دنيا أغيار، وهَبْ أن إنساناً أخذ من دنياه كل نصيبه عافية وأمناً وسلامةً وغنًى وكل شيء؛ سنجده في قلق من جهتين: الجهة الأولى أنه يخاف أن يفارقه كل هذا النعيم، أو يخاف أن يترك هو هذا النعيم، هذا ما نراه في حياتنا. إذن: فالدنيا بما فيها من أغيار لا أمان لها؛ لنفهم أن كل عطاءات المخلوق إنما هي هبة من الخالق سبحانه وتعالى؛ لأنها لو كانت من ذاتك لاستطعت الحفاظ عليها، ولكنها هِبَاتٌ من الحق الأعلى سبحانه. والأمر الموهوب قد يصبح مسلوباً. ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5928 وقول الحق سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} [يونس: 36] يفيد أن بعضهم كان يتبع يقيناً؛ لأن مقابل الظن هو اليقين، فالنسب التي تحدث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5928 بين الأشياء تربط بين الموضوع والمحمول، أو المحكوم والمحكوم عليه، وهي نسب ذكرناها من قبل، ونذكِّر بها، فهناك شيء أنت تجزم به، وشيء لا تجزم به. وما تجزم به وتُدلِّل عليه هو علم يقين، أما ما لا تستيطع التدليل عليه فليس علم يقين، بل تقليد، كأن يقول الطفل: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . وهذا حق، لكن الطفل لا يستطيع أن يدلل عليه أو أن يقال شيء ومن يقوله جازم به، وهو غير واقع؛ فذلك هو الجهل. والعلم هو القضية المجزوم بها، وهي واقعة وعليها دليل، على عكس الجهل الذي هو قضية مجزوم بها وليس عليها دليل. والظن هو تساوي نسبتين في الإيجاب والسلب، بحيث لا تستطيع أن تجزم بأي منهما؛ لأنه إن رجحت كفة كانت قضية مرجوحة، والقضية المرجوحة هي شك أو ظن أو وهم. فالظن هو ترجيح النسب على بعضها. والشك هو تساوي الكفتين. وقول الحق سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} [يونس: 36] يبين لنا أن الذين كانوا يعارضون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعلوا ذلك إما عناداً رغم علمهم بصدق ما يبلغ عنه، وإما أنهم يعاندون عن غير علم، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] . وكان الواحد منهم إذا تمعَّن في البلاغ عن الله تعالى والأدلة عليه، يعلن الإيمان، لكن منهم من تمعن في الأدلة وظل على عناده، والذين اتبعوا الظن إنما اتبعوا ما لا يغني من الحق شيئاً. لذلك يبيّن لهم الحق سبحانه أنه عليم بخفايا نفوسهم، ويعلم إن كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5929 إنكارهم للإيمان نابعاً من العناد أو من العجز عن استيعاب قضية الإيمان؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 36] . إذن: فقد علم الله سبحانه أزلاً أن بعضهم في خبايا نفوسهم يوقنون بقيمة الإيمان، لكنهم يجحدونها، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] . إذن: فالحق سبحانه وتعالى عليم، ولا يخفى عليه أنهم كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وبعضهم لم يفهم قيمة الإيمان، ومن علم منهم قيمة الإيمان جحدها، عناداً واستكباراً. يقول الحق سبحانه: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5930 وحين تستمع للقرآن وما فيه من سر الأعداد والإخبار بالمغيبات التي لا تخضع لمنطق الزمان، ولا لمنطق المكان، فالفطرة السليمة توقن أن هذا القرآن لا يمكن أن يُفتَرى، بل لا بد أن قائله ومُنزِّله عليم خبير؛ لأن القرآن جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب السابقة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5930 أي: أن ما به دائماً هو أمام الناس، أو مواجه لهم، وهو كتاب مصدِّق للكتب السابقة من قبل تحريفها كالتوراة والإنجيل والزبور، وهي الكتب التي سبقت القرآن نزولاً، لا واقعاً، فجاء القرآن مصدِّقاً لها. أي: هي تصدقه، وهي يصدقها من قبل تحريفها، وهي الكتب التي بشَّرت بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً، مثلما جاء في القرآن عن تصديق عيسى عليه السلام بمجيء محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} [الصف: 6] . فلما جاء أحمد (محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) ونزل عليه القرآن صدَّق الإنجيل في قوله هذا، وما جاء في القرآن من عقائد أصيلة هي عقائد جاءت بها كل الكتب السماوية، فالحق سبحانه يقول: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [النساء: 163] . ويقول الحق سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13] . إذن: فهناك أصول جاءت بها كل الكتب السماوية، وهناك كذلك أخبار أخبرت عن حدوثها الكتب السماوية، وأبلغنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن وفيه تلك الأخبار، فمن أين جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتلك العقائد الصحيحة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5931 وتلك الأخبار الموجودة في الكتب السابقة، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن من أهل الكتاب، ولا عَلِمَ منهم شيئاً. إذن: فعندما يقول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما جاء ذكره في الكتب السابقة على القرآن، فهذه الكتب مصدقة لما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن هذه الأخبار قد وقعت، وهذا تأكيد لصدقه؛ لأنه بشهادة أهل زمانه لم يجلس إلى معلِّم، ولم يقرأ كتاباً، وتاريخه وسيرته معروفة؛ لأنه من أنفسكم، ولم يُعْلَم عنه أنه قد زاول كلاماً بليغاً، أو خطب في قوم قبل الرسالة، أو قال شعراً. وبعد ذلك فوجىء هو كما فوجئتم أنتم، بمجيء هذا البيان الرائع، فمن أين جاء به؟ أنتم تقولون إنه هو الذي جاء به، لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينسب الرفعة لصاحبها، ويعلن أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُبلِّغ فقط، فيقول ما أمره الله به أن يقوله: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] . ويحضُّ القرآن الكريم النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يسألهم: هل لاحظوا على كلماته من قبلُ البلاغةَ والفصاحةَ أو الشعرَ؟! ولننظر في «ماكُنَّات» القرآن الكريم، وهي الآيات التي يقول فيها الحق سبحانه: {وَمَا كُنتَ} مثل قوله سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5932 {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] . وهذا أمر ثابت في الأخبار. وقول الحق سبحانه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} [القصص: 44] . والوحي إلى موسى عليه السلام والمكان الذي نزل فيه ذلك الوحي أمر ثابت في الأخبار. وقول الحق سبحانه: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 45] . وكثير من هذه الآيات تجعل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكأنه يسأل المعاصرين له: كيف أخبرت بوقائع وأخبار لم أكن موجوداً في زمانها أو مكانها؟ لا بد إذن أن الله الحق سبحانه هو الذي أخبرني بما وافق ما عندكم من أخبار. وبعد ذلك جاء القرآن الكريم مصدقاً لما بين يديه: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97] . أي: أنه الكتاب الذي يضم صدق كل حدث قادم؛ لأن القرآن خرق حُجُب وحُجُزَ الماضي والمستقبل. ونحن نعلم أن الأشياء الغيبية تحدث بسببين؛ الأول: ان يتكلم عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5933 شيء سبق الزمان الذي نزل فيه، فهو يتكلم في الماضي الذي لم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أهل الاطلاع والتعلم ليعرفه ويعلمه. وكذلك خرق القرآن الكريم حجب الحاضر الذي عاصر نزوله، هذا الحاضر الذي قد يكون محجوباً بالمكان. وأضرب هذا المثال ولله المثل الأعلى فقد يحدث حادث في الإسكندرية في نفس الوقت الذي تكون أنت فيه موجوداً بالقاهرة، وأنت تعلم هذا الحدث؛ لأنه محجوب عنك ببعد المكان، وحاجز المكان يتمثل غالباً في الأمور الحاضرة، أما أمور المستقبل فهي محجوبة عنا بالزمان والمكان معاً. وحين يخبرنا القرآن الكريم بحدث ماضٍ لم يشهده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يتعلمه، ولم يقرأ عنه؛ إذن: فالقرآن إنما يخرق أمامنا حجاب الزمن الماضي. وإذا أخبر القرآن بحدث حاضر في غير مكان نزوله على سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهذا خرق لحجاب المكان مثل قول الحق سبحانه: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] . وحين سمع المنافقون والكفار هذا القول الكريم، لم ينكروا أنهم قالوا في أنفسهم ما جاء به القرآن، وهكذا خرق القرآن حاجز المكان في أنفسهم هم. إذن: فأخبار الغيب في القرآن إما خَرْقٌ لزمان ماضٍ أو خرق لزمان الحال، وإما خرق الزمان ومكان الاستقبال. ونحن نعلم أن القرآن كان ينزل والمسلمون ضعاف، لا يستطيعون حماية أنفسهم، ولا أحد يجير على أحد، ويتجه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الطائف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5934 ليعرض الإسلام على أهلها، لعلَّه يلتمس لهم مجيراً من أهل الطائف؛ ولكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يجد إلا الإيذاء والإعراض، ويوصي بعضاً من صحابته أن يهاجروا إلى الحبشة. وفي ظل كل هذه الأزمات، ينزل قول القرآن: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] . حتى إن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يستاءل: أيُّ جمع هذا الذي يهزم، ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟ ثم تأتي غزوة بدر ويشهد عمر هزيمة وفرار مقاتلي قريش؛ فيرى رأي العين صدق ما جاء به الوحي من قبل. وهكذا تأكد الجميع أن القرآن الكريم غير مُفتريً، فكيف يُتَّهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه افتراه؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5935 وإذا كان هذا القرآن مفترىً، فلماذا لا تفترون مثله؟ وفيكم الشعراء والبلغاء والخطباء؟! ولم يقل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه بليغ أو خطيب أو شاعر، ولم يطلب القرآن الكريم منهم أن يأتوا بواحد مثل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لا صلة له بالبلاغة أو الفصاحة، بل يطلب منهم أن يأتوا بالفصحاء كلهم، ويدعوهم أن يقولوا مثل آية واحدة من القرآن. وإن قالوا: إن ما جاء به هو السحر، وإن محمداً ساحر قد سحر العبيد والضعاف، وأدخلهم في الإسلام، فلماذا لم يسحركم محمد؟ إن بقاءكم من غير سحر يدل على أن إطلاقكم كلمة السحر على ما جاء به دعوى كاذبة. ثم يقول الحق سبحانه: {وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} [يونس: 37] . فالقرآن قد جاء فيه تفصيل كل الأحكام الصالحة إلى قيام الساعة، أما الكتب السابقة على القرآن فكان تضم الأحكام المناسبة لزمانها، ولأمكنة نزولها. وهو كتاب {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي: لا شك فيه، يكشف الكفار، ويفضح أرتيابهم وكذبهم، فَهُمْ قد اعترفوا بعظمة القرآن وقالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . إذن: فهم قد عرفوا أن القرآن لا عيب فيه، ولا ريب، حتى من الكافرين به. ويأتي الرد على قولهم بالافتراء، في قول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5936 {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5937 وقد سبق هذا المجيء بالتحدي أسبابُ عجزهم عن النجاح في التحدي؛ لأن الآية السابقة تقرر أن الكتب السماوية السابقة تُصَدِّق نزول القرآن الكريم، وبينها وبين القرآن تصديق متبادل. فهم مهزومون فيه قبل أن ينزل. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] . وقد جاء التحدي مرة بالكتاب في قول الحق سبحانه: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] . ولم يستطيعوا، فنزلت درجة التحدي؛ وطالبهم أن يأتوا: {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] . فلم يستطيعوا الإتيان بعشر سور، فطالبهم أن يأتوا بسورة تقترب ولو من بعيد من أسلوب القرآن، فلم يستطيعوا {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] . فكيف إذن من بعد كل ذلك يدَّعون أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد افترى القرآن، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم تكن له صلة بالأساليب البلاغية أو الفصاحة؟! لقد دعاكم أن تأتوا بكل الفصحاء والبلغاء ليفتروا، ولو سورة من مثله، ووضع شرطاً فقال: {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله} [يونس: 38] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5937 لأن الله سبحانه وتعالى هو القادر الوحيد على أن يُنزل قرآناً؛ لذلك دعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدعوا الشركاء؛ وذلك حتى لا يقول الكفار وبعضهم من أهل اللجاجة: سندعوا الله؛ ولذلك يأتي القرآن بالاستنثاء {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38] . وهم بطبيعة الحال غير صادقين في هذا التحدي. والله سبحانه وتعالى حين يرسل رسولاً إلى قوم؛ ليعلِّمهم منهجه في حركة الحياة، إنما يريد سبحانه أن تؤدي حركة الحياة إلى الغاية المطلوبة من الإنسان الخليفة في الأرض؛ ولذلك يأتي الرسول من جنس المرسل إليهم؛ ليكون أسوة لهم؛ لأن الرسول إن جاء مَلَكاً لما صحَّت الأسوة، بل لا بد أن يكون بشراً. والحق سبحانه لا يرسل أي رسول إلا ومعه بينة ودليل صدق على أنه رسول يبلِّغ عن الله تعالى. والبينة لا بد أن تكون من جنس نبوغ القوم، فلا يأتي لهم بمعجزة في شيء لم يعرفوه ولم يألفوه؛ حتى لا يقولوا: لو تعلمنا هذا لجئنا بمثل ما جاء. وقد جاء القرآن ليثبت عجزهم عما نبغوا فيه من صناعة الكلام؛ شعراً ونثراً وخطابة. وكان القرآن هو معجزة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوم فصحاء يعقدون للشعر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5938 أسواقاً، ويعلِّقون الفائز من هذا الشعر على جدران الكعبة شهرة له وشهادة به. إذن: فهم أصحاب دراية بصناعة الكلام، وجاءت المعجزة مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جنس ما نبغوا فيه؛ لتتحداهم. والتحدي يستدعي استجماع قوة الخصم؛ ليرد على هذا المتحدي، فإذا عجز مع التحدي، يصير العجز ملزماً. وقد تحدى الحق سبحانه العرب جميعاً بالقرآن كله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] . فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، فتدرَّج القرآن معهم في التحدي فطلب منهم ما هو أقل من ذلك، وهو أن يأتوا بعشر سور مثله في قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] . ثم تحداهم بالإتيان بمثل سورة من القرآن. وعند التأمل نجد أن الأسلوب الذي جاء بطلب سورة كان على لونين: فمرة يقول: {بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] . ومرة يقول: {بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] . وكل من اللونين بليغ في موضعه ف {بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] تبين أن المثلية هنا محققة، أي: مثل ما جاء من سورة القرآن. وقوله: {بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] . أي: سورة من مثل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أنه لم يجلس إلى معلِّم، ولم يقرأ، ولا عُرف عنه أنه تكلم بالبلاغة في أي فترة من مراحل حياته قبل الرسالة. وقال الحق سبحانه: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] . إذن: {بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5939 أي: مثل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي لم يتعلم وكان أمياً، ولكن لماذا يأتي هذا اللون من التحدي؟ لأنهم قالوا عن القرآن: {أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] . بل واتهموه في قمة غفلتهم أنه يتعلم من رجل كان بمكة، فيلفتهم القرآن إلى أن الرجل الذي قالوا إنه معلم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أعجمياً غير عربي، يقول الحق سبحانه: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5940 ويريد الحق سبحانه أن يصنفهم، فيقول بعد ذلك: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5941 وهذا الصنف من الناس الذين {كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] ، وهم من أخذتهم المفاجأة حين حُدِّثوا بشيء لا يعرفونه، والناس أعداء ما جهلوا؛ فكذبوا ما جاء به رسول الله صلىلله عليه وسلم من القرآن قبل أن يتبينوا جمال الأداء فيه، ونسق القيم العالية، وإذا ما سنحت لهم فرصة يتبينون فيها جمال الأداء، ودقة الإعجاز فهم يتجهون إلى الإيمان. ومثال ذلك: عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقد كان كافراً ثم علم أن أخته وزوجها قد أسلما؛ فذهب إليها في منزلها وضربها، فأسال دمها، وسيل الدم من أخت بضربة أخيها مثير لعاطفة الحنان، وهذا ما حدث مع عمر؛ فهدأت موجة عناده، فاستقبل القرآن بروح لا عناد فيها؛ فذهب فآمن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان من قبل ذلك ممن: {كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] أي: لم يعرفوا مراميه، وبمجرد أن سمعوا عن رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجأة، اتهموه بالكذب والعياذ بالله. ولذلك اقرأ قول الحق سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً} [محمد: 16] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5941 وهذا يدل على أنهم لم يفهموا ما نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من القرآن، وتأتي الإجابة من الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] . إذن: فالقرآن هدى لمن تتفتح قلوبهم للإيمان، أما القلوب المليئة بالبغض لقائله وللإسلام؛ فهؤلاء لا يمكن أن يصح حكمهم. وإن أراد أي منهم حكماً صحيحاً فليُخرجْ من قلبه ما يناقض ما يسمع، ثم عليه أن يستقبل الأمرين؛ ولسوف يدخل قلبه الأقوى حجة، وهو الإسلام. إذن: فمن امتلأ قلبه بعقيدة كاذبة؛ لا يمكن له أن يهتدي. {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] . والتأويل هو ما يرجع الشيء إليه، وهذا يوضح لنا أن هناك أقضية من القرآن لم يأت تفسيرها بعد، ستفسرها الأحداث، وقد يقول القرآن الكريم قضية غيبية، ثم يأتي الزمن ليؤكد هذه القضية، هنا نعرف أن تأويلها قد جاء. وهؤلاء القوم قد كَذَّبوا من قبل أن يأتي لهم التأويل، وكان عدم مجيء التأويل هو السبب في تأخر بيان الحق في المسألة لتأخر زمنه. وعلى سبيل المثال، ها هو ذا عمار بن ياسر صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قامت المعركة بين معاوية بن أبي سفيان والإمام علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَقاتَلَ عمَّار في صف عليّ، وقُتِل. هنا تنبه الصحابة إلى تأويل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5942 حديث من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قال: «ويح عمار. . تقتله الفئة الباغية» . وهكذا جاء تأويل حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما تحقق في الواقع، وكان هذا سبباً في انصراف بعض الصحابة عن جيش معاوية. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] أي: أن التأويل لم يظهر لهم بعد. ومن أدوات النفي: «لم» مثل قولنا: «لم يَجيءْ فلان» ، ونقول أيضاً: «لما يجيء فلان» ، والنفي في الأولى جزم غير متصل بالحاضر، كأنه لم يأت بالأمس. أما النفي ب «لما» فيعني أن المجيء مُنْتف إلى ساعة الكلام، أي: الحاضر، وقد يأتي من بعد ذلك؛ لأن «لما» تفيد النفي، وتفيد توقُّع الإثبات. والحق سبحانه يقول: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] . وهؤلاء القوم من الأعراب قالوا: {آمَنَّا} رغم أنهم راءوا المسلمين وقلدوهم زيفاً ونفاقاً، ولم يكن الإيمان قد دخل قلوبهم بعد، وحين سمعوا قول الحق سبحانه: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5943 قالوا: الحمد لله؛ لأن معنى ذلك أن الإيمان سوف يدخل قلوبهم. وكذلك قول الحق سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142] . فحين سمعوا ذلك قالوا: إذن: وثقنا أنه سيأتي علم الله سبحانه بنا كمجاهدين وصابرين. وهكذا نعرف أن {لَمَّا} تعني أن المنفي بها متوقع الحدوث. والتأويل كما نعلم هو مرجع الشيء. وقد جاء في القرآن الكثير من الأخبار لم تكن وقت ذكرها بالقرآن متوقعة، أو مظنة أن توجد. وحين وُجدت ولا دخل لبشر في وجودها، فهذا يعني أن قائل هذا الكلام قد أخذه عَمَّن يقدر على أن يوجد، مثلما جاء في خبر انتصار الروم على الفرس رغم هزيمة الروم. قال الحق سبحانه: {غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله} [الروم: 25] . جاء هذا الخبر وانتظر المسلمون تأويله، وقد جاء تأويله طبقاً لما أخبر القرآن. أو أن التأويل سيأتي في الآخرة، وما يؤول الأمر في التكذيب سيعلمونه من بعد ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5944 والحق سبحانه يقول: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 52 53] . هم ينتظرون ما يؤول إليه القرآن وما يؤولون إليه، إن كان في الدنيا فنصر أهل القرآن، وإن كان في الآخرة، فهذا قول الحق سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف: 53] . هذا هو التأويل الذي كذَّبه البعض من قبل. إذن: فالتأويل: إما أن يكون لمن بقي من الكفار فيرى ما أخبره به القرآن وقد جاء على وفق ما أخبر به نبيٌّ لا يملك أن يتحكم في مصائر الأشياء، وتأتي على وفق ما قال. فكأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يجازف بأن يقول كلاماً لا يتحقق؛ فينصرف عنه الذين آمنوا به، ولكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقل إلا ما هو واثق ومطمئن من وقوعه؛ لأن الخبر به جاء من لدن عليم خبير. وإما أن التأويل أيضاً يأتي في الآخرة. وهنا قال الحق سبحانه: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] . والحق سبحانه هنا يلفت رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن ما حدث معه قد حدث مع رسل من قبله، فقال سبحانه في نفس الآية: {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين} [يونس: 39] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5945 أي: انظر لموكب الرسل كلهم من بدء إرسال الرسل، هل أرسل الله رسولا ونصر الكافرين به عليه؟ . . لا، لقد كانت الغلبة دائماً لرسل الحق عَزَّ وَجَلَّ مصداقاً لقوله سبحانه: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] . وعرفنا ما حدث للظالمين، فمنهم من أغرقه الله، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أخذه بالصيحة. إذن: فالتأويل واضح في كل مواكب الرسل التي سبقت رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإذا كان كل قوم من الظالمين قد نالوا ما يناسب رسالة رسولهم، فسينال القوم الظالمين الكافرين برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يناسب عمومية رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وحين يقول الحق سبحانه: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين} [يونس: 39] لا بد لنا أن نعرف معنى الظلم، إنه نقل الحق لغير صاحبه، والحقوق تختلف في مكانتها، فهناك حق أعلى، وحق أوسط، وحق أدنى. فإذا جئت للحق الأدنى في أن تنقل الألوهية لغير الله سبحانه وتعالى فهذا قمة الظلم، والحق سبحانه يقول: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . لأن في هذا نقل الألوهية من الله سبحانه إلى غيره، ويا ليت غيره كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5946 صاحب دعوة بينه وبين الله تعالى، لا، فليس ذلك المنقول له الألوهية بصاحب دعوة، بل تطوَّع الظالم من نفسه بذلك، واتخذ من دون الله شريكاً لله، وفي هذا تطوع بالظلم بغير مُدَّع. وهَبْ أن الله تعالى قال: لا إله إلا أنا، فإما أن القضية صحيحة، وإما أنها غير ذلك، فإن افترض أحد معاذ الله عدم صحتها، فالإله الثاني كان يجب أن يعلن عن نفسه، ولا يترك غيره يسمع له ويعلن عنه، وإلا كان إلهاً أصمَّ غافلاً، ولكن أحداً لم يعلن ألوهيته غير الله سبحانه،؛ لذلك تثبت الألوهية الواحدة للإله الحق سبحانه وتعالى. وقد بيَّن لنا الحق سبحانه: لا إله إلا أنا، أنا الخالق، أنا الرازق. ولم يصدر عن أحد آخر دعوى بأنه صاحب تلك الأعمال، إذن: فقد صَحَّت الدعوى في أنه لا إله إلا الله. والدرجة التالية في الظلم هي الظلم في الأحكام، فإذا حكم أحد بحلِّ الربا فهذا ظلم في قضية كبيرة، ولكن إن حكم قاض على مدين بأن يردَّ الدَّين فقط فهذا عدل؛ وكذلك القاضي الذي يظلم في أحكامه إنما ينقل حقوق الناس إلى غيرهم. إذن: فالظلم يأخذ درجات حسب الشيء الذي وقع فيه الظلم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5947 والكلام هنا في الذين كذَّبوا، فكيف يقسِّم الله المكذبين وهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5947 بتكذيبهم لا يؤمنون إلى قسمين: قسم يؤمن، وقسم لا يؤمن؟ ونحن نعلم أن الإيمان عمل قلوب، لا عمل حواس، فنحن لا نطَّلع على القلوب، والحق سبحانه يعلم مَنْ مِنْ هؤلاء المكذبين يخفي إيمانه في قلبه. إذن: فمن هؤلاء من يقول بالتكذيب بلسانه ويخفي الإيمان في قلبه، ومنهم من يوافق تكذيبه بلسانه فراغُ قبله من الإيمان، ومن الذين قالوا: إن هذا القرآن افتراء إنما يؤمن بقلبه أن محمداً رسول من الله، وصادق في البلاغ عن الله، ولكن العناد والمكابرة والحقد يدفعونه إلى أن يعلن عدم الإيمان. وكذلك منهم قسم آخر لا يؤمن ويعلن ذلك. إذن: فالمقسم ليس هو الإيمان الصادر عن القلب والمعبِّر عنه باللسان، ولكن المُقسِّم هو إيمان بالقلب غير مُعبَّر عنه، ولم يصل إلى مرتبة الإقرار باللسان. والذي جعل إيمان بعضهم محصوراً في القلب غير مُعبَّر عنه باللسان هو الحقد والحسد والكراهية وعدم القدرة على حكم النفس على مطلوب المنهج. وبعض العرب حين أعلن لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقولوا: لا إله إلا الله؛ فيضمن لهم السيادة على الدنيا كلها. ورفضوا أن يقولوا الكلمة؛ لأنهم يعلمون أنها ليست كلمة تقال: بل فهموا مضمون ومطلوب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5948 الكلمة، وعرفوا أن «لا إله إلا الله» تعني: المساواة بين البشر، وهم يكرهون ألاَّ تكون لهم السيادة والسيطرة في أقوامهم. وهذا يدل أيضاً على أن الحق سبحانه قد شاء أن يبدأ الإسلام في مكة، حيث الأمة التي تعلن رأيها واضحاً؛ ولذلك نجد أن النفاق لم ينشأ إلا في «المدينة» ، أما في مكة، فهم قوم منسجمون مع أنفسهم، فهم حين أعلنوا الكفر لم يعانوا من تشتت المَلَكَات، لكن المنافقين في المدينة وغيرها هم الذين كانوا يعانون من تشتت الملكات، ومنهم من كان يلعب على الطرفين، فيقول بلسانه ما ليس في قلبه. ولذلك يُعزِّي الحق رسوله الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويُسََرِّى عنه وبين له: إياك أن تحزن لأنهم يكذبونك؛ لأنك محبوب عندهم وموقَّر، فيقول الحق سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] . أي: أنك يا محمد مُنزَّه عن الكذب؟ ويقول الحق سبحانه: {ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] . أي: أنه سبحانه يحملها عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الحق سبحانه يعلم أن رسوله أمين عند قومه، وهم في أثناء معركتهم معه، نجد الواحد منهم يستأمنه على أشيائه النفيسة. والذين آمنوا برسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يعلنوا إيمانهم، والذين لم يؤمنوا، هؤلاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5949 وأولئك أمرهم موكول إلى الله تعالى؛ ليلقوا حسابهم عند الخالق سبحانه؛ لأنه سبحانه الأعلم بمن كذَّب عناداً، ومن كذَّب إنكاراً. والحق سبحانه هو الذي يُعذِّب ويُعاقِب، وكل إنسان منهم سوف يأخذ على قَدْر منزلته من الفساد؛ لذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} [يونس: 40] . والمفسد كما نعلم هو الذي يأتي إلى الشيء الصالح فيصيبه بالعطب؛ لأن العالَم مخلوقٌ قبل تدخُّل الإنسان على هيئة صالحة، وصنعة الله سبحانه وتعالى لم يدخل فيها الفساد إلا بفعل الإنسان المختار، وصنعة الله تؤدي مهمتها كما ينبغي لها. وأنت أيها الإنسان إن أردت أن يستقيم لك كل أمر في الوجود، فانظر إلى الكون الأعلى الذي لا دخل لك فيه، وستجد كل ما فيه مستقيماً مصداقاً لقول الحق سبحانه: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 79] . أي: أتقِنوا أداء مسئولية ما في أيديكم وأحسنوه كما أحسن الله سبحانه ما خلق لكم بعيداً عن أياديكم، والمطلوب من الإنسان إذن أن يترك الصالح على صلاحه، إن لم يستطع أن يزيده صلاحاً؛ حتى لا يدخل في دائرة المفسدين. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5950 {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5951 وهذه آية تضع الاطمئنان في قلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يَقُل الله سبحانه: «إذا كذَّبوك» بل قال: {إِن كَذَّبُوكَ} [يونس: 41] وشاء الحق سبحانه أن يأتي بالتكذيب في مقام الشك، وأتبع ذلك بقوله للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونس: 41] أي: أبْلِغْهم: أنا لا أريد أن أحْمِلكم على ما أعمل أنا، إنما أريد لكم الخير في أن تعملوا الخير، فإن لم تعملوا الخير؛ فهذا لن يؤثر في حصيلتي من عملي. وبذلك يتضح لنا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يُجازَى على عدد المؤمنين به، بل بأداء البلاغ كما شاءه الله سبحانه. وقد شاء الحق سبحانه أن ينقل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخير إلى أمته، فإن ظلوا على الشر؛ فهذا الشر لن يناله لأن خير البلاغ بالمنهج يعطيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خيراً، لأنه يطبِّقه على نفسه، وشر الذين لا يتبعونه إنما يعود عليهم؛ لأن الذين يتأبون على الاستجابة لأي داعٍ إنما يظنون أن الداعي سوف يستفيد. والبلاغ عن الله، إنما يطبقه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهجاً وسلوكاً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5951 ويُجازَى عليه. فلا يجوز الخلط في تلك المسائل {لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونس: 41] . ثم يقول الحق سبحانه على لسان رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41] . وكلمة {برياء} تفيد أن هناك ذنباً، وهذا القول الحق فيه مجاراة للخصوم، وشاء الحق سبحانه أن يُعلِّم رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين أدب الحوار والمناقشة، فيقول: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] . أي: أننا الرسول ومعه المؤمنون وأنتم أيها الكافرون إما على هدى، أو في ضلال. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موقن أنه على هدى وأن الكافرين على الضلال، ولكنه يجاريهم؛ عدالة منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومجاراة لهم. كذلك يعلِّمه ربه سبحانه أن يقول: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا} [سبأ: 25] . أي: أنه يبين لهم: هَبُوا أنِّي أجرمتُ فأنتم لن تُسألوا عن إجرامي، ومن أدب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاء له الحق سبحانه أن يقول: {وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] . ولم يقل: «ولا نُسأل عما تُجرمون» . وكذلك شاء الحق سبحانه أن تأتي هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5952 ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5953 وكلمة «مَنْ» تطلق وقد يراد بها المفرد، وقد يراد بها المفردة، وقد يراد بها المثنى، وقد يراد بها الجمع، ومرة يطابق اللفظ فيقول سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] . ومرة يقصد المعنى فيقول: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ} [يونس: 42] . لأن {مَّن} صالحة للموقعين. والسماع كما نعلم هو استقبال الأذن للصوت، فإن كان صوتاً مُبْهماً كأصوات الحيوانات أو أصوات الأعواد، فهذه الأصوات لا تفيد إلا ما تفيده النغمة في الجسم من هزة أو ارتجاج. وإما أن يكون الصوت له معنى تواضُعيٌّ، كاللغات المختلفة التي يتخاطب بها الناس في البلدان المختلفة، فإن تكلمتَ بالإنجليزية في بلد يتكلم أهله بهذه اللغة فهموك وفهمت عنهم. هذا هو معنى التواضع في اللغة، أي: أن المتكلم والسامع على درجة. واحدة من الاتفاق على اللغة. والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عربي يتحدث بلسان عربي مبين لقوم من العرب، فما العائق عن السمع إذن؟ إن العائق عن السمع نفض الأذن لما يأتي من جهة الخصم، والسماع كما نعلم هو استشراف المخاطب إلى ما يفهم من المتكلم، فإن لم يوجد عند المخاطب استشراف إلى أن يسمع، فالكلام يُقال ولا يصل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5953 إذن: لا بد للسامع من حالة الاستشراف إلى فهم ما يقوله المتكلم. وكما يقول المثل: «إذن من طين وأخرى من عجين» . أو كما تقول المزحة أن واحداً مال على أذن صديق له وقال: «أريد أن أقول لك سِراً» فاقترب الصديق مستشرفاً سماع السر، فقال الرجل: «أريد مائة جنيه كقرض» ؛ فقال الصديق: «كأني لم أسمع هذا السر» . إذن: فالكلام ليس مجرد صوت يصل إلى الأذن، لكن لا بد من استشراف نفسي للتقلي. وهم لا يملكون هذا الاستشراف؛ لذلك قال الحق سبحانه: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} [يونس: 42] أي: كان سمعهم لا يسمع. ومثال ذلك: أننا نجد المدرس الذي يشرح الدرس للتلاميذ، وبين التلاميذ من يستشرف السمع؛ ولذلك يفهم الدرس، أما الذي لا يستشرف فكأنه لم يسمع الدرس. وهم قد فاتوا الصُّمَّ؛ لأن الأصم قد يفهم بالحركة او الإشارة أو لغة العين، ولكن هؤلاء لا يسمعون ولا يعقلون {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5954 والرؤى أيضاً تحتاج إلى استشراف، وأن يُقْبِل المرء على ما يريد أن يراه، وأحياناً لا يكون الرائي مستشرفاً؛ لأن قلبه غير متجه للرؤية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5954 وسئُل واحد: إنك تقول: من رأى فلاناً الصالح يَهْده الله. فردَّ عليه السامع متسائلاً: كيف تقول ذلك؟! فردَّ القائل: لقد رأى أبو جهل خيراً من هذا، ومع ذلك ظل كافراً. فردَّ السامع: إن أبا جهل لم يَرَ محمداً رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكنه رأى يتيم أبي طالب. وهكذا شرح الرجل أن أبا جهل لم ينظر إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أنه رسول؛ لأنه لو نظر إليه بهذا الإدراك لتسللت إليه سكينة الإيمان وهَيبة الخشوع وجلال الورع. ونحن قد نلقى رجلاً صالحاً في بشرته أدْمة أو سواد، وصلاحه يضيء حوله، وله أسْر من التقوى، وجاذبية الورع. ولو أن أبا جهل رأى محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أنه رسول لتغيَّر أمره. وها هو «» فضالة «يحكى عن لحظة أراد فيها أن يقتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما اقترب منه؛ قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ماذا كنت تحدِّث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله. قال: فضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم قال: استغفِر الله، ثم وضع يده على صدر فضالة» . وساعة سمع فضالة هذا، ورأى محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يقول ذلك القول، قال: ما كان أبغض إليَّ من وجهه، ولكني أقبلت عليه فما كان أحَبَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5955 إليَّ في الأرض كلها من وجهه. هذا هو السماع، وهذا هو البصر، وكلاهما السمع والبصر أكرم المتعلقات وأشرفها؛ لأن السمع هو وسيلة الاستماع لبلاغ الله عنه، والإنسان قبل أن يقرأ لا بد له من أن يكون قد سمع. والمقصود هنا بالعمى في قول الحق سبحانه: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يونس: 43] هو عمى البصيرة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5956 كلمة «الله» هي اسم عَلَمٍ على واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال التي عرفناها في أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، وإن كان لله تعالى كمالات لا تتناهى؛ لأن الأسماء أو الصفات التي يحملها التسعة والتسعون اسماً لا تكفي كل كمالات الله سبحانه، فكمالاته سبحانه لا تتناهى. ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أسألك بكل اسم سمَّيت به نفسك، أو علَّمته أحداً من خَلْقك، أو استأثرت به في علّم الغيب عندك» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5956 وإن سأل سائل: ولماذا يستأثر الله سبحانه ببعض من أسمائه في علم الغيب؟ أقول: حتى يجعل لنا الله سبحانه في الآخرة مزيداً من الكمالات التي لم نكن نعرفها؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يفتح على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «من محامده وحُسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبله» . وهذا بعض من فيض لا ينفد من آفاق اسم عَلَمٍ على واجب الوجود، وصفات علم واجب الوجود، والتسعة والتسعون اسماً التي نعلمها هي اللازمة لحياتنا الدنيا، ولكننا سنجد في الآخرة صفات كمال أخرى، وكلمة «الله» هي الجامعة لكل هذه الأسماء، ما عرفناها؛ وما لم نعرفها. والإنسان منا حين يُقبل على عمل، فهذا العمل يتطلب تكاتُفَ صفات متعددة، يحتاج إلى قدرة، وعلم، وحكمة، ولُطْف، ورحمة، وغير ذلك من الصفات، فإن قلت: باسم القويّ؛ فأنت تحتاج إلى القوة، وإن قلت باسم القادر؛ فأنت تحتاج إلى القدرة، وإن قلت: باسم الحليم؛ فأنت تحتاج إلى الحِلْم، وإن قلت: باسم الحكيم؛ فأنت تحتاج إلى الحكمة، وإن قلت: «باسم الله» فهي تكفيك في كل هذا وغيره أيضاً؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5957 ولذلك يكون بدء الأعمال ب «بسم الله» ، فإذا احتجت إلى قدرة وجدتها، وإن احتجت إلى غِنَىً وجدته، وإن احتجت إلى بَسْطٍ وجدته. وكل صفات الكمال أوجزها الحق سبحانه لنا في أن نقول: «بسم الله» . وحين تبدأ عملك باسم الله؛ فأنت تُقِرُّ بأن كل حَوْلٍ لك موهوب من الله، والأشياء التي تنفعل لك، إنما تنفعل باسم الله، وكل شيء إنما يسخر لك باسم الله، وهو القائل: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 7172] ٍ. ولو لم يذلِّل الله لنا الأنعام والأشياء لتنفعل لنا ما استطعنا أن نملكها، بدليل أن الله تعالى قد ترك أشياء لم يذللها لنا حتى نتعلَّم أننا لا نستطيع ذلك، لا بعلْمنا، ولا بقُدْرتنا، إنما الحق سبحانه هو الذي يُذلِّل. فأنت ترى الطفل في الريف وهو يسحب الجمل، ويأمره بالرقود؛ فيرقد، ويأمره بالقيام؛ فيقوم. أما إن رأينا ثعباناً فالكثير منا يجري ليهرب، ولا يواجهه إلا من له دُرْبة على قتله. والبرغوث الصغير الضئيل قد يأتي ليلدغك ليلاً، فلا تعرف كيف تصطاده؛ لأن الله لم يذلِّله لك. وكذلك الثمرة على الشجرة إذا قطفتها قبل نضجها تكون غير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5958 مستساغة، أما إن قطفتها بعد نضجها فأنت تستمتع بطعمها، ثم تأخذ منها البذرة لتعيد زراعتها، وتضمن بقاء النوع، بل إن الثمرة تسقط من على الشجرة حين تنضج وكأنها تنادي من يأكلها. وكذلك الإنسان حين يبلغ، أي: يصبح قادراً على أن ينجب غيره، فيكلّفه الله بعد ذلك بالتكاليف الإيمانية؛ لأنه لو كلَّفه قبل ذلك ثم طرأتْ عليه مشاكل المراهقة؛ فقد لا يستطيع أن يتحمل التكليف. ولذلك شاء الحق سبحانه أن يخلق من عدم، وأن يربِّى حتى يكتمل الإنسان، ثم حدَّد التكليف من لحظة البلوغ، ووضع شرط اكتمال العقل والرشد، وألا توجد آفة أو جنون. ولا أقوى من الله سبحانه يمكن أن يُكلِّف لتفعل غير ما يريد الله؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يكتمل للإنسان الرشد ساعة التكليف، أم المجنون فلم يكلفه الله سبحانه، وكذلك يسقط التكليف عن المُكْرَه؛ لأن التكليف في مضمونه هو اختيار بين البدائل، وهذه منتهى العدالة في التشريع. وأنت حين تستقبل التكليف عليك ألا تنظر إلى ما تأخذه منك العبادات، لأنها لا تأخذ من حريتك، بل تحترم أنت حرية الآخرين، ويحترمون هم حريتك، فإن حرَّم عليك أن تسرق، فهو سبحانه قد حماك بأن حرَّم على جميع الخلق أن يسرقوا منك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5959 إذن: فالقيد قد جاء لصالحك. وهَبْ أنك أطلقت يدك في الناس، فماذا تصنع لو أطلقوا هم أياديهم فيما تملك؟ وحين حرَّم عليك التكليف أن تنظر إلى محارم غيرك، فهو قد حرم على الغير أن ينظروا إلى محارمك. وحين أمرك أن تزكِّي، فهو قد أخذ منك؛ ليعطي الفقير من المال الذي استخلفك الله فيه. فلا تنظر إلى ما أخذ منك، بل انظر إلى ما قد يعود عليك إن أصابك القدر بالفقر، والشيء الذي تستشعر أنه يؤخذ منك فالله سبحانه يعطيك الثواب أضعافاً كثيرة. وبعد ذلك انظر إلى حركة الحياة، وانظرْ إلى ما حَرَّم الله تعالى عليك من أشياء، وما حلَّل لك غير ذلك؛ فستجد المباح لك أكثر مما منعك عنه. إذن: فالتكليف لصالحك. ثم بعد كل ذلك: أيعود شيء مما تصنع من تكاليف عل الحق سبحانه؟ لا. أيعطيه صفة غير موجودة؟ لا؛ لأن الحق سبحانه قد خلقنا بكل صفات كماله، وليس في عملنا ما يزيده شيئاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5960 إذن: فمن المصلحة أن تطبّق التكاليف لأنها تعود عليك أنت بالخير. وانظر مثلاً إلى الفلاح في الحقل، إنه يحرث الأرض، وينقل السماد، ويبذر، ويروى ويتعب، وبعد ذلك يستريح في انتظار الثمار. وأنت حين تنفِّذ تكاليف الحق سبحانه فأنت تجد العائد، وأنت ترى في حياتك أن الفلاح الكسول يصاب بحسرة يوم الحصاد، فما بالنا بحساب الآخرة. والفلاح الذي يأخذ من مخزنة إردبّاً؛ ليزرعه، وهو في هذه الحالة لا ينقص مخزنه؛ لأنه سيعود بعد فترة بخسمة عشر إردبّاً. وهكذا من ينفِّذ التكاليف يعود عليه كل خير؛ ولذلك أقول: انظر في استقبالات منهج الله تعالى فيما تعطيه، لا فيما تأخذه. وهكذا ترى أنه لا ظلم؛ لأننا صنعة الله، فهل رأيتم صانعاً يفسد صنعته؟ إذن: فالصانع الأعلى لا يظلم صنعته ولا يفسدها أبداً، بل يُحسِّنها ويعطيها الجمال والرونق؛ لذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5961 {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] . أي: أن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم، ومن الظلم جَحْد الحق، وهذا هو الظلم الأعلى، ومن الظلم أن يعطى الإنسان نفسه شهوة عاجلة؛ ليذوق من بعد ذلك عذاباً آجلاً، وهو بذلك يحرم نفسه من النعيم المقيم، وهو حين يظلم نفسه يكون قد افتقد القدرة على قياس عمره في الدنيا، فالعمر مهما طال قصير، وما دام الشيء له نهاية فهو قصير. والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب الناس، فهو قد نصب لهم آيات باقية إلى أن تقوم الساعة، وكلهم شركاء فيها، وهي الآيات الكونية، وبعد ذلك خَصَّ كل رسول بآية ومعجزة، وأنزل منهجاً ب «افعل» و «لا تفعل» ، وبيَّن في آيات الكتاب ما المطلوب فعله، وما المطلوب أن نمتنع عنه، وترك لك بقية الأمور مباحة. والمثال الذي أضربه دائماً: هو التلميذ الذي يرسب آخر العام، هذا التلميذ لم تظلمه المدرسة، بدليل أن غيره قد نجح؛ لذلك لا يصح أن يقال: إن المدرسة أسقطت فلاناً، ولكن الصحيح أن نقول: إن فلاناً قد أسقط نفسه، وأن زميله قد أنجح نفسه، ودور المدرسة في ذلك هو إعلان النتيجة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5962 ومن الظلم أيضاً أن يستكثر الظالم نعمة عند المظلوم، فيريد أن يأخذها منه، ولا يمكن أن يكون الحق سبحانه وتعالى ظالماً يستكثر نِعَم عباده؛ لأنه مُنزَّه عن ذلك؛ فضلاً عن أن خَلْقه ليس عندهم نِعَم يريدها هو، فهو الذي أعطاها لهم؛ ولذلك لا يأتي منه سبحانه أي ظلم، وإنْ جاء الظلم فهو من الإنسان لنفسه. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5963 فهذه الدنيا التي يتلهف عليها الإنسان، ويأخذ حظه فيها، وقد ينسى الآخرة، فإذا ما قامت القيامة فأنت تشعر كأنك لم تمكث في الدنيا إلا ساعة، والساعة هي الساعة الجامعة التي تقوم فيها القيامة، ولكن الساعة في الدنيا هي جزء من الوقت، ونحن نعلم أن اليوم مقسَّم لأربع وعشرين ساعة، وأيضاً تُطلق الساعة على تلك الآلة التي تُعلَّق على الحائط أو يضعها الإنسان على يده، وهي تشير إلى التوقيت. والتوقيت ثابت بمقدار الساعة والدقيقة والثانية منذ آدم عليه السلام وإلى من سوف يأتون بعدنا، ولكن التوقيت يختلف من مكان إلى آخر، فتشير الساعة في القاهرة مثلاً إلى الثانية ظهراً، وتكون في نيويورك السابعة صباحاً، وتشير في بلد آخر إلى الثالثة بعد منتصف الليل، ولا تتوحد الساعة بالنسبة لكل الخلق إلا يوم القيامة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5963 ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] . وهم إذن يُفاجَأون أن دنياهم الطويلة والعريضة كلها مرَّتْ وكأنها مجرد ساعة، وهكذا يكتشفون قِصَر ما عاشوا من وقت، ولا يقصتر الأمر على ذلك، بل إنهم لم ينتفعوا بها أيضاً فهي مدة من الزمن لم تكن لها قيمة. والحق سبحانه يقول: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} [الأحقاف: 35] . أي: أن الدنيا تمر عليهم في لهو ولعب ومشاغل، ولم يأخذوا الحياة بالجد اللائق بها؛ فضاعت منهم وكأنها ساعة. ولذلك يقول الحق سبحانه هنا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار} [يونس: 45] . ويوم الحشر ينقسم الناس قسمين: قسم مَنْ كانوا يتعارفون على البر، وقسم مَنْ كانوا يتعارفون على الإثم، فالذين تعارفوا في الحياة الدنيا على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5964 البر يفرحون ببعضهم البعض، وأما الذين تعارفوا في الحياة الدنيا علىلإثم فهم يتنافرون بالعداء، والحق سبحانه هو القائل: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] . وكذلك قال في الذين تعارفوا على الإثم: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166] . هم سيتعارفون على بعضهم البعض، ولكن هذه المعرفة لا تدوم، بل تنقلب إلى نكران، فالواحد منهم لا يريد أن يرى مَنْ كان سبباً في أن يؤول إلى هذا المصير، وتعارفهم سيكون تعارف تعنيف. ويقول الحق سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله} [يونس: 45] . وساعة تسمع كلمة «خسر» فاعرف أن الأمر يتعلق بتجارة ما، والخسارة تعنى: أن يفقد الإنسان المتاجر إما جزءاً من رأس المال، أو رأس المال كله. ومراحل التجارة كما نعرف إما كسب يزيد رأس المال المتاجَر فيه، وإما الاَّ يكسب التاجر ولا يخسر؛ لكنه يشعر بأن ثمن عمله ووقته في هذه التجارة قد ضاع، وكل ذلك يحدث في الصفقات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5965 ونجد الحق سبحانه وتعالى يصف العملية الإيمانية في الدنيا بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 1011] . ويقول سبحانه: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر: 29] . والتجارة تعتمد على أنك لا تُقبل على عقد صفقة إلا إذا غلب على ظنك أن هذه الصفقة سوف تأتي لك بأكثر مما دفعت فيها. ولذلك يقول الحق سبحانه عن الصفقات الخاسرة: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] . ويقول أيضاً: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} [الجمعة: 11] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5966 وشاء الحق سبحانه أن يجعل معنى التجارة واضحاً ومعبِّراً عن كثير من المواقف؛ لأن التجارة تمثِّل جماع كل حركة الحياة؛ فهذا يتحرك في ميدان؛ لينفع نفسه، وينفع غيره، وغيره يعمل في ميدان آخر؛ فينفع نفسه، وينفع غيره. وبهذا يتحقق نفع الإنسان من حركة نفسه وحركة غيره، وهو يستفيد من حركة غيره أكثر مما يستفيد من حركته هو، ومن مصلحة أي إنسان أن يحسِّن كل إنسان حركته؛ فيرتاح هو؛ لأن ما سوف يصل إليه من حركة الناس سيكون جيد الإتقان. والتجارة تحمل أيضاً الوساطة بين المنتج والمستهلك. ولذلك حين أراد الله سبحانه أن نستجيب لأذان الجمعة قال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] . ولم يقل الله سبحانه: اتركوا الزراعة أو اتركوا الصناعة، أو اتركوا التدريس، بل اختار من كل حركات الحياة حركة البيع؛ لأن فيه تجارة، والتجارة هي الجامعة لكل حركات الحياة. والتاجر وسيط بين منتج ومستهلك وتقتضي التجارة شراءً وبيعاً، والشراء يدفع فيه التاجر ثمناً، أما في البيع فهو يأخذ الثمن، والغاية من كل شيء أن يتموَّل الإنسان. لذلك فالبيع أفضل عند التاجر من الشراء، فأنت تشتري شيئاً وأنت كاره له، لاحتياجك إليه، ولكنك عند بيع البضاعة تشعر بالسعادة والإشراق، ولأن الشراء فيه أخذ، والبيع فيه عطاء، والعطاء يرضي النفس دائماً؛ لأن ثمرة الصفقة تأتيك في لحظتها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5967 وإن كنت مزارعاً فأنت تُعِدّ الأرض، وتحرثها، وتبذر البذور، وترويها، وتُشَذِّب النبات، وتنتظر إلى أن ينضج الزرع، وكذلك تقضي الكثير من الوقت في إتقان الصنعة إن كنت صانعاً، لكن البيع في التجارة ياتي لك بالكسب سريعاً، فكأن ضَرْبَ المثل في التجارة، جاء من أصول التجارة بالبيع ولم يأت بالشراء. إذن: لا بد أن نعتبر أن دخولك في صفقة الإيمان تجارة، تأخذ منها أكثر من رأسمالك، وتربح، أما إن تركت بعضاً من الدِّين؛ فأنت تخسر بمقدار ما تركت، بل وأضعاف ما تركت. وأنت في أية صفقة قد تعوِّض ما خسرت فيما بعد، وإن استمرت الخسارة فإن أثرها لا يتجاوز الدنيا، ويمكن أن تربح بعدها، وإذا لم تربح، فسيضيع عليك تعبك فقط؛ ولأن الدنيا محدودة الزمن؛ فخسارتها محتملة، أما الخسارة في الزمان غير الموقوت الزمن الدائم فهي خساة كبيرة؛ لأن الآخرة ليس فيها أغيار كالدنيا، وأنت في الآخرة: إما في جنة ذات نعيم مقيم، وفي هذا ربح وكسب كبير، وإما إلى نار، وهذه هي الخسارة الحقيقة. والخسران الحقيقي أن يكذِّب الإنسان، لا بنعيم الله فقط، ولكن بلقاء الله أيضاً. يقول الحق سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله} [يونس: 45] . أي: أن الله سبحانه لم يكن في بالهم، وهو حين تقوم الساعة يجدون الله سبحانه وتعالى أمامهم. ولذلك يقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5968 {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً} [النور: 39] . والسراب كما نعلم يراه السائر في الصحراء، وهو عبارة عن انعكاس للضوء؛ فيظن أن أمامه ماء، ولكن إن سار إليه الإنسان لم يجده ماء، وهكذا شبَّه الحق سبحانه عمل الكافر بمن يسير في صحراء شاسعة، ويرى السراب؛ فيظنه ماءً، لكنه سراب، ما إن يصل إليه حتى ينطبق عليه قول الحق سبحانه: {حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ} [النور: 39] . أي: أنه يُفاجأ بوجود الله سبحانه وتعالى، فيوفيه الله حسابه. ولذلك فالذي يكفر بالله ويعمل ما يفيد البشر، فإنه يأخذ حسابه ممن عمل له، ولا يُحسب له ذلك في الآخرة، وتجد الناس يُكرّمونه، ويقيمون له التماثيل أو يمنحونه الجوائز وينطبق عليه قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فعلتَ ليقال، وقد قيل» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5969 وهنا يقول الحق سبحانه عن الذين كَذّبوا بلقاء الله تعالى: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [يونس: 45] . أي: لم يكونوا سائرين على المنهج الذي وضعه لهم خالقهم سبحانه؛ هذا المنهج الذي يمثِّل قانون الصيانة لصنعة الله تعالى، وقد خلق الله سبحانه الإنسان لمهمة، والله سبحانه يصون الإنسان بالمنهج من أجل أن يؤدي هذه المهمة. والهداية هي الطريق الذي إن سار فيه الإنسان فهو يؤدي به إلى تحقيق المهمة المطلوبة منه؛ لأن الحق سبحانه قد جعله الخليفة في الأرض. ومن لا يؤمن برب المنهج سبحانه وتعالى ولا يطبق المنهج فهو إلى الخسران المبين، أي: الخسران المحيط. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5970 وقول الحق سبحانه: {وَإِمَّا} مكونة من «إن» و «ما» مدغومتين، وهنا يبين لنا الحق سبحانه أنه يعد الذين كذبوا رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالعذاب والهوان والعقاب والفضيحة. أي: يا محمد، إما أن ترى ما قلناه فيهم من خذلان وهوان، وإما أن نتوفينَّك قبل أن ترى هذا في الدنيا، ولكنك ستراه في الآخرة حين تشاهدهم في الهوان الأبدي الذي يصيبهم في اليوم الآخر. وفي هذا تسرية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5970 وقول الحق سبحانه: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} [يونس: 46] أي: أن نريك ما وعدناهم من الخذلان والهوان في هذه الحياة، وإن لم تره في الحياة الدنيا فلسوف ترى هوانهم في الآخرة، حيث المرجع إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه سيصيبهم في أنفسهم بأشياء فوق الهوان الذي يُرى في الناس؛ كحسرة في النفس، وكبْت للأسى حين يرون نصر المؤمنين. أما الذي يُرى فهو الأمر الظاهر، أي: الخذلان، والهزيمة، والأسى، والقتل، وأخْذ الأموال، وسَبْي النساء والأولاد، أو غير ذلك مما سوف تراه فيهم بعد أن تفيض روحك إلى خالقها فسوف ترى فيهم ما وعدك الله به. وأنت لن تحتاج إلى شهادة من أحد عليهم، لأنه سبحانه: {شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] . وكفاك الله سبحانه شهيداً: {وكفى بالله شَهِيداً} [النساء: 79] . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5971 والحق سبحانه لا يظلم أحداً، ولا يعذب قوماً إلا بعد أن يكفروا بالرسول الذي أرسله إليهم، وهو سبحانه القائل: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] . وهو سبحانه القائل أيضاً: {لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] . فلا تجريم ولا عقوبة إلا بنص وببيان لتجريم هذا الفعل أو ذاك، بإرسال الرسل؛ حتى لا يحتج أحد بأنه لم يصل إليه شيء يحاسب بمقتضاه. والحق سبحانه هنا يبيِّن أن لكل أمة رسولاً يتعهدها بأمور المنهج. وقد خلق الحق سبحانه كل الخلق، وكانوا موحِّدين منذ ذرية آدم عليه السلام ثم اقتضت الأحداث أن يتباعدوا، وانتشروا في الأرض، وصارت الالتقاءات بعيدة، وكذلك المواصلات، وتعددت الآفات بتعدد البيئات. ولكن إذا تقاربت الالتقاءات، وصارت المواصلات سهلة، فما يحدث في الشرق تراه في لحظتها وأنت في الغرب، فهذا يعني توحُّد الآفات أو تكاد تكون واحدة؛ لذلك كان لا بد من الرسول الخاتم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أما في الأزمنة القديمة، فقد كانت أزمنة انعزالية، تحيا كل جماعة بعيدة عن الأخرى؛ ولذلك كان لا بد من رسول لكل جماعة؛ ليعالج داءات البيئة، أمَا وقد التقت البيئات، فالرسول الخاتم يعالج كل الداءات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5972 ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس: 47] . وقد حكى التاريخ لنا ذلك، فكل رسول جاء آمن به البعض، وكفر به البعض الآخر، والذين آمنوا به انتصروا، ومَنْ كفروا به هُزِمُوا. أو أن الآية عامة {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} أي: تُنادي كل أمة يوم القيامة باسم رسولها، يا أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويا أمة موسى، ويا أمة عيسى ... إلخ. والحق سبحانه يقول: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 4142] . إذن: فالحق سبحانه هنا يبيِّن أن لكل أمة رسولاً جاءها بالبلاغ عن الله، وقد آمن به مَنْ آمن، وكفر به مَنْ كفر، وما دام الإيمان قد حدث وكذلك الكفر فلا بد من القضاء بن المؤمنين والكافرين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5973 لذلك يقول الحق سبحانه: {فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس: 47] . وما دام في الأمر قضاء، فلا بد أن المؤمن يَعتبر الكافر منازعاً له، وأن الكافر يَعتبر المؤمن منازعاً له، ويصير الأمر قضية تتطلب الحكم؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس: 47] . أي: يُقضي بينهم بالعدل، فالمؤمنون يتقصَّى الحق سبحانه حسناتهم ويزيدها لهم، أما الكافرون فلا توجد لهم حسنات؛ لأنهم كفروا بالله الحق؛ فيوردهم النار، وهم قد أبلغهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه سيأتي يوم يُسألون فيه عن كل شيء، فاستبعدوا ذلك وقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} [الصافات: 1617] . لقد تعجبوا من البعث وأنكروه، لكنهم يجدونه حتماً وصدقاً. ويشاء الحق سبحانه أن يُدخل عليهم هذه المسألة دخولاً إيمانياً، فيقول: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} [ق: 15] . فأنتم إذا متُّم وتحلَّلتم في التراب، أيعجز الله سبحانه أن يخلقكم من جديد؟ لا؛ إنه سبحانه القائل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] . أي: أنه سبحانه يأمر العناصر الخاصة بكل إنسان أن تتجمَّع كلها، وليس هذا بعسير على الله الذي خلقهم أولاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5974 وهم كَذَّبوا واستنكروا واستهزأوا بمجيء يوم القيامة والبعث، وبلغ استهزاؤهم أن استعجلوا هذا اليوم، وهذا دليل جهلهم، وكان على الواحد منهم أن يفر من هول ذلك اليوم. ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك على ألسنتهم: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5975 هذا الإنكار والتكذيب والاستهزاء هو منطق المشركين والملحدين في كل زمان ومكان، وفي العصر القريب قاله الشيوعيون عندما قاموا بثورتهم الكاذبة، وذبحوا الطبقة العليا في المجتمع بدعوى رفع الظلم عن الفقراء. وإذا ما كانوا قد آمنوا بضرورة الثواب والعقاب، فمن الذي يحكم ذلك؟ هل الظالم يحكم على ظالم، فتكون النتيجة أن الظالم سيهلك بالظالم، وقد حدث، فأين الشيوعيون الآن؟ لماذا لم يلتفتوا إلى أن لهذا الكون خالقاً يعاقب من ظلموا من قبل، أو من يظلمون من بعد؟ إنهم لم يلتفتوا؛ لأنهم اتخذوا المادة إلهاً، وقالوا: لا إله، والحياة مادة، فأين هم الآن؟ وإن كنتم قد تملّكتم في المعاصرين لكم، وادعيتم أنكم نشرتم العدل بينهم، فماذا عن الذين سبقوا، والذين لحقوا؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5975 هم إذن لم يلتفتوا إلى أن الله سبحانه وتعالى قد شاء ألا يموت ظالم إلا بعد أن ينتقم الله منه. وهم لم يلتفتوا إلى أن وراء هذه الدار داراً أخرى يجُازَى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وكان المنطق يقتضي أن يؤمن هؤلاء بأن لهذا الكون إلهاً عادلاً، ولا بد أن يجيء اليوم الذي يجازى فيه كل إنسان بما عمل، ولكنهم سخروا مثل سخرية الذين كفروا من قبلهم، وجاء خبرهم في قول الله سبحانه على ألسنتهم: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] . ولكن وعد الله حق، ووعد الله قادم، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول من الله، يبلغ ما جاء من عند الله تعالى، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يملك لنفسه شيئاً. ولذلك يقول القرآن بعد ذلك: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5976 والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبرِّىء نفسه من كل حَوْل وطَوْل، ويعلن ما أمره الحق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5976 سبحانه أن يعلنه، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً؛ لأن النفع أو الضر بيد خالقه سبحانه، وهو سبحانه وتعالى خالقكم، وكل أمر هو بمشيئته سبحانه. وهذه الآية جاءت ردّاً على سؤالهم الذي أورده الحق سبحانه في الآية السابقة: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] . لقد تساءلوا بسخرية عن هذا الوعد بالعذاب، وكأنهم استبطأوا نزول العذاب تهكُّماً، وهذا يدل على أن قول الحق سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس: 47] . هذه الآية لم تنزل ليوم القيامة، بل نزلت لتوضح موقف مَنْ كفروا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والذين قالوا بعد ذلك: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] . وهذا يعني أنهم قالوا هذا القول قبل أن تقوم القيامة، والآية التي توضح أن لكل أمة رسولاً تؤيدها آيات كثيرة، مثل قوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] . وكذلك قول الحق سبحانه: {لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] . وكذلك قول الحق سبحانه: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} [طه: 134] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5977 وكل ذلك يؤيد أن الرسول المرسل إلى الأمة هو الرسول الذي جاء بمنهج الله تعالى، فآمن به قوم، وكذَّب به آخرون، وقضى الله بين المؤمنين والكافرين بأن خذل الكافرين ونصر المؤمنين. وإن استبطأ الكافرون الخذلان فلسوف يرونه؛ ولذلك أمر الحق سبحانه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} [يونس: 49] . أي: أنكم إن كنتم تسألون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الضر والنفع، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبلِّغ عن الله تعالى، ولا يملك لنفسه ضَرّاً ولا نفعاً، فضلاً عن أن يملك لهم هم ضَرّاً أو نفعاً، وكل هذا الأمر بيد الله تعالى، ولكل أمة أجلٌ ينزل بالذين كفروا فيها بالعذاب، ويقع فيها القول الفصل. وقول الحق سبحانه: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس: 49] . يفيدُ أن مشيئة الله هي الفاصلة، ويدل على أن النبي والناس لا يملكون لأنفسم الضر أو النفع؛ لأن الإنسان خُلِق على هيئة القَسْر في أمور، وعلى هيئة الاختيار في أمور أخرى، والاختيار هو في الأمور التكليفية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5978 مصداقاً لقوله سبحانه: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] . وأنت حُرٌّ في أن تطيع أو أن تعصي، وكل ذلك داخل في نطاق اختيارك، وإن صنع الإنسان طاعة، فهو يصنع لنفسه نفعاً، وإن صنع معصية، صنع لنفسه ضَرّاً. إذن: فهناك في الأمور الاختيارية ضر ونفع. ومثال ذلك: من ينتحر بأن يشنق نفسه، فهو يأتي لنفسه بالضر، وقد ينقذه أقاربه، وذلك بمشيئة الله سبحانه. إذن: ففي الأمور الاختيارية يملك الإنسان بمشيئة الله الضر أو النفع لنفسه، والله سبحانه يبين لنا أن لكل أمة أجلاً، فلا تحددوا أنتم اجال الأمم؛ لأن آجالهم استئصالاً، أو عذاباً هي من عند الله سبحانه وتعالى. والعباد دائماً يعجلون، والله لا يعجل بعجلة العباد، حتى تبلغ الأمور ما أراد سبحانه، فالله تعالى مُنزَّه أن يكون موظفاً عند الخلق، بل هو الخالق الأعلى سبحانه وتعالى. وهو سبحانه القائل: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37] . وهو سبحانه القائل: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5979 إذن: فالحق سبحانه يؤخِّر مراداته رحمة بالخَلْق، وإذا جاء الأجل فهو لا يتأخر عن ميعاده، ولا يتقدم عن ميعاده. لذلك يقول الحق سبحانه: {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] . وقوله سبحانه: {يَسْتَقْدِمُونَ} ليست من مدخلية جواب الشرط الذي جاء بعد {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} [يونس: 49] . لأن الجواب هو: {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ} . فهم لا يستقدمون قبل أن يحين الأجل. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5980 وهذا رَدٌّ شافٍ على استعجالهم للعذاب، فإن جاءكم العذاب فَلْنَرَ ماذا سيكون موقفكم. وهُمْ باستعجالهم العذاب يبرهنون على غبائهم في السؤال عن وقوع العذاب. وقول الحق سبحانه: {أَرَأَيْتُمْ} . أي: أخبروني عما سوف يحدث لكم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5980 وشاء الحق سبحانه أن يأتي أمر العذاب هنا مبهماً من جهة الزمان فقال سبحانه: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} [يونس: 50] . والبيات مقصود به الليل؛ لأن الليل محل البيتوتة، والنهار محل الظهور. والزمن اليومي مقسوم لقسمين: ليل، ونهار. وشاء الحق سبحانه إبهام اليوم والوقت، فإن جاء ليلاً، فالإنسان في ذلك الوقت يكون غافلاً نائماً في الغالب، وإن جاء نهاراً، فالإنسان في النهار مشغول بحركة الحياة. والحق سبحانه يقول في موضع آخر: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ} [الأعراف: 97] . ويقول سبحانه: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 98] . ولو نظرت إلى الواقع لوجدت أن العذاب يأتي في الليل وفي النهار معاً، لأن هناك بلاداً يكون الوقت فيها ليلاً، وفي ذات الوقت يكون الزمن نهاراً في بلاد أخرى. وإذا جاء العذاب بغتة، وحالوا إعلان الإيمان، فلن ينفعهم هذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5981 الإيمان؛ لأن الحق سبحانه يقول فيمن يتخذ هذا الموقف: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91] . فإن جاءكم العذاب الآن لما استقلتم منه؛ لأنه لن ينفعكم إعلان الإيمان، ولن يقبل الله منكم، وبذلك يصيبكم عذاب في الدنيا، بالإضافة إلى عذاب الآخرة، وهذا الاستعجال منكم للعذاب يضاعف لكم العذاب مرتين، في الدنيا، ثم العذاب الممتد في الآخرة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5982 أي: إذا ما وقع العذاب فهل ستؤمنون؟ إن إعلان إيمانكم في هذا الوقت لن يفيدكم، وسيكون عذابكم بلا مقابل. إذن: فاستعجالكم للعذاب لن يفيدكم على أي وضع؛ لأن الإيمان لحظة وقوع العذاب لا يفيد. ومثال ذلك: فرعون حين جاءه الغرق {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5982 آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5983 وهذا إخبار عن العذاب القادم لمن كفروا ويلقونه في اليوم الآخر، فهم بكفرهم قد ظلموا أنفسهم في الدنيا، وسيلقون العذاب في الآخرة، وهو {عَذَابَ الخلد} أي: عذاب لا ينتهي. وينهي الحق سبحانه الآية بقوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} . أي: أن الحق سبحانه لم يظلمهم، فقد بلغهم برسالة الإيمان عن طريق رسول ذي معجزة، ومعه منهج مفصَّل مؤيَّد، وأمهلهم مدة طويلة، ولم يستفيدوا منها؛ لأنهم لم يؤمنوا. إذن: فسيلقون عذاب الخلد، وقد جاء سبحانه هنا بخبر عذاب الخلد؛ لأن عذاب الدنيا موقوت، فيه خزي وهوان، لكن محدوديته في الحياة يجعله عذاباً قليلاً بالقياس إلى عذاب الآخرة المؤبد. وجاء الحق سبحانه بأمر عذاب الخلد كأمر من كسبهم، والكسب زيادة عن الأصل، فمن يتاجر بعشر جنيهات، قد يكسب خمسة جنيهات. وهنا سؤال: هل الذي يرتكب معصية يكسب زيادة عن الأصل؟ نعم؛ لأن الله سبحانه حرَّم عليه أمراً، وحلله هو لنفسه، فهو يأخذ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5983 زيادة في التحليل، وينقص من التحريم وهو يظن أنه قد كسب بمفهومه الوهمي الذي زين له مراد النفس الأمارة، وهذا يعني أنه ينظر إلى واقع اللذة في ذاتها، ولا ينظر إلى تبعات تلك اللذة، وهو يظن أنه قد كسب، رغم أنه خاسر في حقيقة الأمر. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5984 وهم قد قالوا من قبل: {متى هذا الوعد} [يونس: 48] . وهم هنا قد عادوا للتساؤل. {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} أي: يطلبون منك النبأ. والنبأ هو الخبر المتعلق بشيء عظيم، وهم يطلبون الخبر منك يا رسول الله ويتساءلون: أهو حق؟ وكلمة «حق» هنا لها معطيات كثيرة؛ لأن {هُوَ} يمكن أن تعود على أصل الدين قرآناً؛ ونبوَّة، وتشريعاً، وهي كلمة تحمل التصديق بأن القرآن حق، والتشريع حق، والنبوة لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حق، والقيامة والبعث حق، والكلام عن العذاب في الدنيا بخذلانهم ونصرة المؤمنين عليهم حق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5984 إذن: فقولهم: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس: 53] لها أكثر من مرجع، كأنهم سألوا: هل القرآن الذي جئت به حق؟ وهل النبوة التي تدَّعيها حق؟ وهل الشرائع التي تقول: إن الله أنزلها كمنهج بحكم حركة الإنسان حق؟ وهل القيامة والبعث حق؟ وهل العذاب في الدنيا حق؟ إنها كلمة شاملة يمكن أن تؤول إلى أكثر من معنى. ويأتي الجواب من الله تعالى: {قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] . وأنت حين يستفهم منك أحد قائلاً: هل زيد موجود؟ فأنت تقول: نعم موجود. ولا تقول له: والله إن زيداً موجود؛ لأنك لن تؤكد الكلام لمن يسألك؛ لأنه لا ينكر وجود زيد. إذن: فأنت لن تؤكد إجابةً ما إلا إذا كان هناك في السؤال شبهة إنكار. إذن: فأنت تستدل من قول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5985 {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس: 53] على أن سؤالهم يحمل معاني الإنكار والاستهزاء؛ ولذلك جاء الجواب ب «أي» وهو حرف جواب يعني: «نعم» ، وتأتي «أي» دائماً مع القسم. ولكل حرف من حروف الجواب مقام، فهناك «بلى» وهي تأتي في جواب سؤال منفي، في مثل قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] . وقول الحق سبحانه هنا: {إِي وربي} [يونس: 53] . تعني: نعم وأقسم بربي إنه لحق. وأنت لا تُقسم على شيء إلا إذا كان السائل عنده شبهة إنكار، وتأتي ب «إن» لمزيد من هذا التأكيد. ومثال ذلك في قوله سبحانه: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} [يس: 1314] . وماذا كان رد من بُعث اليهم الثلاثة؟ {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15] . هكذا كان إنكار المكذبين للرسل الثلاثة شديداً. فقال لهم الرسل: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5986 {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16] . فكان قولهم هذا مناسباً لإنكار الكافرين الشديد. إذن: فالتأكيد في أسلوب المسئول إنما يأتي على مقدار الإنكار، فإن لم يكن هناك إنكار؛ فلا يحتاج الأمر إلى تأكيد. أما إذا صادف الكلام إنكاراً قليلاً، فالتأكيد يأتي مرة واحدة. وإن صادف الكلام لجاجة في الإنكار جاء التأكيد مرتين. أما إذا ما صادف الكلام تبجُّحاً في الإنكار فالتأكيد يأتي ثلاث مرات. وقد علَّم الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هنا أن يرد على استنبائهم بأن يقول لهم: {إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] . وهنا يقسم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالرب؛ لأن الرب هو من كلَّفه، ثم يؤكد {إِنَّهُ لَحَقٌّ} لأن سؤالهم تضمَّن الإنكار والاستهزاء. وما دام قد قال: {إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} فهم إن لم يؤمنوا فسوف يلقون العذاب؛ لأنه ليس هناك مَنْجًى من الله تعالى، ولن تُعْجِزوا الله هرباً، ولن تعجزوه شفاعة من أحد، ولن تعجزوه بيعاً، ولن تعجزوه خُلَّة تتقدم لتشفع لكم. ثم يأتي قوله سبحانه في نهاية الآية: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] . وقد أراد الحق سبحانه أن يفسر لمحة من الإعجاز، ذلك أن الله سبحانه وتعالى من الممكن أن يقبل شفاعة الشافعين، ومن الممكن أن يقبل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5987 الفداء؛ ولذلك جاء الإيضاح في الآية التالية، فيقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5988 وساعة ياتي العذاب فالإنسان يرغب في الفرار منه، ولو بالافتداء. وانظر كيف يحاول الإنسان أن يتخلص من كل ما يملك افتداء لنفسه، حتى ولو كان يملك كل ما في السموات وما في الأرض. ولكن هل يتأتى لأحد غير الله سبحانه أن يملك السموات والأرض؟ طبعاً لا. إذن: فالشر لا يتأتَّى. وهَبْ أنه تأتَّى، فلن يصلح الافتداء بملك ما في السموات وما في الأرض؛ لأن الإنسان الظالم في الدنيا قد أخذ حق الغير، وهذا الغير قد كسب بطريق مشروع ما أخذه الظالم منه، والظالم إنما يأخذ ثمرة عمل غيره، ولو صحَّ ذلك لتحوَّل البعض إلى مغتصبِين لحقوق الغير، ولأخذوا عرق وكدح غيرهم، ولتعطلت حركة الحياة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5988 ولذلك إن لم يردع الله سبحانه وتعالى الظالم في الدنيا قبل الآخرة لاستشرى الظلم، وإذا استشرى الظلم في مجتمع، فالبطالة تنتشر فيه، ويحاول كل إنسان أن يأخذ من دم وعرق غيره، وبهذا يختلّ ميزان العدل وتفسد حركة الحياة كلها. وهَبْ أن الظالم أخذ مُلْك الدنيا كلها، وأراد أن يفتدى به نفسه ساعة يأتي العذاب، ويفاجأ بأن كسبه من حرام لا يُقْبَل فداءً، أليس هذا هو الخسران الكبير؟ وهذه ظاهرة موجودة في دنيا الناس. وهَبْ أن واحداً ارتشى أو اختلس أو سرق، ويفاجئه القانون ليمسكه من تلابيبه فيقول: خذوا ما عندي واتركوني. ولن يقبل القائمون على القانون ذلك. وإن كان مثل هذا التنازل يحدث في (الجمارك) فنرى من يتنازل عن البضائع المهربة مقابل الإفراج عنه، هذا ما يحدث في الدنيا، لكنه لن يحدث في الآخرة. وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48] . وقال الحق سبحانه في آية أخرى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5989 {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 123] . وقال بعض المشككين أن الآيتين متشابهتان، ولم يلتفتوا إلى أن كل آية تختلف عن الأخرى في التقديم للعدل، والتأخير للشفاعة. والبلاغة الحقَّة تتجلَّى في الآيتين؛ لأن القارىء لصَدْر كل آية منهما، والفاهم للمَلَكه اللغوية العربية أن عَجُز كل آية يناسب صدرها. ومن يقرأ قول الحق سبحانه: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} [البقرة: 48] . يرى أنه أمام نفسين: النفس الأولى هي التي تقدِّم الشفاعة، والنفس الثانية هي المشفوع لها. والشفاعة هنا لا تُقبل من النفس الأولى الشافعة، وكذلك لا يُقبل العدل. وفي الآية الثانية لاتُقبل الشفاعة ولا العدل من النفس المشفوع لها، فهي تحاول أن تقدم العدل أولاً، ثم حين لا ينفعها تأتي بالشفيع. وهكذا جاء التقديم والتأخير في الآيتين مناسباً للموقف في كل منهما. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ} [يونس: 54] . وفي هذا القول تعذُّرِ ملْك النفس الواحدة لكل ما في الأرض، ولو افترضنا أن هذه النفس ملكته فلن تستطيع الافتداء به؛ وتكون النتيجة هي ما يقوله الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5990 {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} [يونس: 54] . أي: أخفوا الحسرة التي تأتي إلى النفس، وليس لها ظاهر من انزعاج لفظي أو حركي. إن كلاّ منهم يكتم هَمَّه في قبله؛ لأنه ساعة يرى العذاب ينبهر ويُصعَق ويُبهَت من هول العذاب، فتجمد دماؤه، ولا يستطيع حتى أن يصرخ، وهو بذلك إنما يكبت ألمه في نفسه؛ لأن هول الموقف يجمِّد كل دم في عروقهم، ويخرس ألسنتهم، ولا يستطيع أن ينطق؛ لأنه يعجز عن التعبير الحركي من الصراخ أو الألم. ونحن نعلم أن التعبير الحركي لون من التنفيس البدني، وحين لا يستطيعه الإنسان، فهو يتألم أكثر. هم إذن يُسرُّون الندامة حين يرون العذاب المفزع المفجع، والكلام هنا عن الظالمين، وهم على الرغم من ظلمهم، فالحق سبحانه يقول: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس: 54] . وهؤلاء رغم كفرهم واستحقاقهم للعذاب يلقون العدل من الله، فَهَبْ أن كافراً بالله بمنأى عن الدين ظلم كافراً آخر، أيقف الله سبحانه من هذه المسألة موقفاً محايداً. لا؛ لأن حق خَلْق الله سبحانه الكافر المظلوم يقتضى أن يقتص الله سبحانه له من أخيه الكافر الظالم؛ لأن الظالم الكافر، إنما ظلم مخلوقاً لله، حتى وإن كان هذا المظلوم كافراً. ولذلك يقضي الله بينهم بالحق، أي: يخفِّف عن المظلوم بعضاً من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5991 العذاب بقدر ما يثقله على الظالم. هذا هو معنى {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} لأنها تتطلب قضاء، أي: عدم تحيز، وتتطلب الفصل بين خصومتين. ويترتب على هذا القضاء حكم؛ لذلك يبين لنا الحق سبحانه أنهم وإن كانوا كافرين به إلا أنه إن وقع من أحدهم ظلم على الآخر، فالحق رب الجميع وخالق الجميع، كما أعطاهم بقانون الربوبية كل خير مثلما أعطى المؤمنين، فهو سبحانه الذي أعطى الشمس، والماء، والهواء، وكل وسائل الرزق والقُوت لكل الناس مؤمنهم، وكافرهم فإذا ما حدث ظلم بين متدينين بدين واحد، أو غير متدينين، فلا بد أن يقضي فيه الحق سبحانه بالفصل والحكم بالعدل. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5992 و «ألا» في اللغة يقال عنها «أداة تنبيه» وهي تنبه السامع أن المتكلم سيقول بعدها كلاماً في غاية الأهمية، والمتكلم كما نعلم يملك زمام لسانه، بحكم وضعه كمتكلم، لكن السامع يكون في وضع المُفاجَأ. وقد يتكلم متكلم بما دار في ذهنه ليبرزه على لسانه للمخاطب، ولكن المخاطب يفاجأ، وإلى أن ينتبه قد تفوته كلمة أو اثتنان مما يقوله المتكلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5992 والله سبحانه وتعالى يريد ألاَّ يفوت السامع لقوله أي كلمة، فأتى بأداة تنبيه تنبه إلى الخبر القادم بعدها، وهو قول الحق سبحانه: {إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 55] . هكذا شاء الحق سبحانه أن تأتي أداة التنبيه سابقة للقضية الكلية، وهي أنه سبحانه مالك كل شيء، فهو الذي خلق الكون، وخلق الإنسان الخليفة، وسخَّر الكون للإنسان الخليفة، وأمر الأسباب أن تخضع لمسببات عمل العامل؛ فكل من يجتهد ويأتي بالأسباب؛ فهي تعطيه، سواء أكان مؤمناً أو كافراً. وإذا خدمت الأسبابُ الإنسانَ، وكان هذا الإنسان غافلاً عن ربه أو عن الإيمان به، ويظن أن الأسباب قد دانت له بقوته، ويفتن بتلك الأسباب، ويقول مثلما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} [القصص: 78] . فالذي نسي مسبِّب الأسباب، وارتبط بالأسباب مباشرة، فهو ينال العذاب، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة؛ فكأن الحق سبحانه ينبههم: تَنَّبهوا أيها الجاهلون، وافهموا هذه القضية الكبرى: {إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 55] . فإياك أيها الإنسان أن تغترَّ بالأسباب، أو أنك بأسبابك أخذت غير ما يريده الله لك، فهو سبحانه الذي أعطاك وقدَّر لك، وكل الأسباب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5993 تتفاعل لك بعطاء وتقدير من الله عَزَّ وَجَلَّ. وفي أغيار الكون الدليل على ذلك، ففكرك الذي تخطِّط به قد تصيبه آفة الجنون، والجوارح مثل اليد أو القدم أو اللسان أو العين أو الأذن قد تُصاب أيُّ منها بمرض؛ فلا تعرف كيف تتصرف. وكل ما تأتي فيه الأغيار؛ فهو ليس من ذاتك، وكل ما تملكه موهوب لك من مسبِّب الأسباب. فإياك أن تنظر إلى الأسباب، وتنسى المسبِّب؛ لأن لله ملك الأشياء التي تحوزها والأدوات التي تحوز بها؛ بدليل أنه سبحانه حين يشاء يسلبها منك، فتنبه أيها الغافل، وإياك أن تظن أن الأسباب هي الفاعلة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يخلق الأسباب؛ ثم يشاء ألا تأتي بنتائجها، كمن يضع بذور القطن مثلاً ويحرث الأرض، ويرويها في مواعيدها، ثم تأتي دودة القطن لتأكل المحصول. إذن: فمردُّ كل مملوك إلى الله تعالى. واعلمْ أن هناك مِلْكاً، وإن هناك مُلْكاً، والمِلْك هو ما تملكه؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5994 جلباباً؛ أو بيتاً، أو حماراً، إلى غير ذلك، أما المُلْك فهو أن تملك من له مِلْك، وتسيطر عليه، فالقمة إذن في المُلْك. وانظر إلى قول الحق سبحانه: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} [آل عمران: 26] . إذن: فالمُلك في الدنيا كله لله سبحانه. وكلمة «ألا» جاءت في أول الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لتنبِّه الغافل عن الحق؛ لأن الأسباب استجابت له وأعطته النتائج، فاغترَّ بها، فيجعل الله سبحانه الأسباب تختلف في بعض الأشياء؛ ليظل الإنسان مربوطاً بالمسبِّب. ويقول الحق سبحانه في نفس الآية: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} [يونس: 55] . والوعد إن كان في خير فهو بشارة بخير يقع، وإن كان بِشَرٍّ فهو إنذار بشرّ يقع؛ ويغلب عليه كلمة «الوعيد» . إذن: ففي غالب الأمر تأتي كلمة «وعد» للأثنين: الخير والشر، أما كلمة «وعيد» فلا تأتي إلا في الشر. والوعد: هو إخبارٌ بشي سيحدث من الذي يملك أن يُحْدِث الشيء. وإنفاذ الوعد له عناصر: أولها الفاعل، وثانيها المفعول، وثالثها الزمان، ورابعها المكان، ثم السبب. والحدث يحتاج إلى قدرة، فإن قلت: «آتيك غداً في المكان الفلاني لأكلمك في موضوع كذا» فماذا تملك أنت من عناصر هذا الحدث؛ إنك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5995 لا تضمن حياتك إلى الغد، ولا يملك سامعك حياته، وكذلك المكان الذي تحدد فيه اللقاء قد يصيبه ما يدمِّره، والموضوع الذي تريد أن تتحدث فيه، قد يأتي لك خاطر ألا تتحدث فيه من قبل أن يتم اللقاء. وهَبْ أن كل العناصر اجتمعت، فماذا تملك أنت أو غيرك من عناصر الوعد؟ لا شيء أبداً. ولذلك يعلِّم الله سبحانه خَلْقه الأدب في إعطاء الوعود، التي لا يملكونها، فيقول سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 2324] . وحين تقدِّم المشيئة فإن حدث لك ما يمنع إنفاذ الوعد فلن تكون كذاباً. وهكذا يعلّمنا ربنا صيانة أخبارنا عن الكذب، وجعلنا نتكلم في نطاق قُدراتنا، وقُدراتنا لا يوجد فيها عنصر من عناصر الحدث، لكن إذا قال الله سبحانه، ووعد، فلا رادّ لما وعد به سبحانه؛ لأنه منزَّه عن أن يُخْلف الميعاد؛ لأن عناصر كل الأحداث تخضع لمشيئته سبحانه، ولاَ تتأبَّى عليه، ووعده حق وثابت. أما أنت فتتحكم فيك الأغيار التي يُجريها الحق سبحانه عليك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5996 وهَبْ أنك أردت أن تبني بيتاً، وقلت للمهندس المواصفات الخاصة التي تريدها في هذا البيت، لكن المهندس لمي يستطع أن يشتري من الأسواق بعضاً من المواد التي حددتها أنت، فأنت إذن قد أردت ما لا يملك المهندس تصرُّفاً فيه. لكن الأمر يختلف بالنسبة للخالق الأعلى سبحانه؛ فهو الذي يملك كل شيء، وهو حين يَعد يصير وَعْدُه محتَّم النفاذ، ولكن الكافرين ينكرون ذلك؛ ولذلك قال الله سبحانه: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس: 55] . أي: أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة، فقد سبق أن قالوا: {متى هذا الوعد} [يونس: 48] . أو أن {أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} تعني: أن الإنسان يجب ألاَّ يضع نفسه في موعد دون أن يقدِّم المشيئة؛ لأنه لا يملك من عناصر أي وعد إلا ما يشاؤه الله تعالى. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5997 ونحن نعلم أن حركة الحياة، والمِلْك والمُلْك، هي فروع من الأحياء، وهو سبحانه حَيٌّ؛ لأنه مالك الأصل، وهو القادر على أن يميت، وكل ما يصدر عن الحياة يسلبه الله سبحانه بالموت فهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5997 مالك الأشياء، والأسباب التي تُنتج الأشياء، ولا يفوته شيء من وعد ولا وعيد، ونحن نحيا بمشيئته سبحانه، ونموت بمشيئته سبحانه، فلن نفلت منه. لذلك قال سبحانه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فمن لا يعتبر بأمر الأحياء؛ عليه أن يرتدع بخوف الرجعة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5998 والخطاب هنا للناس جميعاً؛ لأن الحق سبحانه حين يخاطب المؤمنين بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} [البقرة: 104] . فهذا خطاب لمن آمن بالمنهج. والحق سبحانه وتعالى يخاطب الناس كافّةً بأصول العقائد، مثل قول الحق سبحانه: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] . أما المؤمنون فسبحانه يكلّفهم بخطابه إليهم، من مثل قول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] . ومثل قول الحق: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5998 {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] . أي: أن خطابه سبحانه للمؤمنين يكون دائماً في الأحكام التي يخطاب بها المؤمنين، أما في أصول العقائد والإيمان الأعلى بالواجد الموجِد، فهذا يكون خطاباً للناس كافة. والحق سبحانه يقول هنا: {ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} [يونس: 57] . والأية هنا تصوِّر الموعظة وكأنها قد تجسَّدت وصار لها مجيء، رغم أن الموعظة هي كلمات، وأراد الله تعالى بذلك أن يعطى للموعظة صورة الحركة التي تؤثِّر وتحضُّ على الإيمان. والموعظة هي الوصية بالخير والبعد عن الشر بلَفْظ ٍمؤثِّر، ويقال: فلان واعظ متميز، أي: أن كلامه مستميل وأسلوبه مؤثر وجميل، والموعوظ دائماً أضعف من الواعظ، وتكون نفس الموعوظ ثقيلة، فلا تتقبل الموعظة بيسر إلا ممن يجيد التأثير بجمال الكلمة وصدق الأداء؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5999 لأن الموعوظ قد يقول في نفسه: لقد رأيتني في محل دونك وتريد أن ترفعني، وأنت أعلى مني. فإذا قدَّر الواعظ هذ الظرف في الموعوظ فهو يستميل نفسه. ولنتذكر الحكمة التي تقول: «النصح ثقيل، فلا تجعلوه جَدَلاً، ولا ترسلوه جَبَلاً، واستعيروا له خِفَّةالبيان» ؛ وذلك لتستميل أذن السامع إليك فتأتي له بالأسلوب الجميلَ المقنع الممتع الذي يعجبه، وتلمس في نفسه صميم ما ترغب أن يصل إليه. والموعظة تختلف عن الوصية؛ لأن الوصية عادة لا تتأتى إلا في خلاصة حكمة الأشياء، وهَبْ أن إنساناً مريضاً وله أولاد، وحضرته الوفاة، فيقولم بكتابة وَصِيَّته، ويوصيهم بعيون المسائل. والحق سبحانه يقول هنا: {قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} [يونس: 57] . والموعظة إما أن تسمعها أو تفرضها، ولأنها موعظة قادمة {مِّن رَّبِّكُمْ} فلا بد من الالتفات والانتباه، وملاحظة أن الحق سبحانه قد اختص الموعظة بأنها من الرب، لا من الإله؛ لأن الإله يريدك عابداً، لكن الرب هو المربِّي والكفيل، وإن كفرت به. وهذه الموعظة قادمة من الرب، أي: أنها من كمالات التربية، ونحن نعلم أن متعلقات الربوبية تتوزع مابين قسمين: القسم الأول هو مقوِّمات الحياة التي يعطيها الحق سبحانه من قُوت ورزق وهذه المقومات للمؤمن، وللكافر والقسم الآخر هو مقومات القيم التي ترسم منهج حركة الحياة، وهذه للمؤمن فقط. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6000 إذن: فالموعظة هي نوع من التربية جاءت من ربكم المأمون عليكم؛ لأنه هو الذي خَلَق من عَدَم وأمَدّ من عُدْم، ولم يختص بنعمة الربوبية المؤمنين فقط، بل شملت نعمته كل الخلق. إذن: فالموعظة تجيء ممن يُعطي ولا ينتظر منك شيئاً، فهو سبحانه مُنزَّه عن الغرض؛ لأنه لن ينال شَيئاً منك فأنت لا تقدر على شيء مع قدرته سبحانه. والموعظة القادمة بالمنهج تخصُّ العقلاء الراشدين؛ لأن حركة العاقل الراشد تمر على عقله أولاً، ويختار بين البدائل، أما حركة المجنون فهي غير مرتَّبة ولا منسَّقة، ولا تمر على عقله؛ لأن عقله مختل الإدراك وفاقد للقدرة على الاختيار بين البدائل. ولكن لماذا يُفسِد العاقل الاختيار بين البدائل؟ إن الذي يفسد حركة اختيار العاقل هو الهوى، والهوى إنما ينشأ مما في النفس والقلب؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور} [يونس: 57] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6001 أي: أنه سبحانه قد أنزل عليكم ما يشفي صدوركم من غِلّ يؤثر في أحكامكم، وحقد، وحسد، ومكر، ويُنقِّي باطن الإنسان؛ لأن أي حركة من حركات الإنسان لها نبع وجداني، ولا بد أن يُشفى النبع الوجداني؛ ليصحَّ؛ حتى تخرج الحركات من الجوارج وهي نابعة من وجدان طاهر مُصفّى وسليم؛ وبذلك تكون الحركات الصادرة من الإنسان سليمة. ولذلك قال الحق سبحانه: {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] . وجاءت كلمة «الشفاء» أولاً، لتبيِّن أن الهداية الحقَّة إلى الطريق المستقيم تقتضي أن تُخْرِج ما في قلبه من أهواء، ثم تدلَّه إلى المنهج المستقيم. وإن سأل سائل عن الفارق بين الشفاء والرحمة؟ نجيب: إن الشفاء هو إخراج لما يُمْرِض الصدور، أما الرحمة فهي اتْباع الهداية بما لا يأتي بالمرض مرة أخرى، وأقرأ إن شئت قول الحق سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . وهكذا يتبيَّن لنا أثر الموعظة: شفاء، وهدى، ورحمة، إنها تعالج ليس ظواهر المرض فقط، ولكن تعالج جذور المرض. إذن: فشفاء الصدور يجب أن يتم أولاً؛ لذلك نجد الطبيب الماهر هو من لا ينظر إلى ظواهر المرض فقط ليعالجها، ولكنه يبحث عما خلف تلك الظواهر، على عكس الطبيب غير المدرَّب العَجُول الذي يعالج الظاهر دون علاج جذور المرض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6002 ومثال ذلك: طبيب الأمراض الجلدية غير الماهر حين يرى بثوراً؛ فهو يعالجها بما يطمسها ويزيلها مؤقَّتاً، لكنها تعود بعد قليل، أما الطبيب المدرَّب الفاهم فهو يعالج الأسباب التي تُنتج البثور، ويزيلها بالعلاج الفعَّال؛ فيقضي على أسباب ظهورها. وفي القرآن الكريم نجد قصة ابتلاء سيدنا أيوب عليه السلام، فقد قال له الحق سبحانه: {اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] . أي: اضربْ برجلك ذلك المكان يخرجْ لك منه ماء بارد، تغتسل منه؛ فيزيل الأعراض الظاهرة، وتشرب منه ليعالج أصل الداء. إذن: فالموعظة وكأنها تجسَّدت، فجاءت من ربكم المأمون علكيم شفاءً حتى تعالج المواجيد التي تصدر عنها الأفعال، وتصبح مواجيد سليمة مستقيمة، لا تحلُّل فيها، وهدى إلى الطريق الموصِّل إلى الغاية الحقَّة، ورحمة إن اتبعها الإنسان لا يُصَابُ بأيِّ داءٍ، وهذه الموعظة تؤدي إلى العمل المقبول عند الله سبحانه. ولكن إنْ صحَّتْ لك الأربعة النابعة من الموعظة: الشفاء، والهدى، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6003 والرحمة والعمل الصالح، فإيّاك أن تفرح بذلك؛ ففوق كل ذلك فضل الله عليك؛ ولذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6004 وأنت وكل المؤمنين مهما عملوا في تطبيق منهج الله، فكلُّنا بعبادتنا لن نؤدي حَقَّ النعم الموجودة عندنا قبل أن نُكَلَّف، وعلينا أن نتدبَّر قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أنْ يتغمَّدني الله برحمته» . إذن: فإن افتخر إنسان بطاعته لله، فهذه الطاعة تعود على العبد في دنياه، وهو لن يؤدي بطاعته حق كل النعم التي أسبغها الله عليه. ومثال ذلك: إن العبد لا يُكلَّف إلا عند البلوغ، أي: في سنّ الخامسة عشر تقريباً، فإ نظر إلى النعم التي أسبغها الله تعالى عليه حتى وصل إلى هذه السِّنِّ، فهو لن يحصيها، فما بالنا بالنعم التي تغمرنا في كل العمر، وحين يجازينا الحق في الآخرة، فهو لا يجازينا بالعدل، بل يعاملنا بالفضل. إذن: إياك أن تقول: أنا تصدَّقتُ بكذا، أو صلّيت كذا؛ حتى لا تورثك استجابتك لمنهج الله غروراً بعملك التعبُّديِّ، وتذكَّر القول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6004 المأثور: «رُبَّ معصية أورثتْ ذُلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعةٍ أورثتْ عِزّاً واستكبارا» . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6005 إن تمتع الإنسان في الحياة بالمُلْك والمِلْك، فكل ذلك يحتاج إلى استبقاء الحياة بالرزق الذي يهبُنَا الحق سبحانه إيّاه، وكذلك استبقاء النوع بالتزواج بين الذكر والأنثى. ولكن الرزق الذي يستبقي الحياة لا بُدَّ أن يكون حلالاً؛ لذلك حدَّد لنا الحق سبحانه وتعالى المحرَّمات فلا تقربها، وأنت عليك بالالتزام بما حدَّده الله، فلا تدخل أنت على ما حلّل الله لتحرِّمَه؛ لأن الحق سبحانه حدَّد لك من الطعام ما يستبقي حياتك ويعطيك وقوداً لحركة الحياة، فعاملْ نفسك كما تعامل الآلة التي تصنعها، فأنت تعطي كل آلة الوقود المناسب لها لتؤدي مهمتها، كذلك جعل الله سبحانه لك المواصفات التي تنفعك وتستفيد منها وتؤدي حركات الحياة بالطاقة التي يمدّك بها ما حَلَّله الله لك. وكذلك حرَّم الله عليك ما يَضُرُّك. وإياك أن تقول: ما دامت هذه الأشياء تضرّني فلماذا خلقها الله؛ لأن عليك أن تعرف أن هناك فارقاً بين رزق مباشر، ورزق غير مباشر، وكل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6005 ما في الكون هو رزق، ولكنه ينقسم إلى رزق مباشر تستفيد منه فوراً، وهناك رزق غير مباشر. ومثال ذلك: النار، فأنت لا تأكل النار، لكنها تُنضِج لك الطعام. إذن: فهناك شيء مخلوق لمهمة تساعد في إنتاج ما يفيدك. والحق سبحانه قد حلّل لك على سبيل المثال لحم الضأن والماعز، والإبل والبقر وغيرها، وحرَّم عليك لحم الخنزير، فلا تسألْ: لماذا خلق الله الخنزيرَ؛ لأنه خَلقه لمهمةٍ أخرى، فهو يلملم قاذورات الوجود ويأكلها، فهذا رزق غير مباشر، فاتركه للمهمة التي أراده الله لها. وبعض الناس قد حرَّم على نفسه أشياء حلَّلها الله تعالى، وهم بذلك يُضيّقون على أنفسهم، ويظن البعض أنه حين يحلّل ما حرَّم الله أنه يوسِّع على نفسه، فيأمر الحق سبحانه رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول: {أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} [يونس: 59] . أي: أخبِروني ما أنزل الله لكم من رزق، وهو كل ما تنتفعون به، إما مباشرةً، وإما بالوسائط، فكيف تتدخلون بالتحليل والتحريم، رغم أن الذي أنزل الرزق قد بيَّن لكم الحلال والحرام؟! وكلمة {أَنزَلَ} تفيد أن الرزق كله قادم من أعلى، وكل ما ترونه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6006 حولكم هو رزق، تنتفعون به مباشرة، أو بشكل غير مباشر، فالمال الذي تُشترى به أغلب الأرزاق لا يأكله الإنسان، بل يشتري به ما يأكله. وكلمة {أَنزَلَ} تعني: أوْجَدَ، وخلق مِنْ أعلى، وما دام كل شيء قد وُجد بمشيئة مَنْ هو أعلى من كل الوجود، فكل شيء لصالحك مباشرة أو بوسائط. ولا تأخذ كلمة {أَنزَلَ} من جهة العلوّ الحسية، بل خُذها من جهة العلوِّ المعنوية، فالمطر مثلاً ينزل من أعلى حسيّاً، ويختلط بالأرض فيأخذ النبات غذاءه منها، والرزق بالمطر ومن الأرض مُقدَّر ممّن خَلَق، وهو الأعلى سبحانه. وقد قال الحق سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] . نعم، فقد أنزل الحق سبحانه منهجه على الرسل عليهم السلام لتصلح حياة الناس، وأنزل الحديد ايضاً، هذا الذي نستخرجه من الجبال ومن الأرض. إذن: فالمراد هنا بالإنزال، أي: الإيجاد ممن هو أعلى منك لصالحك أيها الإنسان. وما دام الحق سبحانه هو الذي أنزل الرزق، وبيَّن الحلال والحرام، فلماذا تُدخِلون أنوفكم في الحلال والحرام، وتجعلون بعض الحلال حراماً، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6007 وبعض الحرام أو كُلَّ الحرام حلالاً؟ لماذا لا تتركون الجَعْل لمن خَلَق وهو سبحانه أدْرى بمصلحتكم؟ {قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] . أي: هل أعطاكم الله سبحانه تفويضاً في جَعْلِ الحلال حراماً، والحرام حلالاً؟ {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] أي: على الله تتعمدون الكذب. وقد جاء الحق سبحانه بالحلال والحرام ليبيِّن لنا مدى قُبح السلوك في تحريم ما أحلّ الله، وتحليل ما حرَّم الله. ويشير الحق سبحانه في إجمال هذه الآية، إلى آيات أخرى فَصَّلت الحرام، وسبق أن تناولناها بخواطرنا، مثل قوله تعالى: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] . والبَحيرة كما ذكرنا هي الناقة التي أنجبتْ خمس بُطونٍ آخرها ذَكَر، وكانوا يشقُّون أذنها، ويعلنون أنها قامت بواجبها ويتركونها سائمة غير مملوكة، لا يركبها أحد، ولا يحمل عليها أحد أيَّ حِمْل، ولا يحلبها أحد، ولا يجزّ صوفها أحد، ثم يذبحها خُدَّام الآلهة التي كانوا يعبدونها، وسَمَّوها «بَحيرة» ، لأنهم كانوا يشقون آذانها علامةً على أنها أدَّتْ مهمتها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6008 أما السائبة فهي غير المربوطة؛ لأن الربط يفيد الملكية، وكان الواحد منهم إذى شفي من مرض أو أراد شيئاً وَهَبَ أن يجعل ناقةً لخدَّام الأصنام، واسمها سائبة، وهي أيضاً لا تُركب، ولا تُحلب، ولا يُحمل عليها، ولا أحد يتعرَّض لها. والوصيلة: هي الأنثى تلدها الناقة في بطن واحدة مع ذكر، فيقولون: «وَصَلَتْ أخاها» ؛ فلا يذبحونه للأصنام من أجل أخته. {وَلاَ حَامٍ} والحام: هو الفَحْل الذي يحمي ظهر نفسه بإنجاب عشرة أبْطُن، فلا يركبه أحد بعد ذلك، ولا يُحمَل عليه، ويترك لخدَّام الأصنام. هذه هي الأنعام المحلَّلة التي حرَّموها على أنفسهم، بينما يأكلها خُدَّام الأصنام، وفي ذكر عدم تحريم تلك الأنعام رأفة بهم. وهناك أيضاً قول الحق سبحانه: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الأنعام: 143144] . إذن: فقد حَرَّموا بعضاً مما أحلَّ الله لهم، وقالوا ما أورده القرآن: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6009 {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] . وأجمل الحق سبحانه كل ذلك في قوله الحق: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] . وهكذا تدخَّلوا في تحريم بعض الحلال وحلَّلوا بعضاً من الحرام، وفي هذا تعدٍّ ما كان يجب أن يقترفوه؛ لأن الحق سبحانه هو خالقهم، وهو خالق أرزاقهم، وفي هذا كذب متعمَّد على الله سبحانه. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6010 وهذه الآية توضح أن كل أمر بحساب، فالذين يفترون على الله الكذب سيجدون حسابهم يوم القيامة عسيراً، فالحق سبحانه منزّه عن الغفلة، ولو ظنوا أنه لا توجد آخرة ولن يوجد حساب، فهم يخطئون الظن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6010 ولو استحضروا ما أعدَّه الله لهم من العذاب والنكال يوم القيامة لما فعلوا ذلك، ولكنهم كالظَّان بأن الله سبحانه وتعالى غافل عن أفعالهم، وكأنها أفعال لا حساب عليها، ولا كتابة لها، ولا رقيب يحسبها: ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} [يونس: 60] . إن الله سبحانه متفضِّل على كل خَلْقه وأنتم منهم بأشياء كثيرة؛ فلم تحرمون أنفسكم من هذا الفضل؟! ولو شكرتم الله تعالى على هذال التفضل لزاد من عطائكم، لكنكم تنسون الشكر. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6011 والخطاب هنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: ما تكون يا محمد في شأن. والشأن: هو الحال العظيم المتيمز الذي يطرأ على الأمر. ونحن في حياتنا اليومية نقول: ما شأنك اليوم أو ما حالك؟ وهنا يجيب السامع بالشيء الهام الذي حدث له أو فعله، ويتناسى التافة من الأمور. ولذلك يصف الله تعالى نفسه فيقول: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] . أي: لا تظنوا أن ربنا سبحانه وتعالى خلق النواميس والقوانين، وقال لها: اعملي أنتِ، لا فهو سبحانه كل يوم في شأن. ولذلك حين سئل أحد العلماء: ما شأن ربك الآن؛ وقد صَحَّ أن القلم قد جَفَّ؟ فقال: «أمور يبديها ولا يبتديها» . أي: أنه سبحانه قد رسم كل شيء، وجعل له زماناً ليظهر، فهو سبحانه قيُّوم، أي: مُبَالغ في القيام على مصالحكم؛ ولذلك يطمئننا سبحانه وقد جعل الليل لنومنا وراحتنا بأنه سبحانه قيوم لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وهو يراعينا. فالحديث في الآية التي نحن بصددها موجَّه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس: 61] . وشأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي يهتم به ليس المأكل ولا المشرب، إنما المهم بالنسبة له هو بلاغ الرسالة بالمنهج ب «افعل و» لا تفعل «. {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ} [يونس: 61] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6012 و» منه «هنا بمعنى اللام، أي: ما تتلو له، وتعني تأبيداً لآيات القرآن. وهناك في موضع آخر من القرآن يقول الحق سبحانه: {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ} [نوح: 25] أي: أغرقوا لأجْل خطيئاتهم. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نفهم ما تكون في شأن وما تتلو لأجل هذا الشأن من قرآن، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شأن هام هو الرسالة، ويتلو من القرآن تأبيداً لهذا الشأن وهو البلاغ بالمنهج. ويدخل في هذا الشأن ما فوِّض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيه حسب قول الحق سبحانه: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . ومثال ذلك: تحديد كيفية الصلاة وعدد ركعات كل صلاة، وكذلك نِصَاب الزكاة، وهذه أمور لم يأت بها القرآن تفصيلاً، ولكن جاءت بها الأحاديث النبوية. إذن: فهناك تفويض من الحق للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليكتمل البلاغ بمنهج الله، بنصوص القرآن، وبتفويض الله تعالى له أن يشرِّع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6013 إذن: فكل شأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إما بلاغ عن الله بالنص القرآني، وإما تطبيق فعليّ للنص القرآني بالحديث النبوي، وبالأسوة التي تركها لنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سُنَّته. والحُجَّة على الحُكم أي حُكم يأتي بها القرآن، فإن كانت الأحكام غير صادرة من الله مباشرة، فيكفي فيها أنها صدرت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتفويض من الله تعالى ليشرِّع. وبذلك نردُّ على المنافقين الذين إذا حُدِّثوا بشيء من حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قالوا: «بيننا وبينكم كتاب الله» وهدفهم أن يردُّوا حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِعْلاً، أو قولاً أو إقراراً. ثم ينقل الحق سبحانه الخطاب من المفرد إلى الجماعة فيقول جَلَّ شأنه: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} [يونس: 61] . وفي هذا انتقال للسامعين للقرآن، والمبلَّغ إليهم هذا المنهج، فكل عمل إنما يشهده الحق سبحانه. والعمل هو مجموع الأحداث التي تصدر عن الإنسان، فكل حدث يصدر من الإنسان ولو بِنيَّة القلب يسمَّى عملاً؛ لأن عمل القلوب هو النية. ولكن إذا صدر الحدث من اللسان كان قولاً، وإذا صدر الحدث من بقية الجوارح كان فعلاً. وهكذا ينقسم العمل إلى قسيمن: قول، وفعل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6014 وقد اختُصَّ حدث اللسان باسم القول؛ لأن أصل مستندات التكليف كلهم قولية. ثم يقول الحق سبحانه: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تسرعون إلى العمل بنشاط وحيوية وإقبال مما يدل على حسن الاستجابة للمنهج فور أن يبلَّغه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والإقبال على العمل التكليفي بهذا الشوق، وتلك اللهفة، وحسن الاستقبال، وإخلاص الأداء، كل هذه المعاني يؤول إليها قول الحق سبحانه: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} كما يفيض ماء الإناء إذا امتلأ لينزل. أي: أن تقبلوا علىأعمال التكليف بسرعة وانصباب وانسكاب. وقد قال الحق سبحانه: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] . أي: شَرَعْتُم في الذهاب مسرعين؛ لأنكم أدَّيتم نُسُكاً أخذتم منه طاقة، وتقبلون بها على نُسُك ثانٍ. إذن: فالحق سبحانه يشهد كل عمل منكم، لكن ماذا عن النيَّات وما يُبيَّت فيها من خواطر. ها هو الحق سبحانه يخبرنا أن كل شيء مهما صغر واختفى فهو معلوم ومحسوب. يقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6015 {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] . أي: كل أمورك، وأمور الخلق، والمخلوقات كلها معلومة لله تعالى، ومكتوبة في كتاب مبين واضح، فلا أحد بقادر على أن يختلس حركة قلب، أو يختلس حركة ضمير، وكملة «يعزب» تعني: يغيب ويختفي. والحق سبحانه يخبرنا أنه لا يضيع عنده جزاء أي عمل أو نية مهما بلغ العمل أو النية أدنى درجة من القِلَّة. ولم يوجد عند العرب ما يضرب به المثل على الوزن القليل إلا الذَّرَّة، وهي النملة الدقيقة الصغيرة جِدّاً، ثم أطلقت الذرة على الهَبَاء الشائع في الجو، ويمكنك أن ترى هذا الهَبَاء إن جلست في حجرة مظلمة مغلقة، ثم دخلها شعاع من ضوء، هنا ترى هذا الضوء وهو يمر من الثقب وكأنه سهم، وترى مكوِّنات هذا السهم من ذرات الهباء المتحركة الموجودة في الجو، تلك الذرات التي لا تراها وأنت في الضوء فقط أو في الظلام فقط، ولكن التناقض بين الضوء والظلام يُبرزها. وأنت لا تدرك الشيء ولا تحسه لأمرين: إما لتناهيه في الصغر، وإما لتناهيه في الكبر؛ فلا تحيط به، وحين تقدم العلم التطبيقي اخترعوا المَجَاهر التي تُكبِّر الشيء المتناهي في الصغر آلاف، أو ملايين المرات. وأنت لو وضعت جلدك تحت عدسة المجهر فسترى فجوات وكأنها آبار لم تكن تراها أو تحسها من قبل؛ لأنها بلغت من الدقة والصِّغر بحيث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6016 لا تستطيع عيناك أن تدركها، فإن رأيتها بالمجهر كَبُرَت فترى فجوات وتعاريج وعُلُوّاً وانخفاظاً مهما كان الجلد الذي تراه تحت المجهر ناعماً. وكذلك أنت لا تقدر على إدراك الشيء الضخم، وقد تفصل بينك وبين الشيء الكبير مسافة؛ فتراه أصغر من حجمه، وكلما ابتعد صَغُرَ، فأنت إذا رأيت مثلاً رجلاً طويلاً على مسافة كبيرة، فأنت تراه وكأنه طفل صغير، وكلما اقترتب منه زاد طوله في عينيك. إذن: لا الضخامة ولا البُعد ولا القِلَّة تمنع من علم الحق سبحانه لأي شيء. وقد خاطب الحق سبحانه العرب بأصغر ما عرفوه، وهو الذرة، أي: النملة الصغيرة. وأنت إذا وطأتَ نملة في أرض رملية فهي لا تموت، بل تدخل في فجوات الرمل، وتجد لنفسها طريقاً إلى سطح الأرض مرة أخرى. قد بيَّن الحق سبحانه هذه المسألة حين تحدَّث عن سليمان عليه السلام في وادي النمل، فقال تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] . لأنهم لا يرونهم؛ لحجمهم المتناهي في الصغر. وهكذا يعطينا الحق سبحانه بياناً عن كل أمة في الحياة، وأن من بينهم جنوداً يحرسون بيقظة، فالنملة قامت بإنذار قومها من سليمان وجنوده، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6017 لأنهم لن يروا النمل الصغير. إذن: الذَّرُّ إما أن يكون النمل الصغير، وإما أن يكون الذرَّات الهبائية. وأراد الله سبحانه أن يضرب لنا مثلاً بإحاطة علمه في أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة. ويعزب، أي: يغيب، ويقال: «هذا البئر ماؤه عازب» ، أي قادم من عمق بعيد، ويحتاج استخراجه إلى دَلْوٍ وحبال طويلة. ونسمِّي الرجل الذي يبعد عن أهله «عَزَب» . وقول الحق سبحانه: {وَمَا يَعْزُبُ} . أي: لا يبعد ولا يغيب عنه أصغر شيء ولا أكبر شيء. يقول سبحانه ذلك؛ ليطمئننا أن كل خاطرة من خواطر الإنسان إنما يشهدها الله، ويَعْلَمُها، وهو المُجَازِي عليها. وإن استطاع إنسان أن يُعمِّي على قضاء الأرض، فلن يستطيع أن يُعمِّي على قضاء السماء. ومسألة الذرَّة والصغر يقول عنها الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6018 {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 78] . هذا للمتساوِي في الثقل والوزن، أما إن كان أصغر من الذرة، فقد ذكره الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فقال: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ} [يونس: 61] . وعلى زمن نزول القرآن الكريم لم يكن أحد يعرف أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وكنا جميعاً حتى ما قبل الحرب العالمية الأولى لا نعلم أن هناك شيئاً أصغر من الذرة، وكان العلماء يعتقدون أن الذرة هي الجزء الذي لا يتجزَّا؛ لأنها أصغر ما يقع عليه البصر، فضرب الله مثلاً بالأقل في زمن نزول القرآن. ولما تقدم العلم بعد الحرب العالمية الأولى واخترعت ألمانيا آلةً لتحطيم الذرة قيل عنها: إنها آلة تحطيم الجوهر الفرد. أي: الشيء الذي لا ينقسم، وهذه الآلة مكونة من اسطوانتين مثل اسطوانتي عَصَّارة القصب، والمسافة بين الاسطوانتين لا تكاد تُرَى، وحين حَطَّمت ألمانيا ما قيل عنه «الجوهر الفرد» تحول إلى ما هو أقل منه، وتفتَّتت الذرّة. وقد جعل الحق سبحانه المقياس في الصغر هو الذرة. وحين اخترعت ألماينا تلك الآلة توجَسّ المتصلون بالدين وخالوا أن يقال: إن الحق سبحانه لم يذكر ما هو أقل من الذرة، ولكنهم التفتوا إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فقرأوا قول الحق سبحانه: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6019 و {وَمَا يَعْزُبُ} أي: لا يبعد أو يغيب {عَن رَّبِّكَ} أي: عن عِلْمه {مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} . أي: وزن ذَرَّة. وقديماً قلنا: إن البعض يقول: إن «من» قد تكون حرفاً زائداً في اللغة، كقولنا: «ما جاءني مِنْ رجل» وتعرب كلمة «من» : حرف جر زائد، و «رجل» : فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة التي منع من ظهورها اشتعال المحلِّ وهو «اللام» بحركة حرف الجر الزائد. ولكن في كلام الله لا يوجد حرف زائد، ف «مِنْ» في قوله: {مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} . أي: من بداية ما يقال له «مثقال» . ويقول الحق سبحانه في آية أخرى. {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [سبأ: 3] . وكلمة {وَرَبِّي} مُقْسَمٌ به، وحرف «الواو» هو حرف الجر، ولم يأت هنا بالشهادة، وجاء بالغيب، ولم يأت بعلم الغيب في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها. وعالم الشهادة، تعني: أنه عَالِمٌ بكل ما يشهد، ويظن البشر أنها غير مُحَاطٍ بها لعظمتها؛ أو لأن الله غيب فلا يرى إلا الغيب، لكن الحق سبحانه يرى ويعلم الغيب والشهادة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6020 لقد قال الحق كلمة «مقال ذرة» ثلاث مرات: مرة حين قال سبحانه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 7] . ومرة حين قال هنا: {مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} [يونس: 61] . وجاء ب «من» هنا ليبين أنه لا يغيب عن الله تعالى من بداية ما يقال له «مثقال» . وقال الحق سبحانه في موضع آخر: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [سبأ: 3] . وجاء بالسموات أولاً، وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بالأرض أولاً، وهو في الآيتين يتكلم عن علمه للغيب، فيأتي بمثقال الذرة ويقدِّم السماء ويأتي بها مفردة، ثم يأتي بما هو أقل من الذرة ويقدِّم الأرض. وهذا كله من إعجاز أساليب القرآن التي أراد البعض من المستشرقين أن يعترضوا عليها، وكانت جميع اعتراضاتهم نتيجة لعجزهم عن امتلاك مَلَكة الأداء البياني. وإنْ عرضنا الرد على تساؤلاتهم نجد أن الحق سبحانه قَدَّم الأرض في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ لأنه سبحانه يتكلم عن أهل الأرض: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6021 {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] . وجاء أيضاً بالسماء، وهي السماء الدنيا التي يراها أهل الأرض. أما الآية الأخرى فهو سبحانه يقول: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [سبأ: 3] . والكلام هنا عن الساعة، وعلمها عند الله تعالى، ولم تنزل من السموات إلى السماء الدنيا حتى نقول للمكلَّفين في الأرض: قوموا ها هي الساعة. ولذلك جاء الحديث هنا عن السموات أولاً؛ لأن علم الساعة عند ربِّي، ولن ينزل إلا بمشيئته سبحانه. وهكذا جاء كل أسلوب لا بإجمال المعنى، ولكن بدقة جزئياته، فتكلم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، وآية سبأ عن العلم والذرَّة، والسماء والأرض، وكل آية جاءت الكلمات فيها بتقديم أو تأخير يناسب مجالها. ثم يقول الحق سبحانه: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] . ولنا أن نلتفت إلى أن الاستثناء هنا لا يُخْرِج ما قبله، بل كل شيْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6022 مكتوب في الكتاب المبين، ونحن في الدنيا نجد الإنسان إن كان له دَين عند آخر فهو يحتفظ بالوثائق المكتوبة التي تُسجِّل ما له وما عليه. ولكن، أيحتفظ الحق سبحانه بأعمالنا ونيَّاتنا مكتبوة كحجة له، أم حجة لنا؟ إنه سبحانه يعلم أزلاً كل أعمالنا، ولكنه يُسجِّل لنا بالواقع تلك الأعمال والنيات؛ لنعلم عن أنفسنا ماذا فعلنا؛ لتنقطع حجة من أساء إذا وقع به العقاب. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6023 وجاءت هذه الآية بعد كلامه الحق عن نفسه سبحانه بأنه عالم الغيب، ولا يخفى عليه شيء، وشاء الله سبحانه بذلك أن يعلّمنا أنه قد يفيض على بعض خلقه فيوضات الإمداد على قَدْر رياضات المرتاضين، فَهَبْ أن الله قد امتن عليك بنفحة، فإياك أن تقول إنها من عندك، بل هي من عند عالم الغيب سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وعلى ذلك فلا يقال: إن فلاناً قد عَلِم غيباً لأنه وليٌّ لله، بل لنقل: «إن فلانا مُعَلَّمُ غَيْبٍ» ؛ لأن الغيب ما غاب عن الناس، وما يغيب عنك ولا يغيب عن غيرك فهو ليس غيباً مطلقاً. ومثال ذلك: الرجل الذي سُرق منه شيء، هو لا يعرف أين يوجد الشيء الذي سُرق منه، ولكنه اللص يعرف، وكذلك من ساعد اللص وأخفاه وأخفى له المسروقات، كل هؤلاء يعلمون، وأيضاً الجن الذين كانوا في نفس مكان السرقة يعلمون، وهذا ليس غيباً مطلقاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6023 وأيضاً أسرار الكون التي كانت غيباً موقوتاً، مثل جاذبية الأرض، والسالب والموجب في الكهرباء، وتلقيح الرياح للسحاب لينزل الماء، كل ذلك كان غيباً في زمن ما، ثم شاء الحق سبحانه فحدَّد لكل أمرٍ منها ميعادَ كشفٍ، فصارت أموراً مشهورة. وقد شاء الحق سبحانه ذلك؛ ليعمل الإنسان ويجتهد ليكشف أسرار الكون. ومن العجيب أن الباحث قد يعمل من أجل كشف معين، فيصادف كشفاً آخر؛ لأن الله تعالى قد أذن لذلك الكشف الذي كان غيباً أن يولد، وإن لم يبحث عنه أهل الأرض. ومن اكتشف «البنسلين» رأى العفن الأخضر حول بعض المواد العضوية فبحث عن أسرار ذلك، واكتشف «البنسلين» . و «أرشميدس» الذي اكتشف قانون الطفو، واستفادت منه صناعات السفن والغواصات، وكل ما يسير في البحر، وقد اكتشاف قانون الطفو صدفة. إذن: ففي الكون غيب قد يصير مَشْهَداً، إما بمقدِّمات يتابعها خَلْقُ الله بالبحث، وإما أن تأتي صدفة في أثناء أي بحث عن شيء آخر. ومثال ذلك: عصر البخار الذي بدأ من رجل رأى إناء مُغَطّى يغلي فيه الماء، فضل غطاء الإناء يرتفع ليُخرج بعضاً من البخار، وانتبه الرجل إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6024 أن البخار يمكن أن يتحول إلى طاقة تجرّ العربات التي تسير على عَجَل، وهكذا جاء عصر البخار. إذن: فميلاد بعض من أسرار الكون كان تنبيهاً من الله تعالى لأحد عباده لكي يتأمل؛ ليكتشف سِرّاً من تلك الأسرار. وأغلب أسرار الكون تم اكتشافها صدفة، لنفهم أن عطاء الله بميلادها دون مقدمات من الخَلْق أكثر مما وُصِِل إليه بالعطاء من مقدمات الخلق. ولذلك تجد التعبير الأدائي في القرآن عن لونَي الغيب، تعبيراً دقيقاً لنفهم أن هناك غيباً عن الخلق جميعاً وليست له مقدمات، ولا يشاء الله سبحانه له ميلاداً، واستأثر الله بعلمه؛ فلا يعلمه إلا هو سبحانه. يقول الحق سبحانه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255] . هذا هو الغيب الذي يكشفه الله سبحانه لهم، إما بالمقدمات، أو بالصدفة، وقد نسب المشيئة له سبحانه، والإحاطة من البشر، وهذا هو غيب الابتكارات. أما الغيب الآخر الذي لا يعلمه أحد إلا هو سبحانه ولا يُجَليِّه إلا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيقول الحق عنه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6025 {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 2627] . إذن: فالحق سبحانه يفيض من غيبه الذاتي على بعض خَلْقه، والقرآن الكريم فيه الكثير من الغيب، وأفاضة الله تعالى على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتحققت الأحداث كما جاءت في القرآن. والحق سبحانه يهب بعضاً من خلقه بعضاً من فيوضاته، وقد أعطى الله سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعضاً من الهِبَات وحدَّد من يعطيه بعضاً من الغيب: {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 27] . وهي ليست للحصر؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسوة، وقال فيه الحق سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً} [الأحزاب: 21] . ومن يعمل بعمل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقتدي به؛ يهبه الله تعالى هِبةً يراها الناس فيعرفون أن مَنْ يتّبع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كقدوة يعطيه الله سبحانه الهبات النوارنية، ولكن هذه الهِبَة ليست وظيفة، وليست (دُكَاناً) للغيب، بل هي مِنْ عطاءات الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6026 وانظر إلى دقة القرآن حين يقول: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] . أي: أنه سبحانه لم يُعْطِ مفتاح الغيب لأحد، والوليّ من أولياء الله إنما يأخذ الهبة منه سبحانه، لكن مفتاح الغيب هو عند الله وحده. وعندما نتأمل قول الحق سبحانه: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] . نجد أن كلمة «وليّ» من وَلِيَهُ، يليه، أي: قريبٌ منه، وهو أول مَفزَع يفزع إليه إن جاءه أمر يحتاج فيه إلى معاونة من غيره، وإن احتاج إلى نصرة فهو ينصره، وخيره يفيض على مَنْ والاه. ومَنْ يقْرُب عالماً يأخذ بعضاً من العلم، ومَنْ يقرب قويّاً يأخذ بعضاً من القوة، ومَنْ يقرب غنيّاً، إن احتاج، فالغني يعطيه ولو قَرْضاَ. إذن: فالوَاليّ هو القريب الناصر المُعِين المُوالِي. وتطلق «الولي» مرةً لله سبحانه، وقد قال القرآن: {فالله هُوَ الولي} [الشورى: 9] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6027 لأنه سبحانه القريب من كل خَلْقه، عكس الخَلْق الذين يقتربون من بعضهم أو يتباعدون حسب إمكاناتهم، أما الله سبحانه وتعالى فهو الوليّ المُطلَق، فقُربه مِنْ خَلْقٍ لا يبعده عن خَلقٍ، ولا يشغله شيء عن شيء، فهو الوليّ الحقُّ، وهو سبحانه يقول: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق} [الكهف: 44] . فمن يحتاج إلى الولاية الحقَّة فَليلجأ إلى الله، وهو سبحانه يُفيض على الأوفياء لمنهجه من الولاية. ونجد التعبير القرآني الدقيق: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 257] . فهو سبحانه يقرب من عباده المؤمنين، والمؤمنون يقربون من الله تعالى في قول الحق سبحانه: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله} [يونس: 62] . إذن: فالولاية المطلقة لله، وإنْ قُيِّدت بشيء مضافٍ ومضافٍ إليه، فهي مرة تكون من المؤمنين لله، ومرة تكون من الله للمؤمنين. والحق سبحانه لا تحكمه قوانين؛ فبطَلاقة قُدرته سبحانه إذا رأى في إنسانٍ ما خَصْلة من خير، فيكرمه أولاً، فيصير هذا العبد طائعاً من بعد ذلك. وتسمع من يقول: إن فلاناً قد خُطف من المعصية أي: أنه كان عاصياً، ثم أحب الله تعالى خَصْلة خيرٍ فيه، فهداه. ومثال ذلك: الرجل الذي سقى كلباً، بل احتال ليسقيه بأن ملأ خُفَّه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6028 بالماء من البئر ليروي ظمأ الكلب؛ فغفر الله سبحانه وتعالى له سيئاته. هذا الرجل لم يكن ليروي الكلب نفاقاً للكلب، ولكن لأن الرجل شعر بالعطف على كائن ذي كبد رطبة. إذن: فليست المسائل عند الله تعالى آلية أو ميكانيكية، بل طلاقة قُدرته سبحانه تقدّر كل موقف كما قدَّرتْ اختلاف الخَلْق، ولذلك قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] . فليس عند الله تعالى قالب يضع فيه الخلق، بل سبحانه يخلق الطويل والقصير والسمين والرفيع والأشقر والزنجي، وهذا بعضٌ من طلاقة قدرته سبحانه، وبرحمته سبحانه قرب من خَلْقه الذين آمنوا أولاً، وقربه سبحانه منهم: {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] . فمن يتبع المنهج يأخذ النور، فإذا علم الله سبحانه عمله بمنهجه فهو سبحانه يُقرّبه قُرْباً أكثر فيعطيه هبةً اصطفائية يراها الذين حوله وقد يقتدون به. والحق سبحانه يريد من المؤمن الأدب مع خَلْق الله، فإذا علم سيئةً عن إنسان فعليه أن يسترها، لأن الحق سبحانه يحب السَّتْر ويحب من يَستر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6029 وأنت قد تكره إنساناً تعلم عنه سيئةً ما، وقد تكره كل حسنة من حسناته، فيريد الله ألاّ يحرمك من حسنات مَنْ له سيئة فيسترها عنك لتأخذ بعضاً من حسناته، ويأمرك الحق ألاّ تحتقر هذا المسيء؛ لأنه قد يتمتع بخَصْلة خير واحدة، فيكرمه الله سبحانه من أجلها أولاً، ثم يطيعه هذا العبد ثانياً. والحق سبحانه يقول في الحديث القدسي: «يا ابن آدم أنا لك محبٌّ فبحقّي عليك كن لي مُحِبّاً» . ويقول الله سبحانه في حديث قدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإنْ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» . وفي هذا القول يضع مسئولية القُرب من الله في يد الخَلْق، ويضيف الحق سبحانه: «وإن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبتُ إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» . ومن يريد أن يأتيه الله هرولة فليذهب إلى الله ماشياً. إذن: فالإيمان بالله يسلِّم المؤمن مفتاح القرب من الله. ومن يكن من أصحاب الخُلُق الملتزمين بالمنهج يُقرِّبْه الله منه أكثر وأكثر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6030 إذن: فمن الناس مَنْ يصل بطاعة الله إلى كرامة الله، ويدق على باب الحق، فينفتح له الباب، ومن الناس مَنْ يصل بكرامة الله أولاً إلى طاعة الله ثانياً. ولله المثل الأعلى: أنت كواحد من البشر قد يدق بابك إنسانٌ يحتاج إلى لقمة أو صدقة فتعطيه، وهناك إنسان آخر تحب أنت أن تعطيه، وعندما تعطيه يطيعك من منطلق الإحسان إليه، فما بالنا بعطاء الحق لعباده؟ إذن: فمنهم مَنْ يصل بكرامة الله إلى طاعة الله، ومنهم من يصل بطاعة الله إلى كرامة الله، وحين يصل الإنسان إلى القرب من الله، ويقرب الله من العبد، هنا يكون العبد في معية الله، وتفيض عليه هذه المعية كثيراً. وقد قال أبو العلاء المعري لمحبوبته: أنت الحبيبُ ولكني أعوذ بِهِ ... من أن أكون حبيباً غير محبوبِ أي: أنه يستعيذ بالله من أن يكون محباً لمن يرفض حبّه، ولكن محبة الله تختلف عن محبة البشر، وسبحانه لا يعامل محبيه كذلك، فأنت حين تحب الله يقرّبك أكثر وأكثر، ويسمَّي ذلك «المصافاة» ، فإذا أفاض الله سبحانه على بعض خَلْقه هِباتٍ من الكرامات فعلى العباد الذين اختصهم الحق سبحانه بذلك أن يُحسنوا الأدب مع الله، وألا يتبجَّح واحد منهم متفاخراً بعطاء الله سبحانه له. فالمباهاة بالكرامات تضيعها، ويسلبها الحق سبحانه من الذي يتبجَّح بها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6031 ويتفاخر ويتباهى، فمن تظاهر بالكرامة ليس له كرامة. إذن: فالحق سبحانه يريد أن يكون العبد دائماً في معيّيته، وهو سبحانه الذي بدأ وبيَّن بالآية الواضحة أنه سبحانه وليّ المؤمنين؛ ولذلك سيخرجهم من الظلمات إلى النور. فقال: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] . ونحن نعلم أنه سبحانه يأتي بالمحسَّات ليبيِّن المعنويات؛ لأن إلْفَ الإنسان أولاً بالمحسَّات، وهي أقرب إلى تقريب المراد، فحين يضرب الحق سبحانه لنا المثل بالكفر والإيمان، يصف الكفر بالظلمة، والإيمان بالنور، إنما يريد الحق أن يجعل لك المراد واضحاً موصولاً بمفهومك. وإذا كنا نتجنَّب معاطب الظلمات الحسية، أليس الأجدر بها أيضاً أن نتجنب معاطب الظلمات المعنوية، إن الظلمة الحسية تستر الأشياء فلا نرى الأشياء، وقد نرتطم بأضعف شيءٍ فنحطِّمه أو نصطدم بأقوى شيء فيحطمنا. إذن: فَحَجْب المرائي يسبِّب الكوارث، أما حين يأتي النور؛ فهو يبيِّن ملامح الأشياء فتسير على هُدىً وأنت مطمئن. وهَبْ أنك في مكان مظلم ويوجد شيء آخر في مكان منير، فأنت في الظلمة ترى مَنْ يوجد في النور، وهذه مسألة لم يفطن لتفسيرها علماء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6032 ما قبل الإسلام، حيث كانوا يظنون أن الرؤية إنما تحدث من انتقال شعاع من عين الرائي إلى المرئيِّ، حتى جاء «الحسن بن الهيثم» العالم الإسلامي واكتشف قوانين الضوء، وكشف خطأ ما سبقه من نظريات، وحدَّد أن المرئي هو الذي يصدر منه شعاع إلى الرائي، وإذا ما كان المرئي في ظُلمةٍ فلن يراه أحد، ولو كان هناك شعاع يخرج من الرائي؛ لرأى الإنسان في الظلام. إذن: أول ولاية من الله للمؤمنين أنه سبحانه يخرجهم من الظلمات إلى النور، والظلمة المعنوية أقوى من الظلمة الحسية، وكذلك النور المعنوي أقوى من النور الحسّي، فعالَمُ القيم قد يكون أقوى من عالم الحس؛ لأن الجبر في عالم الحسّ يمكن أن يحدث، أما في عالم القيم فهو أمر شاق؛ ولذلك قال الشاعر: جراحاتُ السنانِ لها التئامُ ... ولا يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُ ويقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] . و «ألا» كما أوضحنا من قبل أداة تنبيه من المتكلَم للمخاطب حتى لا تفوته كلمة واحدة مما يجيء في الخطاب. وقوله سبحانه: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [يونس: 62] . أي: لا خوف عليهم من غيرهم {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] أي: أن الحزن لن يأتي منهم، والخوف يكون من توقع شيء ضار لم يقع حتى الآن، ولكنه قد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6033 يحدث في المستقبل. وفي حياتنا اليومية نجد الأب يمسك بيد ابنه في الزحام خوفاً عليه، وقد ترى وليّاً من أولياء الله وقد أصيب ابنه في حادث أو مات الابن، تجد الوليّ في ثبات لأنه يعلم حكمة الله في قضائه، فلا تتطوع أنت بالخوف عليه. إذن: فالخوف يأتي من المستقبل، وهو أمر مرتقب، أما الحزن فهو إحساس يحدث على شيء فات. والحق سبحانه يقول: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] . والحزن على ما فات عبث؛ لأن ما فات لا يعود. وأولياء الله تعالى لا خوف عليهم؛ لأنهم دائماً بصدد معرفة حكمة الله، ومَنْ لا يعرف حكمة الله تعالى في الأشياء قد يقول: «إن فلاناً هذا مسكين» ؛ لأنك لا تعرف ماذا جرى له. وأما الحزن فهو مشاعر قلبية يريد الله من المؤمن أن تمر على باله. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين افتقد ابنه: «وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» ولكنه حزن الوَرَع الذي يتجلَّى في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6034 وبين الله سبحانه لنا شروط الولاية فيقول: {الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6035 والإيمان هو الأمر الاعتقادي الأول الذي يُبنى عليه كل عمل، ويقتضي تنفيذ منهج الله، الأمر في الأمر، والنهي في النهي، والإباحة في الإباحة. والتقوى كما علمنا هي اتقاء صفات الجلال في اله تعالى، وأيضاً اتقاء النار، وزاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صفات من تصدر عنه التقوى؛ لأنها مراحل، «فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصف المتقين: » هم قوم تحابُّوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لَعلَى نور «. وقد سئُل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن المتقين فقال:» الواحد منهم يزيدك النظر إليه قُرباً من الله «. وكأنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يشرح لنا قول الحق سبحانه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29] . وساعة ترى المتقي لله تُسَرُّ وتفرح به، ولا تعرف مصدر هذا السرور إلا حين يقال لك: إنه ملتزم بتقوى الله، وهذا السرور يلفتك إلى أن تقلده؛ لأن رؤياه تذكِّرك بالخشوع، والخضوع، والسكينة، ورقَّة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6035 السَّمْت، وانبساط الأسارير. والواحد من هؤلاء ينظر إلى الكون ولا يجد في هذا الكون أي خَلَل، بل يرى كل شيء في موضعه تماماً، ولا يرى أي قُبح في الوجود، وحتى حين يصادف القبح، فهو يقول: إن هذا القبح يبيِّن لنا الحُسْن، ولولا وجود الباطل ومتاعبه لما عشق الناسُ الحقّ، وهكذا يصير الباطل من جنود الحق. إن وجود الشرّ يدفع الناس إلى الخير؛ ولذلك يقال: كُنْ جميلاً في دينك تَرَ الوجود جميلاً؛ لأنك حين ترى الأشياء وتقبل قدر الله فيها، هنا يفيض الله عليك بهبات من الفيض الأعلى، وكلما تقرَّبت إلى الله زاد اقتراب الله سبحانه منك، ويفيض عليك من الحكمة وأسرار الخلق. ومثال ذلك: العبد الصالح الذي آتاه الله من عنده رحمة وعلَّمه من لدنه علماً، هذا العبد يعلّم موسى عليه السلام، فحين قارن بين خَرْق العبد الصالح لسفينة سليمة، ولم يكن يعلم أن هناك حاكماً ظالماً يأخذ كل سفينة غَصْباً؛ ولذلك ناقش موسى العبد الصالح، وتساءل: كيف تخرق سفينة سليمة؟ وهنا بيَّن له العبد الصالح أن الملك الظالم حين يجد السفينة مخروقة فلن يأخذها، وهي سفينة يملكها مساكين. وحين قَتل العبدُ الصالح غلاماً، كان هذا الفعل في نظر موسى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6036 جريمة، ولم يعلم سيدنا موسى ما علمه العبد الصالح أن هذا الولد سوف يسيء إلى أهله، وأمر الله العبد الصالح بقتله قبل البلوغ حتى لا يفتن أهله، وسوف يدخل هذا الولد الجنة ويصير من دعاميص الجنة. ويقال: إن من يموت من قبل البلوغ ليس له مسكن محدّد في الجنة، بل يذهب حيث يشاء؛ فهو كالطفل الصغير الذي يدخل قصراً، ولا يطيق البقاء في مكان واحد، بل يذهب هنا وهناك، وقد يذهب إلى حيث سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو أبو بكر الصديق، أو عند أي صحابي جليل. وأيضاً حين دخل سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح إلى قرية واستطعما أهلها فرفضوا أن يطعموهما وطلب الطعام. هو أصدق ألوان السؤال فأبى أهل القرية أن يطعموهما، وهذا دليل الخسَّة واللؤم؛ فأقام العبد الصالح الجدار الآيل للسقوط في تلك القرية. ولم يكن سيدنا موسى عليه السلام قد علم ما علمه العبدُ الصالح من أن رجلاً صالحاً قد مات وترك لأولاده كنزاً تحت هذا الجدار، وبناه بناية موقوتة بزمن بلوغ الأبناء لسن الرشد؛ فيقع الجدار ليحد الأبناء ما ترك لهم والدهم من كنز، ولا يجرؤ أهل القرية اللئام على السطو عليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6037 إذن: هذه هباتٌ من فيض الحق سبحانه على عباده الصالحين، وهو سبحانه وتعالى يجعل مَثَل هؤلاء العباد كالصواري المنصوبة التي تهدي الناس، أو كالفنار الذي يهدي السفن في الظلمة. ويقول الحق سبحانه: {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6038 والبُشرى: من البِِشْر والبشارة والتبشير، وكلها مأخوذة من البشرة، وهي الجلد؛ لأن أي انفعال في باطن النفس الإنسانية إنما ينضح على البشرة، فإذا جئت للإنسان بأمر سارٍّ تجد أثر هذا السرور على أساريره، وإن جئت للإنسان بخبر سيِّىء تجد الكدر وقد ظهر على بشرته، فالبشرة هي أول منفعل بالأحداث السارة أو المؤلمة. وحين يقال: «بشرى» فهذا يعني كلاماً إذا سمعه السامع يظهر على بشرته إشراق وسرور؛ لأنه كلام مبشِّر بخير. وحين «سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن البشرى، قال:» إنها الرؤية الصالحة تُرى للمؤمن أو يراها «، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة «. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6038 وقد أوحي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالرؤيا ستة أشهر، وأوحي إليه في اليقظة ثلاثة وعشرين عاماً، فإذا نسبت الستة أشهر إلى الثلاثة والعشرين عاماً، تجد أن الستة أشهر تمثل جزءاً من ستة وأربعين جزءاً. والرؤيا ليست هي الحُلْم؛ لأن الرؤيا هي شيء لم يشغل عقلك نهاراً، وليس للشيطان فيه دخل. والمثل العامي يقول:» الجوعان يحلم بسوق العيش «فإن كان ما يراه الإنسان في أثناء النوم له علاقة بأمر يشغله، فهذا هو الحلم، وليس للرؤيا، وإن كان ما يراه الإنسان في أثناء النوم شيئاً يخالف منهج الله، فهذه قذفة من الشيطان. إذن: فهناك فارق بين الرؤيا والحلم، وأضغاث الأحلام. البشرى إذن هي الرؤيا الصالحة، أو هي المقدمات التي تُشْعر خَلْق الله بهم فتتجه قلوب الناس إلى هؤلاء الأولياء، وقد تجد واحداً أَحبه الله تعالى في السماء،» فيقول الله سبحانه وتعالى لجبريل عليه السلام: «إني أحب فلاناً فأحبَّهُ. قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء فيقول: إن الله يَحب فلاناً فأحِبُّوه، فيحبه أهل السماء. قال: ثم يُوضع له القبول في الأرض» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6039 وساعة تراه مكتوباً له القبول، فالكل يُجمعون على أن في رؤيتهم لهذا المحبوب من السماء سَمْتاً طيباً، وهذه هي البشرى. أو أن البشرى تأتي لحظة أن يأتي مَلَكُ الموت، فيُلْقي عليه السلام، ويشعر أن الموت مسألة طبيعية، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] . أو ساعة يبيضُّ الوجه حين يأخذ الإنسان من هؤلاء كتابه بيمينه، وهذه بشرى في الدنيا وفي الآخرة. والحق سبحانه يقول: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 3031] . إذن: فهؤلاء الأولياء يتلقون من فيوضات الله عليهم بواسطة الملائكة ويتميزون عن غيرهم؛ لأن الواحد منهم قد يفرض على نفسه نوافل فوق الفروض؛ لأن الفروض هي أقل القليل من التكاليف. وقد يرى واحد منهم أن القيام بالفروض لا تناسب مع حبه لله تعالى؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6040 فيزيد من جنسها على ما فرض الله، ويصلِّي بدلاً من خمسة فروض عشرة أخرى نوافل، أو يصوم مع رمضان شهراً أو اثنين، أو يصوم يومي الاثني والخميس من كل أسبوع. وهذا دليل على أنه وجد أن الفروض قليلة بالنسبة لدرجة حبه لله تعالى، وأن الله تعالى يستحق أكثر من ذلك، وهذا معناه أن مثل هذا العبد قد دخل في مقام الود مع الله تعالى، وهنا يفيض الله سبحانه وتعالى عليه بما يشاء، وينال من رضوان الله ما جاء في الحديث القدسي: «من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجْلَهُ التي يمشي عليها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته» . وهكذا تختلف المقاييس بين عبد يحب الله تعالى ويؤدي فوق ما عليه، وعبد آخر يقوم بالتكاليف وحدها. ويُنهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذلك هُوَ الفوز العظيم} [يونس: 64] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6041 وما دام الحق سبحانه قد قال: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} فلن تجد أحداً قادراً على ذلك، كما أن الخلق مقهورون كلهم يوم القيامة؛ ومَنْ كان يبيح له الله تعالى أن يملك شيئاً في الدنيا لم يعد مالكاً لشيء، بدليل أن الكل سيسمع قول الحق سبحانه: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . وما دام الحق سبحانه قد وعد ببشرى الدنيا وبشرى الآخرة، فلا تبديل لما حكم به الله، فلا شيء يتأبَّى على حكم الله تعالى، والوعد بالبُشريات في الدنيا وفي الآخرة فوز عظيم مؤكد. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6042 تجيء هذه الآية بعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى اعتراضات الكفار، وإيذاءهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتكذيبهم له وقولهم فيه ما قالوه، وفيما قالوه ما أحزنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لذلك طلب منه الحق سبحانه ألاَّ ينفعل لما قالوه انفعال الحزين، فقد قالوا: ساحر، وكاذب، ومُفْتَرٍ، ومجنون، وقد نفى عنه الحق سبحانه كل ما قالوه، فلو كان محمد صلى عليه وسلم ساحراً فلماذا لم يسحرهم هم أيضاً، وهل للمسحور إرادة مع الساحر؟! إذن: كَذَّبَ قولَهم في أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سحر عبيدَهم وأولادَهم. وقالوا: مجنون، ولم يكن في سلوكه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أدنى أثر من جنون، وفنَّد أقوالهم هذه بقوله سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6042 {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 14] . فالمجنون لا يكون على خُلُق عظيم أبداً. وحين قالوا: إنه افترى القرآن، تحداهم أن يأتوا بسورة من مثل ما قال، وعجزوا عن ذلك رغم أنهم مرتاضون للشعر والأدب والبيان. وقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} [يونس: 65] لأن أقوالهم لا حصيلة لها من الوقوف أمام الدعوة؛ لأن {العزة للَّهِ جَمِيعاً} [يونس: 65] والعزة هي القوة، والغلبة، ويقال: هذا الشيء عزيز، أي: لا يوجد مثله، وهو سبحانه العزيز المُطْلَق؛ لأنه لا إله إلا هو لا يُغلَب ولا يُقهَر. وتلحظ حين تقرأ هذه الآية وجود حرف «الميم» فوق كلمة {قَوْلُهُمْ} وتعني: ضرورة الوقف هنا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6043 ولسائل أن يقول: كيف يلزم الوقف هنا مع أن القرآن الكريم مبنيٌّ على الوصل؛ وآخر حرف في كل سورة تجده مُنوَّناً، وليس في القرآن ما يُلزم الوقف للقارىء؟ وأقول رَدّاً على هذا التساؤل: إن العلماء حين لاحظوا ضعف مَلَكة اللغة؛ جاءوا بهذا الوقف ليتفهم القارىء الذي لا علم له بالبيان العربي كيف يقرأ هذه الآية، فهَبْ أن واحداً لا يملك فطنة الأداء، فينسب {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} [يونس: 65] إلى {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} [يونس: 65] . ويخطىء الفهم، ويظن معاذ الله أن العزة لله هي أمر يُحزِن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لذلك جاء العلماء بالوقف هنا لندقِّق القراءة ونُحْسِن الفهم. ولذلك علينا أن نقرأ {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} [يونس: 65] ثم نتوقف قبل أن نتابع القراءة {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} [يونس: 65ِ] ؛ وبهذا نفهم المعنى: يجب ألاَّ تحزن يا محمد؛ لأن أقوالهم لن تغيّر في مجرى حتمية انتصارك عليهم. ويريد الحق سبحانه هنا أن يطمئن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر محدد، هو أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مهمته هي البلاغ فقط، وليس عليه أن يُلزمهم بالإيمان برسالته والتسليم لمنهجه. وبيّن له الحق سبحانه: أنهم إذا ما صدُّوا بعد بلاغك، فلا تحزن مما يقولون؛ فأقوالهم لا يقوم عليها دليل، ولا تنهض لها حُجَّة، وقد جاء فيهم قول الحق سبحانه: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6044 وأقوالهم لن تقف في سبيل دعوتك، وسيُتمُّ الله نوره، ولا يوجد أعز من الله سبحانه وتعالى، ولن يجير أحد على أحداً، فهو سبحانه يُجير ولا يُجار عليه. وإذا كانت العزة هي القهر والغلبة، وقد تكون عزة حُجّة، وقد تكون عزة حلْف، وقد تكون عزة حكمة، وكل واحد من خلق الله سبحانه قد توجد له عزة مجالٍ ما أو محيط ما، لكن العزة لله سبحانه شاملة مطلقة في كل محيطٍ وفي كل مجال، شاملة لكل شيء وأي شيء. ولماذا لم يأت الحق سبحانه بأسلوب القَصْر في هذه الآية؟ أي: أن تأتي الصفة للموصوف وتنفيها عما عداه؛ كأن نقول: «لزيدٍ مالٌ ليس لغيره» . وإذا قدمنا الجار والمجرور وهو المتعلّق فنقول: «لفلانٍ كذا» ، وهذا يعني ان غير فلانٍ ليس له كذا. وإنْ قلنا: «فلان له كذا» فيصح أن نقول: «ولفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا» . أما إذا قلت: «لفلان كذا» فمعناها: امتناع أن يكون لغير فلان شيء من مثل ما قلت. وهنا يقول الحق سبحانه: {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} [يونس: 65] وجاء بالتأكيد ولم يأت لها بأسلوب القصر الذي يعطي العزة لله سبحانه وينفيها عن غيره؛ لأنه لا يوجد لهذه الآية مناهض، وهو كلام ابتدائي يخبر به الله سبحانه خبراً كونياً بأن العزة لله جميعاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6045 وما دام الحق سبحانه هو الذي يقول ذلك وهو خالق الخلق فلن تأتي قضية كونية تناقضها، ولو وجدت معاذ الله قضية كونية تناقضها، فالآية لن تكون صادقة. وهذا لم ولن يحدث أبداً مع آيات الحق سبحانه؛ لأنه هو خالق الكون، وهو مُنزل الآيات؛ فلا يمكن أن يحدث تناقض أبداً بين الكون وكلام خالق الكون سبحانه وتعالى: وقد حدث أن ادعى بعضهم العزة لنفسه وقالوا: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8] . وكان مغزى قولهم هو ادعاء العزة لأنفسهم، وادعاء الذلة للمؤمنين. إذن فالعزة قد ادُّعيت، وما دامت قد ادعيت فلماذا لم تأت بأسلوب القصر؟ نقول: لا، لقد شاء الحق سبحانه أن يقول: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] . فالعزة لله لا تتعداه، ولكنه سبحانه شاء أن تكون عزة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعزة المؤمنين من باطن عزة الله تعالى. وقول الحق سبحانه هنا: {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} أي: في كل ألوانها هي لله سبحانه وتعالى، إن كانت عزة حكمه فهو الحكيم، وإنْ كانت عزة القبض على الأمور فهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6046 العزيز، وإن كانت عزة الحلْم فهو الحليم، وإنْ كانت عزة الغضب والانتقام فهو المنتقم الجبّار، وكلُّ ألوان العزة لله تعالى: {هُوَ السميع العليم} [يونس: 65] . وما دامت العزة هي الغلبة والقهر، فالله سبحانه يسمع من يستحق أن يُقهر منه، وما دام الأمر فيه قول فهو يجيء بالسمع، وإنْ كان فيه فعل، فهو يأتي بصفة العليم، فهو السميع لما يُقال والعليم بما يُفعل. ونحن نعلم أن المنهيَّ عنه هنا هو: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} [يونس: 65] . لذلك كان المناسب أن يقال: {هُوَ السميع} أولاً. ويريد الحق سبحانه أن يدلِّل على هذه القضية دلالة كونية في آيات الله تعالى في الكون، وليس في الوجود أو الكون مَنْ يقف أمامه سبحانه؛ لذلك لا بد أن نلحظ أن قانون «العزة لله جميعاً» محكوم بأن لله تعالى ما في السموات وما في الأرض. لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6047 فالحق سبحانه إذن لن يَخرج كائنٌ مَنْ كان عن ملكه. وساعة تجد الحق سبحانه يبيِّن الشيء وضده، فهو يأتي بالقانون والإطار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6047 {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [البقرة: 284] . ومثال ذلك: حين تبع قوم فرعون موسى عليه السلام وقومه، قال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] . قالوا ذلك؛ لأنهم رأوا البحر أمامهم، فشاء الحق سبحانه أن يبيِّن لهم أن البحر لن يعوق مشيئته سبحانه، ولم ينفلت البحر من قوة الله تعالى؛ لأن لله ما في السموات وما في الأرض، والبحر منها؛ لذلك انفلق البحر، فكان فِرْقٍ كالطود العظيم. فلا شيء يخرج عن مُلكه سبحانه تعالى؛ ولذلك يأتي الحق سبحانه بالنقيض، فبعد أن جعل الحق سبحانه لهم مسلكاً في البحر، وكل فرْق كالطود العظيم، ويظل البحر مفلوقاً فيدخل قوم فرعون فيه. والحق سبحانه يقول لموسى عليه السلام: {واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24] . فيأمر الحق سبحانه البحر أن يعود كما كان؛ فيغرق قوم فرعون بعد أن أنجى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام ومن معه، فأهلك وأنجى بالشيء الواحد؛ لأنه سبحانه له ما في السموات وما في الأرض، وليبيِّن الحق سبحانه لنا أنه لا شيء في كون الله تعالى يقوم مقام عزته سبحانه أبداً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6048 وهناك مثال آخر: حين يقول نوح عليه السلام لابنه: {يابني اركب مَّعَنَا} [هود: 42] . فيردّ الابن قائلاً: {سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء} [هود: 43] . وهذا كلام صحيح من ناحية أن الجبل يعلو مستواه عن مستوى المياه، ولكن ابن نوح نسي أن لله تعالى جندياً آخر هو الموج؛ فكان من المغرَقين. صحيح أن ابن نوح فطن إلى أن السفينة سوف تستوي على «الجدوى» ، وأن من يركبها لن يغرق، وكذلك من يأوي إلى الجبل العالي، لكنه لم يفطن إلى الموج الذي حال بينه وبين الجبل؛ فكان من المغرقين. إذن: فكل كائن هو مؤتمر بأمر الله تعالى، وما دامت العزة لله جميعاً فمصداقها أن لله تعالى ما في السموات وما في الأرض، وليس هناك كائن في الوجود يتأبَّى على أن يكون جندياً من جنود الحق سبحانه، فيكون جندياً للإهلاك، وجندياً للنجاة في نفس الوقت. وقول الحق سبحانه هنا: (ألا) نعلم من أن (ألا) أداة تنبيه للسامع فلا يؤخذ على غرَّة ولا تفوته حكمة من حكم الكلام، وينتبه إلى أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6049 هناك خطاباً عليه أن يجمع عقله كله ليحسن استقبال ما في هذا الخطاب. ويقول الحق سبحانه: {ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} [يونس: 66] . ولقائل أن يقول: هناك كثير من الكائنات غير العاقلة، وقوله هنا {مَن} مقصود به الكائنات العاقلة؟ ولنا أن نتساءل للرَّدِّ على هذا القائل: وهل هناك أي شيء في الوجود لا يفهم عن الله؟ طبعاً لا، والله سبحانه وتعالى هو القائل عن الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 45] . إذن: فكل الكائنات في عُرف الاستقبال عن الله سبحانه سواء ب «مَنْ» أو ب «ما» ، وكل من في الوجود يفهم عن الله. ونلحظ أن الحق سبحانه يأتي مرة بالقول: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران: 83] . ومرة يقول الحق سبحانه: {ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} [يونس: 66] . كما جاء في هذه الآية التي نحن بصددها الآن. شاء الحق سبحانه ذلك، لأن هناك جنساً في الوجود يوجد في السماء ويوجد في الأرض، وهم الملائكة المُدَبِّرَات أمْراً، هؤلاء هم المقصودون بأن لله ما في السموات والأرض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6050 ولله سبحانه وتعالى أيضاً جنس في السموات لا يوجد في الأرض وهم الملائكة المهيمون العالين، وليس لهم وجود على الأرض، كما أن لله تعالى جنوداً في الأرض ليس لهم وجود في السماء، فإن لا حظنا الملائكة المدبرات أمراً، نجد أن قول الحق سبحانه: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [البقرة: 284] . مناسب لها. وإن لا حظنا أن لله ملائكة مهيمين في السماء، وجنوداً في الأرض لا علاقة لهم بالسماء يكون مناسباً لذلك قول الحق سبحانه: {ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} [يونس: 66] . وما دام كل شيء في الكون مملوكاً لله تعالى فلا شيء يخرج عن مراده سبحانه، فلا يوجد مثلاً غار يدخله كائن فراراً من الله؛ لأنه سبحانه قادر على أن يسد الغار، وإن شاء الله سبحانه أن يساعد من دخل الغار فهو تعالى يعمي بصر من يرقب الغار. إذن: فلن يجير شيء على الله تعالى، وستظل له صفة العزة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6051 لا يخدشها خادش من وجود الله في الكون. ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَآءَ} [يونس: 66] . ومعنى اتباعهم شركاء كأن هناك شركاء، رغم أن الأصل والحقيقة ألاَّ شركاء له سبحانه. إذن: فهم يتبعون غير شيء؛ والدليل على ذلك موجود في طي القضية، فهم يبعدونهم من دون الله تعالى، ومعنى العبادة أن يطاع أمر وينهى نهي، وما يعبدونه من أشياء لا أوامر لها ولا نواهي؛ فليس هناك منهج جاءوا به. إذن: فلا ألوهية لهم. إذن: فالأصل ألا شركاء لله تعالى، ولو كان له شركاء لأنزلوا منهجاً ولأوجدوا أوامر، وكان لهم نواهٍ؛ لأن الذي يقول: «اعبدني» إنما يحدد طريقة وأسلوب العبادة. وهاتوا واحداً من الذين تتبعونهم وتدعون لهم يكون له منهج، ولن يستطعيوا ذلك، ولاحق سبحانه هو القائل: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] . أي: أننا لو افترضنا أن هناك آلهة ولها مظهر قوة كالشمس التي تضيء والقمر الذي ينير، والمطر الذي ينزل من السماء، والملائكة التي تدبِّر الأمر، لو صدَّقنا أن كل هؤلاء آلهة، فهم سيبحثون عن الإله الواحد الأحد؛ ليأخذوا منه القوة التي ظننتم أنها لهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6052 ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] . إذ لو كان هذا الأمر صحيحاً لكانت هناك ولايات إليهة. ولذلك قال الحق سبحانه: {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة} [الإسراء: 57] . وهم قالوا إنهم يعبدون الملائكة، وعليهم أن يعلموا أن الملائكة نفسها تعبد الله سبحانه وتعالى، وما دام لا يوجد شركاء لله لتتبعوهم؛ إذن: فأنتم تتبعون الظن. لذلك جاء قول الحق سبحانه: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [يونس: 66] . ونحن نجد الذين أولعوا بأن يُوجِدوا في القرآن ظاهر تعارض ليشكِّكوا فيه، قالوا: إن هذه الآية مثال على ذلك؛ فيقولون: في بداية الآية يقول: {وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَآءَ} [يونس: 66] . فينفي أن المشركين يتبعون شركاء لله، ثم يأتي في آخر الآية فيقول إنهم يتَّبعون الظن والخرص، ففي أولها ينفي الاتباع، وفي آخرها يثبته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6053 وهذا جهل ممن قال بهذا وادعى أن هناك تناقضاً في الآية، فالله سبحانه ينفي أن يكون ما يدعوه هؤلاء المشركون شركاء لله في ملكه، فللَّه من في السموات ومن في الأرض، ولكنه يثبت أنهم يتَّبعون الظن والخرص والتخمين. ونقول: ما هو الظن؟ وما هو الخرص؟ إن الظن حكم بالراجح كما أوضحنا من قبل في النسب من أن هناك نسبة إنْ لم تكن موجودة فهي مشكوك فيها، أو نسبة راجحة، أو أن نسبة تساوي فيها الشك مع الإثبات، فإنْ كان الشك مساوياً للإثبات فهذا هو الشك. وإن رجحت، فهذا هو الظن. أما المرجوح فنسميه وهماً. الظن إذن حكم بالراجح. والخًَرْص: هو التخمين، والقول بلا قاعدة أو دليل. والحق سبحانه يقول هنا: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [يونس: 66] . والقرآن حين يوجه خطاباً فهو يأتي بالخطاب المستوعب لكل ممكن، وهو سبحانه حكم عليهم هنا أنهم يتَّبعون الظن والخرص. ونحن نعلم أن الكافرين قسمان: قسم يُعْلم حقيقة الشيء، ولكنه يغيّر الحقيقة إلى إفك وإلى خَرْص، وقسم آخر لا يعرف حقيقة الشيء، بل يستمع إلى من يعتقد أنه يعرف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6054 إذن: فهناك مُتَّبِع بكسر الباء وهناك مُتَّبًَع بفتح الباء المُتَّبَع بفتح الباء يعلم أن ما يقوله هو كلام ملتوٍ، يشوّه الحقيقة ويزينها، أما المتّبع بكسر الباء فيظن أنه يتبع أناساً عاقلين أمناء فأخذ كلامهم بتصديق. إذن: فالمتبع (بكسر الباء) يكون الظن من ناحيته، أما المتبع (فتح الباء) فيكون الخَرْصو الكذب والافتراء من ناحيته؛ ولذلك يقول لنا الحق سبحانه: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] . هؤلاء إذن يصدِّقون ما يقال لهم؛ لأنهم أميُّون، والكلام الذي يقال لهم راجح، وهم لو فكروا بعقولهم لما انتهوا إلى أنه كلام راجح. أما الآخرون فيقول فيهم الحق سبحانه: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 79] . وهؤلاء هم الذين يأتي منهم الخَرْص والإفك وقول الزور والبهتان. إذن: فالكفار إن كانوا من الأميين فهم من أهل الظن، وينطبق عليهم قول الحق سبحانه: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [يونس: 66] . وإن كانوا من القادة والرؤساء فهؤلاء هم من ينطبق عليهم قول الحق سبحانه: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [يونس: 66] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6055 ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6056 وشاء الحق سبحانه بعد أن بيَّن الإيمان والمؤمنين، وما يمكن أن يدَّعيه الكافرون في نبيِّ الرسالة، وبعد أن بيَّن المنهج، ها هو سبحانه يأتي بالكلام عن آياته سبحانه في الكون تأييداً للمطلوب بالمجود. فالمطلوب أن نؤمن برسول يبلِّغ منهجاً عن الله؛ ليكون هذا المنهج نافعاً لنا، وإنْ أراد أحد دليلاً على ذلك فلينظر إلى الآيات التي وجدت للإنسان من قبل أن يُكلِّف، أهي في مصلحته أم غير مصلحته؟ وما دامت الآيات الموجودة في الكون والمسخَّرة للإنسان تفيد الإنسان في حياته، فلماذا لا يشكر من أعطاه كل تلك النعم، وقد أعطى الحق سبحانه وتعالى الإنسان من قبل التكليف الكثير من النعم، وفور أن يصل إلى البلوغ يصير مكلَّفاً. إذن: فالله سبحانه لم يكلِّف أحداً إلا بعد أن غمره بالنعم النافعة له باعتقاد من العبد وصدق من الواقع. فإذا ما جاء لك التكليف، فَقِسْ ما طُلِب منك على ما وُجِد لك، فإذا كنت تعتقد أن الآيات الكونية التي سبقت التكليف نافعة لك قبل أن يطلب منك «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» ؛ فَخُذْ منها صدقاً واقعاً يؤيد صدق ما طُلِب منك تكليفاً، فكما نفعك في الأولى، فالحق سبحانه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6056 سينفعك باتباعك التكليف، واستقبلْ حركة الحياة على ضوء هذا التكليف؛ لتسعد. ونحن نعلم أن الأصل في الإنسان أن يرتاح أولاً ليتحرك، ثم يتعب، ثم يرتاح؛ ولذلك نجد التكاليف قد جاءت على نفس المنوال، فقد أراحك الحق سبحانه إلى سن البلوغ وأخذت نعم الله تعالى وتمتعت بها إلى سن البلوغ، ارتحت اختياراً، وارتحت في مراداتك، ثم تجيء «افعل» و «لا تفعل» لتلتزم بما يُصْلِح لك كل أحوالك. وإذا كان التكليف سيأخذ منك بعضاً من الجهد، فهناك فاصل زمني للراحة، وأنت في حياتك تجد وقتاً للراحة، ووقتاً للحركة، والراحة تجعلك تسعى بنشاط إلى الحركة، والحركة تأخذ منك الجهد الذي تحب أن ترتاح بعده. إذن: فالحركة تحتاج للراحة، والراحة تحتاج للحركة. وجاء الحق سبحانه إلى الفترة الزمنية المسماة «اليوم» ، فبيَّن لنا أنه كما قسَّم الوجود الإنساني إلى مرحلتين: الأولى: هي ما قبل البلوغ ولا تكليف فيها. والثانية: هي ما بعد البلوغ وفيها التكليف. فقد قسَّم الله سبحانه أيضاً «اليوم» إلى وقت للراحة ووقت للحركة، فقال الله تعالى {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6057 فكما خلق سبحانه لنا اليوم وفيه وقت للراحة، ووقت للحركة، كذلك شرع الحق سبحانه منهج الدين؛ لتستقيم حركة الحياة؛ لأن الإنسان الخليفة في الأرض لا بد أن يتحرك، لا بد أن تكون حركته على مقتضى «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» ، وما لم يَرِدْ فيه «افعل» و «لا تفعل» فهو مباح؛ إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله. وكل فعل، وكل نهي يتطلب حركة، وإياك أن تتصور أن النهي لا يتطلب حركة؛ لأنك تتحرك في أمر ما ثم يأتيك قرار التوقف، وقد تتوهم أن التوقف لا يحتاج إلى حركة؛ لأنه سلبك ملكة القيام بما تعمل، ولكنك تنسى أن هناك حركة داخلية، وهي الدوافع التي كانت تلح عليك أن تقوم بما تشتهيه نفسك ولا يواكب منهج الله، وأنت تكبت تلك الدوافع وتكبح جماحها؛ لأن الله سبحانه قد أمرك بذلك. وما دامت هناك حركة فلا بد أن يأتي منها تعب؛ لذلك جعل الله تعالى لك حقّاً في الراحة. وكذلك عُمْر الإنسان، لم يكلِّف الله تعالى الإنسان إلا بعد البلوغ، وترك له الفترة الأولى من عمره دون تكليف منه وحساب، لكنه سبحانه لم يقطع عنه التكليف في تلك المرحلة بتاتاً، وإنما منع حسابه على ما «يفعل» أو «لا يفعل» ، وترك مسئولية التدريب على التكليف للأب مثلاً، فالأب يقول لابنه: «لا تكذبْ» فإن كذب؛ فالأب يعاقبه، وهكذا يكون الأمر من الوالد، والنهي للولد والأمر والنهي يتطلب ثواباً أو عقاباً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6058 ويبيِّن لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الأمر فيقول: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين» . والذي يأمرهنا الابن بالصلاة هو الأب، وهو أيضاً الذي يعاقب على ترك الصلاة، وهو الذي يثيب ابنه إن أراد أن يجعل الصلاة محبوبة للابن، وأن يجعل للابن انساً بالعبادة. وحين يكلِّف الأب ابنه بالصلاة، فالابن يطيع؛ لأن الأب هو الذي يقضي حاجات الابن، ويحقق له مصالحه، والابن يعلم أن والده لن يكلفه إلا بما يحقق تلك المصالح، وهو يفعل ذلك؛ لأنه يحبه؛ لذلك جعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأمر والنهي من النافع للابن؛ لتوجد حيثية قبول في النفس. وما إن يأت البلوغ فيكون التكليف من الله والأمر من الله، والثواب والعقاب منه سبحانه. إذن: فالأمر والنهي قبل البلوغ يأتيان من الأب؛ ليتعود الإنسان استقبال الأمر والنهي من ربه ورب أبيه. وإذا كانت الحياة والسير فيها على ضوء منهج الله يقتضي حركة في «افعل» و «لا تفعل» فلا بد أن يحتاج الإنسان إلى راحة من الحركة، لذلك يبيِّن لنا الله سبحانه أنه جعل في «اليوم» ليلاً ونهاراً، ولكلٍّ مهمة، فإياك أن تضع مهمة شيء مكان شيء آخر؛ حتى لا ترتبك الأمور، ولكن الظروف قد تضطرك إلى ذلك، فهناك من يسهر للحراسة، وهناك من يسهر للعمل في المخابز، أو إعداد طعام الإفطار للناس؛ ولذلك فهناك احتياط قدري، فقال الحق سبحانه في آية ثانية: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6059 {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ} [الروم: 23] . لأن الحق سبحانه قد علم أزلاً أن هناك مصالح لا يمكن إلا أن تكون ليلاً، فالذي يعمل ليلاً يرتاح نهاراً، ولو أن الآية جاءت عمومية؛ لقلنا لمن ينام بالنهار: لا، ليس هذا وقت السكن والراحة. ولكن شاء الحق سبحانه أن يضع الاحتياطيَّ القدريَّ؛ ليرتاح من يتصل عمله بالليل. وهنا يقول الحق سبحانه: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} يونس: 67] . ونحن نعلم أن هناك فارقاً بين «الخَلْق» ، و «الجَعْل» ، و «المِلْك، والمثال على الخلق: أنه سبحانه خَلَق الزمن، ثم جاء لهذا الزمن ليجعل منه ليلاً ونهاراً. إذن: فالجعل هو توجيه شيء مخلوق لمهمة. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى وهو منُزَّه عن أي تشبيه أو مثل: تجد صانع الفخَّار وهو يمسك بالطين؛ ليجعل منه إبريقاً، فهو يصنع الطين أولاً بأن يخلط الماء بالتراب ويعجنها معاً، ثم يجعل من الطين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6060 إبريقاً أو اصُصَ زرع أو زهرية ورد، وهو بذلك إنما يحوِّل مخلوقاً إلى شي له مهمة. والزمن كله لله سبحانه، جعل منه قسم الليل، وقسم النهار، مثلما خلق الإنسان، ووجَّه جزءاً منه؛ ليجعله سمعاً، وجزءاً آخر؛ ليجعله بصراً، وجزءاً آخر؛ ليصير مخاً، وجزءاً آخر؛ ليكون رئة، كل ذلك مأخوذ مما خلقه الحق سبحانه. أي: أنه سبحانه جعل أشياء مما خلق أصلاً؛ لتؤدي مهمة للمخلوق. وفي حياتنا ولله المثل الأعلى نجد من يغزل من القطن خيوطاً، وهناك من ينسج من تلك الخيوط قماشاً، وبعد ذلك نجد من يأخذ هذا القماش؛ ليجعل منه جلباباً أو بنطلوناً أو قميصاً أو لحافاً. إذن: فالجعل هو أخذ من شيء مخلوق لمهمة. والخلق قد يترتب عليه مِلْك، والجعل أيضاً قد يترتب عليه مِلْك؛ فمن عمل قِدْراً من الطين هو مالكه، ومن جعل من الطين إبريقاً إنما يملكه. وهكذا نجد الخَلْق والجَعْل قد يترتب عليهما ملكية ما، لكن الملكية المنسحبة بعد الخلق والجعل تجعلك تنتفع بالأشياء وقد لا تملكها؛ لذلك نجد قول الحق سحبانه: {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} [يونس: 31] . والحق سبحانه خلق لنا الأنعام، وذلَّلها لنا، وملَّكها لنا، وإذا قال الحق سبحانه:» مِلْك «فملكيته سبحانه لا تنتهي لأحد أبداً سواء من الخلق أو الجعل، بل يَظل مملوكاً؛ ولذلك قلنا: إن نقل الأعضاء هو تحكُّم فيما لا يملكه المخلوق، بل يملكه الخالق سبحانه وتعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6061 يذكر الحق سبحانه الليل والنهار فيقول: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] . وكان مقتضى الكلام أن يقول: جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتتحركوا. وشاء سبحانه أن يأتي هنا بالأداء القرآني المعجز فقال: {والنهار مُبْصِراً} . فهل النهار هو الذي يُبصر أم نحن؟ هل النهار مُبصِر أم مُبصَر فيه؟ وقديماً لم يكونوا قد وصلوا إلى الحقيقة العلمية التي وصلنا إليها الآن، فقد كانوا يعتقدون أن الضوء يخرج من العين إلى المرئي فتراه، إلى أن جاء «الحسن بن الهيثم» العالم العربي المسلم، وأوضح بالتجربة أن الضوء إنما ينعكس من المرئي إلى العين، بدليل أن المرئي إن كان في النور وأنت في الظلام، فأنت تراه وإذا كان الأمر بالعكس فانت لا تراه. إذن: فقد سبق القرآن كل النظريات، وبيَّن لنا أن النهار إنما يأتي بالضوء فينعكس الضوء من الكائنات والموجودات إلى العين فتراه. إذن: فالنهار هو المبصر؛ لأنه جاء بالضوء اللازم لانعكاس هذا الضوء من المرائي إلى العيون. ونحن نجد القرآن حين يتعرض لليل والنهار يقول: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6062 {وَمِنْ آيَاتِهِ ايل والنهار} [فصلت: 37] . ويقول: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] . وهي مبصرة كما أثبت الحسن بن الهيثم العالم المسلم، وإن كانت في ظاهر الامر مُبْصَرٌ فيها. ويعطي لنا الحق سبحانه تجربة حية مع موسى عليه السلام، وذلك في قوله سبحانه لموسى عليه السلام: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 1720] . وشاء الحق سبحانه ذلك؛ ليتعرف موسى بالتجربة على ما سوف يحدث من عصاه أمام فرعون، ثم أمام السحرة، ثقة منه سبحانه أن موسى حين يراها تنقلب إلى حية أمام عينيه لأول وهلة سوف يفزع؛ فيطمئنه الحق سبحانه بقوله: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21] وكانت المرة الأولى لتحوُّلِ العصا إلى حية، هي تجربة للاستعداد؛ حتى لا يجزع موسى عليه السلام أو يخاف لحظة أن يمر بالتجربة العملية، وحتى يقبل على تقديم المعجزة وهو واثق تمام الثقة أمام فرعون. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6063 ثم قال الحق سبحانه لموسى عليه السلام: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل: 12] . والجيب: هو المكان الذي تنفذ منه الرقبة في الجلباب ويسمى (القبة) ، فلا يظن أحد أن الجيب المقصود هنا هو مكان وضع النقود؛ لأن مكان وضع النقود قديماً كان يوجد من داخل الجلباب، مثل جيب (الصديري) الذي يرتديه أهل الريف، وقد سُمِّي الجيب الذي نضع فيه النقود جيباً؛ لأن اليد لا تذهب إلى الجيب إلا إذا دخلت في الفتحة التي تخرج منها الرقبة. وقد قال الحق سبحانه لموسى عليه السلام: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [النمل: 12] . ويخبره الحق سبحانه: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل: 1213] . هكذا كانت الآيات مبصرة وكأنها تقول للعين: أبصريني. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6064 وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] . ولم يقل: لتتحركوا فيه، بل جاء بما يضمن سلامة الحركة، فقال سبحانه: {مُبْصِراً} لأن الضوء الذي ينعكس على الأشياء هو الذي يحفظ للإنسان سلامة الحركة. ولكن البعض من الناس في زماننا يستخدمون نعمة الكهرباء في الإسراف في السهر، وحين يأتي الليل يسهرون حتى الصباح أمام جهاز (التلفزيون) أو (الفيديو) أو في غير ذلك من أمور الترفيه، ثم ينامون في النهار، وينسون أن الليل للرقود، والنهار للعمل. وقد ثبت أن للضوء أثراً على الأجسام، فالضوء يؤثر في الكائن الحي، وقد سبق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك الاكتشاف بزمان طويل وقال: «أطفئوا المصابيح إذا رقدتم» ؛ وذلك حتى لا ينشغل الجسم بإشعاعات الضوء التي تتسبب في تفاعلات كيماوية في الجسم. لذلك أقول دائماً: خذوا الحضارة بقواعد التحضير لها؛ لأننا يجب أن نتيح للفلاح أن يذهب إلى حقله والعامل إلى مصنعه؛ لأن السهر ضار، وإذا ادَّعى الإنسان أنه هو الذي تحضَّر، فليحترم قيمة العمل الذي يصنع الحضارة؛ لأن الآلة التي يسهر لمراقبتها ومشاهدتها هي إنتاج أناس يلتزمون بقواعد الحضارة؛ واحترام قيمة العمل في النهار، وقيمة الترفيه في الوقت المخصص. نحن نسيء استخدام أدوات الحضارة، فالزمن الذي وفَّرته الثلاجة للزوجة؛ حتى لاتقف في المطبخ نصف النهار لتعد الطعام، وصارت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6065 تطهو وجبات ثلاثة أيام وتحفظها في الثلاجة، وتستخدم الغسالة الكهربائية فتنهي الغسيل في ساعة من الزمن، لكن بقية الوقت يضيع أمام (التلفزيون) ولا تلتفت إلى تربية الأبناء. وهكذا يسيء البعض استخدام الآلات المتحضرة، وفي هذه الإساءة نوع من التخلف، فإذا أخذنا الحضارة بمنطقية فهذا هو التحضر. وعلى سبيل المثال: أقول لمن يركب سيارة: إياك أن تسرع بها في طريق متربة حتى لا يثور الغبار ويملأ صدور الناس بالحساسية. وإياك أن تهمل صيانة سيارتك حتى لا يفسد الموتور؛ ويخرج العادم الضار بصحة الناس والبيئة، فلا يسافر الإنسان في الطريق المتربة أو بسيارة غير جيدة الصاينة؛ فيصيب صدور الناس بالمرض، ويصيب الزروع ويفسد الهواء. ويجب ألاَّ نأخذ الحضارة بتلصص، إنما علينا أن نرتقي إلى مدارجها بصيانة أساليبها؛ لأن من لا يأخذ الحضارة بقواعدها هو من يتخلف رغم تقدُّم الآلة، فتصير الآلة أكثر تحضُّراً منه. إذن: فإن أخذنا كل أمر بمهمته فحن نحقق الراحة لأنفسنا ولغيرنا. ولذلك قلنا في تفسير قول الحق سبحانه: {واليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 12] . وإن بدا للإنسان أن هناك تعارضاً بين غشيان الليل (أي: تغطيته للمرئيات) وتجلِّى النهار (أي: كشف المرئيات) فهذا ليس تعارضاً، بل هو التكامل؛ لأن حركة النهار تتولد من الليل، وراحة الليل تتولد من النهار. ثم يقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6066 {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] . وهذا الخلق للذكر والأنثى هو للتكامل، لا للتناقض، هكذا جاء الحق سبحانه بنوعين: الأول: هو الزمن ليلاً ونهاراً. والثاني: هو الإنسان ذكراً وأنثى. ويقول الحق سبحانه: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] . أي: أن حركتكم هي الموصِّلة إلى غايتكم، والحركات شتى (أي: مختلفة) ، سواء في الليل أو النهار أو للذكر أو للأنثى، فإن خلطنا الحركة وعبثنا بأنظمة الحياة، فالحياة ترتبك، ونعاني من مرارة التجربة إلىأن تتعقد الأمور، فنبحث لها عن حلول. وقد نادينا أن تعمل المرأة نصف الوقت لتعطي البيت بعضاً من الوقت، أو أن تعتني بالبيت إن كان لها ما يكفيها من دخل، أو كان لزوجها ما يكفي لحياة الأسرة، ولكن أحداً لم يلتفت إلى ذلك إلا بعد مرارة التجارب. وهناك مثال آخر: في قول البعض أن الليل في تلك البلاد المتحضِّرة لا ينتهي وأنت تجد السهر هناك حتى الصباح، وعندما أسمع مثل هذا القول أقول: إن هذا ليس في مصلحة سكان تلك البلاد؛ لأن الليل يجب أن يكون سباتاً لتأتي الحركة المنتجة في النهار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6067 إذن: فالآفة أن تنقل مهمة نوع إلى مهمة نوع آخر، سواء أكان في الزمان أو في الإنسان، واقرأ جيداً قول الحق سبحانه: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] . فكل فرد من أفراد الكون له مهمة وله سعي يختلف عن سعي الآخرين. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يُنهي الحق سبحانه الآية فيقول: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67] . ولقائل أن يقول: لم يقل «إن في ذلك لآيات لقوم يبصرون» . ونقول: لننتبه إلى أن الحق سبحانه حين يتكلم عن زمان فهو يبيِّن في هذا الزمان مهمته، وهو القائل في صدر الآية ووسطها: {جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] . فالعلَّة في هذه الآية هي سكون الليل، لا حركة النهار، والعين في الليل لا تؤدي مهمتها، بل السمع هو الذي يؤدي مهمته. والحق سبحانه هو القائل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] . أي: أن أحداً لن يستطيع الحركة في مثل هذا الليل السرمدي ولا أحد سيتبيَّن شيئاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6068 والحق سبحانه هو القائل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 72] . إذن: فقد جاء الحق سبحانه في آية الليل بالسمع، وجاء في آية النهار بالأبصار، وبعد أن تكلم الله سبحانه عن مجال الحركة بالنهار والراحة في الليل، يأتي الكلام عن الينبوع الذي يجب أن تَصْدُرَ عنه الحركة أو السكون، وهو ضرورة الامتثال لأمر إله واحد حتى لا تصطدم حركتك بآمر إله آخر يقول ما يناقض حركة الإله الأول. وكما تتحرك في النهار، وترتاح في الليل لا بد أن تكون حركتك صادرة عن أمر واحد، هذا الأمر الواحد صادر من الآمر الواحد، وهو الله تعالى الذي تعبده بلا شريك، ومن يقول بغير ذلك إنما يربك حركة الحياة. والله سبحانه يقول: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] . ولذلك يقول الله سبحانه بعد ذلك: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6069 ونفس نص الآية الكريمة يكذِّبهم فيما يدَّعونه. ومثال ذلك: أنك حين تقول: «اتخذ فلان بيتاً» أي: أن فلاناً له ذاتية سابقة على اتخاذه للبيت، وبها اتخذ البيت، فإذا قيل: {اتخذ الله وَلَداً} [يونس: 68] . فهذا اعتراف منهم بكمال الله تعالى وذاتيته قبل أن يتخذ الولد. وهم قد اختلفوا في أمر هذا الولد، فمنهم من قال: إن الملائكة هن بنات الله وكذَّبهم الحق سبحانه في ذلك، ومنهم من قال: عزير ابن الله وهم اليهود وقد كذَّبهم الله سبحانه في ذلك، وطائفة من المسيحيين قالوا: إن المسيح ابن الله، وكذَّبهم الحق سبحانه في ذلك. ثم ما الداعي أن يتخذ الله الولد؟ هل استنفد قوته حتى يساعده الولد؟ { وهل يمكن أن يضعف سبحانه معاذ الله فيمتد بقوة الولد أو يعتمد عليه؟} مثلما يقال حين يواجه شيخٌ شابّاً، ويعتدي الشاب على الشيخ، فيقال للشاب: احذر؛ إن لهذا الشيخ ولداً أقوى منك؛ فيرتدع الشاب، أو أن يقول الشيخ للشاب: إن أبنائي يفوقونك في القوة، وفي هذا اعتداد بالأولاد. ويريد الحق سبحانه أن يغفل كل هذه الدعاوي ولتكون حركة الحياة متماسكة متلازمة، لا متعارضة ولا متناقضة؛ لذلك ينبغي أن يكون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6070 المحرِّك إلهاً واحداً تصدر منه كل الأوامر، فلا تعارض في تلك الأوامر؛ لأن الأوامر إن صدرت عن متعدد فحركة الحياة تتصادم بما يبدد الطاقة ويفسد الصالح. ولذلك لا بد أن يكون الأمر صادراً من آمر واحد يُسْلَّم له كل أمر، وهذا الإله منزَّه عن كل ما تعرفه من الأغيار، فله تنزيه في ذاته؛ فلا ذات تشبه ذاته، ومنزَّه في صفاته؛ فلا صفة تشبه صفته، ومنزَّه في أفعاله؛ فلا فعل يشبه فعله. وحتى نضمن هذه المسألة لا بد أن يكون الإله واحداً، ولكن بعضاً من القوم جعلوا لله شركاء، ومن لم يجعل له شريكاً، توهَّم أن له ابناً وولداً. ونقول لهم: إن كلمتكم: {اتخذ الله وَلَداً} [يونس: 68] ترد عليكم؛ لأن معنى اتخاذ الولد أن الألوهية وُجِدَت أولاً مستقلة، وبهذا الألوهية اتخذ الولد. ومن المشركين من قال: إن الملائكة بنات الله. فردَّ عليهم الحق سبحانه: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 2122] . والكمال كله لله سبحانه فهو كمال ذاتي؛ ولذلك يأتي في وسط الآية ويقول تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6071 {سُبْحَانَهُ هُوَ الغني} [يونس: 68] . وسبحانه تعني: التنزيه، وهو الغني أي: المستغني عن مُعِين كما تستعينون أنتم بأبنائكم، وهو دائم الوجود؛ فلا يحتاج إلى ابن مثل البشر، وهم أحداث تبدأ وتنتهي؛ لذلك يحبون أن يكون لهم أبناء كما يقول الشاعر: ابني يا أنا بعد ما أقَضي ... ويقال: «من لا ولد له لا ذِكْر له» ، كأن الإنسان لما علم أنه يموت لا محالة أراد أن يستمر في الحياة في ولده. ولذلك حين يأتي الولد للإنسان يشعر الإنسان بالسرور والسعادة، والجاهل هو من يحزن حين تلد له زوجته بنتاً؛ لأن البنت لن تحمل الاسم لمن بعدها، أما الولد والحفيد فيحملان اسم الجد، فيشعر الجد أنه ضمن الذِّكْر في جيلين. إذن: فاتخاذ الولد إما استعانة وإما اعتداد، والحق سبحانه غنيٌّ عن الاستعانة، وغني عن الاعتداد؛ لأنك تعتد بمن هو أقوى منك، وليس هناك أقوى من الله تعالى، وهو سبحانه لا يحتاج لامتداد؛ لأنه هو الأول وهو الآخر، وعلى ذلك ففكرة اتخاذ الولد بالنسبة لله تعالى لا تصح على أي لون من ألوانها. ولذلك يقول الحق سبحانه مرادفاً لتلك الفكرة: {سُبْحَانَهُ} لأنها تقطع كل احتمالات ما سبقها، ويُتْبعِ ذلك بقوله: {هُوَ الغني} لأنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6072 غني عن اتخذا الولد، وغني عن كل شيء، وقوله: {سُبْحَانَهُ} تنزيه له، والتنزيه: ارتفاع بالمُنَزَّه عن مشاركة شيءٍ له في الذات أو الأفعال. وإذا ورد شيء هو لله وصفٌ ولخَلْقه وصفٌ، فإياك أن تأخذ هذه الصفة مثل تلك الصفة. فإن قابلت غنياً من البشر، فالغني في البشر عَرَضٌ، أما غنى الله تعالى ففي ذاته سبحانه. وأنت حي والله سبحانه حي، ولكن أحياتك كحياته؟ لا؛ لأن حياته سبحانه لم يسبقها عدم، وحياتك سبقها عدم، وحياته سبحانه لا يلحقها عدم، وأنت يلحق حياتك العدم. والله موجود وأنت موجود، لكن وجوده سبحانه وجود ذاتيٌّ، ووجودك وجود عَرَضِيٌّ. وإذا قال الحق سبحانه: إن له سبحانه وتعالى يداً {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] . فلا يمكن أن تكون يد الله سبحانه مثل يدك؛ لأن ذاته سبحانه ليست كذاتك، وصفاته سبحانه ليست كصفاتك، وهو سبحانه القادر الأعلى، ولا يمكن أن يكون مقدوراً لأحد. ولذلك حين يتجلَّى الله سبحانه لخلقه، فسوف يتجلى بالصورة التي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6073 تختلف عن كل خيال العبد، وهذه الصورة تختلف من عبد إلى آخر، ولو كانت الصورة التي يتجلى بها الله سبحانه مقدوراً عليها لكان معنى ذلك أن هناك ذهناً بشرياً قد قدر على الإحاطة بها. وما خطر ببالك فالله سبحانه بخلاف ذلك؛ لأن ما خطر بالبال مقدور عليه لأنه خاطر، والله سبحانه لا ينقلب أبداً إلى مقدور عليه. وأنت حين تأتي بمسألة في الحساب أو الهندسة مثلاً، وتعطيها لتلميذ ويقوم بحلها، فمعنى ذلك أن عقله قد قدر عليها، أما إن جئت لتلميذ في المرحلة الإعدادية مثلاً بمسألة هندسية مقررة على طلبة كلية الهندسة؛ فعقله لن يقدر عليها. إذن: لو أن الإنسان قد أدرك شيئاًً عن الله غير ما قاله الله لا نقلب الإله إلى مقدور عليه، والحق سبحانه مُنَزَّه عن ذلك؛ لأنه القادر الأعلى الذي لا ينقلب أبداً إلى مقدور. لذلك يعلِّمنا الحق سبحانه أن نقول تنزيهاً لله تعالى كلمة {سُبْحَانَهُ} ، وهو التنزيه الواجب عن كل شيء يخطر ببال الإنسان عن الله تعالى، وهذه السبحانية أو هذا التنزيه هو صفة ذاتية في الله تعالى، قبل أن يوجد شيء، وبعد أن خَلَق الخَلْق، فعلى كل المخلوقات تنزيهه، وبدأ الخلق في التسبيح. والتسبيح فعل مستمر لا ينقطع ولا ينقضي؛ لذلك تجد استدلالات القرآن في السور التنزيهية تؤكد ذلك، فيقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6074 {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] . وإياك أن تظن أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد سرى بقرار من نفسه، بل الذي أسرى به هو الحق سبحانه، فلا تظن أن المسافة يمكن أن تمنع مشيئة الحق المطلقة، ولا المكان، ولا الزمن؛ لأن الفعل منسوب لله تعالى، ولا يمكن أن نقيس فعلاً منسوباً لله تعالى بقياس الزمان أو المكان، أو حسب قانون الحركة النسبية، لأن الحق سبحانه له طلاقة القدرة، وأنت بشر مجرد حادث محدود الزمان والمكان. وأنت إذا سِرْت من هنا إلى الإسكندرية مثلاً على قدميك فستقطع المسافة في أسابيع، وإن امتطيت دابة فقد تأخذ في الوصول إلى الإسكندرية أياماً، وإن ركبت سيارة فسوف تقطع المسافة في ساعتين، وإن ركبت صاروخاً، فستصل خلال دقائق. أي: أنك كلما زادت قوة أداة الوصول قَلَّ زمن الوصول، وهذا موجز نظرية الحركة، وإذا كان الذي أسرى هو الله سبحانه، وهو قوة القوى، لذلك لا يمكن أن يقاس بالنسبة لمشيئة قوة أخرى، أو أن يقاس الأمر ببُعد أو قُرْب المكان أو كيفية الزمان الذي تعرفه. وإياك أن تفهم أن إسراء الله تعالى مثل إسرائك؛ لأن الفعل إنما يأخذ قوته من الفاعل، وما دام الفاعل هو الله سبحانه فلا أحد بقادر أن يَحُدَّ أفعاله بزمن. وقد استهل الحق سبحانه سورة الإسراء بالسبحانية وآياتها الأولى تتكلم في أدق شيء تكلم فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذاته بأنه قد أسْرِيَ به، وبذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6075 أثبت بحادث الإسراء حقيقة المعراج، وأن الناموس قد خُرِق له، وحدَّثنا عما نعلم لنصدِّق حديثه عما لا نعلم، وحتى نقيس ما لا نعلم على ما نعلم، فيتأكد لنا صدقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديثه عما لا نعلم. كلمة «سبحانه» إذن هي للتنزيه، وهي لله تعالى أزلاً قبل أن يَخلق الخَلق، فقد شهد سبحانه لذاته أنه إله واحد، ثم شهدت الملائكة، ويتكرر التسبيح من كل المخلوقات التي أوجدها الله سبحانه. وأنت تجد سور القرآن الكريم التي جاء فيها التسبيح مؤكدة أنه سبحانه مُنزَّه، وله التسبيح من قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق؛ ليسبِّحوا، ففي سورة الحديد يقول سبحانه: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [الحديد: 1] . ويقول سبحانه في سورة الحشر: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الحشر: 1] . فهل سبَّح كل من في السموات ومن في الأرض مرة واحدة وانتهى الأمر؟ لا؛ لأن الله سبحانه يقول: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض الملك القدوس} [الجمعة: 1] . ويقول سبحانه في سورة التغابن: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6076 إذن: فالسبحانية لله أزلاً، وسبَّح ويسبِّح الخَلْق وكل الوجود بعد أن خلقه الله سبحانه، سموات وأرض وما فيهما ومن فيهما، وما بقى إلا أنت أيها الإنسان فسبِّحْ باسم ربك الأعلى. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ} [يونس: 68] . وعلة التسبيح والتنزيه عن أن يكون له ولد تأتي في قوله تعالى: {هُوَ الغني} ؛ لأن اتخاذ الولد إنما يكون عن حاجة، إما استعانة، وإما اعتماداً، وإما اعتداداً، وإما امتداداً، وكل هذه أمور باطلة بالنسبة له سبحانه، وهو الحق الأعلى، وهو سبحانه القائل في آية أخرى: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] . والقنوت معناه: الإقرار بالعبودية لله تعالى والخضوع له وإطاعته. ويقول سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يونس: 68] . و «إنْ» قد تأتي للنفي في مثل قول الحق سبحانه: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] . وفي قول الحق سبحانه هنا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6077 {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ} [يونس: 68] . أي: ليس عندكم حُجَّة تدل على أن الله تعالى اتخذ ولداً. ولذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يونس: 68] أي: أنكم لا تملكون إعلاماً من الله تعالى بذلك، فلا إعلام عن الله إلا من الله، وليس لأحد أن يُعْلِم عن ربه، فهو سبحانه من يُعْلِم عن نفسه. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6078 والحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن الإيمان وثمرته ونهايته ياتي بالفَلاَح كنتيجة لذلك الإيمان، فهو سبحانه القائل: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] . وهو سبحانه القائل: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] . ويقول أيضاً: {أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 157] . وكلها من مادة «الفلاح» وهي مأخوذة من الأمر الحسي المتصل بحياة الكائن الحي، فمقومات وجود الكائن الحي: نَفَس، وماء، وطعام، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6078 والتنفس يأتي من الهواء الذي يحيط بالأرض، والماء ينزل من السماء أو يُستنبط مما تسرب في باطن الأرض. والطعام يأتي من الأرض، وكل ما أصله من الأرض يُستخرج بالفلاحة. لذلك نقول: إن الفلاَحة هي السبب الاستبقائي للحياة، فكما يُفْلِح الإنسان الأرض، ويشقها ويبذر فيها البذور، ثم يرويها، ثم تنضج وتخرج الثمرة، ويقال: أفلح، أي: أنتجت زراعته نتاجاً طيباً. وشاء الحق سبحانه أن يمسِّي الحصيلة الإيمانية الطيبة بالفلاح. وبيَّن لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الدنيا مزرعة الآخرة، فإن كنت تريد ثمرة فابذل الجهد. وإياك والظن أن الدين حينما يأخذ منك شيئاً في الدنيا أنه يُنْقِص ما عندك، لا، بل هو يُنمِّي لك ما عندك. والمثل الذي أضربه دائماً ولله المثل الأعلى نجد الفَلاَّح حين يزرع فداناً بالقمح، فهو يأخذ من مخزنه إردباً؛ ليستخدمه كبذور في الأرض، ولو كانت امرأته حمقاء لا تعرف أصول الزراعة ستقول له: «أنت أخذت من القمح، وكيف تترك عيالك وأنت تنقصهم من قوتهم؟» هذه المرأة لا تعلم أنه أخذ إردبَّ القمح المُخَزَّن؛ ليعود به بعد الحصاد عشرة أو خمسة عشر إردّباً من القمح. كذلك مطلوب الله سبحانه في الدنيا قد يبدو وكأنه ينقصك أشياء، لكنه يعطيك ثمار الآخرة ويزيدها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6079 إذن: فالفلاح مادة مأخوذة من فلح الأرض وشقها وزرعها لتأخذ الثمرة. وكما أنك تأخذ حظك من الثمار على قدر حظك من التعب ومن العمل، فذلك أمر الآخرة وأمر الدنيا. ومثال ذلك: الفلاح الذي يحرث الأرض، ويحمل للأرض السماد على المطية، ثم يستيقظ مبكراً في مواعد الري، تجد هذا الفلاح في حالة من الانشراح والفرح في يوم الحصاد، وأمره يختلف عمن يهمل الأرض ويقضي الوقت على المقهى، ويسهر الليل أمام التلفزيون، ويأتي يوم الحصاد ليحزن على محصوله الذي لم يحسن زراعته. وقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} [يونس: 69] . أي: هؤلاء الذي يقولون عن الله تعالى أو في الله تعالى بغير علم من الله، هم الذين لا يفلحون. وأوضحت من قبل أن كل ما يتعلق بالله تعالى لا يُعْلَم عنه إلا عن طريق الله. لكن ما الذي يحملهم على الافتراء؟ نعم، إن كل حركة في الحياة لا بد أن يكون الدافع إليها نفعاً، وتختلف النظرة إلى النفع وما يترتب عليه، فالطالب الكسول المتسكع في الشوارع، الرافض للتعلم، نجده راسباً غير موفق في مستقبله، أما التلميذ الحريص على علومه، فهو من يحصل على المكانة اللائقة به في المجتمع، والتلميذ الأول كان محدود الأفق ولم ير امتداد النفع وضخامته، بل قصر النفع على لذة عاجلة مُضحِّياً بخيرٍ آجِلٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6080 والذي جعل هؤلاء يفترون على الله الكذب هو انهيار الذات، فكل ذات لها وجود ولها مكانة، فإذا انهارت المكانة، أحس الإنسان أنه بلا قيمة في مجتمعه. والمثل الذي ضربته من قبل بحَلاَّق الصحة في القرية، وكان يعالج الجميع، ثم تَخرَّجَ أحد شباب القرية في كلية الطب وافتتح بها عيادة، فإن كان حلاق الصحة عاقلاً، فهو يذهب إلى الطبيب ليعمل في عيادته ممرضاً، أو (تمرجياً) ، أما إن أخذته العزة بالإثم، فهو يعاند ويكابر، ولكنه لن يقدر على دفع علْم الطبيب. وكذلك عصابة الكفر ورؤساء الضلال حينما يُفاجَآون بمَقْدِم رسول من الله، فهم يظنون أنه سوف يأخذ السيادة لنفسه، رغم أن أي رسول من رسل الله تعالى عليه السلام إنما يعطي السيادة لصاحبها، ألا وهو الحق الأعلى سبحانه. وحين يأخذ منهم السيادة التي كانت تضمن لهم المكانة الوجاهة والشأن والعظمة، فهم يصابون بالانهيار العصبي، ويحاولون مقاومة الرسول دفاعاً عن السلطة الزمنية. ومثال ذلك: هو مَقْدِمُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة، وكان البعض يعمل على تنصيب عبد الله بن أبيّ ليكون مَلكاً؛ ولذلك قاوم الرجل الإسلام، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6081 وحين لم يستطع آمن نفاقاً، وظل على عدائه للإسلام، رغم أنه لو أحسن الإسلام واقترب من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لنال أضعاف ما كان يسأخذه لو صار ملكاً. وهكذا قادة الضلال وأئمة الكفر، هم مشفقون على أنفسهم وخائفون على السلطة الزمنية؛ لأن الرسول حينما يجيء إنما يُسوِّي بين الناس؛ لذلك يقفون ضد الدعوة حفاظاً على السلطة الزمنية. ولذلك يقول الحق سبحانه عن سبب افترائهم الكذب: {مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6082 ويعزُّ إذن على قادة الكفر وأئمة الضلال أن يسلبهم الرياسة والسيادة داعٍ جديد إلى الله سبحانه وتعالى، ويخافون أن يأخذ الداعي الجديد لله الأمر منهم جميعاً، لا إلى ذاته، ولكن إلى مراد ربه. ولو كان الداعي إلى الله تعالى يأخذ السلطة الزمنية لذاته؛ لقلنا: ذاتٌ أمام ذاتٍ، ولكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوضح أنه يعود حتى فيما يخصه إلى الله سبحانه وتعالى. ويكشف لنا الحق سبحانه الكسب القليل الذي يدافعون عنه أنه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6082 {مَتَاعٌ فِي الدنيا} [يونس: 70] ؛ لأن كُلاً منهم يحب أن يقنع نفسه، بِحُمْق تقدير المنفعة، وكلمة «الدنيا» لا بد أن منها حقيقة الشيء المنسوبة إليه. والاسماء كما نعلم هي سمات مسميات، فحين تقول: إن فلاناً طويل، فأنت تعطيه سمة الطول. وحين تقول: «دنيا» فهي من الدُّنُوِّ «أو» الدناءة «. وإن اعتبرت الدنو هو طريق موصل إلى القيمة، فهذا أمر مقبول؛ لأن الدرجة الأولى في الوصول إلى الأعلى هي الدنو، وتلتزم بمنهج الله تعالى فتصعد عُلوّاً وارتفاعاً إلى الآخرة. إذن: فمن يصف الدنيا بالدناءة على إطلاقها نقول له: لا، بل هي دنيا بشرط أن تأخذها طريقاً إلى الأعلى، ولكن من لا يتخذها كذلك فهو من يجعل مكانته هي الدنيئة، أما من يتخذها طريقاً إلى العلو فهو الذي أفلح باتِّباع منهج الله تعالى. إذن: فالدنيا ليست من الدناءة؛ لأن الدين ليس موضوعه الآخرة، بل موضوعه هو الدنيا، ومنهج الدين يلزمك ب» افعل «و» لا تفعل «في الدنيا، والآخرة هي دار الجزاء، والجزاء على الشيء ليس عين موضوعة، وأنت تستطيع أن تجعل الدنيا مفيدة لك إنْ جعلتها مزرعة للآخرة. وإياك أن تعمل على أساس أن الدنيا عمرها ملايين السنين؛ لأنه لا يعنيك كعائش في الدنيا إن طال عمرها أم قَصُرَ، بل يعنيك في الدنيا مقدار مُكْثِك فيها، وعمرك فيها مظنون، بل وزمن الدنيا كله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6083 مظنون، وهناك من يموت وعمره ستة أشهر، وهناك من يموت وعمره مائة سنة، وكلٌّ يتمتع بقدر ما يعيش، ثم يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. وهؤلاء الذين ضَلُّوا وقالوا على الله سبحانه افتراء، هؤلاء لن يفلتوا من الله؛ لأن مرجعهم إليه سبحانه ككل خَلْقه، وهؤلاء المُضِلُّون لم يلتفتوا إلى عاقبة الأمر، ولا إلى من بيده عاقبة الأمر، ولم يرتدعوا. ولكن من نظر إلى عاقبة الأمر وأحسن في الدنيا فمرجعه إلى حسن الثواب والجنة، ومن لم ينظر إلى عاقبة الأمر وافترى على الله سبحانه وتعالى الكذب فالمآب والمآل إلى العذاب مصداقاً لقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 70] . ودرجة العذاب تختلف باختلاف المعذِّب، فإن كان المعذِّب ضعيفاً، فتعذيبه يكون ضعيفاً، وإن كان المعذِّب متوسط القوة؛ فتعذيبه يكون متوسطاً، أما إن كان المعذِّب هو قوة القوى فلا بد أن يكون عذابه شديداً، وهو سبحانه الحق القائل: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] . وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مبدأ تنزيه الألوهية عن اتخاذ الولد، فهو سبحانه الغنيُّ الذي له ما في السموات والأرض، وبيَّن لنا سبحانه أننا يجب أن نأخذ المنهج من مصدر واحد وهو الرسل المبلِّغون عن الله تعالى، شاء الحق سبحانه أن يكلمنا عن موكب الرسالات؛ لأن الكلام حين يكون كلاماً نظرياً ليس له واقع يسنده، فقد تنسحب النظرية عليه. أما إن كان للكلام واقع في الكون يؤيد الكلام النظري، فهذا دليل على صحة الكلام النظري؛ ولذلك فنحن حين نحب أن نضخِّم مسألة من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6084 المسائل في داء اجتماعي، نحاول أن نصنع منه رواية، أي: أمراً لم يحدث حقيقة، ولكننا نتخيل أنه حقيقة؛ لنبيِّن الأمر النظري في واقع متخيَّل. ويقص علينا الحق سبحانه في القرآن قصصاً من الموكب الرسالي؛ ليبيِّن للكفار: أنكم لن تستطيعوا الوقوف أمام هذه الدعوة، وأمامكم سِجل التاريخ وأحداث الرسل مع أممهم؛ المؤيدين بالمؤمنين؛ والكفار المعاندين والمعارضين، فإن كان قوم من السابقين قد انتصروا على رسولهم، فللكفار الحق في أن يكون لهم أمل في الانتصار على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولا بد أن يكون هذا الكلام موجهاً إلى أناس لهم علم ببعض أحداث الموكب الرسالي. ولكن قد يكون علم هذا قد بهت؛ لأن الزمان قد طال عليه. وهنا يقول الحق سبحانه: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6085 ولقائل أن يقول: ولماذا جاء الله سبحانه هنا بخبر نوح عليه السلام ولم يأت بخبر آدم عليه السلام أو أدريس عليه السلام وهُمَا من الرسل السابقين على نوح عليه السلام؟ ومن هنا جاءت الشبهة في أن آدم لم يكن رسولاً؛ لأن البعض قد ظن أن الرسول يجب أن يحمل رسالته إلى جماعة موجودة من البشر، ولم يفطن هؤلاء البعض إلى أن الرسول إنما يُرْسَل لنفسه أولاً. وإذا كان آدم عليه السلام، أول الخلق فهو مُرسَل لنفسه، ثم يبلِّغ من سوف يأتي بعده من أبنائه. وقد أعطى الله سبحانه وتعالى التجربة لآدم عليه السلام في الجنة، فكان هناك أمر، وكان هناك نهي هو {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [البقرة: 35] . وحَذَّره من الشيطان، ثم وقع آدم عليه السلام في إغواء الشيطان، وأنزله الله تعالى إلى الأرض واجتباه، وتاب عليه، ومعه تجربته، فإن خالف أمر ربه فسوف يقع عليه العقاب، وحذره من اتباع الشيطان حتى لا يخرج عن طاعة الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6086 إذن: فقد أعطاه الحق سبحانه المنهج، وأمره أن يباشر مهمته في الأرض؛ في نفسه أولاً، ثم يبلغه لمن بعده. وكما علَّمه الحق سبحانه الأسماء كلها، علَّم آدم الأسماء لأبنائه فتكلموا: وكما نقل إليهم آدم الأسماء نقل لهم المنهج، وقد علمه الحق سبحانه الأسماء؛ ليعمر الدنيا، وعلَّمه المنهج؛ ليحسن العمل في الدنيا؛ ليصل إلى حسن جزاء الآخرة. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] . ويتبعها الحق سبحانه بقوله تعالى: {ثُمَّ اجتباه} [طه: 122] . ومعنى الاجتباء: هو الاصطفاء بالرسالة لنفسه أولاً، ثم لمن بعده بعد ذلك، والحق سبحانه هو القائل: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} [البقرة: 38] . والهدى: هو المنهج المنزَّل على آدم عليه السلام، والرسالة ليست إلا بلاغ منهج وهدى من الله سبحانه للخلق. وإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو القائل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] . فالسابقون لنوح عليه السلام هم من أبلغهم آدم عليه السلام، والدليل هو ما جاء من خبر ابني آدم في قول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6087 {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} [المائدة: 27] . وهما قد قدَّما القربان إلى الله تعالى. إذن: فخبر الألوهية موجود عند ابني آدم بدليل قول الحق سبحانه: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] . إذن: فهم قد أقروا بوجود الله تعالى، وأيضا عرفوا النهي،؛ لأنه في إحدى الآيتين قال: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [المائدة: 28] . إذن: فالذين جاءوا بعد آدم عليه السلام عرفوا الإله الواحد، وعلموا المنهج. إذن: فالذين يقولون: إن آدم عليه السلام لم يكن رسولاً، نقول لهم: افهموا عن الله جيداً، كان يجب أن تقولوا: هذه مسألة لا نفهم فيها، وكان عليهم أن يسألوا أهل الذِّكْر ليفهموا عنهم أن آدم عليه السلام رسول، وأن من أولاده قابيل وهابيل، وقد تكلما في التقوى. أما لماذا جاء الحق سبحانه هنا بالحديث عن نوح، عليه السلام، فلنا أن نعلم أن آدم عليه السلام هو الإنسان الأول، وأنه قد نقل لأولاده المنهج الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6088 المُبلَّغ له، ودلَّهم على ما ينفعهم، ثم طال الزمن وأنشأت الغفلة، فجاء إدريس عليه السلام، ثم تبعته الغفلة، إلى أن جاء نوح عليه السلام. وهنا يأتي لنا الحق سبحانه بخبر نوح عليه السلام في قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [يونس: 71] . والنبأ: هو الخبر الهام الذي يلفت الذهن، وهو الأمر الظاهر الواضح. والحق سبحانه يقول: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 13] . إذن: فالنبأ هو الخبر الهام المُلْفِت، وقد جاء هنا خبر نوح عليه السلام الذي يُبلِّغ قومه أي: يخاطبهم، وهو قد شهد لنفسه أنه رسول يبلِّغ منهجاً. وكلمة «قَوْمِ» لا تطلق في اللغة إلا على الرجال، يوضح القرآن ذلك في قوله الحق سبحانه: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11] . إذن: فالقوم هم الرجال، والمرأة إنما يُبنى أمرها على السر، والحركة في الدنيا للرجل، وقد شرحنا ذلك في حديث الحق سبحانه لآدم عليه السلام عن إبليس، فقال تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6089 {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117] . ولأن الخطاب لآدم فقد قال الحق سبحانه: {فتشقى} [طه: 117] . ولم يقل: فتشقيا؛ مما يدل على أن المرأة لا شأن لها بالأعمال التي خارج البيت والتي تتطلب مشقة، فالمرأة تقرُّ في البيت؛ لتحتضن الأبناء، وتُهيِّىء السكن للرجل بما فيها من حنان وعاطفة وقرار واستقرار. أما القيام والحركة فللرجل. فالحق سبحانه يقول: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117] . إذن: فالكدح للرجل ومتطلبه القيام لا القعود. ثم يقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام. {ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} [يونس: 71] . وهنا يُحنِّن نوح قومه بإضافات التحنن، أي: جاء بالإضافة التي تُشْعِر المخاطبين بأنه منهم وهم منه، وأنه لا يمكن أن يغشهم فهم أهله، مثل قول النائب الذي يخطب في أهل دائرته الانتخابية: «أهلي وعشيرتي وناخبيّ» وكلها اسمها إضافة تحنن. وكذلك مثل قول لقمان لابنه: {يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6090 وقوله: {يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] . وقوله: {يابني أَقِمِ الصلاة} [لقمان: 17] . وهذا إضافات التحنن وفيها إيناس للسامع أن يقرب ويستجيب للحق. {ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} [يونس: 71] . و «الكاف والياء والراء» تأتي لمعنيين: الأول: كبر السن، وهي: كبر يكبر. والثاني: العظمة والتعظيم، إلا أن التعظيم يأتي ليبيِّن أنه أمر صعب على النفس، مثل قول الحق سبحانه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5] . أي: أن هذه الكلمة التي خرجت من أقوالهم أمر صعب وشاق، وهي قولهم: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6091 {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [الكهف: 4] . وهذه الكلمة إنما تعظم على المؤمن، وهي مسألة صعبة لا يمكن قبولها فلا يوجد مؤمن قادر على أن يقبل ادعاء خلق من خلق الله تعالى أن له سبحانه ولداً. ومرة تكون العظمة من جهة أخرى، مثل قول الحق سبحانه: {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] . أي: عَظُم على المشركين، وصَعب على أنفسهم، وشَقَّ عليهم ما تدعوهم إليه من أن الإله هو واحد أحد، ولا سلطان إلا له سبحانه. وهكذا، إن كانت الكلمة مناقضة للإيمان فهي تكبر عند المؤمنين، وإن كانت الكلمة تدعو الكافرين إلى الإيمان فهي تشق عليهم. وهنا يأتي على لسان سيدنا نوح عليه السلام: {إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} [يونس: 71] . ونحن نعلم أن سيدنا نوحاً عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6092 أي: أن حياته طالت كثيراً بين قومه، كما أن تقريعه للكافرين جعله ثقيلاً عليهم. أو أن: {كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} [يونس: 71] . تعني: أنه حمَّلهم ما لا يطيقون؛ لأن نوحاً عليه السلام أراد أن يُخرجهم عما ألفوا من عبادة الأصنام، فشقَّ عليهم ذلك. إذن: فمبدأ عبادة الإله الواحد يصعب عليهم. أو أن الأصل في الواعظ أو المبلِّغ أن يكون على مستوى القيام وهم قعود، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يتكلم مع الحواريين وهو واقف، والوقوف إشعار بأن مجهود الهدي يقع على سيدنا عيسى عليه السلام بينما يقعد الحواريون ليستمعوا له في راحة. إذن: فقول الحق سبحانه: {إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} [يونس: 71] . أي: إن صعب عليكم ما أدعوكم اليه. ويصح أن نأخذها من ناحية طول الوعظ والتكرار في ألف سنة إلا خمسين عاماً، أو أن مقامي كبر عليكم، بمعنى: أننا انقسمنا إلى قسمين؛ لأن المنهج الذي أدعو إليه لا يعجبكم، وكنت أحب أن نكون قسماً واحداً. وها هو ذا سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وأرضاه حين أحس أن الخلافة تقتضي أن يسمِّي من يَخْلُفُهُ من بعده، قال له بعض الناس: لماذا لا تولي علينا عبد الله بن عمر، فقالَ ابن الخطاب: بحسب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6093 آل خطاب أن يُسأل منهم عن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجل واحد. ثم أضاف: أعلم أنكم مَلَلْتُم حُكْمي؛ لأني شديد عليكم. إذن: فقد أحس نوح عليه السلام أنه انقسم هو وقومه إلى قسمين: هو قد أخذ جانب الله سبحانه الذي يدعو إلى عبادته، وهم أخذوا جانب الأصنام التي ألفوا عبادتها. لذلك يقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام: {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71] . أي: أنني لن أتنازل عن دعوتي، ونلحظ أنك إن قلت: «توكَّلتُ على الله» فقد يعني هذا أنك قد تقول: وعلى فلان، وفلان، وفلان لكنك إن قلت: {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71] . فأنت قد قصرت توكُّلك على الله فقط. وهكذا واجه نوح عليه السلام قومه، ورصيده في ذلك هو الاعتماد والتوكل على من أرسله سبحانه، ويحاول أن يهديهم، لكنهم لم يستجيبوا، وقال لهم: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} [يونس: 71] . ومعنى جمع الأمر: (أي: جمع شتات الآراء كلها في رأي واحد) ، أي: اتفقوا يا قوم على رأي واحد، وأنتم لن تضروني. وجمع أمر الأجيال التي ظل سيدنا نوح عليه السلام يحاول هدايتها تحتاج إلى جهد؛ لأن الجيل العقلي ينقسم إلى عشرين سنة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6094 وقد ظل سيدنا نوح عليه السلام يدعو القوم بعدد ما عاش فيهم، أي: ألف سنة إلى خمسين، فكم جيل إذن ظل نوح يعالجه؟ إنها أجيال متعددة، ومع ذلك لم يظفر إلا بقدر قليل من المؤمنين بحِمْل سفينة واحدة، ومعهم الحيوانات أيضاً، فضلاً عن أن ابنه خرج أيضاً مع القوم الكافرين، وناداه نوح عليه السلام ليركب معه وأن يؤمن، فرفض، وآثر أن يظل في جانب الكفر، بما فيه من فناء للقوم الكافرين، وظن أنه قادر على أن يأوي إلى جبل يعصمه من الطوفان، ولم ينظر ابن نوح إلى جندي آخر من جنود الله سبحانه يقف عقبة في سبيل الوصول إلى الجبل، وهو الموج. إذن: فقول نوح عليه السلام: {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71] . له رصيد إيماني ضمني، فلا يوجد مجير على الله من خلق الله؛ لأن الخلق كله جماده ونباته وحيوانه إنما ينصاع لأمر الله تعالى في نصرة نوح عليه السلام ولن يتخلف شيء. هكذا كان توكُّل نوح عليه السلام على الله تعالى بما في هذا التوكل من الرصيد الإيماني المتمثل في: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} [المائدة: 120] . و {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [البقرة: 284] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6095 ولن يخرج شيء عن ملكه سبحانه. ومن العجيب أنه لم يخرج عن مراد الله في «كن» إلا الإنسان المختار، لم يخرج بطبيعة تكوينه، ولكن الحق سبحانه وهبه من عنده أن يكون مختاراً، ولو لم يهبه الله تعالى أن يكون مختاراً لما استطاع أن يقف، ولكان كل البشر من جنود الحق. وقد قال نوح عليه السلام: {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} [يونس: 71] . والإنسان حين يهمه أمر من الأمور يظل متردداً بين خواطر شتى، ويحاول أن يرى ميزات كل خاطر، ويختار أفضلها، وإذا ما جمع الإنسان خواطره كلها من خاطر واحد، فهذا يعني استقراره على رأي واحد، وجمع أمره عليه. أما إذا كان الأمر متعدد الناس، فكل واحد منهم له رأي، فإن اجتمعوا وقرروا الاتفاق على رأي واحد، فهذا جمعٌ للأمر. والاتفاق على رأي واحد إنما يختلف باختلاف هويّة المجتمعين، فإن كانوا أهل خير فهم ينزلون بالشر، وإن كانوا أهل شر فهم يصعدون بالشر. ومثال ذلك: أبناء يعقوب عليه السلام حينما حدث بينهم وبين أخيهم من الحسد لمكانة يوسف عليه السلام فقالوا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6096 {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] . أي: أن الاقتراح بقتل يوسف هدفه ألا يلتفت وجه يعقوب وقلبه إلى أحد سواهم، وأتبعوا اقتراحهم بقتل يوسف باقتراح التوبة، فقالوا لبعضهم البعض: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] . وهم قد ظنوا أن التوبة إن نفَّذوا القتل ستصبح مقبولة. وهذا الشر البادي في حديثهم لم يقبله بعضهم في بادىء الأمر؛ لأنهم أبناء نبوّة، وما يزالون هم الأسباط، لا يصعد فيهم الشر، بل ينزل، فقال واحدٌ منهم: لا تقتلوه بل {اطرحوه أَرْضاً} [يوسف: 9] . أي: أنه خفَّف المسألة من القتل إلى الطرح أرضاً، وهذه أول درجة في نزول الأخيار عن الشر الأول، وأيضاً تنازلوا عن الشر الثاني، وهو طرحه أرضاً؛ حتى لا يأكله حيوان مفترس، وجاء اقتراح: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] . ثم أجمعوا أمرهم أخيراً حتى نزل الشر مرة أخرى لاحتمال ورود النجاة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6097 إذن: فالأخيار حين يجتمعون على شر لا بد أن ينزل. ومثال ذلك: رجل طيب رأى ابنه وهو يُضرَب من آخر، فيفكر للحظة في أن يضرب غريم ابنه بطلقة من (مسدس) ، ثم يستبدل هذه الفكرة بفكرة الاكتفاء بضربه ضرباً مبرحاً بالعصا، ثم يتنازل عن ذلك بأن يفكر في صفعه صفعتين، ثم يتنازل عن فكرة الصفع ويفكر في توبيخه، ثم يتنازل عن فكرة التوبيخ ويكتفي بالشكوى لوالده، وهذا ينزل الشر عند أهل الخير. أما إن كان الرجل من أهل الشر، فهو يبدأ بفكرة الشكوى لوالد من ضرب ابنه، ثم يرفضها ليصعد شره إلى فكرة أن يصفعه هو، ثم لا ترضيه فكرة الصفع، فيفكر في أن يضربه ضرباً شديداً، ولا ترضيه هذه الفكرة، يقول لنفسه: «سأطلق عليه الرصاص» . وهكذا يتصاعد الشر من أهل الشر. وهنا يقول الحق سبحانه على لسان سيدنا نوح عليه السلام: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} [يونس: 71] . أي: اجتمعوا والزموا رأياً واحداً تحرصون على تنفيذه أنتم وشركاؤكم، وهو ينصحهم رغم أنهم أعداؤه، وكان عليه أن يحرص على اختلافهم، ولكن لأنه واثق من توكله على ربه؛ فهو يعلم أنهم مهما فعلوا فلن يقدروا عليه، ولن ينتصروا على دعوته إلا بالإقدام على إهلاك أنفسهم. أو أنه مثلما يقول العامة: «أعلى ما في خيولكم اركبوه» أي: أنه يهددهم، ولا يفعل ذلك إلا إذا كان له رصيد من قوة التوكل على الله تعالى. ولا يكتفى بذلك بل يضيف: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6098 {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} [يونس: 71] . والغمة: منها الغمام، ومنها الإغماء، أي: فقد الوعي وسَتْر العقل، أي: أنه قال لهم: لا تتبعوا أنفسكم بتبادل الهمسات فيما بينكم بل افعلوا ما يحلو لكم، ولا تحاولوا ستر ما سوف تفعلون. إن عليكم أن تجتمعوا على راي واحد أنتم وشركاؤكم الذين تعتمدون عليهم، وتعبدونهم، أو شركاؤكم في الكفر، ولم يأبَهْ نوح عليه السلام بتقوية العصبية المضادة له؛ لأنه متوحل على الله فقط. لذلك يقول: {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} [يونس: 71] . أي: أنه يُحفِّزهم على الاجتماع على أمر واحد ومعهم شركاؤهم سواء من الأصنام التي عبدوها أو من أقرانهم في الكفر وأن يصمموا على المضيّ في تنفيذ ما اتفقوا عليه. و «قضى» أي: حكم حكماً، ولكن الحكم على شيء لا يعني الاستمرار بحيث ينفذ، فقد يُقضيَ على إنسان بحكم؛ ويوقف التنفيذ. لكن قوله: {اقضوا إِلَيَّ} يعني: أصدروا حكمكم وسيروا إلى تنفيذ ما قضيتم به. ثم يقول: {وَلاَ تُنظِرُونَ} أي: لا تمهلوني في تنفيذ ما حكمتم به عليَّ. والمتأمل للآية الكريمة يجد فيها تحدياً كبيراً، فهو أولاً يطلب أن يجتمعوا على أمر وا حد، هم وشركاؤهم، ثم لا يكون على هذا الأمر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6099 غُمَّة، ثم اقضوا إليَّ ما اتفقتم عليه من حكم ونفِّذوه ولا تؤجلوه، فهل هناك تحدًّ للخصم أكثر من ذلك؟ لقد كانوا خصوماً معاندين، ظل نوح عليه السلام يترفق إليهم ويتحنن لهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وصبر عليهم كل هذا الوقت، ولا بد إذن من حدوث فاصل قوي، ولهذا كان الترقِّي في التحدي، فدعاهم إلى جمع الأمر ومعهم الشركاء، ثم بإصدار حكمهم عليه وعدم الإبطاء في تنفيذه، كان هذا هو التحدي الذي أخذ يترقى إلى أن وصل إلى قبول تنفيذ الحكم. والنفسية العربية على سبيل المثال حين سامحت، وصبرت، وصفحت في أمر لا علاقة له بمنهج الله، بل بأمر يخص خلافاً على الأرض، تجد الشاعر العربي يقول عن «بني ذُهْل» الذين اتعبوا قوم الشاعر كثيراً، ولكن قومه صفحوا عنهم؛ يقول الشاعر: صَفَحْنا عن بني ذُهْلٍ ... وقلنا: القومُ إخوانُ عسى الأيامُ أنْ يرجع ... نَ قوماً كالذي كانوا فلما صَرَّحَ الشرُّ ... فأمْسَى وهو عريانُ ولم يبقَ سوى العدوا ... ن دِنَّاهم كما دانوا مَشَيْنا مِشْيةَ الليثِ ... غَدَا والليثُ غضبانُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6100 بِضرب فيه توهينٌ ... وتخضيعٌ وإقرانُ وطعْن كَفَمِ الزقِّ ... غَدَا والزِّقُّ مَلآنُ وفي الشرِّ نجاةٌ حي ... ن لا يُنجيكَ إحسانُ وبعضُ الحِلْمِ عند الجهْ ... لِ للذِّلَّةِ إذعانُ إذن: فالمناجرة بين نوح عليه السلام وقومه اقتضت التشديد، لعل بشريتهم تلين، ولعل جبروتهم يلين، ولعلهم يعلنون الإيمان بالله تعالى، ولكنهم لم يرتدعوا. لذلك يقول الحق سبحانه على لسان نوح بعد ذلك: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6101 أي: إن توليتم عن دعوتي لعبادة الإله الحق، فأنا أدعوكم إلى مثيل لكم هو أنا، بل أدعوكم إلى من هو فوقي وفوقكم، فأنا لا أريد أن أستولي على السلطة الزمنية منكم، ولا أبحث عن جاهٍ، فالجاه كله لله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6101 والله لا يحتاج إلى جاهٍ منكم لأن جاهه سبحانه ذاتي فيه، ولكن لنمنع جبروتكم وتجبُّركم؛ لتعيشوا على ضوء المنهج الحق؛ لتكون حياتكم صالحة، وكل ذلك لمصلحتكم. {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ} [يونس: 72] فهل يُمَالىء نوح عليه السلام أعداءه. إن الإنسان يُمَالىء العدو؛ لأن يخاف أن يوقع به شرّاً، ونوح عليه السلام لا يخافهم؛ لأنه يعتمد على الله تعالى وحده، بل هو يدلُّهم على مواطن القوة فيهم، وهو يعلم أن قوتهم محدودة، وأن شرهم مهما بلغ فهو غير نافذ، وقد لا يكون منهم شر على الإطلاق، فهل هناك نفعٌ سيعود على نوح عليه السلام ويُمنَع عنه؟ لا؛ لأنه يعلن أنه لا يأخذ أجراً على دعوته. هم إذن لا يقدرون على ضُرِّه، ولا يقدرون على نفعه، وهو لا يريد منهم نفعاً؛ لأن مركزه بإيمانه بالله الذي أرسله مركزٌ قويٌّ. وهو لا يسألهم أجراً، وكلمة «أجر» تعني: ثمن المنفعة، والأثمان تكون عادة في المعاوضات، إما أن تكون ثمناً للأعيان والذوات، وإما أن تكون ثمناً للمنفعة. ومثال ذلك: أن إنساناً يرغب في شراء «شقة» في بيت فيذهب إلى رجل يملك بيتاً، ويطلب منه أن يبيع له عدداً من الأسهم بقيمة الشقة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6102 وهناك آخر يريد أن يستأجر شقة فيذهب إلى صاحب البيت؛ ليدفع له قيمة إيجار شقة في البيت، اي: يدفع له قيمة الانتفاع بالشقة، والأجر لا يُدفع إلا لطلب منفعة مُلِحَّة. وكان على نوح عليه السلام أن يطلب منهم أجراً؛ لأنه يهديهم إلى الحق، هذا في أصول التقييم للأشياء؛ لأنه يقدِّم لهم نفعاً أساسياً، لكنه يعلن أنه لا يطلب أجراً وكأنه يقول: إن عملي كان يجب أن يكون له أجر؛ لأن منفعته تعود عليكم، وكان من الواجب أن آخذ أجراً عليه. ولكن نوحاً عليه السلام تنازل عن الأجر منهم؛ لأنه أراد الأجر الأعلى، فلو أخذ منهم؛ فلسوف يأخذ على قدر إمكاناتهم، ولكن الأجر من الله تعالى هو على قدر إمكانيات الله سبحانه وتعالى، وفارق بين إمكانات المحدود العطاء وهو البشر، ومن له قدرة عطاء لا نهاية لها وهو الله سبحانه وتعالى. وهنا يقول: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} [يونس: 72] . فهذا التولِّي والإِعراض لا يضرُّني ولا ينفعني؛ لأنكم لا تملكون لي ضُرّاً ولا تملكون لي نفعاً؛ لأني لن آخذ منكم أجراً. ومن العجيب أن كل مواكب الرسل عليهم السلام حين يخاطبون أقوامهم يخاطبونهم بهذه العبارة: {مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص: 86] . إلا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام وقصة موسى عليه السلام، فعن قصة سيدنا إبراهيم يأتي قول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6103 {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 6974] . ولم يأت الحق سبحانه فيها بشيء عن عدم السؤال عن الأجر. وأيضاً في قصة سيدنا موسى عليه السلام، قال الحق سبحانه: {قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاَّ فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 1217] . وهنا أيضاً لا نجد قولاً لموسى عليه السلام في عدم السؤال عن الأجر. أما هنا في قصة نوح عليه السلام فنجد قول الحق سبحانه: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72] . وكذلك جاء نفس المعنى في قصة هود عليه السلام، حيث يقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6104 {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 123127] . وجاء نفس المعنى أيضاً في قوم ثمود، إذ قال الحق سبحانه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 141145] . وكذلك جاء نفس القول على لسان لوط عليه السلام، فيقول الحق سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 160164] . ونفس القول جاء على لسان شعيب عليه السلام في قول الحق سبحانه: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 176180] . إذن: فغالبية الموكب الرسالي يأتي على ألسنتهم الكلام عن الأجر: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6105 {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 164] . فكأن الرسل عليهم السلام يقولون للبشر الذين ارسلوا إليهم: لو أنكم فطنتم إلى حقيقة الأمر لكان من الواجب أن يكون لنا أجر على ما نقدمه لكم من منفعة، لكنَّا لا نريد منكم أنتم أجراً، إنما سنأخذ أجرنا من ربِّ العالمين؛ لأن المنفعة التي نقدمها لكم لا يستطيع بشر أن يقوِّمها، وإنما القادر على تقييمها هو واضع المنهج سبحانه ومُنزِله على رسله. وها هو القرآن الكريم يأتي على لسان رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويقول: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] . أما لماذا لم تأت مسألة الأجر على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام فنحن نعلم أن إبراهيم عليه السلام أول ما دعا؛ دعا عمه، وكان للعم حظ تربية إبراهيم، وله على سيدنا إبراهيم حق الأبوة. وكذلك سيدنا موسى عليه السلام، فقد دعا فرعون، وفرعون هو الذي قام بتربية موسى، وكانت زوجة فرعون تريده قرة عين لها ولزوجها، حتى إن فرعون فيما بعد قد ذكَّره بذلك، وقال: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] . أما هنا في دعوة سيدنا نوح عليه السلام فيأتي قول القرآن على لسان نوح بما يوضِّح الأمر لقوم نوح: فإن توليتم فلا حزن لي، ولا جزع؛ لأنكم لن تصيبوني بضُرٍّ، ولن تمنعوا عني منفعة؛ لأنكم لم تسألوني أن آتي لكم بالهدى لآخذ أجري منكم، ولكن الحق سبحانه هو الذي بعثني، وهو الذي سيعطيني أجري، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6106 وقد أمرني سبحانه أن أكون من المسلمين له حَقّاً وصدقاً. وفي حياتنا نجد أن صديقاً يرسل إلى صديقه عاملاً من عنده ليصلح شيئاً، فهو يأخذ الأجر من المرسل، لا من المرسل إليه، وهذا أمر منطقي وطبيعي. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6107 وكأن الأمر الذي وقع من الحق سبحانه نتيجة عدائهم للإيمان كان من الممكن أن يشمله؛ لأنه لا يقال: نجَّيتُك من كذا إلا إذا كان الأمر الذي نجيتك منه، توشك أن تقع فيه، وكان هذا بالفعل هو الحال مع الطوفان، فالحق سبحانه يقول: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 1112] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6107 ومن المتوقع أن تشرب الأرض ماء المطر، لكن الذي حدث أن المطر انهمر من السماء والأرض أيضاً تفجَّرتْ بالماء؛ ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] . أي: أن ذلك الأمر كان مقدَّراً؛ حتى لا يقولن أحد: إن هذه المسألة ظاهرة طبيعية. لا إنه أمر مُقدَّر، وقد كانت السفينة موجودة بصناعة من نوح عليه السلام؛ لأن الحق سبحانه قد أمره بذلك في قوله تعالى في سورة هود: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] . ويقول الحق سبحانه في الآية التي بعدها: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] . ويركب نوح عليه السلام السفينة، ويركب معه من آمن بالله تعالى، وما حملوا معهم من الطير والحيوان من كُلِّ نوع اثنين ذكراً وأنثى. وقول الحق سبحانه: {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ} [يونس: 73] . يوحي أن الذي صعد إلى السفينة هم العقلاء من البشر، فكيف نفهم مسألة صعود الحيوانات والطيور إلى السفينة؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6108 نقول: إن الأصل في وجود هذه الحيوانات وتلك الطيور أنها مُسخَّرة لخدمة الإنسان، وكان لا بد أن توجد في السفينة؛ لأنها ككائنات مسخّرة تسبِّح الله، وتعبد الحق سبحانه، فكيف يكون علمها فوق علم العقلاء الذين كفرو بعضهم، ثم أليس من الكائنات المسخَّرة ذلك الغراب الذي علَّم «قابيل» كيف يواري سوأة أخيه؟ {إنه طائر، لكنه علم ما لم يعلمه الإنسان} والحق سبحانه هو القائل: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] . ثم يقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصددها الآن: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} [يونس: 73] . وكلمة «الفُلْك» من الألفاظ التي تطلق على المفرد، وتطلق على الجماعة. وقول الحق سبحانه: {فَنَجَّيْنَاهُ} نعلم منه أن الفعل من الله تعالى، وهو سبحانه حين يتحدث عن أي فعل له، فالكلام عن الفعل يأتي مثل قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6109 ولكنه حين يتحدث عن ذاته، فهو يأتي بكلمة تؤكد الوحدانية وتكون بضمير الإفراد مثل: {إنني أَنَا الله} [طه: 14] . وهنا يقول الحق سبحانه: {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك} [يونس: 73] . كلمة «أنجى» للتعددية، وكلمة «نَجَّى» تدل على أن هناك معالجة شديدة للإنجاء، وعلى أن الفعل يتكرر. وقول الحق سبحانه: {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} [يونس: 73] . تعني: أن الخليفة هو من يجيء بعد سابق، وكلمة «الخليفة» تأتي مرة للأعلى، مثل الحال هنا حيث جعل الصالح خليفة للصالح، فبعد أن أنجى الله سبحانه العناصر المؤمنة في السفينة، أغرق الباقين. إذن: فالصالحون على ظهر السفينة أنجبوا الصالحين من بعدهم. ومرة تأتي كلمة «الخليفة» للأقل، مثل قول الحق سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59] . فهنا تكون كلمة الخليفة موحية بالمكانة الأقل، وهناك معيار وضعه الحق سبحانه لتقييم الخليفة، هو قول الحق سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6110 ولأن الإنسان مخيَّر بين الإيمان والكفر، فسوف يَلْقَى مكانته على ضوء ما يختار. ويقول الحق سبحانه: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور: 55] . إذن: فالخليفة إما أن يكون خليفة لصالحٍ، وإما أن يكون صالحاً يَخْلُفُ فاسداً. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [يونس: 73] . والآيات كما قلنا من قبل إما آيات الاعتبار التي تهدي إلى الإيمان بالقوة الخالقة، وهي آيات الكون كلها، فكل شيء في الكون يدلُّكَ على أن هذا الكون مخلوق على هيئة ولغاية. بدليل أن الأشياء في هذا الكون تنتظم انتظاماً حكيماً. وإذا أردت أن تعرف دقة هذا الخلق، فانظر إلى ما ليدك فيه دَخْلٌ، وما ليس ليدك فيه دخل؛ ستجد كل ما ليس ليدك فيه دخل على درجة هائلة من الاستقامة، والحق سبحانه يقول: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6111 أما ما ليدك فيه دخل، فاختيارنا حين يتدخل فهو قد يفسد الأشياء. وهكذا رأينا أن الآيات الكونية تلفت إلى وجود الخالق سبحانه وهي مناط الاستدلال العقلي على وجود الإله، أو أن الآيات هي الأمور العجيبة التي جاءت علىأيدي الرسل عليهم السلام لتقنع الناس بأنهم صادقون في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى. ثم هناك آيات القرآن الكريم التي يقول فيها الحق سبحانه: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب} [آل عمران: 7] . وهي الآيات التي تحمل المنهج. وحين يقول الحق سبحانه: {وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [يونس: 73] . فهو يعلِّمنا أنه أغرق من كذَّبوا بالآيات الكونية ولم يلتفتوا إلى بديع صنعه سبحانه، وحكمة تكوين هذه الآيات، وترتيبها ورتابتها، وهم أيضاً كذَّبوا الآيات المعجزات، وكذلك كذَّبوا بآيات الأحكام التي جاءت بها رسلهم. وينهي الحق سبحانه وتعالى هذه الآية بقوله: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} [يونس: 73] . والخطاب هنا لكل من يتأتَّى منه النظر، وأوَّلُهم سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6112 وهو أول مُخاطَب بالقرآن. وأنت حين تقول: «انظر» ؛ فأنت تُلْفِت إلى أمر حسِّي، إن وجَّهت نظرك نحوه جاء الإشعاع من المنظور إليه، ليرسم أبعاد الشيء؛ فتراه. والكلام هنا عن أمور غائبة، فهي أحداث حسية وقعت مرة واحدة ثم صارت خبراً، فإن أخبرك بها مخبر فيكون تصديقك بها على مقدار الثقة فيه. فمن رأى عصا موسى عليه السلام وهي تلقف الحبال التي ألقاها السحرة؛ آمن بها، مثلما آمن من شاهد النار عاجزة عن إحراق إبراهيم عليه السلام، ومن رأى عيسى عليه السلام وهو يُشفي الأكْمَهَ والأبْرص ويُحيي الموتى بإذن الله تعالى، فقد آمن بما رأى، أما من لم ير تلك المعجزات فإيمانه يتوقف على قدر توثيقه لمن أخبر، فإن كان المخبر بذلك هو الله سبحانه وفي القرآن الكريم فإيماننا بتلك المعجزات هو أمر حتمي؛ لأننا آمنا بصدق المبلِّغ عن الله تعالى. ونحن نفهم أن الرسالات السابقة على رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كانت رسالات موقوتة زماناً ومكاناً، لكن الإسلام جاء لينتظم الناس الموجَّه إليهم منذ أن أرسل الله رسوله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن تقوم الساعة. لذلك جاء القرآن آيات باقيات إلى أن تقوم الساعة، وهذا هو السبب في أن القرآن قد جاء معجزة عقلية دائمة يستطيع كل من يدعو إلى منهج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول: محمد رسول من عند الله تعالى، وتلك هي معجزته. وساعة يقول الحق سبحانه: {فانظر} فمثلها مثل قول الحق سبحانه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6113 وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] . وحادثة الفيل قد حدثت في العام الذي ولد فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبطبيعة الحال فسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم ير حادثة الفيل، ولكن الذين رأوها هم الذين كانوا يعيشون وقتها، وهذا ما يلفتنا إلى فارق الأداء، فعيونك قد ترى أمراً، وأنذك قد تسمع خبراً، ولكن من الجائز أن تخدعك حواسك، أما الخبر القادم من الله تعالى، وإن كان غائباً عنك الآن وغير مسموع لك فخذه على أنه أقوى من رؤية العين. ولقائل أن يقول: لماذا لم يقل الحق: «ألم تعلم» وجاء بالقول: {أَلَمْ تَرَ} [الفيل: 1] . وأقول: ليدلنا الله سبحانه على أن العلم المأخوذ من الله تعالى عن أمر غيبي عليك أن تتلقاه بالقبول أكثر من تلقيك لرأي العين. إذن: {فانظر} تعني: اعلمْ الأمر وكأنه مُجسَّم أمامك؛ لأنك مؤمن بالله تعالى وكأنك تراه، ومُبلِّغك عن الله سبحانه هو رسول تؤمن برسالته، وكل خبر قادم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه سولم لا يمكن أن يتسرب إليه الشك، ولكن الشك لا يمكن أن يتسرب إلى المخبر الصادق أبداً. ولقائل أن يقول: ولماذا لم يقل الحق: «فانظر كيف كان عاقبة الكافرين» بدلاً من قول الحق سبحانه: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} [يونس: 73] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6114 وهنا نقول: إن الحق سبحانه وتعالى قد بيَّن أنه لم يعذِّب قبل أن يُنْذِر، فهو قد أنذر أولاً، ولم يأخذ القوم على جهلهم. «فانظر» كما نعلم هي خطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وخطاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشمل أمته أيضاً، وجاء هذا الخبر تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإن صادف من قومك يا محمد ما صادف قوم نوح عليه السلام فاعلمْ أن عاقبتهم ستكون كعاقبة قوم نوح. وفي هذا تحذير وتخويف للمناوئين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6115 وكلمة «بعث» هنا تستحق التأمل، فالبعث إنما يكون لشيء كان موجوداً ثم انتهى، فيبعثه الله تعالى. وكلمة {بَعَثْنَا} هذه تلفتنا إلى الحق سبحانه أول ما خلق الخلق أعطى المنهج لآدم عليه السلام، وأبلغه آدم لأبنائه، وكل طمس أو تغيير من البشر للمنهج هو إماتة للمنهج. وحين يرسل الحق سبحانه رسولاً، فهو لا ينشيء منهجاً، بل يبعث ما كان موجوداً، ليذكِّر الفطرة السليمة. وهذا هو الفرق بين أثر كلمة «البعث» عن كلمة «الإرسال» ، فكلمة البعث تشعرك بوجود شيء، ثم انتهاء الشيء، ثم بعث ذلك الشيء من جديد، ومثله مثل البعث في يوم القيامة، فالبشر كانوا يعيشون وسيظلون في تناسل وحياة وموت إلى يوم البعث، ثم يموت كل الخلق ليبعثوا للحساب. ولم يكن من المعقول أن يخلق الله سبحانه البشر، ويجعل لهم الخلافة في الأرض، ثم يتركهم دون منهج؛ وما دامت الغفلة قد طرأت عليهم من بعد آدم عليه السلام جاء البعث للمنهج على ألسنة الرسل المبلِّغين عن الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6116 وبعد نوح عليه السلام بعث الحق سبحانه رسلاً، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} [يونس: 74] . أي: من بعد نوح، فمسألة نوح عليه السلام هنا تعني مقدمة الرَّكْب الرسالي؛ لأن نوحاً عليه السلام قد قالوا عنه إنه رسول عامٌّ للناس جميعاً أيضاً، مثله مثل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو لم يُبعث رسولاً عامّاً للناس جميعاً، بل كان صعوده إلى السفينة هو الذي جعله رسولاً لكل الناس؛ لأن سكان الأرض أيامها كانوا قِلّة. والحق سبحانه قد أخذ الكافرين بذنبهم وأنجى المؤمنين من الطوفان، وكان الناس قسمين: مؤمنين، وكافرين، وقد صعد المؤمنون إلى السفينة، وأغرق الحق سبحانه الكافرين. وهكذا صار نوح عليه السلام رسولاً عامّاً بخصوصية من بقوا وهم المرسَل إليهم بخصوصية الزمان والمكان. وهنا يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} [يونس: 74] . فهل قَصَّ الله تعالى كل أخبار الرسل عليه السلام؟ لا؛ لأنه سبحانه وتعالى هو القائل: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6117 وجاء الحق عَزَّ وَجَلَّ بقصص أولي العزم منهم، مثلما قال سبحانه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] . فمن أرسله الله تعالى إلى من هم أقل من مائة ألف، فقد لا يأتي ذكره، ونحن نعلم أن الرسول إنما كان يأتي للأمة المنعزلة؛ لأن العالم كان على طريقة الانعزال، فنحن مثلاً منذ ألف عام لم نكن نعلم بوجود قارة أمريكا، بل ولم نعلم كل القارات والبلاد إلا بعد المسح الجوي في العصر الحديث، وقد توجد مناطق في العالم نعرفها كصورة ولا نعرفها كواقع. ونحن نعلم أن ذرية آدم عليه السلام كانت تعيش على الأرض، ثم انساحت في الأرض؛ لأن الأقوات التي كانت تكفي ذرية آدم على عهده، لم تعد تكفي بعدما اتسعت الذرية، فضاق الرزق في رقعة الأرض التي كانوا عليها، وانساح بعضهم إلى بقية الأرض. والحق سبحانه هو القائل: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء: 100] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6118 وهكذا انتقل بعض من ذرية آدم عليه السلام إلى مواقع الغيث، فالهجرة تكون إلى مواقع المياه؛ لأنها أصل الحياة. ويلاحظ مؤرِّخو الحضارات أن بعض الحضارات نشأت على جوانب الأنهار والوديان، أما البداوة فكانت تتفرق في الصحاري، مثلهم مثل العرب، وكانوا في الأصل يسكنون عند سد مأرب، وبعد أن تهدم السد وأغرق الأرض، خاف الناس من الفيضان؛ لأن العَدُوَّين اللذين لم يقدر عليهما البشر هما النار والماء. وحين رأى الناس اندفاع الماء ذهبوا إلى الصحاري، وحفروا الآبار التي أخذوا منها الماء على قَدْر حاجتهم؛ لأنهم عرفوا أنهم ليسوا في قوة المواجهة مع الماء. وهكذا صارت الانعزالات بين القبائل العربية، مثلها كانت في بقية الأرض؛ ولذلك اختلفت الداءات باختلاف الأمم؛ ولذلك بعث الحق سبحانه إلى كل أمة نذيراً، وهو سبحانه القائل: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] . وقصَّ علينا الله سبحانه قصص بعضهم، ولم يقصص قصص البعض الآخر. يقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6119 {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [غافر: 78] . وهنا يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بالبينات} [يونس: 74] . فهل هؤلاء هم الرسل الذين لم يذكرهم الله؟ لا؛ لأن الحق سبحانه أرسل بعد ذلك هوداً إلى قوم عاد، وصالحاً إلى ثمود، وشعيباً إلى مدين، ولم يأت بذكر هؤلاء هنا، بل جاء بعد نوح عليه السلام بخبر موسى عليه السلام، وكأنه شاء سبحانه هنا أن يأتي لنا بخبر عيون الرسالات. وما دام الحق سبحانه قد أرسل رسلاً إلى قوم، فكل قوم كان لهم رسول، وكل رسول بعثه الله تعالى إلى قومه. وكلمة «قوم» في الآية جمع مضاف، والرسل جمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، مثلما نقول: هَيَّا اركبوا سياراتكم، والخطاب لكم جميعاً، ويعني: أن يركب كل واحد منكم سيارته. وجاء كل رسول إلى قومه بالبينات، أي: بالآيات الواضحات الدالة على صدق بلاغهم عن الله تعالى. ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6120 {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين} [يونس: 74] . أي: أن الناس جميعهم لو آمنوا لانقطع الموكب الرسالي، فموكب إيمان كل البشر لم يستمر، بل جاءت الغفلة، وطبع الله تعالى على قلوب المعتدين. والطبع كما نعلم هو الختم. ومعنى ذلك أن القلب المختوم لا يُخرج ما بداخله، ولا يُدخل إليه ما هو خارجه؛ فما دام البعض قد عشق الكفر فقد طبع الله سبحانه على هذه القلوب ألاّ يدخلها إيمان، ولا يخرج منها الكفر، والطبع هنا منسوب لله تعالى. وبعض الذين يتلمَّسون ثغرات في منهج الله تعالى يقولون: إن سبب كفرهم هو أن الله هو الذي طبع على قلوبهم. ونقول: التفتوا إلى أنه سبحانه بيَّن أنه قد طبع الى قلوب المعتدين، فالاعتداء قد وقع منهم أولاً، ومعنى الاعتداء أنهم لم ينظروا في آيات الله تعالى، وكفروا بما نزل إليهم من منهج، فهم أصحاب السبب في الطبع على القلوب بالاعتداء والإعراض. وجاء الطبع لتصميمهم على ماعشقوه وألفوه، والحق سبحانه وتعالى هو القائل في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك» . ولله المثل الأعلى، فأنت تقول لمن يَسْدِر في غَيِّه: ما دمت تعشق ذلك الأمر فاشبع به. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6121 ومَثَل هؤلاء الذين طبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم، مثل الذين كذَّبوا من قبل وكانوا معتدين. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6122 وكل من موسى وهارون عليهما السلام رسول، وقد أخذ البعث لهما مراحل، والأصل فيها أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: {وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى} [طه: 13] . وقال الحق سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 43] . ثم سأل موسى عليه السلام ربه سبحانه وتعالى أن يشدَّ عَضُدَه بأخيه، فقال الحق سبحانه وتعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36] . لأن موسى عليه السلام أراد أن يفقه قوله، وقد رجى موسى ربه سبحانه وتعالى بقوله: {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} [طه: 2728] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6122 وبعد ذلك جاء تكليف هارون بالرسالة مع موسى عليه السلام. وقال الحق سبحانه: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 24] . فالأصل إذن كانت رسالة موسى عليه السلام ثم ضم الله سبحانه هارون إلى موسى إجابة لسؤال موسى، والدليل على ذلك أن الآيات كلها المبعوثة في تلك الرسالة كانت بيد موسى، وحين يكون موسى هو الرسول، وينضم إليه هارون، لا بد إذن أن يصبح هارون رسولاً. ولذلك نجد القرآن معبِّراً عن هذا: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} [طه: 47] . أي: أنهما رسولان من الله. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] . فهما الاثنان مبعوثان في مهمة واحدة، وليس لكل منهما رسالة منفصلة، بل رسالتهما واحدة لم تتعدد، وإن تعدد المرسل فكانا موسى وهارون. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى حين يوفد ملك أو رئيس وفداً إلى ملك آخر، فيقولون: نحن رسل الملك فلان. وفي رسالة موسى وهارون نجد الأمر البارز في إلقاء الآيات كان لموسى. ولكن هارون له أيضاً أصالة رسالية؛ لذلك قال الحق سبحانه: {إِنَّا رَسُولاَ} [طه: 47] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6123 ذلك أن فرعون كان متعالياً سَمْجاً رَذْل الخُلُق، فإن تكلم هارون ليشد أزر أخيه، فقد يقول الفرعون: وما دخلك أنت؟ ولكن حين يدخل عليه الاثنان، ويعلنان أنهما رسولان، فإن رد فرعون هارون، فكأنه يرد موسى أيضاً. أقول ذلك حتى نغلق الباب على من يريد أن يتورك القرآن متسائلاً: ما معنى أن يقول القرآن مرة «رسول» ومرة «رسولا» ؟ وفي هذا ردٌّ كافٍ على هؤلاء المتورّكين. ويقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فاستكبروا} [يونس: 75] . والملأ: هم أشراف القوم، ووجوهه وأعيانه والمقرَّبون من صاحب السيادة العليا، ويقال لهم: «ملأ» ؛ لأنهم هم الذين يملأون العيون، أي: لا ترى العيون غيرهم. وفرعون كما نعلم لم يصبح فرعوناً إلا بالملأ؛ لأنهم هم الذين نصَّبوه عليهم، وكان «هامان» مثلاً يدعم فكرة الفرعون، وكان الكهنة يؤكدون أن الفرعون إله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6124 ولكل فرعون ملأ يصنعونه، والمثل الشعبي في مصر يقول: «قالوا لفرعون من فَرْعَنك، قال: لم أجدا أحداً يردّني» . أي: أنه لم يجد أحداً يقول له: تَعقَّلْ. ولو وجد من يقول له ذلك لما تفرعن. والآيات التي بعث بها الله سبحانه إلى فرعون وملئه مع موسى وهارون من المعجزات الدالة على صدق نبوة موسى وهارون عليهما السلام، وفيها ما يُلْفِت إلى صدق البلاغ عن الله. أو أن الآيات هي المنهج الذي يثبت وجود الخالق الأعلى، لكن فرعون وملأوه استكبروا. والاستكبار: هو طلب الكبر، مثلها مثل «استخرج» أي: طلب الإخراج، ومثل «استفهم» أي: طلب الفهم. ومن يطلب الكبر إنما يفتعل ذلك؛ لأنه يعلم أن مقوماته لا تعطيه هذا الكبر. وينهي الحق سبحانه هذه الآية بقوله: {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [يونس: 75] . وشرُّ الإجرام ما يتعدى إلى النفس، فقد يكون من المقبول أن يتعدى إجرام الإنسان إلى أعدائه، أما أن يتعدى الإجرام إلى النفس فهذا أمر لا مندوحة له، وإجرام فرعون وملئه أودى بهم إلى جهنم خالدين مخلدين فيها ملعونين، وفي عذاب عظيم ومهين. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6125 {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6126 وقد جاءهم الحق على لسان الرسل عليهم السلام وعلى كل إنسان أن يفهم أنه حين يستقبل من الرسول رسالة الحق، فليفهم أنها رسالة ليست ذاتية الفكر من الرسول، بل قد أرسله بها الله الخالق الأعلى سبحانه وتعالى. ولذلك فالمتأبَّى على الرسول، لا يتأبَّى على مساوٍ له؛ لأن الرسول هو مُبلِّغ عن الله تعالى، والله سبحانه هو الذي بعثه، ويجب على الإنسان أن يعرف قدر البلاغ القادم من الله الحق، لأنه سبحانه هو الحق الأعلى، وهو الذي خلق كل شيء بالحق: سماء مخلوقة بالحق، وأرض مخلوقة بالحق، وشمس تجري بالحق، ومطر ينزل بالحق، وكل شيء ثابت ومتحرك بقوانين أرادها الحق سبحانه. ولو سيطر الإنسان دون منهج على قوانين الكائنات لأفسدها؛ لأن الفساد إنما يتأتى مما للإنسان دخل فيه، ويدخل إليه بدون منهج الله. والفساد إنما يجيء من ناحية اختيار الإنسان للبدائل التي لا يخضع فيها لمنهج الله تعالى. ولذلك إن أردتم أن تستقيم حياتكم استقامة الكائنات العليا التي لا دخل لكم فيها، فامتثلوا لمنهج الحق وميزانه؛ لأنه سبحانه هو القائل: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6126 {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 7 8] . أي: إن كنتم تريدون أن تعتدل أموركم، وتنضبط انضباط الكائنات الأخرى فالتكن إرادة الاختيار المخلوقة لكم خاضعة لمنهج الله تعالى، وتسير في إطار هذا المنهج الرباني. وحين نتأمل قول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا} [يونس: 76] . نجد في هذا القول توجيهاً إلى أن الحق لم يأت من ذوات الرسل؛ فهذه الذوات لا دخل لها في الموضوع، وإياك أن تهاجم رسالة حق جاءتك من إنسان لا تحبه، بل ناقش الحق في ذاته، ولا تدخل في متاهة البحث عمَّن جاء بهذا الحق، وانظر إلى من كفروا بمحمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فَهُمْ من قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . وهم بذلك قد أدخلوا النازل عليه القرآن في الحكم، مع أن العقل كان يقتضي أن ينظروا إلى القرآن في ذاته، وأن يأخذوا الحكمة من أي وعاء خرجت. وعليك أنت أن تستفيد من هذا الأمر، وخُذ الحكمة من أي قائل لها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6127 ولا تنظر إلى من جاءت الحكمة منه، فإن كنت تكرهه فأنت ترفض أن تأخذ الحكمة منه، وإن كانت تحبه أخذتها. لا، إن عليك أن تأخذ الحكمة ما دامت قد جاءت بالحق؛ لأنك إن لم تأخذها أضعت نفسك. والحق هو الشيء الثابت، وإن ظهر في بعض الأحيان أن هناك من طمس الحق، وأن الباطل تغلّب عليه، فهذا يعني ظهور المفاسد؛ فيصرخ الناس طالبين الحق. وانتشار المفاسد هو الذي يجعل الناس تستدعي الحق، وتتحمس له؛ لأن الباطل حين يَعَضُّ الناس، تجدهم يتجهون إلى الحق ليتمسكوا به. والحق سبحانه هو القائل: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6128 والحق سبحانه هنا يضرب المثل النازل كسيل من السماء على الجبال، فيأخذ كل وادٍ أسفل الجبال على قدر احتماله، ويرتوى الناس، وترتوي الأرض، لكن السيل في أثناء نزوله على الجبال إنما يحمل بعضاً من الطمي، والقش، ويستقر الطمي في أرض الأودية؛ لتستفيد منه، أما القش والقاذورات فتطفو على سطح الماء، وتسمى تلك الأشياء الطافية زَبَداً، وساعة تضعها في النار، فهي تصدر أصواتاً تسمى (الطشطشة) . ومثال ذلك: حين نوقد النار؛ لنصهر الحديد، نجد الخبث هو الذي يطفو، ويبقى الحديد النقي في القاع. هذا الزبد الذي وجد فوق الماء ينزاح على الجوانب، ومثال ذلك: ما نراه على شواطىء البحر حين يقذف الموج بقاذورات على الشاطىء، هذه القاذورات التي ألقتها البواخر، فيلفظها البحر بالموج، وهذا الزبد يذهب جُفاءً، أما ما ينفع الناس فيبقى في الأرض؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} [الرعد: 17] . إذن: فالله سبحانه يترك للباطل مجالاً، ولكن لا يسلم له الحق، بل يترك الباطل؛ ليحفز غيرة الناس على الحق، فإن لم يغاروا على الحق غار هو عليه. وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 76] . ولأنهم كانوا مشهورين بالسحر؛ ظنوا أن الآيات التي جاءت مع موسى عليه السلام هي السحر المبين، أي: السحر الظاهر الواضح. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6129 ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6130 وفي هذه الآية ما يوضح رد سيدنا موسى عليه السلام: {أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا} [يونس: 77] . والذين يتوركون على القرآن يقولون: كيف يأتي القرآن ليؤكد أنهم قالوا إن هذا لسحر مبين، ثم يأتي في الآية التي بعدها ليقول إنهم قالوا متسائلين: أسحرٌ هذا؟ وفَهِم هؤلاء الذين يتوركون على القرآن أن كلمة {أَسِحْرٌ هذا} من كلماتهم، ولكن هذا هو قول موسى عليه السلام، وكأن موسى عليه السلام قد تساءل؛ ليعيدوا النظر في حكمهم: هل ما جاء به سحر؟ وهذا استفهام استنكاري، وأريد به أن يؤكد أن هذا ليس بسحر، ولكن جاء بصيغة التساؤل؛ لأنه واثق أن الإجابة الأمينة ستقول: إن ما جاء به ليس سحراً. ولو جاء كلام موسى عليه السلام كمجرد خَبَر لكان يحتمل الصدق، ويحتمل الكذب، لكنه جاء بصيغة الاستفسار؛ لأن المكذِّب له سيجيب بلجلجة. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى أنت حين تذهب لشراء قماش، فيقول لك البائع: إنه صوف خالص ونقي، فتمسك بعود كبريت وتشعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6130 النار في خيط من القماش، فإن احترق الصوف كما يحترق البلاستيك أو القماش الصناعي، فأنت تقول للبائع: وهل هذا صوف نقي يا رجل؟ وهنا لن يجيب البائع إلا بالموافقة، أو بصمت العاجز عن حجب الحقيقة. إذن: أنت إن طرحت الأمر بستفهام إنكاري فهذا أبلغ من أن تقوله كخبر مجرد؛ لأن السامع لك لا بد أن يجيب. وقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى عليه السلام: {أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ} [يونس: 77] . يفيد ضرورة النظر إلى الحق مجرداً عمَّن جاء به. ولذلك لم يقل موسى عليه السلام: أتقولون للحق لما جئناكم به: إنه سحر مبين؟ إن القول الحكيم الوارد في الآية الكريمة هو تأكيد على ضرورة النظر إلى الحق مجرداً عمّن جاء به. وينهي الحق سبحانه هذه الآية بقوله: {أَسِحْرٌ هذا وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} [يونس: 77] . إذن: فسيدنا موسى عليه السلام قد أصدر الحكم بأن السحر لا ينفع، ولكن الآيات التي جاء بها من الحق سبحانه قد أفلحت، فقد ابتلعت عصاه التي صارت حية كل ما ألقوه من حبالهم؛ وكل ما صنعوه من سحر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6131 وأراد الحق سبحانه لعصا موسى أن تكون آية معجزة من جنس ما نبغ فيه القوم. فالله سبحانه حين يرسل معجزةً إلى قوم؛ يجعلها من جنس ما نبغوا فيه؛ لتكون المعجزة تحدياً في المجال الذي لهم به خبرة ودربة ودراية؛ فأنت لن تتحدى رجلاً لا علم له بالهندسة؛ ليبنى لك عمارة، ولكنك تتحدى مهندساً أن يبني لك هرماً؛ لأن العلوم المعاصرة لم تتوصل إلى بعض ما اكتشفه القدماء ولم يسجلوه في أوراقهم، أو لم يعثر على كشف يوضح كيف فرَّغوا الهواء بين كل حجر وآخر فتماسكت الحجارة. وقول الحق سبحانه وتعالى هنا: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} [يونس: 77] . يبين لنا أن الفلاح مأخوذ من العملية الحسية التي يقوم بها الفلاح من جهد في حرث الأرض ووضع البذور، وري الأرض وانتظار الثمرة بعد بذل كل ذلك الجهد. والفلاح أيضاً مأخوذ من فلح الحديد، أي: شق الحديد، ككتل أو كقطع، ولا يصلح إلا إذا أخذ الحديد الشكل المناسب للاستعمال. وقول الحق سبحانه: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} [يونس: 77] . هو لَفْتٌ لنا أن السحر نوع من التخييل، وليس حقيقةً واقعةً. ولذلك قال الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6132 {سحروا أَعْيُنَ الناس} [الأعراف: 116] . وقال الحق سبحانه أيضاً: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] . إذن فالسحر هو تخييل فقط وليس تغييراً للحقيقة. ولأن معجزة موسى عليه السلام تحدَّت كل القدرات؛ لذلك أعلن فرعون التعبئة العامة بين كل من له علاقة بالسحر، الذي هم متفوقون فيه، أو حتى من لهم شبهة معرفة بالسحر. ولأن السحر مجرد تخييل، وجدنا السحرة حين اجتمعوا وألقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقى موسى عصاه، فإذا بعصاه قد تحولت إلى حية تلقف ما صنعوا، وهنا ماذا فعل السحرة؟ يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة طه: {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: 70] . لأن الساحر يرى ما يفعله على حقيقته، وهم خيَّلوا لأعين الناس، لكنهم يرون حبالهم مجرد حبال أو عصيهم مجرد عصى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6133 أما عصا موسى عليه السلام فلم تكن تخييلاً، بل وجدها السحرة حية حقيقية، ولقفت بالفعل ما صنعوا؛ ولذلك خرُّوا ساجدين، وأعلنوا الإيمان برب موسى وهارون. هم إذن لم يعلنوا الإيمان بموسى وهارون، بل أعلنوا الإيمان: {بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: 70] . لأنهم عرفوا بالتجربة أن ما ألقاه موسى ليس سحراً، بل هو مِنْ فعل خالق أعلى. وكان ثبات موسى عليه السلام في تلك اللحظة نابعاً من التدريب الذي تلقَّاه من ربه، فقد سأله الحق سبحانه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 1718] . وقد أجمل موسى وفصَّل في الرد على الحق سبحانه؛ إيناساً وإطالة للأنس بالله تعالى، وحين رأى أنه أطال الإيناس أوجز وقال بأدب: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] . إذن: فقد أدركته أولاً شهوة الأنس بالله تعالى، وأدرك ثانياً أدب التخاطب مع الله تعالى، ودرَّبه الحق سبحانه على مسألة العصا حين أمره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6134 أولاً أن يلقيها، فصارت أمامه حية تسعى، ولو كانت من جنس السحر لما أوجس منها خيفة ولرآها مجرد عصا. إذن: فالفرق بين معجزة موسى وسحرة فرعون، أن سحرة فرعون سحروا أعين الناس وخُيِّل إلى الناس من سحرهم أن عصيَّهم وحبالهم تسعى، لكن معجزة موسى عليه السلام في إلقاء العصا، عرفوا هم بالتجربة أن تلك العصا قد تغيرت حقيقتها. والعصا كما نعلم أصلها فرع من شجرة، وكان باستطاعة الحق سبحانه وتعالى أن يجعلها تتحول إلى شجرة مثمرة، لكنها كانت ستظل نباتاً. وشاء الحق سبحانه أن ينقلها إلى المرتبة الأعلى من النبات؛ وهي المرحلة الحيوانية، فصارت حية تلقف كل ما ألقاه السحرة. ويقول الحق سحبانه بعد ذلك: {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6135 وهنا نجد سحرة فرعون ينسبون مجيء معجزة تحول العصا إلى حية، ينسبونها لموسى عليه السلام رغم أن موسى عليه السلام قد نسب مجيء المعجزة إلى الله تعالى. وكان واجب المرسل إليه فرعون وملئه أن ينظر إلى ما جاء به الرسول، لا إلى شخصية الرسول. ولو قال فرعون لموسى: «جيْءَ بك» لكان معنى ذلك أن فرعون يعلن الإيمان بأن هناك إلهاً أعلى، ولكن فرعون لم يؤمن لحظتها؛ لذلك جاء قوله: {أَجِئْتَنَا} فنسب المجيء على لسان فرعون لموسى عليه السلام. ولماذا المجيء؟ يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78] . والالتفات هو تحويل الوجه عن شيء مواجه له، وما دام الإنسان بصدد شيء؛ فكل نظره واتجاهه يكون إليه، وكان قوم فرعون على فساد وضلال، وليس أمامهم إلا ذلك الفساد وذلك الضلال. وجاء موسى عليه السلام؛ ليصرف وجوههم عن ذلك الفساد والضلال، فقالوا: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6136 وهكذا يكشفون حقيقة موقفهم، فقد كانوا يقلدون آباءهم، والتقليد يريح المقلِّد، فلا يُعْمِل عقله أو فكره في شيء ليقتنع به، ويبني عليه سلوكه. والمثل العامي يصور هذا الموقف بعمق شديد حين يقول: «مثل الأطرش في الزفة» أي: أن فاقد السمع لا يسمع ما يقال من أي جمهرة، بل يسير مع الناس حيث تسير؛ ولا يعرف له اتجاهاً. والمقلِّد إنما يعطل فكره، ولا يختار بين البدائل، ولا يميز الصواب ليفعله، ولا يعرف الخطأ فيتجنَّبه. وفرعون وملؤه كانوا على ضلال، هو نفس ضلال الآباء، والضلال لا يكلف الإنسان تعب التفكير ومشقة الاختيار، بل قد يحقق شهوات عاجلة. أما تمييز الصواب من الخطأ واتباع منهج السماء، فهو يحجب الشهوة، ويلزم الإنسان بعدم الانفلات عكس الضلال الذي يطيل أمد الشهوة. إذن: فالمقلد بين حالتين: الحالة الأولى: أنه لا يُعْمِل عقله، بل يفعل مثل من سبقوه، أو مثل من يحيا بينهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6137 والحالة الثانية: أنه رأى أن ما يفعله الناس لا يلزمه بتكليف، ولكن الرسول الذي يأتي إنما يلزمه بمنهج، فلا يكسب على سبيل المثال إلا من حلال، ولا يفعل منكراً، ولا يذم أحداً، وهكذا يقيد المنهج حركته، لكن إن اتبع حركة آبائه الضالين، فالحركة تتسع ناحية الشهوات. ولذلك أقول دائماً: إن مسألة التقليد هذه يجب أن تلفت إلى قانون التربية، فالنشء ما دام لم يصل إلى البلوغ فأنت تلاحظ أنه بلا ذاتية ويقلد الآباء، لكن فور أن تتكون له ذاتية يبدأ في التمرد، وقد يقول للآباء: أنتم لكم تقاليد قديمة لا تصلح لهذا الزمان، لكن إن تشرَّب النشء القيم الدينية الصحيحة؛ فسيمتثل لقانون الحق، ويحجز نفسه عن الشهوات. ونحن نجد أبناء الأسر التي لا تتبع منهج الله في تربية الأبناء وهم يعانون من أبنائهم حين يتسلط عليهم أقران السوء، فيتجهون إلى ما يوسع دائرة الشهوات من إدمان وغير ذلك من المفاسد. لكن أبناء الأسر الملتزمة يراعون منهج الله تعالى؛ فلا يقلدون آحداً من أهل السوء؛ لأن ضمير الواحد منهم قد عرف التمييز بين الخطأ والصواب. ثم إن تقليد الآباء قد يجعل الأبناء مجرد نسخ مكررة من آبائهم، أما تدريب وتربية الأبناء على إعمال العقل في كل الأمور، فهذه هي التنشئة التي تتطور بها المجتمعات إلى الأفضل إن اتبع الآباء منهج الله تعالى، وتتكون ذاتية الابن على ضوء منهج الحق سبحانه، فلا يتمرد الابن متهجاً إلى الشر، بل قد يتمرد إلى تطوير الصالح ليزيده صلاحاً. التقليد إذن يحتاج إلى بحث دقيق؛ لأن الإنسان الذي سوف تقلده، لن يكن مسئولاً عنك؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6138 {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان: 33] . إذن: فأمر الابن يجب أن يكون نابعاً من ذاته، وكذلك أمر الأب، وعلى كل إنسان أن يُعْمِل عقله بين البدائل. ولذلك تجد القرآن الكريم يقول على ألسنة مَنْ قلَّدوا الآباء: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} [البقرة: 170] . ثم يرد عليهم الحق سبحانه: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] . فإذا كانت المسألة مسألة تقليد، فلماذا يتعلم الابن؟ ولماذا لا ينام الأبناء على الأرض ولا يشترون أسرَّة؟ ولماذا ينجذبون إلى التطور في الأشياء والأدوات التي تسهِّل الحياة؟ فالتقليد هو إلغاء العقل والفكر، وفي إلغائهما إلغاء التطور والتقدم نحو الأفضل. إذن: فالقرآن يحثنا على أن نستخدم العقل؛ لنختار بين البدائل، وإذا كان المنهج قد جاء من السماء، فَلْتهْتدِ بما جاء لك ممن هو فوقك، وهذا الاهتداء المختار هو السُّمو نحو الحياة الفاضلة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6139 يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} [المائدة: 104] أي: أنهم أعلنوا أنهم في غير حاجة للمنهج السماوي فَردَّ عليهم القرآن: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] . وهكذا نجد أن القرآن قد جاء بموقفين في آيتين مختلفتين عن المقلّدين: الآية الأولى: هي التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] . والآية الثانية: هي قول الحق سبحانه وتعالى: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] . وهم في هذه الآية أعلنوا الاكتفاء بما كان عليه آباؤهم. وهناك فارق بين الآيتين، فالعاقل غير من لا يعلم؛ لأن العاقل قادر على الاستنباط، ولكن من لا يعلم فهو يأخذ من استنباط غيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6140 إذن: فالذين اكتفوا بما عند آبائهم، وقالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} [المائدة: 104] . هؤلاء هم الذين غالوا في الاعتزاز بما كان عند آبائهم؛ لذلك جاء في آبائهم القول بأنهم لا يعلمون. أي: ليس لهم فكر ولا علم على الإطلاق، بل يعيشون في ظلمات من الجهل. وهنا يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه: {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض} [يونس: 78] . أي: هل جئت لتصرفنا، وتحوِّل وجوهنا أو وجهتنا أو طريقنا وتأخذنا عن وجهة آبائنا الذين نقلدهم؛ لتأخذ أنت وأخوك الكبرياء في الأرض؟ وهكذا يتضح أنهم يعتقدون أن الكبرياء الذي لهم في الأرض قد تحقق لهم بتقليدهم آباءهم، وهم يحبون الحفاظ عليه، والأمر هنا يشمل نقطتين: الأولى: هي تَرْكُ ما وجدوا عليه الآباء. والثانية: هي الكبرياء والعظمة في الأرض. ومثال ذلك: حين يقول مقاتل لآخر: «ارْمِ سيفك» وهي تختلف عن قوله: «هات سيفك» ، فَرَمْيُ السيف تجريد من القوة، لكن أخذ السيف يعني إضافة سيف آخر إلى ما يملكه المقاتل الذي أمر بذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6141 وهم هنا وجدوا في دعوة موسى عليه السلام مصيبة مركبة. الأولى: هي ترك عقيدة الآباء. والثانية: هي سلب الكبرياء، أي: السلطة الزمنية والجاه والسيادة والعظمة والائتمار، والمصالح المقضية، فكل واحد من بطانة الفرعون يأخذ حظه حسب اقترابه من الفرعون. ولذلك أعلنوا عدم الإيمان، وقالوا ما يُنهي به الحق سبحانه الآية الكريمة الي نحن بصددها: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 78] . أي: أن قوم فرعون والملأ أقرُّوا بما حرصوا عليه من مكاسب الدنيا والكبرياء فيها، ورفضوا الإيمان بما جاء به موسى وهارون عليهما السلام. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6142 وكان فرعون يعلم تقدُّم السحرة في دولته، ويكفي أنه شخصياً خَيَّل للناس أنه إله، وجاء أمره أن يأتي أعوانه بالسحرة، وفور أن قال الأمر جيء بالسحرة. وأورد الحق سبحانه في الآية التي بعد ذلك. {فَلَمَّا جَآءَ السحرة} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6142 وكأن المسافة بين نطق فرعون بالأمر وبين تنفيذ الأمر هي أضيق مسافة وقتية، وذلك حتى نفهم أن أمر صاحب السلطان لا يحتمل من الناس التأجيل أو التباطؤ في التنفيذ. والقرآن حينما يعالج أمراً من الأمور فهو يعطي صورة دقيقة للواقع، ولا يأتي بأشياء تفسد الصورة. يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} [يونس: 80] . وفي هذه الآية تلخيص للموقف كله، فحين علم السحرة أن فرعون يحتاجهم في ورطة تتعلق بالحكم، فهذه مسألة صعبة وقاسية، وعليهم أن يسرعوا إليه. ولم يأت الحق سبحانه هنا بالتفصيل الكامل لذلك الموقف؛ لأن القصة تأتي بنقاطها المختلفة في مواضع أخرى من القرآن، وكل آية توضح النقطة التي تأتي بذكرها. لذلك لم يقل الحق سبحانه هنا: إن أعوان فرعون نادوا في المدائن ليأتي السحرة، مثلما جاء في مواضع أخرى من القرآن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6143 ولم يقل لنا إن السحرة أرادوا أن يستفيدوا من هذه المسألة، وقالوا للفرعون: {إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} [الأعراف: 113] . ووَضْع مثل هذا الشرط يوضح لنا طبيعة العلاقات في ذلك المجتمع، فطلبهم للأجر، يعني أن عملهم مع الفرعون من قبل ذلك كان تسخيراً وبدون أجر، ولما جاءتهم الفرصة ورأوا الفرعون في ازمة؛ طالبوا بالأجر. ووعدهم فرعون بالأجر، وكذلك وعدهم أن يكونوا مقرَّبين؛ لأنهم لو انتصروا بالسحر على معجزة موسى؛ ففي ذلك العمل محافظة وصيانة للمُلْك، ولا بد أن يصبحوا من البطانة المستفيدة، ووعدهم الفرعون بذلك شحذاً لهمتهم ليبادروا بإبطال معجزة موسى؛ ليستقر عرش الفرعون. وشاء الحق سبحانه الإجمال هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وجاء ببقية اللقطات في المواضع الأخرى من القرآن. وهنا يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} [يونس: 80] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6144 وألقى السحرة عِصيَّهم وحبالهم. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6145 ونحن نعلم أن الحق سبحانه هنا شاء الإجمال، ولكنه بيَّن بالتفصيل ما حدث، في آية أخرى، قال فيها سبحانه عن السحرة: {قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [الأعراف: 115] . ونحن نعلم أن المواجهة تقتضي من كل خصم أن يدخل بالرعب على خصمه؛ ليضعف معنوياته. وهنا أوضح لهم موسى عليه السلام أن ما أتوا به هو سحر ومجرد تخييل. وقد أعلم الحق سبحانه نبيه موسى عليه السلام أن عصاه ستصير حية حقيقية، بينما ستكون عصيهم وحبالهم مجرد تخييل للعيون. وقال لهم موسى عليه السلام حكم الله تعالى في ذلك التخييل: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} [يونس: 81] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6145 وهكذا جاء القول الفصل الذي أنهى الأمر وأصدر الحكم فيما فعل فرعون ومَلَؤُه والسحرة، فكل أعمالهم كانت تفسد في الأرض، ولولا ذلك لما بعث الله سبحانه إليهم رسولاً مؤيَّداً بمعجزة من صنف ما برعوا فيه، فهم كانوا قد برعوا في السحر، فأرسل إليهم الحق سبحانه معجزة حقيقية تلتهم ما صنعوا، فإن كانوا قد برعوا في التخييل، فالله سبحانه خلق الأكوان بكلمة «كُنْ» وهو سبحانه يخلق حقائق لا تخييلات. ولذلك يقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6146 فالمسألة التي يشاؤها سبحانه تتحقق بكلمة «كن» فيكون الشيء. وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] . و «كن فيكون» عبارة طويلة بعض الشيء عند وقوع المطلوب، ولكن لا توجد عبارة أقصر منها عند البشر؛ لأن الكاف والنون لهما زمن، وما يشاؤه الله سبحانه لا يحتاج منه إلى زمن، والمراد من الأمر «كن» أن الشيء يوجد قبل كلمة «كن» ؛ لأن كل موجود إنما يتحقق ويبرز بإرادة الله تعالى. ويريد الحق سبحانه هنا أن يبيِّن لنا أن الحق إنما يأتي على ألسنة الرسل، ومعجزاتهم دليل على رسالتهم؛ ليضع أنوف المجرمين في الرَّغام، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6146 وليريح العالم من إضلالهم ومن مفاسدهم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6147 وإذا كان السحرة وهم عُدَّة فرعون وعتاده لمواجهة موسى أعلنوا الإيمان، فعاقبهم الفرعون وقال: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} [طه: 71] . فهذا يدل على أن فكرة الألوهية كانت ما تزال مسيطرة على عقله؛ ولذلك خاف الناس من إعلان الإيمان؛ ولذلك قال الحق سبحانه: {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ} [يونس: 83] . وكلمة «ذرية» تفيد الصغار الذين لم تلمسهم خميرة من الفساد الذي كان منتشراً، كما أن الصغار يتمتعون بطاقة من النقاء، ويعيشون في خُلُوٍّ من المشاكل، ولم يصلوا إلى مرتبة السيادة التي يُحْرَصُ عليها، ومع ذلك فهم قد آمنوا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6147 {على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} [يونس: 83] . وكلمة {على خَوْفٍ} تفيد الاستعلاء، مثل قولنا: «على الفرس» أو «على الكرسي» ويكون المستعلي في هذه الحالة متمكّناً من المستعلى عليه «؛ ومن يستعلي إنما يركب المستعلي، ويحمل المستعلي العبء. ولكن من استعمالات» على «أنها تأتي بمعنى» مع «. ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} [الإنسان: 8] . أي: يطعمون الطعام مع حبه. وحين يأتي الحق سبحانه بحرف مقام حرف آخر فلا بد من علة لذلك. ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] . جاء الحق سبحانه بالحرف» في «بدلاً من» على «؛ ليدل على أن عملية الصلب ستكون تصليباً قوياً، بحيث تدخل أجزاء المصلوب في المصلوب فيه. وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6148 {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} [الإنسان: 8] . فكأنهم هم المستعلون على الحب؛ ليذهب بهم حيث يريدون. وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى: {على خَوْفٍ} [يونس: 83] . أي: أنهم فوق الخوف يسير بهم إلى دهاليز توقُّع الآلام. وهم هنا آمنوا: {على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] . والكلام هنا من الحق الأعلى سبحانه يبيِّن لنا أن الخوف ليس من فرعون؛ لأن فرعون إنما يمارس التخويف بمن حوله، فمثلهم مثل زُوَّار الفجر في أي دولة لا تقيم وزناً لكرامة الإنسان. وفرعون في وضعه ومكانته لا يباشر التعذيب بنفسه، بل يقوم به زبانيته. والإشارة هنا تدل على الخوف من شيعة فرعون وملئهم. وقال الحق سبحانه هنا: {يَفْتِنَهُمْ} ، ولم يقل:» يفتنوهم «؛ ليدلنا على ملحظ أن الزبانية لا يصنعون التعذيب لشهوة عندهم، بل يمارسون التعذيب لشهوة عند الفرعون. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6149 وهكذا جاء الضمير مرة جمعاً، ومرة مفرداً، ليكون كل لفظ في القرآن جاذباً لمعناه. وحين أراد المفسرون أن يوضحوا معنى (ذرية) قالوا: إن المقصود بها امرأة فرعون (آسية) ، وخازن فرعون، وامرأة الخازن، وماشطة فرعون، ومَنْ آمن مِنْ قوم موسى عليه السلام وكتم إيمانه. كل هؤلاء منعتهم خشية عذاب فرعون من إعلان الإيمان برسالة موسى؛ لأن فرعون كان جَبَّاراً في الأرض، مدّعياً للألوهية، وإذا ما رأى فرعون إنساناً يخدش ادعاءه للألوهية؛ فلا بد أن يبطش به بطشة فاتكة. لذلك كانوا على خوف من هذا البطش، فقد سبق وأن ذبح فرعون بواسطة زبانيته أبناء بني إسرائيل واستحيا نساؤهم، وهم خافوا من هولاء الزبانية الذي نفَّذوا ما أراده فرعون. ولذلك جاء الضمير مرة تعبيراً عن الجمع في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَلَئِهِمْ} [يونس: 83] . وجاء الضمير مفرداً معبراً عن فرعون الآمر في قوله سبحانه وتعالى: {أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6150 فهم خافوا أن يفتنهم فرعون بالتعذيب الذي يقوم به أعوانه. والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} [يونس: 83] . والمسرف: هو الذي يتجاوز الحدود، وهو قد تجاوز في إسرافه وادَّعى الألوهية. وقد قال الحق سبحانه ما جاء على لسان فرعون: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] . وقال الحق سبحانه أيضاً: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] . وعلا فرعون في الأرض علوَّ طاغية من البشر على غيره من البشر المستضعفين. وقال الحق سبحانه على لسان فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي} [الزخرف: 51] . إذن: فقد كان فرعون مسرفاً أشد الإسراف. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ موسى ياقوم} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6151 وهنا شرطان، في قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله} [يونس: 84] . وجاء جواب هذا الشرط في قوله سبحانه: {فَعَلَيْهِ توكلوا} [يونس: 84] . ثم جاء بشرط آخر هو: {إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس: 84] . وهكذا جاء الشرط الأول وجوابه، ثم جاء شرط آخر، وهذا الشرط الآخر هو الشرط الأول وهو الإسلام لله؛ لأن الإيمان بالله يقتضي الإسلام وأن يكونوا مسلمين. ومثال ذلك في حياتنا: حين يريد ناظر إحدى المدارس أن يعاقب تلميذاً خالف أوامر المدرسة ونظمها، ويستعطف التليمذ الناظر، فيرد الناظر على هذا الاستعطاف بقوله: «إن جئت يوم السبت القادم قَبِلتك في المدرسة إن كان معك وليُّ أمرك؛ ومجيء ولي الأمر هنا مرتبط بالموعد الذي حدده الناظر لعودة التلميذ لصفوف الدراسة، وهكذا نجد أن الشرط الآخر مرتبط بالشرط الأول. وهنا يتجلَّى ذلك في قول الحق سبحانه: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس: 84] . والإيمان كما نعلم عملية وجدانية قلبية، والإسلام عملية ظاهرية، فمرة ينفذ الفرد تعاليم الإسلام، وقد ينفك مرة أخرى من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6152 تنفيذ التعاليم رغم إيمانه بالله، ومرة تجد واحداً ينفذ تعاليم الإسلام نفاقاً من غير رصيد من إيمان. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [البقرة: 25] . ونجده سبحانه يبيِّن هذا الأمر بتحديد قاطع في قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} [الحجرات: 14] . والإيمان عملية قلبية؛ لذلك يأتي الأمر الإلهي: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] . أي: أنكم تؤدون فروض الإسلام الظاهرية، لكن الإيمان لم يدخل قلوبكم بعد. وهنا يقول الحق سبحانه: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا} [يونس: 84] . وهكذا نرى أن التوكل مطلوب الإيمان، وأن يُسلم الإنسان زمامه في كل أمر إلى مَنْ آمن به؛ ولذلك لا ينفع الإيمان إلا بالإسلام، فإن كنتم مسلمين مع إيمانكم فتوكلوا على الله تعالى. لكن إن كنتم قد آمنتم فقط ولم تسلموا الزمام لله في التكاليف إلى الله في» افعل «و» لا تفعل «، فهذا التوكل لا يصلح. وهكذا يتأكد لنا ما قلناه من قبل من أنك إذا رأيت أسلوباً فيه شرط تقدم، وجاء جواب بعد الشرط، ثم جاء شرط آخر، فاعلم أن الشرط الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6153 الأخير هو المقدَّم، لأنه شرط في الشرط الأول، وبالمثل هنا فإن التوكل لن ينشأ إلا بالإسلام مع الإيمان. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6154 أي: أنهم استجابوا لدعوة موسى عليه السلام بمجرد قولهم: {على الله تَوَكَّلْنَا} . وإذا تقدم الجار على المجرور فمعنى ذلك قَصْر وحَصْر الأمر، وهنا قصر وحصر التوكل على الله تعالى، ولا توكل على سواه. ويأتي بعد ذلك دعاؤهم: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [يونس: 85] . والفتنة: اختبار، وهي كما قلنا من قبل ليست مذمومة في ذاتها، بل المذموم أن تكون النتيجة في غير صالح من يمر بالفتنة. ويقال: فتنت الذهب، أي: صهرت الذهب، واستخلصته من كل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6154 الشوائب، ونحن نعلم أن صُنَّاع الذهب يخلطونه بعناصر أخرى؛ ليكون متماسكاً؛ لأن الذهب غير المخلوط بعناصر أخرى لا يتماسك. والفتنة التي قالوا فيها: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [يونس: 85] . هي فتنة الخوف من أن يرتد بعضهم عن الإيمان لو انتصر عليهم فرعون وعذَّبهم، وكأنهم يقولون: يا رب لا تسلّط علينا فرعون بعذاب شديد. هذا إن كانوا مفتونين، فماذا إن كانوا هم الفاتنين؟ إنهم في هذه الحالة لو لم يتبعوا الدين التتبع الحقيقي لما علم فرعون وآله أن هؤلاء الذين أعلنوا الإيمان هم مسلمون بحق، وهم لو انحرفوا عن الدين لقال عنهم آل فرعون: إنهم ليسوا أهل إيمان حقيقي. ونجد سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو أبو الأنبياء وله قدره العظيم في النبوة، يقول: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} [الممتحنة: 5] . ودعوة إبراهيم عليه السلام تعلمنا ضرورة التمسك بتعاليم الدين؛ حتى لا ينظر أحد إلى المسلم أو المؤمن ويقول: هذا هو من يعلن الإيمان ويتصرف عكس تعاليم دينه. ولذلك كان سيدنا إبراهيم عليه السلام يؤدي الأوامر بأكثر مما يطلب منه، ويقول فيه الحق سبحانه: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] . أي: أنه كان يتم كل عمل بنية وإتقان؛ لأنه أسوة، فلم يقم بعمل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6155 إيماني بمظهر سطحي. إذن: فإن كانوا هم المفتونين، فهم يدفعون الفتنة عن أنفسهم، وإن كانوا هم الفاتنين؛ فعليهم التمسك بتعاليم الدين؛ حتى لا يتهمهم أحد بالتقصير في أمور دينهم، فيزداد الكافرون كفراً وضلالاً. وجاء قول الحق سبحانه: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [يونس: 85] . ليدل على انشغالهم بأمر الدين، فاتنين أو مفتونين. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6156 وهنا توضح الآية الكريمة أنهم إن كانوا مشغولين بأمر الغير من الكافرين فهذا يعني أنهم طمعوا في إيمان العدو؛ لعل هذا العدو يعود إلى رشد الإيمان. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» . وهم أرادوا إيمان العدو رغم أنه ظالم. وهكذا يعلّم الحق سبحانه وتعالى الخلق أنه من حُمْق العداوة أن يدعو الإنسان على عدوِّه بالشر؛ لأن الذي يتعبك من عدوك هو شرُّه، ومن صالحك أن تدعو له بالخير؛ لأن هذا الخير سيتعدى إليك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6156 وعلى المؤمن أن يدعو لعدوِّه بالهداية، لأنه حين يهتدي؛ فلسوف يتعدَّى لانفع إليك، وهذه من مميزات الإيمان أن نفعه يتعدَّى إلى الغَيْر. وهم حين دعوا ألاَّ يجعلهم الله فتنةً للقوم الظالمين، فإن ذلك يوضّح لنا أن الظلم درجاتٌ، وأن فرعون وملأه كانوا في قمة الظلم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . فقمة الظلم أن تأخذ حَقَّ الغير وتعطيه لغير صاحب الحق. وفرعون وملؤه أشركوا بالله سبحانه وتعالى فظن فرعون أنه إله، وصدَّقه من حوله. فقمة الظلم هو الشرك بالله سبحانه، ثم بعد ذلك يتنزل إلى الظلم في الكبائر، ثم في الصغائر. وقولهم في دعائهم للحق سبحانه: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} [يونس: 86] . أي: اجعلنا بنجوةٍ من هؤلاء. وكان الذي يخيف الأقدمين هو سيول المياه، حين تتدفَّق، ولا ينجو إلا مَنْ كان في ربوةٍ عالية والنجوة هي المكان المرتفع وهذا هو أصل كلمة «النجاة» . وهنا يقول الحق سبحانه على لسانهم: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} [يونس: 86] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6157 والرحمة هي الوقاية من أن يجيء الداء. والحق سبحانه يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء: 82] . والشفاء إذا وُجد الدَّاء، والرحمة هي ألاَّ يجيء الداء. وأراد الحق سبحانه أن يكرم بعد ذلك موسى عليه السلام وقومه فقال سبحانه وتعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6158 وأوضحنا من قبل أن موسى وهارون عليهما السلام رسولان برسالة واحدة، وأن الوَحْي قد جاء للاثنين برسالة واحدة. فالحق سبحانه ساعة يختار نبيّاً رسولاً، فإنما يختاره بتكوينٍ وفطرةٍ تؤهّله لحَمْل الرسالة النطق بمرادات الله تعالى. وإذا كان الخَلْق قد صنعوا آلات ذاتية الحركة من مواد جامدة لا فكر لها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6158 ولا رَويّة، مثل الساعة التي تُؤذِّن، أو المذياع يذيع في توقيت محدد، إذا كان البشر قد صنعوا ذلك فما بالنا بالله سبحانه الخالق لكل الخلق والكون ومرسل الرسل؟ إنه سبحانه وتعالى يختار رسله بحيث يسمح تكوين الرسول أن يؤدي المهمة الموكولة إليه في أي ظرف من الظروف. وقول الحق سبحانه هنا: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ} [يونس: 87] . يبيِّن لنا أن الوحي شمل كلاً من موسى وهارون عليهما السلام، بحيث إذا جاء موقف من المواقف يقتضي أن يتكلم فيه موسى، فهارون أيضاً يمكن أن يتكلم في نفس الأمر؛ لأن الشحنة الإيمانية واحدة، والمنهج واحد. وقد حدث ذلك بعد أن أغرق فرعون وقومه، وخلا لهم الجو، فجاء لهم الأمر أن يستقروا في مصر، وأن يكون لهم فيها بيوت. ولكن لنا أن نسأل: هل فرعون هذا هو شخص غرق وانتهى؟ لا. . إن فرعون ليس اسماً لشخص، بل هو تصنيف لوظيفة، وكان لقب كل حاكم لمصر قديماً هو «فرعون» ؛ لذلك لا داعي أن نشغل أنفسنا: هل هو تحتمس الأول؟ أو رمسيس؟ أو ما إلى ذلك؟ فهب أن فرعون المعنيَّ هنا قد غرق، ألا يعني ذلك مجيء فرعون جديد؟ نحن نعلم من التاريخ أن الأسر الحاكمة توالت، وكانوا فراعنة، وكان منهم من يضطهد المؤمنين، ولا بد أن يكون خليفة الفرعون أشد ضراوةً وأكثر شحنةً ضد هؤلاء القوم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6159 وقول الحق سبحانه وتعالى في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} [يونس: 87] . نجد فيه كلمة «مصر» وهي إذا أطلقت يُفهم منها أنها «الإقليم» . ونحن هنا في بلدنا جعلنا كلمة «مصر» علماً على الإقليم الممتد من البحر المتوسط إلى حدود السودان، أي: وادي النيل. ومرة أخرى جعلنا من «مصر» أسماً لعاصمة وادي النيل. ونحن نقول أيضاً عن محطة القطارات في القاهرة: «محطة مصر» . وقول الحق سبحانه هنا: {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا} [يونس: 87] . نفهم منه أن التبؤُ هو اتخاذ مكان يعتبر مباءةً؛ أي: مرجعاً يبوء الإنسان إليه. التبؤُّ إذن هو التوطن في مكان ما، والإنسان إذا اتخذ مكاناً كوطن له فهو يعود إليه إن ذهب إلى أي بلد لفترة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6160 ويعتبر الخروج من الوطن مجرد رحلة تقتضي العودة، وكذلك البيت بالنسبة للإنسان؛ فالواحد منا يطوف طوال النهار في الحقل أو المصنع أو المكتب، وبعد ذلك يعود إلى البيت للبيتوتة. والبيوت التي أوصى الله سبحانه وتعالى بإقامتها لقوم موسى وهارون عليهما السلام كان لها شرط هو قول الحق سبحانه: {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] . والقِبلة هي المتجَه الذي نصلي إليه. ومثال ذلك: المسجد، وهو قبلة مَنْ هو خارجه، وساعة ينادي المؤذن للصلاة يكون المسجد هو قبلتنا التي نذهب إليها، وحين ندخل المسجد نتجه داخله إلى القلبة، واتجاهنا إلى القبلة هو الذي يتحكم في وضعنا الصفِّي. والأمر هنا من الحق سبحانه: {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصلاة} [يونس: 87] . فإقامة البيوت هنا مشروطة بأن يجعلوا بها قبلة لإقامة الصلاة بعيداً عن أعين الخصوم الذين يضطهونهم، شأنهم شأن المسلمين الأوائل حينما كان الإسلام في أوليته ضعيفاً بمكة، وكان المسلمون حين ذاك يصلون في قلب البيوت، وهذا هو سر عدم الجهر بالصلاة نهاراً، وعدم الجهر يفيد في ألا ينتبه الخصوم إلى مكان المصلين. وأما الجهر بالصلاة ليلاً وفجراً، فقد كان المقصود به أن يعلمهم كيفية قراءة القرآن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6161 وهنا يقول الحق سبحانه: {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] . وقد يكون المقصود بذلك أن تكون البيوت متقابلة. وإلى يومنا هذا أن نظرت إلى ساحات اليهود في أي بلد من بلاد الدنيا تجد أنهم يقطنون حيّاً واحداً، ويرفضون أن يذوبوا في الأحياء الأخرى. ففي كل بلد لهم حي يسكنون فيه، ويسمى باسم «حي اليهود» . وكانت لهم في مصر «حارات» كل منها تسمى باسم «حارة اليهود» . وقد شاء الحق سبحانه وتعالى ذلك وقال في كتابه العزيز: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} [البقرة: 61] . وهم يحتمون بتواجهم معاً، فإن حدث أمر من الأمور يفزعهم؛ يصبح من السهل عليهم أن يلتقوا: أو {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] . أي: أن يكون تخطيط الأماكن والشوارع التي تُبنى عليها البيوت في اتجاه القبلة. وأي خطأ معماري مثل الذي يوجد في تربيعة بناء مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، هذا الخطأ يوجب الاتجاه إلى اليمين قليلاً مما يسبب بعض الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6162 الارتباك للمصلين؛ لأن الانحراف قليلاً إلى اليمين في أثناء الصلاة يقتضي أن يقصر كل صف خلف الصف الآخر. وحين نصلي في المسجد الحرام بمكة، نجد بعضاً من المصلين يريدون مساواة الصفوف، وأن تكون الصفوف مستقيمة، فنجد من ينبه إلى أن الصف يعتدل بمقدار أطول أضلاع الكعبة، ثم ينحي الصف. وكذلك في الأدوار العليا التي أقيمت بالمسجد الحرام نجد الصفوف منحنية متجهة إلى الكعبة. ولذلك أقول دائماً حين أصلي بالمسجد الحرام: إن معنى قول الإمام: «سووا صفوفكم» أي: اجعلا مناكبكم في مناكب بعضكم بعض، أما خارج الكعبة فيكفي أن نتجه إلى الجهة التي فيها الكعبة، ونحن خارج الكعبة لا نصلي لعين الكعبة، ولكننا نصلي تجاه الكعبة؛ لأننا لو كنا نصلي إلى عين الكعبة لما زاد طول الصف في أي مسجد عن اثني عشر متراً وربع المتر، وهو أطول أضلاع الكعبة. وقول الحق سبحانه هنا: {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] . أي: خططوا في إقامة البيوت أن تكون على القبلة، وبعض الناس يحاولون ذلك، لكن تخطيط الشوارع والأحياء لا يساعد على ذلك. ثم يقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6163 {وَأَقِيمُواْ الصلاة} [يونس: 87] . وهذا الأمر نفهم منه أن الصلاة فيها استدامة الولاء لله تعالى، فنحن نشهد ألا إله إلا الله مرة واحدة في العمر، ونُزكِّي إن كان عندنا مال مرة واحدة في السنة، ونصوم إن لم نكن مرضى شهراً واحداً هو شهر رمضان، ونحج إن استطعنا مرة واحدة في العمر. ويبقى ركن الصلاة، وهو يتكرر كل يوم خمس مرات، وإن شاء الإنسان فَلْيُزِد، وكأن الحق سبحانه وتعالى هنا ينبه إلى عماد الدين وهي الصلاة. ولكن مَن الذي اختار المكان في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؟ هل هو موسى وأخوه هارون؟ أم أن الخطاب لكل القوم. نلحظ هنا أن الأمر بالتبوّء هو لموسى وهارون عليهما السلام أما الأمر بالجعل فهو مطلوب من موسى وهارون والأتباع؛ لذلك جاء الجعل هنا بصيغة الجمع. ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {وَبَشِّرِ المؤمنين} [يونس: 87] . وفي هذا تنبيه وإشارة إلى أن موسى هو الأصل في الرسالة؛ لذلك جاء له الأمر بأن يحمل البشارة للمؤمنين. ونلحظ هنا في هذه الآية أن الحق سبحانه جاء بالتثنية في التبوء، وجاء بالجمع في جعل البيوت، ثم جاء بالمفرد في نهاية الآية لينبهنا إلى أن موسى عليه السلام هو الأصل في الرسالة إلى بني إسرائيل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6164 والبشرى على الأعمال الصالحة تعني: التبشير بالجنة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6165 والزينة: هي الأمر الزائد عن ضروريات الحياة ومقوماتها الأولى، فاستبقاء الحياة يكون بالمأكل لأي غذاء يسدُّ الجوع، وبالمشرب الذي يروي العطش. أما إن كان الطعام منوَّعاً فهذا من ترف الحياة، ومن ترف الحياة الملابس التي لا تستر العورة فقط، بل بالزي الذي يتميز بجودة النسج والتصميم والتفصيل. وكذلك من ترف الحياة المكان الذي ينام فيه الإنسان، بحيث يتم تأثيثه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6165 بفاخر الرياش، ولكن الضرورة في النوم يكفي فيها مكان على الأرض، وأي فراش يقي من برودة الأرض أو حرارتها. إذن: فالزائد عن الضرورات هو زينة الحياة، والزينة تأتي من الأموال، والرصيد الأصيل في الأموال هو الذهب، ثم تأخذ الفضة المرتبة الثانية. ومن مقومات الاقتصاد أن الذهب يعتبر قيمة الرصيد لغنى أية دولة، مهما اكتشفوا من أحجار أغلى من الذهب. وهذه الأحجار الكريمة كالماس مثلاً إن كُسِرت أو خُدِشت تقل قيمتها، لكن الذهب مهما تفتَّت فأنت تعيد صَهْرَه، فتستخلَص ذهباً مُجمَّعاً. وكان الفراعنة الأقدمون يحكمون مصر حتى منابع النيل، وكانوا يسخِّرون الناس في كل الأعمال، وحتى استخراج الذهب سواء من المناجم أو من غربلة رمال بعض الجبال لاستخلاص الذهب منها. وأنت قد تستطيع استخلاص الذهب من أماكن معينة، ولكن الفرق دائماً إنما يكون في القيمة الاقتصادية لاستخراج الذهب، فحين يكون المنجم وفير العطاء، فيه كثير من عروق الذهب، هنا يصبح استخراج الذهب مسألة مريحة اقتصادياً. أما إن كانت التكلفة أعلى من القيمة الاقتصادية للذهب المستخرج، فلا أحد يستخرج هذا الذهب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6166 وأنت إن نظرت إلى زينة الفراعنة تجد قناع «توت عنخ آمون» آية في الجمال، وكذلك كانت قصورهم في قمة الرفاهية، ويكفي أن ترى الألوان التي صنعت منها دهانات الحوائط في تلك الأيام؛ لتعرف دقة الصنعة ومدى الترف، الذي هو أكثر بكثير من الضرورات. وفي هذه الآية الكريمة يقول الحق سبحانه: {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} [يونس: 88] . وهم لم يَضِلُّوا فقط بل أرادوا أن يُضِلّوا غيرهم؛ لذلك تحملوا وِِزْر ضلالهم، ووزر إضلال غيرهم. فهل أعطاهم الله سبحانه المال والزينة للضلال والإضلال؟ لا، فليس ذلك علة العطاء، ولكن هناك لام العاقبة، مثلما تعطي أنت إبنك عشرة جنيهات وتقول له: افعل بها ما تريد، وأرجو أن تتصرف فيها تصرفاً يعود عليك بالخير. وقد ينزل هذا الابن ليشتري شيئاً غير مفيد ولا يشتري مثلاً كتباً تفيده. هنا أنت أعطيت هذا الابن قوة شرائية لكنه لم يحسن التصرف فيها، وغاية الاختيار هَدَتْه إلى اللعب. وهذا ما يسمى لام العاقبة، ولام العاقبة لا يكون المقصود بها سبب الفعل، ولكنها تأتي لبيان عاقبة الفعل. وحين أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينجي موسى عليه السلام، في طفولته من القتل أوحى إلى أم موسى عليهما السلام بقوله تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6167 {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني} [القصص: 7] . ولا توجد أم تُقبل على تنفيذ مثل هذا الأمر؛ لأنه موت محقق؛ لأن الابن إن خُطف أو فُقِد فهذا كله موت مظنون، أما إلقاؤه في الماء فليس فيه موت مظنون، بل موت مؤكد، إن لم يُنجِّه الله تعالى. ولكن أم موسى لإيمانها بالله فعلت ما أوحى به الله سبحانه وتعالى لها؛ لأن الوارد من الله تعالى لا يجد في الفطرة منازعاً له. أما نزغات الشيطان فهي تجد ألف منازع لها في النفس، وكذلك هواجس النفس. ولذلك نفَّذت أم موسى ما أوحى الله تعالى به إليها، وإن كان مخالفاً للعقل والمنطق. وحين التقطه آل فرعون، وقد كانوا يقتلون الأطفال، وألقى الحق سبحانه وتعالى محبة موسى في قلوبهم، قال: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39] . فهم ساعة رؤيتهم لموسى عليه السلام وهو طفل، أحبُّوه فلم يقتلوه، وهكذا نفذت مشيئة الله تعالى ووعده لأمه: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] . أي: أن لموسى عليه السلام مهمة مسبقة أرادها له الحق سبحانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6168 ولذلك نجد أن هناك أوامر متتابعة جاء بها القرآن الكريم في مسألة إلقاء أم موسى لابنها، فقال الحق سبحانه: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 3839] . وكلها أوامر من الحق سبحانه، فتراه زوجة فرعون فتقول لزوجها: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} [القصص: 9] . فهل كان فرعون يعلم أن هذا الطفل الذي التقطه سيكون عدوّاً له؟ لا، لقد التقطه وأعطاه حياة الترف؛ ليكون قُرَّة عين له، وهذه علة الالتقاط، ولكن العاقبة انتهت إلى أن يكون عدوّاً؛ ولو كانت العلة هي العداوة لما التقطه فرعون أو لقتله لحظة الالتقاط. ولذلك يترك الحق سبحانه وتعالى في كونه أشياء تكسر مكر البشر؛ فأخذه فرعون وربَّاه، وكانت العاقبة غير ما كان يتوقع فرعون. وقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصددها: {لِيُضِلُّواْ} نفهم منه أن سبحانه وتعالى لم يُعْطِهم المال ليضلوا، ولكنهم هم الذين اختاروا الضلال. وقد أعطى الله سبحانه وتعالى الكثير من الناس مالاً وجاهاً وأرادوا به الخير، وهكذا نرى اختيار الإنسان، إن له أن يضل أو يهتدي. وقد قال موسى عليه السلام تنفيساً عن نفسه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6169 {رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] . ومعنى الطمس أي: إخفاء المعالم؛ مثل قول الحق سبحانه: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} [النساء: 47] . ومعنى الطمس هنا: إخفاء معالم تلك الوجوه؛ فتكون قطعة واحدة بلا جبهة أو حواجب أو عينين أو أنف أو شفاه أو ذقن. إذن: فالطمس هو إهلاك الصورة التي بها الشيء. ودعوة موسى عليه السلام هنا: {اطمس على أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] . أي: امسخها. وقال بعض الرواة أنها مُسخت، فمن كان يملك بعضاً من سبائك الذهب وجدها حجارة، ومن كان يملك أحجاراً كريمة كالماس وجدها زجاجاً. أو أن {اطمس على أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] . أي: أذهبهما؛ لأن الأموال كانت وسيلة إضلال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6170 وقوله عليه السلام بعد ذلك: {واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88] . أي: أحْكمْ يا رب الأربطة على تلك القلوب؛ فلا يخرج ما فيها من كفر، ولا يَدخل ما هو خارجها من الإيمان؛ لأن هؤلاء قد افتروا افتراءً عظيماً، وأن تظل الأربطة على قلوبهم؛ حتى يروا العذاب الأليم. ولماذا دعا موسى عليه السلام على آل فرعون هذا الدعاء، ولم يَدْعُ مثلما دعا سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهم اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون» والإجابة: لا بد أن الحق سبحانه وتعالى قد أطلعه على أن هؤلاء قوم لن تفلح فيهم دعوة الإيمان. وكان خوف موسى عليه السلام لا من ضلال قوم فرعون، ولكن من استمرار إضلالهم لغيرهم. إذن: فقد دعا عليهم موسى عليه السلام بما جاء في هذه الآية: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88] . وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] . وهكذا يتبين لنا الفارق بين إيمان الإلجاء والقصر وبين إيمان الاختيار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6171 فحين يأتي الرسول داعياً إلى الإيمان يصبح من حق السامع لدعوته أن يؤمن أو أن يكفر؛ لأن الله تعالى قد خلق الإنسان وله حق الأختيار، أما إيمان الإلجاء والقصر فهو لاينفع الإنسان. ومثال ذلك: فرعون، فساعة أن جاءه العذاب أعلن الإيمان. فالحق سبحانه وتعالى يقول: {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] . وإذا كان موسى عليه السلام قد دعا على قوم فرعون، فقد سبقه نوح عليه السلام في مثل هذا الدعاء مما أورده القرآن في قوله: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 2627] . واستجاب الحق سبحانه لدعوة موسى عليه السلام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6172 {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6173 ويلاحظ أن الذي دعا هو موسى عليه السلام، ولكن قوله سبحانه: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] يدل على أن هارون عليه السلام، قد دعا مع موسى. وقد قلنا من قبل: إننا إن نظرنا إلى الإصالة في الرسالة لوجدنا موسى عليه السلام هو الأصيل فيها، وجاء هارون ليشد عضده، وإن نظرنا إلى طبيعة الاثنين فكل منهما رسول، والاثنان لهما رسالة واحدة. وما دام الحق سبحانه قد ارسل الاثنين لمهمة واحدة، فإن انفعل واحد منهما لشيء فلا بد أن ينفعل الآخر لنفس الشيء؛ لذلك فلا يوجد ما يمنع أن هارون ساعة سمع أخاه داعياً بمثل هذا الدعاء، قد دعا هو أيضاً بالدعاء نفسه، أو أنه أي: هارون قد دعا بهذا الدعاء سِرّاً. والدعاء معناه: أنك تفزع إلى من يقدر على تحقيق ما لا تقدر عليه، فأنت لا تدعو إلا في أمر عَزَّتْ عليك أسبابه؛ فتقول: إن لي ربّاً أومن به، وهو يقدر على الأسباب لأنه خالق الأسباب، وقادر على أن يعطى بلا أسباب، والمؤمن الحق يستقبل الأحداث، لا بأسبابه، ولكن بقدرة مَنْ آمن به، وهو المسِّبب الأعلى سبحانه. ولذلك تجد موسى عليه السلام ومعه قومه حين وصلوا إلى شاطىء البحر، وكان من خلفهم قوم فرعون يطاردونهم، فقال قوم موسى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6173 {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] . فَرَدَّ موسى عليه السلام: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] . أي: لا ترتِّبوا الأمر بترتيب البشر؛ لأن معي رب البشر، فجاءه الإنقاذ: {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63] . إذن: فالدعاء إنما يكون فزعاً إلى من يقدر على أمر لا تقدر عليه. والموضوع الذي كان يشغل موسى وهارون عليهما السلام هو بقاء آل فرعون على ضلالهم وإصرارهم على إضلال غيرهم، فلا بد أن يدعو كل منهما نفس الدعاء، ومثل هذا نجده في غير الرسل ونسميه «التخاطر» ، أي: التقاء الخواطر في لحظة واحدة. ومثال ذلك في التاريخ الإسلامي، لحظة أن كان سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مشغولاً بالتفكير في جيش المسلمين المقاتل في إحدى المعارك، وكان عمر في المدينة يخطب على المنبر، فإذا به يقول فجأة: «يا سارية الجبل» وهي كلمة لا موضع لها في منطق الخطبة، ولكن كان فكره مشغولاً بالقائد الذي يحارب، وسمع القائد وهو على البعد، الأمر؛ فانحاز إلى الجبل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6174 ويقال في هذه المسألة: إن الخاطر قد شغل مع الخاطر، مثلما تطلب أحداً في الهاتف فيرد عليك الشخص الذي تريد الكلام معه قائلاً: لقد كنت على وشك أن أتصل بك هاتفيّاً، وهذا يعني أن الخاطرين قد انضبطا معاً. وإذا كان هذا ما يحدث في حياتنا العادية، فما بالنا بما يحدث في الأمور الصفائية؛ وفي أرقى درجاتها وهي النبوة؟ أو أن الذي دعا هو موسى وما كان هارون إلا مؤمِّناً، والمؤمِّن هو أحد الداعيين، وما دام الحق سبحانه قد قَبِل دعوة موسى عليه السلام، فقد قَبِل أيضاً دعوة المؤمِّن معه. ويظن بعض الناس أن إجابة الدعوة هي تحقيق المطلوب فور الدعاء، ولكن الحقيقة أن إجابة الدعوة هي موافقة على الطلب، أما ميعاد إنجاز الطلب، فقد يتأجل بعض الوقت، مثلما حدث مع دعوة موسى عليه السلام على فرعون وملئه، فحين دعا موسى، وأمَّن هارون، جاءت إجابة الدعاء: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] بعد أربعين عاماً، ويحقق الله سبحانه الطمس على المال. فالسماء ليست موظفة عند من يدعو، وتقبل أي دعاء، ولكن قبول الدعوة يقتضي تحديد الميعاد الذي تنفذ فيه. وهذه أمور من مشيئة الله سبحانه؛ فالحق سبحانه وتعالى منزَّه عن أن يكون منفِّذاً لدعاء ما، ولكنه هو الذي بيده مقاليد كل أمر، فإذا ما أجيبت دعوة ما، فهو سبحانه بمشيئته يضع تنفيذ الدعوة في الميعاد الملائم؛ لأنها لو أجيبت على الفور فقد تضر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6175 والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] . لذلك يحدد الحق سبحانه ميعاد تطبيق الدعوة في مجال التنفيذ والواقع. وهو سبحانه وتعالى يقول: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37] . والإنسان يعرف أنه قد يكون قد دعا بأشياء، فحقق الله سبحانه الدعاء وكان شرّاً، وكم من شيء يدعو به الإنسان ولم يحققه الله تعالى وكان عدم تحقيقه خيراً. إذنك فالقدرة العليا رقيبة علينا، وتعلم ما في صالحنا؛ لأننا لسنا آلهة تأمر بتنفيذ الدعوات، بل فوقنا الحكيم الأعلى سبحانه: ولذلك نقول في بيان قول الحق سبحانه: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6176 لأن الإنسان قد يدعو بالشر على نفسه، ألا تسمع أمّاً تدعو على ابنها أو ابنتها رغم حبها لهما، فلو استجاب الله لدعائها على أولادها الذين تحبهم أليس في ذلك شر بالنسبة للأم. والولد قد يقول لأمه مغاضباً: يا رب تحدث لي حادثة؛ حتى تستريحي مني. فهَبْ أن الله استجاب لهذا الدعاء، أيرضي ذلك من دعا على نفسه أو يرضي أمه؟ طبعاً لا؛ فإذا كان الله سبحانه قد أبطأ عليك بدعاء الشر فهذا خير لك، فعليك أن تأخذ إبطاء الله سبحانه عليك بدعاء الخير على أنه خير لك. ولذلك شاء الحق سبحانه أن يقول لموسى وهارون عليهما السلام: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس: 89] . أي: ابقيا على الطريق السوي، ولا تُدْخِلا نفسيكما فيما لا علم لكما به. أليس الحق سبحانه هو القائل: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6177 فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 4546] . أي: كُنْ مؤدَّباً مع ربك حين تدعو وتنفِّس عن نفسك، ودَعْ لحكمة الحكيم الإجابة أو عدمها، وقد تكون الإجابة فورية أو مؤجَّلة إلى حين أوانها، وكلاهما خير. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6178 قال الحق سبحانه: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر} [يونس: 90] لأن الاجتياز لم يكن بأسباب بشرية، بل بفعل يخرج من أسباب البشر، فلو أن موسى عليه السلام قد حفر نفقاً تحت الماء، أو لو كان قد ركب سفناً هو وقومه لكان لهم مشاركة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6178 في اجتياز البحر، لكن المجاوزة كانت بأسباب غير ملوحظة بالنسبة للبشر، فالحق سبحانه هو الذي أوحى لموسى: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63] . ومياه البحر كأية مياه أخرى تخضع لقانون السيولة، والاستطراق هو وسيلة السيولة، وهي عكس التجمد الذي يتسم بالتحيز. والاستطراق هو الذي قامت عليه أساليب نقل المياه من صهاريج المياه التي تكون في الأغلب أعلى من طول أي منزل، ويتم ضخ المياه إليها؛ لتتوزع من بعد ذلك حسب نظرية الأواني المستطرقة على المنازل، أما إذا كانت هناك بناية أعلى طولاً من الصهريج، هنا يقوم سكان المبنى بتركيب مضخة لرفع المياه إلى الأدوار العالية. وإذا كان قانون البحر هو السيولة والاستطراق، فكيف يتم قطع هذا الاستطراق؟ يقول الحق سبحانه: {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63] . فكيف تحول الماء إلى جبال يفصل بينها سراديب وطرق يسير فيها موسى عليه السلام وقومه؟ كيف يسير موسى وقومه مطمئنين؟ لا بد أنها معية الله سبحانه التي تحميه، وهي تفسير لقول الحق سبحانه: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6179 ورغم ذلك يتبعهم فرعون وجنوده لعله يدركهم، وأراد سيدنا موسى عليه السلام بمجرد نجاحه في العبور هو وقومه أن يضرب البحر بعصاه؛ ليعود إلى قانون السيولة، ولو فعل ذلك لما سمح لفرعون وجنوده أن يسيروا في الممرات التي بين المياه التي تحولت إلى جبال، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد غير ذلك، فقد أراد الحق سبحانه أن ينجي ويهلك بالشيء الواحد، فأوحى لموسى عليه لسلام: {واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24] . أي: اترك البحر على حاله؛ فينخدع فرعون وجنوده، وما إن ينزل آخر جندي منهم إلى الممر بين جبال الماء؛ سيعود البحر إلى حالة السيولة فيغرق فرعون وجنوده، وينجو موسى وقومه. ويقول الحق سبحانه: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} [يونس: 90] . فهل كان هذا الإتباع دليل إرادة الشر؟ أكان من الممكن أن تكون نية الفرعون أن يدعو موسى وقومه إلى العودة إلى مصر ليستقروا فيها؟ لا، لم تكن هذه نية الفرعون؛ لذلك قال الحق سبحانه عن هذا الإتباع: {بَغْياً وَعَدْواً} [يونس: 90] . أي: أنه اتباع رغبة في الانتقام والإذلال والعدوان. ويصور القرآن الكريم لحظة غرق فرعون بقوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6180 {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ} [يونس: 90] . والإدراك: قصد للمدرك أن يلحق بالشيء، والغرق معنى، فكيف يتحول المعنى إلى شيء يلاحق الفرعون؟ نعم، فكأن الغرق جندي من الجنود، وله عقل ينفعل؛ فيجري إلى الأحداث: {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] . والإيمان إذا أطلق فهو الإيمان بالقوة العليا، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] . لأن الإيمان يتطلب انقياد القلب، والإسلام يقتضي اتباع أركان الإسلام، فالإيمان كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قل آمنت بالله ثم استقم» . وفي هذا القول ذكر محدد بأن الإيمان إنما يكون لله الأعلى. لكن لو قلت مثلاً: «آمنت أنك رجل طيب» فهذا إيمان له متعلق، أما إذا ذُكِر الإيمان بإطلاق فهو ينصرف إلى الإيمان بالله تعالى؛ ولذلك قال الله سبحانه للأعراب: {ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6181 وهنا يأتي القول على لسان فرعون: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] . والخلاف هنا كان بين الفرعون كجهة كفر، وبين موسى وهارون وقومهما كجهة إيمان، وأعلن فرعون إيمانه، وقال أيضاً: {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] . ولم يقبل الله ذلك منه بدليل قوله الحق سبحانه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6182 وهذا يعني: أتقول إنك آمنت الآن وإنك من المسلمين. إن قولك هذا مردود؛ لأنه جاء في غير وقته، فهناك فرق بين إيمان الإجْبار وإيمان الاختيار، أتقول الآن آمنت وأنت قد عصيت من قبل، وكنت تفسد في الأرض. وكان من الممكن أن يقبل الله سبحانه منه إيمانه وهو في نجوة بعيدة عن الشر الذي حاق به. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6182 فالحق سبحانه لا يقبل إيمان أحد بلغت روحه الحلقوم، فهذا إيمان إجبار، لا إيمان اختيار. ولو كان المطلوب إيمان الإجبار لأجبر الحق سبحانه الخلق كلهم على أن يؤمنوا، ولما استطاع أحد أن يكفر بالله تعالى، وأمامنا الكون كله خاضع لإمره الله سبحانه وتعالى ولا يتأبى فيه أحد على الله تعالى. وقدرة الحق عَزَّ وَجَلَّ المطلقة قادرة على إجبار البشر على الإيمان، لكنها تثبت طلاقة القدرة، ولا تثبت المحبوبية للمعبود. وهذه المحبوبية للمعبود لا تثبت إلا إذا كان لك خيار في أن تؤمن أو لا تؤمن. والله سبحانه يريد إيمان الاختيار. إذن: فالمردود من فرعون ليس القول، ولكن زمن القول. ويقال: إنها رُدَّتْ ولم تُقبل رغم أنه قالها ثلاث مرات لأن قوم موسى في ذلك الوقت كانوا قد دخلوا في مرحلة التجسيم لذات الله وادعوا معاذ الله أن الله تعالى عما يقولون جلس على صخرة وأنزل رِجْليه في حوض ماء، وكان يلعب مع الحوت. . إلى آخر الخرافات التي ابتدعها بنو إسرائيل. وحين أعلن فرعون أنه آمن بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل، فهذا يعني أنه لم يؤمن بالإله الحق سبحانه. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك. {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6183 ونحن نعرف أن الإنسان مكوَّن من بدن، وهو الهيكل المادي المصوَّر على تلك الصورة التي نعرفها، وهناك الروح التي في البدن، وبها تكون الحركة والحياة. وساعة نقول: «بدن» ، فافهم أنها مجردة عن الروح، مثلما نقول: جسد. وإذا أطلقت كلمة «جسد» فمعناها الهيكل المادي المجرد من الروح. والحق سبحانه هو القائل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً} [ص: 34] . وكان سيدنا سليمان عليه السلام يستمتع بما آتاه الله سبحانه من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده، وسخَّر له الجن والرياح وعلّمه كل اللغات، وكان صاحب الأوامر والنواهي والهيمنة، ثم وجد نفسه قاعداً على كرسيه بلا حراك وبلا روح، ويقدر عليه أي واحد من الرعية، ثم أعاد الله له روحه إلى جسده، وهو ما يقوله الحق سبحانه: {ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] . أي: أنه أفاق لنفسه، فعلم أن كل ما يملكه هو أمر مُفاضٌ عليه، لا أمر نابع من ذاته. وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصددها الآن يقول الحق سبحانه: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6184 وباللهِ، لو لم يأمر الحق البحر بأن يلفظ جثمان فرعون، أما كان من الجائز أن يقولوا: إنه إله، وإنه سيرجع مرة أخرى؟ ولكن الحق سبحانه قد شاء أن يلفظ البحر جثمانه كما يلفظ جيفة أي حيوان غارق؛ حتى لا يكون هناك شك في أن هذا الفرعون قد غرق، وحتى ينظر من بقي من قومه إلى حقيقته، فيعرفوا أنه مجرد بشر، ويصبح عبرة للجميع، بعد أن كان جباراً مسرفاً طاغية يقول لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] . وبعض من باحثي التاريخ يقول: إن فرعون المقصود هو «تحتمس» ، وإنهم حلَّلوا بعضاً من حثمانه، فوجدوا به آثار مياه مالحة. ونحن نقول: إن فرعون ليس اسماً لشخص، بل هو توصيف لوظيفة، ولعل أجساد الفراعين المحنطه تقول لنا: إن علة حفظ الأبدان هي عبرة؛ وليتعظ كل إنسان ويرى كيف انهارت الحضارات، وكيف بقيت تلك الأبدان آية نعتبر بها. وقد تعرض القرآن لمسألة الفرعون، فقال الحق سبحانه: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 10] . ويقول سبحانه في نفس السورة عن كل جبار مفسد: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6185 ونلحظ أن كلام الحق سبحانه عن فرعون في سورة الفجر كان كلاماً يضمُّ إلى جانب حضارة الفراعنة حضارات أخرى قديمة، مثل حضارة عاد وحضارة ثمود. وكذلك تكلم الحق سبحانه عن الفرعون في أثناء لقطات قصة موسى عليه السلام، ولكن الكلام يختلف في قصة يوسف عليه السلام، فلا تأتي وظيفة الفرعون، بل يحدثنا الحق سبحانه عن وظائف أخرى، هي وظية «عزيز مصر» أي: رئيس وزرائها ويحدثنا الله سبحانه عن ملك مصر بقوله: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ} [يوسف: 50] . ولم يُكْتَشَف الفارق بين وظيفة «الفرعون» ووظيفة «الملك» في التاريخ المصري إلا بعد أن جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر وفك «شامبليون» رموز اللغة الهيروغليفيه من خلال نقوش حجر «رشيد» ، فعرفنا أن حكام مصر القديمة كانوا يسمون «الفراعنة» إلا في فترة كانت فيها مصر تحت حكم «ملوك الرعاة» أو «الهكسوس» الذين أغاروا على مصر، وحكموها حكماً ملكياً وقضوا على حكم الفراعنة، ثم عاد الفراعنة إلى حكم مصر بعد أن خلصوها من سيطرة «الهكسوس» . وهكذا نجد أن إشارة القرآن في قصة يوسف عليه السلام كانت إلى الملك، ولم يأت فيها بذكر فرعون، وهذا دليل على أن القرآن قد سبق بعلمه أي اكتشاف، وكلما جاء اكتشاف جديد أو ابتكار حقيقي، نجده يؤيد كتاب الله. ويُنهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6186 وهذا القول يوضح أن هناك من يغفل عن الآيات، وهناك من لا يغفل عنها، وينظر إلى تلك الآيات ويتأملها ويتدبرها، ويتساءل عن جدوى كل شيء، فيصل إلى ابتكارات واختراعات ينتفع بها الإنسان، أّذِن بميلادها عند البحث عنها؛ لتستبين عظمة الله في خلقه. وحين ينظر الإنسان في تلك الابتكارات سيجدها وليدة أفكار مَنْ نظروا بإمعان، وامتلكوا قدرة الاستنباط، ولو لم يغفل الناس عن النظر في آيات الكون، والسموات والأرض، لزادت الابتكارات والاختراعات، والحق سبحانه هو القائل: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] . وحين ننظر إلى مكتشف قانون الجاذبية «نيوتن» الذي رأى ثمرة تفاح تسقط من شجرتها، نجد أن هناك عشرات الآلاف أوالملايين من البشر شاهدوا من قبله مشهد سقوط ثمرة من على شجرة، ولكن نيوتن وحده هو الذي تفكر وتدبر ما يحدث أمامه إلى أن أهتدى إلى اكتشاف قانون الجاذبية. وجاء من بعد نيوتن من بنى سفن القضاء التي تستفيد من هذا القانون وغيره. وكذلك نجد من صَمَّم الغواصات، والبواخر العملاقة التي تشبه المدن العائمة، هؤلاء اعتمدوا على من اكتشف قانون «الطفو» وقاعدة «أرشميدس» الذي لاحظ أنه كلما غطس شيءٌ في المياه، ارتفع الماء بنفس حجم الشيء الغاطس فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6187 كل هؤلاء اكتشفوا ولم يخلقوا أسراراً كانت موجودة في الكون، وهم تميَّزوا بالانتباه لها. وكذلك العالم الذي اكتشف «البنسلين» قد لاحظ أن أصيصاً من المواد العضوية كانت تنزل منه قطرات من الماء العفن، ورأى الحشرات التي تقترب من هذا الماء تموت، فأخذ عينة من هذا العفن وأخذ يُجري عليها بعض التجارب في معمله إلى أن اكتشف «البنسلين» . وقول الحق سبحانه: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] . فكأنهم لو لم يعرضوا لاستنبطوا من آيات الكون الشيء الكثير. وكذلك القصص التي تأتي في القرآن، إنما جاءت ليعتبر الناس ويتأملوا، فحين يرسل الله رسولاً مؤيَّداً بمعجزة منه لا يقدر عليها البشر؛ فعلى الناس أن يسلّموا ويقولوا: «آمنا» ، لا أن يظلوا في حالة إعادة للتجارب السابقة؛ لأن ارتقاءات البشر في الأمور المادية قد تواصلت؛ لأن كل جيل من العلماء يأخذ نتائج العلم التي توصل إليها مَنْ سبقوه، فلماذا لا يحدث هذا في الأمور العقدية؟ ولو أن الناس بدأوا من حيث انتهى غيرهم؛ لوجدنا الكل مؤمناً بالله تعالى، ولأخذ كل مولود الأمر من حيث انتهى أبوه، ولَوصَل خير آدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6188 إلى كل من وُلِدَ بعد ذلك، لكن آفة البشر أن الإنسان يريد أن يجرب بنفسه. ونحن نجد ذلك في أمور ضارة مثل: الخمر، نجدها ضارة لكل من يقرب منها، فإذا حرَّمها الدين وجدنا من يتساءل: لماذا تُحرَّم؟ وكذلك التدخين؛ نجد من يجربه رغم أن التجارب السابقة أثبتت أضراره البالغة، ولو أخذ كل إنسان تجارب السابقين عليه؛ فهو يصل عمره بعمر الآخرين. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6189 وكلمة «تبوأ» تعني إقامة مباءة أي: البيوت التي يكون فيها السكن الخاص، وإذا أطلقت كلمة «مبوأ» فهي تعني الإقليم أو الوطن. والوطن أنت تتحرك فيه وكذلك غيرك، أما البيت فهو للإنسان وأسرته كسكن خاص. أما الثري فقد يكون له جناح خاص في البيت، وقد يخصص الثريُّ في منزله جناحاً لنفسه، وآخر لولده وثالثاً لابنته. أما غالبية الناس فكل أسرة تسكن في «شقة» قد تتكون من غرفة أو اثتنتين أوثلاثة حسب إمكانات الأسرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6189 إذن: فيوجد فرق بين تبؤُّء البيوت وتبوء المواطن، فتبؤُّء المواطن هو الوطن. وسبق أن قال الحق سبحانه لموسى وهارون عليهما السلام: {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} [يونس: 87] . هذا في التبوء الخاص، أما في التبوء العام فهو يحتاج إلى قدرة الحق تعالى، وهو سبحانه يقول هنا: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93] . والحق سبحانه أتاح لهم ذلك في زمن موسى عليه السلام وأتاح لهم السكن في مصر والشام، وهو سبحانه القائل: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] ٍ. وما دام الحق سبحانه قد بارك حول فلا بد أن فيه خيراً كثراً، ولا بد أن تكون الأرض التي حوله مُبوَّاً صدق. وكلمة «الصدق» تعني جماع الخير والبر؛ «ولذلك نجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما سئل: أيكون المؤمن جباناً؟ قال:» نعم «وحين سئل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال:» نعم «. وحين سئل أيكون المؤمن كذاباً؟ قال:» لا «. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6190 ولذلك فأنت تجد في الإسلام عقوبة على الزنا، وعقوبة تقام على السارق، أما الكذب فهو خصلة لا يقربها المسلم؛ لأن عليه أن يكون صادقاً. وكل خصال الخير هي مُبوَّأَ الصدق. ولذلك نجد قول الحق سبحانه: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] . وقول الحق سبحانه: {وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] . وقول الحق سبحانه: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84] . أي: اجعل لي ذكرى حسنة فلا يقال فلان كان كاذباً، وأما قدم الصدق فهي سوابق الخير التي يسعى إليها؛ ولذلك كان الجزاء على الصدق هو ما يقول عنه الحق سبحانه: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 55] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6191 وهو مقعد عند مليك لا يبخل، ولا يجلس في رحابه إلا من يحبه، ولا يضن بخيره على من هم في رحابه. ومقعد الصدق هو جزاء لمن استجاب له ربه فأدخله مدخل صدق، وأخرجه مخرج صدق، وجعل له لسان صدق، وقدم صدق. وبعد أن بوَّأ الحق سبحانه بني إسرائيل مُبوَّاً صدق، في مصر والشام، وبعد أن قال لهم: {اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] . أي: أن الحق سبحانه حقق قوله: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} [يونس: 93] . وأنجاهم من فرعون، وكان من المفترض أن تستقيم أمورهم. ويقول الحق سبحانه: {فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم} [يونس: 93] . والمقصود بذلك هو معرفتهم بعلامات الرسول الخاتم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومنهم من ترقب مجيء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليؤمن به، ومنهم من تمادى في الطغيان؛ لذلك قطَّعهم الله سبحانه في الارض أمماً. وحين ننظر إلى دقة التعبير القرآني نجده يحدد مسألة التقطيع هذه، فهم في كل أمة يمثلون قطعة، أي: أنه سبحانه لم يُذِبْهم في الشعوب. بل لهم في كل بلد ذهبوا إليه مكانٌ خاصٌّ بهم، ولا يذَوبون في غيرهم. والحق سبحانه يقول: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} [الإسراء: 104] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6192 وقد يقول أحد السطحيين: وهل هناك سكن في غير الأرض؟ ونقول: لنا أن نلحظ أن الحق سبحانه لم يحدد لهم في أية بقعة من الأرض يسكنون، فكأن الحق سبحانه قد بيَّن ما أصدره من حكم عليهم بالتقطيع في الأرض أمماً؛ فهو سبحانه القائل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً} [الأعراف: 168] . وإذا كنا نراهم في أيامنا هذه وقد صار لهم وطن، فاعلم أن الحق سبحانه هو القائل: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 4] . وقد قال في آخر سورة الإسراء: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104] . والمجيء بهم لفيفاً إنما يعني أن يجمعهم في وطن قومي لتأتي لهم الضربة القاصمة التي ذكرها الحق سبحانه في قوله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} [الإسراء: 7] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6193 لأننا لن نستطيع أن نحاربهم في كل بلد من البلاد التي قطَّعهم الله فيها، لكنهم حين يجتمعون في مكان واحد، إنما يسهل أن ينزل عليهم قضاء الله. وحين ننظر إلى رحلتهم نجد أن «يثرب» كانت المكان الذي اتسع لهم بعد اضطهادات المجتمعات التي دخلوا إليها، وحين اجتمعوا في يثرب صار لهم الجاه؛ لأنهم أهل علم، وأهل اقتصاد، وأهل حرب. وهم قد اجتمعوا في المدينة؛ لأن المخلصين من أهل الكتاب أخبروهم أن هذه المدينة هي المهجر لنبي ورسول يأتي من العرب في آخر الزمان؛ فمكثوا فيها انتظاراً له، وكانوا يقولون لكفار قريش: «لقد أظل زمان يأتي فيه نبي نتبعه، ونقتلكم فيه قَتل عاد وإرم» . وكان من المفروض أن يؤمنوا برسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكنه إن أطل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنور رسالته حتى أنكروه خوفاً على سلطتهم الزمنية. وهو ما تقول عنه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم} [يونس: 93] . أي: أن علمهم بمجيء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو مصدر اختلافهم، فمنهم من سمعوا إشارات عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعرفوا علاماته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فآمنوا به، ومنهم من لم يؤمن به. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6194 وهم لم يختلفوا من قبل وكانوا متفقين، وتوعَّدوا المشركين من قريش. وما إن أهلَّ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ به «الأوس» و «الخزرج» أنه رسول من الله تعالى قد ظهر بمكة، فقالت الأوس والخزرج: إنه النبي الذي توعَّدتنا به يهود، فهيا بنا لنذهب ونسبقهم إليه قبل أن يسبقونا، فيقتلونا به. فكأن اليهود هم الذين تسببوا في هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة؛ لأن الأوس والخزرج سبقوهم إليه؛ وهذا لنعلم كيف ينصر الله تعالى دينه بأعدائه. ولذلك نجد أنهم في اختلافهم «يأتي عبد الله بن سلام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: إن اليهود قوم بُهْتٌ، وإذا أنا آمنت بك يا رسول الله سيقولون فيَّ ما يسيء إليَّ؛ لذلك فقبل أن أعلن إسلامي اسألهم عنِّي. وكان ابن سلام في ذلك يسلك سلوكاً يتناسب مع كونه يهودياً، ولما اجتمع معشر اليهود، سألهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: ما تقولون في ابن سلام؟ قالوا: حَبْرُنا وشيخنا وهو الورع فينا، وبعد أن أثنوا عليه ثناء عظيماً، قال ابن سلام: يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وهنا بدأ اليهود يكيلون له السِّباب، فقال ابن سلام: ألم أقُلْ لك يا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6195 رسول الله إنهم قوم بُهْت» إذن: فمعنى قوله سبحانه: {فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم} [يونس: 93] . أي: أن أناساً منهم بقوا على الباطل، وأناساً منهم آمنوا بالرسول الحق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93] . أي: أن الله سبحانه وتعالى سوف يقضي بن ما جاءوا في صف الإيمان، وبين مَنْ بَقَوْا على اليهودية المتعصبة ضد الإيمان. ونحن نلحظ أن كلمة {بَيْنَهُمْ} توضح أن الضمير عام، لهؤلاء ولأولئك. ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى يقضي يوم القيامة بين المؤمنين والكافرين، ويقضي أيضاً بين الكفارين، فمنهم من كان ظالماً لكافر، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6196 ومنهم من كان مختلساً أو مرتشياً، ومنهم من عمل على غير مقتضى دينه؛ لذلك يقضي الله سبحانه بينهم. والآية تفيد العموم في القضاء ماضياً وحاضراً ومستقبلاً بين كل مؤمن وكافر، وبين كل تائب وعاصٍ. ويقو الحق سبحانه بعد ذلك: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6197 والخطاب هنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونحن نعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قال من البداية إنه لا يشك في رسالته، وحين وعده أهله بالسيادة قال: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6197 هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته» . نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يضمر خطاب الأمة في خطاب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الأتباع حين يقرأون ويسمعون الخطاب وهو موجَّه بهذا الأسلوب إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهم لن يستنكفوا عن أيِّ أمر يصدر إليهم. ومثال ذلك: لو أن قائداً يصدر أمراً لاثنين من مساعديه اللذين يقودان مجموعتين من المقاتلين، فيقول القائد الأعلى لكل منهما: إياك أن تفعل كذا أو تصنع كذا. والقائد الأعلى بتعليماته لا يقصد المساعدين له، ولكنه يقصد كل مرءوسيهم من الجند. وجاء الأمر هنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لتفهم أمته أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كان ليتأبَّى على أمر من أوامر الله، بل هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينفّذ كل ما يؤمر به بدقة؛ وذلك من باب خطاب الأمة في شخصية رسولها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقول الحق سبحانه: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} [يونس: 94] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6198 هذا القول دليل على أن الذين عندهم علم بالكتاب من السابقين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يعرفون الحقائق الواضحة عن رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وإن الذين يكابرون ويكفرون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورسالته إنما يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. وقد قال عبد الله بن سلام: «لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد» . إذن: فالحق عندهم واضح مكتوبٌ في التوراة من بشارة به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا يثبت أنك يا محمد صادق في دعوتك، بشهادة هؤلاء. ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [يونس: 94] . والحق القادم من الله تعالى ثابت لا يتغير؛ لأنه واقع، والواقع لا يتعدد، بل يأتي على صورة واحدة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6199 أما الكذب فيأتي على صور متعددة. ولذلك فمهمة المحقِّق الدقيق أن يقلِّب أوجه الشهادات التي تقال أمامه في النيابة أو القضاء؛ حتى يأتي حكمه مصيباً لا مدخل فيه لتناقض، ولا يعتمد على تخيُّل أو أكاذيب. وقول الحق سبحانه: {لَقَدْ جَآءَكَ الحق} [يونس: 94] . إنما يدل على أن الذين قرأوا الكتاب قد عرفوا أنك رسول الله حقّاً، ومنهم من ترك معسكر اليهودية، وجاء إلى معسكر الإيمان بك؛ لأن الحق الذي جاء لا دخل للبشرية فيه، بل جاء من ربك: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [يونس: 94] . ومجيْ الخطاب بهذا الشكل، هو كما قلت موجَّه إلى الأمَّة المؤمنة في شخص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والحق سحبانه يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . هذا القول نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومن غير المعقول أن يشرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكل الآيات التي تحمل معاني التوجيه في الأمور المنزَّه عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصَّة بأمته. وأيضاً يقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6200 {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين} [يونس: 95] . والقول الحكيم ساعة يوجِّه إلى الخير قد يأتي بمقابلة من الشر؛ لتتضح الأشياء بالمقارنة. ونحن في حياتنا اليومية نجد الأب يقول لابنه: اجتهد في دروسك، واستمع إلى مدرِّسيك جيّداً حتى تنجح، فلا تكن مثل فلان الذي رسب، والوالد في هذه الحالة يأتي بالإغراء الخيِّر، ويصاحبه بمقابله، وهو التحذير من الشر. وقد قال الشاعر: فالوَجْهُ مثلُ الصُّبحِ مُبْيَضُّ ... والشَّعْرُ مثلُ الليلِ مُسْوَدُّ ضِدَّانِ لمّا استجمعا حَسُنَا ... والضِّدُّ يُظْهِر حُسنَهُ الضِّدُّ ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6201 وآيات الله سبحانه كما نعرفها متعددة؛ إما آيات كونية وهي الأصل في المعتقد الأول بأن خالقها هو الخالق الأعلى سبحانه، وتُلْفِت هذه الآيات إلى بديع صُنْعه سبحانه، ودقة تكوين خلقه، وشمول قدرتِه. وكذلك يُقصد بالآيات؛ المعجزات المنزلة على الرسل عليهم السلام لتظهر صدق كل رسول في البلاغ عن الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6201 وآيات القرآن الكريم التي تحمل منهج الله. وهم كانوا يُكذِّبون بكل الآيات. والخطاب في هذه الآية هو خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجاء معطوفاً على ما في الآية السابقة، حيث يقول الحق سبحانه: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} [يونس: 94] . وكل ما يريد من مثل هذا القول لا يصح أن نفهم منه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الممكن أن يشك، أو من المحتمل أن يكون من الذين كذَّبوا بآيات الله سبحانه وتعالى ولكن إيراد مثل هذا الأمر، هو إيراد لدفع خواطر البشرية، أيًا كانت تلك الخواطر، فإذا وجدنا الخطاب المراد به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التنزيل، فغاية المراد اعتدال موازين الفهم في أمّته تعليماً وتوجيهاً؛ لأن المنهج مُنزّل عليه لتبليغه لأمته فهو شهيد على الأمم. وإذا كانت الآية التي سبقت توضح: إن كنت في شك فاسأل، فهو سبحانه يعطيه السؤال؛ ليستمع منه إلى الجواب، وليُسْمعه لكل الأمة؛ الجواب القائل: أنا لا أشك ولا أسأل، وحسبي ما أنزل الله سبحانه عليَّ. ألم يَرِدْ في القرآن الكريم أن الحق سبحانه وتعالى يقول للملائكة يوم القيامة بمحضر من عبدوا الملائكة، ويشير إلى هؤلاء الذين عبدوا الملائكة ومخاطباً ملائكته. {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] . ونحن نعلم أن الملائكة: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6202 والحق سبحانه يعلم مسبقاً جواب الملائكة، وهم يقولون: {سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} [سبأ: 41] . ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن يُسْمِع من في الحشر كلهم جواب الملائكة وهم يستنكرون أن يعبدهم أحد من الخَلق، فهؤلاء الخلق إنما عبدوا الجن. إذن: فالسؤال جاء؛ ليبين الرد عليه، مثلما يرد عيسى عليه السلام حين يُعبد من بعض قومه، ويسأله سبحانه عن ذلك: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] . فيأتي الجواب: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] . إذن: فالمراد أن يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنا لا أشك ولا أسأل. والشك كما نعلم معناه: تساوي كفة النفي وكفة الإثبات، فإن رجحت واحدة منهما فهذا ظن، وتكون المرجوحة وَهْماً وافتراء وكذباً. وكلمة «الشك» مأخوذة من مسألة حسية، فنحن نرى الصيادين وهم يصعون كل سمكة بعد اصطيادها في خيط يسمى «المشكاك» . وكذلك نرى من يقوم ب (لضْم) العقود، وهو يشك الحبة في الخيط. من هذا نأخذ أن الشك معناه: ضَمُّ شيء إلى شيء، ومنه الشكائك، وهي البيوت المنتظمة بجانب بعضها البعض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6203 ومنه «شاك السلاح» أي: الذي ضَمَّ نفسه إلى الدرع. فالشك هو ضم شيء إلى شيء، وفي النسب تضم النفي والإثبات معاً؛ لأنك غير قادر على أن ترجِّح أحدهما. وكل خطاب في الشك يأتي على هذا اللون. والآية التي نحن بصددها تقول: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين} [يونس: 95] . ونحن نعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو نفسه آية من الآيات، وهكذا نرى أن الخطاب مُوجَّه لأمته، فمن المستحيل أن يكون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من المكذِّبين لآيات الله سبحانه وتعالى لأن التكذيب بآيات الله تعالى يعني: إخراج الصدق إلى الكذب، وإخراج الواقع إلى غير الواقع. والذين كذبوا بالآيات إما أنهم لا يؤمنون بإله، أو يؤمنون بإله ولا يؤمنون برسول، أو يؤمنون بإله ويؤمنون برسول ولا يؤمنون بما أنزِل على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والذي يؤيد هذا وجود آية في آخر السورة يقول فيها الحق سبحانه: {قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [يونس: 104] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6204 فكأن الخطاب المقصود منه الأمة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ الذين حَقَّتْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6205 وهذا القول يوضح لنا أن الحق سبحانه وتعالى قد علم عِلْماً أزليّاً بأنهم لن يُوجِّهوا اختيارهم للإيمان. فحكمه هنا لا ينفي عنهم مسئولية الاختيار، ولكنه علم الله الأزلي بما سوف يفعلون، ثم جاءوا إلى الاختيار فتحقق علم الله سبحانه وتعالى بهم من سلوكهم. وحُكمْه سبحانه مبنيٌّ على الاختيار، وهو حكم تقديري. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى حين يأتي وزير الزراعة، ويعلن أننا قدَّرنا محصول القطن هذا العام، بحساب مساحة الأراضي المنزرعة قطناً، وبالمتوسط المتوقع لكل فدان، وقد يصيب الحكم، وقد يخيب نتيجة العوامل والظروف الأخرى المحيطة بزراعة القطن، فمن المحتمل أن يُصاب القطن بآفة من الآفات، مثل: دودة اللوزة، أو دودة الورقة. إذن: ففي المجال البشري قد يصيب التقدير وقد يخطىء؛ لأن الإنسان يُقدِّر بغير علم مُطْلق، بل بعلم نسبي. أما تقدير الحق سبحانه فهو تقدير أزلي، وحين يُقدّر الحق سبحانه فلا بد من وقوع ما قدَّره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6205 ولذلك يجب أن نفرق بين قضاء حكم لازم قهري ليس للإنسان فيه تصرف، وبين قدر قد قُدِّر من الله تعالى أن يفعله الإنسان باختياره، وهذه هي عظمة علم الغيب. ومثال ذلك: هو سلوك أبي لهب، فقد نزل فيه قرآن يُتلَى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 12] . وقد نزلت السورة وأبو لهب على قيد الحياة؛ لأن الحق سبحانه قد علم أزلاً أن خواطر أبي لهب لن تدفعه إلى الإيمان، ولو أن أبا لهب امتلك ذرة من ذكاء لجاء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: أنت قلت عنِّي إنني سأصْلَى النار، لكن ها أنذا أعلن أنني أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. لكن ذلك الذكاء لم يكن يملكه أبو لهب، فقد علم الله أزلاً أن خواطره لن تدفعه إلى الإسلام، مثلما دفعت حمزة بن عبد المطلب عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص. وكان إسلام هؤلاء رغم وقوفهم ضد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمراً وارداً. وقد يُقدِّر البشر التقدير، لكن هذا التقدير إنما يتم حسب المعلومات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6206 المتاحة لهم، ولا يملك إنسان علماً كونيّاً أزليّاً بتقديراته، فعلمه محدود، وقد يأتي الأمر على غير ما يُقدِّر؛ لأن الإنسان لا يملك ما يقدر. ولا يقولنَّ أحدٌ: إن الله يعاقب بعد أن قدَّر مسبقاً؛ لأن تقدير الحق سبحانه نابع من علمه الأزلي، وهم كانوا يتمتعون بحق الاختيار. والله سبحانه هو القائل: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124125] . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6207 إذن: فمجيء الآيات وتكرارها لن يفيدهم في الاتجاه إلى الإيمان؛ لأن الحق سبحانه يعلم أنهم سيتوجهون باختيارهم إلى الكفر؛ فقد قالوا من قبل ما أورده الحق سبحانه في كتابه العزيز: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6207 كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 9093] . وكأن الحق سبحانه يأمر رسوله أن يقول موضحاً: لستُ أنا الذي يُنزل الآيات، بل الآيات من عند الله تعالى، ثم يأتي القرآن بالسبب الذي لم تنزل به تلك الآيات التي طلبوها، فيقول سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإسراء: 59] . إذن: فقد نزلت آيات كثيرة لمن سبق في المعاندة والمعارضة، ويقابل قضية عرض الإيمان عليه بكفر يملأ قلبه. فإن كان هناك من يبحث عن الإيمان فليدخل على بحث الإيمان بدون مُعتقد سابق، ولينظر إلى المسألة، وما يسمح به قلبه فليُدخله فيه؛ وبهذا الاختيار القلبي غير المشروط بمعتقد سابق هو قمة القبول. وقد قال الحق سبحانه في الآيات السابقة كلاماً في الوحدانية، وكلاماً في الآيات المعجزات، وكلاماً في صدق النبوة، وكلاماً عن القيامة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6208 وقصَّ لنا سبحانه بعضاً من قصص مواكب الرسل، من نوح عليه السلام، ثم فصَّل قليلاً في قصة موسى وهارون عليهما السلام، ثم سيأتي من بعد ذلك بقصة يونس عليه السلام. ونحن نلحظ أن الحق سبحانه جاء بقصة نوح عليه السلام في إطناب، ثم جاء بخبر عن رسل لم يَقُلْ لنا عنهم شيئاً، ثم جاء بقصة موسى وهارون عليهما السلام، ثم سيأتي من بعد ذلك بقصة يونس عليه السلام، فالسورة تضم ثلاثاً من الرسالات: رسالة نوح، ورسالة موسى وهارون، ورسالة يونس: وهو الرسول الذي سُمِّيت السورة باسمه. ولسائل أن يقول: ولماذا جاء بهؤلاء الثلاثة في هذه السورة؟ وأقول: لقد تعبنا كثيراً، ومعنا كثير من المفسرين حتى نتلمَّس الحكمة في ذلك، ولماذا لم تأت في السورة قصة هود، وثمود، وشعيب، وكان لا بد أن تكون هناك حكمة من ذلك. هذه الحكمة فيما تجلى لنا أن الحق سبحانه وتعالى يعرض موكب الرسالة وموكب المعارضين لكل رسول، والنتيجة التي انتهى إليها أمر الأعداء، وكذلك النتيجة التي انتهى إليها أمر الرسول ومَنْ آمن به. ونجد الذين ذكرهم الله سبحانه هنا قد أهلكوا إهلاكاً متحداً بنوع واحد في الجميع، فإهلاك قوم نوح كان بالغرق، وكذلك الإهلاك لقوم فرعون كان بالغرق، وكذلك كانت قصة سيدنا يونس لها علاقة بالبحر، فقد ابتلعه الحوت وجرى في البحر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6209 إذن فمَنْ ذُكِر هنا من الرسل كان له علاقة بالماء، أما بقية الموكب الرسالي فلم تكن لهم علاقة بالماء. ونحن نعرف أن الماء به الحياة، وبه الإهلاك؛ لأن واهب الحياة يهب الحياة بالشيء، ويُهلك بالشيء نفسه. وكأن الحق سبحانه يبيِّن لنا الحكمة: أنا أهلكتُ بالغرق هناك، ونجَّيْتُ من الغرق هنا. إذن: فطلاقة القدرة الإلهية هي المستولية على هذه السورة، كما تظهر طلاقة القدرة في مجالات أخرى، وبألوان أخرى. وسُميِّت هذه السورة باسم يونس؛ لأن الحق سبحانه أرسله إلى أكثر من مائة ألف، وهم الأمة الوحيدة في هذا المجال التي استثناها الحق سبحانه من الإهلاك، فقد أغرق قوم نوح، وأغرق قوم فرعون؛ فكلاهما قد كذَّب الرسل، ولكن قوم يونس أول ما رأوا البأس آمنوا فأنجاهم الله سبحانه. وسُمِّيت السورة باسم من نجا؛ لأنه عاد إلى الحق سبحانه قبل أن يعاين العذاب، ولكنهم رأوا فقط بشائر العذاب، فنجَّوا أنفسهم بالإيمان. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6210 {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6211 وهكذا يبيِّن لنا الحق سبحانه أن هناك كثيراً من القرى لم تؤمن إلا وقت العذاب، فلم ينفع أيّاً منهم هذا الإيمان، ولكن قوم يونس قبل أن تأتي بشائر العذاب والبأس أعلنوا الإيمان فَقَبِل الحق سبحانه إيمانهم؛ لأنه سبحانه لا يظلم عباده. فمَنْ وصل إلى العذاب، وأعلن الإيمان من قلب العذاب لا يُقبَلُ منه، ومن أحس واستشفَّ بواكير العذاب وآمن فالحق سبحانه وتعالى يقبله. وكملة «لولا» إذا سمعتها فمثلها مثل «لوما» ، وإذا دخلت «لولا» على جملة اسمية فلها حكم يختلف عن حكمها لو دخلت على جملة فعلية، فحين تدخل على جملة اسمية مثل: «لولا زيد عندك لأتيتك» تفيد أن امتناع المجيء هو بسبب وجود زيد، لكنها إن دخلت على جملة فعلية فيقال عنها: «أداة تحضيض وحَثّ» مثل قول الحق سبحانه: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} [التوبة: 122] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6211 أي: أنه كان يجب أن ينفر من كل طائفة عدد ليتدارسوا أمور الدين. والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} [يونس: 98] . أي: أنه لو أن هناك قرية آمنت قبل أن ينزل بها العذاب لأنجيناها كما أنجينا قوم يونس، أو كنا نحب أن يحدث الإيمان من قرية قبل أن يأتيها العذاب. إذن: فقوم يونس هنا مُسْتثنون؛ لأنهم آمنوا قبل أن يأتيهم العذاب. وهناك آية أخرى تتعلق بهذه القصة، يقول فيها الحق سبحانه: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143144] . أي: أن الذي منع يونس عليه السلام أن يظل في بطن الحوت إلى يوم البعث هو التسبيح. وهنا يبيِّن الحق سبحانه الاستثناء الذي حدث لقوم يونس حين يقول: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [يونس: 98] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6212 أي: أن الإيمان نفع قرية قوم يونس قبل أن يقع بهم العذاب. ولذلك يقول الحق سبحانه: {لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [يونس: 98] . ونحن نعلم أن كلمة «قرية» تعني: مكاناً مُهيّأ، أهله متوطنون فيه، فإذا ما مَرَّ عليهم زائر في أي وقت وجد عندهم قرىً أي: وجبة طعام. ونحن نجد من يقول عن الموطن كثير السكان كلمة «بلد» ، وهؤلاء من يملكون طعاماً دائماً، أما من يكونون قلة قليلة في موطن ففي الغالب ليس عندهم من الطعام إلا القليل الذي يكفيهم ويكفي الزائر لمرة واحدة. وتسمى مكة المكرمة «أم القرى» ؛ لأن كل القرى تزورها. وقرية قوم يونس اسمها «نينوى» قد حكى عنها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قصة الذهاب للطائف، وهي قرية العبد الصالح يونس بن مَتَّى، وهي في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6213 العراق ناحية الموصل، ويونس هو من قال عنه الله سبحانه: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} [الأنبياء: 87] . وكلمة «مغاضب» غير كلمة «غاضب» ، فالغاضب هو الذي يغضب دون أن يُغضبه أحد، لكن المغاضب هو من أغضبه غيره. وكذلك كلمة «هجر» ، ومهاجر، فالمهاجر هو من أجبره أناس على أن يهاجر، لكن من هجر هو من ذهب طواعية بعيداً. والمغاضبة إذن تكون من جهتين، وتسمى «مفاعلة» . والحق سبحانه يقول: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] . وسُمِّي سيدنا يونس عليه السلام بذى النون؛ لأن اسمه اقترن بالحوت الذي ابتلعه. وكلنا نعرف القصة، حينما دعا قومه إلى الإيمان وكفروا به في البداية؛ لأن الرسول حين يجيء إنما يجيء ليقوِّم الحياة الفاسدة؛ فيضطهده من يعيشون على الفساد؛ لأنهم يريدون الاحتفاظ بالجبروت الذي يسمح لهم بالسرقة والاختلاس وإرواء أهواء النفس، فلما فعلوا ذلك مع سيدنا يونس عليه السلام خرج مغاضباً، أي: أنهم أغضبوه. والمغاضبة كما قلنا من المفاعلة وتحتاج إلى عنصرين، مثلما أوضحنا أن الهجرة أيضاً مفاعلة؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يهجر مكة، بل ألجأه قومه إلى أن يهاجر، فكان لهم مدخل في الفعل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6214 وأبو الطيب المتنبي يقول في هذا المعنى: إذَا ترحَّلت عن قومٍ وقد قَدروا ... ألاَّ تُغادِرهم فَالرَّاحِلون هُمُ أي: إن كنت تعيش مع قوم، وأردت أن تفارقهم وقد قدروا أن تعيش معهم، فالذي رحل حقيقة هم هؤلاء القوم. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد خروج يونس مغاضباً: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] . أي: أنه رجَّح أن الحق سبحانه لن يُضيِّق عليه الأرض الواسعة، وسيهيىء له مكاناً آخر غير مكان المائة الألف أو يزيدون الذين بعثه الله تعالى إليهم. وكان من المفروض أن يتحمل الأذى الصادر منهم تجاهه، لكن هذا الظن والظن ترجيح حكم يدلنا على أن معارضة دعوته كانت شديدة تُحْفِظ وتملأ القلب بالألم والتعب. وكان عليه أن يُوطِّن نفسه على مواجهة مشقات الدعوة. والقرية التي أرسِل إليها يونس عليه السلام هي قرية: «نينوى» ، وهي التي جاء ذكرها في أثناء حوار بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والغلام النصراني «عداس» الذي قابله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في طريق عودته من الطائف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6215 «وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد ذهب إلى الطائف ليطلب من أهلها النصرة بعد أن آذاه قومه في مكة فلم يجد النصير، وجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قريباً من حائط بستان. فلما رآه صاحبا البستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة وما لقي من السفهاء؛ تحركت له رحمهما، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً، يقال له عَدَّاس، فقالا له: خُذْ قِطْفاً من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عَدَّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال له: كُلْ، فلما وضع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيه يده، قال: باسم الله، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ومنْ أهل أيِّ البلاد أنت يا عدَّاس، وما دينك؟ «. قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى «؛ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متَّى؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي «، فأكبَّ عداس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُقبِّل رأسه ويديه وقدميه. ولما سأل صاحبا البستان عدَّاساً عن صنيعه هذا. قال لهما: لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6216 ونحن نعلم أن العبد الصالح يونس عليه السلام قد تأثر وحزن وغضب من عدم استجابة قومه لرسالته الإيمانية، إلى أن رأوا غَيْماً يملأ السماء وعواصف، والقى الله تعالى في خواطرهم أن هذه العواصف هي بداية عذاب الله لهم؛ فَهُرعوا إلى ذوي الرأي فيهم، فاشاروا عليهم بأن هذه هي بوادر العذاب، وقالوا لهم: عليكم بإرضاء يونس؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أرسله، فآمِنوا به ليكشف عنك الغُمَّة. وهُرع الناس إلى الإيمان بالحي الذي لا يموت، الحيُّ حين لا حيَّ، والقيوم والمُحيي والمميت. وذهب قوم يونس عليه السلام لاسترضائه؛ وحين رضي عنهم بدأوا ينظرون في المظالم التي ارتكبوها، حتى إن الرجل منهم كان ينقض ويهدم جدار يته؛ لأنه فيه حجراً قد اختلسه من جار له. وكشف الله سبحانه وتعالى عنهم العذاب، وهنا يقول سبحانه: {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [يونس: 98] . ومن لوازم قصة يونس عليه السلام، ليست المغاضبة فقط، بل قصته مع الحوت، فقد كان عليه السلام بعد مغاضبته لقومه قد ركب سفينة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6217 فلعبت بها الأمواج فاضطربت اضطراباً شديداً، وأشرفت على الغرق بركابها؛ فألقوا الأمتعة في البحر؛ لتخِفَّ بهم السفينة؛ فاستمر اضطرابها، فاقترعوا على أن يلقوا إلى البحر من تقع عليه القرعة، فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه السلام. مثلما نركب مصعداً، فنجد الضوء الأحمر وقد أضاء إنذاراً لنا بأن الحمولة زائدة، وأن المصعد لن يعمل فيخرج منه واحد أو أكثر حتى يتبقى العدد المسموح به، وعادة يكون الخارج من أحسن الموجودين خُلقاً، لأنهم أرادوا تسهيل أعمال الآخرين. كذلك كان الأمر مع السفينة التي ركبها يونس عليه السلام، كادت أن تغرق، فاقترعوا، وصار على يونس أن ينزل إلى البحر. والحق سبحانه يقول: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين} [الصافات: 141] . ونزل يونس عليه السلام إلى البحر فالتقمه الحوت وابتلعه. ويقول الحق سبحانه وتعالى عن وجود سيدنا يونس عليه السلام في بطن الحوت: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143144] . وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6218 {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا} [يونس: 98] . وعذاب الخزي في الحياة الدنيا يمكن أن تراه مُجسَّداً فيمن افترى وتكبَّر على الناس، ثم يراه الناس في هوان ومذلة، هذا هو عذاب الخزي في الدنيا، ولا بد أن عذاب الآخرة أخْزَى وأشَدُّ. ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [يونس: 98] . أي: أنهم نَجَوْا من الهلاك بالعذاب إلى أن انتهت آجالهم بالموت الطبيعي. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6219 والحق سبحانه وتعالى يبيِّن لنا أنه إن قامت معركة بين نبي مرسل ومعه المؤمنون به، وبين من كفروا به، فلا بد أن يُنزِل الحق سبحانه العذاب بمن كفروا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6219 وإياك أن تفهم أن الحق سبحانه إلى يحتاج عبادة الناس؛ لان الله عَزَّ وجل قديم أزليٌّ بكل صفات الكمال فيه قبل أن يخلق الخلق، وبكماله خلق الخلق، وقوته سبحانه وتعالى في ذاته، وهو خالق من قبل أن يخلق لخلق، ورازق قبل أن يخلق الزرق والمرزوق، والخلق من آثار صفات الكمال فيه، وهو الذي أوجد كل شيء من عدم. ولذلك يُسمّون صفاته سبحانه وتعالى صفات الذات؛ لأنها موجودة فيه من قبل أن يوجد متعلقها. فحين تقول: حيٌّ، ومُحْيٍ، فليس معنى ذلك أن الله تعالى موصوف ب «مُحْيٍ» بعد أن وجد مَنْ يحييه، لا، إنه مُحيٍ، وبهذه الصفة أحيا. ولله المثل الأعلى، وهو سبحانه مُنزَّه عن كل تشبيه: قد نرى المصوِّر أو الرسام الذي صنع لوحة جميلة، هنا نرى أثر موهبة الرسم التي مارسها، واللوحة ليست إلا أثراً لهذه الموهبمة. الحق سبحانه وتعالى إذن له كل صفات الكمال قبل أن يخلق الخلق، وبصفات الكمال خَلَق الخَلْق. فإياك أن تفهم أن هناك أمراً قد جَدَّ على الله تعالى، فلا شيء يجِدُّ علىلحق سبحانه، وهو سبحانه لا ينتفع من خلقه بل هو الذي ينفعهم. ونحن نعلم أن الإيمان مطلوب من الإنسان، وهو الجنس الظاهر لنا ونحن منه، ومطلوب من جنس آخر أخبرنا عنه الله تبارك وتعالى وهو الجن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6220 وأما بقية الكون فمُسبِّح مؤمن بالله تعالى، والكون عوالم لا حصر لها، ولكلٍّ نظام لا يحيد عنه. ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يُدخِل الثقلين الإنس والجن في نظام التسخير ما عَزَّ عليه ذلك؛ لكن هذا التسخير يثبت له القدرة ولا يثبت له المحبوبية. ولذلك ترك الحق سبحانه الإنسان مختاراً ليؤمن أو لا يؤمن، وهذا ما يثبت له المحبوبية إن جئته مؤمناً، وهذا يختلف عن إيمان القَسْر والقهر، فالإيمان المطلوب من الإنسان أو الجن هو إيمان الاختيار. وأما إيمان القسر والقهر، فكل ما في الكون من عوالم مؤمن بالحق سبحانه، مُسبِّح له. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . وهذا ليس تسبيح دلالة ورمز، بل هو تسبيح حقيقي، بدليل قوله سبحانه وتعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . فإن فقَّهك الله تعالى في لغاتهم لعلمت تسبيح الكائنات، بدليل أنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6221 عَلَّم سليمان عليه السلام منطق الطير، وسمع النملة تقول: {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] . والهدهد قال لسليمان عليه السلام ما رآه عن بلقيس ملكة سبأ: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 24] . إذن: فكل ما في الكون مُسبِّح لله تعالى، يسير على منهجه سبحانه ما عدا المختار من الثقلين: الإنسان والجان؛ لأن كلاً منهما فيه عقلٌ، وله مَيْزة الاختيار بين البدائل. ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن خلق للإنسان الاختيار حتى يذهب المؤمن إليه اختياراً، ولو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجبر الإنسان على الإيمان لَفعلَ. أقول ذلك حتى لا يقولن أحد: ولماذا كل هذه المسائل من خَلْق وإرسال رُسل، وتكذيب أناس، ثم إهلاك المكذِّبين؟ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6222 إذن: فالحق سبحانه خلق الإنسان وسخَّر له كل الأجناس، ولم يجبره على الإيمان، بل يقول سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] . وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُحبّاً مخلصاً لقومه وعشيرته، وذاق حلاوة الإيمان، وحزن لأنهم لم يؤمنوا، فينبهه الحق سبحانه وتعالى أن عليه مهمة البلاغ فقط، فلا يكلّف نفسه شَططاً. والحق سبحانه وتعالى شاء أن يجعل للإنسان حقَّ الاختيار وسخَّر له الكون، ومن الناس من يؤمن، ومن الناس من يكفر، بل ومن المؤمنين من يطيع مرة، ويعصي أخرى، وهذه هي مشيئة الحق ليتوازن الكون، فكل صفة خيِّرة إنْ وجد من يعارض فيها فهذا ما شاءه الله سبحانه وتعالى للإنسان، فلا تحزن يا رسول الله؛ فالحق سبحانه وتعالى شاء ذلك. وإنْ غضب واحد من أن الآخرين لم يعترفوا بصفاته الطيبة نقول له: إن الحق سبحانه هو خالق الكون وهو الرازق، قد كفروا به وألحدوا، وجعلوا له شركاء، فتَخلَّقوا بأخلاق الله؟ ولذلك قال الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6223 {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] . إنه سبحانه وتعالى يريد إيمان المحبة وإيمان الاختيار. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6224 هكذا يُبيِّن لنا الحق سبحانه أن أحداً لا يؤمن إلا بإذن من الله تعالى؛ لأن معنى أن تؤمن أن يكون إيمانك إيمان فطرة نتيجة تفكُّر في سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجَاج، وبحار تَزْخر، ورياح تَصْفِر، كل ذلك يدل على وجود الخالق سبحانه. لكن أتَرَكَ الله سبحانه وتعالى الناس للفطرة؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6224 لا، بل أرسل سبحانه لهم الرسل ليذكِّروهم بالآيات الموجودة في الكون، ولينتبه الغافل؛ لأنه سبحانه لا يريد أن يأخذ الناس على حين غفلة. ولذلك يقول الحق سبحانه: {أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] . لذلك ينبههم الحق سبحانه بأن هناك أشياء كان يجب أن تُذكر، وكأن الحق سبحانه يُبيِّن لنا: إياكم أن تفهموا أن أحداً يخرج عن مُلكي إلا بإرادتي، فأنا بخلقي له مختاراً سمحت له أن يكفر أو يؤمن، وسمحت له أن يطيع أو أن يعصي. كل ذلك من أجل أن يثبت لي صفة المحبوبية. لذلك فلا أحد يؤمن إلا بإذن الله سبحانه وتعالى، ولا أحد يكفر إلا بإذنه سبحانه؛ لأن مَنْ خلقه مختاراً عَلِمَ برضاء منه بما يكون من المخلوق، فالكافر لم يكفر قهراً، والمؤمن لم يؤمن قهراً من الله سبحانه. وساعةَ يأتي الرسول ليعرض قضية الإيمان، يتذكر الإنسان إيمان الفطرة ويقول: لقد جاء هذا الرسول بهذا المنهج ليعدِّل لي حياتي، فلا بد أن أرْهِفَ له السمع. وساعة يُقْبِل العبد على الله تعالى، فسبحانه يأذن له أن يدخل إلى حظيرة الإيمانَ. إن العبد مِنَّا إذا ما ذهب للقاء عبد مثله له سيادة وجاه، ويدرك العبد صاحب السيادة والجاه بفضل من الله السبب الذي جاء من أجله العبد الآخر؛ فيقول صاحب السيادة لمعاونيه: لا تُدْخِلوه. وهو يقول ذلك؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6225 لأن الله سبحانه أطلعه على ما في قلب العبد الآخر من غلًّ ومن حقدٍ ومن نفاق. أما إذا دقَّ بابه عبد آخر، فتجده يأمر معاونيه أنْ يُدخلوه وأن يفسحوا له؛ لأنه علم بما في قلبه من محبة ورغبة في صِدْق اللقاء والمودة. إذا كان هذا يحدث بين العباد، وهم كلهم أغيار، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى؟ والله سبحانه هو القائل في حديث قدسي: «من ذكرني في نفسه ذكرتُه في ملأ خير منه» . ما بالنا بالعبد إذا دخل على الإيمان بالله غير مشحون بعقيدة عدا الله. إذن: أقْبِلْ على الله سبحانه وعلى ذكر الله، وأنت إنْ ذكرت الله في نفسك، فالله يذكرك فيه نفسه، وإن ذكرته في ملأ ذكرك في ملأ خير منه، فالملأ الذي ستذكره فيه ملأ خَطَّاءٌ، والله سبحانه سيذكرك في ملأ طاهر. ويقول الحق سبحانه في ذات الحديث القدسي: «إنْ تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبت إليه ذراعاً» . والذراع أطول من الشِّبر. ويقول: «وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» . فالمشي قد يُتعب العبد، لذلك يُسرع إليه الحق عَزَّ وَجَلَّ، وهو سبحانه بكل ربوبيته ما إنْ يعلمْ أن عبداً قد صفا قلبه من خصومة الله تعالى في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6226 شيء، حتى يفتح أمامه أبواب محبته سبحانه، فيحبِّب فيه خلقه، ويجعل له مدخل صدق في كل أمر ومخرج صدق من كل ضيق، وهو الحق القائل: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] . ونلحظ أن الحق سبحانه يؤكد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها أنه لو شاء لآمن مَنْ في الأرض جميعاً؛ ليبيِّن لنا أنه حتى إبليس الذي دخل في جدالٍ مع الله، لو شاء الحق سبحانه لآمن إبليس. وجاء الحق سبحانه بهذا التأكيد؛ لِيُحْكِمَ الأمرَ حول كل خَلْقه ومخلوقاته، فلا يشذ منهم أحد. ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] . أراد الحق سبحانه أن يُنبِّه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكل المؤمنين أنه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] . لأن مطلوبات الدين ليست هي المطلوبات الظاهرة فقط التي تقع عليها العين، فهناك مطلوبات أخرى مستترة، فَهَبْ إنك أكرهت قالباً أتستطيع أن تُكرِه قلباً؟ والحق سبحانه وتعالى يريد قلوباً لا قوالب. وهكذا لا يصلح الإكراه في قضية الدين، ولكن على الإنسان ألاَّ يسحب الإكراه إلى غير موضعه أو مجاله؛ لأنك قد تجد مسلماً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6227 لا يصلّي فينهره صديقه، فيردّ: لا إكراه في الدين. وهذا استخدام غير صحيح واستدلال خاطىء؛ لأن الإكراه في الدين إنما يكون ممنوعاً في القضية العقدية الأولى. ولكن مَنْ أعلن أنه مسلم، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا إعلان بالالتزام بكل أحكام الإسلام، وهو محسوب على الإسلام، فإنْ أخلْ بحكمٍ من أحكام الإسلام فلا بد من محاسبته. ولا إكراه في الدين، فيما يخصُّ القضية العقدية الأولى، وأنت حُرٌّ في أن تدخل إلى الإسلام أو لا تدخل، فإنْ دخلت الإسلام فأنت ملتزم باحكام الإسلام؛ لأنك آمنت به وصِرْتَ محسوباً عليه، واحفظ حدود الإسلام ولا تكسرها؛ لأنك على سبيل المثال لا قدر الله إن سرقت؛ تٌقطع يدك، وإنْ زنيت تُرجَم أو تُجلد، وإنْ شربت الخمر تُجلد؛ لأنك قبلتَ قواعد الإسلام وشريعته. وإنْ رأى واحدٌ مسلماً يسرق، فلا يقولن إن الإسلام يُسرِّق، ولكن إن رآه يُعاقَب، فهو يعرف أن الإسلام يعاقب مَنْ يجرم. إذن: ف {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] . تخص المنع عن الإكراه على أصل الدين، ولكن بعد أن تؤمن فأنت ملتزم بفرعيات الدين، وتعاقب إنْ خرجتَ على الحدود. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «مَيَلُ القائم على حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6228 فكان الذين في أسفلها إذا اسْتَقَوْا من الماء مرُّوا على مَنْ فوقهم فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خُرْقاً ولم نُؤذِ مَنْ فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وأن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً» . إذن: فالالتزام بفروع الدين أمر واجب ممن دخل الدين دون إكراه، وإنْ خدش حكماً من الأحكام يُعاقب. وهناك ما هو أشدُّ من ذلك، وهو حكم مَنْ ارتد عن الإسلام، وهو القتل. وقد يقول قائل: إن هذا الإمر يمثل الوحشية. فنقول له: إن من التزم بالدين، إنما قد علم بداية أنه إنْ آمن ثم ارتد، فسوف يُقتَل؛ ولذلك فليس له أن يدخل إلى الإسلام إلا بيقين الإيمان. وهذا الشرط للدين؛ لا على الدين. فلا تدخل على الدين إلا وأنت متيقِّن أن أوامر الدين فوق شهواتك، واعلمْ أنك إنْ دخلتَ على الدين ثم تَخلَّيْتَ عنه فسوف تُقْتَل، وفي هذا تصعيب لأمر دخول الدين، فلا يدخله أحد إلا وهو واثق من يقينه الإيماني، وهذا أمر محسوب للدين لا ضد الدين. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 100] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6229 والرجس: هو العذاب، وهو الذنب، ويجعله الحق سبحانه وتعالى على الذين لا يعقلون؛ لأن قضية الدين إذا طُرِحَتْ على العقل بدون هَوىً؛ لا بُدَّ أن ينتهي العقل إلى الإيمان. ولذلك تجد القمم الفكرية حين يدرسون الدين؛ فهم يتجهون إلى الإسلام؛ لأنه هو الدين الذي يشفي الغُلَّة، أما الذين أخذوا الدين كميراث عن الآباء، فهم يظلون على حالهم. وبعض القمم الفكرية في العالم التي اتجهت إلى اعتناق الإسلام، لم تتجه إليه بسبب رؤيتهم لسلوك المسلمين؛ لأن سلوك المنسوبين للإسلام في زماننا قد ابتعد عن الدين. ولذلك فقد اتجهت تلك القمم الفكرية للإسلام إلى دراسة مبادىء الإسلام، وفرَّقوا بين مبادىء الدين، وبين المنتمين للدين، وهذا إنصاف في البحث العقلي؛ لأن الدين حين يُجرِّم عملاً، فليس في ذلك التجريم إذْنٌ من الدين بحدوث مثل هذا الفعل المجرم، بدليل تقدير العقاب حسب خطورة الجريمة. فالحق سبحانه قد قال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . إنه الإذن باحتمال ارتكاب السرقة، وكذلك الأمر بالنسبة للزنا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6230 وغير ذلك من الجرائم التي جعل لها لحق سبحانه عقوبات تتناسب مع الضرر الواقع على النفس أو المجتمع من وقوعها، فإذا رأيت مسلماً يسرق، فتذكَّر العقاب الذي أوقعه الإسلام على السارق، وإنْ رأيتَ مسلماً يزني، فَتذكَّر العقوبة التي حددها الحق سبحانه للزاني. وهكذا الحال في جميع الجرائم. وكبار المفكرين العالميين الذين يتجهون إلى الإسلام إنما يدرسون مبادىء الدين مفصولة عن سلوك المسلمين المعاصرين، الذين ابتعدوا عن مبادىء الدين الحنيف. وها هو ذا «جينو» المفكر الفرنسي يقول: «الحمد لله الذي هداني للإسلام قبل أن أعرف المسلمين، فلو كنتُ قد عرفتُ المسلمين قبل الإسلام لكان هناك احتمال لزلزلة في النفس تجعلني أتردد في الدخول إلى هذا الدين الرفيع المقام» . إذن: فإعمال العقل الراقي لا بد أن يؤدي إلى الإسلام لأنه فطرة الله، والإسلام يُنمِّيها، ويرتقي بها، والعقل هو مَنَاطُ التكليف. والرجس والذنب والعذاب كله إنما يقع على الذين لا يُعْمِلون عقولهم، وإعمال العقل المتعقل للقيم ينفي الرجس؛ لأنهم سيُقبلون على التدين بإذن الله تعالى لهم أن يدخلوا على الإيمان به. وإذا سألني سائل: ما هو العقل؟ وما هو مَناَطُ التكليف؟ نجد أن كلمة «عقل» مأخوذة من عِقَال البعير، وهو ما يُشَدُّ على رُكْبته حتى لا ينهض، ويظل سكاناً، وحين يريد صاحبه أن يُنهضه فهو يفكُّ العقال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6231 وأهل الخليج يضعون على رؤوسهم غطاء للرأس (غُتْرة) ويثبتونه بنسيج مغزول على هيئة حلقتين، ويسمون هاتين الحلقتين «العقال» ؛ لأنه يمنع غطاء الرأس من أن يحركه الهواء، أو يُطيّره. إذن: فالعقل أراده الله سبحانه لنا ليحجزنا عن الانطلاق والفوضى في تحقيق شهوات النفس؛ لأنه سبحانه قد خلق النفس البشرية، ويعلم أنها تحب الشهوات العاجلة، فأراد سبحانه للإنسان أن يكبح جماح تلك الشهوات بالعقل. فحين يفكر الإنسان في تحقيق الشهوة العاجلة، يجد عقله وهو يهمس له: إنك ستستمتع بالشهوة العاجلة دقائق، وأنت قد تأخذها من غيرك؛ من محارمه أو من ماله، فهل تسمح لغيرك أن يأخذ شهوته العاجلة منك؟ إذن: عليك أن تعلم أن العقل إنما أراده الله سبحانه لك ليعقلك عن الحركة التي فيها هَوى، وتحقق بها شهوة ليست لك، ومغبَّتها متعبة. ويخطىء مَنْ يظن أن العقل يفتح الباب أمام الانطلاق اللا مسئول باسم الحرية، ونقول لمن يظن مثل هذا الظن: إن العقل هو مَنَاطُ التكليف، وهو الذي يوضِّح لك آفاق المسئولية في كل سلوك. ومن عدالة الحق سبحانه أنه لم يكلِّف المجنون؛ لأن حكم المجنون على الأشياء والأفعال هو حكم غير طبيعي؛ لأنه يفتقد آلة الاختيار بين البدائل. وكذلك لم يكلف الله سبحانه مَنْ لي ينضج بالبلوغ؛ لأنه غير مُسْتوفٍ للمَلَكات، ولم تستوِ لديه القدرة على إنجاب مثيل له. وقد ضربنا من قبل المثل بالثمرة، وقلنا: إنه لا يقال إن الثمرة نضجت وصار طَعْمها مقبولاً مستساغاً إلا إذا أصبحت البذرة التي فيها قادرة على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6232 أن تنبت منها شجرة إن زرعناها في الأرض. وأنت مثلاً حين تقطع البطيخة، وتجد لُبَّها أبيض اللون فأنت لا تأكلها، وتحرص على أن تأكل البطيخة ذات البذر الذي صار أسود اللون؛ لأنه دليل نُضْج البطيخة، وأنت حين تأخذ هذا اللبَّ وتزرعه ينتح لك بطيخاً. إذن: فاكتمال الإنسان بالبلوغ يتيج لعقله أن يَزِنَ السلوك قبل الإقدام عليه، والتكليف إنما يكون للعاقل البالغ غير المكرة بقوةٍ تقهره على أن يفعل ما لا يعقله. أما قبل البلوغ فالتكليف ليس من الله، بل من الأسرة، لتدربه على الطاعة. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لنا: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرِّقوا بينهم في المضاجع» . وهنا نجد أن الذي يأمر هو الأب وليس الله، والذي يعاقب هو الأب، وليس الله، وما إن يصل الابن إلى مرحلة البلوغ يبدأ تكليفه من الله. أما إذا جاء مَنْ يُكْرِهه على أن يرتكب معصية بقوة تفوق قوته كأن يمسك (مسدساً) ويقول له: إن لم تشرب الخمر أطلقتُ عليك النار، فهنا يرفع عنه التكليف. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول في الحديث الشريف: «إن الله تجاوز عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما اسْتُكرِهوا عليه» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6233 فالعقل إذن هو مناط التكليف، وعمله أن يختار بين البدائل في كل شيء، ففي الطعام مثلاً نجد مَنْ يهوى وضع (الشطة) فوق الطعام؛ لأنها تفتح شهيته للطعام، وبعد أن يأكل نجده صارخاً من الحموضة، ويطلب المهضِّمات، وقد لا تفلح معه، بل وقد تُفسد له الغشاء المخاطي الموجود على جدار المعدة لحمايتها، فَرُبَّ أكْله منعتْ أكلات؛ ولذلك نجد عقله يقول له: احذر من هذا اللون من المشهيات؛ لأنه ضارٌّ بك. وهكذا نجد العقل هو الذي يوضح للإنسان نتائج كل فعل، وهو الذي يدفع إلى التأني والإجادة في العمل؛ ليكون ناتج العمل مفيداً لك ولغيرك باستمرار، ولم يأتِ العقل للإنسان ليستمرىء به الخطأ والخطايا. وهكذا نجد أن العقل يدرك ويختار السلوك الملائم لكل موقف، بل إن العقل يدعو الإنسان إلى الإيمان حتى في مرحلة ما قبل التكليف، فحين يتأمل الإنسان بعقله هذا الكون لا بُدَّ أن يقوده التأمل إلى الاعتراف بجميل صنيع الخالق سبحانه وتعالى. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6234 وهنا يُحدِّثنا الحق سبحانه عن عالم المُلْك الذي تراه، ولا يتكلم عن عالم الملكوت الذي يغيب عنك، وكأنك إن اقتنعت بعالم الملك، وقلت: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6234 إن لهذا العالم خالقاً إلهاً قادراً قوياً، وتؤمن به؛ هنا تهبُّ عليك نفحات الغيب؛ لتصل إلى عالم الملكوت؛ لأنك اكتشفت في داخلك أمانتك مع نفسك، وأعلنت إيمانك بالخالق سبحانه، ورأيت جميل صُنْعه في السماء والكواكب، وأعجْبتَ بدقة نظام سَيْر تلك الكواكب. وترى التوقيت الدقيق لظهور الشمس والقمر ومواعيد الخسوف الكلي أو الجزئي، وتُبهر بدقة المنظِّم الخالق سبحانه وتعالى، ولن تجد زحام مرور بين الكواكب يعطل القمر أو يعطل الأرض، ولن يتوقف كوكب ما لنفاد وقوده، بل كما قال الله سبحانه وتعالى: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] . ونحن في حياتنا حين نرى دقة الصنعة بكثير فيما هو أقل من السماء والشمس والقمر، فنحن نكرِّم الصانع، وقد أكرمت البشرية مصمِّم التلغراف، ومصمم جهاز التليفزيون، فما بالنا بخالق الكون كله سبحانه. ويكفي أن نعلم أن الشمس تبعد عنا مسافة ثماني دقائق ضوئية، والثانية الضوئية تساوي ثلاثمائة ألف كيلوا متر، وهي شمس واحدة تراها، غير آلاف الشموس الأخرى في المجرَّات الأولى، وكل مجرَّة فيها ملايين من المجموعات الشمسية، ويكفي أن تعلم أن الحق سبحانه قد أقسم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6235 بالشمس، وقال عن كوكب الشِّعْرى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} [النجم: 49] . لأن كوكب الشعرى أكبر من الشمس. وحين تتأمل السموات والأرض تجد في الأرض جبالاً شامخة، وتمر عليها فتُدْهش من دقة التكوين ودقة التماسك، وتجد في داخلها نفائس ومعادن بدرجات متفاوتة، وقد تجد أسطع الجبال مُكوَّنة من مواد خصبة بشكل هشٍّ، فإذا ما نزل عليها المطر، فهو يصحبها معه إلى الأرض؛ لأنها تكون مجرد ذرات كذرات برادة الحديد، وتتخلل الأرض التي شقَّقتها حرارة الشمس. والمثل الواضح على ذلك هو ما كان يحمله النيل من غِرْيَن في أثناء الفيضان إلى الدلتا قبل بناء السد العالي، وكانت مياه النيل في أيام الفيضان تشبه مادة «الطحينة» من فرط امتزاجها بذرات الغِرْين، وفي مثل هذا الغرين يوجد الخِصْب الذي نأخذ منه الأقوات. ولو أن الجبال كلها كانت هشَّة التكوين، لأزالها المطر مرة واحدة، وجعلها مجرد مسافة نصف متر مضاف لسطح الأرض، ولاختفى الخصب من الأرض بعد سنوات، لكن شاء الحق سبحانه أن يجعل الجبال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6236 متماسكة، وجعل سطحها فقط هو الهش لينزل المطر في كل عام مرة؛ ليحمل الخصب إلى الأرض. ومَنْ يتأمل هندسة التكوين في الاقتيات يجد الجبال مخازن للقوت. فالبشر يحتاجون إلى الحديد ليصنعوا منه ما يفيدهم، سواء أكان آلات لحرث الأرض، أو أي آلات أخرى تساعد في تجميل الحياة، وتجد الحديد مخزوناً في الجبال. وكذلك نجد المواد الأخرى مثل الفوسفات أو المنجنيز، أو الرخام، أو الفيروز أو الغازات. إذن: فالمطمور في الجبال إما للاقتيات، أو وسيلة إلى الاقتيات، أو وسيلة للتَّرف فوق الاقتيات. وحين ينزل المطر فوق الجبال فهو يأخذ الخِصْب من الطبقة الهشَّة على سطح الجبال وتبقى المواد الأخرى كثروات للناس، ففي إفريقيا مثلاً توجد مناجم للفحم والماس، وفي بلاد أخرى تجد عود الطيب، وهو عبارة عن جذور أشجار. وأنت لو شققت الأرض كقطاع من محيط الأرض إلى المركز تجد الأرض الخصبة مع الصحراء، مع المياه، مع الجبال، متساوية في الخير مع القطاع المقابل للقطاع الأول. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6237 وقد تختلف نوعيات العطاء من موقع إلى آخر على الأرض، فأنت لو حسبت مثلاً ما أعطاه المطر للنيل من خِصْب الجبال من يوم أن خلق الله عَزَّ وَجَلَّ النيل في أرض وادي النيل في إفريقيا، وحسبت ما أعطاه النفط (البترول) ، في صحراء الإمارات مثلاً، ستجد أن عطاء النيل يتساوى مع عطاء البترول، رغم أن اكتشاف البترول قد تَمَّ حديثاً. وكل قُوتٍ محسوب من مخازن القوت، وكل قوت له زمن، فهناك زمن للفحم، وزمن للبترول، كل ذلك بنظام هندسي أنشأه الحكيم الأعلى سبحانه. وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال: {يَعْقِلُونَ} في مجال النظر في السموات وفي الأرض، فهذه دعوة لتأمل عجائب السموات والأرض. ومن تلك العجائب أن الجبال الشاهقة لها قمة، ولها قاعدة، مثلها مثل الهرم، وتجد الوديان على العكس من الجبال؛ لأن الوادي يكون بين جبلين، وتجد رأس الوادي في أسفله، ورأس الجبل في قمته. وحين ينزل المطر فهو يمرُّ برأس الجبل الضيق؛ ليصل إلى أسفل قاع الوادي الضيق، وكلما نزل المطر فهو يأخذ من سطح الجبل؛ ليملأ مساحة الوادي المتسعة، وكلما ازداد الخلق، زاد الله سبحانه رقعة الاقتيات. ومثال ذلك تجده في الغِرْيَن القادم من منابع النيل؛ ليأتي إلى وادي النيل والدلتا، وكانت هذه الدلتا من قبل مجرد مستنقعات مالحة، وشاء الحق سبحانه أن تتحول إلى أرض خصبة. وحين نتأمل ذلك نرى أن كل شيء في الكون قد أوجده الحق سبحانه بحساب. والذي يفسد الكون هو أننا لا نقوم بتكثير ما تكاثر، بل ننتظر إلىأن تزدحم الأرض بمن عليها، ثم نفكر في استصلاح أراضٍ جديدة، وكان يجب أن نفعل ذلك من قبل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6238 وكلما نزل المطر على الجبال فهي تتخلخل وتظهر ما فيها من معادن، يكشفها الإنسان ويُعْمِل عقله في استخدامها. والمؤمن حين يرى ذلك يزداد إيماناً، وكلما طبَّق المؤمن حُكْماً تكليفياً مأموراً به، يجد نور الإيمان وهو يشرق في قلبه. وليُجرِّب أي مسلم هذه التجربة، فليجرب أن يعيش أسبوعاً في ضوء منهج الله سبحانه وتعالى، ثم يَزنْ نفسه ويُقيِّمها ليعرف الفارق بين أول الأسبوع وآخر الأسبوع، سيكتشف في هذا الأسبوع أنه يصلي في مواقيت الصلاة، وسيجد أنه يعرق في عمله ليكسب حلالاً، وسيجد أنه يصرف ماله في حلال. زنْ نفسك يقينياً في آخر الأسبوع ستجد أن نفسك قد شفَّت شفافية رائعة؛ لتجد ضوء ونور الإيمان وهو يصنع انسجاماً بينك وبين الكون كله في أبسط التفاصيل وأعقدها أيضاً. ومثال ذلك: إنك قد تجد الرجل من هؤلاء الذين أسبغ عليهم تطبيقُ منهج الله الشفافيةَ تسأله زوجته: ماذا نطبخ اليوم؟ فيقول لها: فَلْنقْضِ اليوم بما بقي من طعام أمس، ثم يُفَاجأ بقريب له يزوره من الريف، وقد جاءه ومعه الخير. لقد وصل الرجل إلى درجة من الشفافية تجعله منسجماً مع الكون كله، فيصله رزق الله تعالى له من أيِّ مكان. وتجد الشفافية أيضاً في أعقد الأمور، ألم يَقُلْ يعقوب عليه السلام: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6239 وكان إخوة يوسف عليه السلام ما زالوا على أبواب مصر خارجين منها للقاء أبيهم، حاملين قميصَ يوسف، الذي أوصاهم يوسف بإلقائه على وجه أبيه ليرتد إليه بصره. لقد جاءت ريح يوسف عليه السلام لأبيه يعقوب؛ لأن يعقوب عليه السلام قد عاش في انسجام مع الكون، ولا توجد مُضارة بينه وبين الكون. والمثال الحيّ لذلك هو فرح لكون لمجيء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يوم مولده، لقد فرح الكون بمقدم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الكون عابد مُسبِّح لله سبحانه، فحين يأتي مَنْ يدعو العباد إلى التوحيد لا بُدَّ أن يفرح الكون، أما مَنْ يَعْصِ الله تعالى، فالكون كله يكرهه ويلعنه، ويتلاعن الاثنان. وقد فرح الكون بمجيء الرسول الذي أراد الله سبحانه أن تنزل عليه الرسالة الإلهية ليعتدل ميزان الإنسان مع الكون. وهنا يقول الحق سبحانه: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 101] . والكون كله أمامهم، فلماذا لا ينظرون؟ إنهم يبصُرون ولا يستبصرون، مثل الذي يسمع ولا يسمع؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6240 {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] . إذن: فعدم إيمانهم أفقدهم البصيرة والتأمل. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6241 وهؤلاء الذين لا يؤمنون يظلون في طغيانهم يعمهون، وكأنهم ينتظرون أن تتكرر معهم أحداث الذين سبقوا ولم يؤمنوا، لقد جاءهم الرسول ببيان ككل المكذِّبين السابقين. ونحن نعلم أن اليوم هو وحدة من وحدات الزمن، وبعده الأسبوع، وبعد الأسبوع نجد الشهر، ثم نجد السنة، وكلما ارتقى الإنسان قسَّم اليوم إلى ساعات، وقسَّم الساعات إلى دقائق، وقسَّم الدقائق إلى ثوانٍ. ولكما تقدمت الأحداث في الزمن نجد المقاييس تزداد دقة، واليوم كما قلنا جعله الله سبحانه وتعالى وحدة من وحدات الزمن، وهو مُكوَّن من ليل ونهار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6241 ولكن قد يُذكر اليوم ويُراد به ما حدث فيه من أحداث مُلْفِتة، مثلما نقول: «يوم ذى قَرَد» و «يوم حنين» و «يوم أحُد» . إذن: فقد يكون المقصود باليوم الحدث البارز الذي حدث فيه، وحين ننظر في التاريخ، ونجد كتاباً اسمه «تاريخ أيام العرب» ، فنجد «يوم بُعَاث» و «يوم أوطاس» وكل يوم يمثل حرباً. إذن: فاليوم ظرف زمني، ولكن قد يُقصَد به الحدث الذي كان في مثل هذا اليوم. ومثال ذلك أنك قد تجد من أهل الزمن المعاصر مَنْ عاش في أزمنة سابقة فيتذكر الأيام الخوالي ويقول: كانت الأسعار قديماً منخفضة، وكان كل شيء مُتوفراً، فيسمع مَنْ يرد عليه قائلاً: لقد كانت أياماً، أي: أنها أيام حدث الرخاء فيها. إذن: فقد يُنسَب اليوم إلى الحدث الذي وقع فيه. وهنا يقول الحق سبحانه: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ} [يونس: 102] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6242 والذين خلوا منهم قوم نوح عليه السلام وقد أغرقهم الله سبحانه، وقوم فرعون الذين أغرقهم الله تعالى أيضاً. والله سبحانه هو القائل: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] . وهذه أيام حدثت فيها أحداث يعلمونها، فهل هم ينتظرون أياماً مثل هذه؟ بالطبع ما كان يصحُّ لهم أن يستمرئوا الكفر، حتى لا تتكرر معهم مآسٍ كالتي حدثت لمن سبقهم إلى الكفر. ونحن نجد في العامية المثل الفطري الذي ينطق بإيمان الفطرة، فتسمع من يقول: «لك يوم يا ظالم» أي: أن اليوم الذي ينتقم فيه الله تعالى من الظالم يصبح يوماً مشهوراً؛ لأن الظالم إنما يفتري على خلق الله؛ لذلك يأتي له الحق سبحانه بحدث ضخم يصيبه فيه الله تعالى ويذيقه مجموع ما ظلم الناسَ به. وقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} [يونس: 102] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6243 وقوله هنا: {فانتظروا} فيه تهديد، وقوله: {إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} [يونس: 102] فيه بشارة؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سينتظر هذا اليوم ليرى عذابهم، أما هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسوف يتحقق له النصر في هذا اليوم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6244 والحق سبحانه قد أنجْى مِنْ قَبْل رُسله ومَنْ أمنوا بهم، لتبقى معالم للحق والخير. ومن ضمن معالم الخير والحق لا بد أن تظل معالم الشر، لأنه لولا مجيء الشر بالأحداث لتي تعَضُّ لناس لما استشرف الناس إلى الخير. ونحن نقول دائماً: إن الألم الذي يصيب المريض هو جندي من جنود العافية؛ لأنه ينبه الإنسان إلى أن هناك خللاً يجب أن يبحث له عن تشخيص عند الطبيب، وأن يجد علاجاً له. والألم يوجد في ساعات اليقظة والوعي، ولكنه يختفي في أثناء النوم، وفي النوع رَدْع ذاتيٌّ للألم. وقول الحق سبحانه هنا: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} [يونس: 103] . هذا القول يقرر البقاء لعناصر الخير في الدنيا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6244 وكلما زاد الناس في الإلحاد زاد الله تعالى في المدد، ففي أيِّ بلد يُفْترى فيها على الإيمان ويُظلم المؤمنون، ويكثر الطغاة؛ تجد فيها بعض الناس منقطعين إلى الله تعالى، لتفهُّم حقيقة القيم، وحين تضيق الدنيا بالظلمة والطغاة تجدهم يذهبون إلى هؤلاء المنقطعين لله، ويسألونهم أن يدعوا لهم. وقد ألزم الحق سبحانه وتعالى هنا نفسه بأن يُنجِي المؤمنين في قوله سبحانه: {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} [يونس: 103] . ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6245 والشَّكُّ معناه: وضَعْ أمرين في كِفَّتين متساويتين. وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يعرض على الكافرين قضية الدين، وأن يضعوها في كفة، ويضعوا في الكفة المقابلة ما يؤمنون به. ويترك لهم الحكم في هذا الأمر. هم إذن في شك: هل هذا الدين صحيح أم فاسد؟ وعَرْض الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأمر الدين للحكم عليه، يعني: أن أمر الدين ملحوظ أيضاً عند أيِّ كافر، وهو ينتبه أحياناً إلى قيمة الدين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6245 فإن كنتم في شكٍّ من الدين الذي أنزِلَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهل ينتصر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومَنْ معه عليهم، أم تكون لهم الغلبة؟ وحين يعرض الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر الدين عليهم، ويترك لهم الحكم، فهذه ثقة منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن قضايا دينه إنْ نظر إليها الإنسان ليحكم فيها، فلا بد أن يلتجىء الإنسان إلى الإيمان. ويحسم الحق سبحانه وتعالى أمر قضية الشرك به، ويستمر أمره إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول: {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ولكن أَعْبُدُ الله} [يونس: 104] . أي: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يمكن أن يعبد الشركاء وأن يعبد الله؛ لأنه لن يعبد إلا الله {ولكن أَعْبُدُ الله} [يونس: 104] . ثم جاء سبحانه بالدليل الذي لا مراء فيه، الدليل القوي، وهو أن الحق سبحانه وتعالى وحده هو المستحق للعبادة؛ لأنه {الذي يَتَوَفَّاكُمْ} ، ولا يوجد مَنْ يقدر أو يتأبى على قَدَر الله سبحانه حين يُميته. وهنا قضيتان: الأولى: قضية العبادة في قوله سبحانه: {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} [يونس: 104] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6246 وكان لا بُدَّ أن يأتي أمر المسألتين معاً: مسألة عدم عبادة الرسول لمن هم من دون الله، ومسألة تخصيص الله تعالى وحده بالعبادة. والفصل واضح بما يُحدِّد قطع العلاقات بين معسكر الإيمان ومعسكر الشرك، كما أورده الحق سبحانه في قوله: {قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 16] . والذين يقولون: إن في سورة (الكافرون) تكراراً لا يلتفتون إلى أن هذا الأمر تأكيد لقطع العلاقات؛ ليستمر هذا القطع في كل الزمن، فهو ليس قطعاً مؤقَّتاً للعلاقات. وهذا أول قَطْع للعلاقات في الإسلام، بصورة حاسمة ليست فيها أية فرصة للتفاهم أو للمساومة، ويظل كل معسكر على حاله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6247 يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة النصر: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 13] . هنا يتأكد الأمر، فبعد أن قطع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العلاقات مع معسكر الشرك، جاء نصر الله سبحانه وتعالى وفَتْحه، فَهُرِع الناس من معسكر الشرك إلى معسكر الإيمان. هم إذن الذين جاءوا إلى الإيمان. . هذه هي القضية الأولى: {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ولكن أَعْبُدُ الله} [يونس: 104] . وهم كانوا يعبدون الأصنام المصنوعة من الحجارة. وأنت إذا نظرتَ إلى الأجناس في الوجود، فأكرمها هو الإنسان الذي سخَّر له الحق سبحانه بقية الأجناس لتكون في خدمته. والجنس الأقل من الإنسان هو الحيوان. ثم يأتي الجنس الأقل مرتبةً من الإنسان والحيوان، وهو النبات. ثم يأتي الجماد كأدنى الأجناس مرتبةً، وهم قد اتخذوا من أدنى الأجناس آلهة، وهذه هي قمة الخيبة. وتأتي القضية الثانية في قول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6248 {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} [يونس: 104] فإذا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد رفض العبادة لمن هُمْ دون الله سبحانه، فمعنى ذلك أنه لن يعبد سوى الله تعالى. وليس هذا موقفاً سلبياً، بل هو قمة الإيجاب؛ لأن العبادة تقتضي استقبال منهج الله بأن يطيع أوامره، ويجتنب نواهيه. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6249 وما دام الخطاب مُوجَّهاً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو ككل خطاب مِنَ الحقِّ سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إنما ينطوي على الأمر لكل مؤمن. وإذا ما عبد المؤمن الله سبحانه فهو يستقبل أحكامه؛ ولذلك يأتي الأمر هنا بألا يلتفت وجه الإنسان المؤمن إلى غير الله تعالى، فيقول الحق سبحانه: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [يونس: 105] . فلا يلتفت في العبادة يميناً ولا يساراً، فما دام المؤمن يعبد الله ولا يبعد غيره، فليعلم المؤمن أن هناك أيضاً شِرْكاً خفياً، كأن يعبد الإنسان مَنْ هم أقوى أو أغنى منه، وغير ذلك من الأشخاص التي يُفتن بها الإنسان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6249 ونحن عرفنا من قبل قول الحق سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النساء: 125] . والحنف أصله ميل في الساق، وتجد البعض من الناس حين يسيرون تظهر سيقانهم متباعدة، وأقدامهم مُلْتفَّة، هذا اعوجاج في التكوين. أما المقصود هنا بكلمة (حنيفاً) أي: معوج عن الطريق المعوج، أي: أنه يسير باستقامة. ولكن: لماذا يأتي مثل هذا التعبير؟ لأن الدين لا يجيء برسول جديد ومعجزة جديدة، إلا إذا كان الفساد قد عَمَّ؛ فيأتي الدين؛ ليدعو الناس إلى الميل عن هذا الفساد. وفي هذا اعتدال لسلوك الأفراد والمجتمع. ويحذرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أن نقع في الشرك الخفي بعد الإيمان بالله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6250 ويأتي الكلام عن هذا الشرك الثاني في قول الحق سبحانه: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [يونس: 105] . وهذا الشرك الثاني هو أقل مرحلة من شرك العبادة، ولكن أن تجعل لإنسان أو لأيِّ شيء مع الله عملاً. فإن رأيت مثلاً للطبيب أو للدواء عملاً، فَقُل لنفسك: إن الطبيب هو مَنْ يصف الدواء كمعالج، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يشفي، بدليل أن الطبيب قد يخطىء مرة، ويأمر بدواء تحدث منه مضاعفات ضارة للمريض. وعلى المؤمن ألا يُفتنَ في أيِّ سبب من الأسباب. ونذكر مثالاً آخر لذلك، وهو أن بلداً من البلاد ذات الرقعة الزراعية المتسعة أعلنت في أحد الأعوام أنها زرعت مساحة كبيرة من الأراضي بالقمح بما يكفي كل سكان الكرة الأرضية، ونبتت السنابل وأينعتْ، ثم جاءتها ريح عاصف أفسدت محصول القمح، فاضطرت تلك الدولة أن تستورد قمحها من دول أخرى. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6251 والمشرك من هؤلاء لحظة أنْ عبدَ الصنم ودعاه من دون الله تعالى، فهل استجاب له؟ وحين عبده هل قال الصنم له: افعل كذا، ولا تفعل كذا؟ إن الأصنام التي اتخذها المشركون آلهة لم يكُنْ لها منهج، ولا أحد منها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6251 ينفع أو يضر، وحين يجيْ النفع لا يعرف الصنم كيف بمنعه، وحين يجيء الضُّر لا يقدر الصنم أن يدفعه. إذن: فمَنْ يدعو من دون الله سبحانه وتعالى هو دعاء لمن لا ينفع ولا يضر. ومَنْ يفعل ذلك يكون من الظالمين؛ لأن الظلم هو إعطاء حقًّ لغير ذي حق، سواء أكان في القمة، أو في غير القمة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6252 هذا كلام الربوبية المستغنية عن الخلق، فالله سبحانه وتعالى خلق الناس، ودعاهم إلى الإيمان به، وأن يحبوه؛ لأنه يحبهم، ويعطيهم، ولا يأخذ منهم؛ لأنه في غِنىً عن كل خلقه. ويأتي الكلام عن الضُّر هنا بالمسِّ، {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} [يونس: 107] . ونحن نعلم أن هناك «مساً» و «لمساً» و «إصابة» . وقوله سبحانه هنا عن الضر يشير إلى مجرد المسِّ، أي: الضر البسيط، ولا تَقُلْ: إن الضر ما دام صغيراً فالخلق يقدرون عليه، فلا أحد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6252 يقدر على الضر أو النفع، قَلَّ الضر أم كَبُر، وكَثُر النفع أو قَلَّ، إلا بإذن من الله تعالى. والحق سبحانه وتعالى يذكر الضر هنا بالمسّ، أي: أهو الالتصاقات، ولا يكشفه إلا الله سبحانه وتعالى. ومن عظمته جَلَّ وعلا أنه ذكر مع المس بالضر، الكشفَ عنه، وهذه هي الرحمة. ثم يأتي سبحانه بالمقابل، وهو «الخير» ، وحين يتحدث عنه الحق سبحانه، يؤكد أنه لا يرده. ونحن نجد كلمة {يُصَيبُ} في وَصْف مجيْ الخير للإنسان، فالحق سبحانه يصيب به من يشاء مِنْ عباده. ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الآية بهذه النهاية الجميلة في قوله تعالى: {وَهُوَ الغفور الرحيم} [يونس: 107] . وهكذا تتضح لنا صورة جلال الخير المتجلي على العباد، ففي الشر جاء به مسّاً، ويكشفه، وفي الخير يصيب به العباد، ولا يمنعه. والله تعالى هو الغفور الرحيم؛ لأنه سبحانه لو عامل الناس حتى المؤمنين منهم بما يفعلون لعاقبهم، ولكنه سبحانه غفور ورحيم؛ لأن رحمته سبقت غضبه؛ ولذلك نجده سبحانه في آيات النعمة يقول: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: 18] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6253 وجاء الحق سبحانه بالشكِّ، فقال {إِن} ولم يقل: «إذا تعدون نعمة الله» ؛ لأن أمر لن يحدث، كما أن الإقبال على العَدِّ هو مظنَّة أنه يمكن أن يحصي؛ فقد تُعدُّ النقود، وقد يَعدّ الناظر طلاب المدرسة، لكن أحداً لا يستطيع أن يُعدّ أو يُحصى حبَّات الرمال مثلاً. وقال الحق سبحانه وتعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: 18] . وهذا شَكُّ في أن تعدوا نِعمة الله. ومن العجيب أن العدَّ يقتضي التجمع، والجمع لأشياء كثيرة، ولكنه سبحانه جاء هنا بكلمة مفردة هي {نِعْمَةَ} ولم يقل: «نِعَم» فكأن كل نعمة واحدة مطمور فيها نِعَمٌ شتَّى. إذن: فلن نستطيع أن نعدَّ النِّعَم المطمورة في نعمة واحدة. وجاء الحق سبحانه بذكر عَدِّ النعم في آيتين: الآية الأولى تقول: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] . والآية الثانية تقول: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6254 وصَدْر الآيتين واحد، ولكن عَجُزَ كل منهما مختلف، ففي الآية الأولى: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] . وفي الآية الثانية: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18] . لأن النعمة لها مُنْعِم؛ ومُنْعَم عليه، والمنعَم عليه بذنوبه لا يستحق النعمة؛ لأنه ظلوم وكفار، ولكن المنعم سبحانه وتعالى غفور ورحيم، ففي آية جاء مَلْحظ المنعِم، وفي آية أخرى جاء ملحظ المنعَم عليه. ومن ناحية المنعَم عليه نجده ظَلُوماً كفَّاراً؛ لأنه يأخذ النعمة، ولا يشكر الله عليها. ألم تَقْلُ السماء: يارب! ائذن لي أن أسقط كِسَفاً على ابن آدم؛ فقد طَعِم خيرك، ومنع شكرك. وقالت الأرض: ائذن لي أن أخسف بابن آدم؛ فقد طَعِم خيرك، ومنع شكرك. وقالت الجبال: ائذن لي أن أسقط على ابن آدم. وقال البحر: ائذن لي أن أغرق ابن آدم الذي طَعِم خيرك، ومنع شُكْرك. هذا هو الكون الغيور على الله تعالى يريد أن يعاقب الإنسان، لكن الله سبحانه رب الجميع يقول: «دعوني وعبادي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم» ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6255 {قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6256 إذن: فالحق سبحانه لم يُقصِّر مع الخلق، فقد خلق لكم العقول، وكان يكفي أن تفكّروا بها لتؤمنوا من غير مجيء رسول، وكان على هذه العقول أن تفكر في القويُّ الذي خلق الكون كله، بل هي التي تسعى لتطلب أن يرسل لها القويّ رسولاً بما يطلبه سبحانه من عباده، فإذا ما جاء رسول ليخبرهم أنه رسول من الله ويحمل البلاغ منه، كان يجب أن تستشرف آذانهم لما يقول. إذن: كان على العباد أن يهتدوا بعقولهم؛ ولذلك نجد أن الفلاسفة حين بحثوا عن المعرفة، قالوا: إن هناك «فلسفة مادية» تحاول أن تتعرف على مادية الكون، وهناك «فلسفة ميتافيزيقية» تبحث عما وراء المادة. فَمَنْ أعلمَ الفلاسفة إذن أن هناك شيئاً وراء المادة. وكأن العقل مجرد ساعةً يرى نُظُم الكون الدقيقة كان يجب أن يقول: إن وراء الكون الواضح المُحَسِّ قوة خفية. ولم يذهب الفلاسفة إلى البحث فيما وراء المادة، إلا لأنهم أخذوا من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6256 المادة أن وراءها شيئاً مستوراً. والمستور الذي وراء المادة هو الذي يعلن عن نفسه، فهو أمر لا نعرفه بالعقل. وقديماً ضربنا مثلاً في ذلك، وقلنا: هَبْ أننا جالسون في حجرة، ودقَّ جرس الباب، فعلم كل مَنْ في الحجرة أن طارقاً بالباب، ولم يختلف أحد منهم على تلك الحقيقة. وهذا ما قاله الفلاسفة حين أقرُّوا بوجود قوة وراء المادة، ولكنهم تجاوزوا مهمتهم، وأرادوا أن يُعرِّفونا ماهية أو حقيقة هذه القوة، ولم يلتفتوا إلى الحقيقة البديهية التي تؤكد أن هذه القوة لا يمكن أن تُعْرَف بالعقل؛ لأننا ما دُمْنا قد عرفنا أن بالباب طارقاً يدق؛ فنحن لا نقول من هو، ولا نترك المسألة للظن، بل نتركه هو الذي يحدد لنا مَنْ هو، وماذا يطلب؟ لأن عليه هو أن يخبر عن نفسه. اطلبوا منه أن يعلن عن اسمه وصفاته، وهذه المسائل لا يمكن أن نعرفها بالعقل. إذن: فخطأ الفلاسفة أنهم لم يقفوا عند تعقُّل أن هناك قوة من وراء المادة، وأرادوا أن ينتقلوا من التعقُّل إلى التصور، والتصورات، لا تأتي بالعقل، بل بالإخبار. وهنا يقول الحق سبحانه: {قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ} [يونس: 108] . والحق كما نعلم هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً، وأن يأتي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6257 الحق من الرب الذي يتولى التربية بعد أن خلق من عدم وأمدَّ من عُدْم، ولا يكلفنا بتكاليف الإيمان إلا بعد البلوغ، وخلق الكون كله، وجعلنا خلفاء فيه. وهو إذن مأمون علينا، فإذا جاء الحق منه سبحانه وتعالى، فلماذا لا نجعل المنهج من ضمن التربية؟ لماذا أخذنا تربية المأكل والملبس وسيادة الأجناس؟ كان يجب إذن أن نأخذ من المربِّي سبحانه وتعالى المنهج الذي ندير به حركة الحياة؛ فلا نفسدها. وحين يقول الحق سبحانه: {جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ} [يونس: 108] . فمعنى ذلك أنه لا عُذْر لأحد أن يقول: «لم يُبلغْني أحدٌ بمراد الله» ، فقد ترك الحق سبحانه العقول لتتعقل، لا أن تتصور. وجاء التصوُّر للبلاغ عن الله تعالى، حين أرسل الحق سبحانه رسولاً يقول: أنا رسول من الله، وهو القوة التي خلقت الكون، وكان علينا أن نقول للرسول بعد أن تَصْدُق معجزته: أهلاً، فأنت مَنْ كنا نبحث عنه، فَقُل لنا: ماذا تريد القوة العليا أن تبلغنا به؟ ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6258 {فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [يونس: 108] . لأن حصيلة هدايته لا تعود على مَنْ خلقه وهداه، بل تعود عليه هو نفسه انسجاماً مع الكون، وإصلاحاً لذات النفس، وراحة بال، واطمئناناً، وانتباهاً لتعمير الكون بما لا يفسد فيه، وهذا الحال عكس ما يعيشه مَنْ ضل عن الهداية. ويقول الحق سبحانه عن هذا الصنف من الناس: {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108] . وكلمة {ضَلَّ} تدل على أن الإنسان الذي يضل كانت به بداية هداية، لكنه ضَلَّ عنها. ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس: 108] . وأنت لا توكِّل إنساناً إلا لأن وقتك لا يسع، وكذلك قدرتك وعلمك وحركتك، وهنا يُبلغ الرسول القوم: أنا لا أقدر أن أدفع عنكم الضلال، أو أجبركم على الهداية؛ لأني لست وكيلاً عليكم، بل عليَّ فقط مهمة البلاغ عن الله سبحانه وتعالى، وهذا البلاغ إن استمعتم إليه بخلاء القلب من غيره، تهتدوا. وإذا اهتديتم؛ فالخير لكم؛ لأن الجزاء سيكون خلوداً في نعيم تأخذونه مقابل تطبيق المنهج الذي ضيَّق على شهوات النفس، ولكنه يهدي حياة نعيم لا يفوته الإنسان، ولا تفوت النعم فيه الإنسان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6259 وإذا كان الإنسان مِنَّا يقبل أن يتعب؛ ليتعلَّم حرفة أو عملاً أو صنعة أو مهنة؛ ليسكب الإنسان من إتقان هذا العمل بقية عمره. أليس على هذا الإنسان أن يُقبِل على العبادة التي تصلح باله، وتسرع به إلى الغاية انسجاماً مع النفس، ومع المجتمع، وتقويماً وتهذيباً لشهوات النفس، وينال من بعد ذلك خلود النعيم في الآخرة. أما من يستكثر على نفسه الجدَّ والاجتهاد في تحصيل العلم، أو تعلُّم مهنة أو حرفة، فهو يحيا في ضيق وعدم ارتقاء، فهو لا يبذل جهداً في التعلّم. ونرى مَنْ يتعلم ويبذل الجهد، وهو يرتقي في المستوى الاجتماعي والاقتصادي؛ ليصل إلى درجة الدكتوراة مثلاً أو التخصص الدقيق الذي يأتي له بِسعَة الرزق. وكلما كانت الثمرة التي يريدها الإنسان أينع وأطول عمراً كانت الخدمة من أجلها أطول. وقارن بين خدمتك لدينك في الدنيا بما ينتظرك من نعيم الآخرة؛ وسوف تجد المسافة بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة شاسعاً، ولا مقارنة. وقول الحق سبحانه: {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6260 نجد فيه كلمة {عَلَيْهَا} وهي تفيد الاستعلاء على النفس، أي: أنك بالضلال والعياذ بالله تستعلي على نفسك، وتركب رأسك إلى الهاوية. وفي المقابل تجد قول الحق سبحانه: {فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [يونس: 108] . وتجد «اللام» هنا تفيد المِلْك؛ لذلك يقال: «فلان له» و «فلان عليه» . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه في ختام سورة يونس: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6261 وإذا كان الحق سبحانه قد أورد على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ} [يونس: 108] . فهذا يعني البلاغ بمنهج الله تعالى النظري، ولا بُدَّ أن يثق الناس في المنهج، بأن يكون الرسول هو أول المنفذين للمنهج، لأنه معاذ الله لو غشَّ الناس جميعاً لما غشَّ نفسه. إذن: فبعد البلاغ عن الحق سبحانه، وتعريف الناس بأن الهداية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6261 لا يعود نفعها على الحق، بل هي للإنسان، فيملك نفسه؛ ويملك زمام حياته، فيسير براحة البال في الدنيا إلى نعيم الآخرة، وأن الضلال لا يعود إلا باستعلاء الإنسان على نفسه؛ ليركبها إلى موارد التهلكة. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس وكيلاً عنكم، يأتي لكم بالخير حين لا تعملون خيراً، ولا يصرف عنكم الشر وأنتم تعملون ما يستوجب الشر. ولذلك كان على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكون هو النموذج والأسوة. {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً} [الأحزاب: 21] . وهنا يقول الحق سبحانه: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ} [يونس: 109] . أي: عليك أن تكون الأسوة، وحين تتَّبع ما يوُحَى إليك؛ ستجد عقبات ممن يعيشون على الفساد، ولا يرضيهم أن يوجد الإصلاح، فَوطِّن العزم على أن تتبع ما يوحى إليك، وأن تصبر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6262 ومجيء الأمر بالصبر دليل على أن هناك عقبات كثيرة، وعليك أن تصبر وتعطي النموذج لغيرك، والثقة في أنه لو لم يكن هناك خير في اتباع المنهج لما صبرت عليه؛ حتى يأتي حكم الله {واصبر حتى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} [يونس: 109] . وليس هناك أعدل ولا أحكم من الله سبحانه وتعالى. وهذه السورة التي تُخْتَم بهذه الآية الكريمة، تعرضت لقضية الإيمان بالله، قمة في عقيدة لإله واحد يجب أن نأخذ البلاغ منه سبحانه؛ لأنه الرب الذي خلق من عَدَم، وأمدَّ من عُدْم، ولم يكلِّفنا إلا بعد مرور سنوات الطفولة وإلى البلوغ؛ حتى يتأكد أن المكلَّف يستحق أن يُكلَّف بعد أن انتفع بخيرات الوجود كله، وتثبَّت من صدق الربوبية. ومعنى الربوبية هو التربية، وأن يتولى المربِّي المربَّى إلى أن يبلغ حَدَّ الكمال المرجوّ منه. وقد صدقتْ هذه القضية في الكون. إذن: نستمع إلى الرب سبحانه وتعالى الذي خلق، حين يُبِّين لنا مهمتنا في الحياة بمنهج تستقيم به حركة الحياة، ويستقيم أمر الإنسان مع الغاية التي يعرفها قبل أن يخطو أي خطوة. ومن المحال أن يخلق الله سبحانه وتعالى المخلوق ثم يُضيِّعه، بل لا بد أن يضع له قانون صيانة نفسه؛ لأن كل صنعة إنما يضع قانونها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6263 ويحدد الغاية لها مَنْ صنعها، فإذا ما خالفنا ذلك نكون قد أحَلْنا وغيَّرنا الأمور، وأدخلنا العالم في متاهات، وصار لكل امرىء غاية، ولكل امرىء منهج، ولكل عقل فكر، ولَصار الكون متضارباً؛ لأن الأهواء ستتضارب، فتضعف قوة الأفراد؛ لأن الصراع بين الأنداد يُضعِف قوة الفرد عن معالجة الأمر الذي يجب أن يعالجه. فأراد الله سبحانه وتعالى توحيداً في العقيدة، وتوحيداً في المنهج. وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا مثلاً تطبيقياً في مواكب الرسالات، فذكر لنا في هذه السورة قصة نوح عليه السلام وقصة موسى وهارون عليهما السلام وذكر بينهما القصص الأخرى. ثم ذكر قضية يونس عليه السلام. ثم ختم السورة بقوله سبحانه: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ} [يونس: 109] . بلاغاً عن الله تعالى. وما دُمْتَ تبلّغ، وأمتك أمة محسوبة إلى قيام الساعة أنها وارثة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6264 النبوة، ولم تَعُدْ هناك نبوة بعدك يا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسليماً كثيراً. وأراد الحق سبحانه لأمتك أن يحملوا الدعوة للمنهج الذي نزل إليك. إذن: فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيكون شهيداً بأنه قد بلّغ، ويجب أن تكون أمته شهيدة بأنها بلغت، وأوصلت رسالة الله إلى الدنيا، وهذا شرف مهمة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولم يكن لأمة غيرها مثل هذا الشرف؛ فقد كان الأمر قبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن دعوة أيِّ رسول تفتُر، وتبهت تكاليفه، ويغفل عنها الناس، فيرسل الله سبحانه وتعالى رسولاً، ولكن الأمر اختلف بعد رسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فلم تَعُدْ هناك نبوة، ولا رسالة، ولكن صار هناك مَنْ يحملون منهج الله تعالى. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الأسوة؟ لأنه مُبلغ منهج الله، وهو أسوة في تطبيق قانون صيانة الإنسان وحركته، ونموذج تطبيقي حتى لا يكلف الناس فوق ما تطيقه إنسانيتهم؛ ولذلك كان يُصِر على أنه بشر، وأوضح القرآن الكريم ذلك بلا أدنى غموض: {إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [فصلت: 6] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6265 ليؤكد صدق الأسوة؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو لم يكن بشراً وطلب من الناس أن يفعلوا مثله لقالوا: لن نستطيع لأنك لست مثلنا. ولذلك نلحظ أن القرآن يؤكد على بشرية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يزيد عن البشر باصطفاء الله سبحانه له؛ ليكون رسولاً يُوحَى إليه، فمهمته الرسالية الأولى أن يُبلغ هذا الوحي، والمهمة الثانية أن يؤكد بسلوكه أنه مقتنع بهذا الوحي ويُطبِّقه على نفسه. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ناحية الثراء أقلَّ الناس مالاً، وهو غير متكبر، ولا جبَّار، وهو كمنوذج سلوكي تتوازن فيه وبه كل الفضائل؛ فلم يطلب لنفسه شيئاً، بل إنه منع أقاربه وأهله من حقوق أقرها لغيرهم من المسلمين، فأقاربه لم يُعِطهم الحق في أن يرثوا شيئاً مما يملكه بعد وفاته وقد حرمهم؛ ليكون كل عمل صادر منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو ممن ينتسبون بالقرابة إليه هو عمل خالص لوجه الله تعالى. وهذا السلوك هو عكس سلوك الرئاسات البشرية، أو السلطات الزمنية، فهذه الرئاسات أو تلك السلطات تفيض أول ما تفيض على نفسها بالخير، ثم تفيضه على الدوائر القريبة منها حسب أقطار القرب؛ فالقريب جداً يأخذ أولاً وكثيراً، ومَنْ يبعد في القرابة يأخذ الأقل حسب درجة بُعْده. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6266 لكن الذي في دائرة القرابة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يأخذ حتى ما يأخذه الفقير في أمة محمد عليه السلاة والسلام، وكأن الله سبحانه وتعالى يدلنا بذلك على أنه من العيب أن يكون الإنسان منسوباً لآل بيت النبوة، ويكون موضعاً لأخذ الزكاة. إذن: فالاتِّباع الذي أمر الله تعالى به، هو اتباع الوحي بلاغاً، واتباع ما يُوحَى به تطبيقاً، وسيتطلب هذا مواجهة متاعب كثيرة، وسيلقى عقبات من الجبابرة المنتفعين بالفساد في الأرض، فلا بُدَّ أن يصادموا هذه الدعوات؛ ليحافظوا على سلطاتهم الزمنية، فيأمر الحق سبحانه وتعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يصبر، وفي الأمر بالصبر إشارة إلى أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُقْبِل على عقبات فَلْيُعِدّ نفسه لتحمُّل هذه العقبات بالبصر. وفي آية أخرى يأمره الحق سبحانه وتعالى أن يصبر ويصابر هو والمؤمنون. . يقول سبحانه: {اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} [آل عمران: 200] . أي: إن صبرت، فقد يصبر خَصْمك أيضاً، وهنا عليك أن تصابره، وكلمة «اصبر» توضح أن دعاة منهج الحق سبحانه لا بد أن يتعرضوا لمتاعب، وإلا ما كانت هناك ضرورة لأن يجيء، فلو كان العالم مستقيم الحركة، فما ضرورة المنهج إذن؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6267 ولكن المنهج قد جاء؛ لأن الفساد قد عَمَّ الكون، ويحتاج إلى إصلاح، وإلى مواجهة المفسدين، وهذا ما يرهق الداعين إلى الله تعالى، وليُوطّن كل داعية نفسه على ذلك، ما دام قد قام ليدعو إلى منهج الحق سبحانه وتعالى. وكل داع إلى الله لا يصيبه أذى، فهذا يُنقص من حظه في ميراث النبوة؛ لأن الذي يأتي له الأذى هو الذي يأخذ حظاً من ميراث النبوة، فالأذى لا يجيء إلا بمقدار خطورة الداعي إلى الله سبحانه على الفساد والمفسدين، وهم الذين تجتمعون ضده. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلَّغها، فرُبَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه» . إذن: فنحن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد ورثنا منه البلاغ، وورثنا منه الأسوة الحسنة: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً} [الأحزاب: 21] . إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ} [يونس: 109] . هو دليل على أن الوحي بصدد الإنزال؛ لأن الوحي لم ينزل بالقرآن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6268 دَفْعة واحدة، فقد كان الوحي ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طوال حياته. وهكذا تكون حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي مقام الاستقبال للوحي. وقول الحق سبحانه: {واصبر حتى يَحْكُمَ الله} [يونس: 109] . يوضح لنا أنه سبحانه قد وضع حدّاً تؤمل فيه أن الأمر لن يظل صبراً، وأن القضية ستُحسم من قريب بحكم من الله تعالى. كلمة {يَحْكُمَ} توضح أن هناك فريقين؛ كُلُّ يدَّعي أنه على حق، ثم يأتي مَنْ يفصل في القضية، والحجة إما الإقرار أو الشهود، وبطبيعة الحال لن يُقِرَّ الكفار بكفرهم، والشهود قد يكونون عُدولاً، أو يكونون ممن يُدارونَ فِسْقهم في ظاهر العدالة. فإذا كان الله سبحانه وتعالى هو الحاكم، فهو لا يحتاج إلى شهود؛ لأنه خير الشاهدين، والله سبحانه لا يحكم فقط دون قدرة إنفاذ الحكم، لا بل هو يحكم وينفذ. إذن: فهو سبحانه قد شهد وحكم ونفَّذ، ولا توجد قوة تقف أمام قدرة الله تعالى، أو تقف أمام حكم الله عَزَّ وَجَلَّ. ونحن في زماننا نرى القُوى وهي تختلف، فنجد القويَّ من الدول وقد تسلَّط على الضعيف، فيلجأ الضعيف إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويصدر كل منهما قرارات، وحتى لو افترضنا عدالة الحكم، فأين قوة التنفيذ؟ إنها غير موجودة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6269 ولكن قدرة الحق الأعلى سبحانه هي قدرة خير الحاكمين، لأنه هو سبحانه الذي يشهد، وهو سبحانه لا يحتاج إلى مَنْ يُدلِّس عليه في الشهادة؛ لأنك إن عمَّيت على قضاء الأرض، فلن تُعمَّى على قضاء السماء. وبعد ذلك يحكم الحق سبحانه حُكْماً لا هوى فيه؛ لأن آفة الأحكام أن يدخلها الهوى فتميل، والحق سبحانه لا هوى له؛ لأنه لا مصلحة له عند العباد، فهو الخالق عَزَّ وَجَلَّ، ولن يأخذ مصلحة من مخلوق. ويطمئنا الحق سبحانه على أن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيضاً لا ينطق عن الهوى. فيقول رب العزة سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 34] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6270 أي: اطمئنوا إلى حكمه؛ لأنه لا ينطق عن هوى فليس في نفسه ما يريد تحقيقه إلا دعوة الخلق إلى حُسْن عبادة الخالق سبحانه. وقد يقول قائل: ولكن الحق عَزَّ وَجَلَّ عدَّل للرسول بعضاً من الأحكام. ونقول: لقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجتهد ببشريته فيما لم يُنزِل الله فيه حُكْماً، وحين يُنزِل الله حُكْماً، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينزل على أمر الله تعالى، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه سلم يحكم حتى فيما اجتهد فيه عن هوى، بل حكم بما رآه عدلاً، وحين يُنزِل الحق سبحانه وتعالى حُكْماً مغايراً فهو يبلغ المسلمين ويُعدِّل من الحكم. إذن: فالتعديل للحكم هو قمة الأمانة مع البلاغة عن الله سبحانه وتعالى، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد أقبل على الحكم في أمر لم ينزل فيه حكم من الله، فهو قد حكم بما عنده من الرأي، فيبلغ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحكم من الله، والذي عدَّل له ليس مساوياً له بل هو خالقه. ثم إن الذي أخبرنا أن الله سبحانه قد عدَّل له هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهل يوجد مَنْ يُضعِف مركز كلمته، ويبلغ أن الحكم الذي صدر منه قد عُدِّل له؟ ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي استقبل الوحي تحلّى بأمانة البلاغ عن الله، وهو الذي نقل لنا عتاب ربه له. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6271 وهذه قمة الصدق في البلاغ عن الله، وكان اجتهاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ محصوراً في الأمور التي لم يصدر فيها حكم من الله، وكان في ذلك أسوة حسنة لنا لنتجرأ ونجتهد. «وقد بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معاذ بن جبل إلى اليمن فقال: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: وضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما يُرضي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» . والحق سبحانه وتعالى خير الحاكمين؛ لأنه الشاهد الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وهو سبحانه لا تخفى عليه خافية، ولا هوى له، وهو الذي يصدر الحكم بمطلق عدله وبفضله، وهو القادر على إنفاذ ما يحكم به، ولا توجد قوة تُجير عليه، ولا يوجد حاكم بقادر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6272 على كل هذا إلا الله سبحانه. وشاء الحق عَزَّ وَجَلَّ أن يكرِّم المؤمنين الذين يحكمون بين الناس بأن جعل ذاته ضمنية بتفوق الخيرية على الحاكمين. وواقع الأمر أن هناك بشراً يحكمون غيرهم، ولكن الحق سبحانه حكم بأنه خيرهم، فمن الحاكمين مَنْ قد يُدلس عليه غيره، ومن الممكن أن يدخل الهوى في أحكام هؤلاء الحاكمين، لكنه سبحانه لا تَخْفى عليه خافية، ولا يمكن أن يدخل الهوى إلى حكمه، وأحكامه نافذة بطلاقة قدرته سبحانه؛ لذلك فهو خير الحاكمين إطلاقاً. وإذا سمعت جمعاً يدخل الله ذاته مع خلقه فيه؛ فاعلم أن ذلك إيذان بأن تأخذ من واقع ما تشهد حقيقة مَنْ لا تشهد؛ فالحق سبحانه يقول: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] . ويقول تعالى: {والله خَيْرُ الرازقين} [الجمعة: 11] . ويقول تعالى: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} [الأنبياء: 89] . ويقول تعالى: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} [التين: 8] . وكلما وجدت جَمْعاً أدخل الله ذاته مع عباده ممن لهم هذا الوصف، فهذا يَدلُّك على أن الموصوفين معه لهم تلك الصفات المذكورة، ولكنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6273 سبحانه وتعالى أزليٌّ مُطلْق الصفات، وهم أحداث وأغيار تنتابهم القوة والتغيُّر والضعف. وتجد الله سبحانه وتعالى وهو يَصِفُ نفسه بأنه: {أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] . وكلنا نعلم أن الله سبحانه هو خالق كل شيء من عدم، ولكن هناك من الخلق مَنْ يخلق شيئاً من موجود؛ ولذلك فالله سبحانه وتعالى هو أحسن الخالقين. والحق سبحانه يصف نفسه بأنه: {خَيْرُ الرازقين} [الجمعة: 11] . والرزق هو ما به يُنتفع، وقد يأتي لك وليُّ أمرك بالمأكل والمشرب والملبس، ويعطيك ما تنتفع به، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الرزق في الكون كله. ويقول الحق سبحانه واصفاً نفسه: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] . والإنسان حين يمكر قد يُدارِي مسألة، ويغفل عن ركن فيها، لكن الله تعالى لا يغفل عن شيء. إذن: فالخيرية في الحكم لها نصيب من طلاقة قدرة الله تعالى، ونحن عرفنا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين حكم في بعض الأحكام وعدَّلها له الله سبحانه وتعالى، لم يكن لله تعالى حكم قبل أن يحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6274 ومثال ذلك: «قصة زيد بن حارثة، وكان مولى أو عبداً لخديجة بن خويلد رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، ووهبته لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم علم أهله الذين كانوا يبحثون عنه أنه في مكة، وكان قد خُطف صغيراً من بلده وبيع في مكة، كعادة العرب في الجاهلية مع الرقيق، فلما علموا بذلك ذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليستردوا ابنهم، فقال لهم رسول الله:» والله إني لأخَيِّره، فإن اختاركم فخذوه، وإن اختارني فهو لي «. فاختار زيد أن يبقى مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولم يكن رسول الله بعد ذلك ليفرِّط فيه؛ فأعطاه شرف البنوَّة، فأسماه زيد بن محمد» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6275 وهكذا رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التبنِّي وسيلة تكريم، ولكن الله عَزَّ وَجَلَّ يريد أمراً غير هذا، فقال سبحانه وتعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 40] . لأن الأبوة بالتبنِّي قد تُحِدث خَلْطاً في الأنساب، فالابن بالتبني له حق الزواج من ابنة مَنْ تبنَّاه، فكيف نمنع عنه هذا الحق، والابن بالتبني قد تحرم عليه زوجة مَنْ تبناه إن رحل عنها أو طلقها. لذلك شاء الحق سبحانه وتعالى أن يحفظ للأنساب حقوقها ومسئولياتها، فقال سبحانه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين} [الأحزاب: 40] . ومهمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كرسول من الله بالنسبة لكم أفضل من الأبوة لكم. وقال الحق سبحانه في تعديل حكم التبني: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} [الأحزاب: 5] ؟ وهذا رَدُّ لحكم من رسول الله بتكريم لرسول الله، فما صنعه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَدْلٌ وقسْط بعُرْف البشر، لكن حكم الله سبحانه وتعالى هو الأقسط والأعدلَ، فينتهي بذلك نسب زيد بن محمد، ويعود إلى نسبه الفعلي «زيد بن حارثة» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6276 وحتى لا يؤثر هذا الأمر في نفس زيد، نجد الحق سبحانه وتعالى يكرمه تكريماً لم يُكرِّمه لصحابي غيره، فهو الصحابي الوحيد الذي ذُكِر اسمه بالشخص والعَلَم في القرآن، فقال الحق سبحانه: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] . وصار اسم «زيد» كلمة في القرآن تُتْلَى ويُجْهَر بها في الصلاة، فإذا كان قد نفي عنه النسب إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد أعطاه ذِكْراً ثانياً خالداً في القرآن المحفوظ، ومنحه بذلك شرفاً كبيراً. وقول الحق سبحانه وتعالى: {واصبر حتى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} [يونس: 109] . يفيد أن حكم الله تعالى أعمُّ من أن يكون حكماً في الدنيا أو الآخرة فقط، فحكم الله سبحانه في الدنيا نَصْرٌ لدين الله، ومَنْ مات من المؤمنين أو الكفار لهم حكم آخر. وختم الله تعالى سورة يونس بهذا الحكم، وأهدى الله سبحانه كل مؤمن بيونس كنبي من أنبياء الله تعالى قضية عندما ذهب مغاضباً، قال فيه الحق سبحانه: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] . وأهداه الحق سبحانه وساماً بقوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6277 {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} [الأنبياء: 88] . وأشركنا الحق سبحانه وتعالى في هذا الوسام بقوله تعالى: {وكذلك نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88] . وهكذا أسدى إلينا سيدنا يونس جميلاً كبيراً، حين هداه الله إلى قوله: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] . واستجاب الله تعالى لدعائه، وأنجاه من الغَمِّ، وهو أعنف جنود الله؛ لأن الشيء الذي يضايقك هو الذي لا تستطيع له دَفْعاً. ولذلك يقول: إن العدو كلما لَطُفَ عَنُفَ؛ لأن العدو إن كان ضخم الحجم، تكون الوقاية منه أسهل من العدو الصغير سريع الحركة، فإن كان العدو ضخماً، فالإنسان يرى ضخامته من على البُعْد، فيجري منه الإنسان أو يختبىء، لكن إن كان العدو ثعباناً رفيعاً مثلاً فقد لا يراه الإنسان، وقد لا يستطيع الفرار منه، وإنْ كان ميكروباً أو فيروساً لا يُرى بالعين المجرَّدة؛ فهو أعنفُ قدرةً وقوةً في مهاجمة الإنسان. إذن: كل مُتْعب في الدنيا من الممكن أن تحتاط منه إلا ما يتلصَّص عليك بدقَّة ولُطْف؛ فإنَك لا تعرف مدخله. ونحن نسمع أن فلاناً قد أصيب بمرض ما، لأنه أخذ عدوى من فيروس ما، هذا الإنسان لا يعرف متى اخترق الفيروس جسده، لكنه فوجىء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6278 بأعراض المرض تظهر عليه بعد كمون الفيروس في جسده لأسبوعين، وهكذا نجد أن العدو كلما لَطُفَ عَنُفَ. والغمُّ من أشد وأقسى أنواع البلاء، وكلنا نعرف قصة الإمام علي كرَّم الله وجهه وهو المشهور بالفُتْيا، وكان الناس يستفتونه فيما يعجزون عن العثور على حل له، واجتمع بعض من الناس وقالوا: نريد أن نجمع بعض الأشياء الصعبة ونسأله عنها لنختبره، فلما اجتمعوا قالوا لعليٍّ كرم الله وجهه: نريد أن نستعرض كون الله تعالى، فقد جلسنا معاً لنعرف أقوى ما خلق الله، واختلفنا فقال كل واحد اسم القوة على حَسْب ما يراها. لم يتروَّ على بن أبي طالب، ولم يَقُلْ كلاماً مَسْروداً بحيث إن وقف، لا يطالبه أحد بزيادة، بل حدَّد من الجملة الأولى عدد القوى حسب ترتيبها وقوتها، حتى تطابق العدد على المعدود، وهذا دليل على أنه مُسْتحضِرٌ للقضية استحضار الواثق. وفرد أصابع يديه وقال: أشدُّّ جنود الله عشرة: الجبال الرواسي، والحديد يقطع الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفىء النار، والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6279 يحمل الماء، والريح تقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح، يستتر بالثوب أو الشىء ويمضي لحاجته، والسُّكْر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السُّكْر، والهمُّ يغلب النوم، فأشد جنود الله سبحانه الهَمُّ. هكذا قال سيدنا علي بن أبي طالب، فالهمُ والغمُّ من أشد جنود الله تعالى، وكان سيدنا يونس عليه السلام سبباً في أن قدَّم الله سبحانه لكل مؤمن به إلى أن تقوم الساعة مَنْجىً من الهمِّ والغمِّ بالدعاء الذي ألهمه ليونس عليه السلام في قوله تعالى: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 8788] . وهكذا تعدَّتْ «النجاة من الغم» من الخصوصية إلى العمومية، وقد أخذها جعفر الصادق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وجعل منها «تذكرة طبية» للمؤمن حتى يستقبل أحداث الحياة كلها، في كل جوانبها المفزعة؛ لأن الإنسان يهدده الخوف مما يعلم. أما الهم فلا يعرف الإنسان فيه سبب الخطر، ولا يعلم الإنسان مكر الناس به؛ لأن الإنسان لا يعلم ما بَيَّتوا له. وشغل الإنسان بأمر الدنيا وأن يكون منعَّماً ومرفَّهاً في كل أمور الحياة، يجعله عُرْضة للهموم. وكان سيدنا جعفر الصادق له بصر وبصيرة بآيات القرآن ومتعلقاتها، فقال: «عجبت لمن خالف ولم يفزع إلى قول الحق سبحانه: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6280 ولا يُتعجب لمن يخيفه شيء إلا إذا كان عند المتعجب شيء يزيل الخوف. فمن عنده صداع يمكنه أن يعالجه بالأسبرين، أما الخوف فقد وصف سيدنا جعفر دواءه، بقول الله سبحانه: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173] . فذلك هو الدرع من كل خوف. ويقدم جعفر الصادق لنا السبب فيقول: لأن الله سبحانه قال عقبها: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] . أي: أن سيدنا جعفراً جاء بالحيثية من نفس القرآن، وأضاف جعفر الصادق: «وعجبت لمن اغتمَّ وهو الموضوع الذي نبحثه الآن ولم يفزع إلى قول الله سبحانه: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] . فإني سمعت الله تعالى بعقبها يقول: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88] . وعجبت لمن مُكِر به كيف لا يفزع إلى قول الله سبحانه: {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} [غافر: 44] . لأني سمعت الله تعالى بعقبها يقول: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6281 {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب} [غافر: 45] . وعجبت لمن طلب الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قول الله سبحانه: {مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} [الكهف: 39] . لأني سمعت الله تعالى بعقبها يقول: {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف: 40] . وهكذا وجد جعفر الصادق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في كتاب الله أربع آيات لأربع حالات نفسية تصيب البشر، وجاء مع كل حالة دليلها من القرآن الكريم. وقول الحق سبحانه وتعالى في آخر سورة يونس: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ} [يونس: 109] . مناسب لقوله سبحانه في الآية الأولى من السورة التي تليها: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] . لأن الوحي كتاب أحكمت آياته حقاً وصدقاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6282 وتبدأ الآية بحروف توقيفية مقطعة من الحروف التي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم، اي: أن كل حرف من تلك الحروف يُنطَق بمفرده، والحرف كما نعلم له اسم، وله مسمى، ونحن حين نكتب أو نتكلم نكتب أو ننطق بمسمى الحرف لا باسمه ولكن بعض سور القرآن الكريم تبدأ بحروف نقرأها باسم الحرف، وما عداها يُنطق فيها بمسميات الحرف. وإن أردنا معرفة الفارق بينهما، فنحن نقرأ في أول سورة البقرة ونقول: « الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6285 ألف. لام. ميم» رغم أنها مكتوبة: {الم} [البقرة: 1] . إذن: فنحن ننطقها بمسميات الحروف عكس قراءتنا لقول الحق سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] . ونحن ننطقها بأسماء الحروف. . لماذا؟ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سمعها هكذا من جبريل عليه السلام، والقرآن أصله سماع، وأنت لا تقرأ قرآناً إلا إذا سمعت قرآناً؛ لتعرف كيف تقرأ الحروف المقطعة بأسماء الحروف، وتقرأ بقية الآيات بمسميات الحروف. وكنا قديماً قبل أن نحفظ القرآن «نصحح» اللوح، أي: أن يقرأ الفقيه أولاً ليُعلمنا كيف نقرأ قبل أن نحفظ. والذي يُتعب الناس أنهم يريدون أن يقرأوا القرآن الكريم دون أن يجلسوا إلى فقيه أو دون أن يستمعوا إلى قارىء للقرآن. ونقول لهم: إن القرآن ليس كتاباً عادياً نقرأه، إن القرآن كتاب له خاصية مميزة، فَصُور الحروف تختلف، فمرة ننطق اسم الحرف، ومرة نقرأ مسمى الحروف. وقول الحق سبحانه: {الر} في أول سورة هود؛ يجعلنا نلحظ أنه من العجيب في فواتح السور التي بدأت بهذه الحروف أن القرآن مبنيٌّ على الوصل دائماً، فأنت لا تأتي إلى آخر الآية وتقف، لا، بل كل القرآن وَصْل، مثلما نقرأ قول الله سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6286 {مُدْهَآمَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 6466] . وإن كان هناك فاصل بين كل آية وغيرها، إلا أن الآيات كلها مبنية على الوصل. وفي آخر سورة يونس يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} [يونس: 109] . فلو لم تكن موصولة لنطقت الحرف الأخير مبنياً على السكون، ولكنك تقرأه منصوباً بالفتحة. وهي موصولة بما بعدها (بسم الله الرحمن الرحيم) . ومن العجيب أن فواتح السور مع أنها مكونة من حروف مبنية على الوصل إلا أننا نقرأ كل حرف موقوفاً، فلا نقول: «ألفٌ لامٌ ميمٌ» بل نقول: «ألفْ لامْ ميمْ» . وكذلك نقرأ في أول سورة مريم «كافْ هاءْ ياءْ عينْ صادْ» ، ولا نقرأ الحروف بتشكيلها الإعرابي، وهذا يدل على أن لها حكمة لا نعرفها. وفي القرآن الكريم آيات بُدئت بحرف واحد مثل قول الحق سبحانه: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] . وقول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6287 {ق والقرآن المجيد} [ق: 1] . وقول الحق سبحانه: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] . ونلحظ أن الحرف في هذه السور ليس آية، ولكنك تقرأ قول الحق سبحانه: {حم} [الشورى: 1] . وهي آية، وكذلك تقرأ قول الحق سبحانه: {عسق} [الشوى: 2] كآية مع أنها حروف مقطعة، وتقرأ قول الحق سبحانه: {كهيعص} [مريم: 1] كآية بمفردها. وتقرأ قول الحق سبحانه: {طه} [طه: 1] كآية بمفردها. وكذلك تقرأ قول الحق: {يس} [يس: 1] كآية بأكملها. وتجد أيضاً: {المص} [الأعراف: 1] كآية. و {طسم} [ «الشعراء: والقصص» : 1] كآية. وتجد أيضاً {المر} [الرعد: 1] ملتحمة بما بعدها في آية واحدة. وتقرأ في أول سورة النمل: {طس} [النمل: 1] ملتحمة بما بعدها في آية واحدة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6288 إذن: فالمسألة لا نسق لها، ومعنى ذلك أن لكل موقف وكل حرف حِكمة، والحكمة نجدها حين نتأمل العالم المادي في الحياة، فنفطن إلى عبر الله سبحانه وتعالى في آيات الكون المحسَّة، ويجد الدليل على صدق الله تعلى فيما لم نعلم. ومثال ذلك: حين ينزل الإنسان في فندق راق فهو يجد لكل غرفة مفتاحاً، وهذا المفتاح لا يفتح إلا باب غرفة واحدة، ولكن في كل طابق من طوابق الفندق هناك مفتاح مع المسئول عن الطابق يسمى «سيد المفاتيح» وهو يفتح كل غرف الطابق، وقد صنعوا ذلك؛ حتى لا يفتح كل نزيل غرفة الآخر. ومع التقدم العلمي جعلوا الآن لكل غرة بطاقة الكترونية، ما إن يُدخلها الإنسان من فتحة معينة من باب الغرفة حتى ينفتح الباب، وكل غرفة لها بطاقة معينة، وأيضاً يوجد مع مسئول الطابق في الفندق بطاقة واحدة، تفتح كل غرف الطابق. وأنت حين تقرأ فواتح السور فافهم أن كل آية لها مفتاح، وكل حرف في هذه الفواتح قد يشبه المفتاح، وإن لم يكن معك المفتاح ذو الأسنان التي تفتح باب الغرفة؛ فلن تنفتح لك السورة. إذن: فكتاب الله له مفاتيح، ونحن نقرأ حروفاً مُقطَّعة على أنها آية، أو نقرأها كجزء من آية. وتقول من قبل القراءة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» لتخلص نفسك من الأغيار المناقضة لمنهج قائل القرآن، ثم تضع البطاقة الخاصة مثل قول الحق سبحانه وتعالى: {الم} [البقرة: 1] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6289 فينفتح لك باب البقرة. وهكذا نعرف أن هناك مفتاحاً، وأن هناك فاتحاً وخذ فواتح السور على أنها مفاتيح، وكل مفتاح له شكل ونحت معين، إن نقلته لسورة أخرى فهو لا يفتحها. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {الر} وهي مكونة من ثلاثة حروف، مثل {الم} ، وقد وردت في خمس سور من القرآن الكريم هي: يونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، والحجر. ولكن {الم} تقرأ كآية، ولكنها هنا من مقدمة سورة «هود» جزء من آية رغم أنك تقرأها مثلها مثل سورة يونس، وسورة هود، وسورة يوسف وسورة إبراهيم، وتقرأها كآية. وايضاً {المص} هي أربعة حروف تقرأها آية في سورة الأعراف، وهناك أربعة حروف في أول سورة الرعد، وتقرأها كجزء من آية في سورة الأعراف. إذن: فليس هناك قانون لهذه الحروف التي في أوائل السور، بل كل حرف له خصوصية لم تتكشف كل أسرارها بعد، لهذا ذهب بعض المفسرين إلى قولهم «الله أعلم بمراده» . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6290 والله سبحانه يقول مرة عن القرآن أنه: {كِتَابٌ} ومرة يقول: {قُرْآنٍ} [يونس: 61] . والقرآن يُقرأ، والكتاب يُكتب، وشاء الحق سبحانه ذلك؛ ليدُلَّك على أن الحافظ للقرآن مكانان: صدور، وسطور. فإن ضَلَّ الصدر، تذكر السطر. ولذلك «حين أراد المسلمون الأوائل جمع القرآن، ومطابقة ما في الصدور على ما في السطور، وضعوا أسساً لتلك العملية الدقيقة، من أهمها ضرورة وجود شاهدين على كل آية، ووقفوا عند آخر آيتين في سورة التوبة، ولم يجدوا إلا شاهداً واحداً هو» خزيمة «، وصدَّقوا» خزيمة «وكتبوا الآيتين عنه؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان قد منحه وساماً، حين قال عنه:» من شهد له خزيمة فهو حسبه «. إذن: فإطلاق صفة الكتاب على القرآن، سببها أنه مكتوب، وهو قرآن؛ لأنه مقروء. ولم تكن الكتابة في الأزمنة القديمة مسألة سهلة، فلم يكن يُكتب إلا النفيس من الأعمال، أو لأن القرآن كتاب؛ لأنه في الأصل مكتوب في اللوح المحفوظ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6291 وحين يقول الحق سبحانه وتعالى واصفاً القرآن: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] . ومادة الحاء والكاف والميم تدل على أمر مُحسٍّ وهو إتقان البناء، بحيث يمنع عنه الفساد؛ فلا خلل فيه، ولا تناقض، ولا تعراض ولا انهيار. ولا بد من توازن هندسي لكل فتحة في البناء؛ حتى لا تكون الفتحات التي في البناء متوازية على خط واحد، فتحدث شروخ في الجدران أو انهيار البناء كله. هذا هو إحكام البناء في عالم المحسَّات. وشاء الحق سبحانه أن يصف القرآن، وهو الجامع لكل المنهج بأنه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] . فخذوا من هذا الإحكام ما يمنع فسادكم؛ لأن القرآن جاء على هيئة تمنع الفساد فيه، وعقد منع الفساد يكون الإصلاح والصلاح. ولو نظرتَ إلى أن القرآن الكريم في اللوح المحفوظ ستجده قد نزل جملة واحدة، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وجاء الوحي بعد ذلك حسب الأحداث التي تتطلب الأحكام، وقد نثر الحق سبحانه في القرآن أحكاماً وفصولاً ونجوماً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6292 إذن: فالقرآن قد أحكِم أولاً، ثم فُصِّل. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] . والفواصل الكبيرة في القرآن هي السور، والفواصل الصغيرة هي الآيات، وأراد المسلمون أن يشجعوا حفظ القرآن، فقسموه إلى ثلاثن جزءاً، وكل جزء قسموه إلى حزبين، وكل حزب قسموه إلى أربعة أرباع، لكن التفصيل الذي جاء لنا من القرآن أنه سور، وكل سورة هي مجموعة من الآيات. وقد يكون المعنى أن القرآن قد أحْكِمَ وفُصِّل؛ لأنه نزل منهجاً جامعاً من الله سبحانه وتعالى. وحين تنظر إليه تجده مُنَّوعاً، فمرة يتكلم في العقيدة وقمتها، ومرة يتكلم في النبوة وموكبها الرسالي، والمعجزات، ومرة يتكلم في الأحكام، ومرة يتكلم في القصص، والأخلاقيات، والكونيات. ومرة يتكلم في علم الفرائض. إذن: فهو مفصل في اللفظ أو في المعنى، وهو يتناول معاني كثيرة، وكل معنى تتطلبه العقيدة، قمة في الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويتناول الجزئيات حتى أدق التفاصيل. أو أحكم نزولاً؛ لأنه قد نزول مرة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم فُصِّل حسب الحَوادث، وهذا أدْعَى إلى أن تتعلق النفس بكل نجم من نجوم القرآن حين ينزل وقت طلبه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6293 وأنت حين تُعِد لنفسك صيدلية صغيرة في البيت، قد تأتي فيها بكل الأدوية، لكن إن أصابك صداع، فقد تفتش عن أقراص «الأسبرين» فلا تجدها. أما إذا أرسلت إلى الصيدلية الكبيرة، فسوف تجد «الأسبرين» حين تحتاجه. وكذلك حين تكون ظمآن، قد تفتح ثلاجة بيتك فلا تجد زجاجة الماء رغم أنها أمامك، وذلك بسبب لهفة العطش. إذن: فنزول القرآن منجمعاً شاءه الحق سبحانه لتنتعش النفس الإنسانية وهي تعشق استقبال القرآن. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106] . وقد جاء في القرآن على لسان الكافرين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6294 {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] . فيكون الرد من الحق سبحانه: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32] . ولو كان القرآن قد نزل مرة واحدة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما التفت الناس إلى كل ما جاء فيه، ولكن شاء الحق سبحانه وتعالى أن ينزل القرآن مُنجَّماً على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ليكون في كل نجم تثبيت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المواقف المختلفة، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذلك أمته من بعده في حاجة إلى تثبيتات متعددة حسب الأحداث التي تعترضهم، ولذلك قال الحق سبحانه: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32] . فساعة أن يسمع المؤمنون نجماً من نجوم القرآن، يكونون أقدر على استيعابه وحفظه وتطبيق الأحكام التي جاءت فيه. ولم يُنزل الحق سبحانه آية واحدة، بل أنزل آياتٍ، بدليل أنهم إن جاءوا بحكم ما، فهو سبحانه وتعالى ينزل الحق في هذا الحكم وأكثر تفصيلاً؛ ولذلك يقول سبحانه: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33] . ولو نزل القرآن جملة واحدة، فكيف يعالج أسئلتهم التي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6295 جاءت في القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ} . ويضرب الله مثلاً بالبعوضة، فيتساءلون ساخرين: كيف يضرب الله مثلاً بالبعوضة. فينزل قول الحق سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] . ولو كانوا عقلاء لتساءلوا: كيف ركَّب الحق سبحانه في هذا الكائن الضئيل البعوضة كل أجزاء الكائن الحي؛ من محلِّ الغذاء إلى قدرة الهضم، إلى محل التنفس، إلى محل الدم، إلى محل الأعصاب. وكان يجب أن يأخذوا من هذا الخلق دلائل العظمة؛ لأن عظمة الصنعة تكون في أمرين: إما ضخامة الشيء المصنوع، وإما أن يكون الشيء المصنوع تحت إدراك الحس. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى أن الفنيين حين صنعوا ساعة «بج بن» التفت الناس إلى ضخامة تلك الساعة، ودقة أدائها، وحين صنع الفنيون في «سويسرا» ساعة دقيقة وصغيرة جداً في حجمها، زاد إعجاب الناس بدقة الصنعة. وهكذا نجد أن القدرة تتجلى في صناعة الشيء الكبير في الحجم، أو صناعة الشيء الدقيق جداً؛ فما بالنا بخالق الكون كله، بأكبر ما فيه وأصغر ما فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6296 والحق سبحانه وتعالى يضرب المثل بالذبابة فيقول: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} [الحج: 73] . فول اجتمع الخلق المشركون أو المتجبرون وسألوا أصنامهم أن يخلقوا لهم ذبابة، أو حتى لو حاولوا هم خَلْق ذبابة لما استطاعوا، ولا يقتصر الأمر على ذلك العجز فقط، بل يتعداه إلى عجز آخر: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب} [الحج: 73] . فإن جاءت ذبابة على أي طعام، وأخذت بعضاً من الطعام، فهل يستطيع أحد أن يستخلص من الذبابة ما أخذته؟ لا، كذلك نرى ضعف الاثنين: الطالب والمطلوب. وهنا يقول الحق سبحانه: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] . فالإحكام لا يتناقض مع التفصيل؛ لأن الحق سبحانه هو الذي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6297 أحكم، وهو سبحانه الذي فصَّل، وهو سبحانه حكيم بما يناسب الإحكام، وهو سبحانه خبير بما يناسب التفصيل، بطلاقة غير متناهية. وهو سبحانه حكيم يخلق الشيء مُحْكماً لا يتطرق إليه فساد، وهو سبحانه خبير عنده علم بخفايا الأمور. ويقول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] . فالله سبحانه لا تدركه عين، وعينه سبحانه وتعالى لا تغفل عن أدق شيء وأخفى نية. إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] . يبيِّن لنا أن القرآن كلام الله القدير الذي بُني على الإحكام، ونزل مُحْكماً جملة واحدة، ثم جاءت الأحداث المناسبة لينزل من السماء الدنيا نجوماً مفصلة تناسب كل حدث. وأحكام الكتاب ثم تفصيله له غاية، هي الغاية من المنهج كله، ويبيِّنها الحق سبحانه في الآية التالية: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6298 إذن: فقد أحكمت آيات الكتاب وفصِّلت لغاية هي: ألا نعبد إلا الله. والعبادة هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر، وفيما نهى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6298 وهكذا نجد أن العبادة تقتضي وجود معبود له أمر وله نهي، والمعبود الذي لا أمر له ولا نهي لا يستحق العبادة، فهل مَنْ عَبَدَ الصنم تلقَّى من أمراً أو نهياً؟ وهل مَنْ عَبَدَ الشمس تلقَّى منها أمراً أو نهياً؟ إذن: فكلمة العبادة لكل ما هو غير الله هي عبادة باطلة؛ لأن مثل تلك المعبودات لا أمر لها ولا نهي، وفوق ذلك لا جزاء عندها على العمل الموافق لها أو المخالف لها. والعبادة بدون منهج «افعل» و «لا تفعل» لا وجود لها، وعبادة لا جزاء عليها ليست عبادة. وهنا يجب أن نلحظ أن قول الحق سبحانه: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2] . غير قوله سبحانه: {اعبدوا الله} [المائدة: 72] . ولو أن الرسل تأتي الناس وهم غير ملتفتين إلى قوة يعبدونها ويقدسونها لكان على الرسل أن يقولوا للناس: {اعبدوا الله} [الأعراف: 59] . ولكن هنا يقول الحق سبحانه: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2] . فكأنه سبحانه يواجه قوماً لهم عبادة متوجهة إلى غير من يستحق العبادة؛ فيريد سبحانه أولاً أن يُنهي هذه المسألة، ثم يثبت العبادة لله. إذن: فهنا نفي وإثبات، مثل قولنا: «أشهد ألا إله إلا الله» ، هنا ننفي أولاً أن هناك إلهاً غير الله، ونثبت الألوهية لله سبحانه. وأنت لا تشهد هذه الشهادة إلا إذا وُجد قوم يشهدون أن هناك إلهاً غير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6299 الله تعالى، ولو كانوا يشهدون بألوهية الإله الواحد الأحد سبحانه؛ لكان الذهن خالياً من ضرورة أن نقول هذه الشهادة. ولكن قول الحق سبحانه {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2] . معناه النفي أولاً للباطل، وإذا نُفِي الباطل لا بد أن يأتي إثبات الحق، حتى يكون كل شيء قائماً على أساس سليم. ولذلك يقال: «درء المفسدة مقدَّم دائماً على جلب المنفعة» فالبداية ألا تعبد الأصنام، ثم وجِّه العبادة إلى الله سبحانه. وما دامت العبادة هي طاعة الأمر، وطاعة النهي، فهي إذن تشمل كل ما ورد فيه أمر، وكل ما ورد فيه نهي. وإنْ نظرت إلى الأوامر والنواهي لوجدتها تستوعب كل أقضية الحياة من قمة الشهادة بأن لا إله إلا الله، إلى إماطة الأذى عن الطريق. وكل حركة تتطلبها الحياة لإبقاء الصالح على صلاحه أو زيادة الصالح ليكون أصلح، فهذه عبادة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6300 إذن: فالإسلام لا يعرف ما يقال عنه «أعمال دنيئة» ، و «أعمال شريفة» ولكنه يعرف أن هناك عاملاً دنيئاً وعاملاً شريفاً. وكل عامل يعمل عملاً تتطلبه الحياة بقاء للصالح أو ترقية لصلاحه وعدم الإفساد، فهذا عامل شريف؛ وقيمة كل امرىء فيما يحسنه. وهكذا نجد أن كلمة العبادة تستوعب كل أقضية الحياة؛ لأن هناك أمراً بما يجب أن يكون، وهناك نهياً عما يجب ألا يكون، وما لم يرد فيه نهي لك الخيار في أن تفعله أو لا تفعله، فإذا نظرت إلى نسبة ما تؤمر به، ونظرت ألى ما تُنهى عنه بالنسبة لأعمال الحياة، لوجدت أنها نسبة لا تتجاوز خمسة في المائة من كل أعمال الحياة، ولكنها الأساس الذي تقوم عليه كل أوجه الحياة. ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان» . وأعداء الإسلام يحاولون أن يحددوا الدين في هذه الأركان الخمسة، ولكن هذه الأركان هي الأعمدة التي تقوم عليها عمارة الإسلام. وأركان الإسلام هي إعلان استدامة الولاء لله تعالى، وكل أمر من أمور الحياة هو مطلوب للدين؛ لأنه يصلح الحياة. وهكذا نجد أن العلم بالدين ضرورة لكل إنسان على الأرض، أما العلوم الأخرى فهي مطلوبة لمن يتخصص فيها ويرتقي بها ليفيد الناس كلهم، وكلما كان المتفوق من المسلمين كان ذلك تدعيماً لرفعة الإسلام. إذن فالقاسم المشترك في الحياة هو العلم بالدين، ولكن يجب أن نفهم هذه القضية على قدرها، فلا يأتي إنسان لا يعرف صحيح الدين ليتكلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6301 والعَوْل، والرد؛ لأن المسلم قد تمر حياته كلها ولا يحتاج رأياً في قضية التوريث، أو أن يتعرف على المستحقين للميراث وأنصبتهم، وغير ذلك. وإن تعرَّض المسلم لقضية مثل هذه، نقول له: أنت إذا تعرضت لقضية مثل هذه فاذهب إلى المختصين بهذا العلم، وهم أهل الفقه والفتوى، لأنك حين تتعرض لقضية صحية تذهب إلى الطبيب، وحين تتعرض إلى قضية هندسية تذهب إلى المهندس، وإن تعرضت لعملية محاسبية تذهب إلى المحاسب، فإن تعرضت إى أي أمر ديني، فأنت تسأل عنه أهل الذكر. وأنت إذا نظرت إلى العبادة، تجد أنها تتطلب كل حركة في الحياة، وسبق أن ضربت لذلك مثلاً وقلت: هَبْ أن إنساناً يصلي، ولا يفعل شيئاً في الحياة غير الصلاة، فمن أين له أن يشتري ثوباً يستر به عورته ما دام لا يعمل عملاً أخر غير الصلاة، وهو إن أراد أن يشتري ثوباً، فلا بد له من عمل يأخذ مقابله أجراً، ويشتري الثوب من تاجر التجزئة، الذي اشترى الأثواب من تاجر الجملة، وتاجر الجملة اشتراها من المصنع، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6302 في الدين؛ لأن العلم بالدين يقتضي اللجوء إلى أهل الذكر. فإن قيل: الدين للجميع، نقول: صدقت بمعنى التدين للجميع، أما العلم بالدين فله الدراسة المتفقهة. وأهل الذكر أيضاً في العلوم الأخرى يقضون السنوات لتنمية دراساتهم، كما في الطب أو الهندسة أو غيرهما، وكذلك الأعمال المهنية تأخذ من الذي يتخصص فيها وقتاً وتتطلب جهداً، فما بالنا بالذي يُصلح أسس إقامة الناس في الحياة، وهو التفقه في الدين. لذلك يقول الحق سبحانه: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . فنحن لا نطلب من كل مسلم مثلاً أن يدرس المواريث ليعرف العَصبة وأصحاب الفروض، وأولي الأرحام، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6303 والمصنع قام بتفصيل الثياب بعد أن نسجها مصنع آخر، والمصنع الآخر نسج الثياب من غزل القطن أو الصوف. والقطن جاء من الزراعة، والصوف جاء من جز شعر الأغنام. وهكذا تجد أن مجرد الوقوف أمام خالقك لتصلي يقتضي أن تكون مستور العورة في صلاتك، هذا الستر يتطلب منك أن تتفاعل مع الحياة بالعمل. وانظر لنفسك واسألها: ما أفطرتَ اليوم؟ وأقلُّ إجابة هي: أفطرت برغيف وقليل من الملح، وستجد أنك اشتريت الرغيف من البقال، وجاء البقال بالرغيف من المخبز، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن، والمطحن أنتج الدقيق بعد طحن الغلال التي جاءت من الحقل. وكذلك تمت صناعة ألات الطحن في مصانع أخرى قد تكون أجنبية. وهكذا تمت صناعة الرغيف بسلسلة هائلة من العمليات، فهناك الفلاح الذي حرث، وهناك مصمم آلة الطحن الذي درس الهندسة، وهناك عالم «الجيولوجيا» الذي درس طبقات الأرض ليستخرج الحديد الخام من باطنها، وهناك مصنع الحديد الذي صهر الحديد الخام؛ ليستخلص منه الحديد النقي الصالح للتصنيع. وهكذا تجد أن كل حركة في الحياة قد خدمت قضية دينك، وخدمت وقوفك أمام خالقك لتصلي، فلا تقل: «سأنقطع للعبادة» بمعنى أن تقصر حياتك على الصلاة فقط، لأن كل حركة تصلح في الحياة هي عبادة، وإن أردت ألا تعمل في الحياة، فلا تنتفع بحركة عامل في الحياة. وإذا لم تنتفع بحركة أي عامل في الحياة، فلن تقدر أن تصلي، ولن تقدر أن يكون لك قوة لتصلي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6304 إذن فالعبادة هي كل حركة تتطلبها الحياة في ضوء «افعل» و «لا تفعل» . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 2] . والنذير: هو من يُخبر بشرٍّ زمنه لم يجيء، لتكون هناك فرصة لتلافي العمل الذي يُوقع في الشر، والبشير هو من يبشِّر بخير سيأتي إن سلك الإنسان الطريق إلى ذلك الخير. إذن: الإنذار والبشارة هي أخبار تتعلق بأمر لم يجيء. وفي الإنذار تخويف ونوع من التعليم، وأنت حين تريد أن تجعل ابنك مُجِداً في دراسته؛ تقول له: إن لم تذاكر فسوف تكون كابن فلان الذي أصبح صعلوكاً تافهاً في الحياة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6305 إذن: فأنت تنذر ابنك؛ ليتلافى من الآن العمل الذي يؤدي به إلى الفشل الدراسي. وكذلك يبشر الإنسان ابنه أو أي إنسان آخر بالخير الذي ينتظره حين يسلك الطريق القويم. إذن: فالعبادة هي كل حركة من حركات الحياة ما دام الإنسان مُتَّبعاً ما جاء بالمنهج الحق في ضوء «افعل» و «لا تفعل» ، وما لم يرد فيه «افعل» و «لا تفعل» فهو مباح. وعلى الإنسان المسلم أن يُبصِّر نفسه، ومن حوله بأن تنفيذ أي فعل في ضوء «افعل» هو العمل المباح، وأن يمتنع عن أي فعل في ضوء «لا تفعل» ما دام الحق سبحانه وتعالى قد نهى عن مثل هذا الفعل، وعلى المسلم تحرِّي الدقة في مدلول كل سلوك. ونحن نعلم أن التكليفات الإيمانية قد تكون شاقة على النفس، ومن اللازم أن نبيِّن للإنسان أن المشقة على النفس ستأتي له بخير كبير. ومثال ذلك: حين نجد الفلاح وهو يحمل السماد العضوي من حظيرة البهائم؛ ليضعه على ظهر الحمار ويذهب به إلى الحقل؛ ليخلطه بالتربة، وهو يعمل هذا العمل بما فيه من مشقة انتظاراً ليوم الحصاد. ويبيِّن الحق سبحانه وتعالى هنا على لسان رسوله أن الأمر بعدم عبادة أي كائن غير الله، هو أمر من الله سبحانه، وأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو نذير وبشير من الله. وقول الحق سبحانه وتعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2] . فيه نفي لعبادة غير الله، وإثبات لعبودية الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6306 وهذا يتوافق ويتسق مع الإنذار والبشارة؛ لأن عبادة غير الله تقتضي نذيراً، وعبادة الله في الإسلام تقتضي بشيراً. ولأن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان ويعلم ضعف الإنسان، ومعنى هذا الضعف أنه قد يستولي عليه النفع العاجل، فيُذهبه عن خير آجلٍ أطول منه، فيقع في بعض من غفلات النفس. لذلك بيَّن الحق سبحانه أن من وقع في بعض غفلات النفس عليه أن يستغفر الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يبخل برحمته على أحدٍ من خلقه. وإن طلب العبد المذنب مغفرة الله، فسبحانه قد شرع التوبة، وهي الرجوع عن المعصية إلى طاعة الله تعالى. ولا يقع عبد في معصية إلا لأنه تأبَّى على منهج ربه، فإذا ما تاب واستغفر، فهو يعود إلى منهج الله سبحانه، ويعمل على ألا يقع في ذنب جديد. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6307 وهكذا يبيِّن الحق سبحانه أن على العبد أن يستغفر من ذنوبه السابقة التي وقع فيها، وأن يتوب من الآن، وأن يرجع إلى منهج الله تعالى، لينال الفضل من الحق سبحانه. المطلوب إذن من العبد أن يستغفر الله تعالى، وأن يتوب إليه. هذا هو مطلوب الله من العاصي؛ لأن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، وحين يعجل العبد بالتوبة إلى الله تعالى فهو يعلم أن ذنباً قد وقع وتحقق منه، وعليه ألا يؤجل التوبة إلى زمنٍ قادم؛ لأنه لا يعلم إن كان سيبقى حياً أم لا. ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [هود: 3] . والحق سبحانه يُجمل قضية اتباع منهجه في قوله تعالى: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] . وقال في موضع آخر: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] . فالحياة الطيبة في الدنيا وعدم الضلال والشقاء متحققان لمن اتبع منهج الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6308 وظن بعض العلماء أن هذا القول يناقض في ظاهره قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» و «إن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل» . وقال بعض العلماء: فكيف تقول: {يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً} [هود: 3] . هنا نقول: ما معنى المتاع؟ المتاع: هو ما تستمتع به وتستقبله بسرور وانبساط. ويعلم المؤمن أن كل مصيبة في الدنيا إنما يجزيه الله عليها حسن الجزاء، ويستقبل هذا المؤمن قضاء الله تعالى بنفس راضية؛ لأن ما يصيبه قد كتبه الله عليه، وسوف يوافيه بما هو خير منه. وهناك بعض من المؤمنين قد يطلبون زيادة الابتلاء. إذن: فالمؤمن كل أمره خير؛ وإياك أن تنظر إلى من أصابته الحياة بأية مصيبة على أنه مصاب حقاً؛ لأن المصاب حقاً هو من حُرِم من الثواب. ونحن نجد في القرآن قصة العبد الصالح الذي قتل غلاماً كان أبواه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6309 مؤمنين، فخشي العبد الصالح أن يرهقهما طغياناً وكفراً، فهذا الولد كان فتنة، ولعله كان سيدفع أبويه إلى كل محرم، ويأتي لهما بالشقاء. إذن: فالمؤمن الحق هو الذي يستحضر ثواب المصيبة لحظة وقوعها. ومنَّا من قرأ قصة المؤمن الصالح الذي سار في الطريق من المدينة إلى دمشق، فأصيبت رِجْله بجرح وتلوث هذا الجرح، وامتلأ بالصديد مما يقال عنه في الاصطلاح الحديث «غرغرينة» وقرر الأطباء أن تٌقطع رجله، وحاولوا أن يعطوه «مُرَقِّداً» أي: مادة تُخدِّره، وتغيب به عن الوعي؛ ليتحمل ألم بتر الساق، فرفض العبد الصالح وقال: إني لا أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين. ومثل هذا العبد يعطيه الله سبحانه وتعالى طاقة على تحمُّل الألم، لأنه يستحضر دائماً وجوده في معية الله، ومفاضٌ عليه من قدرة الله وقوته سبحانه. وحينما قطع الأطباء رجله، وأرادوا أن يكفنوها وأن يدفنوها، فطلب أن يراها قبل أن يفعلوا ذلك، وأمسكها ليقول: اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو، فإني قد عوفيت في أعضاء. إذن: فصاحب المصيبة حين يستحضر الجزاء عليها، إنما يحيا في متعة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6310 ولذلك لا تتعجب حين يحمد أناس خالقهم على المصائب؛ لأن الحمد يكون على النعمة، والمصيبة قد تأتي للإنسان بنعمة أوسع مما أفقدته. ولذلك نجد اثنين من العارفين بالله وقد أراد أن يتعالم كل منهما على الآخر؛ فقال واحد منهما: كيف حالكم في بلادكم أيها الفقراء؟ والمقصود بالفقراء هم العُبَّاد الزاهدون ويعطون أغلب الوقت لعبادة الله تعالى فقال العبد الثاني: حالنا في بلادنا إنْ أعطينا شكرنا، وإنْ حُرمنا صبرنا. فضحك العبد الأول وقال: هذا حال الكلاب في «بلخ: أي: أن الكلب إن أعطيته يهز ذيله، وإن منعه أحد فهو يصبر. وسأل العبد الثاني العبد الأول: وكيف حالكم أنتم؟ فقال: نحن إن أعطينا آثرنا، وإن حُرِمنا شركنا. إذن: فكل مؤمن يعيش في منهج الله سبحانه وتعالى فهو يستحضر في كل أمر مؤلم وفي كل أمر متعب، أن له جزاءً على ما ناله من التعب؛ ثواباً عظيماً خالداً من الله سبحانه وتعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6311 ولذلك يقول الحق سبحانه: {يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً} [هود: 3] . والحسن هنا له مقاييس، يُقاس بها اعتبار الغاية؛ فحين تضم الغاية إلى الفعل تعرف معنى الحسن. ومثال ذلك: هو التلميذ الذي لا يترك كتبه، بل حين ياتي وقت الطعام، فهو يأكل وعيناه لا تفارقان الكتاب. هذا التلميذ يستحضر متعة النجاح وحُسْنه ونعيم التفوق، وهو تلميذ يشعر بالغاية وقت أداء الفعل. ويقول الحق سبحانه في نفس الآية: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] . أي: يؤتى كل ذي فضل مجزول لمن لا فضل له، فكأن الحق سبحانه يمنِّي الفضل للعبد. ومثال ذلك: الفلاح الذي يأخذ من مخزن غلاله إردباً من القمح ليبذره في الأرض؛ ليزيده الله سبحانه وتعالى بزراعة هذا الإردب، ويصبح الناتج خمسة عشر إردباً. والفضل هو الأجر الزائد عن مساويه، فمثلاً هناك فضل المال قد يكون عندك، أي: زائد عن حاجتك، وغيرك لا يملك مالاً يكفيه، فإن تفضلت ببعض من الزائد عندك، وأعطيته لمن لا مال عنده فأنت تستثمر هذا العطاء عند الله سبحانه وتعالى. والحق سبحانه وتعالى قد يعطيك قوة، فتعطى ما يزيد منها لعبد ضعيف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6312 وقد يكون الحق سبحانه قد أسبغ عليك فضلاً من الحلم، فتعطى منه لمن أصابه السفه وضيق الخلق. إذن: فكل ما يوجد عند الإنسان من خصلة طيبة ليست عند غيره من الناس، ويفيضها عليهم، فهي تزيد عنده لأنها تربو عند الله، وإن لم يُفِضْها على الغير فهي تنقص. ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39] . ويقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصدد خوطرنا عنها: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] . وبعض من أهل المعرفة يفهم هذا القول الكريم بأن الإنسان الذي يفيض على غيره مما آتاه الله، يعطيه الحق سبحانه بالزيادة ما يعوضه عن الذي نقص، أو أنه سبحانه وتعالى يعطي كل صاحب فضلٍ فضل ربه، وفضل الله تعالى فوق كل فضل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6313 ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] . فإن أعرضوا عنك فأبلغهم أنك تخاف عليهم من عذاب اليوم الآخر، ويُوصف العذاب مرة بأنه كبير، ويوصف مرة بأنه عظيم، ويوصف مرة بأنه مهين؛ لأنه عذاب لا ينتهي ويتنوع حسب ما يناسب المعذب، فضلاً عن أن العذاب الذي يوجد في دنيا الأغيار هو عذاب يجري في ظل المظنة بأنه سينقضي، أما عذاب اليوم الآخر فهو لا ينقضي بالنسبة للمشركين بالله أبداً. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6314 أي: إلى الله مرجعكم في الإيجاد والإمداد، والبداية والنهاية، وبداية النهاية التي لا انتهاء معها وهي الآخرة، فيثيب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، فيؤتي سبحانه لكل ذي عمل صالح في الدنيا أجره، وثوابه في الآخرة. ومن كثرت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار. وفي الدنيا من زادت حسناته على سيئاته وعاش بين القبض والبسط. والقبض والبسط هو إقبال على الله بتوبة وباعتراف بالذنب، والإقرار بالذنب هو بداية التوبة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6314 ومن كثرت سيئاته على حسناته كان في ضنك العيش وقلق النفس. ويؤتي الحق سبحانه كل ذي فضل فضله، فمن عمل لله عَزَّ وَجَلَّ؛ وفقه الله فيما يستقبل على طاعته، والذين أعرضوا يُخاف عليهم من عذاب يوم كبير. {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [هود: 4] . لأنه سبحانه القادر على الإيجاد وعلى الإمداد، وعلى البداية والنهاية المحدودة، وبداية الخلود إما إلى جنة وإما إلى نار، فهو القادر على كل شيء. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6315 وإذا وجد «ألا» في أول الكلام فأنت تعلم أنها للتنبيه، ومعنى التنبيه أنه أمر يوقظ لك السامع إن كان غافلاً؛ لأنك تحب ألا تفوته كلمة من الكلام الذي تقوله. وحين تنبهه بغير أداء الأسلوب الذي تريده منه، هنا يكون التنبيه قد أخذ حقه، ومن بعد ذلك يجيء الكلام الذي تقوله، وقد تهيَّأ ذهن السامع لاستقبال ما تقول. ف «ألا» إذن هي أداة تنبيه؛ لأن الكلام ستار بين المتكلم والمخاطب، والمخاطب لا يعرف الموضوع الذي ستكلمه فيه، والمتكلم هو الذي يملك زمام الموقف، وهو يهيىء ذهنه لترتيب ما يقول من كلمات، أما المستمع فسوف يفاجأ بالموضوع؛ وحتى لا يفاجأ ولا تضيع منه الفرصة ليلتقط كلمات المتكلم من أولها، فهو ينبه بأداة تنبيه ليستمع. ويقول الحق سبحانه هنا: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} [هود: 5] . ويقال: ثنيت الشيء أي: طويته، وجعلته جزئين متصلين فوق بعضهما البعض. وحين يثني الإنسان صدره، فهو يثنيه إلى الأمام ناحية بطنه، ويداري بذلك وجهه، والغرض هنا من مداراة الوجه هو إخفاء الملامح؛ لأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6316 انفعال مواجيد النفس البشرية ينضح على الوجوه؟ وهم كارهون للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحاقدون عليه؛ ولا يريدون أن يلحظ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما على ملامحهم من انفعالات تفضح مواجيدهم الكارهة. ومثل ذلك جاء من قوم نوح عليه السلام، حين قال الحق سبحانه على لسان نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا} [نوح: 7] . ومن البداهة أن نعرف أن الإصبع لا تدخل كلها إلى الأذن، إنما الأنملة تسد فقط فتحة السمع، وعدَّل القرآن الكريم ذلك بمبالغة تكشف موقف نوح عليه السلام، فكل منهم أراد أن يُدخِل إصبعه في أذنه حتى لا يسمع أي دعوة، وهذا دليل كراهية، وهذه شهادة ضدهم؛ لأنهم يفهمون أنهم لو سمعوا فقد تميل قلوبهم لما يقال. ولذلك نجد أن القرآن الكريم وهو ينقل لنا ما قاله مشركو مكة لبعضهم البعض: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] . فكأنهم تواصوا بالتشويش على القرآن، ثقة منهم في أن القرآن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6317 لو تناهى إلى الأذن فقد يؤثر في نفسية السامع؛ لأن النفس البشرية أغيار، وقد تأتي للنفس ما يجعلها تميل دون أن يشعر صاحبها. ولو كان هذا القرآن باطلاً، فلماذا خافوا من سماعه؟ ولكنه الغباء في العناد والكفر. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [هود: 5] . وهم قد استغشوا ثيابهم ليغطوا وجوههم؛ مداراة للانفعالات التي تحملها هذه الوجوه، وهي انفعالات كراهية، أو أنها قد تكون انفعالات أخرى، فساعة يسمع واحد منهم القرآن قد ينفعل لما يسمع، ولا يريد أن يُظهر الانفعال. إذن: فالانفعال قد يكون قسرياً، وكان كفار قريش رغم كيدهم وحربهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يتسللون ناحية بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليسمعوا القرآن، وكانوا يضبطون بعضهم البعض هنالك، ويدّعي كل منهم أنه إنما مرَّ على بيت النبي صلى لله عليه وسلم مصادفة. وفي ذلك يقول الشاعر: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6318 اذكُروهُمْ وقد تسلَّل كلُّ ... بعدَ ما انفضَّ مجلسُ السُّمَّارِ اختلاساً يسْعَى لحجرةِ طَهَ ... لسَماعِ التنزيلِ في الأسْحَارِ عُذْرهم حُسْنُهُ فلمّا تَراءَوْا ... عَلَّلوها ببَارزِ الأعْذَارِ وجاء الحق سبحانه وتعالى هنا في نفس الآية ب «ألا» في قوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5] . فهم إن داروا على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهل هم قادرون على المداراة على رب محمد؟ والذي لا يدركه بصر محمد فربُّ محمد سيُعلمه به. وما دام الحق سبحانه يعلم ما يسرون، فمن باب أولى أنه سبحانه وتعالى يعلم ما يعلنون. والحق سبحانه وتعالى غيب، وربما ظن ظان أنه قد يفلت منه شيء، ولكن الحق سبحانه يُحصي ولا يُحصَى عليه، فإن ظن ظان أن الحق سبحانه يعلم الغيب فقط؛ لأنه غيب، فهذا ظن خاطىء؛ لأنه يعلم السر والعلن، فهو عليم بذات الصدور، وكلمة «عليم» صيغة مبالغة، وهي ذات في كنهها العلم. وقول الحق سبحانه: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6319 نجد فيه كلمة {ذَاتِ} وهي تفيد الصحبة، و (ذَاتِ الصُّدُورِ) أي: الأمور المصاحبة للصدور. ونحن نعلم أن الصدر محل القلب، ومحل الرئة، والقلب محل المعتقدات التي انتُهي إليها، وصارت حقائق ثابتة، وعليها تدور حركة الحياة. ويُقصد ب {بِذَاتِ الصدور} أي: المعاني التي لا تفارق الصدور، فهي صاحبات دائمة الوجود في تلك الصدور، سواء أكانت حقداً أو كراهية، أو هي الأحاسيس التي لا تظهر في الحركة العادية، سواء أكانت نية حسنة أو نية سيئة. وكل الأمور التي يسمونها ذات الصدور، أي: صاحبات الصدور، وهي القلوب، وكأن الجِرْم نفسه وهو القلب معلوم للحق سبحانه وتعالى، فخواطره من باب أولى معلومة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6320 وحين يذكر القرآن الكريم لقطة توضح صفة ما، فهو يأتي بما يتعلق بهذه الصفة، وما دام الحق سبحانه عليماً بذات الصدور، فهذا علم بالأمور السلبية غير الواضحة، والحق سبحانه يعلم الإيجابيات أيضاً، فهو يعلم النية الحسنة أيضاً، ولكن الكلام هنا يخص جماعة يثنون صدورهم. وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، وبيَّن أنه عليم بكل شيء. وقال سبحانه: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] . والدابة: كا ما يدب على الأرض، وتستخدم في العرف الخاص للدلالة على أي كائن يدب على الأرض غير الإنسان. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] . وذكر الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام أنه شُغِل حينما كُلِّف بخواطر عن أهله، وتساءل: كيف أذهب لأداء الرسالة وأترك أهلي؟ فأوحى الله سبحانه أن يضرب حجراً فانفلق الحجر عن صخرة، فأمره الحق سبحانه أن يضرب الصخرة، فضربها فانفلقت ليخرج له حجر، فضرب الحجر فانشق له عن دودة تلوك شيئاً كأنما تتغذى به، فقال: إن الذي رزق هذه في ظلمات تلك الأحجار كلها لن ينسى أهلي على ظهر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6321 الأرض. ومضى موسى عليه السلام إلى رسالته. وهذا أمر طبيعي؛ لأن الحق سبحانه خالق كل الخلق، ولا بد أن يضمن له استبقاء حياة واستبقاء نوع؛ فاستبقاء الحياة بالقوت، واستبقاء النوع بالزواج والمصاهرة. إذن: فمن ضمن ترتيبات الخلق أن يوفر الحق سبحانه وتعالى استبقاء الحياة بالقوت، واستبقاء النوع بالتزاوج. ولذلك نقول دائماً: يجب أن نفرق بين عطاء الإله وعطاء الرب، فالإله سبحانه هو رب الجميع، لكنه إله من آمن به. وما دام الحق سبحانه هو رب الجميع، فالجميع مسئولون منه؛ فالشمس تشرق على المؤمن وعلى الكافر، وقد يستخرج الكافر من الشمس طاقة شمسية وينتفع بها، فلماذا لا يأخذ المؤمن بالأسباب؟ والهواء موجود للمؤمن والكافر؛ لأنه عطاء ربوبية، فإن استفاد الكافر من الهواء ودرسه، واستخدم وخواصه أكثر من المؤمن؛ فعلى المؤمن أن يجدَّ ويكدَّ في الأخذ بالأسباب. إذن: فهناك عطاء للربوبية يشترك فيه الجميع، لكن عطاء الألوهية إنما يكون في العبادة، وهو يُخرجك من مراداتك إلى مرادات ربك، فحين تطلب منك شهواتك أن تفعل أمراً فيقول لك المنهج: لا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6322 وفي هذا تحكم منك في الشهوات، وارتقاء في الاختبارات، أما في الأمور الحياتية الدنيا، فعطاء الربوبية لكل كائن ليستبقي حياته. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] . وكلمة «على» تفيد أن الرزق حق للدابة، لكنها لم تفرضه هي على الله سبحانه وتعالى، ولكنه سبحانه قد ألزم نفسه بهذا الحق. ويقول سبحانه: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] . ولأنه سبحانه هو الذي يرزق الدابة فهو يعلم مستقرها وأين تعيش؛ ليوصل إليها هذا الرزق. والمستقر: هو مكان الاستقرار، والمستودع: هو مكان الوديعة. والحق سبحانه يُعْلِمنا بذلك ليطمئن كل إنسان أن رزقه يعرف عنوانه، والإنسان لا يعلم عنوان الرزق. فالرزق يأتي لك من حيث لا تحتسب، لكن السعي إلى الرزق شيء آخر؛ فقد تسعى إلى رزق ليس لك، بل هو رزق لغيرك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6323 فمثلاً: أنت قد تزرع أرضك قمحاً فيأتي لك سفر للخارج، وتترك قمحك؛ ليأكله غيرك، وتأكل أنت من قمح غيرك. ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6] . أي: أن كل أمر مكتوب، وهناك فرق بين أن تفعل ما تريد، ولكن لا يحكم إرادتك مكتوب؛ فما يأتي على بالك تفعله، وبين أن تفعل أمراً قد وضعت خطواته في خطة واضحة مكتوبة، ثم تأتي أفعالك وفقاً لما كتبته. ومن عظمة الخالق سبحانه أن كتب كل شيء، ثم يأتي كل ما في الحياة وفق ما كتب. والدليل على ذلك على سبيل المثال أن الله سبحانه كان يوحي إلى رسوله بالسورة من القرآن الكريم، وبعد ذلك يُسرِّي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الوحي، فيتلو السورة على أصحابه، فمن يستطيع الكتابة فهو يكتب، ومن يحفظ فهو يحفظ. ثم يأتي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الصلاة، فيقرأ السورة كما كُتِبَتْ، ويأتي كل نجم من القرآن في مكانه الذي قاله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لصحابته، فكيف كان يحدث ذلك؟ لقد حدث ذلك بما جاء به الحق سبحانه، وأبلغه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6324 {وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6325 وقد تعرض القرآن الكريم لمسألة خلق الأرض والسماء أكثر من مرة. وقلنا من قبل: إن الحق سبحانه وتعالى قد شاء أن يخلق الأرض والسموات في ستة أيام من أيام الدنيا، وكان من الممكن أن يخلقها في أقل من طرفة عين بكلمة «كن» وعرفنا أن هناك فارقاً بين إيجاد الشيء، وطرح مكونات إيجاد الشيء. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى حين يريد الإنسان صنع «الزبادي» ، فهو يضع جزءاً من مادة الزبادي وتسمى «خميرة» في كمية مناسبة من اللبن الدافىء، وهذه العملية لا تستغرق من الإنسان إلا دقائق، ثم يترك اللبن المخلوط بخميرة الزبادي، وبعد مضي أربع وعشرين ساعة يتحول اللبن المخلوط بالخميرة إلى زبادي بالفعل. وهذا يحدث بالنسبة لأفعال البشر، فهي أفعال تحتاج إلى علاج، ولكن أفعال الخالق سبحانه وتعالى لا علاج فيها؛ لأنها كلها تأتي بكلمة «كن» . أو كما قال بعض العلماء: إن الله شاء أن يجعل خلق الأرض والسموات في ستة أيام، وقد أخذ بعض المستشرقين من هذه الآية، ومن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6325 آيات أخرى مجالاً لمحاولة النيل من القرآن الكريم، وأن يدَّعوا أن فيه تعارضاً، فالحق سبحانه وتعالى هنا يقول: {وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [هود: 7] . وجاءوا إلى آية التفصيل وجمعوا ما فيها من أيام، وقالوا: إنها ثمانية أيام، وهي قول الحق سبحانه: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 912] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6326 وهنا قال بعض المستشرقين: لو كانت هذه قصة الخلق للأرض والسموات لطابقت آية الإجمال آية التفصيل. وقال أحدهم: لنفرض أن عندي عشرة أرادب من القمح، وأعطيت فلاناً خمسة أرادب وفلاناً ثلاثة أرادب، وفلاناً أعطيته إردبين، وبذلك ينفد ما عندي؛ لأن التفصيل مطابق للإجمال. وادَّعي هذا البعض من المستشرقين أن التفصيل لا يتساوى مع الإجمال. ولم يفطنوا إلى أن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى، وهو يكلم أناساً لهم ملكة أداء وبيان وبلاغة وفصاحة؛ وقد فهم هؤلاء ما لم يفهمه المستشرقون. هم فهموا، كأهل فصاحة، أن الحق سبحانه وتعالى قد خلق الأرض في يومين، ثم جعل فيها رواسي وبارك فيها، إما في الأرض أو في الجبال، وقدَّر فيها أقواتها، وكل ذلك تتمة للحديث عن الأرض. ومثال ذلك: حين أسافر إلى الإسكندرية فأنا أصل إلى مدينة طنطا في ساعة مثلاً وإلى الإسكندرية في ساعتين، أي: أن ساعة السفر التي وصلت فيها إلى طنطا هي من ضمن ساعتي السفر إلى الإسكندرية. وكذلك خلق الأرض والرواسي وتقدير القوت، كل ذلك في أربعة أيام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6327 متضمنة يَوْمَىْ خَلْق الأرض، ثم جاء خلق السماء في يومين. ثم يقول الحق سبحانه: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} [هود: 7] . كل هذه المسائل الغيبية لها حجة أساسية، وهي أن الذي أخبر بها هو الصادق، فلا أحد يشك أن الأرض والسموات مخلوقة، ولا أحد يشك في أن السموات والأرض أكبر خلقاً من خلق الناس، وليس هناك أحد من البشر ادَّعى أنه خلق الأرض أو خلق السموات. وكل المخترعات البشرية نعرف أصحابها، مثل: المصباح الكهربي، والهاتف، والميكروفون، والتليفزيون، والسيارة، وغيرها. ولكن حين نجيء إلى السموات والأرض لا نجد أحداً قد ادعى أنه قد خلقها. وقد أبلغنا الحق سبحانه أنه هو الذي خلقها، وهي لمن ادّعاها إلى أن يظهر مُعارِض، ولن يظهر هذا المعارض أبداً. وكل هذا الخلق من أجل البلاء: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6328 أي: ليختبركم أيكم أحسن عملاً، ولكن من الذي يحدد العمل؟ إنه الله سبحانه وتعالى. وهل الحق سبحانه في حاجة إلى أن يختبر مخلوقاته؟ لا، فالله سبحانه يعلم أزلاً كل ما يأتي من الخلق، ولكنه سبحانه أراد بالاختبار أن يطابق ما يأتي منهم على ما عمله أزلاً؛ حجة عليهم. وهكذا فاختبار الحق سبحانه لنا اختبار الحجة علينا. ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [هود: 7] . وهنا يصور الحق سبحانه وتعالى تكذيب المعاندين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهم يلقون بالألفاظ على عواهنها من قبل أن تمر على تفكيرهم. فلو أنهم قد مروا بهذه الكلمات على تفكيرهم؛ لاستحال منطقياً أن يقولوها. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخبرهم ببلاغ الحق سبحانه وتعالى لهم بأنهم مبعوثون من بعد الموت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6329 وهذا كلام إخباري بأنهم إن ماتوا وهم سيموتون لا محالة سيبعثهم الله سبحانه، فما كان منهم إلا أن قالوا: {إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [هود: 7] . والخبر الذي يقوله لهم هو خبر، فما موقع السحر منه؟ إنهم يعلمون أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقل ذلك إلا من نص القرآن الكريم، وهم يقولون عن القرآن الكريم إنه سحر، فكأن النص نفسه من السحر الذي حكموا به على القرآن. وأوضحنا من قبل أن إبطال قضية السحر في القرآن الكريم دليله منطقي مع القول؛ لأنهم إن كانوا قد ادعوا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو أن محمداً في عرفهم قد سحر القوم الذين اتبعوه. فالساحر له تأثير على المسحور، والمسحور لا دخل له في عملية السحر، فإذا كان محمد قد سحر القوم الذين اتبعوه، فلماذا لم يسحر هؤلاء المنكرين لرسالته؛ بنفس الطريقة التي سحر بها غيرهم؟ وحيث إنهم قد بقوا على ما هم عليه من عناد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهذا دليل على أن المسألة ليست سحراً، ولو كان الأمر كذلك لسحرهم جميعاً. وقولهم: {إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [هود: 7] . يدل على أنه سحر محيط، لا سحر لأناس خاصين، فكلمة {سِحْرٌ مُّبِينٌ} تعني: سحراً محيطاً بكل من يريد سحره. وبقاء واحد على الكفر دون إيمان برسول الله يدل على أن المسألة ليست سحراً. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6330 {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6331 وساعة تجد {لَئِنْ} فافهم اللام الأولى التي بعد «و» إنما جاءت؛ لتدل على أن الكلام فيه قسم مؤكد، وإن كان محذوفاً، واكتفى باللام عن القسم، وتقديره: «والله لئن» . والقسم يأتي لتأكيد المقسم عليه بالمقسم به، وتأكيد المقسم عليه إنما يأتي لأن هناك من يشك فيه. فأنت لا تٌقسم لإنسان تلقاه وتقول له: والله لقد كنت عند فلان بالأمس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6331 إذن: فالقسم يأتي لشك طرأ عند السامع، وأنت لا تقسم ابتداء. ويأتي القسم على مقدار مراتب الشك، وتأكيداً بأدواته. والقرآن الكريم يقول هنا: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] . فالواو هنا هي واو القسم، وهنا أيضاً شرط، والقسم يحتاج لجواب، والشرط أيضاً يحتاج إلى جواب. وإذا اجتمع الشرط والقسم فبلاغة الأسلوب تكتفي بجواب واحد، مثلما نقول: «والله إن فعلت كذا لأفعلن معك كذا» . وهكذا يُغْنِي جواب القسم عن جواب الشرط، والمتقدم سواء أكان قسماً أو شرطاً هو الذي يغني جوابه عن الآخر. مثلما نقول: «والله إن جاء فلان لأكرمته» ، فالقسم هنا متقدم، وأغنى جوابه عن جواب الشرط. وإن قلت: إن جاءك فلان والله لتكرمه، فهنا الشرط هو المتقدم. والاثنان متحدان، لكن غاية ما هناك أن القسم تأكيد والشرط تأسيس، فإذا تقدم ذو خبر على الاثنين على الشرط وعلى القسم نأتي بجواب الشرط فوراً، مثلما نقول: «زيد والله إن جاءك أكرمه» ؛ لأن الشرط كما قلنا تأسيس، والقسم تأكيد، ويرجح هنا الشرط، لأن التأسيس أولى من التأكيد. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6332 والجواب هنا للقسم، وهو يغني عن جواب الشرط. أي: أن العذاب يُؤخَّر. وقد أوعد الحق سبحانه الكافرين بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يعذبهم، وكان العذاب للأمم السابقة هو عذاب استئصال، منهم من أرسل الله سبحانه عليه عاصفة، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من أغرقه، ومنهم من خسف به الأرض. فكأن مهمة الرسل السابقين أن يبلغوا الدعوة، ثم تتلوى السماء تأديب الكافرين بالرسالات. ولكن الحق سبحانه وتعالى قد شاء أن يفضِّل أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الأمم كلها، وأن تعذِّب الكافرين في المعارك. وحين يتوعدهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعذاب، فللعذاب ميلاد، وقد يُؤخَّر ليرى المحيطون بالكافرين الضلال والفساد، فإذا ما وقع عذاب الله سبحانه على هؤلاء الكافرين، فلن يحزن عليهم أحد. وهكذا أراد الله سبحانه الإمهال والإملاء ليكون لهما معنى واضح في الحياة، والإملاء للظالم؛ لتزداد مظالمه زيادة تجعل الأمة التي يعيش فيها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6333 تكره ظلمه، فإذا وقع عليه عذاب، لا يعطف عليه أحد. ونحن نعلم أن النفس البشرية بنت المشهد، فحين يُقتل واحد وتمر سنوات على قضيته، ثم يصدر الحكم بإعدامه، فالناس تنسى لذعة القتل الأول، وتعطف على القاتل حين يصدر الحكم بإعدامه. ولذلك أقول دائماً: إن من دواعي استمرار الجرائم إبطاءات المحاكمة، تلك الإبطاءات التي تجعل عواطف الناس من المجرم؛ لأن مشهد المقتول أولاً قد انتهى من ذاكرتهم. ولكن لو استحضر الناس وقت العقوبة ظرف الجريمة؛ لَفرِحوا بالحكم على القاتل بالقتل. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما يريد أن يعذب أحداً يقول: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] . وذلك ليتم التعذيب أمام المجتمع الذي شقى بإفسادهم وشقى بمظالمهم، فمن يُعتدَى على عرضه، ويرى عذاب المعتدي فهو يُشْفى. وهنا يبيِّن الحق سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لقد توعدتهم بالعذاب. ونحن نبطن العذاب بالإمهال لهم، ولكنهم جعلوا من ذلك مناط السخرية والاستهزاء والتهكم، وتساءلوا: أين هو العذاب؟ ونحن نجد القرآن يقول على ألسنتهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6334 {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} [ص: 16] . والقط: هو جزاء العمل، وهو مأخوذ من القط أي: القطع. والعذاب إنما يتناسب مع الجرم، فإن كانت الجريمة كبيرة فالعذاب كبير، وإن كانت الجريمة صغير فالعذاب يكون محدوداً، فكان العذاب موافقاً للجريمة. ومن العجيب أن منهم من قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . وجاء على ألسنتهم ما أورده القرآن الكريم في قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 92] . ولا شك أن الإنسان لا يتمنى ولا يرجو أن يقع عليه العذاب، ولكنهم قالوا ذلك تحديا وسخرية واستهزاءً. وشاء الحق سبحانه وتعالى ألا يعذب الكافرين المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثلما عذب الكافرين الذين عاصروا الرسالات السابقة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . فضلاً عن أن هناك أناساً منهم ستروا إيمانهم؛ لأنهم لا يملكون القوة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6335 التي تمكنهم من مجابهة الكافرين، ولا يملكون القوة ليرحلوا إلى دار الإيمان بالهجرة، وحتمت عليهم ظروفهم أن يعيشوا مع الكافرين. وهناك في سورة الفتح ما يوضح ذلك، حين قال الحق سبحانه وتعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] . أي: لو تميَّز الكافرون عن المؤمنين لسلّط الحق سبحانه العذاب الأليم على الكافرين، لكن لو دخل المسلمون بجيشهم الذي كان في الحديبية على مكة، ودرات هناك معركة، فهذه المعركة ستصيب كل أهل مكة، وفيهم المؤمنون المنثورون بين الكافرين، وهم غير متحيزين في جهة بحيث يوجد المسلمون الضربة للجانب الكافر. إذن: فلو ضرب المسلمون المقاتلون، لضربوا بعضاً من المؤمنين، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6336 وهذا ما لا يريده الحق سبحانه وتعالى. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] . والأمة: هي الطائفة أو الجماعة من جنس واحد، مثل أمة الإنس، وأمة الجن، وأمة النمل. . وغير ذلك من خلق الله. والحق سبحانه هو القائل: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] . والأمة: طائفة يجمعها نظام واحد وقانون واحد، وأفرادها مستاوون في كل شيء، فتكون كل واحدة من هذه الأمم أمة، وهناك الأمة: الطائفة من الزمن. مثل قول الحق سبحانه: {وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] . أي: أن هذا الذي تذكر بعد فترة من الزمن، وقد تكون الفترة المسماة «أمة» ، هي الزمن الذي يتحمل جيلاً من الأجيال. الأمة إذن هي جماعة وطائفة لها جنس يجمعها، ولها تميزات أفرادية، وهي تلتقي في معنى عام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6337 فأمة الإنسان هي حيوان ناطق مفكر، وهناك قدر عام يجمع كل إنسان، ولكن هناك تفاوتات في المواهب. ولا توجد نفس بشرية واحدة تملك موهبة الهندسة والطب والتجارة والصيدلة والمحاسبة؛ لأن كل حرفة من تلك الحرف تحتاج إلى دراسة. ولا يملك إنسان من العمر ما يتيح له التخصص في كل تلك المجالات؛ ولذلك يتخصص كل فرد في مجال؛ ليخدم غيره فيه، وغيره يتخصص في مجال آخر ويخدم الباقين، وهكذا. وفي هذا تكافل اجتماعي، يشعر فيه كل فرد بأنه يحتاج للآخرين، وأنه لا يستطيع أن يحيا مستقلاً بذاته عن كل الخلق. ولو عرف واحد كل الحرف التي في الدنيا، من طب وهندسة وقضاء، وسباكة، ونجارة، وزراعة، وغيرها فلن يسأل عن الباقين؟ لذلك شاء الله سبحانه وتعالى أن تلتحم المجتمعات ضرورة وقسراً، لا تفضُّلاً من أحد على أحد. والذي يكنس الشارع أو يعمل في تنظيف الصرف الصحي لا يفعل ذلك تفضُّلاً، بل يفعل ذلك احتياجاً؛ لأنه يحتاج إلى العمل والرزق؛ لأن جسمه يحتاج إلى الطعام، وإلى الستر بالملابس، وأولاده يطلبون الطعام والمأوى والملبس، ولولا ذلك لما عمل في تلك المهنة. وإذا أخلص في عمله فالله سبحانه يحببه فيها، وإن ارتقت أحواله، يظل في هذا العمل؛ لأنه عشق إتقان مهنته. ولقد رأيت رجلاً كان يعمل في هذه المهنة، ويحمل الأقذار على كتفه، وحين وسَّع الله عليه، اشترى عربة يجرها حمار ليحمل فيها ما ينزحه من تلك المجاري. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6338 وحين وسَّع الله عليه أكثر، اشترى سيارة فيها ماكينة شفط للقاذورات، وصار يجلس على الكرسي، ويدير «موتور» نزح المجاري لداخل خزان السيارة المخصص لذلك. إذن: فارتباطات المجتمع لا بد أن تنشأ عن حاجة، لا عن تفضُّل؛ لأن التفضل ليس فيه إلزام بالعمل، لكن الحاجة هي التي فيها إلزام بالعمل؛ لتسير حركة الحياة. ومن يعشق عمله على أي وضع كان، يوفقه الله تعالى فيه أكثر؛ لأنه احترم قدر الله تعالى في نفسه، ولم يستنكف، ويعطيه الله سبحانه كل الخير من هذا العمل، بقدر حبه للعمل وأخلاصه فيه. وإن نظرت إلى العظماء في كل مهنة مهما صغرت، فستجد أن تاريخهم بدأ بقبولهم لقدر الله سبحانه وتعالى فيهم. ونحن نعلم أن قيمة كل امرىء فيما يحسنه؛ ولذلك تجد الأمة مكونة من مواهب متكاملة لا متكررة، حتى يحتاج كل إنسان إلى عمل غيره. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6339 لأن أحداً لا يسخَّر الآخر لعمل إلا إذا كان المسخَّر في حاجة إلى هذا العمل. ولذلك تجد من يطرق بابك ويسأل: ألا تحتاج إلى سائق؟ ألا تحتاج إلى خادم؟ وصاحب الحاجة هو الذي يعرض نفسه؛ لعله يجد العمل الذي يتقنه. ولذلك يجب ألا يتصور أهل أي إنسان أنه حين يخدم في أي حرفة من الحرف أنه يخدم المخدوم، لا. . إنه يخدم حاجة نفسه. وهكذا تترابط الأمة ارتباط حاجات، لا ارتباط تفضل. وقد قال الحق سبحانه وتعالى عن سيدنا إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] . لأن هناك مواهب متعددة قد اجتمعت فيه، وهي مواهب لا تجتمع إلا في أمة من الناس. وكلمة «أمة» تطلق على الزمن، وتطلق على الجماعة من كل جنس، وتطلق على الرجل الجامع لكل خصال الخير. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] . وعادة ما تأتي كلمة {مَّعْدُودَةٍ} لتفيد القلة؛ مثل قول الحق سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6340 {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20] . وما دام الثمن بَخْساً فلا بد أن تكون الدراهم معدودة. والسبب في فهمنا لكلمة {مَّعْدُودَةٍ} أنها تفيد القلة، هو أننا لا نُقبل على عَدِّ شيء إلا مظنة أننا قادرون على عَدِّه؛ لأنه قليل، لكن مالا نُقبل على عدِّه فهو الكثير. ومثال ذلك: أن أحداً لم يعد الرمل، أو النجوم. ولذلك جاء قول الحق سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] . و «إن» كما نعلم تأتي للشك، ونعم الله سبحانه ليست مظنة الحصر. ورغم أن البشرية قد تقدمت في علوم الإحصاء فهل تفرَّغ أحد ليُحصي نعم الله؟ طبعاً لا. . وبطبيعة الحال يمكن إحصاء السكان والعاملين في أي مجال أو تخصص. وقديماً كان القائمون على فتح صناديق النذور ليحسبوا ما فيها، فيضعوا الورق من فئة المائة جنيه معاً، والورق من فئة العشرة جنيهات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6341 معاً، وكذلك بقية الفئات من الأوراق المالية، إلى أن يصلوا إلى القروش، فيقوموا بوزن كليو جرام منها، ويحسبوا كم قرشاً في الكيلو جرام، ويزنوا بعد ذلك بقية القروش؛ ليحسبوا المجموع على حساب عدد القروش التي حصروها في الكليو جرام الأول. وقول الحق سبحانه هنا: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] . كأنهم يتساءلون سخرية واستهزاء: لماذا يتأخر العذاب الذي توعَّدهم به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الإنسان لا يتشوق إلى ما يؤلمه، ولا يقال مثل هذا الكلام إلا على سبيل التهكم. ويأتي الرد عليهم بأداة التنبيه، وهي «ألا» أي: تَنبَّهوا إلى هذا الرد. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] . وهذا تأكيد أن العذاب سيأتي، ولكن العباد دائماً يعجلون. والله سبحانه لا يعجل بعجلة العباد؛ حتى تبلغ الأمور ما أراد، وكل أمر له وقت وله ميلاد، وسيأتيهم ما كانوا يستعجلون؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [هود: 8] . وقد جاء تأكيد وصول العذاب إليهم بأشياء: أولها: «ألا» وهي أداة تنبيه، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} ، وهذا خبر بأن العذاب آت لا محالة؛ لأن الذي يخبر به هو الله سبحانه وتعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6342 وأيضاً فهذا العذاب: {لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] . أي: أنه عذاب مستمر. وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [هود: 8] . يعني: أنه حل بهم ونزل عليهم، ووقع لهم العذاب الذي استهزأوا به من قبل. ونحن نعلم أن كلمة (حاق) فعل ماضٍ، والكلام على أمر مستعجل، ويُعبَّر عن الأمر المستعجل بالمضارع؛ لأن الفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال، فكيف يستعجلون أمراً، ويأتي التعبير عنه بالفعل الماضي؟ ولكن القائل هنا هو الله الحق سبحانه وتعالى، والكلام مأخوذ بقانون المتكلم، وكل فعل يُنسَب إلى قوة فاعله، والله سبحانه هو قوة القوى. وقال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] . وكلمة «أتى» في عرفنا اللغوي فعل ماضٍ، أي: أن الكلام جاء من المتكلم بعد وقوع النسبة خارجاً، مثلما نقول: «نجح محمد» فهذا يعني أن النجاح قد حدث بالفعل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6343 وحين يقول الله سبحانه: {أتى أَمْرُ الله} نفهم أن {أتى أَمْرُ الله} نسبة كلامية سبقتها نسبة واقعية. وقوله سبحانه بعد ذلك: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} يدل على أن الأمر لم يقع، ولكن المتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى. والمعنى أن الأمر واقع لا محالة؛ ذلك لأن كل فعل إنما ينسب لقوة الفاعل. ومثال ذلك من حياتنا ولله المثل الأعلى أنك قد ترغب في أن تنقل حقيبة ضخمة وثقيلة، فيقول ابنك الشاب: دعني أحملها لك، وهو يقول ذلك لأنه قادر على أن يحملها في زمن يناسب قوته. وإن جاءك ابنك الصغير وقال: سأحملها أنا. فهو لن يحمل الحقيبة إلا في مقدار زمن يناسب قوته، وهي قوة ضعيفة. إذن: ففي المجال البشري أنت تحكم على الماضي، وقد يكون الحكم صادقاً أو كاذباً، ولكنك بالنسبة لأمر مستقبل، لا تستطيع أن حكم عليه؛ لأنك لا تملك من المستقبل شيئاً. أما إذا كان قائل الكلام قادراً على إنفاذ ما يقوله الآن في المستقبل، ولا عائق يعوقه، فاعلم أن الأمر قادم لا محالة. وهنا نجد الإخبار من الله سبحانه وتعالى، ولا شيء في الكون يتأبَّى على الله سبحانه. وما دام الحق سبحانه قد قال إنه أمرٌ قد أتى، فهو آتٍ لا محالة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6344 ولذلك قال سبحانه: {وَحَاقَ بِهِم} [هود: 8] . مع أن السياق في العرف البشري أن يقال: وسيحيق بهم ما كانوا به يستهزئون؛ لأنهم كانوا يستعجلون العذاب. وجاء قول الحق سبحانه وتعالى: {وَحَاقَ} لأن الأمر بالنسبة له سبحانه لن يحول بينه وبين وقوعه أي عائق. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6345 وهنا أيضاً تبدأ الآية الكريمة بقوله سبحانه: {وَلَئِنْ} وهذا يعني أن اللام قد سبقت لتدل على القسم، وكأنه يقول: لئن أذقنا الإنسان رحمة، ثم نزعناها منه لوقع في الياس. وهنا أيضاً قسم وشرط، والقسم متقدم، فالجواب يكون للقسم. وكلمة {أَذَقْنَا} توضح أن الإذاقة محلها الأول الفم، ومعناها: تناول الشيء لإدراك طعمه: حلو أو مر، لاذع أوغير لاذع، قلوي أو حامض. ومن العجيب في دقة التكوين الإنساني أن كل منطقة في اللسان لها طعم تنفعل له، فطرف اللسان ينفعل لطعم معين، ووسط اللسان ينفعل لطعم آخر، وجوانب اللسان تنفعل لطعم ثالث، وهكذا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6345 كل ذلك في عضو واحد شاء له الحق سبحانه هذه الدقة في التركيب. وكل «حلمة» من مكوِّنات اللسان لها شيء تحس به؛ ولذلك نجد الإنسان يذوق الطعام، فيقول: إن هذا الطعام ينقصه الملح، أو يذوب الحلوى مثل الكنافة فيقول: إن السكر المحلاة به مضبوط. وكذلك حرارة الجسم، يقيس الإنسان حرارته، فإن وجدها سبعة وثلاثين درجة ونصف الدرجة؛ فيقول: إنها حرارة طبيعية. وإن نقصت حرارة الإنسان عن ذلك يقال: إنه مصاب بالهبوط. وإن ارتفعت يقال: مصاب بالحمى. وهذا قياس للحرارة بالجملة لجسم الإنسان، ولها المنافذ الخاصة بها. ولكن كل عضو في الجسم تلزمه درجة حرارة خاصة به ليؤدي عمله. فالكبد إن قلَّت درجة حرارته عن أربعين درجة لا يؤدي مهمته. وجسم الإنسان فيه جوارح متعددة؛ وحرارة العين مثلاً تسع درجات؛ لأنها لو زادت حرارتها عن ذلك لانفجرت العين، وحرارة الأذن ثماني درجات. وأنت لا تستطيع أن تأتي بأشياء مختلفة الحرارة وتضعها مع بعضها، ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء ذلك بالنسبة للجسم الإنساني. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان} [هود: 9] . والذوق هو للإدراك، لا للأكل، فأنت حين تشتري فاكهة يقول لك البائع: «تفضَّل ذُقْ» فتأخذ واحدة منها لتستطيب طعمها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6346 فالذوق إذن هو تناول الشيء لإدراك طعمه. والنعمة حين يشاء الحق سبحانه وتعالى أن تصيب الإنسان، ثم تُنزَع منه، هنا يصاب الإنسان بالقلق أو الحزن أو الهلع، أو اليأس. والنعمة مهما قلَّت فالإنسان يستطيبها، وإن نُزعت منه فهو يئوس كفور. واليأس: هو قطع الأمل من حدوث شيء، ولأن الإنسان لا يملك الفعل، ولو كان يقدر عليه لما يئس. والمؤمن لا ييأس أبداً؛ لأن الله سبحانه هو القائل: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87] . اليأس إذن هو أن تقطع الأمل من أمر مراد لك، ولا تملك الوسائل لتحققه. والذي ييأس هو الذي ليس له إله يركن إليه؛ لأن الله تعالى هو الركن الرشيد الشديد، والمؤمن إن فقد شيئاً يقول: «إن الله سيُعوِّضني خيراً منه» . أما الذي لا إيمان له بإله فهو يقول: «إن هذه الصدفة قد لا تتكرر مرة أخرى» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6347 فالإنسان الذي يُسْرَق منه جنيه قد يحزن، ولكن إذا ما كان عنده في المنزل عشرة جنيهات فهو يحزن قليلاً على الجنيه المفقود. والإنسان لا ييأس إلا عند عدم يقينه بمصدر يرد عليه ما يريده، ولكن حين يؤمن بمصدر يرد عليه ما يريده فلا تجده يائساً قانطاً. والمؤمن يعلم أن النعمة لها واهب، إن جاءت شكر الله عليها، وإن سُلبت منه، فهو يعلم أن الحق سبحانه قد سلبها لحكمة. والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} [هود: 9] . ونحن نعلم أن الإنسان مقصود به كل أبناء آدم عليه السلام وهم كثيرون، منهم المؤمن، ومنهم الكافر. وهنا تأتي كلمة «الإنسان» على إطلاقها، ولكن الحق سبحانه وتعالى يستثنى المؤمن في موضع آخر حين يقول الحق سبحانه: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 13] . و «الإنسان» مفرد يدل على الإنسان في كل مدلولاته، ويستثنى من نوع الإنسان من آمن به. فإن رأيت كلمة إنسان فاعلم أن المراد بالإنسان أفراد الإنسان كلهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6348 والإنسان لو عزل نفسه عن منهج الله تعالى فهو في خسران إلا إذا اتبع منهج الله، فالمنهج يحميه من الزلل، وتسير غرائزه إلى ما أراد الحق سبحانه لها. فقد خلق الحق سبحانه الغرائز لمهام أساسية، فغريزة الجوع تجعل الإنسان يطلب الطعام، والعطش أراده الله سبحانه وتعالى لينتبه الإنسان إلى طلب الارتواء بالماء. وغريزة بقاء النوع تدفع الإنسان للزواج، وغريزة حب الاستطلاع هي التي تدفع الإنسان إلى كشف المخترعات. والحق سبحانه وتعالى هو القائل عن الساهين عن استكشاف آيات الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] . والباحث العلمي التجريبي المعلمي ينظر في ظواهر الكون ليستطلع أسرار الكون. وهناك فارق بين حب الاستطلاع لاكتشاف أسرار الكون، وحب الاستطلاع لأخبار الناس. إن حب الاستطلاع عموماً هو مدار التقاءات الكون، ولكن الدين والخلق هو الذي يوجه حب الاستطلاع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6349 إذن: فالقرائن لها مهمة يجب ألاّ تنفلت إلى غيرها، والدين قد جاء ليعلي من الغرائز ويوجهها إلى مهامها. لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} [الحجرات: 12] . أي: لا تتبعوا العورات؛ لأننا لو أبحنا لواحد أن يتتبع عورات الناس؛ لأبحنا لكل الآخرين أن يتتبعوا عوراته. وحين منع الحق سبحانه وتعالى الإنسان من تتبُّع عورات غيره، فهو قد حماه من تتبع عوراته. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} [هود: 9] . وكلمة «النزع» تفيد أن الإنسان حريص على ما وهبه له الله تعالى من خير وصحة وعافية ويُسْر. وحين تؤخذ منه النعمة فهو يقاوم. والنزع يعني: استمساك المنزوع منه بالشيء المنزوع. ولذلك يقول الحق سبحانه في سورة آل عمران: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} [آل عمران: 26] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6350 كأن الموجود في الملك يتشبث به جداً. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9] . وفي نفس السورة يأتي الاستثناء، فيقول الحق سبحانه: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11] . وسنأتي لها بالخواطر من بعد ذلك. ويقول الحق سبحانه وتعالى في المقابل لمن نُزِعَتْ منه الرحمة واليئوس الكفور: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6351 وهنا نجد الضراء هي الموجودة، والنعماء هي التي تطرأ، عكس الحالة الأولى، حيث كانت الرحمة، من خير ويسر هي الموجودة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6351 فالنزع في الأولى طرأ على رحمة موجودة، والنعماء طرأت على ضرَّاء موجودة. وهناك فرق بين نعماء ونعمة، وضراء وضر؛ فالضر هو الشيء الذي يؤلم النفس، والنعمة هي الشيء الذي تتنعم به النفس. لكن التنعُّم والألم قد يكونان في النفس، ولا ينضح أي منهما على الإنسان، فإن نضح على الإنسان أثر النعمة يقال فيها «نعماء» ، وإن نضح عليه أثر من الضر يقال: «ضراء» . وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني} [هود: 10] . ولا يفطن من يقول ذلك إلى المُذْهِب الذي أذهبَ السيئات؛ لأن السيئة لا تذهب وحدها. ولو كان القائل مؤمناً لقال: رفع الله عني السيئات. لكنه غير مؤمن؛ ولذلك يغرق في فرح كاذب وفخر لا أساس له. ويصفه الحق سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10] . وكأن الفرح بالنعمة أذهله عن المنعم، وعمن نزع منه السيئة. وأما الفخر، فنحن نعلم أن الفخر هو الاعتداد بالمناقب، وقد تجد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6352 إنساناً يتفاخر على إنسان آخر بأن يذكر له مناقب وأمجاداً لا يملكها الآخر. ونحن نعلم أن التميز لفرد ما يوجد في المجتمع، ولكن أدب الإيمان يفرض ألا يفخر الإنسان بالتميز. ولذلك نجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» . وفي أحدى المعارك نجده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» . وقد اضطر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول ذلك؛ لأن الكافرين في تلك المعركة ظنوا أنهم حاصروه هو ومن معه وأنه سوف يهرب، لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشجاعته أعلن: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» وكان أقرب المسلمين إلى مكان الأعداء الكافرين وفي مواجهتهم. ونحن نجد المتصارعين أو المتنافسين، واحدهم يدخل على الآخر بصوت ضخم ليهز ثقة الطرف الآخر بنفسه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6353 والفخور إنسان غائب بحجاب الغفلة عن واهب المناقب التي يتفاخر بها، ولو كان مستحضراً لجلال الواهب لتضاءل أمامه، ولو اتجهت بصيرة المتكبر والفخور إلى الحق سبحانه وتعالى لتضاءل أمامه، ولردَّ كل شيء إلى الواهب. ومثال ذلك في القرآن الكريم هو قول الحق سبحانه على لسان صاحب موسى عليهما السلام: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] . وهذا سلوك العابد المتواضع. أما حال الفخورين اللاهين عن الحق سبحانه وتعالى، فقد صوره القرآن في قول قارون: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} [القصص: 78] . وكان مصيره هو القول الحق: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81] . ولذلك قلنا: إنك تحصِّن كل نعمة عندك بقولك عند رؤيتها: «بسم الله ما شاء الله» ؛ لتتذكر أن هذه النعمة لم تأت بجهدك فقط، ولكنها جاءت لك أولاً بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وذلك لتبقي عين الواهب حارسة للنعمة التي عندك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6354 أما حين تنسى الواهب فلن يحفظ تلك النعمة لك. ونحن نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع الفرح المنبعث عن انشراح الصدر والسرور بنعمة الله بل طلبه منا في قوله سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] . ولكن الحق سبحانه يطلب من المؤمن أن لا يكون الفرح المنبعث لأتفه الأسباب، والملازم له، وإلا كان من الفرحين الذين ذمهم الله تعالى. يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6355 وكلمة {صَبَرُواْ} هنا موافقة للأمرين الذين سبقا في الآيتين السابقتين، فهناك نزع الرحمة، وكذلك هناك «نعماء» من بعد «ضرَّاء» ، وكلا الموقفين يحتاج للصبر؛ لأن كلاّ منا مقدور للأحداث التي تمر به، وعليه أن يصبر لملحظية حكمة القادر سبحانه. وبدأ الحق سبحانه وتعالى هذه الآية بالاستنثاء، فقال جل وعلا: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} [هود: 11] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6355 ولولا هذا الاستثناء لكان الكل كل البشر ينطبق عليهم الحكم الصادر في الآيتين السابقتين، حكم باليأس والكفر، أو الفرح والفخر دون تذكُّر واهب النعم سبحانه. ولكن هذا الاستثناء قد جاء ليُطمئن الذين صبروا على ما قد يصيبهم في أمر الدعوة، أو ما يصيبهم في ذواتهم؛ لا من الكافرين؛ لكن بتقدير العزيز العليم. أو أنهم صبروا عن عمل إخوانهم المؤمنين. إذن: فالصبر معناه حدُّ النفس بحيث ترضى عن أمر مكروه نزل بها. والأمر المكروه له مصادر عدة، منها: أمر لا غريم لك فيه كالمرض مثلاً. أو أن يكون لك غريم في الأمر؛ كأن يُسرق منك متاع، أو يُعتدى عليك، وفي هذه الحالة تنشغل برغبة الانتقام، وتتأج نفسك برغبة النيل من هذا الغريم، أكثر مما تتأجج في حالة عدم وجود الغريم، فحين يمرض الإنسان فلا غريم له. وفي حالة الرغبة من الانتقام فالصبر يختلف عن الصبر في حالة وجود الغريم. ولذلك عرض الحق سبحانه وتعالى لتأتِّي الصبر حسب هذه المراحل، فسيدنا لقمان يقول لابنه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6356 {واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] . وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] . وفي هذه الآية «لام» التوكيد لتؤكد أن هذا الأمر يحتاج إلى عزم قوي؛ لأن لي فيها غريماً يثير غضبي. فساعة أرى من ضربني أو أهانني أو سرقني أو أساء إليَّ إساءة بالغة، فالأمر هنا يحتاج صبراً وقوة وعزيمة. أما في الحالة الأولى حالة عدم وجود غريم فالحق سبحانه يكتفي فقط بالقول الكريم: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ} [لقمان: 17] . ولكنه سبحانه أضاف في الآية الأخرى «اللام» لتأكيد العزم، وليضيف سبحانه في حالة وجود غريم طلب الغفران، فيقول سبحانه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] . وهكذا نجد المستثنى، وهم الصابرون على ألوانهم المختلفة. وهنا يقول سبحانه: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [هود: 11] . وما دام هنا صبر، فالصبر لا يكون إلا على إيذاء. ولكن إياك أن يكون الإيذاء من خصمك في الإيمان، أو من خصمك في ما دون الإيمان، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6357 صارفاً لك عن نشاطك في طاعة الله سبحانه؛ لأن الصبر لا يعني أن تكبت غضبك وتعذب نفسك بهذا الكبت بما يصرفك عن مهامك في الحياة، بل يسمح لك الحق سبحانه أن تتخلص من غلِّك وحقدك، بمعايشة الإيمان الذي يُخفف من غَلْواء الغضب. ولكسر حدة الغل أباح لك الحق سبحانه وتعالى أن تعتدي على من اعتدى عليك بمثل ما اعتدى؛ لأن سبحانه وتعالى لا يريد لك أن تظل في حالة غليان بالغضب أو القهر بما يمنعك من العمل، بل يريد الحق سبحانه أن تتوجه بطاقاتك إلى أداء عملك. ولذلك لا يلزمك الحق سبحانه إلا بحكم العدل فيقول عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . ولكن هناك القادر على التحكم في نفسه، ولذلك يقول الحق سبحانه: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134] . ومعنى كظم الغيظ: أن الغيظ موجود، لكن صاحبه لا يتحرك بنزوع انتقامي، مثلما تقول: «كظمت القِرْبة» لأن حامل القربة لو لم يكظم الماء فيها، لتفلَّت الماء منها، أي: أنه يحبس الماء فيها. وكظم الغيظ درجة ومنزلة، قد لا تكون إيجابية؛ لأن الغيظ مازال موجوداً؛ ولذلك تأتي مرحلة أرقى، وتتمثل في قول الحق سبحانه: {والعافين عَنِ الناس} [آل عمران: 134] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6358 أي: أن تُخرج الغيظ من قلبك وتتسامح. إذن: فأنت هنا أمام مراحل ثلاث: أن تردَّ الاعتداء عليك بمثله، والمثليَّة في رد الاعتداء أمر لا يمكن أن يتحقق، فمن صفعك صفعة، كيف تستطيع أن تضبط كمية الألم في الصفعة التي ردها إليه؟ إن المتحكم في ردِّ الاعتداء هو الغضب، والغضب لا يقيس الاعتداء بمثله، فلا يتحقق العدل المطلوب؛ لهذا يكون الصبر خيراً مصداقاً لقوله تعالى: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] . فإن أزدتَ من قوة صفعتك تكون معتدياً. ولعلنا نذكر مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير، وبطلها هذا التاجر اليهودي الذي أقرض رجلاً مالاً، وكان صَكُّ القرض يفرض أن يقتطع اليهودي رطلاً من لحم المقترض إن تأخر في السداد. وتأخَّر المقترض في السداد، وأراد المرابي اليهودي أن يقتطع رطلاً من لحم المقترض، وعُرِض الأمر على القاضي، وكان القاضي رجلاً حكيماً، وأراد أن يصدر حكماً يتلمس فيه العدالة، فقال القاضي: لا مانع أن تأخذ رطلاً من لحم الرجل؛ هات السكين، واقطع رطلاً واحداً بلا زيادة أو نقصان؛ لأننا سنأخذ مقابل تلك الزيادة من لحمك أنت بنفس السكين، وكذلك إن قطعت من اللحم ما يقل عن الرطل، فسنقطع الناقص لك من لحمك أنت عقاباً لك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6359 وتردَّد المرابي اليهودي؛ لأن الجزار أيَّ جزار لا يمكن أن يضبط يده ليقطع رطلاً مكتمل الوزن، بل يقطع أحياناً ما يزيد عن الوزن المطلوب، ويقطع أحياناً ما يقل عن الوزن المطلوب، ثم يكمل أو ينقص الوزن حسب كل حالة. وانسحب المرابي اليهودي وتنازل عن دعواه، والذي دفعه إلى ذلك هو عدم قدرته على أخذ المثل، فلو كان قد ارتقى قليلاً في مشاعره لما وصل إلى هذا الحكم. والحق سبحانه وتعالى يحضنا على أن نرد العدوان بمثله، وإن أردنا الارتقاء فلنكظم الغيظ، وإن أردنا الارتقاء أكثر فلنخرج الغيظ من القلب ولنكن من العافين عن الناس؛ لننال محبة الله تعالى، لأنه سبحانه وتعالى يقول: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] . وفي هذا يرتقي المؤمن بمنهج الله سبحانه، فيجعل المعتدَي عليه هو الذي يُحسن. وحين تريد أن تفسر حب الله سبحانه للمحسنين فلسفيّاً أو منطقياً أو اقتصادياً، ستجد القضية صحيحة، والله سبحانه وتعالى يقول: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6360 {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22] . فإن أساء أخوك إليك سيئة، فإما أن ترد بالمثل، أو تكظم الغيظ أو ترقى إلى العفو، وبذلك تكون من المحسنين؛ لأنك إذا كنت قد ارتكبت سيئة، وعلمت أن الله سبحانه وتعالى يغفرها لك، ألا تشعر بالسرور؟ إذن: فما دُمْت تريد أن يغفر الله تعالى لك السيئة عنده، فلماذا لا تعفو عن سيئة أخيك في حقك؟ وقول الحق سبحانه: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22] . وقد جاء الحق سبحانه هنا من ناحية النفس، فجعل عفو العبد عن سيئة العبد بحسنة، فلعفو العبد ثمن عند الله تعالى؛ لأن العبد سيأخذ مغفرة الله تعالى، وفوق ذلك فأنت تترك عقاب المسيء والانتقام منه لربك، وعند التسليم له راحة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6361 ولو اقتصصتَ أنت ممن أساء إليك، فقصاصك على قدر قوتك، أما إن تركته إلى قدرة الله تعالى، فهذا أصعب وأشق؛ لأنك تركته إلى قوة القوي. وهكذا ينال العافي عن المسيء مرتبة راقية؛ لأنه جعل الله سبحانه وتعالى في جانبه. وهناك من يقول: كيف يأمر الدين الناس بأن يحسنوا لمن أساء إليهم؟ ويعلل ذلك بأنه أمر ضد النفس. ونقول: إن الإحسان إلى المسيء هو مرحلة ارتقاء، وليست تكليفاً أصيلاً؛ لأن الحق سبحانه قد أباح أن نرد العدوان بمثله، ثم حثَّ المؤمن على أن يكظم غيظه، أو يرتقي إلى العفو وأن يصل إلى الإحسان، وكل هذه ارتقاءات اليقين بالله سبحانه وتعالى. وانظر إلى نفسك ولله المثل الأعلى ومنزَّه سبحانه عن كل مَثلٍ إنْ أردت أن تطبق الأمر على ذاتك حين تجد ولداً من أولادك قد اعتدى على أخيه، فقلبك وعواطفك وتلطفاتك تكون مع المعتدَى عليه. ومن يقول: كيف يكلّفني الشرع بأن أحسن إلى من أساء إليَّ؟ نقول له: تذكَّرْ قول الحسن البصري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أفلا أحْسِنُ لمن جعل الله في جانبي» . ولو طبَّق العالم هذه القاعدة بيقينٍ وإخلاصٍ لصارت الحياة على الأرض جنة معجَّلة، التسامح، قوامها القرب، ومنهجها الحب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6362 وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11] . وإن تسأل أحد: ولماذا ينالون المغفرة؟ نقول: لأنهم صبروا وغفروا؛ لذلك يهديهم الله تعالى مغفرة من عنده، لأنه صبر على الإساءة، وغفر لمن أساء، فلا بد أن يُثيبه الله تعالى، لا بالمغفرة فقط، ولكن بالأجر الكبير أيضاً. ويقول سبحانه بعد ذلك: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6363 وهنا نجد الحق سبحانه يأتي بصيغة الاستفهام في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} [هود: 12] . وهو استفهام في معرض النهي. ولله المثل الأعلى أنت قد تقول لابنك لتحثَّه على الاجتهاد: «لعلَّك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6363 سُررت من فشل فلان» وفَحْوَى هذا الخطاب، استفهام في معرض النهي، وهو استفهام يحمل الرجاء. وهنا تجد أن الراجي هو ربك سبحانه وتعالى الذي أرسلك بالدعوة. ولذلك يأتي قول الحق سبحانه مُبيِّناً: لا يضيق صدرك يا رسول الله من هؤلاء المتعنتين، الذين يريدون أن يخرجوك عن مقامك الذي تلحُّ دائماً في التأكيد عليه، فأنت تؤكد لهم دائماً أنك بشرٌ، وكان المفروض فيهم أن تكون مطلوباتهم منك على مقدار ما أقررت على نفسك، فأنت لم تَقُلْ أبداً عن نفسك إنك إله، ليطلبوا منك آيات تُخالف النواميس، بل أنت مُبلِّغ عن الله تعالى. وإياك أن يضيق صدرك فلا تُبلغهم شيئاً مما أنزِلَ إليك؛ لأن البلاغَ هو الحُجَّة عليهم، فلو ضاق صدرُك منهم، وانقصتَ البلاغ الموكَّل إليك؛ لأنهم كلما أبلغوا بآية كذَّبوها، فاعلمْ أن الله سبحانه وتعالى سوف يزيد عقابهم بقدر ما كذَّبوا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6364 وكلمة «ضائق» اسم فاعل، ويعني أن الموصوف به لن يظل محتفظاً بهذه الصفة لتكون لازمة له، ولكنها تعبِّر عن مرحلة من المراحل، مثلما نقول: «فلان نَاجِر» أي: أنه قادر على القيام بأعمال النجارة مرَّة واحدة أو قليلاً ولا يحترف هذا العمل. وكذلك كلمة «ضائق» وهي تعبِّر في مرحلة لا أكثر مِنْ فَرْط ما قابلوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من إنكار، وما طالبوا به من أشياء تخرج عن نطاق إنسانيته، فقد طالبوا هنا أن ينزل عليه كَنْزٌ. وقد جاء الحق سبحانه بذكر مسألة الكنز؛ ليدلنا على مدى ما عندهم من قيم الحياة، فقيمة القيم عندهم تركزَّتْ في المال؛ ولذلك تمنَّوا لو أن هذا القرآن قد نزل على واحد من الأثرياء، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . إذن: فلم يكن اعتراضهم على القرآن، بل على مَنْ نزل عليه القرآن. وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها، طلبوا أن ينزل إليه كَنْزٌ، وقد ظنوا أن الثراء سيلهيه هو ومَنْ معه عن الدعوة إلى الله تعالى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6365 ونسوا أنهم قد عرضوا الثروة عليه من قبل. وهكذا وضح لمن عرض عليه هذا الأمر أن مسألة الكنز لا تشغله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والكَنْزُ لغويّاً هو الشيء المجتمع، فإن كانت الماشية مثلاً مليئة باللحم يقال لها: «مُكْتَنِزَةٌ لحماً» ولكن كلمة «الكنز» أطلقت على الشيء الذي هو ثمن لأي شيءٍ، وهو الذهب. ولذلك قال الحق سبحانه: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6366 ونحن نعلم أن هناك فارقاً بين الرزق المباشر والرزق غير المباشر، فالرزق الغير مباشر هو ما تنتفع به، طعاماً أو شراباً، وهناك شيء يأتي لك بالرزق الغير مباشر؛ لكنه لا يُغني عن الرزق المباشر المستمر. فلو أن إنساناً في صحراء ومعه قناطير مقنطرة من الذهب، ولا يجد طعاماً ولا شربة ماء، ماذا يفعل له الذهب «ولو عرض عليه إنسانٌ آخر رغيف خبز وشربة ماء مقابل كل ما يملك من ذهب لوافق على الفور. وهنا لا يكون التقييم أن قنطار الذهب مقابل الرغيف وشربة الماء، ولكن قنطار الذهب هنا مقابل استمرار الحياة وضرورة الحاجة. إذن: معنى كلمة» كنز «هو نقد من الذهب والفضة مجتمعاً، ويقال عنه بالعامية عندنا في مصر:» نقود تحت البلاطة «، ولكن إذا أدَّى صاحب هذا النقد حقَّ الله تعالى فيما ادَّخره، لا يُعتبر كَنْزاً؛ لأن الشرط في الكَنْزِ أن يكون مَخفيّاً، والزكاة التي تُخرَج من المال المدَّخر توضح للمجتمع أن صاحب المال لا يُخفى ما عنده. ولذلك لا يُسمَّى الكَنْزُ إلاَّ للشيء المجتمع وممنوع منه حق الله تعالى، فإنْ أدَّى حقُّ الله سبحانه فقد رُفعَتْ عنه الكَنزية؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6367 ومن هذا القول الكريم نفهم أن مَنْ يملك مالاً ويؤدِّي حقَّ الله فيه، لا يُعتبر كَنْزاً، وحين تُنقِص الزكاةُ المالَ في ظاهر الأمر، فهي تدفع الإنسان إلى أن يُحْسِن استثمار هذا المال؛ حتى لا يفقده على مدار أربعين عاماً، بحكم أن زكاة المال هي اثنان ونصف في المائة؛ ولذلك يحاول صاحب المال أن يُثمِّره، وهو بذلك يُهيِّىء فرصة لغير واجدٍ وقادرٍ لأن يعمل، وبذلك تقلُّ البطالة. وقد تكون أنت صاحب المال؛ لكنك لا تفهم أسرار التجارة والصناعة، فتشارك مَنْ يفهم في التجارة أو الصناعة، وبذلك تفتح أبواب فرص عمل لمن لا عمل له وقادر على إدارة العمل. هذه هي إرادة الحق سبحانه وتعالى في أن يجعل من تكامل المواهب نماءً وزيادة، تكامل مواهب الوَجْد النقود ومواهب الجَهْد، وبين الوجد والجهد تنشأ الحركة، ويتفق صاحب المال مع صاحب الجهد على نسب الربح حسب العرض والطلب؛ لأن كل تبادل إنما يخضع لهذا الأمر العرض والطلب لأن مثل هذا التعاون بين الواجد والقادر ينتج سلعة، والسلعة لا هَوًى لها، ولكن من يملك السلعة ومن يشتري السلعة لهما هوى، فمالكُ السلعة يرغب في البيع بأعلى سعر، ومن يرغب في شراء السلعة يريدها بأقل سعر، لكن السلعة نفسها لا هوى لها. وما دام العرض والطلب هو الذي يتحكَّم في السلع، فهذا توازن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6368 في ميزان الاقتصاد. وعلى سبيل المثال: إن عُرضت اللحوم بسعر مرتفع، فكبرياء الذات في النفس البشرية تدفع غير القادر لأن يقول: إن تناول اللحم يرهقني صحيّاً. ويتجه إلى الأطعمة الأخرى التي يقدر على ثمنها؛ لأن السلعة هي التي تتحكم، أما إذا تدخل أحدٌ في تسعير السلع، بأن اكتنز المال، ولم يخرجه للسوق لاستثماره، حينئذ تختفي قدرة الحركة لصاحب المال، ولا يجد صاحب الموهبة مجالاً لإتقان صنعته. وقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12] . فكلمة «لولا» كما نعلم للتمني، وهم تمنوا الكنز أولاً، ثم طلبوا مجيء مَلَك، وكيف ينزل المَلَك؟ أينزل على خِلقته أم على خِلْقته بأن يتجسد على هيئة رجل؟ والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام: 9] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6369 وإن نزل المَلَك على هيئة رجل فكيف يتعرَّفون إلى أصله كمَلَك؟ وهذا غباء في الطلب. وأيضاً قال الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 9495] . ولو أنزله الحق سبحانه مَلَكاً فسوف يكون من نفس طبيعتهم البشرية، وسوف يلتقي بهم ويتكلم معهم، ولن يستطيعوا تمييزه عن بقية الناس وسوف يُكذِّبونه أيضاً. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه رَدًّا له عن هذا الطلب: {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ} [هود: 12] . وهذا الكلام موجَّه من الله سبحانه للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليُلقِّنه الحجة التي يرد بها عليهم، وقد قال لهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن نفسه إنه نذير وبشير، وقد طلب غيركم الآيات، وحين جاءت الآيات التي طلبوها لم يؤمنوا، بل ظلُّوا على تكذيبهم؛ فنكَّل الحق سبحانه بهم. إذن: فالعناد بالكفر لا ينقلب إلى إيمان بمجرد نزول الآيات، والحق سبحانه هو القائل: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإسراء: 59] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6370 أي: أن الآيات التي طلبها الكافرون لم يأت بها الله سبحانه؛ لأن الأولين قد كذَّبوا بها؛ ولذلك يبلغ الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هنا بقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ} [هود: 12] . وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد نزل عليه القرآن بالنذارة والبشارة. ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12] . وأنت حين توكِّل إنساناً في البيع والشراء والهِبَة والنَّقل، وله حرية التصرف في كل ما خصك، وترقب سلوكه وتصرُّفه، فإنْ أعجبك ظللتَ على تمسكك بتوكيله عنك، وإن لم يعجبك تصرُّفه فأنت تُلْغي الوكالة، هذا في المجال البشري، أما وكالة الله سبحانه وتعالى على الخَلْق فهي باقية أبداً، وإن أبى الكافرون منهم. يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6371 وفي قول الحق سبحانه وتعالى هنا بيان لِلَوْنٍ آخر من مصادمة الكافرين لمنهج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والإيمان به، فقالوا: إن محمداً قد افترى القرآن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6371 والافتراء: هو الكذب المتعمَّد، ومعنى الكذب المتعمد أنه كلام يخالف واقعاً في الكون. فإذا كان الواقع نَفْياً وأنت قلت قضيةَ إثبات؛ تكون قد خالفت الواقع، كأن يُوجد في الكون شرٌّ ما ثم تقول أنت: لا يوجد شرٌّ في هذا المكان، وهكذا يكون الواقع إيجاباً والكلام نفْياً. وكذلك أن يكون في الواقع نَفْيٌّ وفي الكلام إيجابٌ، فهذا أيضاً كذبٌ؛ لأن الصدق هو أن تتوافق القضية الكلامية مع الواقع الكوني، فإن اختلفتْ مع الواقع الكوني صار الكلام كاذباً. والكذب نوعان: نوع متعمد، ونوع غير متعمد. والكذب خرق واقع واختلاق غير موجود. ويقال خرقت الشيء أي: أنك أتيت لواقع وبدَّلت فيه. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100] . ويقول أيضاً الحق سبحانه: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17] . أي: تأتون بشيء من عدم، وهو من عندكم فقط. ويقول الله سبحانه تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6372 {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] . وحين اتهموا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهتاناً بأنه افترى القرآن جاء الرد من القرآن الكريم بمنتهى البساطة، فأنتم معشر العرب أهل فصاحة وبلاغة، وقد جاء القرآن الكريم من جنس ونوع نُبوغكم، وما دمتم قد قُلْتم: إن محمداً قد افترى القرآن، وأن آيات القرآن ليست من عند الله، فلماذا لا تفترون مثله؟ وما دام الافتراء أمراً سهلاً بالنسبة لكم، فلماذا لا تأتون بمثل القرآن ولو بعشْر سور منه؟ وأنتم قد عِشْتم مع محمد منذ صِغَره، ولم يكن له شعْر، ولا نثر، ولا خطابة، ولا علاقة له برياضاتكم اللغوية، ولم يزاول الشعر أو الخطابة، ولم يشترك في أسواق البلاغة والشعر التي كانت تُعقد في الجاهلية مثل سوق عكاظ. وإذا كان مَنْ لا رياضة له على الكلام ولا على البلاغة، قد جاء بهذا القرآن؛ فَلْيكُنْ لديكم وأنتم أهل قُدْرة ودُرْبة ورياضة على البلاغة أن تأتوا ببعض من مثله، وإن كان قد افترى القرآن فلماذا لا تفترون مثله؟ وأنتم تعرفون المعارضات التي تُقام في أسواق البلاغة عندكم، حين يقول شاعر قصيدة، فيدخل معه شاعر أخر في مباراة ليلقي قصيدة أفضل من قصيدة الشاعر الأول، ثم تُعقد لجان تحكيم تُبَيِّن مظاهر الحُسْن ومظاهر السوء في أي قصيدة. ولو كان محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد افترى القرآن كما تقولون فأين أنتم؟ ألم تعرفوه منذ طفولته؟ ولذلك يأمر الحق سبحانه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6373 {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] . فهَل أثرَ عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال شعراً أو ألقى خطبة أو تَبارَى في عكاظَ أو المربد أو ذي المجاز أو المَجَنَّة، وتلك هي أسواق البلاغة ومهرجاناتها في تلك الأيام؟ هو لم يذهب إلى تلك الأماكن منافساً أو قائلاً. إذن: أفليسَ الذين تنافسوا هناك أقدر منه على الافتراء؟ ألم يكن امرؤ القيس شاعراً فَحْلاً؟ لقد كان، وكان له نظير يعارضه. وكذلك كان عمرو بن كلثوم، والحارث بن حِلَّزة اليشْكُري، كما جاء في عصور تالية آخرون مثل: جرير والفرزدق. إذن: فأنتم تعرفون مَنْ يقولون الشعر ومَنْ يعارضونهم من أمثالهم من الشعراء. إذن: فهاتوا مَنْ يفتري مثل سور القرآن، فإنْ لم تفتروا، فمعنى ذلك أن القرآن ليس افتراء. ولذلك يقول الحق سبحانه هنا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6374 {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] . فهل كانوا قادرين على قبول التحدي، بأنْ يأتُوا بعشر سُوَر من مثل القرآن الكريم في البيان الآسر وقوة الفصاحة وأسرار المعاني؟ لقد تحدَّاهم بأن يأتوا أولاً بمثل القرآن، فلم يستطيعوا، ثم تحدَّاهم بأن يأتوا بعشر سور، فلم يستطيعوا، وتحدَّاهم بأن يأتوا بسورة، ثم تحدَّى أن يأتوا ولو بحديث مثله، فلم يستطيعوا. وهنا جاء الحق سبحانه بالمرحلة الثانية من التحدي، وهو أنْ يأتوا بِعَشْر سُور، ولم يكتف الحق سبحانه بذلك، بل طالبهم أن يَدْعُوا مَجْمَعاً من البُلَغَاء، فقال سبحانه: {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله} [هود: 13] . أي: هاتوا كلَّ شركائكم وكل البُلغاء، من دون الله تعالى. الحق سبحانه وتعالى هنا يقطع عليهم فرصة الادّعاء عليه سبحانه حتى لا يقولوا: سوف ندعو الله؛ ولذلك طالبهم الحق سبحانه أن يُجنِّبوه {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13] . أي: إن كنتم صادقين في أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد افترى القرآن، وبما أنكم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6375 أهل ريادة في الفصاحة فَلْتفتروا عَشْر سُوَرٍ من مثل القرآن، أنتم ومَنْ تستطيعون دعوتهم من الشركاء. لذلك كان الرد الحكيم من الله في قول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6376 والخطاب هنا موجَّه إلى الذين ادَّعوا أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد افترى القرآن، أو أن الخطاب مُوجَّه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال في الآية السابقة: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} [هود: 1314] . أي: إن لم يردُّوا على التحدي، فليعلموا وليتيقَّنوا أن هذا القرآن هو من عند الله تعالى، بشهادة الخصوم منهم. ولماذا عدَّل الحق سبحانه هنا الخطاب، وقال: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} [هود: 14] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6376 أي: من تدعونهم، ثم قال سبحانه: {فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14] . وقد قال الحق سبحانه ذلك؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُطالَبٌ بالبلاغ وما بلغه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للمؤمنين مطلوب منه أن يُبلغوه، وإنْ لم يستجيبوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو للمؤمنين، ولم يأتِ أحد مع مَنْ يتهم القرآن بأنه مُفترًى مِن محمدٍ. وقد يكون هؤلاء الموهوبون خائفين من التحدي؛ لأنهم عرفوا أن القرآن حق، وإن جاءوا ليفتروا مثله فلن يستطيعوا، ولذلك فاعلموا يا مَنْ لا تؤمنون بالقرآن أن القرآن: {أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14] . إذن: فالخطاب يكون مرَّة موجَّهاً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولأمته. ولذلك عَدَلَ الحق سبحانه عن ضمير الإفراد إلى ضمير الجمع في قوله تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14] . أي: ازدادوا علماً أيها المؤمنون بأن القرآن إنما نزل من عند الله. والعِلْم كما نعلم مراحل ثلاث: علم يقين، وعين يقين، وحق يقين. أو أن الخطاب مُوجَّه للكافرين الذين طلب القرآن منهم أن يَدْعُوا من يستطيعون دعاءه ليعاونهم في معارضة القرآن: {فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14] . وأعلى مراتب العِلْم عند الحق سبحانه الذي يعلم كل العلم أزلاً، وهو غير علمنا نحن، الذَي يتغير حسب ما يتيح لنا الله سبحانه أن نعلم، فأنت قد تكون عالماً بشيءٍ وتجهل أشياء، أوعلمتَ شيئاً وغابتْ عنك أشياء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6377 ولذلك تجد الأطباء، وأصحاب الصناعات الدقيقة وغيرهم من الباحثين والعلماء يستدرك بعضهم البعض، فحين يذهب مريض لطبيب مثلاً ويصف له دواءً لا يستجيب له، فيذهب المريض إلى طبيب آخر، فيستدرك على الطبيب الأول، فيصف دواء، وقد لا يستجيب له المريض مرة ثانية، وهنا يجتمع الأطباء على هيئة «مجمع طبي» يُقرّر ما يصلح أو لا يصلح للمريض. ويستدرك كلٌّ منهم على الآخر إلى أن يصلوا إلى قرار، والذي يستدرك هو الأعلم؛ لأن الطبيب الأول كتب الدواء الذي أرهق المريض أو لم يَستجبْ له، وهو قد حكم بما عنده من عِلْم، كذلك بقية الباحثين والعلماء. وما دام فوق كل ذي علمٍ عليمٌ؛ فالطبيب الثاني يستدرك على الطبيب الأول. . وهكذا. ولكن أيوجد أحدٌ يستدرك على الله سبحانه وتعالى؟ لا يوجد. وما دام القرآن الكريم قد جاء بعلم الله تعالى، فلا علم لبشر يمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن. {فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} [هود: 14] . وجاء الحق سبحانه هنا بأنه لا إله إلا هو؛ حتى لا يدَّعي أحدٌ أن هناك إلهاً آخر غير الله. وذكر الله سبحانه هنا أن هذا القرآن قد نزل في دائرة: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} [هود: 14] . وما دام الحق سبحانه قد حكم بذلك فلنثق بهذا الحكم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6378 مثال ذلك: هو حكم الحق سبحانه على أبي لهب وعلى امرأته بأنهما سيدخلان النار فهل كان من الممكن أن يعلن أبو لهب إسلامه، ولو نفاقاً؟ طبعاً لا؛ لأن الذي خلقَه علم كيف يتصرف أبو لهب. لذلك نجد بعد سورة المسد التي قررت دخول أبي لهب النار، قول الحق سبحانه: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . أي: أن الحق سبحانه ما دام قد أصدر حكمه بأن أبا لهب سيدخل وزوجه النار، فلن يقدر أحد على أن يُغيِّر من حكمه سبحانه، فلا إله إلا هو. ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [هود: 14] . وهذا استفهام، أي: طلب للفهم، ولكن ليس كل استفهام طلباً للفهم، فهذا الاستفهام هنا صادر عن إرادة حقيقية قادرة على فرض الإسلام على من يستفهم منهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6379 ولكنه سبحانه شاء أن يأتي هذا الاستفهام على لسان رسوله ليقابله جواب، ولو لم يكن السائل واثقاً أنه لا يوجد إلا الإسلام لما قالها، ولو لم يكن السائل واثقاً أنه لا جواب إلا أن يُسْلِم السامع، ما جعل جواب السامع حجة على السامع. وقائل هذا الكلام هو الخالق سبحانه، ولله المثل الأعلى، وهو سبحانه مُنزَّه عن كل مثل، تجد إنساناً يحكي لك أمراً بتفاصيله، ثم يسألك: هل أنا صادق فيما قلت لك؟ . . وهو يأتي بهذا الاستفهام؛ لأنه واثق من أنك ستقول له: نعم، أنت صادق. وإذا نظرنا في آية تحريم الخمر والميسر على سبيل المثال نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6380 وكأن هذا الاستفهام يحمل صيغة الأمر بأن: انتهوا من الخمر والميسر، واخجلوا مما تفعلون. إذن: فقول الحق سبحانه في آخر الآية الكريمة: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [هود: 14] يعني: أسلموا، واتركوا اللجاجة بأن القرآن قد جاء من عند محمد، أو أنه افتراه، بل هو من عند الله سبحانه الذي لا إله إلا هو. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6381 وكان الكافرون قد تكلموا بما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم وقالوا: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} [هود: 12] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6381 فهم إذن مشغولون بنعيم الدنيا وزينتها. والحياة تتطلب المقومات الطبيعية للوجود، من ستر عورة، وأكل لقمة وبيت يقي الإنسان ويؤويه. أما الزينة فأمرها مختلف، فبدلاً من أن يرتدي الإنسان ما يستر العورة، يطلب لنفسه الصوف الناعم شتاء، والحرير الأملس صيفاً، وبدلاً من أن يطلب حجرة متواضعة تقيه من البرد أو الحر، يطلب لنفسه قصراً. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} [آل عمران: 14] . وكل هذه أشياء تدخل في متاع الحياة الدنيا، ويقول الحق سبحانه: {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} [آل عمران: 14] . إذن: ما معنى كلمة «زينة» ؟ معنى كلمة «زينة» أنها حُسْنٌ أو تحسين طارىء على الذات، وهناك فرق بين الحسن الذاتي والحسن الطارىء من الغير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6382 والمرأة على سبيل المثال حين تتزين فهي تلبس الثياب الجميلة الملفتة، وتتحلّى بالذهب البرَّاق، فهو المعدن الذي يأخذ نفاسته من كثرة تلألئه الذي يخطف الأبصار، ولا تفعل ذلك بمغالاة إلا التي تشك في جمالها. أما المرأة الجميلة بطبيعتها، فهي ترفض أن تتزين؛ ولذلك يسمونها في اللغة: «الغانية» ، أي: التي استغنت بجمالها الطبيعي عن الزينة، ولا تحتاج إلى مداراة كِبرَ أذنيها بقُرْط ضخم، ولا تحتاج إلى مداراة رقبتها بعقد ضخم، ولا تحاول أن تداري معصمها الريان بسوار، وترفض أن تُخفِي جمال أصابعها بالخواتم. وحين تُبالغ المرأة في ذلك التزيُّن فهي تعطي الانطباع المقابل. وقد يكون المثل الذي أضربه الآن بعيداً عن هذا المجال، لكنه يوضح كيف يعطي الشيء المبالَغ فيه المقابل له. وفي ذلك يقول المتنبي: الطِّيبُ أنت إذَا أصَابكَ طِيبهُ ... والماءُ أنتَ إذا اغتسلتَ الغاسلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6383 وهو هنا يقول: إن الطيب إذا ما أصاب ذلك الإنسان الموصوف، فالطيب هو الذي يتطيَّب، كما أن الماء هو الذي يُغْسَل إذا ما لمس هذا الإنسان، وكذلك تأبى المرأة الجميلة أن تُزيِّن نَحْرَها بقلادة؛ لأن نحرها بدون قلادة يكون أكثر جمالاً. ويقال عن مثل هذه المرأة «غانية» ؛ لأنها استغنتْ بجمالها. ويقال عن جمال نساء الحضر: إنه جمال مصنوع بمساحيق، وكأن تلك المساحيق مثبتة على الوجه بمعجون كمعجون دهانات الحوائط، وكأن كل واحدة تفعل ذلك قد جاءت بسكين من سكاكين المعجون لتملأ الشقوق المجعدة في وجهها. ولحظة أن يسيح هذا المعجون ترتبك، ويختل مشهد وجهها بخليط الألوان؛ ولذلك يقال: حُسْنُ الحضَارةِ مُجْلُوبٌ بِتَطْريةٍ ... وفي البدَاوةِ حُسْنٌ غيرُ مَجْلوبِ إذن: فالزينة هي تحسين الشيء بغيره، والشيء الحسن يستعني عن الزينة. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} [هود: 15] . أي: إن كفرتم بالله فهو سبحانه لا يضن عليكم في أن يعطيكم مقومات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6384 الحياة وزينتها؛ لأنه رب، وهو الذي خلقكم واستدعاكم إلى الوجود، وقد ألزم الحق سبحانه نفسه أن يعطيكم ما تريدون من مقومات الحياة وزينتها؛ لأنه سبحانه هو القادر على أن يوفِّي بما وعد. وهو سبحانه يقول هنا: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 15] . أي: أنهم إن أخذوا بالأسباب فالحق سبحانه يُلزم نفسه بإعطاء الشيء كاملاً غير منقوص. وهم في هذه الدار الدنيا لا يُبْخَسون في حقوقهم، فمن يتقن عمله يأخذ ثمرة عمله. وهذا القول الكريم يحُلُّ لنا إشكالاً كبيراً نعاني منه، فهناك مَنْ يقول: إن هؤلاء المسلمين الذين يقولون: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويبنون المساجد، بينما هُمْ قومٌ متخلّفون ومتأخّرون عن رَكْب الحضارة، بينما نجد الكافرين وهم يَرْفُلُون في نعيم الحَضَارة. ونقول: إن لله تعالى عطاءَ ربوبية للأسباب، فمن أحسنَ الأسباب حتى لو كان كافراً، فالأسباب تعطيه، ولكن ليس له في الآخرة من نصيب؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] . والحق سبحانه يجزي الكافر الذي يعطي خيراً للناس بخيرٍ في الدنيا، ويجزي الصادق الذي لا يكذب من الكفار بصدق الآخرين معه في الدنيا، ويجزي من يمدُّ يده بالمساعدة من الكفار بمساعدة له في الدنيا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6385 وكلها أعمال مطلوبة في الدِّين، ولكنَّ الكافر قد يفعلها، فيردُّ الله سبحانه وتعالى له ما فعل في الدنيا، وإنْ كان قد فعل ذلك ليُقَال: إن فلاناً عَمِلَ كذا، أو فلاناً كان شَهْماً في كذا، فيُقال له: «علْمتَ لِيُقال وقد قِيل» . وإذا كان الكافرون يأخذون بالأسباب؛ فالحق سبحانه يعطيهم ثمرة ما أخذوا من الأسباب. ويجب أن نقول لمن يتهم المسلمين بالتخلُّف: لقد كان المسلمون في أوائل عهدهم متقدمين، وكانوا سادة حين طبَّقوا دينهم، ظاهراً وباطناً، شكلاً ومضموناً. وعلى ذلك فالتخلُّف ليس لازماً ولا ملازماً للإسلام، وإنما جاء التخلُّف لأننا تركنا روح الإسلام وتطبيقه. وإنْ عقدنا مقارنة بين حال أوربا حينما كانت الكنيسة هي المسيطرة، كنا نجد طل صاحب نشاط عقلي مُبْدِعٍ ينال القتل عقوبة على الإبداع، وكانت تسمى تلك الأيام في أوربا «العصور المظلمة» . وحينما جاءت الحروب الصليبية وعرفت أوربا قوة الإسلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6386 والمسلمين، ودحرهم المسلمون، بدأوا في محاولة الخروج على سلطان البابا والكنيسة، وعندما فعلوا ذلك تَقَدَّموا. هم إذن عندما تركوا سلطان البابا تقدموا، ونحن حين تركنا العمل بتعاليم الإسلام تخلَّفنا. إذن: فأيُّ الجَرْعَتيْن خير؟ إن واقع الحياة قد أثبت تقدُّم المسلمين حين أخذوا بتعاليم الإسلام، وتخلفوا حين تركوها. وهكذا. . فمعيار التقدُّم هو الأخذْ بالأسباب، فمن أخذ بالأسباب وهو مؤمن نال حُسْن خير الدنيا وحُسْن ثواب الآخرة، ومَنْ لم يؤمن وأخذ بالأسباب نال خير الدنيا ولم يَنَلْ ثواب الآخرة. والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ} [النور: 39] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6387 وهكذا يُفاجأ بالإله الذي كذَّب به. والحق سبحانه يقول: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] . إذنْ: فمن أراد الدنيا وزينتها، فالحق الأعلى سبحانه يوفِّيه حسابه ولا يبخسه من حقه شيئاً، فحاتم الطائي على سبيل المثال أخذ صفة الكرم، وعنترة أخذ صفة الشجاعة، وكل إنسان أحسن عملاً أخذ أجره، ولكن عطاء الآخرة هو لمن عمل عمله لوجه الله تعالى، وآمن به. وحتى الذين دخلوا الإسلام نفاقاً وحاربوا مع المسلمين، أخذوا نصيبهم من الغنائم، ولكن ليس لهم في الآخرة من نصيب. إذن: فالوفاء يعني وجود عَقْد، وما دام هناك عقد بين العامل والعمل، وأتقن العاملُ العملَ فلا بد أن يأخذ أجره دون بَخْس؛ لأن البَخْسَ هو إنقاص الحق. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6388 إذن: فالنار مثوى هؤلاء الذين عملوا من أجل الدنيا دون إيمان بالله، فقد أخذوا حسابهم في الدنيا، أما عملهم فقد حبط في الآخرة، والحَبَط هو انتفاخ الماشية حين تأكل شيئاً أخضر لم ينضح بعد، ويقال في الريف عن ذلك: «انتفخت البهيمة» أي: أن هناك غازات في بطنها، وقد يظنها الجاهل سِمْنةً، لكن هذا الانتفاخ يزول بزوال سببه. وعمل الكافرين إنما يحبط في الآخرة؛ لأنه باطل. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6389 والبيِّنة هي بصيرة الفطرة السليمة التي تُلْفِت الإنسان إلى وجود وجب الوجود، وتوضِّح للإنسان أن هذا الكون الجميل البديع لا بُدَّ له من واجد. وهكذا تكون الهداية بالبصيرة والفطرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6389 والعربي القديم حين سار في الصحراء ووجود بَعْراً مُلْقَى في الصحراء، ورأى أثر قدم، فقال: «البَعْرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات امواج، أفلا يدل كُلُّ ذلك على اللطيف الخبير؟» . وهكذا اهتدى الرجل بالفطرة، وهي بيِّنة من الله. وقد أودع الله سبحانه في كل إنسان فطرة، وبهذه الفطرة شهدنا في عالم الذَّرِّ. وفي ذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} [الأعراف: 172] . إذن: فالبيِّنة هي: إيمان الفطرة المركوز في ذرات الأشياء. وقد تُضبِّب الشهوات هذا الإيمان، فلا يحمل نفسه على المنهج فيرسل الحق سبحانه رحمة منه رسلاً تذكِّرنا بالبينات الأولى، وتدلنا على العلل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6390 والأحكام حتى تنضمَّ البينة من الرسل على البينة من الفطرية في الكائن. وهكذا يبيِّن الحق سبحانه وتعالى مناط الاقتناع بدين الله، فقد يكون هذا الأمر مجهولاً للخلق، فيريد سبحانه أن يبيِّن لنا أن هذا الجهل هو جهل غير طبيعي؛ لأن الفطرة السليمة تهتدي قبل أن يجيء رسولٌ يُلْفِتنا إلى القوة العليا التي تدبِّر حركة هذا الكون. وقد ضربت من قبل مثلاً لذلك بمن سقطتْ به طائرة في الصحراء، لا ماء فيها ولا طعام ولا أنيس ولا مأوى، ثم غلبه النوم فنام، وحين استيقظ وجد مائدة منصوبة عليها أطايب الطعام وأطيب الشراب، ووجد صواناً منصوباً ليأوي إليه؛ فلا بد لهذا الإنسان أن يدور بفكره سؤالٌ: من صنع هذا؟ وهو سيسأل نفسه هذا السؤال قبل أن يستمتع بشيء من هذا، خصوصاً وأنه لم يجد أحداً يقول له: أنت في ضيافتي. إذنْ: فلا بد أن يفكر بعقله. وكذلك الإنسان الذي طرأ على الوجود، وما ادَّعى واحدٌ من خَلْق الله تعالى أنه خلق هذا الوجود، وما ادَّعى أحدٌ أنه خلق السموات والأرض، وما ادَّعى أحدٌ أنه سخَّر كلَّ ما في الكون لخدمة الإنسان. وكان من الواجب على الإنسان قبل أن ينعم بهذا، أن يفكر: من الذي صنع له كل ذلك؟ فإذا جاء رسول من جنس الإنسان ليقول له: أنا جئت لأحل لك اللغز المطلوب لك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6391 هنا كان على الإنسان أن يرهف سمعه لذلك الرسول؛ لأنه قد جاء ليحلَّ للإنسان أمراً يشغل باله. ومن لطف الله سبحانه بنا أنه يطلب منا مقدَّماً أن نفكر في ذلك، بل تركنا فترة طويلة بلا تكليف في هذه الدنيا، لينعم الإنسان بخير ربه، وبعد ذلك إذا ما جاء اكتمال الرشد ونضج، ولم يكن مكرهاً؛ فالحق سبحانه وتعالى يكلفه بتكاليف الإيمان. ولا بد للإنسان أن يتساءل: فكل شيء مهما كان تافهاً لا بد له من صانع، والمصباح الذي يضيء دائرة قطرها 20 متراً، عرفنا صانعه، ودرسنا المعامل التي أنجزته، والإمكانات التي تم استخدامها، والمواد التي صنع منها، أفلا نعرف تاريخ هذه الشمس، ومن جعلها لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى وقود ولا إلى قطع غيار، وتنير نصف الكرة الأرضية؟ هذه مسألة كان يجب أن نبحثها؛ لنرى آفاق تلك البينة، بينة نور وقوة وفطرة، يهبها الله للإنسان المفكر؛ ليهتدي إلى أن وراء هذه الكون خالقاً مدبراً. فإذا ما جاء إنسان مثله ليقول له: إن خالق الدنيا هو الله تعالى، وهو سبحانه يطلب منك كذا وكذا، كان أمراً منطقياً وطبيعياً أن نسمع لهذا الإنسان ونطابق ما يقول على إحساس الفطرة ورؤية البينات. إذن: فنحن نصل إلى المجهول أولاً بالفطرة، وقد نصل بالبديهة التي لا تشوبها أدنى شبهة، فأنت حين ترى دخاناً تعتقد بالبديهة أن هناك ناراً، وحين تسير في الصحراء وترى خضرة؛ ألا تعتقد أن هناك مياهاً ترويها؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6392 هذه إذن أمور تعرفها بالبديهة، ولا تحتاج إلى بحث أو جهد. وهناك أمور قد تتطلب منك جهداً عقلياً تبحث به عما بعد المقدمات، مثل الجهد العقلي الذي استدل به العربي على أن هناك إلهاً خالقاً يُدير هذا الكون، فاستدل من البعرة على وجود البعير، وأن أثر القدم يدل على المسير، واستنتج من ذلك أن الكواكب ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج، كلها أمور تدل على وجود اللطيف الخبير. كل هذه الأمور لم يقدر العقل إلا على الحكم عليها جملة، وإن لم يعرف التفصيل. لقد عرف العقل أن وراء هذا الكون خالقاً، صانعاً، حكيماً، لكنه لم يعرف اسماً له، وهذا أمر لا يعرفه الإنسان بالعقل، ولا يعرف أيضاً ما هو المنهج المطلوب لهذا الخالق، وبماذا يجزي المطيع له، ولا بماذا يعاقب العاصي له. إذن: لا بد من بلاغ عن الله تعالى يدل على القوة التي اقتنعت بها جملة. والمفكرون بالعقل في الكون يعلمون أن وراء هذا الكون خالقاً، لكن لا يعرفون اسمه، ولا مطلوبه. إذن: فأنت لا تعرف اسم الله إلا منه، عن طريق الوحي إلى رسوله، ولا تعرف مطلوب الله إلا من الرسول الذي أنزل عليه البلاغ. ومن رحمة الله بالإنسان أنه سبحانه قد أرسل رسولاً، ومع هذا الرسول معجزة هي القرآن؛ لأن العقل حتى حين يهتدي إلى قوة القادر الأعلى سبحانه، فإنها ستظل بالنسبة له مبهمة، وحين أنزل الحق سبحانه القرآن الكريم فقد أنزله رحمة بعباده وبينة لهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6393 {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17] . فالقرآن حجة ونور، وهو يهدي البصيرة الفطرية والموجودة في الإنسان {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17] هو من أنزل عليه الوحي، ويخبرنا عن الحق سبحانه وتعالى ما يوضح لنا أن الخالق الأعلى والقوة المطلقة هو الله سبحانه ويوضح لنا الشاهد مطلوب الله تعالى. ونحن هنا أمام ثلاثة شهود: الشاهد الأول: هو الحجة والبينة. والشاهد الثاني: هو البرهان والبصيرة التي يهتدي إليها العقل، والرسول هو من يبين لنا المنهج بعد الإجمال. وهذا الرسول جاء من قبله كتاب موسى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً} [هود: 17] . وهذا هو الشاهد الثالث. ومن لا يلتفت إلى المدلول بالأدلة الثلاثة مقصِّر؛ فمن عنده تلك البينة، ومن سمع الشاهد من الرسول، والشاهد الذي قبله، وهو كتاب موسى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6394 عليه السلام وشاهد بعده إلى نفس قوم موسى لا بد أن يقوده ذلك إلى الإيمان. وقول الحق سبحانه: {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ} [هود: 17] . إشارة إلى من التفتوا إلى الأدلة: بينة، وشاهداً، وشاهداً من قبله. ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} [هود: 17] . والكفر كما علمنا هو الستر، والكفر في ذاته دليل على الإيمان، فلا يفكر أحد بغير موجود. فوجود المكفور به سابق على الكفر، والكفر طارىء عليه. إذن: فالكفر طارىء على الإيمان؛ لأن الإيمان هو أصل الفطرة. {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} [هود: 17] . وكلمة «أحزاب» جمع حزب. والحزب هو الجماعة الملتقية على مبدأ تتحمس لتنفيذه، مثل الأحزاب التي نراها في الحياة السياسية، وهي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6395 أحزاب بشرية تتصارع في المناهج والغايات، وهم أحرار في ذلك؛ لأنهم يتصارعون بفكر البشر. أما في العقيدة الأولى، فَمنَ المُخطِّط الأعلى، وهو الحق سبحانه وتعالى، فالمنهج يأتي منه؛ لأن هذا المنهج يوصل إليه؛ لذلك قال الله سبحانه عمَّن يتبعون منهجه: {أولئك حِزْبُ الله} [المجادلة: 22] . أي: أنهم يدخلون في حزب يختلف عن أحزاب البشر التي تختلف أو تتفق في فكر البشر. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} [هود: 17] . والمقصود بهم كفار قريش عبدة الأوثان، والصابئة واليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكل منهم جماعة تمثل حزباً، ويقول عنهم الحق سبحانه: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] . ومن يكفر من هؤلاء برسالة رسول الله وبرسول الله فالجزاء هو النار، وبذلك بيَّن لنا الحق سبحانه أن هنالك حزبين: حزب الله، والأحزاب الأخرى، وهما فريقان كلّ منهما مواجه للآخر. ويقول الحق سبحانه لرسوله، والمراد أيضاً أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6396 {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} [هود: 17] . أي: لا تكن يا رسول الله في شك من ذلك؛ لأن رسالتك وبعثتك تقوم على أدلة البينة والفطرة والهدى والنور المطلوب من الله تعالى، والشاهد معك، كما شهد لك من جاء من قبلك أنك جئت بالمنهج الحق: {إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ} [هود: 17] . والحق كما علمنا من قبل هو الشيء الثابت الذي لا يعتريه تغيير، وهذا الحق لا يمكن أن يأتي إلا من إله لا تتغير أفعاله. ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} [هود: 17] . وهؤلاء لا يؤمنون عناداً؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج، ومَنْ يمتنع عليها هو مجرد معاند. والحق سبحانه يقول في مثل هؤلاء المعاندين: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] . أي: أنهم مع كفرهم يعلمون صدق الأدلة على رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعلى صدق بعثته، فيكون كفرهم حنيئذ كفر عناد؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج، فيكون من يمتنع على الإيمان بهذه الأدلة إنساناً معانداً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6397 يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6398 هذه الآية تبدأ بخبر مؤكد في صيغة استفهام، حتى يأتي الإقرار من هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً، والإقرار سيد الأدلة. الواحد من هؤلاء المفترين إذا سمع السؤال وأدار ذهنه في الظالمين، فلن يجد ظلماً أفدح ولا أسوأ من الذي يفتري على الله كذباً، ويقر بذلك. وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأتي هذا الخبر في صيغة استفهام، ليأتي الإقرار اعترافاً بهذا الظلم الفظيع. وهؤلاء المكذبون يُعرَضون على الله مصداقاً لقول الحق سبحانه: {أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ} [هود: 18] . والعرض إظهار الشيء الخفي لنقف على حاله. ومثال ذلك في حياتنا: هو الاستعراض العسكري حتى يبيِّن الجيش قوته أمام الخصوم، وحتى تُبلغ الدولة غيرها من الدول بحجم قوتها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6398 وكذلك نجد الضابط يستعرض فرقته ليقف على حال أفرادها، ويقيس درجة انضباط كل فرد فيها وحسن هندامه، وقدرة الجنود على طاعة الأوامر. ومثال آخر من حياتنا: فنحن نجد مدير المدرسة يستعرض تلاميذها لحظة إعلان نتائج الامتحان، ويرى المدير والتلاميذ خزي المقصر منهم أو الذي لم يؤد واجبه بالتمام. فما بالنا بالعرض على الله تعالى، حين يرى المكذبون حالهم من الخزي؟ ذلك أنهم سيفاجأون بوجود الله الذي أنكروه افتراءً؛ لأن الحق سبحانه يقول: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ} [النور: 39] . فأيُّ خزي إذن سيشعرون به؟! ويُظهر الحق سبحانه وتعالى ما كان مخفيّا منهم حين يعرض الكل على الله تعالى مصداقاً لقوله سبحانه: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} [الكهف: 48] . وكذلك يُعرضون على النار؛ لأن الحق سبحانه هو القائل: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6399 وهكذا يظهر الخزي والخجل والمهانة على هؤلاء الذين افتروا على الله تعالى. وهو سبحانه يعلم كل شيء أزلاً، ولكنه سبحانه شاء بذلك أن يكشف الناس أمام بعضهم البعض، وأمام أنفسهم، حتى إذا ما رأى إنسان في الجنة إنساناً في النار، فلا يستثير هذا المشهد شفقة المؤمن؛ لأنه يعلم أن جزاء المفتري هو النار. ويا ليت الأمر يقتصر على هذا الخزي، بل هناك شهادة الأشهاد؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول في نفس الآية: {وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ} [هود: 18] . والأشهاد جمع له مفرد، هو مرة «شاهد» ، مثل «صاحب» و «أصحاب» ، ومرة يكون المفرد «شهيد» مثل «شريف» و «أشراف» . والأشهاد منهم الملائكة؛ لأن الحق سبحانه يقول: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] . وكذلك الحق سبحانه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الإنفطار: 1012] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6400 أو شهود من الأنبياء الذين بلغوهم منهج الله؛ لأن الحق سبحانه يقول: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] . وأيضاً الشهيد على هؤلاء هو المؤمن من أمة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فيبلِّغها إلى غيره، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143] . وكلمة «الشهادة» تعني: تسجيل ما فعلوا، وتسجل أيضاً أنهم بُلِّغوا المنهج وعاندوه وخرجوا عليه، فارتكبوا الجريمة التي تقتضي العقاب، لأن العقوبة لا تكون إلا بجريمة، ولا تجريم إلا بنص، ولا نص إلا بإعلام. ولذلك نجد القوانين التي تصدر من الدولة تحمل دائماً عبارة «يُعمل بالقانون من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية» . إذن: فعمل الأشهاد أن يعلنوا أن الذين أنكروا الرسالة والرسول قد بُلِّغوا المنهج، وبُلِّغوا أن إنكار هذا المنهج وإنكار هذا الرسول هو الجريمة الكبرى، وأن عقوبة هذا الإنكار هي الخلود في النار. ولأن الحق سبحانه وتعالى هو العدل نفسه؛ لذلك فلا عقاب إلا بالتأكيد من وقوع الجريمة، لذلك لا بد من شهادات متعددة، ولذلك يأتي الشاهد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6401 من الملائكة، وهو من جنس غير جنس المعروضين، ويأتي الشاهد من الأنبياء وهو من جنس البشر إلا أنه معصوم. وكذلك يأتي الشاهد من الإخوة المؤمنين الذين يشهدون أنهم قد بُلِّغوا منهج الإيمان، ثم تأتي شهادة هي سيدة الشهادات كلها، وهي شهادة الأبعاض على الكل. يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 1921] ٍ. فالجوارح تنطق لتقيم الحجة على أولئك المذنبين. وسؤال المذنبين عن كيفية وقوع النطق لا لزوم له؛ لذلك نجد السؤال هنا «لمَ» ؛ لأن الجوارح كانت هي أدوات المذنبين في ارتكاب الجرائم؛ لأن اليد هي التي امتدت لتسرق، واللسان هو الذي نطق قول الزور، والقلب هو الذي حقد، والساق هي التي مشت إلى المعصية. والإنسان كما نعلم مركَّب من جوارح، وهذه الجوارح لها أجهزة تكوِّن الكل الإنساني، ومدير كل الجسم هو العقل، فهو الذي يأمر اليد لتمتد وتسرق، أو تمتد لتربت على اليتيم؛ والعين تأخذ أوامرها من العقل، فإما أن يأمرها بأن تنظر إلى جمال الكون، وتعتبر بما تراه من أحداث، أو يأمرها بأن تنظر إلى الحرام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6402 إذن: الجوارح خادمة مطيعة مُسخَّرة لذلك الإنسان وإرادته، لكن الأمر يختلف في الآخرة، حيث لا أمر لأحد إلا الله. والحق سبحانه القائل: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . فالجوارح تقول يوم القيامة لأصحابها: كنا نفعل ما تأمروننا به من المعاصي رغماً عنا؛ لأننا كنا مُسخَّرين لكم في الدنيا، والآن انحلَّتْ إرادتكم عنا فقلنا ما أجبرتمونا على فعله. وهكذا تعترف الأشهاد، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] . وما داموا قد كذبوا على ربهم، فالمكذوب عليه هو الله، ولا بد أن يطردهم من الرحمة، وهم قد ارتكبوا قمة الظلم وهو الشرك به والإلحاد وإنكار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والرسالة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6403 وهنا يحدثنا القرآن عن هؤلاء الذين كفروا بالله وآياته ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يكتفوا بكفرهم، بل تمادوا وأرادوا أن يصدوا غيرهم عن الإيمان. وبذلك تعدَّوا في الجريمة، فبعد أن أجرموا في ذواتهم؛ أرادوا لغيرهم أن يُجرم. وسبق أن أنزل الحق سبحانه خطاباً خاصّاً بأهل الكتاب، الذين سبق لهم الإيمان برسول سابق على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن أعماهم الطمع في السلطة الزمنية فطمسوا الآيات المبشرة برسول الله في كتبهم، وهم بذلك إنما صدُّوا عن سبيل الله، وأرادوا أن تسير الحياة معوجَّة. يقول الحق سبحانه: {قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99] . وقد أرسل الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليعدل المُعوجَّ من أمور المنهج. والعوج هو عدم الاستقامة والسوائية، وقد يكون في القيم، وهي ما قد خفي من المعنويات، فتقول: أخلاق فلان فيها عوج، وأمانة فلان فيها عوج. ويقول الحق سبحانه: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] . وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله سبحانه: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} [هود: 19] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6404 أما في الأمور المحسة فلا يقال: «عِوَج» ، بل يقال: «عَوَج، فأنت إذا رأيت شيئاً معوجاً في الأمور المحسة تقَول: عَوَج. لكننا نقرأ في القرآن قول الحق سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [طه: 105107] . وقد أوردها الحق سبحانه هنا بهذا الشكل لدقة الأداء القرآني؛ لأن هناك عوجاً حسياً يحسه الإنسان، مثلما يسير الإنسان في الصحراء؛ فيجد الطريق منبسطاً ثم يرتفع إلى ربوة ثم ينبسط مرة أخرى، ثم يقف في الطريق جبل، ثم ينزل إلى وادٍ، وأي إنسان يرى مثل هذا الطريق يجد فيه عوجاً. أما إذا كنت ترى الأرض مبسوطة مسطوحة كالأرض الزراعية، فقد تظن أنها أرض مستوية، ولكنها ليست كذلك؛ بدليل أن الفلاح حين يغمر الأرض بالمياه، يجد بقعة من الأرض قد غرقت بالماء، وقطعة أخرى من نفس الأرض لهم تمسها المياه، وبذلك نعرف أن الأرض فيها عوج لحظة أن جاء الماء، والماء كما نعلم هو ميزان كل الأشياء المسطوحة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6405 ولذلك حين نريد أن نحكم استواء جدار أو أرض، فنحن نأتي بميزان الماء؛ لأنه يمنع حدوث أي عوج مهما بلغ هذا العوج من اللطف والدقة التي قد لا تراها العين المجردة. وفي يوم القيامة يأتي أصحاب العوج في العقيدة، ويصورهم الحق سبحانه في قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه: 108] . هم إذن يصطفُّون بلا اعوجاج، كما يصطف المجرمون تبعاً لأوامر من يقودهم إلى السجن، في ذلة وصَغَار ولا ينطقون إلا همساً. وهنا يقول الحق سبحانه: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 19] . والسبب في صَدِّهم عن سبيل الله أنهم يريدون الحال مُعْوجاً ومائلاً، وأن يُنفِّروا الناس من الإيمان ليضمنوا لأنفسهم السلطة الزمنية ويفسدون في الأرض؛ لأن مجيء الإصلاح بالإيمان أمر يزعجهم تماماً، ويسلب منهم ما ينتفعون به بالفساد. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6406 {أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6407 والإعجاز هو الامتناع، وأعجزت فلاناً، أي: برهنت على أنه ممتنع عن الأمر وغير قادر عليه. وقد تجلَّى الإعجاز على سبيل المثال في عجز هؤلاء الذين أنكروا أن القرآن معجزة أن يأتي بآية من مثله. والمعجز في الأرض هو من لا تقدر عليه. ويبيِّن لنا الحق سبحانه في هذه الآية أن هؤلاء الكافرين لا يُعجزون الله في الأرض، بدليل أن هناك نماذج من أمم قد سبقت وكفرت، فمنهم من أخذته الريح، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من غرق، وإذا انتقلوا إلى الآخرة فليس لهم ولي أو نصير من دون الله؛ لأن الولي هو القريب منك، ولا يقرب منك إلا من تحبه، ومن ترجو خيره. فإذا قَرُب منك إنسان له مواهب فوق مواهبك، نضح عليك من مواهبه، وإذا كان من يقرب منك قوياً وأنت ضعيف، ففي قوته سياج لك، وإن كان غنياً، فغناه ينضح عليك، وإن كان عالماً أفادك بعلمه، إن كان حليماً أفادك بحلمه لحظة غضبك، وكل صاحب موهبة تعلو موهبتك وأنت قريب منه، فسوف يفيدك من موهبته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6407 والولي هو النصير أيضاً؛ لأنك أول ما تستصرخ سيأتي لك القريب منك. وهؤلاء الذين يصدُّون عن سبيل الله لن يجدوا وليّاً ولا نصيراً في الآخرة وإن وجدوه في الدنيا لأن كل إنسان في الآخرة سيكون مشغولاً بنفسه: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2] . ويقول الحق سبحانه: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان: 33] . وكذلك يقول الحق سبحانه: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 3437] . إذن: فهؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله لا يُعجزون الله في الأرض، ولا يجدون الولي أو النصير في الآخرة، بل: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} [هود: 20] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6408 ونحن نفهم الضِّعْفَ على أنه الشيء يصير مرتين، ونظن أن في ذلك قوة، ونقول: لا؛ لأن الذي يأتي ليسند الشيء الأول ويشفع له، كان الأول بالنسبة له ضعيف. إذن: فالمُضَاعفة هي التي تظهر ضعف الشيء الذي يحتاج إلى ما يدعمه. ومُضَاعفة العذاب أمر منطقي لهؤلاء الذين أرادوا الأمر عوجاً، وصدوا عن سبيل الله تعالى، وأرادوا بذلك إضلال غيرهم. وقول الحق سبحانه: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} [هود: 20] . لا يتناقض مع قوله الحق: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] . لأن هؤلاء الذين صدوا عن سبيل الله ليس لهم وزر واحد، بل لهم وِزْران: ووزر الضلال في ذواتهم، ووزر الإضلال لغيرهم. وهناك آية تقول: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب} [الفرقان: 6869] . أي: أن مَنْ يفعل ذلك يَلْقَ مضاعفة للعذاب. . لماذا؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6409 لأنه كان أسوة لغيره في أن يرتكب نفس الجرم. والحق سبحانه وتعالى لا يريد للذنوب أن تنتشر، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يحض على أن يرى المؤمنون من ارتكب الجُرْم لحظةَ العقاب، مثلما يقول سبحانه في الزنا: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] . وحين يرى المؤمنون وقوع العقوبة على جريمة ما، ففي ذلك تحذير من ارتكاب الجُرْم، وحدّ من وقوع الجرائم. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يضاعف العذاب لأولئك الذين صَدُّوا عن سبيل الله، وأرادوا إضلال غيرهم، فارتكبوا جريمتين: أولاهما: ضلالهم. والثانية: إضلالهم لغيرهم. ولذلك تجد بعضاً من الذين أضلُّوا يقولون يوم القيامة: {رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} [فصلت: 29] . ويقولون أيضاً: {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: 6768] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6410 إذن: فالدعوة إلى الانحراف إضلال، وعمل الشيء بالانحراف إضلال؛ لأنه أسوة أمام الغير. ومضاعفة العذاب لا تعني الإحراق مرة واحدة في النار؛ لأن الحق سبحانه لو تركنا للنار لتحرقنا مرة واحدة لانتهى الإيلام؛ ولذلك أراد الحق سبحانه أن يكون هناك عذاب بعد عذاب. يقول الحق سبحانه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} [النساء: 56] . فهو عذاب على الدوام. أو أن العذاب الذي يضاعف له لون آخر، فهناك عذاب للكفر، وهناك عذاب للإفساد. يقول الحق سبحانه: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] . فالعذاب على الكفر لا يلغي العذاب على المعاصي التي يرتكبها الكافر. فإذا كانت الشاة القرناء يُقتصُّ للشاة الجلحاء منها، أي: أن الشاة التي لها قرون وتنطح الشاة التي لا قرون لها، فيوم القيامة يتم القصاص الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6411 منها، رغم أنه لا حساب للحيوانات؛ لأنها لا تملك الاختيار، ولكنها سوف تُستخدم كوسيلة إيضاح لميزان العدالة. ويقول الحق سبحانه: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود: 20] . أي: ما كانوا يستطيعون الاستفادة من السمع رغم وجود آلة السمع، فلم يستمعوا لبلاغ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا استطاعوا الاستفادة من أبصارهم ليروا آيات الله سبحانه وتعالى في الكون، فكأنهم صُمٌّ عُمْيٌ، أو يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والإبصار. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] . أي: أن سمعهم وأبصارهم ستكون سليمة وجيدة في الآخرة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6412 إذن: فهم خسروا أنفسهم؛ لأنهم بظلم النفس وإعطائها شهوة عاجلة زمنها قليل، أخذوا عذاباً آجلاً زمنه خالد. وفي هذا ظلم للنفس، وهذه قمة الخيبة، وهذا يدل على اختلال الموازين، وأنت قد تظلم غيرك فتأخذ من عنده بعضاً من الخير لتستفيد به، وبذلك تظلم الغير لصالح نفسك. وظلم النفس يعني أنك تعطيها متعة عاجلة وتغفل عنها عذاباً آجلاً، والمتعة العاجلة لها مدة محدودة، أما العذاب فلا مدة تحدده. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [هود: 21] . أي: لم يهتد إليهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله، ولو كان لهؤلاء الذين عبدوهم قوة يوم القيامة؛ لهرعوا إليهم ليستنقذوهم من العذاب، ولكنهم بلا حول ولا قوة؛ لأن الحق سبحانه قد حكم على هؤلاء الكافرين، وقال: {وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [التوبة: 74] . وكذلك هؤلاء الآلهة المعبودة من دون الله تعالى، أو شركاء مع الله، لا يهتدون إليهم، حتى بفرض قدرتهم على النصرة، فتلك الآلهة أو الشركاء لا يهتدون إليهم، ولا يعرفون لهم مكاناً. وقول الحق سبحانه: {وَضَلَّ عَنْهُمْ} [هود: 21] . أي: غاب وتاه عنهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6413 وقوله سبحانه: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [هود: 21] . أي: ما كانوا يدَّعونه كذباً. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6414 واختلف العلماء في معنى كلمة {لاَ جَرَمَ} ، والمعنى العام حين تسمع كلمة {لاَ جَرَمَ} أي: حق وثابت، أو لا بد من حصول شيء محدد. وحين يقول الحق سبحانه: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] . أي: حَقَّ وثبت أن لهم النار؛ نتيجة ما فعلوا من أعمال، وتلك الأعمال مقدمة بين يدي عذابهم، فحين نسمع {لاَ جَرَمَ} ومعها العمل الذي ارتكبوه، تثق في أنه يحق على الله سبحانه أن يعذبهم. وقال بعض العلماء: إن معنى: {لاَ جَرَمَ} حق وثبت. وقال آخرون: إن معنى {لاَ جَرَمَ} هو لا بد ولا مفر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6414 والمعنيان ملتقيان لأن انتفاء البُدِّية يدل على أنها ثابتة. وكان يجب على العلماء أن يبحثوا في مادة الكلمة، ومادة الكلمة هي «الجرم» ، والجرم: هو القطع، ويقال: جرم يده، أي: قطع يده. وقول الحق سبحانه هنا: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: 22] . أي: لا قَطْع لقول الله فيهم بأن لهم النار، ولا شيء يحول دون ذلك أبداً، ولا بد أن ينالوا هذا الوعيد؛ وهكذا التقى المعنى ب «لا بد» . إذن: فساعة تسمع كلمة «لا جرم» ، أي: ثبت، أو لا بد من حدوث الوعيد. وأيضاً تجد كلمة «الجريمة» مأخوذة من «الجرم» ، وهي قطع ناموس مستقيم، فحين نقرر ألا يسرق أحد من أحد شيئاً، فهذا ناموس مستقيم، فإن سرق واحد من آخر، فهو قد قطع الأمن والسلام للناس، وأيُّ جريمة هي قَطْع للمألوف الذي يحيا عليه الناس. وأيضاً يقال: جرم الشيء أي: اكتسب شرَّه، ومنه الجريمة، ولذلك يقال: من الناس من هو «جارم» وهي اسم فاعل من الفعل: «جرم» ، مثل كلمة «كاتب» من الفعل «كتب» و «مجروم عليه» وهي اسم مفعول، مثلها مثل «مكتوب» . فإن أخذت الجريمة من قطع الأمر السائد في النظام، فهؤلاء الذين افتروا على الله وظلموا وصدوا عن سبيل الله، فلا جريمة في أن يعذبهم الله بالنار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6415 ومثل هذه العقوبة ليست جريمة؛ لأن العقوبة على الجريمة ليست جريمة، بل هي مَنْع للجريمة. وهكذا تلتقي المعاني كلها، فحين نقول: {لاَ جَرَمَ} فذلك يعني أنه لا جريمة في الجزاء؛ لأن الجريمة هي الآثام العظيمة التي ارتكبوها. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] . وقد سمَّاها الحق سيئة؛ لأنها تسيء إلى المجتمع أو تسيء إلى الفرد نفسه. ولهذا يقول الحق سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . وهكذا نجد أن هناك معاني متعددة لتأويل قول الحق سبحانه: {لاَ جَرَمَ} ، فهي تعني: لا قطع لقول الله في أن المشركين سيدخلون النار، أو لا بد أن يدخلوا النار، أو حق وثبت أن يدخلوا النار، أو لا جريمة من الحق سبحانه عليهم أن يفعل بهم هكذا؛ لأنهم هم الذين فعلوا ما يستحق عقابهم. ويقول الحق سبحانه: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [هود: 22] . وكلمة (الأخسرون) جمع «أخسر» وهي أفعل تفضيل لخاسر، وخاسر اسم فاعل مأخوذ من الخسارة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6416 والخسارة في أمور الدنيا أن تكون المبادلة إجحافاً لواحد، كأن يشتري شيئاً بخمسة قروش وكان يجب أن يبيعها بأكثر من خمسة قروش، لكنه باعها بثلاثة قروش فقط، فبعد أن كان يرغب في الزيادة، باع الشيء بمنا ينقص عن قيمته الأصلية. ومن يفعل ذلك يسمى «خاسر» ، والخسارة في الدنيا موقوتة بالدنيا، ومن يخسر في صفقة قد يربح في صفقة أخرى. ولنفترض أنه قد خسر في كل صفقات الدنيا، فما أقصر وقت الدنيا! لأن كل ما ينتهي فهو قصير، لكن خسارة الآخرة لا نهاية لها. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103104] . وهكذا وصفهم الحق سبحانه مرة بأنهم الأخسرون، ومرة يقول سبحانه واصفاً الحكم عليهم: {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} [الزمر: 15] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6417 وهو خسران محيط يستوعب كل الأمكنة. وشاء الحق سبحانه بعد ذلك أن يأتي بالمقابل لهؤلاء، وفي ذلك فيض من الإيناسات المعنوية؛ لأن النفس حين ترى حكماً على شيء تأنس أن تأخذ الحكم المقابل على الشيء المقابل. فحين يسمع الإنسان قول الحق سبحانه: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] . فلا بد أن يأتي إلى الذهن تساؤل عن مصير الفُجَّار، فيقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] . وهذا التقابل يعطي بسطة النفس الأولى وقبضة النفس الثانية، وبين البسطة والقبضة توجد الموعظة، ويوجد الاعتبار. ويأتي الحق سبحانه هنا بالمقابل للمشركين الذين صدوا عن سبيل الله، فصاروا إلى النار، والمقابل هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح. فيقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6418 الإيمان كما نعلم أمر عقدي، يعلن فيه الإنسان إيمانه بإله واحد موجود، ويلتزم بالمنهج الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومن آمن بالله تعالى ولم يعمل العمل الصالح يتلقَّ العقاب؛ لأن فائدة الإيمان إنما تتحقق بالعمل الصالح. لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول لنا: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] . أي: اتبعتم ظاهر الإسلام. وهكذا نعرف أنه يوجد مُتيقِّن بصحة واعتقاد بأن الإله الواحد الأحد موجود، وأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُبلِّغ عن الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لكن العمل الذي يقوم به الإنسان هو الفيصل بين مرتبة المؤمن، ومرتبة المعلم. فالذي يُحسن العمل هو مؤمن، أما من يؤدي العمل بتكاسل واتِّباع لظواهر الدين، فهو المسلم، وكلاهما يختلف عن المنافق الذي يدَّعي الحماس إلى أداء العبادات، لكنه يمكر ويبِّيت العداء للإسلام الذي لا يؤمن به. وكان المنافقون على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسبق الناس إلى صفوف الصلاة، وكانوا مع هذا يكتمون الكيد ويدبرون المؤامرات ضد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6419 وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ} [هود: 23] . هذا القول يبيِّن لنا أن معيار الإيمان إنما يعتمد على التوحيد، وإتقان أداء ما يتطلبه منهج الله سبحانه، وأن يكون كل ذلك بإخبات وخضوع، ولذلك يقال: رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من عبادة أورثت عزّاً واستكباراً. أي: أن المؤمن عليه ألا يأخذ العبادة وسيلة للاستكبار. وكلمة {وأخبتوا} أي: خضعوا خشية لله تعالى، فهم لا يؤدون فروض الإيمان لمجرد رغبتهم في ألاَّ يعاقبهم الله، لا بل يؤدون فروض الإيمان والعمل الصالح خشية لله. وأصل الكلمة من «الخبت» وهي الأرض السهلة المطمئنة المتواضعة، وكذلك الخبت في الإيمان. ويصف الحق سبحانه أهل الإيمان المخبتين بأنهم: {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود: 23] . أي: الملازمون لها، وخلودهم في الجنة يعني أنهم يقيمون في النعيم أبداً، ونعيم الجنة مقيم ودائم، على عكس نعيم الدنيا الذي قد يفوته الإنسان بالموت، أو يفوت النعيم الإنسان بالسلب؛ لأن الإنسان في الدنيا عرضة للأغيار، أما في الآخرة، فأهل الإيمان أصحاب العمل الصالح المخبتون لربهم، فهم أهل النعيم المقيم أبداً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6420 وهكذا عرض الحق سبحانه حال الفريقين: الفريق الذي ظلم نفسه بافتراء الكذب وعلى الله، وصدوا عن سبيل الله، وابتغوا الأمر عوجاً، هؤلاء لن يُعجزوا الله، وليس لهم أولياء يحمونهم من العذاب المضاعف. وهم الذين خسروا أنفسهم، ولن يجدوا عوناً من الآلهة التي عبدوها من دون الله، ولا شيء بقادر على أن يفصل بينهم وبين العذاب، وهم الأخسرون. أما الفريق الثاني فهم الذين آمنوا وعملوا الصالحة بخشوع وخشية ومحبة لله سبحانه وتعالى، وهم أصحاب الجنة الخالدون فيها. إذن: فلكل فريق مسلكه وغايته. لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6421 والفريقان هما من تحدثنا عنهما من قبل. وكلمة «الفريق» تعني: جماعة يلتقون عند غاية وهدف واحد، مثلما نقول: فريق كرة القدم أو غيره من الفرق، فهي جماعات، كل جماعة منها لها هدف يجمعها. ونحن نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6421 وكلمة {الفريقين} جاءت في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ لأن كل فرقة تضم جماعة مختلفة عن الجماعة الأخرى، ولهؤلاء متعصبون، وللآخرين متعصبون. ويضرب الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية المثل بسَيِّدَي الحواس الإداركية في الإنسان، وهما السمع والبصر، فهما المصدران الأساسيان عند الإنسان لأخذ المعلومات، إما مسموعة، أو مرئية، ثم تتكون لدى الإنسان قدرة الاستنباط والتوليد مما سمعه بالأذن ورآه بالعين. ولذلك قال لنا الحق سبحانه: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . إذن فما دام الحق سبحانه قد جعل السمع والأبصار والأفئدة مصادر تأتي منها ثمرة، هي المعلومات وتمحيصها، فالحق سبحانه يستحق الشكر عليها. ونحن نعلم أن الطفرات الحضارية وارتقاءات العلم، إنما تأتي بمن سمع ومن رأى، ثم جاءت من الاستنباط أفكار تطبيقية تفيد البشرية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6422 ومثال ذلك: هو من رأى إناء طعام وله غطاء، وكان بالإناء ماء يغلي، فارتفع الغطاء عن الإناء. هذا الإنسان اكتشف طاقة البخار، واستنبط أن البخار يحتاج حيِّزاً أكبر من حيز السائل الموجود في الإناء؛ لذلك ارتفع الغطاء عن الإناء، وارتقى هذا الاكتشاف ليطور كثيراً من أوجه الحياة. ولو أن كل إنسان وقف عند ما يسمعه أو يراه ولم يستنبط منه شيئاً لما تطورت الحياة بكل تلك الارتقاءات الحضارية. وهنا يقول الحق سبحانه: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [هود: 24] . ولن يشك كل من الأعمى أو الأصم أن من يرى أو من يسمع هو خير منه، ولا يمكن أن يستوي الأعمى بالبصير، أو الأصم بمن يسمع. وهكذا جاء الحق سبحانه وتعالى بالأشياء المتناقضة، ليحكم الإنسان السامع أو القارىء لهذه الآية، وليفصل بحكم يُذكِّره بالفارق بين الذي يرى ومن هو أعمى، وكذلك بين من يسمع ومن هو أصم، ومن الطبيعي ألا يستويان. لذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي: ألا تعتبرون بوجود هذه الأشياء. ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد قال لنا: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6423 أي: أن الإنسان قد يكون مبصراً، أو له أذن تسمع، لكنه لا يستخدم حاسة الإبصار أو حاسة السمع فيما خلقت من أجله في التقاط مجاهيل الأشياء. وبعد أن بيَّن الحق سبحانه وَصْفَ كل طرف وصراعه مع الآخر، واختلاف كل منهما في الغاية، والصراع الذي بينهما تشرحه قصص الرسل عليهم السلام. ويقول الحق سبحانه في بعض من مواضع القرآن الكريم، وفي كل موضع لقطات من قصة أي رسول، واللقطة التي توجد في سورة قد تختلف عن اللقطة التي في سورة أخرى. ومثال ذلك: أن الحق سبحانه قد تكلم في سورة يونس عن نوح وموسى وهارون ويونس عليهم السلام، وهنا في سورة هود تأتي مرة أخرى قصة نوح عليه السلام، فيقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6424 والآية توضِّح مسألة إرسال نوح عليه السلام كرسول لقومه، وعلى نوح الرسول أن يمارس مهمته وهي البلاغ، فيقول: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [هود: 25] . ونحن نلحظ أن همزة (إن) في إحدى قِرَاءَتَى الآية تكون مكسورة، وفي قراءة أخرى تكون مفتوحة، أما في القراءة بالكسر فتعني أن نوحاً عليه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6424 السلام قد جاء بالرسالة فبلغ قومه وقال: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [هود: 25] . وأما في القراءة الأخرى بالفتح فتعني أن الرسالة هي: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [هود: 25] . فكأن القراءة الأولى تعني الرواية عن قصة البلاغ، والقراءة الثانية تحدد مضمون الرسالة: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [هود: 25] . والقراءة الأولى فيها حذف القول، وحذف القول كثير في القرآن، مثل قوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 2324] . وهذا يعني أن الملائكة يدخلون على المؤمنين في الجنة من كل باب، وساعة الدخول يقول الملائكة: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6425 وقول نوح عليه السلام: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [هود: 25] . نعلم منه أن النذير كما قلنا من قبل هو من يخبر بشرٍّ لم يأت وقته بعد، حتى يستعد السامع لملاقاته، وما دام أن نبي الله نوحاً قد جاء نذيراً، فالسياق مستمر؛ لأن الحق سبحانه قال في الآية التي قبلها: {مَثَلُ الفريقين} [هود: 24] . أي: أن هناك فريقاً عاصياً وكافراً وله نذير، أما الفريق الآخر فله بشير، يخبر بخير قادم ليستعد السامع أيضاً لاستقباله بنفس مطمئنة. والفريق الكافر الذي يستحق الإنذار، يأتي لهم الحق سبحانه بنص الإنذار في قوله تعالى: {أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6426 ونحن نعلم أن نوحاً عليه السلام محسوب على قومه، وهم محسوبون عليه؛ ولذلك نجده خائفاً عليهم؛ لأن الرباط الذي يربطه بهم رباط جامع قوي. وكذلك نجد الحق سبحانه يُحنِّن قلوب الرسل إليهم لعلهم يحسنون استقبال الرسول. ومثال ذلك: قول الحق سبحانه: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف: 65] . ولأن الرسول أخ لهم فلن يغشَّهم أو يخدعهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6426 واستقبل الملأ من قوم نوح الأمر بما يقوله الحق سبحانه عنهم: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6427 والملأ كما نعلم هم وجوه القوم، وهم السادة الذين يملأون العيون مهابة، ويتصدرون أي مجلس. وهناك مثل شعبي في بلادنا يوضح ذلك المعنى حين نقول: «فلان يملأ العين» . أي: أن العين حين تنظر إليه لا تكون فارغة، فلا جزء في العين يرى غيره. ويقال أيضاً: «فلان قَيْد النواظر» أي: أنه إذا ظهر تقيَّدت به كل النواظر، فلا تلتفت إلى سواه، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كانت فيه مزايا تجذب العيون إليه بحيث لا تتحول عنه. والمراد بذلك هو الحاشية المقربة، أو الدائرة الأولى التي حول المركز، فَحَوْل كل مركز هناك دوائر، والملأ هم الدائرة الأولى، ثم تليهم دائرة ثانية، ثم ثالثة وهكذا، والارتباك إنما ينشأ حين يكون للدائرة أكثر من مركز، فتتشتت الدوائر. وردَّ الذين يكوِّنون الملأ على سيدنا نوح قائلين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6427 {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} [هود: 27] . أي: أنه لا توجد لك ميزة تجعلك متفوقاً علينا، فما الذي سوَّدك علينا لتكون أنت الرسول؟ وقولهم هذا دليل غباء؛ لأن الرسول ما دام قد جاء من البشر، فسلوكه يكون أسوة، وقوله يصلح للاتباع، ولو كان الرسول من غيرِ البشر لكان من حق القوم أن يعترضوا؛ لأنهم لن يستطيعوا اتخاذ الملاك أسوة لهم. ولذلك بيَّن الحق سبحانه هذه المسألة في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] . وجاء الرد منه سبحانه بأن قُلْ لهم: {لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] . إذن: فالرسول إنما يجيء مُبلِّغ منهج وأسوة سلوك، فإذا لم يكن من جنس البشر، فالأسوة لن تصلح، ولن يستطيع إلا البلاغ فقط. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6428 ومثال ذلك: أنت حين ترى الأسد في أي حديقة من حدائق الحيوان، يصول ويجول، ويأكل اللحم النَّيء المقدم له من الحارس، أتحدثك نفسك أن تفعل مثله؟ . . طبعاً لا، لكنك إن رأيت فارساً على جواد ومعه سيفه، فنفسك قد تحدثك أن تكون مثله. وهكذا نجد أن الأسوة تتطلب اتحاد الجنس؛ ولذلك قلنا: إن الأسوة هي الدليل على إبطال من يدَّعي الألوهية لعزير أو لعيسى عليهما السلام. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان الملأ الكافر من قوم نوح: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] . والأراذل جمع «أرذل» ، مثل قولنا: «أفاضل قوم» ، وهي جمع «أفضل» . والأرذل هو الخسيس الدنيء في أعين الناس. ورذال المال أي: رديئه. ورذال كل شيء هو نفايته. ونرى في الريف أثناء مواسم جمع «القطن» عملية «فرز» القطن، يقوم بها صغار البنين والبنات، فيفصلون القطن النظيف، عن اللوز الذي لم يتفتح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6429 بالشكل المناسب؛ لأن اللوزة المصابة عادة ما تعاني من ضمور، ولم تنضج النضج الصحيح. وكذلك يفعل الفلاحون في موسم جمع «البلح» ، فيفصلون البلح الجيد عن البلح المعيب. إذن: فرذال كل شيء هو نفايته. وقد قال الملأ من الكفار من قوم نوح: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] . أي: أنهم وصفوا من آمنوا بنوح عليه السلام بأنهم نفاية المجتمع. وجاء الحق على ألسنتهم بقولهم في موضع آخر: {واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] . ولم يَنْفِ نوح عليه السلام ذلك؛ لأن الذين اتبعوه قد يكونون من الضعاف، وهَم ضحايا الإفساد؛ لأن القوى في المجتمع لا يقربه أحد؛ ولذلك فإنه لا يعاني من ضغوط المفسدين، أما الضعاف فهم الذين يعانون من المفسدين؛ فما إن يظهر المُخلِّص لهم من المفسدين فلا بد أن يتمسكوا به. ولكن ذلك لا يعني أن الإيمان لا يلمس قلوب الأقوياء، بدليل أن البعض من سادة وأغنياء مكة استجابوا للدعوة المحمدية مثل: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. ولكن الغالب في دعوات الإصلاح أنه يستجيب لها المطحونون بالفساد، هؤلاء الذين يشعرون بالغليان في مراجل الألم بسبب الفساد، وما إن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6430 يظهر داعية الإصلاح ويريد أن يزحزح الفساد، فيلتفُّون حوله ويتعاطفون معه، وإن كانوا غير عبيد، لكن محكومين بالغير، فهم يؤمنون علناً برجل الإصلاح، وإن كانوا عبيداً مملوكين للسادة؛ فهم يؤمنون خفية، ويتحمل القوي منهم الاضطهاد والتعذيب. إذن: فكل رسول يأتي إنما يأتي في زمن فساد، وهذا الفساد ينتفع به بعض الناس؛ وطغيان يعاني منه الكثيرون الواقع عليهم الفساد والطغيان. ويأتي الرسول وكأنه ثورة على الطغيان والفساد؛ لذلك يتمسك به الضعفاء ويفرحون به، وتلتف قلوبهم حوله. أما المنتفعون بالفساد فيقولون: إن أتباعك هم أراذلنا. وكأن هذا القول طَعْن في الرسول، لكنهم أغبياء؛ لأن هذا القول دليل على ضرورة مجيء الرسول؛ ليخلص هؤلاء الضعاف، ويجيء الرسول ليقود غضبة على فساد الأرض، ولينهي هذا الفساد. وهي غضبة تختلف عن غضبة الثائر العادي من الناس، فالثائر من الناس يرى من يصفق له من المطحونين بالفساد. لكن آفة الثائر من البشر شيء واحد، هي أنه يريد أن يستمر ثائراً، ولكن الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد، فلا يسلط السيف على الكل، ولا يفضِّل قوماً على قوم، ولا يدلل مَنْ طُغِي عليهم، ويظلم مَنْ طغوا. بل عليه أن يحكم بين الناس بالعدل والرحمة؛ لتستقيم الأمور، وتذهب الأحقاد، ويعلم الناس كلهم أن الثائر ما جاء ضد طائفة بعينها، وإنما جاء ضد ظلم طائفة لغيرها، فإذا أخذ من الظالم وأعطى المظلوم؛ فليجعل الاثنين سواء أمام عينيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6431 ومن هنا يجيء الهدوء والاستقرار في المجتمع. إذن: فقد كان قول الكافرين من ملأ قوم نوح. {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] . هو قول يؤكد وجود الفساد في هذا المجتمع، وأن الضعاف المطحونين من الفساد قد اتبعوا نوحاً عليه السلام. ويقول الحق سبحانه: {بَادِيَ الرأي} [هود: 27] . والبادي هو الظاهر؛ ضد المستتر. وهناك قراءة أخرى هي {بَادِيءَ الرأي} ؟ أي: بعد بدء الرأي. والآية هنا تقول: {بَادِيَ الرأي} [هود: 27] . أي: ظاهر الأمر، فساعة ما يُلْقى إلى الإنسان أيُّ شيء فهو ينظر له نظرة سطحية، ثم يفكر بإمعان في هذا الشيء. وساعة يسمع الإنسان دعوى أو قضية، فعليه ألا يحكم عليها بظاهر الأمر، بل لا بد أن يبحث القضية أو الدعوى بتروٍّ وهدوء. وهم قد قالوا لنوح عليه السلام: أنت بشر مثلنا، وقد اتبعك أراذلنا؛ لأنهم نظروا إلى دعوتك نظرة ظاهرية، ولو تعقَّبوا دعوتك وتأمَّلوها ونظروا في عواقبها بتدبُّر لما آمنوا بها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6432 ويكشف الحق سبحانه هذا الغباء فيهم، فقول الملأ بأن الضعفاء كان يجب عليهم أن يتدبروا الأمر ويتمعنوا في دعوة نوح قبل الإيمان به، ينقضه إصرار الضعفاء على الإيمان؛ لأنه يؤكد أن جوهر الحكم عندهم جوهر سليم؛ لأن الواحد من هؤلاء الضعفاء لا يقيس الأمر بمقياس من يملك المال، ولا بمقياس من يملك الجاه، ولا بمقياس من له سيادة، بل قاس الضعيف من هؤلاء الأمر بالقلب، الذي تعقَّل وتبصَّر، وباللسان الذي أعلن الإيمان؛ لأن الإنسان بأصغريه: قلبه ولسانه. إذن: فهذا الملأ الكافر من قوم نوح عليه السلام، قد حكم بأن الضعاف أراذل بالمقاييس الهابطة، لا بالمقاييس الصحيحة. ولو امتنع هؤلاء الذي يُقال عنهم «أراذل» عن خدمة من يقال لهم «سادة» لذاق السادة الأمرَّين، فهم الذين يقدِّمون الخدمة، ولو لم يصنع النجار أثاث البيت لما كانت هناك بيوت مؤثثة. ولو امتنع العمال عن الحفر والبناء لما كانت هناك قصور مشيدة. ولو امتنع الطاهي عن طهي الطعام لما كانت هناك موائد ممتدة، وكل خدمات هؤلاء الضعاف تصب عند الغني أو صاحب المال أو صاحب الجاه. وهكذا نرى أن الكون يحتاج إلى من يملك الثورة ولو عن طريق الميراث ليصرف على من يحتاجه المجتمع أيضاً، وهم الضعاف الذين يعطون الخير من كدِّهم وإنتاجهم. إذن: فالضعفاء هم تتمة السيادة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6433 وحين نمعن النظر لوجدنا أن سيادة الثَّريِّ أو صاحب الجاه إنما تأتي نتيجة لمجهودات من يقال عنهم: إنهم أراذل. ولو أنهم تخلَّوا عن الثرى أو صاحب الجاه، لما استطاع أن يكون سيداً. ويذكر لنا الحق سبحانه بقية ما قاله الملأ الكافر من قوم نوح: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] . وهم بهذا القول قد أنكروا أن سيادتكم إنما نشأت بجهد من قالوا عنهم إنهم أراذل، وأنكروا فضل هؤلاء الناس. ويُلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى الآفة الي تنتاب بعض المجتمعات حين يذكر لنا ما قاله الكافرون: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 31 32] . إذن: فالحق سبحانه هو الذي قسم المعيشة، وآفة الحكم أن ننظر إلى المرفوع على أنه الغنى، لا، فليس المرفوع هو الغنى، بل هو كل ذي موهبة ليست في سواه. وما دام مرفوعاً في مجال فهو سيخدم غيره فيه، وغيره سيخدمونه فيما رُفعوا فيه؛ لأن المسألة أساسها التكامل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6434 لذلك لا يُديم الله سبحانه غِنَى أحدٍ أبد الدهر، بل جعل الدنيا دُوَلاً بين الناس. إذن: فلو عرف هذا الملأ الكافر من قوم نوح عليه السلام معنى كلمة الفضل لما قالوها؛ لأن الفضل هو الزائد عن المطلوب للكائن، في المحسوسات أو المعاني والفضل يقتضي وجود فاضل ومفضول. ولينظر كل طاغية في حياته ليرى ما الفاضل فيها؟ إنه بعض من المال أو الجاه، وكل مَنْ يخدم هذا الطاغية هم أصحاب الفضل؛ لأن سيادة الطاغية مبنية على عطائهم. فهم أصحاب الفضل، ما دام الفضل هو الأمر الزائد عن الضروري. إذن: فحقيقة ارتباط العالم بعضه ببعض، هو ارتباط الحاجة لا ارتباط السيطرة، ولذلك حين نرى مسيطراً يطغى، فنحن نقول له: تعقَّل الأمر؛ لأنك ما سيطرت إلا بأناس من الأراذل، فإظهار قوته تكون بمن يُجيدون تصويب السلاح، أو بمن تدربوا على إيذاء البشر، فهو يبني سيادته ببعض الأراذل، كوسائل لتحقيق سيطرته. وقول الكافرين من ملأ نوح عليه السلام: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} [هود: 27] . يكشف أنهم قد فهموا الفضل على أنه الغِنَى، والجاه والمناصب، وهم قد أخطأوا الفهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6435 ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] . والظن هو الراجح، والمرجوح هو الوهم؛ وهذا يثبت أن في الإنسان فطرة تستيقظ في النفس كومضات فالمتكبر يمضي في كبره إلى أن تأتي له ومضة من فطرته، فيعرف أن الحق حق، وأن الباطل باطل. وحين جاءت هذه الومضة في نفوس هذا الملأ الكافر، قالوا: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] . ولم يقولوا: «نعتقد أنكم كاذبون» . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6436 وقول نوح عليه السلام: {أَرَأَيْتُمْ} أي: أخبروني إن كنت على بين موهوبة من الله تعالى ونور وبصيرة وفطرة بالهداية، وآتاني الحق سبحانه: {رَحْمَةً} أي: رسالة، بينما خفيت هذه المسألة عنكم، فهل أجبركم على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6436 ذلك؟ لا؛ لأن الإيمان لا بد أن يأتي طواعية بعد إقناع ملموس، وانفعال مأنوس، واختيار بيقين. وحين ننظر في قوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28] . نجد الهمزة الاستفهامية ثم الفعل «نلزم» ثم كاف المخاطبة، وهنا نكون أمام استفهام، وفعل، وفاعل مطمور في الفعل، ومفعول أو هو كاف المخاطبة، ومفعول ثان هو الرحمة. إذن: فلا إلزام من الرسول لقومه بأن يؤمنوا؛ لأن الإيمان يحتاج إلى قلوب، لا قوالب، وإكراه القوالب لا يزرع الإيمان في القلوب. والحق سبحانه يريد من خلقه قلوباً تخشع، لا قوالب تخضع، ولو شاء سبحانه لأرغمهم وأخضعهم كما أخضع الكون كله له، سبحانه القائل: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء} [النازعات: 27] . فالحق سبحانه وتعالى أخضع السماء والشمس والقمر، وكلَّ الكون، وهو سبحانه يقول لنا: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6437 {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] . والكون كله يخضع لمشيئة الله سبحانه وتعالى. وقد خلق الحق سبحانه الملائكة وهم جنس أعلى من البشر، وقال سبحانه عنهم: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] . إذن: فالحق سبحانه وتعالى لو أراد قوالب لأخضع الخلق كلهم لعبادته، ولكنه سبحانه وتعالى يريد قلوباً تخشع؛ ولذلك يقول تبارك وتعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 34] . وهكذا نعلم أن الحق سبحانه مُنَزَّهٌ عن رغبة أخضاع القوالب البشرية، بل شاء سبحانه أن يجعل الإنسان مختاراً؛ ولذلك لا يُكْرِهُ الله سبحانه أحداً على الإيمان. والدِّين لا يكون بالإكراه، بل بالطواعية والرضا. والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256] . وهكذا يطلب الحق سبحانه من الخلق أن يعرضوا أمر الإيمان على العقل، فالعقل بالإدراك ينفعل متعجباً لإبداع المبدع، وعند الإعجاب ينزع إلى اختياره بيقين المؤمن. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6438 يقول الحق: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} [آل عمران: 190] . والإكراه إنما يكون على أمر غير مُتَبَيَّن، أما الدِّين فأمر يتبيَّن فيه الرشد؛ لأن المنهج حين يطلب منك ألا تسرق غيرك، فهو يضمن لك ألا يسرقك الغير، وحين يأمرك ألا تنظر إلى محارم غيرك، فهو يحمي محارمك، وحين يأمرك ألا تغتاب أحداً، وألا تحقد على أحد، ففي هذا كله راحة للإنسان. إذن: فما يطلبه المنهج هو كل أمر مريح للإنسان، وأنت إن نظرت في مطلوبات المنهج فلن تجدها مطلوبة منك وحدك، ولكن مطلوبة من الناس لك أيضاً. وهو تبادل مراد من الله لإعمار الكون أخذاً وعطاء. ولذلك لا يحتاج مثل هذا الرشد إلى إكراه عليه، بل تجد فيه البينة واضحة فاصلة بينه وبين الغَيِّ. والآفة أن بعضاً من الناس يستخدمون هذه الآية في غير موضعها، فحين تطلب من مسلم أن يصلِّي تجده يقول لك: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] . ولك أن تقول له: لا إكراه في الحَمْل على الدِّين والإيمان به، لكنك إذا آمنت بالدِّين فإياك أن تكسره، بتعطيل منهجه أو الإعراض عنه. ولذلك يشدِّد الحق سبحانه عقوبة الخروج من الدين؛ لأن الحق سبحانه لم يُكرِه أحداً على الدخول في الدين، بل للإنسان أن يفكر ويتدبر؛ لأنه إن دخَل في الدين وارتكب ذنباً فسيلقى عقاب الذنب؛ لأنه دخل برغبته واختاره بيقينه، فالمخالفة لها عقابها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6439 إذن: فالدخول إلى الإيمان لا إكراه فيه، ولكن الخروج من الدين يقتضي إقامة الحد على المرتدِّ ومعاقبة العاصي على عصيانه. وعندما يعلم الجميع هذا الأمر فهم يعلمون أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل الصعوبة في الدخول إلى الدين عن طريق تصعيب آثار الخروج منه. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان نوح عليه السلام: {وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6440 ومثل هذا القول بمعناه جاء مع كل رسول، ففي مواضع أخرى يقول الحق سبحانه: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [الأنعام: 90] . لأن العِوَض في التبادل قد لا يكون مالاً، بل قد يكون تمراً، أو شعيراً أو قطناً أو غير ذلك، والأجر كما نعلم هو أعم من أن يكون مالاً أو غير مال؛ لذلك يقول الحق سبحانه هنا: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6440 {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} [هود: 29] . وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد أغْلَى الأمر. وقول الرسول: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} [هود: 29] . هو قول يدل على أن الأمر الذي جاء به الرسول هو أمر نافع؛ لأن الأجرة لا تستحق إلا مقابل المنفعة. ونحن نعلم أن مبادلة الشيء بعينه أو ما يساويه؛ تُسمَّى شراء، أما أن يأخذ الإنسان المنفعة من العين، وتظل العين ملكاً لصاحبها، فمن يأخذ هذه المنفعة يدفع عنها إيجاراً، فكان نوحاً عليه السلام يقول: لقد كنت أستحق أجراً لأنني أقدِّم لكم منفعة، لكنني لن آخذ منكم شيئاً، لا زُهْداً في الأجر، ولكني أطمع في الأجر ممن هو أفضل منكم وأعظم وأكبر. ولأن هذا الملأ الكافر قد وصف من اتبع نوحاً بأنهم أراذل؛ لذلك ياتي الرد من نوح عليه السلام: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا} [هود: 29] . ويوضح هذا الرد أن نوحاً عليه السلام لا يمكن أن يطرد إنساناً من حظيرة الإيمان لأنه فقير، فاليقين الإيماني لا علاقة له بالثروة أو الجاه أو الفقر والحاجة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6441 ولا يُخْلِي رسولٌ مكاناً من أتباعه الفقراء ليأتي الأغنياء، بل الكلُّ سواسية أمام الله سبحانه وتعالى. والحق سبحانه يقول: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} [الأنعام: 52] . وقد جعل الحق سبحانه هؤلاء الذين يطلق عليهم كلمة «أراذل» فتنة، فمن تكبَّر بسبب فقر وضعف أتباع الرسل، فليغرق في كِبْره. لذلك يقول الحق سبحانه: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} [الأنعام: 53] . وأيضا يأمر الحق سبحانه رسوله بأن يضع عينه على هؤلاء الضعاف، وألا ينصرف عنهم أو عن أي واحد منهم، فيقول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6442 {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] . جاء هذا القول حتى لا ينشأ فساد أو عداء بين المؤمنين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا يقال: «فلان مُقَرَّبٌ منه» ؛ ولذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا جلس؛ يوزع نظره على كل جلسائه، حتى يظن كل جالس أن نظره لا يتحول عنه. وفي هذه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سحبانه وتعالى على لسان سيدنا نوح عليه السلام وصفاً لهؤلاء الضعاف الذين آمنوا: {إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ} [هود: 29] . وفي هذا بيانٌ أن نوحاً عليه السلام لن يطرد هؤلاء الضعاف المؤمنين، فلو طردهم وهم الذين سيلقون الله تعالى، أيسمح نوح عليه السلام أن يقال عنه أمام الحق تبارك وتعالى إنه قد طرد قوماً آمنوا رسالته؟ طبعاً لا. ونحن نعلم أن الحق سبحانه يحاسب رسله، والمرسَل إليهم، فهو سبحانه القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6443 إذن: فنوح عليه السلام يعلم أنه مسئول أمام ربه، ولكن هذا الملأ الكافر من قومه يجهلون؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في نهاية هذه الآية الكريمة على لسان نوح عليه السلام: {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} [هود: 29] . أي: أنهم لا يفهمون مهمة نوح عليه السلام، وأنه مسئول أمام ربه. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6444 وهنا يوضِّح نوح عليه السلام أنه لا يقدر على مواجهة الله إن طرد هؤلاء الضعاف؛ لأن أحداً لن ينصر نوحاً على الله عَزَّ وَجَلَّ لحظة الحساب، فهناك يوم لا ملك فيه لأحد إلا لله، ولا أحد يشفع إلا بإذنه سبحانه، ولا أحد بقادر على أن ينصر أحداً على الله تعالى؛ لأنه القاهر فوق كل خلقه، والنصر كما نعلم يكون بالغلبة، أما الشفاعة فهي بالخضوع، والحق سبحانه لا يأذن لأحد أن يشفع في طرد مؤمن من حظيرة الإيمان. وفي هذا القول تذكير من نوح عليه السلام لقومه؛ ولذلك قال الحق سبحانه: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [هود: 30] أي: يجب ألاَّ تأخذكم الغفلة، وتُنسيكم ما يجب أن تتذكروه. وكما جاء الحق سبحانه بالتذكُّر، وهو الأمر الذي بدوامه يبعد الإنسان الغفلة، جاء الحق سبحانه أيضاً بالتفكُّر، وهو التأمل لاستنباط شيء جديد عن طريق إعمال العقل بالتفكر، الذي يجعل الإنسان في تأمل يقوده إلى تقديس وتنزيه الخالق، وبهذا يصل الإنسان إلى الحقائق التي تكشف له معالم الطريق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6444 وجاء الحق سبحانه أيضاً بالتدبر، أي: ألا يأخذ الإنسان الأمور بظواهرها، أو أن ينخدع بتلك الظواهر، بل لا بد من البحث في حقائق الأشياء. لذلك يقول الحق جَلَّ وعَلاَ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} [النساء: 82] . أي: أفلا يبحثون عن الكنوز الموجودة في المعطيات الخلفية للقرآن. والتدبر هو الذي يكشف المعاني الخفية خلف ظواهر الآيات، والناس يتفاضلون في تعرضهم لأسرار كتاب الله حين ينظرون خلف ظواهر المعاني. ولذلك نجد عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول: «ثَوِّروا القرآن» أي: قَلِّبوا معاني الآيات لتجدوا ما فيها من كنوز، ولا تأخذوا الآيات بظواهرها، فعجائب القرآن لا تنقضي. ويقول الحق سبحانه وتعالى مواصلاً ما جاء على لسان سيدنا نوح: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6445 {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6446 وهكذا يَسُدُّ نوح عليه السلام على هذا الملأ الكافر كل أسباب إعراضهم عن الإيمان، فإن ظنوا أن الإيمان يتطلب ثراءً، فنوح لا يملك خزائن لله، وهو لا يملك أكثر من هذا الملأ، وإن طلبوا أن يكشف لهم الغيب، فالغيب علمه عند الله تعالى وحده. ولم يَدَّعِ نوح أنه من جنس آخر غير البشر، إنما هو بشر مثلهم، لا يملك ما يجبرهم به على الطاعة، ثراءً، أو جاهاً، أو علم غيب. ولن يطرد نوح عليه السلام مَنْ آمن مِنَ الضِّعاف الذين تزدريهم وتحتقرهم وتتهكَّم عليهم عيون هذا الملأ الكافر؛ لأن نوحاً يخشى سؤال الله عَزَّ وجَلَّ له إن سَدَّ في وجوه الضعاف أبواب الإيمان. ولا بد من وقفة هنا عند قول الحق سبحانه: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً} [هود: 31] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6446 ونلحظ هنا أن الخطاب قد حُوِّل إلى الغَيبة، فلم يخاطب نوح عليه السلام الضعاف ويقول لهم: إن الله سيمنع عنكم الخير، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو العليم بما في نفوسهم، ولو قال نوح لهم مثل هذا القول لكان من الظالمين. واللام في كلمة {لِلَّذِينَ} تعني الحديث عن الضعاف، لا حديثاً إلى الضعاف. ومجيء «اللام» بمعنى «عن» له نظائر، مثل قول الحق سبحانه: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [سبأ: 43] . وهم هنا لا يقولون للحق، ولكنهم يقولون عن الحق، وهكذا جاءت «اللام» بمعنى «عن» . وهكذا أوضح نوح عليه السلام أنه لو طرد من يقال عنهم «أراذل» ، لكان معنى ذلك أنه يعلم النوايا، ونوح عليه السلام يعلم يقيناً أن الله هو الأعلم بما في النفوس؛ لذلك لا يضع نوح نفسه في موضع الظلم لا لنفسه ولا لغيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6447 يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6448 والجدال هو قول كلام يقابل كلاماً آخر، والقصد عند كل طرف متكلم أن يزحزح الطرف الآخر عن مذهبه بحجة أو بشبهة، بهدف إسقاط المذهب. إذن: فالجدال هو مناقشة طرفين، يتقاسمان الكلام بهدف أن يقنع أحدهما الآخر بأن ينصرف عن مذهبه هو إلى مذهب القائل. وكلمة «الجدال» مأخوذة من «الجَدْل» أي: الفَتْل، وفتل الحبل إنما يأتي من أخذ شعرات من الكتان أو الحرير أو أي مادة مثل هذا أو ذاك، ثم ضَمِّ شعرتين إلى بعضهما، ثم القيام بِلَفِّ كل شعرتين أخريين، وهكذا حتى يتم اكتمال الحبل. ويقال للرجل القوي: «مفتول العضلات» ، أي: أن عضلاته ليست رخوة أو ضعيفة، بل مفتولة، أي: متداخلة ومشدودة. وحين تنظر إلى الجهاز العضلي فأنت تندهش لقدرة الحق سبحانه وتعالى الذي خلق كل عضلة بشكل وأسلوب معين، يتيح لها أن تتآزر وتتعاون مع غيرها من العضلات لأداء الحركات المطلوبة منها. فحين يرفع الإنسان رأسه فهو يحتاج لحركة أكثر من عضلة، وحين تعمل اليد فهي تحرك أكثر من عضلة، ولو تعطلت حركة عضلة واحدة، لامتنعت الحركة المقابلة لها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6448 وهم قد قالوا لنوح عليه السلام: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] . ونحن نعلم أن نوحاً عليه السلام عاش ألف عام إلا خمسين عاماً، ومعنى ذلك أن جداله معهم أخذ وقتاً طويلاً. والجدال يختلف عن المِرَاء، لأن الجدال إنما يكون لحقٍّ، والمراء، يكون بعد ظهور الحق. الجدال إذن مطلوب، والحق سبحانه هو القائل: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] . وكذلك يقول سبحانه وتعالى: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله} [المجادلة: 1] . إذن: فالجدال مطلوب لنصل إلى الحق، شرط أن يكون جدلاً حسناً، لا احتكاك فيه ولا إيذاء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6449 وهناك فارق بين احتكاك الآراء، وتحكُّك الآراء، فالتحكك كالتلكَّك، وهو الرغبة في عدم الوصول إلى الحق، لكن الاحتكاك هو الذي يوصل إلى الحق، مثلما نحكُّ الزناد بقطعة من حديد فتولد الشرر لنرى الحق، أما التحكُّك فهو يواري ويطمس الحقيقة. والمِرَاء هو الجدَال بعد أن يظهر الحق، وهو مأخوذ من مَرَى الضَّرع، فحينَ يقومون بإنزال اللبن من ضرع الناقة أو البقرة، فالضرع يكون ملآن، وينزل منه اللبن بشدة وقوة، وبعد أن ينتهي حَلْبُ الضرع، يظل مَنْ يحلبها مُمْسِكاً بحَلَمات الناقة أو الجاموسة، ويستحلب ما بقى من اللبن، ويُقال لهذا الجزء الأخير «المريى» . ولذلك أخذوا من هذه العملية كلمة «المراء» ، وهو ما بعد ظهور الحق. وهناك بجانب الجدال والمراء، والاحتكاك، والتحكُّك، والحِجَاج؛ والمراد بالحجاج هو إظهار حجة الخصم على الخصم. وبعد أن مَلُّوا من جدال نوح عليه السلام طلبوا أن ينزل بهم العذاب الذي أنذرهم به، وقد استبطأوا مجيء هذا العذاب؛ لأن نوحاً عليه السلام عاش بينهم ألف سنة إلا خمسين، وقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [هود: 32] . وكأنهم بهذا القول قد أخرجوا نوحاً مَخْرج من بيده أن يأتي بالعذاب، أو يمنع العذاب، وهذه مسألة لا يملكها نوح، بل هي مِلْك لله سبحانه وتعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6450 ولذلك يُنبههم نوح عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6451 لأن الحق سبحانه هو الذي يقدِّر للعذاب أواناً، ويقدِّر لكل تعذيب ميلاداً، ولا يَعْجَلُ الله بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. وهم لن يعجزوا الله تعالى ولن يفلتوا منه؛ لأنه لا توجد قوة في الكون يمكن أن تمنع مشيئة الله تعالى، أو أن تتأبَّى عليه. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان نوح عليه السلام: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمَْ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6451 والمعنى هنا: إن كان الله سبحانه يريد أن يغويكم فلن تنتفعوا بالنصيحة إن أردت أن أنصحكم؛ لأن الآية بها تعدُّد الشرطين. ومثال ذلك من حياتنا: حين يطرد ناظر المدرسة طالباً، عقاباً له على خطأ معين، فالطالب قد يستعطف الناظر، فيقول الناظر: «إن جئتني غداً أقبل اعتذارك إنْ كان معك والدك» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6451 وقول الناظر: «إن كان معك والدك» هو شرط متأخِّر، ولكنه كان يجب أن يتقدَّم. وفي الآية الكريمة التي نحن بصددها جاء الشرط الأول متأخِّراً، ولكن هل يغوي الله سبحانه عِبادَه؟ لا، إنه سبحانه يهديهم، والغواية هي الضلال والبعد عن الطريق المستقيم. والحق سبحانه يقول عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى} [النجم: 2] . وقال سبحانه عن آدم عليه السلام حين أكل من الشجرة: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] . ونحن يجب ألاَّ نقع في الآفة التي يخطىء البعض بها، حين يستقبلون ألفاظ العقائد على أساس ما اشتهر به اللفظ من معنى؛ فالألفاظ لها معانٍ متعددة. لذلك لا بد أن نعرض كل معاني اللفظ لنأخذ اللفظ المناسب للسِّياق. ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6452 وقوله سبحانه هنا: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} . أي: سوف يلقون عذاباً، لأن غَيَّهم كان سبباً في تعذيبهم، فسمَّى العذاب باسم مُسبِّبه. ومثل قول الحق سبحانه: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] . والحق سبحانه لا يُسيء لعباده، ولكنهم هم الذين يُسيئون لأنفسهم، فسمَّى ما يلقاهم من العذاب سيئةً. وكذلك «الغَيُّ» يرد بمعنى «الإغواء» ، ويرد بمعنى الأثر الذي يترتب عن الغي من العذاب. وقد عرض الحق سبحانه وتعالى في كتابه صوراً متعددة للإغواء، فآدم عليه السلام حين تَنكَّبَ عن الطريق، وأكل من الشجرة المحرَّمة رغم تحذير الحق سبحانه له ألاّ يقربها، قال الحق سبحانه وتعالى في هذا الموقف: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] . وقد فعل آدم عليه السلام ذلك بحكم طبيعته البشرية، فأراد الله تعالى أن يعلمه أنه إذا خالف المنهج في «افعل» و «لا تفعل» ستظهر عورته وتبدو له سوءاته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6453 وهكذا أخذ آدم عليه السلام التجربة ليكون مُستعِداً لاستقبال المنهج والوَحْي. وقد ذكر لنا الحق سبحانه كلمات الشيطان بقوله: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] . ولكن هل أغوى الله سبحانه الشيطان؟ إن الحق سبحانه لا يُغْوِي، ولكنه يترك الخيار للمكلَّف إن شاء أطاع، وإن شاء عَصَى. ولو أنه سبحانه وتعالى جعلنا مؤمنين لما كان لنا اختيار، فإن أطاع الإنسان نال عطاء الله، وإن ضَلَّ، فقد جعل الله له الاختيار، ووَجَّهه لغير المراد مع صلاحيته للمراد. إذن: فالاختيار ليس مقصوراً على الإغواء بل فيه الهداية أيضاً، والإنسان قادر على أن يهتدي، وقادر على أن يضلَّ. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6454 {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6455 جاء هذا القول في صُلْب قصة نوح عليه السلام وقد يكون مما أوحى به الله سبحانه لنوح عليه السلام، أو يكون المراد به أنهم قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الكلام. والافتراء كما نعلم هو الكذب المتعمِّد الذي يناقض واقعاً. وانظروا إلى كل ما جاء بالمنهج ليلتزم به الفرد، ستجدون أنه مُلْزِمٌ للجميع، وستكون الفائدة التي تعود عليك بالتزام الجميع بما فيهم أنت فائدة كبيرة، فإن قال لك المنهج: لا تسرقْ؛ فهذا أمانٌ لك من أن يسرقك الناس. ولذلك فساعة تسمع للمنهج، لا تنظرْ إلى المأخوذ منك، بل التفتْ إلى المأخوذ لك. وعلى ذلك لا يمكن أن يكون المنهج افتراء. ونحن نعلم أن المنهج يؤسِّس في المجتمعات مقاييس عادلة للاستقامة، وحين يُشَرِّع الحق سبحانه تشريعاً، قد يبدو لك أنه يُحِدُّ من حريتك، ولكنه في الواقع يُحقِّق لك منافع متعدِّدة، ويحميك من أن يعتدي الآخرين عليك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6455 وكان الردُّ على الاتهام بالافتراء يتمثَّل في أمرين: إما أن يفتروا مثله، أو أن يتحمَّل هو وِزْرُ إجرام الافتراء. وإن لم يكن قد افتراه، فعليهم يقع وِزْرُ إجرامهم باتِّهامه أنه قد افترى. وأسلوب الآية الكريمة يحذف عنهم البراءة في الشطر الأول منها، ولو جاء بالقول دون احتباك، لقال سبحانه: قل إن افتريته فعليَّ إجرامي وأنتم براءه منه، وإنْ لم أفْتَرِ فعليكم إجرامكم وأنا برىء. وجاء الحذف من شِقِّ المقابل من شِقِّ آخر، وهذا ما يسمَّى في اللغة «الاحتباك» . والحق سبحانه وتعالى يقول: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] . والفئة القليلة تكون قلَّتُها في الأفراد والعَتَاد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة الكثيرة، تظهر كثرَتها في العُدَّة والعَدَد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة القليلة إنما تَغْلِب بإذن الله تعالى. وهكذا يوضِّح الحق سبحانه أن الأسباب تقضي بغلبة الفئة الكثيرة، لكن مشيئته سبحانه تغلب الأسباب وتصل إلى ما شاءه الله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6456 ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] . وحذف سبحانه صفة الإيمان عن الفئة الأولى، كما حذف عن الفئة الثانية صفة أنها تقاتل في سبيل الطاغوت والشيطان، وهذا يسمَّى «الاحتباك» . وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه: {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35] . ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء أن يبين لنا قول رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين خاطب قومه، فقال سبحانه: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] . فلم يَقُلْ: «عَمَّا تُجرمون» . فلم يقابل إيذاءهم القوليَّ والمادِّيَّ له بإيذاء قوليٍّ. وكذلك ذكر الحق سبحانه ما جاء على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] . وهذا ارتقاء في الجدل يناسب رحمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التي أنزلها الله على العالم كله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6457 وبعد ألف عام إلا خمسين من جدال نوح عليه السلام لقومه، قال له الحق سبحانه وتعالى: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6458 ومجيء «إلا» هنا ليس للاستثناء، ولكنها اسم بمعنى «غير» أي: لن يؤمن من قومك غير الذي آمن. ولهذا نظير في قمة العقائد حين قال الحق سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . و «إلا» هنا أيضاً بمعنى «غير» ، ولو كانت «إلا» بمعنى الاستثناء لعنى ذلك أن الله سبحانه معاذ الله سيكون ضمن آلهة آخرين، لذلك لا يصلح هنا أن تكون «إلا» للاستثناء، بل هي بمعنى «غير» ، وتفيد معنى الوحدانية لله عَزَّ وجَلَّ وتَفرُّده بالألوهية. والآية التي نتناولها بخواطرنا تؤكد أنه لا يوجد غير من آمن بنوح عليه السلام من قومه، سوف يؤمن؛ فقد ختم الله المسألة. وهذا يعطينا تبريراً لاجتراء نوح عليه السلام على الدعاء على الذين لم يؤمنوا من قومه بقوله: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6458 {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26 27] . وكان تبرير ذلك أنه عليه السلام قد دعاهم إلى الإيمان زماناً طويلاً فلم يستجيبوا، وأوحى له الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، وقال له سبحانه: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [هود: 36] . والابتئاس هو الحزن المحبط، وهم قد كفروا وليس بعد الكفر ذنب. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6459 وهكذا علم نوح بمسألة الإغراق من خلال الوحي له بصنع السفينة. ومعنى «أصنع» أي: اعمل الصنعة، وهناك فرق بين الصنعة والحرفة، فالصنعة أنْ تُوجِدَ معدوماً، كصانع الأكواب، أو صانع الأحذية، أو صانع النَّجَفَ، أو صانع الكراسي، أما الذي يقوم على صيانة الصنعة فهو الحرفيُّ. وهناك عملية أخرى للاستنباطات مثل مهنة الزارع الذي يحرث الأرض ويبذر فيها الحَبَّ ويرويها ليستنبط منها النباتات، ويسمَّى صاحب هذه المهنة «زارع» أو «فلاَّح» ؛ لأن اقتيات الحياة المباشر يأتي من الزراعة. أما الصانع فيأتي بشيء من متطلبات الحياة، في تطورها ويوجد آلةً أو يصنع جهازاً لم يكن موجوداً، والحرفيُّ هو الذي يصون تلك الآلة، أما التاجر فهو الذي يقوم بعمليةٍ تجمع كل ذلك، ويكون هو الوسيلة بين منتج الشيء والمستهلك، فالتاجر يكون لعرض الأشياء بغية البيع والشراء. والحق سبحانه وتعالى يقول هنا لنوح عليه السلام: {واصنع الفلك} [هود: 37] . أي: أوجد شيئاً من عدم، إلا أن هذا الشيء سيصنع من شيء آخر موجود، لأن نوحاً عليه السلام قد زرع من قبل شجرة وعاشت معه كل هذه المدة الطويلة، وتضخَّمت في الجذع والفروع. وبدأ نوح عليه السلام في عملية شقِّ الشجرة ليصنع منها السفينة التي بلغ طولها كما قيل ثلاثمائة ذراع وبلغ عرضها خمسين ذراعاً، وبلغ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6460 ارتفاعها ثلاثين ذراعاً ومكوَّنة من ثلاثة أدوار لتسع المؤمنين، وزوجين من كل نوع من حيوانات الأرض ودوابِّها وهوامها وسباعها ووحوشها. ونحن قد علمنا أن الشجرة التي زرعها نوح عليه السلام قد تضخَّمت جداً لطول المدَّة التي قضاها نوح في دعوته لقومه؛ ونعلم أيضاً أن جذع الشجرة ينمو دائرياً بمقدار دائرة كل عام. وحين نقطع جذع الشجرة نجد أن قطر الجذع مكوَّن من دوائر، وكل دائرة تمثِّل عاماً من عمرها. وهكذا بلغ حجم الشجرة ما يساعد نوحاً عليه السلام على أن يصنع السفينة. وقد علَّمه الحق سبحانه بالوحي وإلهام الخواطر كيف يصنع السفينة، ألمْ يُلهِم الله سبحانه نبيِّه داود عليه السلام في مسألة الحديد؟ وقال لنا سبحانه أنه جلَّ وعَلا قد أمر الجبال أو تُؤَوِّب معه، وكذلك الطير، فألان له الحديد دون نار: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} [سبأ: 1011] . هكذا أخبرنا الحق سبحانه أن الحديد صار ليِّنًا دون نار بإذنه سبحانه ليصنع منه داود دروعاً كبير مستوفية للظهور والصدر، لتحمي معاطب الإنسان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6461 وقد أوحى الحق سبحانه لداود عليه السلام أن يصنع تلك الدروع بطريقة عجيبة، بأن يجعلها سابغات. والسابغة هي المسرودة، مثل الحصير، حيث يُوضع العُود بجانب العود، ويربط الأعواد كلها بطريقة تسهل من فَرْد الحصير أو لَفِّه. وفي نفس الآية يبيِّن لنا الحق سبحانه كيفية الوحي لداود عليه السلام بتلك الصناعة الدقيقة، فيقول سبحانه: {وَقَدِّرْ فِي السرد} [سبأ: 11] . أي: أنك يا داود حين تنسج الحديد الليِّن بإذن الله تعالى لتجعله دروعاً عليك أن تصنع تلك الدروع بتقدير دقيق كي لا تكون الدِّرع ضيِّقة على صدر المقاتل فتضيق حركته، وتقلِّل من قدرته على التنفس، فيلهث بسرعة، ولا يستطيع مواصلة القتال. وكذلك يجب ألاَّ تكون الدِّرع واسعة على صدر المقاتل؛ حتى لا تساعد سعة الدِّرع سيف الخصم، فيضرب الدِّرع نفسه صدر المقاتل، وتكون قوة الدِّرع مضافة إلى قوة سيف الخصم، ولكن حين تكون الدِّرع قادرة على الإحاطة بالجسم دون أن يُكبِّل الحركة، فهذه الدِّرع المناسبة للقتال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6462 وقد أتقن داود عليه السلام صناعة تلك الدُّروع بتلك الهندسة الدقيقة التي أوحى الحق سبحانه بها إليه، فقد صنعها بأمر الحق الأعلى سبحانه حين قال له: {وَقَدِّرْ} [سبأ: 11] وكلمة قدر تعطي معنى التقدير والإتقان. فعلى الذين يصنعون الأشياء عليهم أن يعلموا أن القرآن الكريم لحظة يوجِّه إلى الإتقان في الأداء والعمل، فإنه يعلمنا طريقة التقدير والإتقان في العمل والإبداع فيه، لتتخذ من هذا التوجيه نبراساً نسير عليه؛ ليكون العمل صالحاً، وأنت ترى من يتقن صنعته وهو يقول: «الله» ، وكأن هذا القول اعتراف الفطرة الأولى بقدرة الحق سبحانه على أن يَهَبَ الإنسانَ طاقة الإتقان والإبداع. ويقول الحق سبحانه أيضاً في تعليمه لداود عليه السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} [الأنبياء: 80] . وهكذا يلقي الله تعالى الخاطر في قلب الرسول أو النبي أن «افعل كذا» ؛ فيفعل. وحين ننظر إلى حضارة مصر القديمة، نجد كلَّ علومها وفنونها في التحنيط والألوان والنَّحت، كانت من اختصاص الكهنة الذين يُمثِّلون السلطة الدينية، ولم يكتب هؤلاء الكهنة أسرار تلك العلوم، فلم يستطع أحد من المعاصرين أن يتعرف عليها. وهكذا نجد أن كل أمر في أصوله؛ مصدره السماء. وفي قصة نوح عليه السلام نجد الحق سبحانه يقول: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6463 {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 37] . ومعنى «بأعيننا» هو بحفظنا وبرعايتنا. وكلمة «بأعيننا» تفيد شمول الحفظ وكمال الرعاية. ألم يقل الحق سبحانه في مسألة تخصُّ رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ {واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] . وكذلك قال سبحانه في قصة سيدنا موسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] . وأنقذ الحق سبحانه موسى عليه السلام من الفرعون الذي كان يقتل أطفال بني إسرائيل، وألقى الله تعالى المحبة لموسى في قلب زوجة الفرعون، وقال سبحانه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39] . لأن موسى عليه السلام حين كان طفلاً رضيعاً قد ألقىَ في اليَمِّ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6464 والتقطه رجال الفرعون، لكن زوجة الفرعون قالت لزوجها طالبة لموسى الحياة: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} [القصص: 9] . ونحن نجد أن عَدُوَّ موسى وقومه، يلتقط موسى ليعيش في كنفه ورعايته، وكأن الله سبحانه يقول لهم: سأجعلكم تُربُّون مَنْ يتولّى قهركم. وقول الحق سبحانه: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] . أي: إنك إن توقَّفتَ لأية عقبة، فسوف نُلهمك بما تُواجه به تلك العقبة. وحين صنع نوح عليه السلام الفُلْك احتاج لألواح خشبية، ولا بد أن تتماسك تلك الألواح، ولم تكن مسامير قد اختُرعتْ بَعْدُ، فأوحى له الله تعالى أن يربط الألواح بالحبال المجدولة، وقد فعل هذا أحد مكتشفي أمريكا في العصر الحديث، حين صنع سفينة من نبات البَرْدِى وربطها بالحبال المجدولة القوية. وقال الحق سبحانه في طريقة صنع سفينة نوح عليه السلام: {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6465 أي: أن نوحاً عليه السلام قد أحضر من الخشب وربطها بحبال مجدولة، وأحْكَمَ الرَّبط بقدر مقتدر بما لا يسمح بتسرب الماء إلى داخل السفينة. مثلما تصنع البراميل الخشبية في عصرنا، حيث يصنعها الصانع من قطع خشبية مستطيلة، ويرتّبها ثم يُحْكم رَبْطَها بإطار قويٍّ، وحين يوضع فيها أي سائل، فالخشب يتشرَّب من هذا السائل ويتمدَّد ليسدَّ المسَام، فلا ينضح السائل من البرميل؛ لأن الخشب هو المادة الوحيدة التي تتمدّد بالبرودة على العكس من كل المواد التي تتمدّد بالحرارة. ولذلك نجد النَّجَّار الحاذق في صنعته هو مَنْ يصنع الأثاث أو الأبواب أو الشبابيك في الفصول الرتيبة؛ لأنه إن صنعها في الصيف، سنجد الخشب وهو منكمش؛ فإذا ما جاء الشتاء تمدَّد ذلك الخشب وسبَّب عدم إحكام إغلاق الأبواب والنوافذ، وكذلك إن صنعها في الشتاء والخشب متمدِّد سيأتي الصيف وتنكمش الأبواب، وتكون لها متاعبها، فلا يسهل ضبط إغلاق الأبواب أو ضبط أي صندوق أو شبَّاك بإحكام. ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 37] . أي: لا تحدِّثني في أمر المغفرة لمن ظلموا أنفسهم بالكفر، وهم مَن ارتكبوا الظلم العظيم، وهو الكفر في القمة العقدية، وهي الإيمان بالله تعالى واحداً أحداً لا شريك له؛ لذلك استحقوا العقاب، وهو الإغراق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6466 وهكذا عَلِمَ نوح عليه السلام أنَّ صُنْعِ السفينة مرتبط بلون العقاب الذي سيقع على مَنْ كفروا برسالته، فهو ومَنْ آمنوا معه سوف ينجون، أما مَنْ كفر فلسوف يغرق. ويبيِّن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6467 وكان السادة والكبراء من ملأ نوح يمرون عليه وهو يصنع السفينة يسخرون منه، بما يعني: ها هو بعد أن ادَّعى النبوة يتحوَّل إلى نجَّار، ثم يتساءلون: كيف تصل هذه السفينة من «الموصل» إلى البحر؟ ولم يكونوا قد علموا ما علمه نوح عليه السلام من أن الماء هو الذي سوف يأتي ليحمل السفينة. ونحن نلحظ في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَيَصْنَعُ الفلك} [هود: 38] . تنفيذ الأمر الذي صدر من الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام حين قال سبحانه: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 37] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6467 ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6468 ونلحظ في قول الحق سبحانه: {فَسَوْفَ} {تَعْلَمُونَ} أن الفعل الذي يعلمه نوح عليه السلام وهو أمر الإغراق سيحدث مستقبلاً؛ لأن أي حدث كما نعلم له أكثر من صورة، فإن جاء الكلام عن الحدث بعد وقوعه؛ كان الفعل ماضياً، وإن جاء الكلام وقت الحدث كان الفعل مضارعاً. وإن جاء الكلام عن حدث لم يأت زمنه فالأمر يقتضي أن نسبق الكلام عن الحدث بحرف «السين» كأن نقول: «سيعلمون» وهذا عن الاستقبال القريب، أما عن الاستقبال البعيد فتأتي كلمة «سوف» . ونحن نعلم أن نوحاً عليه السلام قضى العديد من السنين وهو يصنع السفينة؛ ولذلك جاء ب «سوف» لتدل على أوسع مَدًى زمنيٍّ. وما الذي سوف يعلمونه؟ إن العذاب، أيأتي لنوح ومن معه أم يأتي للذين كفروا من ملأ نوح. لذلك يقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} [هود: 39] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6468 وفي هذا القول ما يؤكِّد أن نوحاً عليه السلام يعلم أن العذاب سوف يأتيهم؛ لأنهم كفروا وسَخِروا وقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [هود: 32] . وقول الحق سبحانه: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} هود: 39] . نجد فيه كلمة {يَحِلُّ} وهي ضِدُّ الرحيل، وتفيد النزول من أعلى إلى مكان الإقامة، فَحَلَّ بالمكان، أي: نزلَ ليقيم به، والضِّدُّ هو الرحيل أو الترحال. وقول الحق سبحانه: {مُّقِيمٌ} يعني أن العذاب الذي سيحِلُّ بهم عذاب دائم. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6469 وكلمة {حتى} تدل على الغاية وكلمة {أَمْرُنَا} تدل على الطوفان، ثم الأمر من الحق سبحانه بأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، ومَنْ آمن معه وكانوا قِلَّة قليلة. إذن: ففي قصة نوح عليه السلام أكثر من مرحلة، أمر من الله تعالى بقوله: {واصنع الفلك} [هود: 37] . وعمل من نوح عليه السلام بأن يصنع، وقد استغرق هذا الفعل وقتاً طويلاً من نوح عليه السلام إلى أن جاء أمر الطوفان الذي يدل عليه قول الحق سبحانه: {وَفَارَ التنور} [هود: 40] . ومعنى كلمة {فَارَ} أي: أن الماء قد وصل إلى درجة الغليان. فالماء يحتوي على هواء بدليل أن السمك يتنفس من الماء، وحين نغلي الماء نرى فقاقيع الهواء وهي تخرج من الماء، ثم يثقل الماء إلى أن تشتد سخونة الغليان، فيفور الماء منثوراً خارج إناء الغليان. و «التنور» هو المكان الذي تتم فيه عملية الخبز، وخروج الماء من التنور هو علامة مميزة يعلمها نوح عليه السلام ليحمل من يريد نجاتهم، من المؤمنين، ومن متاع الدنيا كله. وكانت العلامة هي خروج الماء من غير مَظَانِّه وهو التنور. واختلف العلماء في تفسير كلمة «التنور» فمنهم من قال: إن التنور هو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6470 المكان الذي كان آدم عليه السلام يخبز فيه، أو هو المكان الذي كانت تعمل فيه حواء، أو هو بيت نوح، أو هو بيت سيدة عجوز. وكل تلك التفسيرات لا تفيد ولا تضرُّ، المهم أن فوران التنور كان علامة بين نوح عليه السلام وربه، وأنه إذا ما فار التنور فعَلَى نوح أن يحمل من كل زوجين اثنين. وقول الحق سبحانه: {احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} [هود: 40] . تعني: أن يحمل من كل الكائنات، وتدل على ذلك كلمة {كُلٍّ} المنونة وتفيد التعميم أي: احمل في السفينة من كل شيء، تطلبه حياة الناجين من جميع أصناف النباتات والحيوانات، حتى الخنزير كان ضمن ما حمله نوح عليه السلام. والذين يقولون إن تحريم الخنزير جاء؛ لأن نوحاً عليه السلام لم يحمله معه، لم يفطنوا إلى أهمية الخنزير كحيوان يأكل القاذورات وينظف الأرض منها؛ لأن كل كائن له مهمة، وليست مهمة الكائنات فقط أن يأكلها الإنسان. وكلمة: {زَوْجَيْنِ اثنين} [هود: 40] . تدل على أن كلمة «زَوْجٍ» هي مفرد؛ بدليل قول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6471 {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] . إذن: كلمة «زَوْجٍ» تعني مفرد معه مثله، كزوج من الأحذية مثلاً. أقول ذلك حتى لا نأخذ كلمة «الزوج» على أنها اثنان؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في آية أخرى. {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 143144] . وحين نجمع العدد سنجده ثمانية، ولو كانت كلمة «زوج» تطلق على الاثنين لصار العدد في تلك الآية الكريمة ستة عشر. ويوضِّح القرآن الكريم أن كلمة «زوج» مفرد في قول الحق سبحانه: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 3739] . إذن: فالذكر زوج، والأنثى زوج أيضاً. وواصل نوح عليه السلام تنفيذ أمر الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6472 {احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] . وهكذا شاء الحق سبحانه أن يستبقي الحياة بنجاة كل ما تحتاجه الحياة بالسفينة، ويقال: إنهم عاشوا في تلك السفينة عامين. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6473 هذه هي المرحلة الأخيرة في قصة السفينة، وبدأت القصة بأمر من الله سبحانه لنوح عليه السلام أن اصنع الفلك، ثم تمهيد من نوح لقومه، ثم ظل يصنع الفلك حتى جاءت إشارة البدء بعلامة: {وَفَارَ التنور} [هود: 40] وحَمَلَ نوح عليه السلام في الفُلْك بأمر من الله تعالى من كل شيء زوجين اثنين، وأهله ومَنْ آمن معه. وقال نوح عليه السلام لمن آمن: {اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6473 وهذا القول منسوب لنوح عليه السلام؛ لأنه أضاف: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41] . والركوب يقتضي أن يكون الراكب على المركوب، ومستعلٍ عليه. والاستعلاء يقتضي أن يكون الشيء المُستعلَى عليه في خدمة المُستعلِي، فكأن تسخير الله سبحانه للسفينة إنما جاء ليخدم المستعلِي. ولكن الله تعالى يقول هنا: {اركبوا فِيهَا} [هود: 41] . ولم يقل: «اركبوا عليها» . قال الحق سبحانه وتعالى ذلك؛ ليعطينا لقطة عن طريق صنع السفينة، فقد صنعها نوح عليه السلام بوحي من الله تعالى على أفضل نظام في البواخر، ولم يصنعها بطريقة بدائية، فهم إذن لم يركبوها على سطحها، بل تم بناؤها بما يتيح لهم السكن فيها، خصوصاً وأن تلك السفينة تحمل وحوشاً وهواماً وحيوانات بجانب البشر، لذلك كان لا بد من بنائها على هيئة طبقات وأدوار. وقول الحق سبحانه: {بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] . يُبيِّن لنا أنها قد صُنعت لتُنجي من الغرق؛ لذلك لا بد أن تسير بالراكبين فيها إلى مكان لا يصله الماء، ولا بد أن يكون هذا المكان عالياً؛ ليتيح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6474 الرُّسُوَّ، كما أتاح الفيضان عملية الجريان. وهكذا كان جريانها باسم الله، ورُسُوُّها بإذنه سبحانه. وقول نوح عليه السلام: {بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] . يعلِّمنا أن جريانها إنما يتمُّ بمشيئة الله تعالى وأنهم يركبون فيها، لا لمكانتهم الشخصية، ولكن لإيمانهم بالله تعالى. ومثال ذلك من حياتنا ولله المثل الأعلى: نجد القاضي يقول مفتتحاً الحكم: «باسم الدستور والقانون» أي: أنه لا يحكم بذاته كقاضٍ، لكنه يحكم باسم الدستور والقانون. ونوح عليه السلام يقول: {بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] لأن السفينة لله أمر، ولرسوله صناعة. ولذلك يقال: «كل شيء لا يبدأ باسم الله فهو أبْتر» . لأنك حين تُقبل على فعل شيء، فالأفعال أو الأحداث تحتاج إلى طاقات متعددة، فإن كان الفعل عضليّا، فهو يحتاج لقوة، وإن كان الفعل عقليّا فهو يحتاج لفكر ورويَّة وأناة، وإن كان فعلاً فيه مواجهة لأهل الجاه فهو يحتاج إلى شجاعة، وإن كان من أجل تصفية نفوس فهو يحتاج إلى الحِلْم؟ إذن: فاحتياجات الأحداث كثيرة ومختلفة، ومن أجل أن تحصل على القوة فقد تقول: «باسم القوي القادر» ولكي تحصل على علم؛ تقول: «باسم العليم» ، وتريد الغني؛ فتقول: «باسم الغنيِّ» وحين تحتاج إلى الحلم تقول: «باسم الحليم» ، وعندما تحتاج إلى الشجاعة؛ تقول: «باسم القهار» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6475 وقد يحتاج الفعل الواحد لأشياء كثيرة، والذي يُغْنِي عن كل ذلك أن تنادي ربك وتتبرَّك باسم واجد الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، ففيه تنطوي كل صفات الكمال والجلال. وإياك أن تتهيَّب أو تستحي، بل ادخل على كل أمر باسم الله، حتى لو كنت عاصياً؛ لأن الحق سبحانه رحمن رحيم. وقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41] . إنما يقصد أن هؤلاء المؤمنين برسالة نوح كانوا من البشر، ولم يطبِّقوا كغالبية البشر كل التكاليف؛ لأنهم ليسوا ملائكة. لذلك قَدَّر الحق سبحانه وتعالى إيمانهم وعفا عن بعض الذنوب التي ارتكبوها ولم يؤاخذهم بها. هذه هي الميزة في قول: «بسم الله الرحمن الرحيم» . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك يَصفُ السفينة ورُكَّابها: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6476 وجرت بهم السفينة، لا بين موج هائج فحسب، ولكن كان الموج كالجبال، وهذا يدل على أنها مُسيَّرة بقوة عالية لا تؤثر فيها الأمواج، ثم يجيء الحديث عن عاطفة الأبوة حين ينادي نوح ابنه: {ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} [نوح: 42] . ورفض الابن مطلب أبيه معتمداً على أن الجبل يحميه. وفي هذا يقول الحق سبحانه مبيناً مُراد الابن في مُخالفة مراد أبيه: {قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6477 هكذا ظن ابن نوح أنه سينجو إن آوى إلى جبل، لعل ارتفاع الجبل يعصمه من الغرق، لكن نوحاً عليه السلام يعلم أن لا نجاة لكافر، بل النجاة فقط هي لمن رَحِمَهُ اللَّهُ بالإيمان. وهكذا فرَّق الموج بين نوح وابنه؛ وغرق الابن. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6477 وأراد الحق سبحانه أن يُنهى الكلام عن نوح عليه السلام، فجاء بلقطة استواء السفينة على الجودي. ويقال: إن جبل الجودي يوجد في الموصل ويقال: إنه ناحية الكوفة، وإن كان هذا القول مجرد علم لا ينفع، والجهل به لا يضر. ويقول الحق سبحانه: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6478 والبلع هو مرور الشيء من الحَلْق ليسقط في الجوف، وساعة أن يأتي في القرآن أمر من الله تعالى مثل: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ} [هود: 44] . فافهم أن القائل هو من تَنْصَاع له الأرض. ولم يَقُل الله سبحانه: «قال الله يا أرض ابلعي ماءك» ؛ لأن هناك أصلاً متعيّناً وإنْ لم يقُله، والحق سبحانه يريد أن ينمِّي فينا غريزة وفطنة الإيمان؛ لأن أحداً غير الله تعالى ليس بقادر على أن يأمر الأرض بأن تبلع الماء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6478 ويكون أمره سبحانه للسماء: {وياسمآء أَقْلِعِي} أي: أن توقف المطر. وهكذا يُنهي الحق سبحانه الطوفان الذي أغرق الدنيا بأن أوقف المصبَّ، وأعطى الأمر للمصرف أن يسحب الماء. ونحن نلاحظ عند سقوط المطر أن شبكة الصرف الصحيِّ تطفح إن كان هناك ما يسدُّ تصريف الماء؛ لأن أرض المدن حالياً صارت من الأسفلت الذي لا يمتص المياه؛ ولذلك نجد الجهات المختصة تجنِّد طاقاتها لإصلاح مواسير الصرف الصحي لتمتص مياه المطر حتى لا تتعطل حركة الحياة. وأقول هنا: إن حُسن استخدام الماء من حُسن الإيمان؛ لأني ألحظ أن الناس حين يتوضأون فهم يفتحون صنابير الماء بما يزيد كثيراً عن حاجتهم للوضوء الشرعي، فيجب ألا نرتكب إثم ترك الماء النقيِّ ليضيع دون جدوى. وعلى الناس أن يدَّخروا الماء، ولا يُسيئوا استغلاله؛ لأن الماء حين يتوفَّر فهو يُحيي الأموات، ونحن نحتاج الماء لاستزراع الصحاري، ونحتاج لتخفيف العبء على شبكات الصرف الصحيِّ. باختصار؛ نحن نحتاج إلى حُسن استقبال نِعَمِ الله تعالى وحُسن التصرُّف فيها؛ لننعم بها، ونسعد بخيرها. وقول الحق سبحانه: {وياسمآء أَقْلِعِي} [هود: 44] . أي: اتركي المطر. . ومن ذلك أخذنا كلمة «قِلْع» الذي يوضع فوق السفن الشراعية الصغيرة، وهو الشِّراع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6479 ويُقال: «أقلعت المركب» أي: تركت السكون الذي كانت عليه وهي واقفة على الشاطىء. ويقول الحق سبحانه: {وَغِيضَ المآء} [هود: 44] . وبناها الحق سبحانه هنا للمجهول؛ لنعلم أن الله تعالى هو الذي أمر الماء بأن يغيض. ومادة «غاض» تُستعمل لازمةً، وتُستعمل متعديةً. ثم يقول سبحانه: {واستوت عَلَى الجودي} [هود: 44] . أي: استقرت السفينة على جبل الجودي. ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [هود: 44] . وهو بعدٌ نهائيٌّ إلى يوم القيامة. وتتحرك عاطفة الأبوة في نوح عليه السلام، ويظهرها قول الحق سبحانه: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6480 وعاطفة الأبوة عاطفة محمودة، والحق سبحانه يشحن بها قلب الأب على قَدْر حاجة البنوة، ولو لم تكن تلك العاطفة موجودة، لما تحمُّل أيُّ أبٍ أو أيُّ أمٍّ متاعب تربية الأبناء. وحتى نعلم أن الأنبياء لا بنوة لهم إلا بنوة الاتِّباع نجد المثل في إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، حين قال فيه الحق سبحانه: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] . أي: أن أداء إبراهيم عليه السلام للتكاليف كان على وجه التمام، مثلما أراد أن يرفع القواعد من البيت، فرفعها فوق قامته بالاحتيال، فاحضر حجراً ووقف عليه ليُعلي جدار الكعبة. وقال له الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] . لأنك مأمون على منهج الله وقادر على أن تنفِّذه بدقة، فقال إبراهيم عليه السلام: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] . فقال الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6481 {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] . من هذا نعلم أن النبوَّة ليس لها بنوَّة، بل النبوَّة لها أتباع. ويتضح ذلك أيضاً في قول إبراهيم عليه السلام بعد أن استقرَّ في ذهنه قول الحق سبحانه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] . قال إبراهيم لربه سبحانه طلباً للرزق لمكة وأهلها: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 126] . هكذا طلب إبراهيم عليه السلام الرزق للمؤمنين، لكن الحق سبحانه يبيِّن له أنه نقل المسألة إلى غير مكانها؛ فالرزق عطاء ربوبية للمؤمن والكافر، لكن تكليفات الألوهية هي للمؤمن فقط؛ لذلك قال الحق سبحانه: {وَمَن كَفَرَ} [البقرة: 126] . أي: أن الرزق يشمل المؤمن والكافر، عطاء من الربوبية. ونريد أن نقول إنَّ عاطفة الأبوة والأمومة إنما تتناسب مع حاجة الابن تناسباً عكسيّا، فإن كان الابن قوّياً فعاطفة الأبوة والأمومة تقلُّ. ومثال ذلك: أننا نجد شقيقين أحدهما غني قائم بأمر الأبوين ويتكفَّل بهما، بينما الابن الآخر فقير لا يقدر على رعاية الأبوين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6482 وسنلحظ أن قلب الأب والأم يكون مع الفقير، لا مع الغَنيِّ، فعاطفة الأبوة والأمومة تكون مع الضعيف والمريض والغائب، وكلما كان الابن في حاجة؛ كانت العاطفة معه. وفي نداء نوح عليه السلام لربه سبحانه نلحظ أن نوحاً كان يملك المبرِّر طلباً لنجاة الابن؛ لأن الحق سبحانه أمره بأن يحمل في السفينة من كلٍّ زوجين اثنين وكذلك أهله، فأراد نوح عليه السلام أن يطلب النجاة لابنه من أهله، فقال: {رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45] . إذن: فنوح عليه السلام يملك حق الدعاء؛ لأنه يطلب تحقيق وعد الله تعالى بأن يحمل أهله معه للنجاة. وحين يقول نوح: {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} هو إقرار بأن الله سبحانه لا يخطىء؛ لأن الابن قد غرق، بل لا بد أن ذلك الغرق كان لحكمة. ويقول الحق سبحانه: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6483 ويريد الحق سبحانه هنا أن يلفتَ نبيَّه نوحاً إلى أن أهليَّة الأنبياء ليست أهلية الدم واللحم، ولكنها أهلية المنهج والاتِّباع، وإذا قاس نوح عليه السلام ابنه على هذا القانون، فلن يجده ابناً له. ألم يقل نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن سلمان الفارسي: «سلمان منَّا آل البيت» . إذن: فالبنوة بالنسبة للأنبياء هي بنوة اتِّباع، لا بنوة نَسَب. وانظر إلى دقة الأداء في قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] . ثم يأتي سبحانه بالعلة والحيثية لذلك بقوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] . فكأن البنوة هنا عمل، وليست ذاتاً، فالذات منكورة هنا، والمذكور هو العمل، فعمل ابن نوح جعله غير صالح أن يكون ابناً لنوح. وهكذا نجد أن المحكوم عليه في البنوة للأنبياء ليس الدم، وليس الشحم، وليس اللحم، إنما هو الاتِّباع بدليل أن الحق سبحانه وصف ابن نوح بقوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ولو كان عملاً صالحاً لكان ابنه. ويقول الحق سبحانه: {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6484 والحق سبحانه يطلب من نوح هنا أن يفكِّر جيِّداً قبل أن يسأل، فلا غبار على الأنبياء حين يربيِّهم ربُّهم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6485 وهنا يدعو نوح عليه السلام ربه سبحانه وتعالى أن يغفر له ما قاله، وهو هنا يقرُّ بأنه لما أحبَّ أن يسأل نجاة ابنه لم يستطع أن يكتم سؤاله، ولكن الحق سبحانه وتعالى وحده هو القادر على أن يمنع من قبله مثل هذا السؤال، وهذه قمة التسليم لله تعالى. وقول نوح عليه السلام: {إني أَعُوذُ بِكَ} [هود: 47] . يوضِّح لنا أن الإنسان لا يعوذ من شيء بشيء إلا إن كانت قوته لا تقدر على أن تمتنع عنه. ولذلك يستعيذ نوح عليه السلام من أن يسأل ما ليس له به علم، ويرجو مغفرة الله سبحانه وتعالى ورحمته حتى لا يكون من الخاسرين. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6485 {قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6486 وقوله الحق سبحانه: {اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} [يونس: 48] . يدل على أن نوحاً عليه السلام قد تلقَّى الأمر بالنزول من السفينة ليباشر مهمته الإيمانية في أرض فيها مقومات الحياة، مما حمل في تلك السفينة من كلٍّ زوجين اثنين، ومن معه من المؤمنين الذين أنجاهم الله تعالى، وأغرق مَنْ قالوا عليهم إنهم أراذل. وقول الحق سبحانه: {أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48] . تضمَّن أهل نوح عليه السلام ومَنْ آمن به، وكذلك أمم الوحوش والطيور والحيوانات والدواب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6486 أي: أنها إشارة إلى الأمة الأساسية، وهي أمة الإنسان وإلى الأمم الخادمة للإنسان، وهكذا توفرت مقومات الحياة للمؤمنين، ويتفرَّغ نوح وقومه إلى المهمة الإيمانية في الأرض. وقول الحق سبحانه: {اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} [هود: 48] . والمقصود بالسلام هو الأمن والاطمئنان، فلم يَعُدْ هناك من الكافرين ما ينغِّص على نوح عليه السلام أمره، ولن يجد من يكدِّر عليه بالقول: {جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] . ولن يجد مَنْ يتهمه بالافتراء. ومَنْ بقي مع نوح هم كلهم من المؤمنين، وهم قد شهدوا أن نجاتهم من الغرق قد تمت بفضل المنهج الذي بلَّغهم به نوح عن الله تعالى. وقول الحق سبحانه: {وَبَركَاتٍ} [هود: 48] . يعني أن الحق سبحانه يبارك في القليل ليجعله كثيراً. ويقال: «إن هذا الشيء مبارك» كالطعام الذي يأتي به الإنسان ليكفي اثنين، ولكنه فوجىء بخمسة من الضيوف، فيكفي هذا الجميع. إذن: فالشيء المبارك هو القليل الذي يؤدِّي ما يؤدِّيه الكثير، مع مظنَّة أنه لا يفي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6487 وكان يجب أن تأتي هنا كلمة {وَبَركَاتٍ} لأن ما يحمله نوح عليه السلام من كلٍّ زوجين اثنين إنما يحتاج إلى بركات الحق سبحانه وتعالى ليتكاثر ويكفي. وقول الحق سبحانه: {وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] . هذا القول يناسب الطبيعة الإنسانية، فقد كان المؤمنون مع نوح عليه السلام هم الصفوة، وبمضيِّ الزمن طرأت الغفلة على بعضٍ منهم، ويأتي جيل من بعدهم فلا يجد الأسوة أو القدوة، ثم تحيط بالأجيال التالية مؤثرات تفصلهم تماماً عن المنهج. وفي هذا يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ينام الرجل النومة فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت، ثم ينام النومة فتُقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها كأثر المَجْل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه مُنتبراً، وليس فيه شيء، ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله، فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحد يؤدِّي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، حتى يقال للرجل: ما أجلده {ما أظرفه} ما أعقله! وما في قلبه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6488 مثقال حبة من خَرْدلٍ من إيمان» . وهكذا تطرأ الغفلة على أصحاب المنهج، ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تُعرض الفِتَن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيّما قلب أشْرِبَها نُكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا لا تضرُّه فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْباداً كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشْرِبَ مِنْ هَواه» . وأعوذ بالله تعالى من طروء فتنة الغفلة على القلوب. والحق سبحانه يتحدث في هذه الآية عن الذين بقوا مع نوح عليه السلام وهم صفوة من المؤمنين، لكن منهم من ستطرأ عليه الغفلة، وسيمتِّعهم الله سبحانه وتعالى أيضاً بمتاع الدنيا، ولن يضنَّ عليهم، ولكن سَيَلحقُهم العذاب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6489 فإذا ما جاء جيل على الغافلين فهو يخضع لمؤثِّرين اثنين: المؤثر الأول: غفلته هو. المؤثر الثاني: أسوة الغافلين من السابقين عليه. ونحن نعلم أن مِنْ ذرية نوح عليه السلام «قوم عادٍ» الذين أرسل الحق سبحانه إليهم هوداً عليه السلام، وكذلك «قوم ثمود» الذين أرسل إليهم أخاهم صالحاً عليه السلام، وقوم لوطٍ، وهؤلاء جميعاً رَانَتِ الغفلة على قلوبهم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6490 وكلمة «تلك» إشارة وخطاب، والمخاطب هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، و «التاء» إشارة إلى السفينة وما تبعها من أنباء الغيب، ولم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معاصراً لها ولا يعلمها هو، ولا يعلمها أحد من قومه. وأنت يا رسول الله لم يُعلَم عنك إنك جلستَ إلى معلِّم، ولم يذكر عنك أنك قرأت في كتاب؛ ولذلك يأتي في القرآن: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6490 {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44] . وجاء: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . إذن: فما دمتَ يا محمد لم تقرأ ولم تتعلَّم عن معلِّم فمَن علَّمك؟ إنما عَلَّمك الله سبحانه. وكأن الله سبحانه وتعالى علَّم رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قصة نوح عليه السلام وأراد بها إلقاء الأسوة وإلقاء العبرة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يثق بأن كل رسول إنما يصنع حركته الإيمانية المنهجية بعين من الله، وأنه سبحانه لن يسلِّمه إلى خصومة ولا أعدائه. ولذلك يأتي القول الكريم: {فاصبر} ؛ لأنك قد عرفت الآن نتيجة صبر نوح عليه السلام الذي استمر ألف سنة إلا خمسين، ويأتي بعدها قوله سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6491 {إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] . تأتي بعد ذلك قصة قوم عاد بعد قصة نوح، ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يُرسل رسولاً إلا إذا عَمَّ الفساد. إذن: فقد حصلت الغفلة من بعد نوح، وانضمَّت لها أسوة الأبناء بالآباء فانطمس المنهج، وعزَّ على الموجودين أن يقيموه. والله سبحانه وتعالى لا يبعث برسلٍ جُددٍ إلا إذا لم يوجد في الأمة من يرفع كلمة الله؛ لأننا نعلم أن المناعة الإيمانية في النفس الإنسانية قد تكون مناعة ذاتية، بمعنى أن الإنسان قد تُحدِّثه نفسه بالانحراف عن منهج الله، لكن النفس اللوَّامة تردعه وتردُّه إلى الإيمان. أما إذا تصلَّبتْ ذاتُه، ولم توجد لديه نفس لوَّامة، فالمناعة الذاتية تختفي، ولكن قد يقوم المجتمع المحيط بِلَوْمِهِ. ولكن إذا اختفت المناعة الذاتية، والمناعة من المجتمع فلا بد أن يبعث ربُّ العزة سبحانه برسولٍ جديدٍ، وبيِّنة جديدة، وبرهان جديد. هكذا حدث من بعد نوح عليه السلام. ولذلك يأتي قول الحق سبحانه: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6492 يفتتح الحق سبحانه الآية بتحنينهم ومؤانستهم بالمرسَل إليهم، فيُخبرهم أنه أخوهم، ولا يمكن للأخ أن يريد لهم العَنَتَ، بل هو ناصح، مأمون عليهم، وعلى ما يبلغهم به. وحين يقول لهم: {ياقوم} [هود: 50] . فهذا للإيناس أيضاً. ثم يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده؛ لأنهم اتخذوا غير الله إلهاً، وهذا قمة الافتراء. والله سبحانه لم يقل: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [هود: 50] . إلا لأن الفساد قد طَمَّ. ويقول سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان هود: {ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6493 وكأن هوداً عليه السلام يقول لهم: ما الذي يشقُّ عليكم فيما آمركم به وأدعوكم إليه، إنني أقدِّم لكم هذا البلاغ من الله تعالى، ولا أسألكم عليه أجراً، فليس من المعقول أن أنقلكم مما ألفتم، ثم آخذ منكم مالاً مقابل ذلك، ولا يمكن أن أجمع عليكم مشقة تَرْك ما تَعوَّدْتُم عليه وكذلك أجر تلك الدعوة. وما دُمْتُ لن آخذ منكم أجراً، إذن: فلا مشقة أكلِّفكم بها، كما أنني في غِنًى عن ذلك الأجر؛ لأن أجري على من أرسلني. {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [هود: 51] . أي: أنَّ أجري على مَنْ خَلَقني مُعَدّا لهذه الرسالة؛ لأن الفطرة تعني التكوين الأساسي للإنسان. والحق سبحانه قد أعدَّ هوداً عليه السلام ليكون رسولاً، ونحن نعلم أيضاً أن الأجر يكون عادة مقابلاً للمنفعة. وسبق أن ضربنا المثل بمن يشتري بيتاً، فهو يدفع ثمن البيت لصاحبه، وتُسمَّى هذه العملية بيعاً وشراءً. أما إذا استأجر الإنسان بيتاً فهو يدفع إيجاراً مقابل انتفاعه بالسكن فيه. وقول هود عليه السلام: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [هود: 51] . يفيد أنه كان من الواجب أن يدفعوا أجراً كبيراً مقابل منفعتهم بما يدعوهم إليه؛ لأن الأجر الذي تدفعونه في المستأجرات العامة لكم إنما يكون مقابلاً لمنافع موقوتة، لكن ما يقدمه لهم هود عليه السلام هو منفعة غير موقوتة! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6494 ولذلك ترك هود عليه السلام الأجر لمن يقدر عليه، وهو الله سبحانه وتعالى. فهو القادر على كل شيء. وقد أوضحنا من قبل أن كل مواكب الرسل جاءت بهذه العبارة: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [هود: 51] . إلا إبراهيم وموسى عليهما السلام؛ فسيدنا إبراهيم لم يَقُلْها بسبب أبيه، وسيدنا موسى لم يقلها؛ لأن فرعون قال له: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] . إذن: كان يجب على قوم هود أن يعقلوا الفائدة الجَمَّة، وهي المنهج الرِّسالي الذي جاء به هود عليه السلام. ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلام مخاطباً قومه: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6495 وهكذا نعلم أن الاستغفار هو إقرار بالتقصير وارتكاب الذنوب، فنقول يارب اغفر لنا. وساعة تطلب المغفرة من الله تعالى، فهذا إعلان منك بالإيمان، واعتراف بأن تكليف الحق لك هو تكليف حق. وما دام الإنسان قد طلب من الله تعالى أن يغفر له الذي فات من ذنوب، فعليه ألا يرتكب ذنوباً جديدة، وبعد التوبة على العبد أن يحرص على تجنب المعاصي. وعلى الإنسان أن يتذكّر أن ما به من نعمة فمن الله، وأن الكائنات المسخرة هي مسخرة بأمر الله تعالى؛ فلا تنسيك رتابة الحياة عن مسببها الواهب لكل النعم. والحق سبحانه وتعالى حين يرسل رسولاً، فأول ما ينزل به الرسول إلى الأمة هو أن يصحِّح العقيدة في قمتها، ويدعوهم إلى الإيمان بإله واحد يتلقَّون عنه «افعل» و «لا تفعل» . وهنا يكون الكلام من هود عليه السلام إلى قومه «قوم عاد» ، والدعوة إلى الإيمان بإله واحد وعبادته، والأخذ بمنهجه لا يمكن أن يقتصر على الطقوس فقط من الشهادة بوحدانية الله تعالى، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج. ولكن عبادة الله تعالى هي أن تؤدِّي الشعائر والعبادات، وتتقن كل عمل في ضوء منهج الله، فلا تعزل الدين عن حركة الحياة. والذين يخافون من دخول الإسلام في حركة الحياة، يريدون منَّا أن نقصر الدين على الطقوس، ونقول لهم: إن الإسلام حينما دخل في حركة الحياة غزا الدنيا كلها، وحارب حضارتين عريقتين؛ حضارة الفرس في الشرق، وحضارة الرومان في الغرب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6496 وهؤلاء كانوا أمماً لها حضارات قديمة وقوية، وثقافات وقوانين، ومع ذلك جاء قوم من البدو الأمِّيين؛ يقود عقيدتهم رجلٌ أمِّيٌّ أرسله الله سبحانه وتعالى؛ فيطيح بكل هؤلاء؛ نظماً وثقافات وارتقاءات بمستوى الحياة إلى مستوى طموح العقل. يريد هؤلاء إذن أن يقوقعوا الإسلام في الأركان الخمسة فقط؛ ليعزلوه عن حركة الحياة. ونقول لهم: لا، لا يمكنكم أن تقصروا العبادات على الأركان الخمسة فقط؛ لأن العبادة معناها أن يوجد عابد لمعبود حقٍّ، وأن يطيع العابد أوامر المعبود؛ وتتمثَّل أوامر المعبود في «افعل» و «لا تفعل» ؛ وما لم يَردْ فيه «افعل» و «لا تفعل» ؛ فهو مباح؛ إن شئت فعلته وإن شئت لم تفعله؛ وبفعله أو عدم فعله لا يفسد الكون. إذن: فالعبادة هي كل أمر صادر من الله تعالى؛ فلا تعزلوها في الطقوس؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبلغنا؛ وأوضح لنا أن أركان الإسلام الخمس هي التي بني عليها الإسلام؛ وليست هي كل الإسلام. إذن: فالإسلام بناء يقوم على أركان؛ لذلك لا يمكن أن نحصر الإسلام في أركانه فقط؛ فالإسلام هو كل حركة في الحياة، ولا بد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6497 أن تنتظم حركات البشر تبعاً لمنهج الله، لتنتظم الحياة كما انتظم الكون من حولنا. فالعبادة تستوعب كل حركة في الحياة، وقد فهم البعض خطأ أن العبادة تنحصر في باب العبادات في تقسيم الفقهاء، وأغفلوا أن باب المعاملات هو من العبادة أيضاً، واستقامة الناس في المعاملات تؤدي إلى انتظام حياة الناس. وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ} [هود: 52] . والاستغفار لا يكون إلا عن ذنوب سبقت؛ وإذا كان هذا هو أول ما قاله هود عليه السلام لقومه؛ إذن: فالاستغفار هنا عن الذنوب التي ارتكبوها مخالفة لمنهج الرسول الذي جاء من قبله، أو هي الذنوب التي ارتكبوها بالفطرة. ثم يدعوهم بقوله: {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} [هود: 52] . والتوبة تقتضي العزم على ألا تُنشئوا ذنوباً جديدة. ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] . ولقائل أن يقول: وما صلة الاستغفار بهذه المسألة الكونية؟ ونقول: إن للكون مالكاً لكلِّ ما فيه؛ جماده ونباته وحيوانه؛ وهو سبحانه قادر، ولا يقدر كائن أن يعصي له أمراً؛ وهو القادر أن يخرج الأشياء عن طبيعتها؛ فإذا جاءت غيمة وتحسب أنها ممطرة؛ قد يأمرها الحق سبحانه فلا تمطر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6498 مثلما قال سبحانه في موضع آخر من كتابه الكريم: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] . إذن: فلا تأخذ الأسباب على أنها رتابة؛ إنما ربُّ الأسباب يملكها؛ فإن شاء فعل ما يشاء. وإذا ما عبدتَ الله تعالى العبادة التي تنتظم بها كل حركة في الحياة؛ فأنت تُقبل على عمارة الأرض؛ وتوفِّر لنفسك القُوْتَ باستنباطه من الأسباب التي طمرها الله سبحانه وتعالى في الأرض. والقوت كما نعلم من جنس الأرض؛ لذلك لا بد أن نزرع الأرض؛ وتَمُدَّ البذور جذورها الضارعة المسبِّحة الساجدة لله تعالى؛ فيُمطر الحقُّ سبحانه السماءَ؛ فتأخذ البذور حاجتها من الماء المتسرِّب إليها عبر الأرض؛ ونأخذ نحن أيضاً حاجتنا من هذا الماء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6499 والسماء هي كل ما عَلاكَ فأظلَّكَ؛ أما السماء العليا فهذا موضوع آخر، وكل الأشياء دونها. وانظروا قول الحق سبحانه: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] . أي: من كان يظن أن الله تعالى لن ينصر رسوله فليأت بحبل أو أي شيء ويربطه فيما علاه ويعلِّق نفسه فيه؛ ولسوف يموت، وغيظه لن يرحل عنه. {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} [هود: 52] . والمدرار: هو الذي يُدِرُّ بتتابع لا ضرر فيه؛ لأن المطر قد يهطل بطغيان ضارٍّ، كما فتح الله سبحانه أبواب السماء بماء منهمر. إذن: المدرار هو المطر الذي يتوالى توالياً مُصلحاً لا مُفسداً. ولذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول حين ينزل المطر: «اللهم حوالينا ولا علينا» . ومتى أرسِل المطر مدراراً متتابعاً مصلحاً؛ فالأرض تخضرُّ؛ وتعمر الدنيا؛ ونزداد قوة إلى قوتنا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6500 أما مَنْ يتولَّى؛ فهو يُجرم في حقِّ نفسه؛ لأن إجرام العبد إنما يعود على نفسه؛ لا تظنّ أن إجرام أَيِّ عبدٍ بالمعصية يؤذي غيره. والحق سبحانه يقول: {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] . ويأتي الحق سبحانه من بعد ذلك بالردِّ الذي قاله قوم عاد: {قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6501 وهم هنا ينكرون أن هوداً قد أتاهم بِبَيِّنة أو مُعجزةٍ. والبيِّنة كما نعلم هي الأمارة الدالة على صدق الرسول. وصحيح أن هوداً هنا لم يذكر معجزته؛ وتناسوا أن جوهر أي معجزة هو التحدي؛ فمعجزة نوح عليه السلام هي الطوفان، ومعجزة إبراهيم عليه السلام أن النار صارت برداً وسلاماً عليه حين ألقوه فيها. ونحن نلحظ أن المعجزة العامة لكل رسول يمثلها قول نوح عليه السلام: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6501 {ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} [يونس: 71] . أي: إن كنتم أهلاً للتحدي، فها أنا ذا أمامكم أحارب الفساد، وأنتم أهل سيطرة وقوة وجبروت وطغيان. وأحْكِموا كيدكم؛ لكنكم لن تستطيعوا قتل المنهج الرباني؛ لأن أحداً لن يستطيعَ إطفاء نور الله في يد رسول من رسله؛ أو أن يخلِّصوا الدنيا منه بقتله. . ما حدث هذا أبداً. إذن: فالبيِّنة التي جاء بها هود عليه السلام أنه وقف أمامهم ودعاهم إلى ترك الكفر؛ وهو تحدي القادرين عليه؛ لأنهم أهل طغيان؛ وأهل بطش؛ ومع ذلك لم يقدروا عليه؛ مثلما لم يقدر كفار قريش على رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونحن نعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جاء ومعه المعجزة الجامعة الشاملة وهي القرآن الكريم؛ وسيظل القرآن معجزة إلى أن تقوم الساعة. ونعلم أن غالبية الرسل عليهم جميعاً السلام قد جاءوا بمعجزات حسية كونية؛ انتهى أمدها بوقوعها، ولولا أن القرآن يخبرنا بها ما صدَّقناها، مثلها مثل عود الثقاب يشتعل مرة ثم ينطفىء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6502 فمثلاً شفى عيسى عليه السلام الأكمه والأبرص بإذن ربه فمَنْ رآه آمن به، ومَنْ لم يَرَه قد لا يؤمن، وكذلك موسى عليه السلام ضرب البحر بالعصا فانفلق أمامه؛ ومن رآه آمن به، وانتهت تلك المعجزات؛ لكن القرآن الكريم باقٍ إلى أن تقوم الساعة. ويستطيع أي واحد من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل قيام الساعة أن يقول: محمد رسول الله ومعجزته القرآن؛ لأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء رسولاً عامّا؛ ولا رسول من بعده؛ لذلك كان لا بد أن تكون معجزته من الجنس الباقي؛ ومع ذلك قالوا له: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 90 92] . وكل ما طلبوه مسائل حسية؛ لذلك يأتي الرد: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6503 ومع ذلك كذَّبوا. وأضاف قوم عاد: {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] . هم إذن قد خدعوا أنفسهم بتسميتهم لتلك الأصنام «آلهة» ؛ لأن الإله مَنْ يُنزل منهجاً يحدِّد من خلاله كيف يُعْبَد؛ ولم تَقُل الأصنام لهم شيئاً؛ ولم تُبلغهم منهجاً. إذن: فالقياس المنطقي يُلغي تَصوُّر تلك الأصنام كآلهة؛ فلماذا عبدوها؟ لقد عبدوها؛ لأن الفطرة تنادي كل إنسان بأن تكون له قوة مألوه لها؛ والقوة المألوه لها إن كان لها أوامر تحدُّ من شهوات النفس، فهذه الأوامر قد تكون صعبة على النفس، أما إن كانت تلك الآلهة بلا أوامر أو نواهي فهذه آلهة مريحة لمن يخدع نفسه بها، ويعبدها مظنة أنها تنفع أو تضر. وهذه هي حُجَّة كل ادِّعاء نبوة أو ادِّعاء مَهديَّة في هذا العصر، فيدَّعي النبيُّ الكاذب النبوَّة، ويدعو للاختلاط مع النساء، وشرب الخمر، وارتكاب الموبقات، ويسمِّى ذلك ديناً. وتجد مثل هذه الدَّعاوَي في البهائية والقاديانية؛ وغيرها من المعتقدات الزائفة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6504 وقولهم: {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} [هود: 53] . يعني: وما نحن بتاركي آلهتنا بسبب قولك. وقولهم: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] . أي: وما نحن لك بمصدِّقين، لأن (آمن) تأتي بمعاني متعددة. فإنْ عدَّيتها بنفسها مثل قول الحق سبحانه: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] . وإنْ عدَّيتها بحرف «الباء» مثل قول الحق سبحانه: {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 62] . فالمعنى يتعلّق باعتقاد الألوهية. وإن عدَّيتها بحرف «اللام» ؛ مثل قول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6505 {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] . تكون بمعنى التصديق. يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6506 و «إن» التي تُفتتح بها الآية الكريمة أداة شرطية، وأداة «إن» الشرطية يأتي بعدها جملة شرط، وجواب شرط، فإن لم تكن كذلك فهي تكون بمعنى النفي؛ مثل قول الحق سبحانه: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] . وهنا يقول الحق سبحانه: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك} [هود: 54] . أي: «ما نقول إلا اعتراك» . وهكذا نعلم أن كلمة «إنْ» هنا جاءت بمعنى النفي. و «إلا» هي أداة استثناء، وقبلها فعل هو «نقول» ، وإذا وجدت أداة استثناء، ولم يذكر المستثنى منه صراحة، فاعلم أنه واحد من ثلاثة: إما أن يكون مصدر الفعل، وإما أن يكون ظرف الفعل، وإما أن يكون حال الفعل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6506 وعلى ذلك فمعنى الآية الكريمة: وما نقول لك إلا أنَّ آلهتنا أصابتك بسوء؛ لأنك سَفَّهتهم وأبْطَلتَ ألوهيّتهم، وجئتَ بإلهٍ جديدٍ من عندك، فأصابتك الآلهة بسوء يراد به الجنون فأخذتَ تخلط في الكلام الذي ليس له معنى. ويردُّ عليهم هود عليه السلام بما جاء في نفس الآية: {قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 54] . وهو يُشهِد الله الذي يثق أنه أرسله، ويحمي ذاته، ويحمي عقله؛ لأن عقل الرسول هو الذي يدير كيفية أداء البلاغ عن الله. والحق سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرسل رسولاً ولا يحميه. وقد قال الكافرون عن سيدنا رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه مجنون؛ فأنزل الحق سبحانه وتعالى قوله الكريم: {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 24] . ونحن نعلم أن المجنون لا خُلُق له، وفي هذا البيان أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قمة العقل؛ لأنه في قمة الخُلُق الطيِّب. وهنا يُشهد هود عليه السلام قومه ويطالبهم أن يرجعوا إلى الفطرة السليمة، ويحكموا: أهو مجنون أم لا، ويشهدهم أيضاً أنه بريء من تلك الآلهة التي يُشركون بعبادتها من دون الله تعالى. ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلام: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6507 {مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6508 وقوله: {مِن دُونِهِ} أي: من دون الله، فهم قد عبدوا أصناماً من دون الله سبحانه، ومطلب هود عليه السلام منهم أن يكيدوا له جميعاً، وهم كثرة طاغية، وهو فرد واحد؛ وإن كادت الكثرة المتجبِّرة لواحد، فمن المتوقع أن يغلبوه، وهو عليه السلام هنا يتحداهم ويطلب منهم أن يعملوا كل مكرهم وكيدهم، وأن يقتلوه لو استطاعوا، وهذه قمة التحدي. والتحدي هنا معجزة؛ لأنه ساعة يتحداهم فهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى ينصره، وهو عليه السلام متأكد من قوله: {أُشْهِدُ الله} [هود: 54] . الذي قاله في الآية السابقة، ولا يمكن أن يرمي مثل هذا التحدي جزافاً، لأن الإنسان لا يجازف بحياته في كلمة. وهو لم يَقُلْ: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [يونس: 55] إلا إذا كان قد آوى إلى ركن شديد، وإنه ينطق بالكلمة عن إيمان بأن الحق سبحانه سيهبه قدرة على نفاذ الكلمة. وهو قد أشهد الله تعالى، والله سبحانه هو أول من شهد لنفسه، يقول الحق سبحانه: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6508 وكذلك شهدت الملائكة وأولو العلم، والله سبحانه وتعالى حين شهد لنفسه فإنما يطمئننا أنه إذا ألقى أمراً علم أنه مُنفَّذ لا محالة. وقد أشهد هود عليه السلام ربَّه سبحانه، وهو واثق من حمايته له وما كان الحق سبحانه ليرسل رسولاً ليُمكِّن منه قوماً يُزيحوه من حركة الرسالة. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6509 يعلن لهم هود عليه السلام حقيقة أنه يتوكَّل على الله تعالى الذي لا يعلوهم فقط، ولا يرزقهم وحدهم، بل هو الآخذ بناصية كل دابَّة تدُّب في الأرض ولها حرية وحركة، والناصية هي مقدّم الرأس، وبها خصلة من الشعر. وحين تريد إهانة واحد فأنت تمسكه من خصلة الشعر هذه وتشدُّه منها. والحق سبحانه وتعالى يقول: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41] . وفي آية أخرى يقول الله سبحانه: {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بالناصية} [العلق: 15] . إذن: فكيف لم يجرؤ قوم عاد على أن يسلِّطوا مجموعة ثعابين، وأعداداً من الكلاب المتوحشة مثلاً على سيدنا هود عليه السلام. لم يستطيعوا ذلك، وقد أعلن لهم سبب عجزهم عن الإضرار به حين قال لهم: {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56] . ونحن نلحظ أنه عليه السلام قال في صدر الآية: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56] ، وفي عَجزُ الآية قال: {إِنَّ رَبِّي} [هود: 56] ، والسبب في قوله: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56] أنهم كانوا قادحين في مسألة ربوبية الحق سبحانه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6510 لذلك قال عليه السلام في مجال السيطرة: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أما في عجز الآية فقال: {إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56] . أي: أن الإله الواحد سبحانه له مطلق العدالة، ولم يأتِ هنا بشيء يخصُّ أربابهم؛ لأنه هنا يتحدث عن مطلق عدالة الحق سبحانه. والحق سبحانه وتعالى على صراط مستقيم في منتهى قُدرته، وقَهْره وسيطرته، ولا شيء يُفلت منه، ومع كل قدرة الله تعالى اللامتناهية فهو لا يستعمل قهره في الظلم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6511 الفعل «تولَّوا» أصله: «تتولَّوا» ، وفي اللغة: إذا ابتدأ فعل بتاءين يُقتصَر على تاء واحدة. وهكذا يكون المعنى: إن تتولَّوا فقد أبلغتكم المنهج الذي أرسلت به إليكم، ولا عُذر لكم عندي؛ لأن الحق سبحانه لا يعذِّب قوماً وهم غافلون؛ لذلك أرسلني إليكم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6511 أو أن الخطاب من الله سبحانه لهود عليه السلام ليبِّين له: فإن تولَّوا فقل لهم: {أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} [هود: 57] . والاستخلاف أن يوجد قوم خلفاء لقوم، إما أن يكونوا عادلين؛ فلا يقفوا من المناهج ولا من الرسالات مثلما وقف قوم عاد. وإما أن يكونوا غير عادلين، مثل من قال فيهم الحق سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59] . والحق سبحانه قد وعد المؤمنين وعداً طيِّباً: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55] . إذن: فالاستخلاف إما أن يكون الخلف فيه صاحب عمل صالح، أو أن يبدد المنهج فلا يتبعه، بل يتبع الشهوات. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] . وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} [هود: 57] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6512 لأن المنهج الذي نزل على الخَلْق، أنزله الحق سبحانه وتعالى لصلاح العباد، وهو سبحانه خَلَق أولاً بكل صفات الكمال فيه، ولن يزيده العباد وصفاً من الأوصاف، ولن يسلبه أحد وصفاً من الأوصاف. ولذلك نقول للمتمردين على عبوديتهم لله كفراً، وللمتمردين على المنهج بالمعصية: أنتم ألفتم التمرد؛ إما التمرد في القمة وهو الكفر بالله، وإما التمرد على أحكام الله بمخالفتها، فلماذا لا يتمرد أحدكم على المرض، ويقول: «لن أمرض» ؟ ولماذا لا يتمرد أحدكم على الموت ويرفض أن يموت؟ إذن: فما دُمْتَ قد عرفت التمرد فيما لك فيه اختيار، فهل تستطيع التمرد على أحكام الله القهرية فيك؟ إنك لن تستطيع؛ لأنك مأخوذ بناصيتك. والحق سبحانه إن شاء أن يوقف القلب، فلن تستطيع أن تأمر قلبك بعدم التوقف. لذلك قال هود عليه السلام: {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57] . فالله سبحانه رقيب؛ لأنه قيوم قائم على كل أمور كونه. وبعض الفلاسفة قالوا: إن الله قد خلق الكون، وخلق النواميس والقوانين، ثم تركها تقوم بعملها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6513 ولهؤلاء نقول: لا؛ فأنتم أقررتم بصفات الخالق القادر، فأين صفات القيومية لله القائم على كل نفس بما كسبت، وهو سبحانه القائل لعبيده عن نفسه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] . وهو سبحانه حين يقول هذا إنما يطمئن العباد؛ ليناموا ويرتاحوا؛ لأنه سبحانه مُنزَّه عن الغَفْلة أو النوم، بل هو سبحانه قيوم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6514 وساعة تسمع {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} فأنت تعرف أن هناك آمراً وأمراً مُطاعاً، وبمجرد صدور الأمر من الآمر سبحانه يكون التنفيذ؛ لأنه يأمر مَنْ له قدرة على التنفيذ: ولذلك يقول الحق سبحانه: {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الإنشقاق: 12] . إذن: فهي بمجرد السمع نَفَّذت أمر الحق سبحانه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6514 وحين شاء الحق سبحانه أن يُنجي موسى عليه السلام من الذبح الذي أمر به فرعون؛ أوحى الله سبحانه لأمِّ موسى قائلاً: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] . وكيف تفعل أمٌّ ذلك. إن كل أمًّ إنما تحرص على ابنها؛ والذبح لموسى أمر مظنون، والإلقاء في البحر موت محقَّق، لكن أم موسى استقبلت الوحي؛ ولم تتردد؛ مما يدل على أنها تُناقش الأمر بمقاييس البشر، بل بتنفيذ إلهامٍ واردٍ إليها من الله سبحانه؛ إلهام لا ينازعه شَكٌّ أو شيطان. وبعد ذلك يأمر الله سبحانه البحر: {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 39] . وقد استقبل البحرُ الأمرَ الإلهي؛ لأنه أمر من قادر على الإنفاذ، كما قام بتنفيذ الضد. في قصة نوح عليه السلام قال الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6515 {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [هود: 40] . وحدث الطوفان؛ ليغرق الكافرين. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: 58] . يعني: مجيء الأمر بالعذاب للمخالفين لدعوة هود عليه السلام، وقد تحقَّق هذا العذاب بطريقة خاصة ودقيقة؛ تتناسب في دقتها مع عظمة الآمر بها سبحانه وتعالى. فحين تأتي رِيحٌ صَرْصَرٌ أو صَيحةٌ طاغيةٌ، فهذا العذاب من خارجهم، وما دام العذاب من الخارج، وبقوة من قوى الطبيعة الصادرة بتوجيه الله؛ فقد يَعُمُّ المكذِّبين لسيدنا هود، ومعهم المصدِّقون به وبرسالته، فكيف يتأتَّى أن تذهب الصيحة إلى آذان المكذِّبين فقط، وتخرق تلك الآذان؛ وتترك آذان المؤمنين؟ إنها قدرة التقدير لا قوة التدمير. إن مُوجِّه الصيحة قد حدَّد لها مَنْ تُصيب ومن تترك، وهي صيحة موجَّهة، مثلها مثل حجارة سِجِّيل التي رمتها طير أبابيل على أبرهة الحبشي وجنوده؛ مع نجاةَ جنود قريش بنفس الحجارة؛ ولم تكن إصابة بالطاعون كما ادَّعى بعضٌ من المتفلسفين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6516 وهذه من أسرار عظمة الحق سبحانه فهو يأخذ بشيء واحد؛ ولكنه يُنجي المؤمن؛ ويعذِّب الكافر؛ فلا يوجد ناموس يحكم الكون بدون قدرة مسيطرة عليه. يقول المتنبي: تُسَوِّدُ الشَّمْسُ مِنَّا بِيضَ أوجُهِنا ... وَمَا تُسوِّدُ بِيضَ العَينِ والَّلمَمِ وَكَانَ حَالُهُما فِي الحُكْمِ واحِدَةً ... لَو احْتَكَمْنَا مِنَ الدُّنْيَا إلَى حَكَمِ وهكذا يضرب المتنبي المثل بأن جلوس الواحد منا في الشمس؛ يجعل بشرة الأبيض تميل إلى السمرة ولا تسود بياض الشعر، لكن إن تركت شيئاً أسود في الشمس فترة لوجدته يميل إلى الأبيض؛ ويحدث ذلك رغم أن الفاعل واحد؛ لكن القابل مختلف. والحق سبحانه يقول هنا: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} [هود: 58] . فلا تقل كيف نجوا من العذاب الجامع والعذاب العام؛ لأن هذه هي الرحمة. والرحمة كما نعلم هي ألا يمس الداء الإنسان من أول الأمر؛ أما الشفاء فهو يعالج الداء. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6517 ونحن نلحظ هنا أن الحق سبحانه يذكر في نفس الآية الكريمة نجاتين: النجاة الأولى: من العذاب الجامع؛ الريح الصرصر؛ من الصيحة؛ من الطاغية، يقول سبحانه: {نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] . والنجاة الثانية: هي نجاة من عذاب الآخرة الغليظ، فعذاب الدنيا رغم قسوته، إلا أنه موقوت بعمر الدنيا. أما عذاب الآخرة فهو عذاب بلا نهاية، ووصفه الحق سبحانه بالغلظة. وغلظ الشيء يعطي له القوة والمتانة، وهو عذاب غليظ على قدر ما يستوعب الحكم. ولذلك حينما يُملِّك الحقُّ سبحانه رجلاً بُضْع امرأة بعقد الزواج، ويصف ذلك بالميثاق الغليظ، والنفعية هنا متصلة بالعفة والعِرْض، ولم يُملِّك الرجل النفعية المطلقة من المرأة التي يتزوجها؛ فالزوج يُمكَّن من عورة زوجته بعقد الزواج. يقول الحق سبحانه: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] . وكانت نجاة هود عليه السلام والمؤمنين معه من العذاب الأول مقدمة للنجاة من العذاب الغليظ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6518 ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6519 و «تلك» إشارة إلى المكان الذي عاش فيه قوم عاد؛ لأن الإشارة هنا لمؤنث، ولنتذكر أن المتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى. وهكذا فصل بين «عاد» المكان، و «عاد» المكين، وهم قوم عاد؛ لذلك قال سبحانه {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59] فهم قد ذهبوا وبقيت آثارهم. و «عاد» إما أن تطلق على المكان والمحل، وإما أن تطلق على الذوات التي عاشت في المكان، فإذا أشار سبحانه ب {تِلْكَ} فهي إشارة إلى الديار، والديار لم تجحد بآيات الله؛ ولذلك جاء بعدها بقوله تعالى: {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59] . والجحود هو النكران مع قوة الحجة والبرهان. والآيات كما نعلم جمع آية، وهي الأمور العجيبة الملفتة للنظر التفاتاً يوحي بإيمان بما تنص عليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6519 ومن الآيات ما يدل على قمة العقيدة، وهو الإيمان بواجب الوجود؛ بالله الرب الخالق الحكيم القادر سبحانه وتعالى، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر، ورؤية الأرض خاشعة إلى آخر تلك الآيات التي في القمة. وكذلك هناك آيات أخرى تأتي مصدقة لمن يخبر أنه جاء رسولاً من عند الله تعالى، وهي المعجزات. وآيات أخرى فيها الأحكام التي يريدها الله سبحانه بمنهجه لضمان صحة حركة الحياة في خلقه. وقوم عاد جحدوا بكل هذه الآيات؛ جحدوا الإيمان، وجحدوا تصديق الرسول بالمعجزة، وأهملوا وتركوا منهج الله جحوداً بإعراض. لذلك يقول الحق سبحانه: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} [هود: 59] . وهود عليه السلام هو الذي أرسله الحق سبحانه إلى قوم عاد، فهل هو المعنيُّ بالعصيان هنا؟ نقول: لا؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ قال: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] . إذن: فكل أمة من الأمم عندها بلاغ من رسولها بأن تصدق أخبار كل رسول يُرسَل. ولذلك قال الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6520 {كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] . فهم قد انقسموا إلى قسمين؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59] . أي: أن هناك مُتَّبِعاً، ومُتَّبَعاً. والمقصود بالجبار العنيد هم قمم المجتمع، سادة الطغيان والصنف الثاني هم من اتبعوا الجبابرة. ومن رحمته سبحانه أنه حين يتكلم عن الفِرَق الضالة، فهو يتكلم أيضاً عن الفرق المضلة، فهناك ضالٌّ في ذاته، وهناك مُضِلٌّ لغيره. والمضل لغيره عليه وزران: وزر ضلالة في ذاته، ووزر إضلال غيره. أما الذين اتَّبعوا فلهم بعض العذر؛ لأنهم اتَّبعوا بالجبروت والقهر، لا بالإقناع والبينة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6521 وانظر إلى القرآن الكريم حين يعالج هذه القضية، فيتحدث عن الفئة التي ضلت في ذاتها ويقول: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] . ويتحدث الحق سبحانه بعد ذلك عن الفئة المضلة فيقول: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 79] . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6522 والزمان بالنسبة للخلق ثلاثة أقسام: حياتهم زمن أول، ومن لحظة الموت إلى أن تقوم الساعة زمن ثان وهو زمن البرزخ، وساعة يبعثون هي الزمن الثالث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6522 والحياة الأولى فيها العمل، وحياة البرزخ فيها عرض الجزاء، مجرد العرض، والحياة الثالثة هي الآخرة إما إلى الجنة وإما إلى النار. يقول الحق سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] . هذه هي الأزمنة الثلاثة حياة، وبرزخ، وبعث وكل وقت منها له ظرف. ويعبر القرآن عن هذا، فيقول عن عذاب آل فرعون منذ أن أغرقهم الله سبحانه في البحر: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] . وفي هذا دليل على عرض الجزاء في البرزخ مصداقاً لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار» . إذن: فهنا زمنان: زمن عرضهم على النار غدوّاً وعشيّاً، وزمن دخولهم النار. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6523 وهذا يثبت عذاب البرزخ؛ لأن الإنسان الكافر يرى فيه موقعه من النار، ويرى نصيبه من العذاب، ثم تقوم الساعة ليأخذ نصيبه من العذاب. وبالنسبة لقوم عاد، أذاقهم الله سبحانه العذاب في الدنيا، ثم يدخلهم النار يوم القيامة. ويقول الحق سبحانه في نفس الآية: {ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] . وكلمة «ألا» هي أداة تنبيه كما قلنا من قبل تنبه السامع إلى أهمية ما يلقيه المتكلم حتى لا يجابه السامع بالكلام وهو غافل، ولأن المتكلم هو الذي يقود زمام الكلام، فيجب ألا يستقبله السامع غافلاً، فتأتي كلمة «ألا» كجرس ينبه إلى ما بعدها من كلام. والكلام عن قوم عاد الذين نالوا عذاباً في الدنيا بالريح العقيم، ثم أتبعوا لعنة من البرزخ، وسوف يُستقبلون يوم القيامة باللعنات؛ فهذه لعنات ثلاث. وجاء الحق سبحانه وتعالى بحيثية هذه اللعنات مخافة أن يرى قلب السامع من كثرة ما يقع عليهم من لعن، فبيَّن بكلمة «ألا» أي: تنبهوا إلى أن قوم عاد كفروا ربهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6524 وللجريمة زمن، وللعقوبة عليها زمن، وكفرهم بربهم حدث في الدنيا، وهو كفر في القمة؛ لذلك نالوا عقاباً في الدنيا. والخطر كل الخطر أن يتأخر زمن العقوبة عن زمن الجريمة، فلا تأخذكم بهم الرحمة الحمقاء، لأن كفرهم هو الكفر بالقمة العقدية؛ لذلك تواصل لعنهم في البرزخ، ثم تأتي لهم لعنة الآخرة. وهم لم يكفروا بنعمة ربهم، بل كفروا بربهم. والحق سبحانه لم يطلب من أحد عبادته قبل سن التكليف، وقدم لهم كما يقدم لكل الخلق نعمه التي لا تعد ولا تحصى؛ ولذلك فهم يستحقون اللعنات وهي الجزاء العادل. وقد أوضح لهم هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56] . أي: أن الحق سبحانه عادل. وأنت حين تسمع جريمتهم؛ تنفعل وتطلب أقصى العقاب لهم؛ ولذلك يأتي قول الحق سبحانه: {ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] . فأنت لا تكتفي بلعنتهم الأولى، بل تلعنهم مرة أخرى. ولسائل أن يقول: ولماذا يقول الحق سبحانه هنا: {أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6525 ونقول: لقد قال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى} [النجم: 50] . وهذا يوضح لنا أن «عاداً» كانت اثنتين: عاداً الاولى، وهم قوم عاشوا وضَلُّوا فأهلكهم الله، وهناك عاد الثانية. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6526 ونحن نلحظ أن الحق سبحانه يبيِّن لنا هنا أنه أرسل إلى ثمود واحداً منهم هو صالح عليه السلام. وجاء الحق سبحانه بلفظ {أَخَاهُمْ} ليبين العلاقة التي بين صالح عليه السلام وقومه، فهو قد نشأ بينهم، وعرفوه وخبروه، فإذا ما جاءهم بدعوة وقد لمسوا صدقه فلا بد أن يؤمنوا بما جاء به من منهج. وناداهم صالح عليه السلام: {ياقوم} ، وهي من القيام، يعني: يا من تقومون للأمور. والذي يقوم على الأمر عادة هم الرجال؛ لأن أمر النساء مستور دائماً في طي الرجال، فليس كل حكم من أحكام الدين يأتي فيه ذكر المرأة، بل نجد كثيراً من الأحكام تنزل للرجال، والنساء مطويات على الستر في ظل الرجال، والرجل يشقى ويكدح، والمرأة تدير حياة السُكْنى وتربية الأولاد. ونحن نجد من النساء ومن الرجال من يتراضون عند الزواج على ألا تخرج المرأة للعمل. إن للمرأة حق العمل إن احتاجت ولم تجد من يعولها، ولكن إن وجدت من يقوم عليها، فلماذا لا تلتفت إلى عمل لا يقل أهمية عن عمل الرجل، وهو رعاية الأسرة؟ وكذلك يجد من يقوم باسم الحرية بالهجوم على الحجاب، ونقول لمن يفعل ذلك: إذا كنت لم تنتقد التهتك في الملابس، ووَصَفْتَهُ بأنه «حرية» ، فلماذا تتدخل في أمر الحجاب، ولا تعتبره «حرية» أيضاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6527 ونعود إلى الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 61] والعبادة تقتضي تلقي أوامر الإله المعبود ب «افعل» و «لا تفعل» في كل حركة من حركات الحياة. فكان أول شيء طلبه صالح من قومه ثمود {اعبدوا الله} وأمر عبادة الله وحده مطلوب من كل أحد، ولا يسع أحداً مخالفته. {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 61] . تقرير واقع لا تستطيعون تغييره، فليس لكم إله آخر غير الله، مهما حاولتم ادعاء آلهة أخرى. ويقول الحق سبحانه: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] . والإنشاء هو الإيجاد ابتداء من غير واسطة شيء، ويقال: أنشأ، أي: أوجد وجوداً ابتداءً من غير الاستعانة بشيء آخر. لذلك لا نقول لمن اخترع: إنه «أنشأ» لأنه استعان بأشياء كثيرة ليصل إلى اختراعه؛ فقد يكون مستعيناً بمادة أخذها من الجبال، وبخبره تجارب صنعها من سبقوه، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو الذي ينشيء من عدم. والوجود من العدم قسمان: قسم أوجدته باستعانة بموجود، وقسم أوجدته من عدم محض، وهذا الأخير هو الإنشاء ولا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6528 والحق سبحانه جلَّت مشيئته في الإنشاء، فهو ينشيء الإنسان من التقاء الزوج والزوجة، وإن أرجعت هذا الإنشاء إلى البداية الأولى في آدم عليه السلام، فستجد أن الحق سبحانه وتعالى قد خلقه من نفس مادة الأرض، والأرض مخلوق من مخلوقات الله. فمنيُّ الزوج وبويضة الزوجة يتكونان من خلاصة الدم، الذي هو خلاصة الأغذية وهي تأتي من الأرض، فسواء رمزت لآدم بإنشائه من الأرض، أو أبقيتها في ذريته، فكل شيء مَردُّه إلى الأرض. وقول الحق سبحانه: {أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] . نجد فيه كلمة {استعمركم} وساعة ترى الألف والسين والتاء فاعلم أنها للطلب، وهكذا يكون معنى كلمة «استعمر» هو طلب التعمير. ومن الخطأ الشائع تسمية البلاد التي تحتل بلاداً أخرى: «دول الاستعمار» . أقول: إن ذلك خطأ، لأنهم لو كانوا دول استعمار، فهذا يعني أنهم يرغبون في عمارة الأرض، ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا يخربون في الأرض؛ ولذلك كان يجب أن تسمى «دول الاستخراب» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6529 {واستعمركم فِيهَا} أي: طلب منكم عمارتها، وهذا يتطلب أمرين اثنين: أن يبقي الناس الأمر الصالح على صلاحه، أو يزيدوه صلاحاً. وكما ضربت المثل من قبل بتحسين وسائل وصول المياه إلى المنازل بعد اكتشاف نظرية الأواني المستطرقة، فقد كان الناس يشربون الماء من الترع، ثم تم اختراع كيفية تكرير المياه، ثم جاءت نظرية الأواني المستطرقة، فاستغلها الناس في بناء خزانات عالية، وتوصيل الماء بواسطة مواسير تدخل لكل بيت. وهكذا تصل المياه النقية لكل منزل، وهكذا يزداد في الأمر الصالح صلاحاً. وأيضاً إن استصلحنا الأرض البور، فنحن نزيد الأرض رقعة صالحة لإنتاج الغذاء لمقابلة الزيادة في عدد السكان. وما دام عدد السكان في زيادة فلا بد من زيادة رقعة الأرض بالاستصلاح؛ لأن الأزمة التي نعاني منها الآن، هي نتيجة للغفلة التي مرت علينا، فزاد التكاثر عن الاستصلاح، وكان الواجب يقتضي أن نزيد من الاستصلاح بما يتناسب مع الزيادة في السكان. وهكذا نفهم معنى استعمار الأرض. ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أنه تجلَّى على الخَلْق بصفات من صفاته، فالقويُّ يعين الضعيف، والحق سبحانه له مطلق القوة، ويَهَبُ الخلق من حكمته حكمة، ومن قبضه قبضاً، ومن بسطه بسطاً، ومن غناه غنىً؛ ولكن الصفات الحسنى كلها ذاتية فيه وموهوبة منه لنا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6530 والدليل على ذلك أن القوي فينا يصير إلى ضعف، والغني منا قد يصيبه الفقر؛ حتى لا نفهم أن هذه الصفات ذاتية فينا، وأن الحق سبحانه وتعالى قد أعطانا من صفاته قدرة لنفعل. ومن أعطاه الله تعالى قدرة ليفعل؛ عليه أن يلاحظ أنه انتفع بفعل من سبقه، فإن أكل اليوم تمراً على سبيل المثال فعليه أن يتذكر أن الذي زرع له النخلة هو من سبقه، فليزرع من يأكل البلح الآن نخلة لتفيده بعد سبع سنين وهو الزمن اللازم لتطرح النخلة بلحاً وليستفيد بها من يأتي من بعده. ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلام لقومه «ثمود» في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61] . فإن استغفر الإنسان، فالحق سبحانه قريب من كل عبد يستغفر عن ذنوب لا تمثل حقوقاً للناس، والله سبحانه وتعالى يجيب لطالب المغفرة. فماذا كان الرد من قوم ثمود؟ يقول الحق عَزَّ وَجَلَّ ما جاء على ألسنتهم: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6531 {قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6532 كانوا ينظرون إلى صالح عليه السلام بتقدير ورجاء قبل أن يدعوهم لعبادة الله تعالى وحده، ولا إله غيره. والمرجوُّ هو الإنسان المؤمَّل فيه الخير، ذكاءً، وطموحاً، وأمانة، وأية خصلة من الخصال التي تبشر بأنه له مستقبلاً حسناً. ولكن ما إن دعاهم صالح عليه السلام إلى عبادة الله سبحانه وتعالى أعلنوا أنه بتلك الدعوة إنما يفسد رجاءهم فيه وما كانوا يأملون فيه. وقد أوضح لهم صالح عليه السلام ما أوضحه الرسل من قبله ومن بعده، أن اتخاذ الأصنام أو الأشجار أو الشمس آلهة تُعْبد هو أمر خاطىء؛ لأن العبادة تقتضي أوامر ونواهي ينزل بها منهج؛ يتبعه من يعبدون، وتلك الكائنات المعبودة لا منهج لها، ولا عبادة دون منهج. وأضاف قوم ثمود: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6532 والشك هو استواء الطرفين: النفي والإثبات. إذن: فهم ليسوا على يقين أن عبادتهم لما عبد آباؤهم هي عبادة صادقة، ودعوة صالح عليه السلام لهم جعلتهم يترددون في أمر تلك العبادة؛ وهذا يُظهر أن خصال الخير في صالح عليه السلام جعلتهم يترددون في أمر عبادتهم. ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلام لثمود: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6533 وكأن صالحاً قد ارتضاهم حكماً فقال: أخبروني إذا كنت أنا على بينة من ربي ويقين بأنه أرسلني وأيَّدني، وأنا إن خدعت الناس جميعاً فلن أخدع نفسي، فهل أترك ما أكرمني به ربي وأنزل إليَّ منهجاً أدعوكم إليه؟ هل أترك ذلك وأستمع لكلامكم؟ هل أترك يقيني بأنه أرسلني بهذه الرسالة {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} [هود: 63] وهي النبوة؟ {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود: 63] . وساعة يستفهم إنسان عن شيء في مثل هذا الموقف فهو لا يستفهم إلا عن شيء يثق أن الإجابة ستكون بما يرضيه. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان صالح عليه السلام: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63] . ونحن نعلم أن الخسارة ضد المكسب، ومعنى الخسارة أن يقل رأس المال. فهل التخسير واقع منه عليهم أم واقع منهم عليه. إن ثراء الأسلوب القرآني هنا يوضح لنا هذه المعاني كلها، فإن أطاعهم صالح عليه السلام وعصى ربه، فهو قد أزاد في خسارته، أو أنه ينسبهم إلى الخسران أكثر، لأنهم غير مهديين، ويريدون له أن يضل ويتبع ما يعبدون من دون الله تعالى. إذن: فالتخسير إما أن يكون واقعاً عليهم من صالح عليه السلام وإما أن يكون واقعاً منهم على صالح. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان صالح عليه السلام: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6534 {وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6535 وكان قوم صالح قد طلبوا آية، فقالوا له: إن كنت نبيّاً فأخرج لنا ناقة من تلك الصخرة، وأشاروا إلى صخرة ما، وهم قوم كانوا نابغين في نحتن بيوتهم في الجبال. ومن يَزُورْ المنطقة الواقعة بين الشام والمدينة، يمكنه أن يشاهد مدائن صالح، وهي منحوتة في الجبال. وقد قال فيهم الحق سبحانه: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ} [الشعراء: 149] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6535 هم إذن قد حددوا الآية، وهي خروج ناقة من صخرة أشاروا إليها، فخرجت الناقة وهي حامل. وبعد أن وُجدت الناقة على وفق ما طلبوها لم يطيقوا أن يعلنوا التصديق، وقد قال لهم صالح عليه السلام: {وياقوم هذه نَاقَةُ الله} [هود: 64] . وساعة تسمع شيئاً مضافاً إلى الله تعالى، فاعلم أن له عظمة بعظمة المضاف إليه. مثلما نقول: «بيت الله» ، وهذا القول إن أُطلق فالمقصود به الكعبة المشرفة، وإن حددنا موقعاً وقلنا عنه: «بيت الله» فنحن نبني عليه مسجداً، وتكون أرضه قد حُكرت لتكون مُصَلّى، ولا يُزاوَل فيها أي عمل آخر. هكذا تكون الكعبة هي بيت الله باختيار الله تعالى، وتكون هناك مساجد أخرى هي بيوت لله باختيار خَلْق الله. ولذلك فبيت الله باختيار الله هو قبلة لبيوت الله باختيار خلق الله. إذن: فإن أضيف شيء لله تعالى، فهو يأخذ عظمة الحق سبحانه وتعالى، وقد قال لهم صالح: {هذه نَاقَةُ الله} [هود: 64] وهي ليست ناقة زيد أو ناقة عمرو. ولم يلتفت قوم صالح إلى ما قاله صالح عليه السلام، ولم يلحظوا أن الشيء المنسوب لله تعالى له عظمة من المضاف إليه. ومثال ذلك: «ابن أبي لهب، وكان قد تزوج ابنة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحين اشتد عناد أبي لهب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال أبو لهب لابنه: طلق بنت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6536 محمد، فطلقها، وفعل فعلاً يدل على الازدراء، فدعا عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:» أما إني أسأل الله أن يسلط عليه كلبه «. فقال أبو لهب: إني لأتوجس شرّاً من دعوة محمد. ثم سافر ابن أبي لهب مع بعض قومه في رحلة، وكانوا إذا ناموا طلب أبو لهب مكاناً في وسط رحال الركب كله خوفاً على ابنه من دعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإذا بأسد يقفز من الرحال ويأكل الولد» ، فهنا نسب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأمر إلى الله فقال: «أكلك كلب من كلاب الله» فكان كلب الله أسداً. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوضح لهم صالح عليه السلام: هذه الناقة هي الآية التي طلبتموها وقد جاءت من الصخر. وكان يقدر أن يأتي لهم بالجنس الأرقى من الجماد، وهو النبات، ولكن الحق سبحانه استجاب للآية التي طلبوها وهي من جنس الحيوان. ونحن نعلم أن الكائنات الأرضية إما أن تكون جماداً، وإما أن يأخذ الجماد صفة النمو فيصير نباتاً، وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة فيصير حيواناً، وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة والفكر فيصير إنساناً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6537 وكان من الممكن أن يأتي لهم صالح عليه السلام بشجرة من الصخر، وهذا أمر فيه إعجاز أيضاً، ولكن الحق سبحانه أرسل الآية كما طلبوها؛ ناقة من جنس الحيوان، وحامل في الوقت نفسه. وطالبهم صالح عليه السلام أن يحافظوا عليها؛ لأنها معجزة، عليهم ألا يتعرضوا لها. وقال لهم: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] . وهكذا وعظهم، وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض الله، وإن مسّوها بسوء ولم يأخذهم عذاب، فمن آمن به لا بد أن يكفر. إذن: فلا بد أن يأتي العذاب القريب إن هم مسّوها. وهم قد مسّوها بالفعل، وهو ما تبينه الآية الكريمة التالية: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6538 وجلسوا في منازلهم ثلاثة أيام ثم جاءهم العذاب. ولقائل أن يقول: ولمَ الإمهال بثلاثة أيام؟ ونقول: إن العذاب إذا جاء فالألم الحسِّي ينقطع من المعذَّب، ويشاء الله تعالى أن يعيشوا في ذلك الألم طوال تلك المُدَّة حتى يتألموا حِسِّيًا، وكل يوم يمرُّ عليهم تزداد آلامهم من قرب الوعيد الذي قال فيه الله تعالى: {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] . الحق سبحانه هو الذي يَعِدُ، وهو القادر على إنفاذ الوعد، ولا تقوم قوة أمامه؛ لذلك فهو وعد صادق غير مكذوب. على عكس الإنسان منا حين يَعِدُ بشيء، فمن الممكن أن يأتي وقت تنفيذ الوعد ولا يستطيع. لذلك يقول لنا الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 2324] . لأنك إن قلت: «أفعل ذلك غداً» ، وتعد إنساناً بلقائه لكذا وكذا؛ فقل: «إن شاء الله» ؛ لأن الله تعالى لا يمنع ترتيب أمور لزمن يأتي، وإنما يجب أن يردف من يرتب الأمور «بمشيئة القوي القادر» حتى إذا لم ينجز ما وعد به؛ يكون قد خرج عن الكذب، لأن الله تعالى لم يشأ، لأن الإنسان إذا وعد، فهو لا يعتمد على إرادته، ولكن مشيئة الله تعالى تعلو كل شيء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6539 والفعل كما نعلم يقتضي فاعلاً، ومفعولاً، وزمناً، وسبباً دافعاً، وقدرة تمكِّن الإنسان من الفعل، فهل يملك أحدٌ شيئاً من كل هذا؟ إن الإنسان لا يملك نفسه أن يعيش إلى الغد، ولا يملك من يعده أن يوجد غداً حتى يلقاه، ولا يملك أن يظل السبب سبباً للِّقاء؛ فربما انتهى السبب، ولا يملك حين تجتمع الأسباب كلها أن توجد له قدرة وقوة على إنفاذ السبب. إذن: فإذا قال: «أفعل ذلك غداً مع فلان» ؛ يكون قد جازم وتكلم في شيء لا يملك عنصراً واحداً من عناصره، فقل: «إن شاء الله» ، أي: أنك تستعين بمشيئة من يملك كل هذه العناصر. ويعطي الحق سبحانه في كل لقطة إيمانية من اللقطات، قدرته على خلقه فهو سبحانه القائل: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] . وقوله: {فِي دَارِكُمْ} لأن من هؤلاء الذين كفروا قوماً في مكان يختلف عن مكان آخر يوجد به أيضاً قوم كافرون، ومنهم المسافر، ومنهم العائد من سفر، فتتبعهم العذاب حيثما كانوا، فلم ينزل على مكان واحد، إنما نزل على المكين منهم في أي مكان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6540 ولم يَنْجُ من هذه المسألة إلا واحد اسمه «أبو رغال» ، وكان يحج إلى بيت الله، فلم يتبعه عذابه في بيت الله؛ لأن الله سبحانه طلب منا نحن عباده أن نؤمِّن من دخل بيته، فهو سبحانه وتعالى أوْلى بأن يؤمِّن من دخل البيت الحرام، وظل الحجر الذي سيُضرب به، أو الصيحة التي كان عليها أن تأخذه، ظلت إلى أن خرج من الحرم فوقعت عليه. . وعَمَّ العذابُ الكافرين من قوم صالح، وتتبع من في الديار إلا هذا الرجل، وما إن خرج من البيت الحرام حتى وقع عليه العذاب. ولذلك كان قاتل الأب أو الإنسان الذي عليه دم نتيجة أنه ارتكب جريمة قتل، إذا ما دخل البيت الحرام فهو يُؤمَّن إلى أن يخرج، وكانوا يُضيِّقون عليه، فلا يطعمه أحد، ولا يسقيه أحد ليضطر إلى الخروج، فيتم القصاص منه بعد خروجه من البيت الحرام، ولتظل حرمة البيت الحرام مُصَانة. ونحن نعلم أن الحق سبحانه أراد من تحريم القتال في البيت الحرام، صيانة وتكريماً للكرامة الإنسانية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6541 ونحن نعلم أيضاً أن كل حدث من الأحداث يقتضي زماناً، ويقتضي مكاناً. وكان العرب دائمي الغارات على بعضهم البعض، فأراد الحق سبحانه أن يوجد مكان يحرم فيه القتال؛ فخصَّ البيت الحرام بذلك، وأراد سبحانه أن يوجد زمان يحرم فيه القتال؛ فكانت الأشهر الحرم؛ لان الحرب قد تكون سجالاً بين الناس وتوقظ فيهم الحمية والأنفة والعزة. وكل واحد منهم يحب في ذاته أن ينتهي من الحرب، ولكنه لا يحب أن يجبن أمام الناس، فأراد الحق سبحانه أن يجعل لهم شيئاً يتوارون فيه من الزمان ومن المكان، فحرم القتال في الأشهر الحرم. وما إن تأتي الأشهر الحرم حتى يعلن المقاتل من هؤلاء: لولا الأشهر الحرم لكنت قد أنزلت بخصمي الهزيمة الساحقة، وهو يقول ذلك ليداري كبرياءه؛ لأنه في أعماقه يتمنى انتهاء الحرب. وكذلك حين يدخل مقاتل إلى البيت الحرام، هنا يقول مَنْ كان يحاربه: لو لم يدخل الحرم؛ لأذقته عذاب الهزيمة. وبمضيِّ الزمان وبالمكث في المكان ينعم الناس بالأمن والسلام، وربما عشقوه فانتهوا من الحرب. ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6542 فحين شاء الحق أن يُنزل العذاب بثمود، بعد مُضيِّ المدة التي أنذروا بنزول العذاب بعدها، نجَّى الحق صالحاً عليه السلام والذين آمنوا برسالته من الهلاك، فحفظتهم رحمة الله؛ لأنهم آمنوا بما نزل على صالح من منهج، ولم يُعَانِ المؤمنون برسالة صالح ما عانى منه قوم ثمود من الذل والفضيحة. هذا الذل وتلك الفضيحة التي حاقت بثمود. ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز} [هود: 66] . هذا خطاب لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسلية وتسرية عنه وتقوية لعزمه، فالحق سبحانه مقتدر يأخذ كل كافر، ولا يغلبه أحد ولا يعجزه شيء، وفي هذا إنذار لمن كفروا برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6543 ويسمي الحق سبحانه هنا العذاب الذي نزل على ثمود «الصيحة» وسمّاه في موضع آخر «الطاغية» : {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5] . وسمّاه في موضع آخر «صاعقة» فقال سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6543 {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] . وفي سورة الأعراف سمّاه «الرجفة» ، وكل من الصاعقة والصيحة والرجفة تؤدي معنى الحدث الذي يَدْهَمُ، ولا يمكن الفكاك منه. ولقائل أن يقول: لماذا لم يقل الحق سبحانه هنا: «وأخذت الذين ظلموا الصيحة» ؟ لماذا اختفت تاء التأنيث من الفعل، وقال سبحانه: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] . ونقول: إن الذي يتكلم هنا هو رب العباد سبحانه، ولا يصح أن نفهم الصيحة على أنها جاءت لتعبر عن صيحة واحدة، فتاء التأنيث تعبر عن الصيحة لمرة واحدة، أما إذا تكررت وصارت صياحاً كثيراً تأخذهم كل صيحة من الصياح. وهنا نلمح أن الصيحة فيها ضعف الأنوثة، أما الصياح ففيه عزيمة وقوة الرجولة، فأراد الحق سبحانه أن يجمع الأمرين، فقال: «أخذ» ولم يقل: «أخذت» . ثم قال سبحانه: {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 67] . أي: مُلْقون على رُكَبهم وعلى جباههم بلا حركة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6544 {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6545 ومادة «غَنِيَ» . . «غِنىً» ، أو «غَنَاءً» كلها متساوية؛ لأن الغَنَاء هو الوجود؛ وجود شيء يُغَنِي عن شيء، فالغِنَى هو وجود مال يغنيك عن غيرك، والغناء هو ما نسمعه من المُغَنِّين، والأغنية التي يعجب الإنسان من كلماتها ولحنها، فهو يقيم معها إقامة تطرد ما سواها مما سمع من الكلام على كثرة ما سمع أو قرأ، والغَناء هو للإقامة. والحق سبحانه يقول: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} [يونس: 24] . أي: كأنها لم توجد من قبل. وهنا يقول الحق سبحانه: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} [هود: 68] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6545 أي: لم يقيموا فيها، لأنها صارت حصيداً. ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} [هود: 68] ، وهذه هي حيثية العذاب الذي نزل بهم. وعادة ما تتعدى كلمة «كفر» بالباء، ويقال: كفروا بربهم، ولكن الحق سبحانه يقول هنا: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} [هود: 68] . والفارق كبير بين المعنيين، فمعنى {كَفرُواْ رَبَّهُمْ} أي: ستروا وجوده، فلا وجود له، ولكن معنى «كفروا بربهم» هو اعتراف بالله الموجود، لكنهم لم يؤمنوا به. وقول الحق سبحانه: {كَفرُواْ رَبَّهُمْ} يرد على الملاحدة الذين لا يقرون بوجود الله، لأن ذنب إنكار وجود الله ليس بعده ذنب، ولا يوجد ما هو أكثر منه في الذنوب. لذلك يقول الحق سبحانه: {أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} [هود: 68] . أي: أنهم: يستحقون ما وقع عليهم من إهلاك وطرد من رحمة الله، ولن يعطف عليهم أحد لضخامة ذنبهم. ويأتي الحق سبحانه في الآية التالية بقصة جديدة من قصص الأنبياء، وهي جزء من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يقول سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6546 {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6547 وكلمة «رسل» جمع «رسول» ، والرسول هو المرسَل من جهة إلى جهة، وأي إنسان تبعثه إلى جهة ما؛ اسمه رسول، ولكن المعنى الشرعي للرسول: أن يكون مُرسَلاً من الله. ويقول الحق سبحانه: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} [الحج: 75] . واصطفاء الملائكة كرسل لتيسير التلقِّي عن الخالق سبحانه؛ لأن القوة التي تتلقى عن الخالق سبحانه وتعالى لا بد أن تكون قوة عالية، والإنسان منا لا يقدر على أن يتلقى مباشرة عن الحق سبحانه. لذلك يأتي لنا الله جَلَّ عُلاَه بالرسل، فيصطفي من الملائكة المخصوصين القادرين على التلقي لينزلوا على المصطفى من البشر القادر على حمل الرسالة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6547 وهكذا نعلم أن الملائكة ليست كلها قادرة على التلقي من الله تعالى، ولا كل البشر بقادرين على التلقي عن الله أو عن الملائكة. وهذه الحلقات في الإبلاغ أرادها الحق سبحانه، لتؤهل للضعيف أن يأخذ من الأقوى؛ والبشر يلجأون إلى ذلك في حياتهم. وسبق أن ضربت المثل، بأننا أثناء الليل نطفىء نور المنزل، لكننا نترك ضوءاً خافتاً يوضح لنا ملامح البيت، فإن قمنا ليلاً من النوم؛ لا نصطدم بمتاع البيت، فيتحطم ما نصطدم به إن كان أضعف منا، أو نُصَاب نحن إن اصطدمنا بما هو أقوى منا. والنور الضعيف يتيح لنا أن نرى مكان مفتاح الضوء القوي. وكذلك يفعل الله سبحانه وتعالى، فيأتي بمصطفى من الملائكة، يتلقى عن الحق سبحانه ويبلغ المَلَكُ من هؤلاء الرسولَ المصطفى من البشر. والحق سبحانه هو القائل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} [الشورى: 51] . وهنا يقول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6548 {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} [هود: 69] . والبشرى هي الإخبار بشيء يسرُّ قبل أوان وقوعه، وهي عكس الإنذار الذي يعني الإخبار بشيء محزن قبل أوانه. وقبل أن يوضح الرسل لإبراهيم عليه السلام البشارة التي جاءوا من أجلها، يعلمنا الحق سبحانه المقدمات اللازمة للدخول إلى الأماكن، فمن أدب الدخول إلى أي مكان أن نسلِّم على أهل هذا المكان، والحق سبحانه القائل: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] . ولذلك يأتي الحق سبحانه هنا بما قالته الملائكة من قبل إبلاغ البشرى: {قَالُواْ سَلاَماً} [هود: 69] . وجاء سبحانه بردِّ إبراهيم عليه السلام: {قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] . ونحن نلحظ أن السلام جاء على ألسنتهم بالنصب، والرد بالسلام جاء بالرفع، وقولهم: {سَلاَماً} دل على فعل يوضح التجدد، والرد جاء بكلمة {سَلاَمٌ} بالرفع؛ ليدل على الثبات والإصرار. والحق سبحانه هو القائل: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} [النساء: 86] . هكذا استقبل إبراهيم عليه السلام رسل الحق سبحانه. ثم يقول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6549 {فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] . والعجل هو ولد البقر. وهناك آيات كثيرة في القرآن تعرضت لقصة إبراهيم عليه السلام في أكثر من موضع من مواضع القرآن، لا بقصد التكرار، ولكن لأن كل لقطة في أي موضع هي لقطة مقصودة لها دلائلها وأسرارها، فإذا جُمِعَتْ اللقطات فسوف تكتمل لك قصة إبراهيم عليه السلام في شمول متكامل. وعلى سبيل المثال: يقول الحق سبحانه: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} [الأنعام: 75] . وفي موضع آخر يتعرض الحق سبحانه للتربية اليقينية التي أرادها لإبراهيم، فيقول سبحانه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 7679] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6550 إن هذه الآيات تبين وظيفة الحواس إدراكاً، ووظيفة الوجدان انفعالاً، ووظيفة الاختيار توحيداً وإذعاناً بيقين. ثم يقول الحق سبحانه في موضع آخر على لسان إبراهيم عليه السلام فخاطب عمه باحترام لمكانته التي تساوي منزلة الأب. يقول الحق سبحانه: {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم: 4145] . فهذه الآية تبين رفق الداعي مع جمال العرض. فأصرَّ العَمُّ على الشرك، فقال إبراهيم عليه السلام: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] . وبعد ذلك يتبرأ منه لإصراره على الكفر. ثم هناك لقطة من يُحاجِج إبراهيم في ربه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] . وكانت تلك سفسطة في القول ناتجة عن عجز في التعبير، فليس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6551 إصدار حكم بالقتل على إنسان، ثم العفو عنه، هو إحياء وإماتة، فأخذه إبراهيم عليه السلام إلى منطقة لا يجرؤ عليها أحد، وقال: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258] . وهذه الآية تبين منطق الحق أمام زيف الباطل، ثم يأتي في موضع آخر من القرآن ليبين المقارنة بين فكرة الكفر، وفكرة الإيمان، فيقول سبحانه: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 6974] . وفي هذه الآية أمثلة تحمل جواب الإسكات. ثم يقول الحق سبحانه، على لسان إبراهيم عليه السلام: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 7882] . يقول رب العزة سبحانه في سورة الأنبياء: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين} [الأنبياء: 5156] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6552 هذه هي التربية اليقينية التي أرادها الحق سبحانه لإبراهيم عليه السلام ليعلمنا كيف يكون الإيمان؟ وكان قوم إبراهيم يعبدون آلهة غير الله، لكن إبراهيم عليه السلام توصَّل إلى عبادة مَنْ خَلَقه وخَلَق الكون، وهو الصانع الذي يضع قانون صيانة ما يصنع سبحانه وتعالى: ولذلك نلاحظ قوله: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] . فلم يقل: «الذي خلقني يهديني» لأن هذه دعوى؛ ستُدَّعى، وسيضع الناس قوانين لأنفسهم، فبيَّن الحق سبحانه أن الذي خَلَق هو الذي يَهْدِي. وجاء الحق سبحانه بكلمة «هو» لحصر الأمر حتى لا يشارك الخلق خالقهم فيه، لكن الأمر الذي لم يُدَّعَ، لم يأت فيه بكلمة «هو» كقوله: {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] . فما لا شركة فيه عند الخَلْق يأتي به القرآن من غير تأكيد الضمير، ولكن في الأمر الآخر يأتي بتأكيد الضمير كقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . فقد قال: «إن الطبيب هو الذي يشفيني» ، ولكن ذلك غير حقيقي؛ لأن الله سبحانه هو الذي يضع العلم، وهو الذي خلق الداء وخلق الدواء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6553 ثم بعد ذلك يقول الحق سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127] . إذن: فكل مناسبة تأتي لتأكيد معنى من معاني الإيمان تأتي معها لقطة من لقطات قصة إبراهيم عليه السلام، وإذا جُمِعت اللقطات كلها تجد قصة إبراهيم كاملة. وإذا كان الله سبحانه وتعالى يريد أن يقص على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القصص، فذلك لتثبيت فؤاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] . لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعرض لكثير من الأحداث فيذكِّره الله سبحانه بما حدث للرسل عليهم السلام ويأتي باللقطات الإيمانية ليثبت فؤاد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهنا يقول الحق سبحانه: {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] . وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52] . وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه هذا الموقف: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ} [الذاريات: 28] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6554 أي: أحس في نفسه الخوف، وهذا من أمر المواجيد؛ لأن كل فعل من الأفعال له مقدمات تبدأ بالإدراك، ثم النزوع، ثم الفعل؛ فحين رآهم إبراهيم عليه السلام أوجس في نفسه خيفة، ثم نزع إلى فعل هو السلام. والشرع لا يتدخل في الإدراك أو المواجيد، ولكنه يتدخل في النزوع، إلا في أمر واحد من مدركات الإنسان، وهو إدراك الجمال في المرأة. لذلك أمر الشرع بغض البصر؛ حتى لا يدرك الإنسان ذلك فينزع إلى سلوك ليس له حق فيه، ولأن إدراك حُسْن المرأة قد يدفع الغرائز إلى السلوك الفوري؛ لأن الغرائز لا تفصل النزوع عن الوجدان والإدراك. وهنا بيَّن الحق مواجيد إبراهيم عليه السلام حين قال: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ} [هود: 70] . وجاء بالمعنى النزوعي حين قال: {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] . وهو حين التأكيد والتثبيت. وقال الحق سبحانه: {فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] . وهو: العجل السمين المشوي على الحجارة؛ لأن الشواء كما نعلم قد يكون على اللهب أو على الفحم، أو على الحجارة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6555 ومثل ذلك يحدث في البلاد العربية حين يأتون بحجر رقيق جدّاً، ويحمُّونه على النار، ثم يشوون عليه اللحم، وهذا ما يضمن عدم حدوث تفاعلات بين اللحم والحجر؛ لأن هناك تفاعلات تحدث من الحديد أو من الفحم؛ ولذلك فهذه أنظف طريقة للشواء. أو أن كلمة: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] . أي: ينزل منه الدهن بعد الشواء. وقول الحق سبحانه: {فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] . لأن طبيعة سيدنا إبراهيم عليه السلام هي محبة الضيوف وإكرامهم. ومن عادة الكرام أن يُعجِّلوا بإكرام الضيف، وتقديم الطعام له، والكريم هو من يفعل ذلك؛ لأنه لا يعلم ما قد مر على الضيف دون طعام، فإن كان الضيف جائعاً؛ أكل، وإن كان شبعان فهو يعلن ذلك. ويقول الحق سبحانه ما حدث بعد أن جاء لهم إبراهيم عليه السلام بالعجل المشوي: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6556 وحين رأى إبراهيم أن أيديهم لا تصل إلى الطعام توجس من ذلك شرّاً ونكرهم، أي: استنكر أنهم لم يأكلوا من طعام قدَّمه لهم، فهل علم إبراهيم أنهم ملائكة؟ لقد علم إبراهيم عليه السلام أنهم ملائكة من كلامهم. وقد بيَّن ذلك قول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} [الحجر: 5258] . إذن: فهم لم يقولوا له مثلما قالوا للوط عليه السلام: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود: 81] . وهنا حين قالوا لإبراهيم عليه السلام: {لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] . أي: أنهم فهموا أن إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم ملائكة؛ لأن المَلك قد يتشكل في هيئة إنسان، مثلما تشكَّل جبريل عليه السلام أمام سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكذلك الجن لهم قدرة على التشكل، إلا أن هناك فارقاً بين تشكل الملك وتشكل الجن، فالجن إن تشكل تحكمه الصورة، فإن تشكل في صورة رجل فيمكنك أن تمسك به وتؤذيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6557 ألم يَقُلْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن عفريتاً من الجن تفلَّت البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: {قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} [ص: 35] . فرددته خاسئاً» . إذن: إذا تشكل الجن حكمته الصورة، ويمكن أن نضربه مثلاً، أما الملاك إذا تشكل فالصورة لا تحكمه. وحُكْم الصورة عند تشكل الجني هي التي تحمينا من مخاوفنا، وهو أيضاً يخاف منا مثلما نخاف منه، ولذلك لا يظهر الجني متشكلاً في صورة إلا لحظة قصيرة ليختفي على الفور؛ لأنه يخاف أن تكون قد علمتم أن الصورة التي تشكل عليها تحكمه وتستطيع أن تفتك به؛ لذلك فالجن يخافون من البشر. وشاء الحق سبحانه ذلك الأمر حتى لا يفزع الجنُّ الناسَ. وهنا يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود: 70] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6558 وكلمة {نَكِرَهُمْ} تقتضي أن ننظر في مادة «النون والكاف والراء» وكلمة «نكر» وكلمة «أنكر» كلتاهما مستعملة في القرآن. والشاعر يقول: وَأنْكَرتَنِي ومَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوادِث إلاّ الشَّيبَ والصَّلَعا والاستعمال اللغوي يدل على أن المقابح من ألوان السلوك تسمى منكرات، أي: ينكرها الإنسان بفطرته. وهنا حين رأى إبراهيم عليه السلام أن أيديهم لا تصل إلى العجل الحنيذ نكرهم، وأوجس في نفسه خيفة، فلاحَظوا ذلك، وقالوا: {لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] . وهكذا عرف لمن جاءوا، واطمأن أن قومه لم يأتوا بفعل يستحقون عليه العذاب، وخصوصاً أن كتب التاريخ تقول: إن إمرأة إبراهيم عليه السلام قالت له: ألا تضم ابن أخيك إلى كنفك هنا؛ لأن قومه يوشك أن يعمهم الله بالعذاب. وحين سمعت أن الرسل إنما جاءت إلى قوم لوط سُرَّتْ من فراستها، وتبسَّمت لأنها تنبهت إلى هذه المسألة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6559 وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 3234] . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6560 فعندما كانت أمرأته قائمة على خدمة الضيوف، وسمعت كلام الملائكة اطمأنت على أنه لا عذاب على قومهم، وتحققت فراستها فضحكت فأزادها الله سروراً، وبشَّرتها الملائكة بإسحق، ومن وراء إسحق يعقوب. فبعد دفع العذاب، وبيان أمر العذاب لقوم آخرين مجرمين، تأتي البشارة بتحقيق ما كان إبراهيم عليه السلام وزوجه يصبوان إليه، وإن كان أوانها قد فات؛ لأن زوجة إبراهيم كانت قد بلغت التسعين من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6560 عمرها، وبلغ هو المائة والعشرين عاماً. وفي هذا امتنان على إبراهيم بمجيء ابن الابن أيضاً، وكذلك يمتن الله سبحانه على عباده حين يقول: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] . ولذلك قال الحق سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] . فالإنسان يحب أن يكون له ابن، ويحب أكثر أن يرى ابن ابنه، لأن هذا يمثل امتداداً له. وهكذا توالت البشارات، فقد أعلنت الملائكة أنها جاءت لتعذب قوم لوط، هؤلاء الذين اختلف معهم إبراهيم عليه السلام؛ لما جاءوا به من الفواحش، وكذلك لأن إبراهيم عليه السلام وامرأته قد علما أنهما لم يأتيا بأي أمر يغضب الله تعالى. والثالثة من البشارات هي الغلام، وكان ذلك حُلْماً قديماً عند امرأة إبراهيم عليه السلام لأنها عاقر، واستقبلت امرأة إبراهيم البشارة الأولى بالضحك، واستقبلت البشارة بالابن بالدهشة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6561 وهذا ما يقول فيه الحق سبحانه: {قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6562 والشيء العجيب هو الذي يخالف نواميس الكون المعتادة، ولكن هناك فرقاً بين النواميس وخالق النواميس، الذي هو قادر على أن يخرق النواميس. وها هو سيدنا إبراهيم يقول في موضع آخر: {أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} [الحجر: 54] . ولم يأت هنا بقول امرأة إبراهيم التي قالت: {ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] . وتسمية الزوج بعلاً فيها دقة شديدة؛ لأن البعل هو الذي يقوم بأمر المبعول ولا يحوجه لأحد. كذلك الزوج يقوم بأمر زوجته فيما لا يستطيع أبوها ولا أخوها أن يقوما به، وهو الإحساس بالأنوثة والإخصاب، وهو أهم ما تطلبه المرأة. وأيضاً سُمِّي النخل بالبعل، لأنه لا يطلب من زارعة أن يسقيه، وإنما يكتفي النخل بما يمتصه من الأرض، وما ينزل له من مطر السماء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6562 وكذلك سُمِّي نوع من الفول «بالفول البعلي» ، وهو الذي لا يحتاج إلى إرواء. إذن: فالبعل هو الزوج الذي يقوم على أمر زوجته فلا يُحوجها إلى غيره في أي شيء من الأشياء. وهنا تتعجب زوجة إبراهيم عليه السلام من أمر الإنجاب؛ لأن هذا شيء عجيب يقع على غير انتظار؛ ولذلك يرد الملائكة عليها. ويقول الحق سبحانه عن ذلك: {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6563 والعجب إذن إنما يكون من قانون بشري، وإنما القادر الأعلى سبحانه له طلاقة القدرة في أن يخرق الناموس. . ومن خرق النواميس جاءت المعجزات لتثبت صدق البلاغ عن الله تعالى، فالمعجزات أمر خارق للعادة الكونية. والقصة التي حدثت لإبراهيم عليه السلام وامرأته تكررت في قصة زكريا عليه السلام، والحق سبحانه هو الذي أعطى مريم عليها السلام بشارة التذكير لزكريا عليه السلام حين سألها: {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] . فقالت مريم: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6563 {هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . إذن: فالحساب يكون بين الخلق وبعضهم، لا بين الخالق سبحانه وخَلْقه. ولذلك ياتي قول الحق عَزَّ وَجَلَّ: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] . وما دام زكريا عليه السلام قد تذكَّر بقول مريم: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . فمن حقه أن يدعو: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً} [آل عمران: 38] . فأوحى له الله سبحانه وتعالى: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} [مريم: 7] . أي: أن الحق سبحانه لم يرزقه الابن فقط، بل وسماه له أيضاً باسمٍ لم يسبقه إليه أحد. وتسمية الله تعالى غير تسمية البشر، فإن كان بعض البشر قد سموا من بعد ذلك بعض أبنائهم باسم «يحيى» فقد فعلوا ذلك من باب الفأل الحسن في أن يعيش الابن. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6564 لكن الحق سبحانه حين يسمي اسماً، فقد سماه «يحيى» ليحيا بالفعل، ويبلغ سن الرشد، ثم لا يأتي الموت؛ لذلك قُتِل يحيى وصار شهيداً، والشهيد حيٌّ عند ربه لا يأتي إليه موتٌ أبداً. وهذا عكس تسمية البشر؛ لأن الإنسان قد يسمي ابنه «سعيد» ويعيش الابن حياته في منتهى الشقاء. والشاعر يقول عن الإنسان الذي سمى ابنه «يحيى» : وَسَمَّيْتُهُ يَحْيَى لِيَحْيَا فَلَمْ يَكُنْ ... لِرَدِّ قَضَاءِ الله فيهِ سَبِيلُ وحين نرجع إلى أن مريم عليها السلام هي التي نبهت إلى قضية الرزق من الله، نجد أن زكريا عليه السلام قد دعا، وذكر أنه كبير السن وأن زوجه عاقر. ولا بد أن زكريا عليه السلام يعرف أن الحق سبحانه وتعالى يعلم كل شيء أزلاً، ولذلك شاء الله سبحانه أن يطمئن زكريا عليه السلام بأنه سيرزقه الولد ويسميه، ويأتي قول الحق سبحانه وتعالى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6565 {كذلك قَالَ رَبُّكَ} [مريم: 9] . وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي قرَّر، فلا رادَّ لما أراده، ولذلك يقول سبحانه: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] . وهكذا توالت الأحداث بعد أن نبهت مريم زكريا عليه السلام إلى قضية خَرْق النواميس التي تعرضت هي لها بعد ذلك، حينما تمثَّل لها المَلك بشراً، وبشَّرها بغلام اسمه المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام. وتساءلت مريم عن كيفية حدوث ذلك وهي التي لم يمسسها بشر فيذكِّرها الملك بأنها هي التي أجرى الله سبحانه وتعالى على لسانها قوله الحق في أثناء كلامها مع زكريا عليه السلام: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] . وكان لا بد من طمأنتها؛ لأن إنجابها للمسيح عيسى عليه السلام دون أب هي مسألة عرض، ويجب أن تُقبل عليها وهي آمنة، غير مرتابٍ فيها ولا متهمة. والآية التي نحن بصددها هنا تتعرض لامرأة إبراهيم عليه السلام حين جاءتها البشارة بالطفل، وكيف أوضحت لها الملائكة أنه لا عجب مما قدَّره الله تعالى وأراده، خلافاً للناموس الغالب في خلقه؛ لأن رحمة الله تبارك وتعالى بكل خير فيها قد وسعت أهل بيت النبوة، ومن تلك الرحمة والبركات هبة الأبناء في غير الأوان المعتاد. ولهذا قال الحق سبحانه هنا: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6566 {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} [هود: 73] . وينهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} [هود: 73] . أي: أنه سبحانه يستحق الحمد لذاته، وكل ما يصدر عنه يستوجب الحمد له من عباده، فلا حد لخيره وإحسانه، والله تعالى مُطْلَقُ صفات المجد. وكلمة «حميد» في اللغة من «فَعِيل» وتَرِدُ على معنيين: إما أن تكون بمعنى فاعل مثل قولنا: «الله رحيم» بمعنى أنه راحم خلقه. وإما أن تكون بمعنى مفعول؛ كقولنا: «قتيل» بمعنى «مقتول» . وكلمة «حميد» هنا تأتي بالمعنيين معاً: «حامدٌ» و «محمودٌ» ، مثل قول الحق سبحانه عن نفسه أنه «الشكور» ؛ لأنه سبحانه يشكر من يشكره على نعمه بطاعته. والله سبحانه «حميدٌ» ؛ لأنه حامدٌ لمن يطيعه طاعة نابعة من الإيمان، والله سبحانه «محمودٌ» ممن أنعم عليهم نعمه السابغة. والله سبحانه هو المجيد الذي يعطي قبل أن يُسأل. ولذلك نجد عارفاً بالله تعالى قد جاءه سائل، فأخرج كيساً ووضعه في يده، ثم رجع إلى أهله يبكي، فقالت له امرأته: وما يبكيك وقد أديت له حق سؤاله؟ قال: أنا أبكي لأني تركته ليسأل، وكان المفروض ألا أجعله يقف موقف السائل. والحق سبحانه وتعالى أعطانا، حتى قبل أن نعرف كيف نسأل، ومثال ذلك: هو عطاء الحق سبحانه وتعالى للجنين في بطن أمه، والجنين لم يتعلم الكلام والسؤال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6567 والحق سبحانه وتعالى في كل لقطة من لقطات القرآن يعطي فكرة اجتماعية مأخوذة من الدين، فها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يقدم العجل الحنيذ للضيوف، ليعلمنا أنه إذا جاء لك ضيف، وعرضت عليه الطعام، ولم يأكل، فلا ترفع الطعام من أمامه، بل عليك أن تسأله أن يأكل، فإن رد بعزيمة، وقال: لقد أكلت قبل أن أحضر إليك، فَلَكَ أن ترفع الطعام من أمامه بعد أن أكدت عليه في تناول الطعام. ويروي بعض العارفين أن سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما قال: ألا تأكلون؟ قالت الملائكة: لا نأكل إلا إذا دفعنا ثمن الطعام. فقال إبراهيم، بما آتاه الله من حكمة النبوة ووحي الإلهام: ثمنه أن تُسمُّوا الله أوله، وتحمدوه آخره. وأنت إذا أقبلت على طعام وقلت في أوله: «بسم الله الرحمن الرحيم» وإذا انتهيت منه وقلت: «الحمد لله» ؛ تكون قد أديت حق الطعام مصداقاً لقول الحق سبحانه: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} [التكاثر: 8] . وهكذا بيَّن لنا الحق سبحانه أن إبراهيم عليه السلام وزوجه قد أطمأنا على أن الملائكة قد جاءت لهما بالبشرى، وأنها لا تريد بإبراهيم أو بقومه سوءاً، بل هي مكلفة بتعذيب قوم لوط. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6568 وهنا يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6569 والجدل هو أن تأخذ حُجَّة من مقابل؛ وتعطيه حُجَّة؛ لتصل إلى حق. والجدل يختلف عن المراء فالمراء يعني أنك تعرف الحقيقة وتجادل بالباطل لأنك لا تريد أن تصل إلى الحق. وقد نهانا الحق سبحانه عن المراء، وأمرنا بأن نجادل بشرط أن يكون الجدال بالتي هي أحسن. وهنا يبيِّن لنا الحق سبحانه أن إبراهيم بعد أن ذهب عنه الروع وجاءته البشرى بأن الله تعالى سيرزقه بغلام، وعلم إبراهيم من الملائكة أنهم ذاهبون لتعذيب قوم لوط: {قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ} [الذاريات: 32 34] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6569 ومجادلة سيدنا إبراهيم في عقاب قوم لوط، لم تكن ردّاً لأمر الله، ولكن طلباً للإمهال لعلهم يؤمنون؛ ذلك أن قلب إبراهيم عليه السلام؛ قلب رحيم. ولذلك يأتي الحق سبحانه بالعلة في المجادلة في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6570 إذن: فالعلة في الجدال أنه حليم لا يُعجِّل بالعقوبة، وأوَّاه؛ أي: يتأوه من القلب، والتأوه رقة في القلب، وإن كان التأوه من الأعلى فهذا يعني الخوف من ألا يكون قد أدى حق الله تعالى، وإن كان التأوه للأقل فهو رحمة ورأفة. ولذلك فقد طلب إبراهيم عليه السلام من الله تعالى تأجيل العذاب لقوم لوط لعلهم يؤمنون، وتأوُّههُ هنا لله تعالى، وعلى هؤلاء الجهلة بما ينتظرهم من عذاب أليم. وقال الحق سبحانه في صفات إبراهيم أنه «منيب» أي: يرجع إلى الحكم وإلى الحق في قضاياه. ألم يَقُلْ الحق سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6570 {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} [التوبة: 114] . وبعد أن بحث إبراهيم عليه السلام عن الحق، وأناب إليه، يبين لنا الله سبحانه وتعالى مظهرية الإنابة في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] . وهنا في الآية التي نحن بصدد خوطرنا عنها والتي أوضحت تأوه إبراهيم لله عَزَّ وَجَلَّ وتأوهه رحمة بهؤلاء الذين لم يؤمنوا، وهم قوم لوط، وأيضاً كانت حجة إبراهيم عليه السلام في الجدال ما قاله الحق سبحانه في سورة العنكبوت: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 3132] . وكان سؤال إبراهيم للملائكة: كيف تُهلكون أهل هذه القرية وفيهم من هو يؤمن بالله وعلى رأسهم نبي من الله هو لوط عليه السلام، وردت عليه الملائكة: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} [العنكبوت: 32] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6571 وكأن إبراهيم خليل الرحمن يعلم أن وجود مؤمنين مع الكافرين في قرية واحدة، يبيح له الجدال عن أهل القرية جميعاً. ويتلقى إبراهيم الرد هنا في سورة هود في الآية التالية: {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6572 وقول الملائكة: {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ} [هود: 76] . يعني إبلاغ إبراهيم أن مسألة تعذيب من لم يؤمن من قوم لوط أمرٌ مُنتهٍ ومحسوم، فهم قد جاءوا لينفذوا، لا ليهدِّدوا؛ وأبلغوا إبراهيم: {إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ} [هود: 76] . وإذا ما كان الأمر قد جاء من الله، فإبراهيم عليه السلام لأنه {مُّنِيبٌ} يعلم أن أي أمر من الله تعالى لا بد أن يُنفَّذ، فلا بد أن يَتقبَّل أمرَ الحق سبحانه: {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76] . أي: لا أحد بقادر على أن يرد عذاب الله. وكما أن هناك وعداً من الله تعالى غير مكذوب، فهناك أيضاً عذاب غير مردود. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6572 ويُروى أن إبراهيم عليه السلام في جداله قال للملائكة: إذا كان في قوم لوط خمسون قد آمنوا بالله تعالى، أتعذبونهم؟ قالوا: لا. قال: وإن كان فيهم عشرة يؤمنون بالله، أتعذبونهم؟ قالوا: لا. قال وإن كان فيهم واحد هو لوط؟ فردَّت الملائكة: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته} [العنكبوت: 32] . وانتهى الجدال، وذهبت الملائكة إلى مهمتها التي هي إيقاع العذاب بقوم لوط. ويقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6573 أي: أن لوطاً شعر بالسوء، وضاق بهم ذرعاً، والذرع مأخوذ من الذراع التي فيها الكف والأصابع وندفع بها الأشياء، وأي شيء تستطيع أن تمد إليه ذراعك لتدفع به، وإن لم تَطُله ذراعك؛ قلت: «ضقت به ذرعاً» أي: أن يدي لم تطله، وهو أمر فوق قوتي وطاقتي، وفوق ما آتاني الله من الآلات ومن الحيل. وما الذي يسيء لوطاً في مجيء الملائكة؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6573 قيل: لأن الملائكة قد جاءوا على الشكل المعروف من الجمال، فحين يُقال: «فلان ملاك» ، أي: شكله جميل. ولوط عليه السلام يعلم أن آفة قومه هي إتيان الذكور، وامرأته تعلم هذه الآفة، لكن موقفها من ذلك غير موقف لوط، فهي ترحب بتلك الآفة. ويُقال: إنها تنبهت لمجيء الرجال الحِسان ولم تعرف أنهم ملائكة العذاب وصعدت إلى سطح المنزل، وصفقت لعل القوم ينتبهون لها، فلم يلتفت لها أحد، فأشعلت ناراً فانتبه لها القوم، وأشارت لهم بما يعبر عن مجيء ضيوف يتميزون بالجمال. وهنا قال لوط عليه السلام: {هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] . أي: يوم شديد المتاعب. ويقال: «يوم عصيب» و «يوم عصبصب» ، ومنه «العُصْبَة» وهم جماعة يتكاتفون على شيء، ويقوى الفرد بمجموعهم، وقد صدق ظن لوط. وفي هذا يقول الحق سبحانه عن ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6574 {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6575 وقول الحق سبحانه: {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78] . أي: يسرعون إليه في تدافق، والإنسان إذا لم يكن قد مرن على الشر وله به دُربة، يكون متردداً خائفاً، أما من له دربة فهو يقبل على الشر بجرأة ونشاط. وكلمة «يهرعون» هي من الألفاظ العجيبة في اللغة العربية، وألفاظ اللغة تجد فيها فعلاً له فاعل، كقولنا: «يضربُ زيدٌ عَمْراً» أي: أن الضارب هو «زيد» والمضروب هو «عمرو» ، ونقول: «يُضْرَبُ عمرو» أي: أننا بنينا الفعل للمجهول، وسُمِّي عمرو «نائب فاعل» . أما في الفعل «يُهْرَعُ» فلا نجد أحداً يقول: «يُهرع» إلا ويكون بعدها فاعل وليس نائب فاعل، مثلها مثل الفعل «جُنَّ» فهل هناك من يأتي لنفسه بالجنون، أم أن الجنون هو الذي جاءه؟ لا أحد يعرف سبب الجنون؛ ولذلك بُنيت الكلمة للمجهول، ولكن ما يأتي بعدها يكون فاعلاً. وهذا من إعجاز البيان القرآني. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6575 وكذلك نقول: «زُكِمَ فلان» فمن الذي أصابه بالزكام؟ لا نعرف سبباً ظاهراً للزكام. إذن: فإذا جُهِلَ الفاعل فنحن نبني الفعل للمجهول، ولكن ما يأتي بعده يكون فاعلاً. وقول تعالى: {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78] . يبيِّن أنهم أقبلوا باندفاع، كأنهم يعشقون ما يذهبون إليه؛ لأن كلاً منهم له دربة على ذلك الفعل المشين، أو أن كلاً منهم ذاهب إلى ما يحب دون تَهيُّب، باندفاع من نفسه ودَفْع من غيره، مثلما تقول: «سنوزع تمويناً بالمجان» ؛ هنا تجد الناس يتدافعون، كل منهم من تلقاء نفسه، وغيره يدفعه ليرتد إلى الوراء. وقوم لوط كانوا على دُرْبة بتلك الفاحشة. يقول الحق سبحانه عنهم: {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} [هود: 78] . أي: أن هذه المسألة عندهم كانت محببة، ولهم دربة عليها وخفيفة على قلوبهم، ولا حياء يمنعهم عنها. فالحياء يعني أن بعض الناس يعمل السيئة ويخشى الآخرون أن يفعلوها، لكن إذا ما كانوا يحبون تلك السيئة، فلن يخجل أحد من الآخر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6576 وماذا يكون موقف لوط عليه السلام في هذا اليوم العصيب؟ لقد أقبلوا عليه بسرعة، وفي كوكبة واندفاع، وهو يعلم نياتهم ويعلم سوابقهم، وفكَّر لوط عليه السلام في أن يصرفهم انصرافاً من جنس اندفاعهم. يقول الحق سبحانه: {قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] . وقد قال ذلك لأن المرأة مخلوقة لذلك، ومن الممكن أن يتزوجوا من بناته. وكان العُرْف في أيام لوط عليه السلام لا يمنع أن يزوِّج المؤمن ابنته لغير المؤمن؟ وقد زَوَّجَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إحدى بناته لعُتبة بن أبي لهب، وأخرى لأبي العاص بن الربيع؟ قبل تحريم الحق سبحانه تزويج المؤمنة لغير المؤمن. فهل كان المقصود: بناته من صُلبه أم بنات أمته، أم بنات المؤمنين به؟ وقد قيل: إنه لم يؤمن بالله إلا لوط وابنتاه، فكيف يكون الزواج لابنتين من كل هذا العدد من الرجال المتدافعين؟ وقيل: إنه بحث عن السادة الأقوياء الذين بيدهم القرار، وأراد أن يراضيهم بهذا الزواج؛ لعلهم يرجعون عن الفواحش والسيئات، وفي هذا طهر لهم، وبذلك يحفظون كرامته أمام ضيوفه. يقول لوط عليه السلام: {فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} هود: 78] . وكلمة «ضيف» كما نعلم جاءت هنا مفردة، ولكنها تطلق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6577 أيضاً على الجمع، والمثنى، وتصلح للدلالة على المذكر وعلى المؤنث أيضاً، فإن جاء ضيف واحد تقول: «هذا ضيفي» ، وإن جاء اثنان تقول: «هذان ضيفي» ، وإن كانت امرأة تقول: «هذه ضيفي» ، وإن كانتا امرأتين تقول: «هاتان ضيفي» ، وإن جاءت جماعة تقول: «هؤلاء ضيفي» . والحق سبحانه يقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} [الذاريات: 24] . وهناك ألفاظ أخرى كذلك في اللغة مثل: كلمة «طفل» فهي مفرد؛ ولكنها قد تطلق على الجماعة، إلا أن كلمة «طفل» وُجِد لها جمع هو «أطفال» . والحق سبحانه يقول: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6578 أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} [النور: 31] . إذن: فكلمة «طفل» تطلق أيضاً، ويراد بها الجماعة. وهنا يطلب لوط عليه السلام من قومه ألا يخزوه في ضيفه، والخزي فضيحة أمام النفس وأمام الناس. والإنسان قد تهون عليه نفسه ويُقبل على العمل السيىء ما لم يره أحد، أما أن يراه الناس، ففي هذا فضح له؛ فالفضيحة تكون بين جمهرة الناس، والهوان أن يكون العمل السيىء بينه وبين نفسه. ويتساءل لوط عليه السلام: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} [هود: 78] . أي: ألا يوجد بينكم رجل له عقل ومروءة وكرامة، يمنع هذه المسألة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6579 {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6580 هذه الآية تحمل رد المتدافعين طلباً للفحشاء من قوم لوط؛ فقد قالوا له: أنت تعلم مقصدنا، وليس لنا في بناتك أية حاجة نعتبرها غاية لمجيئنا. وكان هذا يعني الإعراض عن قبول نصحه لهم بالتزوج من بناته بدلاً من طلب فعل الفاحشة مع ضيوف لوط، وهم الملائكة الذين جاءوا في هيئة رجال بلغوا مبلغ الكمال في الجمال. ويأتي الحق سبحانه برد لوط عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6580 وساعة تقرأ كلمة «لو» فهذا هو التمني، أي: رجاء أن يكون له قوة يستطيع أن يدفع بها هؤلاء، وكان لا بد من وجود شرط، مثل قولنا: «لو أن زيداً عندك لجئت» ، لكن نجد هنا شرطاً ولا جواب، كأن يقال: «لو أن لي بكم قوة لفعلت كذا وكذا» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6580 ولذلك يقال إن الملائكة قالت له: إن ركنك لشديد؛ ولذلك قال: {أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] . والشيء الشديد هو المتجمِّع تجمُّعاً يصعب فَصْلُه، أو المختلط اختلاطاً بمزجٍ يصعب تحلُّله؛ لأنك حين تجمع الأشياء؛ فإما أن تجمع أشياء أجناسها منفصّلة، ولكنك تربطها ربطاً قوياً، مثل أن تربط المصلوب على شجرة برباط قوي، لكن كليهما المصلوب والشجرة، منفصل عن الآخر وله ذاته، وهناك ما يُسمَّى خلطاً، وهناك ما يُسمَّى مزجاً، والخلط هو أن تخلط أشياء، وكل شيء منها متميز عن غيره بحيث تستطيع أن تفصله، أما المزج فلا يمكن فصل الأشياء الممتزجة ببعضها. ومثال ذلك: أنك قد تخلط فول التدميس مثلاً مع حبات من الفول السوداني، وتستطيع أن تفصل الاثنين بعضهما عن بعض؛ لأنك جمعتهما على استقلال. ولكن إن قُمْتَ بعصر ليمون على كوب من الماء المحلى بالسكر؛ فهذا مزج يصعب حَلُّه. وقد قال لوط عليه السلام ذلك لأنه لم يكن في مَنعةٍ من قومه، أهل «سدوم» ويقال: إنها خمس قرى قريبة من «حمص» . وقد تعجَّب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قول لوط، فقال فيما رواه البخاري: «رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد» . فَلِهوْل ما عانى لوط عليه السلام من كرب المفاجأة قال ذلك، وهو يعلم أنه لا يوجد سند أو ركن أشد من الحق سبحانه وتعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6581 ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما قالته الملائكة للوط عليه السلام: {قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6582 وهكذا علم لوط لأول مرة أنهم رسل من الله تعالى، رغم أنهم حين تكلموا مع إبراهيم لم يقولوا أنهم رسل من الله؛ ليدلنا على أن إبراهيم عليه السلام كان يعلم أنهم رسل من الحق سبحانه، لكنه لم يكن يعلم سبب مجيئهم. وهم حين أخبروا لوطاً: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ} [هود: 81] فمن باب أولى ألا يصلوا إليهم، وتخبر الملائكة لوطاً أن يسري بأهله ليلاً أي: أخرج بأهلك في جزء من الليل، وقد أوضحت الملائكة أن موعد النكال بقوم لوط هو الصبح: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} [هود: 81] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6582 لذلك قالوا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اليل} [هود: 81] . والمقصود أن يترك ربع الليل الأول، وربعه الآخر، وأن يسير في نصف الليل الذي بعد ربع الليل الأول وينتهي عند ربع الليل الأخير، وقيل: إن أليق ما يكون بالقطع هو النصف. ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} [هود: 81] . والالتفات: هو الانصراف عن الشيء الموجود قبالتك، ويسمى الانصراف عن المقابل. فهل المقصود هو الالتفات الحسي أم الالتفات المعنوي؟ نحن نعلم أن لوطاً سيصحب المؤمنين معه؛ من ديارهم وأموالهم، وما ألفوه من مقام ومن حياة؛ لذلك تنبههم الملائكة ألا تتجه قلوبهم إلى ما تركوه، وعليهم أن ينقذوا أنفسهم، وسيعوضهم الله سبحانه خيراً مما فاتهم. هذا هو المقصود بعد الالتفات المعنوي، وأيضاً مقصود به عدم الالتفات الحسي. وتوصي الملائكة لوطاً عليه السلام ألا يصحب امرأته معه؛ لأنها خانته بموالاتها للقوم المفسدين، وإفشائها للأسرار، وعليه أن يتركها مع الذين يصيبهم العذاب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6583 ولكنها لحظة الخروج ادعت أنها مخلصة للوط، وقالت: سأخرج حيث تخرج، ثم نظرت إلى القوم وقالت: وا قوماه ورجعت لتمكث معهم، ولينالها العذاب الذي نالهم في الموعد الذي حددته الملائكة وهو الصبح: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} [هود: 81] . وقد تحدد الصبح لإهلاكهم؛ لأنه وقت الدعة والهدوء فيكون العذاب أشد نكالاً. ويقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6584 والحق سبحانه يبين لنا هنا أن الأمر بالعذاب حين يصدر، فالمأمور يستجيب قهراً، ويقال إن قرى قوم لوط خمس: قرية «سدوم» وقرية «دادوما» وقرية «ضعوه» ، وقرية «عامورا» وقرية «قتم» . وقوله تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82] . أي: انقلبت انقلاباً تامّاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6584 ويقول القرآن في موضع آخر: {والمؤتفكة أهوى} [النجم: 53] . والمؤتفكة من الإفك وهو الكذب المتعمَّد، أي: قول نسبة كلامية تخالف الواقع، ولأن من يقول الإفك إنما يقلب الحقيقة إلى غير الحقيقة زعماً، ويقلب غير الحقيقة إلى ما يشبه الحقيقة. كذلك المؤتفكة، أي: القرى التي جعل عاليها سافلها فانقلبت فيها الأوضاع. ونفذ أمر الله بأن أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود، وهو طين قد تحجَّر. والحق سبحانه يقول في آية أخرى {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [الذرايات: 33] . وكلمة «حجارة» تعطي الإحساس بالصلابة، أما كلمة «طين» فتعطي إحساساً بالليونة، ولكن الطين الذي نزل قد تحجر بأمر من الله تعالى، وهو قد نزل منضوداً. . أي: يتتابع في نظام، وكأن كل حجر يعرف صاحبه، لأن الحق سبحانه يقول بعد ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6585 {مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6586 وكلمة «مسوَّمة» أي: مُعلَّمة، وكأن كل حجر قد تم توجيهه إلى صاحبه، فهذا الحجر يذهب إلى فلان، وذلك إلى فلان، مثل الصواريخ الموجهة إلى البلاد، ولكن الدقة في هذه الحجارة أن كل حجر يعرف على من بالتحديد سوف ينزل بالعذاب، وقد جعلها الحق سبحانه لتعذيب المكين، أي: الإنسان، ولا تدمر البلاد. وهي مُرتَّبة؛ لأن الحق سبحانه قال: {سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ} [هود: 82] . ووردت كلمة (سجيل) أيضاً في قول الحق سبحانه: {طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} [الفيل: 34] . ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 83] . والظالمون هنا مقصود بهم الكافرون برسالة الحق سبحانه وتعالى التي تتابعت في الموكب الرسالي وخاتمها هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونحن نعلم أن القصص القرآني قد نزل تسلية وثباتاً بيقين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتذكرة بالأسوة: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6586 وتحكي القصص المعارك التي قامت بين كل رسول مُؤيَّد بمعجزة من الله، وبين المنكرين له والكافرين به، وقد انتهت كل هذه المعارك بنصرة الرسول على الكافرين، إلا أن الرسل السابقين لم يُكلّفوا أن يقاتلوا من أجل الإيمان، بل كان عليهم أن يعلنوا الحجة الإيمانية فقط، وأن يبلغوا المنهج، فإن عصى القوم؛ فالسماء هي التي تتدخل لتأديب المخالفين. والحق سبحانه يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 614] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6587 ولكن الأمر اختلف بمجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأن دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الدين الذي تقوم عليه الساعة، وقومه مأمونون على البلاغ عن الله تعالى خلافة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وعلى كل واحد من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم حكماً من أحكام الله تعالى أن يبلغه؛ لأنه قائم مقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والحق سبحانه يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] . إذن: فكل واحد من أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو امتداد لرسالة الإسلام، وبدلاً من أن السماء كانت تتدخل لتأديب الكافرين، جعل الله سبحانه لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقفوا بالقوة أمام الكافرين، لا لفرض الإيمان؛ لأن الإيمان لا يُفرض، ولا يُكره عليه؛ لأنك قد تُكره إنساناً في الأمور الحسية، لكنك لا تستطيع أن تملك قلبه، والحق سبحانه يريد الإيمان الغيبي الذي يملك القلوب. ولذلك يقول الحق سبحانه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 34] . إذن: فالحق سبحانه يريد قلوباً تخشع، لا أعناقاً تخضع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6588 وهكذا فُوِّضَتْ أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تفويضين: فُوِّضَتْ في نقل رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الأجيال، وكل جيل ينقلها إلى الجيل الذي يليه. وها هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «نَضَّر الله امرأ سمع مقاتلي فوعاها وأداها إلى من لم يسمعها، فرُبَّ مُبلغٍ أوعى من سامع» . وفُوِّضَتْ أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن تقف من الكافرين موقف تأديب، لا لتفرض الدين ولكن لتحمي حق اختيار الدين، فلم يحدث أن رُفع سيفٌ في الإسلام ليفرض ديناً؛ بل رفع السيف ليحمي حرية اختيار الإنسان للدين. يقول سبحانه: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] . فإذا آمن فعليه الالتزام بالإيمان، فلا يكسر حكماً من أحكام الإيمان، وهذا تصعيب للدخول في الإسلام، فمن أين يأتي ادعاء فرض الدين على المخالفين؟! إذن: فقد آمن المؤمن من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إيمانين: الإيمان الأول هو أن يؤمن بالإسلام، والإيمان الثاني أن يبلغ الدعوة. ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» . فهل المقصود بالعلماء هم من يعلمون العلم فقط؛ لا، بل يقصد كل من يعرف قضية من قضايا الإيمان معرفة سليمة وصحيحة وينساح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6589 بالدعوة في الأرض ليعلِّم غير المؤمنين ويترك الناس أحراراً في اختيار الدين. وكذلك يقف المؤمنون برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأية قوة تحارب حرية اختيار الدين. وهكذا جاءت قصص القرآن لتثبيت فؤاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونحن نعلم أن الحق سبحانه قد بعث المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في مكة، فصرخ بالدعوة، لا في آذان القبائل الواهية في أطراف الجزيرة، ولكن في آذان سادة الجزيرة، حتى لا يقال: إنه استضعف قوماً فناداهم إلى الإيمان به، ولم يجرؤ على السادة، وهم قريش، التي أخذت السيادة بحكم إقامتها في مكان البيت العتيق، وكان كل العرب يحجون إلى البيت الحرام، فإذا ما تعرضت قبيلة لقريش بسوء، فقريش قادرة على أن تنال من أبناء تلك القبيلة حين يحجون إلى البيت الحرام. وهكذا أخذت قريش هيبتها من وجودها حول البيت. إذن: فالبيت هو الذي صنع السيادة لقريش، وهو الذي صنع السيادة للآلهة المدَّعاة من الأصنام حين يأتي كل قوم بإلههم من الحجر؛ ليضعوه في البيت؛ ليكتسب الحجر قداسة من قداسة البيت. إذن: فقد أخذت قريش السيادة من البيت الحرام، وجاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأعلن الدعوة على أسماع السادة، وسَفَّه أحلامهم، ولم يُبَالِ بجبروتهم وسيادتهم على الجزيرة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6590 لكن الحق سبحانه قد شاء ألا يكون انتصار الإسلام على يد السادة من قريش في مكة، بل جاء انطلاق الإسلام من المدينة؛ لأن الله سبحانه أراد أن يُعلِّم الدنيا كلها أن العصبية لمحمد لم تخلق الإيمان بمحمد. ولكن الله تعالى قد شاء أن يكون المستضعفون من أطراف الجزيرة هم الذين نصروا الدعوة؛ فكأن الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي خلق العصبية لمحمد للحق الممثَّل في رسالة محمد، ولم تخلق العصبية لمحمد إيماناً به وبرسالته. وإذا كان الحق سبحانه قد نعتهم بالظالمين، وبيَّن لهم أن المكان الذي قُلِبَ عاليه أسفله، ليس ببعيد عنهم، فهل لهم أن يتخذوا من ذلك عبرة؟ والظلم كما نعلم هو مجاوزة الحق للغير، أي: أن تأخذ حق الغير وتعطيه لغير ذي حق، فإذا كان ظلماً في الألوهية، فهذا هو الشرك العظيم، وإن كان ظلماً في إعطاء حق من حقوق الدنيا للغير، فهو ظلم للإنسانية، والظلم درجات بحسب الجريمة. وقد ظلمت قريش نفسها ظلماً عظيماً؛ لأنها أشركت بالله؛ وجعلت له شركاء في الألوهية؛ وهذا أقصى أنواع الظلم. والله سبحانه يريد أن يذكِّر هؤلاء الظالمين بأن عذاب الله حين يجيء، أو أمر الله حين يأتي؛ لا يمكن أن يقوم أمامه قائم يمنعه، فتنبهوا جيداً إلى أنكم عُرْضة أن يُنزل الله تعالى بكم العذاب كما أنزل بهذه القرى؛ وهي غير بعيدة عنكم، فالمسافة بين المدينة والشام قد تبدو مسافة طويلة إلا أن الله تعالى قد جعلهم يمرون عليها في كل رحلة من رحلات الصيف إلى الشام. إذن: فهي قرى تقع على طريق مسلوكة؛ ولذلك يقول الحق سبحانه عن موقعها: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} [الحجر: 76] . أي: بطريق تمرون عليها، لا يجرفها سيل، ولا يغير معالمها ريح. بل هي طريق ثابتة مقيمة تمرون عليها حينما تذهبون في رحلة الصيف إلى الشام، فكان من الواجب أن تأخذوا في كل مرور لقطة وعبرة؛ حتى لا تقعوا في ظلم آخر. وقد نبهكم الله سبحانه أيضاً بمروركم على ديار قوم صالح الذين خاطبهم الحق سبحانه بقوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128130] . هكذا ترون ديار ثمود وديار عاد وديار لوط وهي خاوية، وكان من الواجب معشر قريش ألا تبالغوا في الظلم، وأن تنتبهوا بالعبرة إلى مصير كل من يشرك بالله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6591 ويلفتهم الحق سبحانه إلى أنهم لم يكفروا بحق الألوهية فقط، ولكنهم ايضاً كفروا بشكر النعمة، وظلموا؛ لأن الله سبحانه هو الذي أنعم عليهم برحلة الشتاء إلى اليمن، وبرحلة الصيف إلى الشام، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6592 والرحلتان للتجارة التي تأتي بالزيادة لقريش؛ لأنهم يخرجون بالأموال ويعودون بالبضائع التي يبيعونها لأهل مكة، ولزوار بيت الله الحرام. وقد أخذت قريش مهابتها عند كل قوم يمرون عليهم أثناء الرحلتين، من أنهم يعيشون حول البيت الحرام، لذلك يمتن الله سبحانه على قريش في قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 15] . فالقوم الذين جاءوا ليهدموا البيت الحرام وهو رمز السيادة لو هدم وتحوَّل الحجيج إلى صنعاء، لسقطت مهابة قريش، ولكن الله تعالى حمى البيت وأرسل عليهم طيراً أبابيل، وجعل الذين قصدوه بسوء كعصف مأكول. لماذا صنع الله تعالى ذلك؟ تأتي الإجابة في السورة التالية لسورة الفيل حيث يقول الحق سبحانه في سورة قريش: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6593 {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إلافهم رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 14] . إذن: كان من الواجب حين يمرون على هذه الديار أن يأخذوا منها عبرة، وأنهم وإن كانوا يمرون على هذه الديار بقصد التجارة وهي سر معاشهم إذا لم يأخذوا من هؤلاء العبرة فهم يقترفون ظلماً جديداً آخر. لذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 83] . أو: أن الله سبحانه وتعالى أراد أن ينبه قريشاً إلى أن الهلاك الذي نزل بهؤلاء القوم المشركين، ليس ببعيد أن يصيب قريشاً، وأن يرسل الله سبحانه على كل واحد من الكافرين به حجراً مسوَّماً يصيبه في مكانه الذي يكون فيه. والسطحيَّون في اللغة يخطئون فيأخذون على القرآن مآخذ، لا تلتفت إليها الملكة الصحيحة في اللغة، ويقولون: كيف يقول الله: {وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 83] . وكلمة «ما هي» مؤنثة، وتقتضي أن يقول: «بعيدة» بدلاً من كلمة «بعيد» ، أي: أن يكون القول: «وما هي من الظالمين ببعيدة» ونسوا أن المتكلم هو الله تعالى، وأنهم لم يدرسوا اللغة دراسة صحيحة؛ لأن «فعيل» إن جاءت بمعنى «مفعول» ، فهنا يستوي المذكر والمؤنث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6594 ومثال ذلك من القرآن الكريم أيضاً هو قول الحق سبحانه: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] . وقول الحق سبحانه: {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] . إذن: فعدم درايتهم باللغة هو الذي جعلهم يخطئون مثل هذا الخطأ. ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بقصة أخرى من القصص التي جاء بها الله في هذه السورة لموكب الرسل، فيأتي بقصة شعيب عليه السلام، ويقول سبحانه: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6595 و «مدين» هو اسم ابن إبراهيم عليه السلام، ولم يكن هذا الابن موجوداً وقت بعثة شعيب، لكن القبيلة التي تناسلت منه سُمِّيت باسمه، وكذلك القرية التي أقامت فيها القبيلة سميت باسمه، فإن قلت إن شعيباً أرسل لقبيلة مدين، فهذا قول سليم، وإن قلت إنه أرسل لقرية مدين، فهذا قول سليم أيضاً؛ لأن القرية لا بد لها من سكان. والحق سبحانه يقول على لسان إخوة يوسف عليه السلام: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] . والمقصود «أسأل أهل القرية» . إذن: فمرة يطلب الاسم على المكان، ومرة يطلق المكان ويراد به المكين. وقد بدأ شعيب رسالته مع قومه من حيث بدأ كل الرسل بالدعوة إلى قمة التدين، وهو أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ولا إله غيره، وهذا هو القدر المشترك في كل الرسالات. والحق سبحانه يقول: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13] . إذن: فقمة الدين قي قضية العقيدة الإيمانية، وهي عبادة الله تعالى وحده ولا إله غيره، لأن الحق سبحانه حين يوجه الأوامر التكليفية «افعل» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6596 و «لا تفعل» فالله سبحانه لا يوجهها إلا لمن آمن به إلهاً واحداً، أما الذي لا يؤمن به، فالله سبحانه لا يوجه إليه أي حكم. ولذلك تجد حيثية كل حكم تكليفي في القرآن مُصَدَّراً بقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ} [البقرة: 178] . سواء أكان الأمر صياماً، أم قصاصاً، ففي كل تكليف يُصدَّر بهذا القول، لا بد أن يأتي المعنى: يا من آمنت بي إلهاً قادراً حكيماً، اسمع مني التكليف. ولذلك أقول دائماً: إن علة كل تكليف هي الإيمان بالمكلِّف، ولا داعي للبحث عن علة أخرى. فمثلاً حيث يُقَال: إن علة الوضوء النظافة، نقول: وإن لم يوجد ماء، فنحن نلمس التراب أو الحجر ثم نمسح وجوهنا في التيمم. إذن: فالمقصد هو أن نتهيأ للصلاة بأي شكل يحقق مقصود العبادة وهو الطاعة للخالق سبحانه وتعالى. وإياك أن تؤخر تنفيذ الحكم إلى أن تبرره؛ لأن مبرره هو صدوره عن الله سبحانه وتعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6597 وكذلك كل شيء يقوله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنحن نتبعه، ولا نبحث عن علة له، وإلا لو كنا نؤجل الأحكام إلى أن تثبت تبريراتها العلمية مثل فساد لحم الخنزير بما يحمله من أمراض، ومثل قدرة الخمر على إهلاك المخ وتدمير خلاياه، فضلاً عن تدمير خلايا الكبد، فنحن لو كنا قد أجلنا تلك الأحكام، فماذا كان الموقف؟ لقد طبَّق المسلمون هذه الأحكام فور نزولها؛ لإيمانهم بالمنهج وحبهم في القرب من الله، ثم أثبتت الأيام صدق الله تعالى في تكليفه. وهنا يقول الحق سبحانه: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 84] . وعرفنا أن العبادة ليست محصورة في الصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الحج؛ لأن هذه هي الأركان الأساسية التي يقوم عليها الإسلام؛ ولكن الإسلام أيضاً هو عمارة الأرض بتنفيذ كل التكاليف، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإقبال الإنسان على مهنة ما يحتاجها المجتمع هو عبادة، وإذا خلتْ صنعة من صانع فعلى ولي الأمر أن يكلف ويرغم بعض الناس على تعلمها؛ وأيضاً إتقان الصنعة عبادة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6598 وقول الحق سبحانه على لسان شعيب عليه السلام: {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 84] . أي: إياك أن تأخذ حكماً تكليفياً من أحد آخر غير الله سبحانه وتعالى، لأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وإياك أن تستدرك من البشر حكماً على الله سبحانه وتعالى، وتظلم نفسك وتقول: «لقد فات الله أن يقول لنا هذا الحكم، ولنأتي لأنفسنا بحكم جديد» . إياك أن تستدرك حكماً على الله. افهم الحكم أولاً، فإن جاء حكماً محكماً فخذه، وإنْ كان غير محكم بأن جاء مجملاً، أو غير مبيَّن، فانظر باجتهادك إلى أية جهة تصل. ولذلك «نجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسأل من أرسله مبعوثاً إلى اليمن فقال:» كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما يرضي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «. وبعد أن دعا شعيب عليه السلام آل مدين لعبادة الله سبحانه وحده، وهذا هو الأمر المشترك بين جميع الرسل عليه السلام تأتي الأحكام الأخرى، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6599 فمن يعمل فاحشة له علاجه، ومن ينقص في الكيل والميزان، فالرسول يعالج هذا الأمر. لأن العالم القديم كان عالم انعزال، لا التحام فيه أو مواصلة؛ فقد يوجد عيب وآفة في مكان، ولا يوجد هذا العيب أو تلك الآفة في مكان آخر. وكل رسول يأتي ليعالج عيباً محدداً في المكان الذي أرسله الله إليه، ولكن رسول الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء وهو الرحمة المهداة للجميع وخاتم الأنبياء والمرسلين جاء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والدنيا على ميعاد بالالتقاء الإيماني، فلما تقاربت البلاد عن طريق سرعة الاتصالات، وما يحدث في عصرنا الآن بقارة أمريكا نجده عندنا في نفس اليوم أو غداً، فالعالم الآن عالم التقاء، وتعددت الداءات فيه وتوحدت بسبب سرعة الالتقاء عن طريق عدم التمييز بين الخبيث والطيب. ولذلك شاء الحق سبحانه أن يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو خاتم الرسل. وكانت خيبة آل مدين هي عدم عبادة الله وحده، وكذلك كانت فيهم خسيسة التطفيف في الكيل والميزان، لذلك يقول الحق سبحانه على لسان شعيب عليه السلام: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] . وحين قرأ العلماء هذا القول الكريم لم يلتفتوا إلى أن المراد ليس نقص المكيل والموزون، لأنه لو شاء لقال: «ولا تنقصوا المكيل أو الموزون» هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6600 إذا نظرنا إلى الأمر من وجهة ما يريد البائع، ولكن القول هنا يقصد أن يأخذ كل ذي حق حقه، أن يأخذ المشتري حقه من السلعة، وأن يأخذ البائع حقه في الربح. إذن: فهذا القول الكريم يشمل البائع والمشتري معاً. والكيل كما نعرف هو تعديل شيء بشيء، فإن كان في الخفة والثقل؛ فالأمر يحتاج إلى ميزان، وإن كان تعديل شيء بشيء في الكم، فهذا يحتاج إلى الكيل، وهذا هو الأمر المشهور في الكيل والميزان، وأي تعديل شيء بشيء يحتاج إلى ما يناسبه؛ فالقماش مثلاً يتم تعديله بالمتر، والأرض يتم تعديلها بالمساحة؛ أي: قياس الطول والعرض، وبعض الأشياء تُباع بالحجم، وهذا يعني قياس الطول والعرض والارتفاع واستخراج الناتج بعملية ضرب كل منهم في الآخر. إذن: فالأمر المهم هو أن يأخذ كل إنسان حقه، حتى وإن كان تأجير قوة عامل لينجز عملاً، فأنت تعدل زمن وقوة العمل بالأجر الملائم، والأمر المشهور هو الكيل والميزان، لكن بقية التقييمات موجودة؛ ليأخذ كل ذي حق حقه. لأن الإنسان لو أخذ غير حقه لاستمرأ أن يأخذ حقوق الناس، ولو أكل بعض الناس حقوق البعض الآخر؛ لَزهدَ من أكلتْ حقوقهم في العمل. وأنت حين تعطي للإنسان أقل مما يستحق، أو تأخذ من جهده فوق ما تدفع له من أجر، تجده يبطىء في العمل، ولا ينجز المطلوب منه على تمام الدقة، ومن هنا يحدث الخلل. ولذلك أقول: إن إعطاء كل ذي حق حقه يزيد من جودة الأداء في العمل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6601 وعلينا أن نترك صاحب الطموح ليعمل؛ بدلاً من أن يخزن ماله أو يكنزه؛ لأن صاحب الطموح حين يقيم مشروعاً أو بناءً؛ فهو يفيد الفقراء وينفعهم حتى وإن كان لا يفكر في ذلك فالذي يبني عمارة سكنية ينفع الصناع والعمال ومنتجي المواد اللازمة للبناء دون أن يقصد وسينتفع العامل الفقير دون أن يقصد صاحب العمل وربما انتفع كل الفقراء مما يصنعه صاحب العمل، قبله فيما يفعل. إذن: فمن المهم أن يأخذ كل إنسان حقه قبل أن يجف عرقه؛ مصداقاً لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» . وهكذا نعلم أن الدين في ظاهر الأمر يحض على الإيثار، وفي واقع الأمر، هو يحرص على تأكيد ثواب الإنسان عند ربه؛ لأن الذي يؤثر غيره على نفسه ولو كان به خصاصة لو كان معه مال قليل وأعطاه لآخر عنده ضائقة، وليس عند هذا الآخر مال، هنا يكون صاحب المال القليل قد آثر الآخر على نفسه في ظاهر الأمر، ولكنه سيأخذ أضعاف هذا المال ثواباً من عند الله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6602 وهكذا يعلمنا الدين النفعية الراقية، وهي النفعية التي يعاملنا بها الله سبحانه؛ وحين نترك قانون النفعية ليسيطر على حركة الناس، فنحن نوفر سيولة الانتفاع في المجتمع. وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها عرفنا أن شعيباً قال لأهل مدين: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] . أي: أنكم يا أهل مدين غير مضطرين لذلك؛ لأن من يبيع منكم عنده سلع، ومن يشتري إنما يملك نقوداً، فاكتفوا بالخير الذي عندكم، وليأخذ كل ذي حق حقه، وهذه قضية يغفل عنها كثير من الناس؛ فالذي يبيع قد يبيع صنفاً واحداً، فإن غش في الكيل أو الميزان، فسوف يغشه ويخدعه غيره في الأصناف الأخرى التي تلزمه لحياته. وإن اشتغل واحد في إنقاص الكيل والميزان، فالآخرون سيفعلون مثل ذلك في كل ما يخص حياته؛ لأن المخادع الواحد، سيلقي مخادعين كثيرين، وهنا يقول شعيب عليه السلام: ما الذي يضطركم إلى ذلك وأنتم بخير؟ ثم يقول محذراً: {وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} [هود: 84] . لانك حين تنقص شيئاً وأنت تبيع أو تزيد شيئاً حين تشتري، فأنت لا تخدع من تتعامل معه، وإنما تخدع نفسك. وكلنا يعلم أن الغفلة قد تطرأ على البائع، وقد تطرأ على المشتري، وقد يحاول بائع أن يستغل غفلة المشتري فيزيد من ثقل الميزان بإصبعه، وقد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6603 يحاول المشتري أن يستغل غفلة البائع بأن يرفع كفة الميزان بإصبعه من غير أن يراه البائع، فيأخذ غير حقه، وهذا نوع من خداع النفس؛ لأن الحق سبحانه إنما يأمر بالاستقامة في البيع والشراء؛ لأن الانتفاع بأي شيء مهما كَثُر، فهو موقوت بعمر الإنسان في الدنيا، وعمر الإنسان موقوت، ولكن الذي يغش ويخدع إنما يُعرِّض نفسه لعذاب الله سبحانه في الآخرة، وهو عذاب بلا أمد ولا نهاية. وهكذا يسلِّم الإنسان نفسه لفائدة قليلة في الدنيا الزائلة، ثم يلقى عذاباً لا ينتهي في آخرة غير زائلة. والعذاب في الآخرة عذاب محيط، بمعنى أن المعذَّب لا يستطيع أن يفلت منه، فأنت في الدنيا بإمكانك أن تحتال في النجاة من العذاب، وقد تلجأ إلى من هو أقوى منك ليحميك، ولكنك في الآخرة تواجه يوماً لا بيع فيه ولا خُلَّة ولا شفاعة، إن كنت من أهل النار. يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان شعيب مواصلاً الحديث إلى أهل مدين: {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6604 وفي الآية الكريمة السابقة قال الحق سبحانه: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} [هود: 84] . وهكذا نعلم أن عدم الإنقاص في الكيل والميزان مطلوب، وكذلك توفية المكيال والميزان مطلوبة؛ لأنهما أمر واحد، والحق سبحانه لا يتكلم عن المكيل ولا عن الموزون إلا بإطلاقهما، وهو كل عمل فيه واسطة بين البائع والمشتري. وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطفيين: 13] . ذلك لأن البائع قد يقول لك: أنت مأمون فزِنْ أنت لنفسك أو كِلْ أنت لنفسك، وقد تخدع البائع فتأخذ أكثر من حقك؛ وقد يفعل البائع عكس ذلك، وفي مثل هذا بؤس للاثنين. وهنا يقول شعيب عليه السلام: {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} [هود: 85] . والحق سبحانه هنا تكلم عن النقص وعن الإيفاء. ثم يقول سبحانه: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} [هود: 85] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6605 وهذا كلام عام لا ينحصر في مكيل أو موزون، فقد يأتي مشترٍ ليبخس من قيمة سلعة ما، أو أن يأخذ رشوة لقضاء مصلحة، أو يخطف ما ليس حقّاً له، أو يغتصب، أو يختلس، وكلها أمور تعني: أخذ غير حق بوسائل متعددة. ونحن نعلم أن الخطف إنما يعني أن يمد إنسان يده إلى ما يملكه آخر ويأخذه ويجري، أما الغصب، فهو أن يمد إنسان يده ليأخذ شيئاً، فيقاومه صاحب الشيء، لكن المغتصب يأخذ الشيء عنوة، أما المختلس فهو المأمون على شيء فاختلسه، والمرتشي هو من أخذ مالاً أو شيئاً مقابل خدمة هي حق لمن يطلبها. إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} [هود: 85] . تضم أشياء متعددة. والبخس هو أن تضر غيرك ضرراً، بإنقاص حقه، سواء أكان له حجم، أو ميزان، أو كَمٌّ، أو كَيْفٌ. وكلمة «أشياء» مفردها: «شيء» ، ويقولون عن الشيء: «جنس الأجناس» فالثمرة يقال لها: «شيء» ، وكل الثمر يقال له: «شيء» . والحق سبحانه وتعالى يوصينا ألا يغرنا أي شيء مهما كان قليلاً. ونحن نلحظ هنا أن كلمة «الناس» جمع، وكلمة «أشياءهم» جمع أيضاً، وإذا قوبل جمع بجمع اقتضت القسمة آحاداً. أي: لا تبخس الفرد شيئاً، وإنْ قَلَّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6606 ونجد واحداً من العارفين بالله قد استأجر مطيَّة من خان ليذهب بها من مكان إلى مكان آخر، فلما ركب المطية وقع منه السوط الذي يحركها به، فأوقف الدابة مكانها وعاد ماشياً على قدميه إلى موقع سقوط السوط ليأخذه، ثم رجع ماشياً إلى مكان الدابة ليركبها، فقال له واحد من الناس: لماذا لم ترجع بالدابة إلى موقع السوط لتأخذه وتعود؛ فأجاب العارف بالله: لقد استأجرتها لأصِلَ بها إلى مكان في اتجاه معين، ولم يتضمن اتفاقي مع صاحبها أن أبحث بها عن السوط. ونجد عارفاً آخر جلس يكتب كتاباً، وكان الناس في ذلك الزمان يجففون الحبر الزائد بوضع قليل من الرمال فوق الصفحات المكتوبة، ولم يجد العارف بالله ما يجفف به المكتوب، فأخذ حفنة من تراب بجانب جدار، ثم ذهب إلى صاحب الجدار وقال له: أنا أخذت تراباً من جانب جدارك فقوِّمه فقال صاحب الجدار: والله لِورَعِك لا أقوِّم، أي: أنه قد تسامح في هذا الأمر. ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [هود: 85] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6607 وكلمة عثا، يَعْثي، ويعثوا، وعثى. يعثي؛ كلها تعني: زاول فساداً، أي: أن يعمد الإنسان إلى الصالح في ذاته فيفسده، مثل طَمْر بئر ماء، أو حفر طريق يسير فيه الناس، وهو كل أمر يخرج الصالح في ذاته عن صلاحه. والمجتمع كله بكل فرد فيه مأمور بعدم مزاولة الفساد، ولو طبَّق كل واحدٍ ذلك لصار المجتمع كله صالحاً، ولكن الآفة أن بعض الناس يحب أن يكون غيره غير مفسد، ولكنه هو نفسه يفسد، ولا يريد من أحد أن يعترض عليه. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6608 أي: ما يبقى لكم من الأمر الحلال خير لكم؛ لأن من يأخذ غير حقه يخطىء؛ لأنه يزيل البركة عن الحلال بالحرام؛ فمن يأخذ غير حقه يسلط الله عليه أبواباً تنهب منه الزائد عن حقه. وأنت تسمع من يقول: «فلان هذا إنما يحيا في بركة» ، أي: أن دخله قليل، ولكن حالته طيبة، ويربي أولاده بيسر، على عكس إنسان آخر قد يكون غنيّاً من غير حلال، لكنه يحيا في ضنك العيش. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6608 وقد تجد هذا الإنسان قد انفتحت عليه مصارف الدنيا فلا يكفي ماله لصد همومه، لأن الله سبحانه قد جَرَّأ عليه مصارف سوء متعددة. وقد يستطيع الإنسان أن يخدع غيره من الناس، ولكنه لن يستطيع أن يخدع ربه أبداً. وقول الحق سبحانه: {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} [هود: 86] . أي: أن الله تعالى يُذهِب عمن يراعي حقوق غيره مصارف السوء. وسبق أن قلنا قديماً: فلننظر إلى رزق السلب لا إلى رزق الإيجاب؛ لأن الناس في غالبيتها تنظر إلى رزق الإيجاب، بمعنى البحث عن المال الكثير، وينسون أن الحق سبحانه وتعالى قد يسلط مصارف السوء على صاحب المال الكثير الذي جمعه من غير حق، بينما يسلب عن الذي يرعى حقوق الناس تلك المصارف من السوء. ومن يُربُّون أولادهم من سُحْت أو حرام، لا يبارك الله فيهم؛ لأن هناك في تكوينهم شيئاً حراماً. فنجد على سبيل المثال ابن المرتشي يأخذ دروساً خصوصية ويرسب، بينما ابن المنضبط والملتزم بتحصيل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6609 الكسب الحلال مقبل على العلم وناجح. أو قد يرزق الله تعالى صاحب المال الحرام زوجة لا يرضيها أي شيء، بل تطمع في المزيد دائماً، بينما يعطي الله سبحانه من يرعى حقوق الناس زوجة تقدر كل ما يفعله. يقول الحق سبحانه: {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [هود: 86] . أي: إن كنتم مؤمنين بأن الله تعالى رقيب، وأنه سبحانه قيُّوم؛ فلا تأخذ حقّاً غير حقك؛ لأنك لن تستغل إلا نفسك؛ لأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليك. ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 86] . أي: أن شعيباً عليه السلام قد أوضح لأهل مدين: أنا لن أقف على رأس كل مفسد لأمنعه من الإفساد؛ لأن كل إنسان عليه أن يكون رقيباً على نفسه ما دام قد آمن بالله سبحانه، وما دام قد عرف أن الحق سبحانه قد قال: {بَقِيَّةُ الله} [هود: 86] . أي: أن ما يبقى إنما تشيع فيه البركة. وهذه هي فائدة الإيمان: ما يأمر به وما ينهي عنه. وهذا أمر يختلف عن القانون الوضعي؛ لأن عين القانون الوضعي قاصرة عما يخفى من أمور الناس فكأنها تحميهم من الوقوع تحت طائلته. . أما القانون الإلهي فهو محيط بأحوال الناس المعلنة، والخافية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6610 ومن يتأمل الآيات الثلاث: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 8486] . من يتأمل هذه الآيات يجد عناصر الصيانة للحركة في المجتمع كله، والمجتمع إن لم تُصَنْ حركته يفسد؛ لأن حركة المجتمع أرادها الحق سبحانه حركة تكاملية، لا تكرار فيها؛ ولو تكررت المواهب لما احتاج أحد إلى مواهب غيره. والمصلحة العامة تقتضي أن يحتاج كل إنسان إلى موهبة الآخر، فمن يدرس الدكتوراه فهو يحتاج إلى من يكنس الشارع، ومن يعالج الناس ليشفيهم الله نجده يحتاج إلى من يقوم بإصلاح المجاري. وماذا كان رد أهل مدين على قول شعيب؟ يقول الحق سبحانه: {قَالُواْ ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6611 أي: أيأمرك إلهك ودينك أن نترك ما يعبد آباؤنا؟ ولقائل أن يقول: ولماذا قالوا: «أصلاتك» ؟ نقول: لأن الإسلام بُنِيَ على خمس: أولها شهادة ألاّ إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ ويكفي أن يقولها الإنسان مرة واحدة في حياته كلها، ثم إقامة الصلاة، وبعد ذلك إيتاء الزكاة، ثم صوم رمضان، ثم حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً. وأنت إن نظرت إلى هذه الأركان فقد تجد إنساناً لا يملك ما يزكِّى به أو ما يحج به، وقد يكون مريضاً فلا صوم عليه، وهو ينطق بالشهادة مرة واحدة في حياته، ولا يبقى في أركان الدين إلا الصلاة؛ ولذلك يقال عنها: «عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين» لأنها الركن الوحيد الذي يعلن العبد فيه الولاء لربه كل يوم خمس مرات، دواماً في الولاء لله. ولا تسقط الصلاة أبداً عن أي إنسان مهما كانت ظروفه، فإن عجز عن الحركة؛ فله أن يصلي برموش عينيه، وإن عجز عن تحريك رموش عينيه فَلْيُجْرِ الصلاة على قلبه، حتى في حالة الحرب والمسايفة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6612 فالإنسان المسلم يصلي صلاة الخوف. إذن: فالصلاة هي الركن الذي لا يسقط أبداً، ويُكرَّر في اليوم خمس مرات، وقد أعطاها الحق سبحانه في التشريع ما يناسبها من الأهمية. وكل تكليفات الإسلام جاءت بوحي من الله سبحانه وتعالى، فجبريل عليه السلام يحمل الوحي إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ويبلغنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إياه، وتميزت الصلاة وحدها بأن الحق سبحانه قد كلَّف بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أثناء وجوده في الملأ الأعلى؛ عند سدرة المنتهى، وذلك لفرط أهميتها. ومثال ذلك من حياتنا ولله المثل الأعلى نجد الرئيس في أي موقع من مواقع العمل؛ وهو يستقبل البريد اليومي المتعلق بالعمل، ويحول كل خطاب إلى الموظف المختص ليدرسه أو ليقترح بخصوصه اقتراحاً، وإذا وجد الرئيس أمراً مهمّاً قادماً من أعلى المستويات؛ فهو يستدعي الموظف المختص؛ ويرتب معه الإجراءات والترتيبات الواجب اتخاذها؛ وإذا كان هذا يحدث في الأمور البشرية، فما بالنا بالتكليف من الله سبحانه وتعالى للرسول؟ وقد شاء الحق سبحانه أن يكون تكليف الصلاة لأهميته هو التكليف الوحيد الذي نال تلك المنزلة؛ لأنها الركن الذي يتكرر خمس مرات في اليوم الواحد؛ ولا مناص منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6613 فأنت قد لا تنطق الشهادة إلا مرة واحدة؛ لكنك تقولها في كل صلاة. وفي الزكاة تضحِّي ببعض المال؛ وأنت لم تولد ومعك المال؛ إلا إن كنت قد ورثت وأنت في بطن أمك؛ ولا بد أن تزكِّي من مالك؛ والمال لا يأتي إلا من العمل؛ والعمل فرع من الوقت؛ وأنت في الصلاة تضحِّي بالوقت نفسه؛ والوقت أوسع من دائرة الزكاة. وفي الصيام أنت تمتنع عن شهوتي البطن والفرج؛ من الفجر إلى المغرب؛ لكنك تمارس كل أنشطة الحياة؛ أما في الصلاة فأنت تصوم عن شهوتي الفرج والطعام؛ وتصوم أكثر عن أشياء مباحة لك في الصيام. وفي الحج أنت تتوجه إلى بيت الله الحرام؛ وأنت في كل صلاة تتوجه إلى بيت الله الحرام. وهكذا تجتمع كل أركان الإسلام في الصلاة. وأهل مدين هنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد هزءوا برسولهم شعيب عليه السلام، وصلاته؛ مثلما فعل كفار قريش مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال أهل مدين لشعيب عليه السلام: {أصلاوتك تَأْمُرُكَ} [هود: 87] . وظنوا أنهم بهذا القول إنما يتهكمون عليه؛ لأن شعيباً كان كثير الصلاة؛ وهم ككفار قريش يجهلون أن الصلاة تأمر وتنهى. والحق سبحانه يقول: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6614 {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] . إذن: فللصلاة أمر، وللصلاة نهي، وما دام قد ثبت لشيء حكم؛ يثبت له مقابله، وأنت تسمع من يقول لآخر: أنت تصلي لذلك فأنا أثق في أمانتك وتسمع إنساناً آخر ينصح صديقاً بقوله: كيف تسمح لنفسك أن ترتكب هذا الإثم وأنت خارج من الصلاة؟ وكثير من الناس يغفلون عن أن التقابل في الجهات إنما يحل مشاكل متعددة؛ فيأخذون جهة ويتركون الأخرى. ولذلك أقول: ما دام الحق سبحانه قد قال إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا بد أنها تأمر بالبر والخير. ومثال آخر: نجده في قول الحق سبحانه عن غرق قوم فرعون: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} [الدخان: 29] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6615 وما دام الحق سبحانه وتعالى قد نفى بكاء السموات والأرض على قوم فرعون؛ ففي المقابل فلا بد أنها تبكي على قوم آخرين؛ لأن السموات والأرض من المسخّرات للتسبيح، وقال الحق سبحانه عنهما: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب: 72] . وبهذا القول اختارت كل من السموات والأرض مكانة الكائنات المسبِّحة، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] . فإذا رأت السموات والأرض إنساناً مُسبِّحاً؛ فلا بد أن تحبه، وإن رأت إنساناً كافراً، معانداً؛ فلا بد أن تكرهه. وما دامت السموات والأرض لم تبكِ على قوم فرعون؛ فذلك لأنهم ضالون؛ لأنها لا تبكي إلا على المهديين. وقد حلَّ لنا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هذه المسألة؛ فقال: «إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في الأرض، وموضع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6616 في السماء، أما موضعه الذي في الأرض؛ فمصلاّه، وأما موضعه في السماء فمصعد عمله» . لأن موضعه الذي كان يصلي فيه؛ يُحرم من أن واحداً كان يصلي فيه، وأما موضعه الذي كان يصعد منه عمله؛ فيفتقد رائحة عبور العمل الصالح. فإن أردت بالصلاة الدين؛ وهي رمز الدين؛ فللصلاة أمر هو نفس أمر الدين، وهي الأمر بالإيمان الحق، لأن الإيمان المقلد لا نفع له. إذن: فقد أراد أهل مدين التهكم على دعوة شعيب لهم؛ وتساءلوا: {أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ} [هود: 87] . وهذا القول يحمل أيضاً ردهم على دعوته لهم ألاّ يعبدوا غير الله؛ فلا إله غيره؛ وردوا كذلك على دعوته لهم ألاّ ينقصوا الكيل والميزان؛ وألاّ يبخسوا الناس أشياءهم؛ وأن يتيقنوا أن ما يبقى عند الله هو الخير لهم، وألا يعثوا في الأرض مفسدين. وقالوا: أتنهانا أيضاً عن أن نفعل بأموالنا ما نشاء؟ وكأنهم قد عميت بصيرتهم؛ لأنهم إن أباحوا لأنفسهم أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6617 فغيرهم سيبيحون لأنفسهم أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون؛ وستصطدم المصالح، ويخسر الجميع. وقولهم: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] . استمرار في التهكم الذي بدءوه بقولهم: {أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ} [هود: 87] . مثلهم في ذلك مثل منافقي المدينة الذين قالوا للأنصار: {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} [المنافقون: 7] . وكانوا يريدون أن يضربوا المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ وقد قالوا: {رَسُولِ الله} تهكماً؛ وهم يحرضون أثرياء المدينة على تجويع المهاجرين. ومثلهم أيضاً مثل قوم لوط حين نهاهم عن فعل تلك الفحشاء؛ فقالوا تهكماً منه وممن آمن معه: {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] . فهل تطهرهم علة للإخراج من القرية، ولكنهم قالوا هذا لأنهم لا يريدون أن يكون بينهم من يعكر ما هم فيه. وهذا مثلما نسمع في حياتنا من يقول: «لا تستعن بفلان لأنه حنبلي» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6618 هم إذن قد قالوا: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] . وهذا منطق السخرية منه؛ لأنه لم يوافقهم على عبادة غير الله؛ ولم يوافقهم على إنقاص الكيل والميزان؛ ونهاهم عن بَخْس الناس أشياءهم. وإذا قيل حُكْمٌ وهو حقٌّ؛ ويقوله من لا يؤمن به؛ فهو يقصد به الهُزْء والسخرية. وهو لون من التهكم جاء في القرآن الكريم في مواضع متعددة؛ فنجد الحق سبحانه يقول لمن تجبر وطغى في الدنيا؛ ويلقى عذاب السعير في الآخرة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] . وكذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6619 وفي كُلٍّ من القولين تهكم وسخرية، وكذلك قولهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {أصلاوتك تَأْمُرُكَ} [هود: 87] . وهذا قول يحمل التهكم بصلاته. وكذلك قولهم: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] . يعني التساؤل: كيف يصح لك وأنت العاقل الحليم أن تتورط وتقول لنا: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 84] . وقد قالوا ذلك لأنهم قد ألفوا عبادة الأصنام، وكذلك تهكموا على دعوته لهم بعدم إنقاص الكيل والميزان. وأيضاً لم يقبلوا منه قوله بأن يحسنوا التصرف في المال، والعلة التي برروا بها كل هذا السَّفَه أن شعيباً حليم رشيد؛ فيكف يدعوهم إلى ما يخالف أهواءهم؟ ويأتي الحق سبحانه بما قاله شعيب عليه السلام فيقول جَلَّ شأنه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6620 {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6621 وهنا يعلن لهم شعيب عليه السلام أنه على يقين من أن الله سبحانه وتعالى قد أعطاه حجة ومنهجاً، وقد رزقه الرزق الحسن الذي لا يحتاج معه إلى أحد؛ فامور حياته ميسورة. وقد يكون المقصود بالرزق الحسن رحمة النبوة. ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان شعيب عليه السلام: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] . أي: أنني أطبق ما أدعوكم إليه على نفسي؛ فلا أنقص كيلاً أو أخْسِر ميزاناً، ولا أبخس أحداً أشياءه؛ لأني لا أعبد غير الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6621 وكلمة «أخالف» تدل على اتجاهين متضادين، فإن كان قولك بهدف صرف إنسان عن فعل لكي تفعله أنت؛ تكون قد خالفته «إلى» كذا، وإن كنت تريده أن يفعل فعلاً كيلا تفعله أنت؛ تكون قد خالفته «عن» كذا. فشعيب عليه السلام يوضح لهم أنه لا ينهاهم عن أفعال؛ ليفعلها هو؛ بل ينهاهم عن الذي لا يفعله؛ لأن الحق سبحانه قد أمره بألا يفعل تلك الأفعال، فالحق سبحانه هو الذي أوحى له بالمنهج، وهو الذي أنزل عليه الرسالة. وشعيب عليه السلام لا ينهاهم عن أفعال يفعلها هو؛ لأنه لا يستأثر لنفسه بما يرونه خيراً؛ فليس في نقص الكيل والميزان؛ أو الشرك بالله أدنى خير، فكل تلك الأفعال هي الشر نفسه. ويوضح لهم شعيب عليه السلام مهمة النبوة؛ فيقول: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت} [هود: 88] . فالنبوات كلها لا يرسلها الله تعالى إلا حين يطم الفساد، ويأتي النبي المُرسَل بمنهج يدل الناس إلى ما يصلح أحوالهم؛ من خلال «افعل» و «لا تفعل» ويكون النبي المُرسَل هو الأسوة لتطبيق المنهج؛ فلا يأمر أمراً هو عنه بنَجْوةٍ؛ ويطبق على نفسه أولاً كل ما يدعو إليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6622 ولذلك قال شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت} [هود: 88] . لأن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وما يدخل في طوعها. ويقول شعيب عليه السلام بعد ذلك: {وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] . وهكذا نعلم أن هناك فرقاً بين العمل؛ وبين التوفيق في العمل؛ لأن جوارحك قد تنشغل بالعمل؛ ولكن النية قد تكون غير خالصة؛ عندئذ لا يأتي التوفيق من الله. أما إن أقبلت على العمل؛ وفي نيتك أن يوفقك الله سبحانه لتؤدي هذا العمل بإخلاص؛ فستجد الله تعالى وهو يصوِّب لك أيَّ خطأ تقع فيه؛ وستنجز العمل بإتقان وتشعر بجمال الإتقان، وفي الجمال جلال. والحق سبحانه وتعالى يقول هنا ما جاء على لسان شعيب عليه السلام: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} ؛ أي: أنه لا يتوكل إلا على الله؛ ولا يصح أن تعطف على هذا القول شيئاً؛ لأنك إن عطفت على هذا القول وقلت «على الله توكلت وعليك» ؛ فتوقع ألا يوفقك الله، لأنك أشركت أحداً غير الله. ونجد في القرآن الكريم قول الحق سبحانه على لسان هود عليه السلام: {تَوَكَّلْتُ عَلَى الله} [هود: 56] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6623 ويجوز لك هنا أن تعطف. ولك أن تتذكر قول أحد العارفين: «اللهم إني أستغفرك من كل عملٍ قصدتُ به وجهك فخالفني فيه ما ليس لك» . فلا تترك شيئاً يزحف على توكلك على الله تعالى؛ لأنك إليه تنيب؛ وترجع؛ كما قال شعيب عليه السلام: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك: {وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6624 يقول لهم شعيب عليه السلام: أرجو ألا تحملكم عداوتكم لي على أن تُجرموا جُرْماً؛ يكون سبباً في أن ينزل الحق سبحانه بكم عقاباً، مثلما أصاب القوم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6624 الذين سبقوكم؛ من الذين خالفوا رسلهم؛ فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم العذاب كالغرق، والرجفة، والصيحة، والصاعقة، فاحذروا ذلك. وشعيب عليه السلام ينصحهم هنا حرصاً منه عليهم، على الرغم من علمه أنهم يكنون له العداء؛ لأنه دعاهم إلى ترك عبادة الأصنام التي عبدوها آباءهم؛ ونهاهم عن إنقاص الكيل والميزان، وألا يبخسوا الناس أشياءهم؛ وسبق أن عذَّب الحق سبحانه المخالفين لشرع الله من الأمم السابقة؛ ويذكرهم شعيب عليه السلام بأقرب من عُذِّبوا زماناً ومكاناً؛ وهم قوم لوط. يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6625 وهذه الآية تبين لنا أن الحق سبحانه لا يغلق أمام العاصي حتى المُصِرّ على شيء من المعصية باب التوبة. ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6625 ولنا أن نتخيل بماذا يشعر من فقد بعيره؛ وهذا البعير يحمل زاد صاحبه ورَحْله؛ ثم يعثر الرجل على بعيره هذا. لا بد إذن أن يفرح صاحب البعير بالعثور عليه. والحق سبحانه يقول هنا ما جاء على لسان شعيب عليه السلام لقومه: {واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} [هود: 90] . وما دمتم ستستغفرونه عن الذنوب الماضية؛ وتتوبون إليه؛ بألا تعودوا إلى ارتكابها مرة أخرى؛ فالحق سبحانه لا يرد مَنْ قصد بابه: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90] لأن مغفرته تستر العذاب، ورحمته تمنع العذاب. وجاء الحق سبحانه هنا بأوسع المعاني: المغفرة، والرحمة، ومعهما صفته «الودود» ؛ وهي من الود؛ والود هو الحب؛ والحب يقتضي العطف على قدر حاجة المعطوف عليه. ولله المثل الأعلى: نرى الأم ولها ولدان: أولهما قادر ثري يأتي لها بما تريد؛ وثانيهما ضعيف فقير؛ فنجد قلب الأم دائماً مع هذا الضعيف الفقير؛ وتحنِّن قلب القويِّ القادر على الفقير الضعيف. ونجد المرأة العربية القديمة تجيب على من سألها: أي أبنائك أحب إليك؟ فتقول: الصغير حتى يكبر؛ والغائب حتى يعود؛ والمريض حتى يشفى. إذن: فالحب يقتضي العطف على قدر الحاجة. ويقول الحق سبحانه في الحديث القدسي: «يا بن آدم؛ لا تَخَافنَّ من ذي سلطان؛ ما دام سلطاني باقياً؛ وسلطاني لا ينفد أبداً. يا بن آدم لا تَخْشَ من ضيق رزق؛ وخزائني ملآنة، وخزائني الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6626 لا تنفد أبداً. يا بن آدم خلقتك للعبادة؛ فلا تلعب، وضمنت لك رزقك فلا تتعب، فَوَعِزَّتي وجلالي إن رضيت بما قسمتُه لك أرحتُ قلبك وبدنك؛ وكنتَ عندي محموداً؛ وإن أنت لم ترض بما قسمتُه لك؛ فوعزتي وجلالي لأسلِّطنَّ عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحوش في البرية؛ ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمته لك. يا بن آدم خلقت السموات والأرض ولم أعْيَ بخلقهنَّ؛ أيعييني رغيف عيش أسوقه لك؟ يا بن آدم لا تسألني رزق غد كما أطلب منك عمل غدٍ. يا بن آدم أنا لك مُحِبٌّ؛ فبحقي عليك كنْ لي مُحِبّاً» . وهذا الحديث الكريم يبيِّن مدى مودة الله سبحانه لخلقه؛ تلك المودة التي لا تستوعبها القلوب المشركة. ويأتي الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بقول أهل مدين رَدّاً على شعيب عليه السلام: {قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6627 وهذا يُظاهي قول مشركي قريش لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد قالوا: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] . والإيمان يتطلب قلباً غير ممتلىء بالباطل؛ ليُحسن استقباله؛ أما القلوب الممتلئة بالباطل، فهي غير قادرة على استقبال الإيمان؛ إلا إذا أخلت العقولُ تلك القلوبَ من الباطل، وناقشت العقول كُلاً من الحق والباطل، ثم تأذن لما اقتنعت به أن يدخل القلوب. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يطبع ويختم على القلوب الممتلئة بالكفر؛ فلا يخرج منها الكفر ولا يدخل فيها الإيمان. ولم يكتف أهل مدين بإعلان الكفر؛ بل هددوا شعيباً وقالوا: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] . وهذا التهديد يحمل تحدِّياً، وكأنهم ظنوا أن بقدرتهم الفتك به؛ لأنهم يبغضون حياته؛ وأعلنوا حجة واهية؛ وهي أن رهطه أي: قومه وأهله؛ لأن الرهط هم الجماعة التي يتراوح عدد أفرادها بين ثلاثة وعشرة أفراد ما زالوا على عبادة الأصنام؛ وأن هذا الرهط سيغضب لأي ضرر يصيب شعيباً؛ وتناسوا أن الذي أرسل شعيباً عليه السلام لا بد أن يحميه، وهم بتناسيهم هذا حققوا مشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ بأن يُسخِّر الكفر لخدمة الإيمان. ومثال ذلك: هو بقاء عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبي طالب على دين قومه؛ وقد ساهم هذا الأمر في حماية محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ظاهر الأسباب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6628 ثم يأتي الحق سبحانه من بعد ذلك بردِّ شعيب عليه السلام على قومه؛ فيقول: {قَالَ ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6629 وهنا يتساءل شعيب عليه السلام باستنكار: أوضعتم رهطي في كفة؛ ومعزَّة الله تعالى في كفة؟ وغلَّبتم خوفكم من رهطي على خوفكم من الله؟! ولم يأبه شعيب عليه السلام باعتزازهم برهطه أمام اعتزازه بربه؛ لأنه أعلن من قبل توكله على الله؛ ولأنه يعلم أن العزة لله تعالى أولاً وأخيراً. ولم يكتفوا بذلك الاعتزاز بالرهط عن الاعتزاز بالله؛ بل طرحوا التفكير في الإيمان بالله وراء ظهورهم؛ لأن شعيباً عليه السلام يقول لهم: {واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود: 92] . أي: لم يجعلوا الله سبحانه أمامهم، فلم يأبهوا بعزة الله؛ ولا بحماية الله؛ وجعلوا لبعض خلقه معزَّة فوق معزَّة الله. ولم يقل: (ظِهْرِيًّا) نسبة إلى (الظهر) ، فعندما ننسب تحدث تغييرات، فعندما ننسب إلى اليمن نقول: يمنيّ. ونقول: يمانيّ، فالنسب هنا إلى الظهري، وهي المنسي والمتروك، فأنت ساعة تقول: أنت طرحت فلاناً وراء ظهرك، يعني جعلته بعيداً عن الصورة بالنسبة للأحداث، ولم تحسب له حساباً. إذن: فهناك تغييرات تحدث في باب النسب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6629 ويذكِّرهم شعيب عليه السلام بقوله: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92] . أي: أن كل ما تقولونه أو تفعلونه محسوب عليكم؛ لأن الحق سبحانه لا تخفَى عليه خافية، وقد سبق أن عرفنا أن القول يدخل في نطاق العمل؛ فكلُّ حدث يقال لهم: «عمل» ؛ وعمل اللسان هو القول؛ وعمل بقية الجوارح هو الأفعال. وقد شرَّف الحق سبحانه القول لأنه وسيلة الإعلام الأولى عنه سبحانه. يقول الحق سبحانه من بعد ذلك ما جاء على لسان شعيب عليه السلام: {وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6630 إذن: فشعيب عليه السلام عنده القضية المخالفة؛ لأن الله تعالى عنده أعزُّ من رهطه؛ وباعتزازه بربه قد آوى إلى ركن شديد، وبهذا الإيمان يعلن لهم: افعلوا ما في وُسْعكم، وما في مُكْنتكم هو ما في مُكْنة البشر، وسأعمل ما في مُكْنتي، ولست وحدي، بل معي الله سبحانه وتعالى؛ ولن تتسامى قوتكم الحادثة على قدرة الله المطلقة. ومهما فعلتم لمعارضة هذا الإصلاح الذي أدعوكم إليه؛ فلن يخذلني الذي أرسلني؛ وما دمتم تريدون الوقوف في نفس موقف الأمم السابقة التي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6630 تصدت لموجات الإصلاح السماوية؛ فهزمهم الله سبحانه بالصيحة، وبالرجفة، وبالريح الصرصر، وبالقذف بأي شيء من هذه الأشياء، وقال لهم: اعملوا على مكانتكم، وإياكم أن تتوهموا أني أتودد إليكم؛ فأنا على بينة من ربي، ولكني أحب الخير لكم، وأريد لكم الإصلاح. ولم يَقُلْ شعيب عليه السلام هذا القول عن ضعف، ولكن قاله ردّاً على قولهم: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] . وأبرز لهم مكانته المستمدة من قوة مَنْ أرسله سبحانه وتعالى، وقال: {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [هود: 93] . وهكذا أوضح لهم: أنا لن أقف مكتوف الأيدي، لأني سأعمل على مكانتي، و {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93] . أي: أن المستقبل سوف يبيِّن مَنْ مِنَّا على الحق ومَنْ مِنَّا على الضلال، ولم سيكون النصر والغلبة، ومن الذي يأتيه الخزي؛ أي: أن يشعر باحتقار نفسه وهوانها؛ ويعاني من الفضيحة أمام الخلق؛ ومَنْ مِنَّا الكاذب، ومَنْ على الحق. وكان لا بد أن تأتي الآية التالية: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6631 {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6632 ونلحظ أن الحق سبحانه قد أورد في هذه السورة: أسلوبين منطوقين أحدهما بالواو، والآخر بالفاء. الأول: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: 94] ، في قصة اثنين آخرين من الرسل. الثاني: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: 66] . في قصة اثنين من الرسل. وقصة شعيب هي إحدى القصتين اللتين جاء فيهما {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} ولم يأت ب «الفاء» لأنها كما نعلم تقتضي التعقيب بسرعة، وبدون مسافة زمنية؛ وتسمى في اللغة «فاء التعقيب» ، مثل قول الحق سبحانه: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6632 أما «ثم» فتأتي لتعقيب مختلف؛ وهو التعقيب بعد مسافة زمنية؛ مثل قول الحق سبحانه: {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 22] . وقد جاءت «الفاء» مرة في قصة قوم لوط؛ لأن الحق سبحانه قد حدد الموعد الذي ينزل فيه العذاب، وقال: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} [هود: 81] . فكان لا بد أن تسبق «الفاء» هذا الحديث عن عذابهم، فقال: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ} [هود: 82] . أما هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فقد قال الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [هود: 94] . ولم يذكر وعداً ولم يحدد موعد العذاب. والحق سبحانه يقول: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: 94] . وكل أمر يقتضي آمراً؛ ويقتضي مأموراً؛ ويقتضي مأموراً به. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6633 والآمر هنا هو الله سبحانه؛ وهو القادر على إنفاذ ما يأمر به، ولا يجرؤ مأمور ما على مخالفة ما يأمر به الحق سبحانه؛ فالكون كله يأتمر بأمر خالقه. إذن: فحين يخبرنا الحق سبحانه وتعالى أن العذاب قد جاء لقوم؛ فمعنى ذلك أن الأمر قد صدر؛ ولم يتخلف العذاب عن المجيء؛ لأن التخلف إنما ينشأ من مجازفة أمر لمأمور قد لا يطيعه، ولا يجرؤ العذاب على المخالفة لأنه مُسخَّر، لا اختيار له. والقائل هنا هو الله سبحانه صاحب الأمر الكوني والأمر التشريعي؛ فإذا قال الحق سبحانه حكماً من الأحكام وسجله في القرآن؛ فتيقن من أنه حادث لا محالة؛ لأن القضية الكونية هي من الحق سبحانه وتعالى، ولا تتخلف أو تختلف مع مشيئته سبحانه، والحكم التشريعي يسعد به مَنْ يُطِّبقه؛ ويشقى من يخالفه. والحق سبحانه يعطينا مثالاً لهذا في قصة أم موسى. . يقول جَلَّ شأنه: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} [القصص: 7] . فمنطق البشر يقول: كيف نقول لامرأة: إذا خِفْتِ على ابنك ألقيه في البحر؟ كيف ننجيه من موت مظنون إلى موت محقق؟ هذا وإن كان مخالفاً لسنن العادة إلا أن أم موسى سارعت لتنفيذ أمر الله سبحانه؛ لأن أوامر الله بالإلهام للمقربين، لا يأتي لها معارض في الذهن. والحق سبحانه كما أمرها بإلقاء وليدها في اليم، فقال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6634 {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم} [طه: 3839] . كذلك أمر الحق سبحانه وتعالى اليمَّ بإلقاء التابوت، وفي داخله موسى للساحل، ولذلك فيقين أم موسى في أن أوامر الله لا تتخلف، جعلها تسارع في تنفيذ ما أمرها الله به. والحق سبحانه يريد أن يُربِّبَ الإيمان، أي: يزيده في قلوب عباده، فَهَبْ أن الله قضى بقضية أو أمر بأمر، ثم لم يأت الكون على وفق ما أمر الله، فماذا يكون موقف الناس؟ فما دام رب العزة سبحانه قد قال فلا بد أن يحدث ما أمر به، فعندما يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] . فلا بد أن تكون الغلبة لجنود الله، فإذا ما غُلبوا فافهموا أن شرط الجندية لله قد تخلَّف، وأن عنصراً من عناصر الجندية قد تخلف وهو الطاعة. ومثال هذا: الذين خالفوا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البقاء على الجبل يوم أحد، إنهم خالفوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فماذا يحدث لو أنهم انتصروا مع هذه المخالفة؟ إذن: فقد انهزم المسلمون الذين اختلت فيهم صفة من صفات جنديتهم لله. ولا بد أن تلتقي القضيتان: القرآنية والكونية؛ لأن قائل القرآن هو صاحب سنن الكون سبحانه وتعالى. ولأن أهل مدين هنا قد أعلنوا الكفر؛ فلا بد أن يأتيهم العذاب. وسمَّى الحق سبحانه هنا العذاب بالصيحة؛ وقال: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6635 وسمَّى الحق سبحانه في سورة الأعراف العذاب الذي لحق بهم: «الرجفة» ؛ فقال: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 91] . وسماه في قصة قوم عاد: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] . وسمَّاه بالخسف في عذاب قارون. ومن عظمة التوجيه الإلهي أن العذاب كان ينتقي القوم الكافرين فقط؛ ولا يصيب الذين آمنوا، بدليل قول الحق سبحانه: {نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [هود: 94] . ولا يقدر على ذلك إلا إله قادر مقتدر؛ يُصرِّف الأمور كما يشاء سبحانه. وكلمة «نجينا» : من النجاة؛ أي: أن يوجد بنجوة؛ وهي المكان العالي، والعرب قد عرفوا مبكراً طغيان الماء؛ فقد كانوا يقيمون في اليمن ثم بعثرهم السيل مصداقاً لقول الحق سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6636 العرم وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 1516] . هكذا تفرق العرب من اليمن؛ وانتشروا في الجزيرة العربية، وكانوا يخافون من الماء رغم أنه سر الحياة؛ وفضَّلوا التعب في البحث عن الماء للشرب لهم ولأنعامهم؛ بدلاً من الوجود بجانب الماء، ومن عداوة الماء جاءت كلمة «نجا» أي: صعد إلى مكان مرتفع. واستخدمت كلمة «نجا» في كل موقف ينجو فيه الإنسان من الخطر الداهم، فيقال: «نجا من النار» ؛ «ونجا من العدو» ؛ «ونجا من الحيوان المفترس» ؛ وكلها مأخوذة من النجوة، أي: المكان المرتفع. ويقال في الفعل (نجا) : نجا فلان، إذا كانت قوته تسعفه ليخلص نفسه من العذاب. أما إذا كانت قوته غير قادرة على تخليصه من العذاب، فهو يحتاج إلى مَنْ يُنجيه، ويُقال: «أنجاه» ، إذا كانت المسألة تحتاج إلى جهد ومعالجة صعبة ليتحقق الفوز. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6637 ونسب الفعل فيها إلى الله؛ فقال «نجينا» . ويأتي الحق سبحانه في مثل هذا الأمر بضمير الجمع، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] . فكل شيء فيه فعل من الحق سبحانه وتعالى يأتي الله فيه بضمير الجمع: إنَّا. أما إذا كان الشيء متعلقاً بصفة من صفات الذات الإلهية، فإن الحق سبحانه يأتي بضمير الإفراد (أنا) مثل قوله تعالى: {إنني أَنَا الله} [طه: 14] . وقد أنجى الحق سبحانه شعيباً والذين آمنوا معه؛ لأن شعيباً عليه السلام قال لقومه: {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [هود: 93] . وكان عمل شعيب عليه السلام فيه صحة وعزيمة التوكل؛ لذلك أنجاه الله تعالى والذين آمنوا معه، فهو سبحانه لا يريد من عباده إلا التوجه بالنية الخالصة الصادقة إليه، فإذا توجَّه العبد بالنية الصادقة إلى الله، فالحق سبحانه يريح العبد، ويُعينه بالاطمئنان على أداء أي عمل. ومجرد الإيمان بالله تعالى والاتجاه إليه بصدق وإخلاص؛ يفتح أمام العبد آفاقاً من النجاح والرفعة. . والمفتاح في يد العبد؛ لأن الحق سبحانه قد قال في الحديث القدسي: «من ذكرني في نفسه ذكرته في ملأ خير منه» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6638 إذن: فالمفتاح في يد العبد. والحق سبحانه هو القائل: «ومن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبتُ إليه ذراعاً» . وهكذا يترك الحق سبحانه أمر التقرب إليه للعبد، وعندما يتقرب العبد من الله تعالى، فإنه سبحانه يتقرَّب إلى العبد أكثر وأكثر. ثم يقول الحق سبحانه في حديثه القدسي: «ومن جاءني يمشي أتيته هرولة» لأن المشي قد يُتعب العبد، لكن لا شيء يُتعب الحق سبحانه أبداً؛ لأنه مُنزَّهٌ عن ذلك. إذن: فالحق سبحانه يريد منا أن نُخلص النية في الالتحام بمعية الله تعالى، ليضفي علينا ربنا سبحانه من صفات جلاله وصفات جماله. وانظروا إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعه أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في الغار. . يقول الحق سبحانه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} [التوبة: 40] . أي: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينهى صاحبه عن الحزن بعلة معية الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن أبا بكر الصديق قد قال كلاماً يفيد الحزن؛ لأن الحزن لم يأت له من تلقاء نفسه، بل من قانونٍ كوني، حين قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا» لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يتكلم عن القانون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6639 الكوني، لكنه يتكلم عن طلاقة قدرة المكوِّن سبحانه، فقال: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» . فمعية الله أضفت عليهما شيئاً من جلاله وجماله، والله سبحانه لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار. وقد أنجى الحق سبحانه شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منه سبحانه، والرحمة ألا يصيبك شيء. ومثال ذلك: إن الإنسان يعالج فيشفى، ومرة أخرى يحميه الله من الداء. ولذلك انتبهوا إلى حقيقة أن القرآن قد جاء بأمرين: شفاء، ورحمة، فإذا كان هناك داء وترجعه إلى منهج الله؛ فالحق سبحانه يشفيه، والرحمة ألا يصيبك الداء من البداية. وأما الذين ظلموا فقد أخذتهم الصيحة، وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] . وفي هذه الآية يقول الحق سبحانه: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} [هود: 94] . لأن القرآن على جمهرته جاء على لغة قريش، لا ليُعْلي قريشاً؛ ولكن لأن لغة قريش كانت مُصفَّاة من جميع القبائل العربية، فهي تملك صفوة لغة كل القبائل، ولكن لم يكن ذلك يعني أن نطمس بقية القبائل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6640 ولذلك جاء في القرآن بعض من لغات القبائل الأخرى، حتى لا يعطي لقريش سيادة في الإسلام كما كان لها سيادة في الجاهلية، لذلك يأتي بلغات القبائل الأخرى، فمرة ياتي بتاء التأنيث ومرة لا يأتي بها. والتأنيث إما أن يكون حقيقياً أو مجازياً. والتأنيث الحقيقي هو المقابل للمذكر، مثل: المرأة. والتأنيث المجازي مثل: «الصيحة» و «الحجرة» . وكانت القبائل العربية تتجاوز في المؤنث المجازي؛ فمرة تأتي «التاء» ومرة لا تأتي. وإن كان هناك فَصْل بين الفعل والفاعل، فالفاصل قائم مقام التأنيث فيقول سبحانه: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6641 فكأن الصيحة لها مقدرة على أن تأخذ بما أودعه فيها مُرسِل الصيحة من قوة الأخذ، وأخذه أليم شديد. ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى: {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94] . ونلحظ أن كل عذاب إنما يحدد له الحق سبحانه موعداً هو الصبح، مثل قوله تعالى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} [هود: 81] . ومثل قوله الحق: {فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين} [الصافات: 177] . والصبح هو وقت الهجمة على الغافل الذي لم يغادره النوم بعد، مثل زُوَّار الفجر الذين يقبضون على الناس قبيل النهار. ويقول الحق سبحانه: {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94] . ولم يقل سبحانه: «فأصبحوا في دارهم جاثمين» ؛ لأن بعضهم قد لا يكون في بيته، بل في مكان آخر لزيارة أو تجارة. ومثال ذلك: قصة أبي رغال، وكان في مكة، لكن الحجر الذي قتله بإرادة الله سبحانه نزل عليه في البقاع ولم ينزل عليه الحجر في مكة؛ لأن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6642 الله سبحانه قد شاء ألا ينزل عليه الحجر في البيت الحرام، الآمن، وكأن الحجر قد تتَّبعه، مثلما تتبعت الصيحة الكفار من أهل مدين. ونلحظ في الكلمة الأخيرة من هذه الآية الكريمة وهي «جاثمين» أن حرفي «الجيم» و «الثاء» حين يجتمعان معاً بصرف النظر عن الحرف الثالث، ففيهما شيء من الهلاك، وشيء من الغنائية. ومعنى «جاثمين» أي: مُلقَون على بطونهم بلا حراك. والحق سبحانه يقول: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] . أي: يركع كل مَنْ فيها على ركبتيه. ويقال عن الميت: «الجثة» . وانظروا إلى عظمة الحق سبحانه حين يجعل الناس تنطق لفظ «الجثة» تعبيراً عن أي «ميت» عظيماً كان أم وضيعاً، ثم توضع جثته في القبر، لتحتضنه أمه الأولى؛ الأرض. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6643 ومن يرغب في تهدئة إنسان ملتاع وغاضب لموت عزيز عليه، فَلْيقُلْ له: هل تتحمل جثمانه أسبوعاً؟ وسوف يجيب: «لا» . إذن: فبمجرد أن ينزع الله سبحانه السر الذي به كان الإنسان إنساناً، وهو الروح، يصبح الإنسان جثة ثم يتخشب، ثم يَرِمُّ. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك وصفاً لمن أخذتهم الصيحة من أهل «مدين» : {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6644 أي: أن من يمر على أهل «مدين» بعد ذلك كأنهم لم يكن لهم وجود. والحق سبحانه يقول: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا} [يونس: 24] . فالإنسان الذي ارتقى حتى وصل إلى الحضارات المتعددة، إلى حد أنه قد يطلب القهوة بالضغط على زر آلة، فإذا شاء الله سبحانه أزال كل ذلك في لمح البصر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6644 هذه الحياة المرفهة يستمتع فيها الإنسان كمخدوم، وهي غير الجنة التي ينال فيها الإنسان ما يشتهي بمجرد أن يخطر الأمر بباله. وهنا يقول الحق سبحانه: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} [هود: 95] . ومادة «الغنى» منها: الغناء بكسر الغين وهو ما يغنيه المطربون، ومنها الغناء بفتح الغين وهو يؤدي إلى الشيء الذي يغنيك عن شيء آخر، فالغنى بالمال يكتفي عما في أيدي الناس. وهكذا الغناء؛ لأن الأذن تسمع كثيراً، والعين تقرأ كثيراً، لكن الإنسان لا يردد إلا الكلام الذي يعجبه، والملحَّن بطريقة تعجبه؛ فالغناء هو اللحن المستطاب الذي يغنيك عن غيره. والغَناء، أي: الإقامة في مكان إقامةً تغنيك عن الذهاب إلى مكان آخر، وتتوطن في هذا المكان الذي يغنيك عن بقية الأماكن. إذن: فقول الحق سبحانه: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} [هود: 95] . أي: كأنهم لم يقيموا هنا، ويستغنوا بهذا المكان عن أي مكان سواه. ويقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم: {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6645 أي: أن الأطلال قائمة بما تحتويه من أحجار ورسوم، مثل معابد قدماء المصريين، وأنت حين تزورها لا تجد المعابد كلها سليمة، بل تجد عموداً منتصباً، وآخر مُلْقىً على الأرض، وباباً غير سليم، ولو كانت كلها حصيداً؛ لاختفت تماماً، ولكنها بقايا قائمة، ومنها ما اندثر. وهذا يثبت لنا صدق الأداء القرآني بأنه كانت هناك حضارات، لأنها لو ذهبت كلها؛ لما عرفنا أن هناك حضارات قد سبقت. ثم يقول الحق سبحانه: {أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 95] . وكلمة «ألا» كما عرفنا من قبل هي «أداة استفتاح» ليلتفت السامع وينصت، فلا تأخذه غفلة عن الأمر المهم الذي يتكلم به المتكلم، وليستقبل السامع الكلام كله استقبال المستفيد. وكلمة «بُعْداً» ليست دعاءً على أهل مدين بالبعد؛ لأنها هلكت بالفعل، ومادة كلمة «بُعْداً» هي: «الباء» و «العين» و «الدال» وتستعمل استعمالين: مرة تريد منها الفراق؛ والفراق بينونة إلى لقاء مظنون، إما إذا كانت إلى بينونة متيقنة ألا تكون، ولذلك جاء بعدها: {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 95] . وهي تدل على أنه بعدٌ لا لقاء بعده إلا حين يجمع الحق سبحانه الناس يوم القيامة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6646 والشاعر يقول: يَقُولُون لا تبعدْ وهُمْ يَدفِنُونَني ... وأينَ مَكَانُ البُعدِ إلا مَكانِيَا فهذا هو البعد الذي يذهب إليه الإنسان ولا يعود. ولما خَصَّ الحق سبحانه ثمود بالذكر هنا، وقد سبق أن قال سبحانه عن أقوام آخرين: «ألا بعداً» ؟ لأن الصيحة قد جاءت لثمود، وبذلك اتفقوا في طريقة العذاب. وتنتهي هنا قصة شعيب عليه السلام مع مدين، ونلحظ أن لها مساساً برسلٍ مثل موسى عليه السلام، مثلما كان لقوم لوط مساس بإبراهيم عليه السلام. وهكذا نعلم أن هناك رسلاً قد تعاصرت، أي: أن كل واحد منهم أرسل إلى بيئة معينة ومكان معين. ولأن المرسل إليهم هم عبيد الله كلهم؛ لذلك أرسل لكل بيئة رسولاً يناسب منهجه عيوب هذه البيئة. وإبراهيم عليه السلام هو عم لوط عليه السلام، وموسى عليه السلام هو صهر شعيب عليه السلام. وقد ذهب موسى إلى أهل مدين قبل أن يرسله الله إلى فرعون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6647 ونحن نعلم أن الأماكن في الأزمنة القديمة كانت منعزلة، ويصعب بينها الاتصال، وكل جماعة تعيش في موقع قد لا يدرون عن بقية المواقع شيئاً، وكل جماعة قد يختلف داؤها عن الأخرى. لكن حين أراد الحق سبحانه بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كرسولٍ خاتمٍ، فقد علم الحق سبحانه أزلاً أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ميعاد مع ارتقاء البشرية، وقد توحدت الداءات. فما يحدث الآن في أي مكان في العالم، ينتقل إلينا عبر الأقمار الصناعية في ثوانٍ معدودة، لذلك كان لا بد من الرسول الخاتم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. أما تعدد الرسل اللقطات لكل رسول بالقرآن، فليست تكراراً كما يظن السطحيون؛ لأن الأصل في القصص القرآني أن الحق سبحانه قد أنزله لتثبيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد كانت الآيات تنزل من السماء الدنيا بالوحي لتناسب الموقف الذي يحتاج فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى تثبيت للفؤاد. ويبيِّن الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتذكر إخوانه من الرسل وما حدث لهم مع أقوامهم وانتصار الله لهم في النهاية، وحين أراد الحق سبحانه أن يقص قصة محبوكة جاء بسورة يوسف. وهكذا فليس في القرآن تكرار، بل كل لقطة إنما جاءت لتناسب موقعها في تثبيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولنا أن نلحظ أن قصة شعيب عليه السلام مع قومه، ما كان يجب أن تنتهي إلا بأن تأتي فيها لقطة من قصة موسى عليه السلام، وهو صهر شعيب عليه السلام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6648 والملاحظ أن الحق سبحانه قد ذكر هنا من قصة موسى عليه السلام لقطتين: اللقطة الأولى: هي الإرسال بالآيات إلى فرعون. واللقطة الثانية: هي خاتمة فرعون لا مع موسى عليه السلام، ولكن مع الحق سبحانه يوم القيامة، يقول تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود} [هود: 9899] . وكان لشعيب عليه السلام مهمة تثبيت قلب موسى عليه السلام من الهلع، حين أعلن له أنه خائف من أن يقتله قوم فرعون لأنه قتل رجلاً منهم، فقال له شعيب عليه السلام ما ذكره الحق سبحانه في قوله: {نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} [القصص: 25] . وهكذا ثبَّته وهيَّأ له حياة يعيش فيها آمناً لمدة ثماني حجج أو أن يتمها عشر حجج، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 2728] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6649 وهكذا باشر شعيب عليه السلام مهمة في قصة موسى عليه السلام. ومن هذا ومن ذلك يعطينا الحق سبحانه الدرس بأن الفطرة السليمة لها تقنينات قد تلتقي مع قانون السماء؛ لأن الحق سبحانه لا يمنع عقول البشر أن تصل إلى الحقيقة، لكن العقول قد تصل إلى الحقيقة بعد مرارة من التجربة، مثلما قنَّن الحق سبحانه الطلاق في الإسلام، ثم أخذت به بلاد أخرى غير مسلمة بعد أن عانت مُرَّ المعاناة. ومثلما حرَّم الحق سبحانه الخمر، ثم أثبت العلم مضارها على الصحة، فهل كنا مطالبين بأن نؤجل حكم الله تعالى إلى أن يهتدي العقل إلى تلك النتائج؟ لا؛ لأن الحق سبحانه قد أنزل في القرآن قانون السماء الذي يقي الإنسان شر التجربة؛ لأن الذي أنزل القرآن سبحانه هو الذي خلقنا وهو مأمون علينا، وقد أثبتت الأيام صدق حكم الله تعالى في كل ما قال بدليل أن غير المؤمنين بالقرآن يذهبون إلى ما نزل به القرآن ليطبقوه. وفي قصة موسى عليه السلام مثل واضح على مشيئة الحق سبحانه، فها هو فرعون الكافر قد قام بتربية موسى بعد أن التقطه لعله يكون قرة عين له، رغم أن فرعون كان يُقتِّل أطفال تلك الطائفة. ثم تلحظ أخت موسى أخاها، ويرد الحق سبحانه موسى عليه السلام إلى أمه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6650 وقد صوَّر الشاعر هذا الموقف بقوله: إذا لَمْ تُصادِفْ في بَنِيكَ عِنَايةً ... مِنَ اللهِ فقدْ كَذبَ الرَّاجِي وخَابَ المأملُ فَمُوسَى الذي رَبَّاهُ جِبريلُ كافرٌ ... ومُوسَى الذي ربَّاه فِرْعونُ مُرسَلُ وقد جاءت قصة موسى عليه السلام هنا موجزة، في البداية وفي النهاية؛ ليبيِّن لنا الحق سبحانه أن لشعيب دوراً مع واحد من أولي العزم من الرسل، وهو موسى عليه السلام، وكان مقصود موسى عليه السلام قبل أن يبعث هو ماء مدين، فحدث ما يمكن أن نجد فيه حلاً لمشاكل الجنسين الرجل والمرأة وهي رأس الحربة التي تُوجَّه إلى المجتمعات الإسلامية؛ لأن البعض يريد أن تتبذل المرأة في مفاتنها، لإغواء الشباب في أعز أوقات شراسة المراهقة. لكن القرآن حَلَّ هذه المسألة في رحلة بسيطة، ولنقرأ قول الحق سبحانه عن موسى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ} [القصص: 23] . أي: تمنعان الماشية من الاقتراب من المياه، وكان هذا المشهد مُلْفتاً لموسى عليه السلام، وكان من الطبيعي أن يتساءل: ألم تأتيا إلى هنا لتسقيا الماشية؟! وقال القرآن السؤال الطبيعي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6651 {مَا خَطْبُكُمَا} [القصص: 23] . فتأتيه الإجابة من المرأتين: {قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] . وهكذا نعلم أن خروج المرأة له علة أن الأب شيخ كبير، وأن خروج المرأتين لم يكن بغرض المزاحمة على الماء، ولكن بسبب الضرورة، وانتظرتا إلى أن يسقي الرعاة، بل ظلَّتا محتجبتين بعيداً؛ لذلك تقدم موسى عليه السلام ليمارس مهمة الرجل: {فسقى لَهُمَا} [القصص: 24] . وهذه خصوصية المجتمع الإيماني العام، لا خصوصية قوم، ولا خصوصية قربى، ولا خصوصية أهل، بل خصوصية المجتمع الإيماني العام. فساعة يرى الإنسان امرأة قد خرجت إلى العمل، فيعرف أن هناك ضرورة ألجأتها إلى ذلك، فيقضي الرجل المسلم لها حاجتها. وأذكر حين ذهبت إلى مكة في عام 1950م أن نزل صديقي من سيارته أمام باب منزلٍ، وكان يوجد أمام الباب لوح من الخشب عليه أرغفة من العجين التي لم تخبز بعد، وذهب به إلى المخبز، ثم عاد به بعد خبزه إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6652 نفس الباب. وقال لي: إن هذه هي عادة أهل مكة، إن وجد إنسان لوحاً من العجين غير المخبوز؛ فعليه أن يفعل ذلك؛ لأن وجود هذا اللوح أمام الباب إنما يعني أن الرجل رب البيت غائب. وهذا كله مأخوذ من كلمة: {فسقى لَهُمَا} [القصص: 24] . وعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان يأمر الجنود أن تدق الأبواب لتسأل أهل البيوت عن حاجاتهم. والأمر الثالث والمهم هو أن المرأة التي تخرج إلى مهمة عليها ألا تستمرىء ذلك، بل تأخذها على قدر الضرورة، فإذا وجدت منفذاً لهذه الضرورة، فعليها أن تسارع إلى هذا المنفذ، ولذلك قالت الفتاة لأبيها شعيب: {ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26] . ويُنهي شعيب عليه السلام هذا الموقف إنهاءً إيمانياً حكيماً حازماً، فيقول لموسى: {قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} [القصص: 27] . وهكذا يعلم موسى عليه السلام أن شعيباً لا يُلقي بابنته هكذا دون مهر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6653 لا. . بل لا بد أن يكون لها مهر، وأيضاً تصبح أختها محرمة عليه. وهذه القصة وضعت لنا مبادىء تحل كل المشكلات التي يتشدق بها خصوم الإسلام. وهنا نحن نجد في الغرب صيحات معاصرة تطالب بأن تقوم المرأة بالبقاء في المنزل لرعاية الأسرة والأولاد؛ ليس لأن المرأة ناقصة، ولكن لأن كمال المرأة في أداء أسمى مهمة توكل إليها، وهي تربية الأبناء. ونحن نعلم أن طفولة الإنسان هي أطول أعمار الطفولة في كل الكائنات، والأبناء الذين ينشأون برعاية أم متفرغة يكونون أفضل من غيرهم. وهكذا نتعلم من قصة شعيب عليه السلام مع موسى عليه السلام. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6654 ونحن نعلم أن الآيات إذا وردت في القرآن إنما تنصرف إلى ثلاثة أشياء: آيات كونية تعاصر كل الناس ويراها كل واحد، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والأرض الخاشعة إذا ما نزل عليها الماء اهتزت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6654 وربت، وكلها آيات كونية تلفت العقل إلى النظر في أن وراء هذا الكون الدقيق تكويناً هندسياً أقامه إله قادر. وهناك آيات تأتي لبيان صدق الرسول في البلاغ عن الله، وهي المعجزات مثل: ناقة ثمود المبصرة، وشفاء عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص بإذن الله. ثم آيات الأحكام التي تبيِّن مطلوبات المنهج ب «افعل» و «لا تفعل» . وهنا قال الحق سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [هود: 96] . فهناك آيات تدل على صدقه، وفوق ذلك سلطان ظاهر، إما أن يكون سلطاناً يقهر الغالب، أو سلطان حجة تقنع العقل. وسلطان القوة قد يقهر الغالب، لكنه لا يقهر القلب، والله سبحانه يريد قلوباً، لا قوالب؛ لذلك قال سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 34] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6655 إذن: فالحق سبحانه يطلب القلوب لا القوالب، قلوب تأتي إلى الله تعالى طواعية بدون إكراه. لذلك فالسطان الأهم هو سلطان الحجة؛ لأنه يقنع الإنسان أن يفعل. . ولم يكن لموسى عليه السلام سلطانٌ من القوة ليظهر، بل كان له سلطان الحجة، وهو قول الحق سبحانه: {وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 104105] . فيرد عليه فرعون: {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 106108] . وبياض اليد مسألة ذاتية في موسى عليه السلام، وطارئة أيضاً، فلم تكن مرضاً كالبهاق مثلاً، بدليل الاحتياط في قوله تعالى: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [طه: 22] . أما العصا فهي الحجة التي دفعت فرعون إلى أن يأتي بالسحرة، ليغلبهم موسى أمام فرعون والملأ، فيتبع السحرة موسى ويؤمنوا برب موسى وهارون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6656 ونحن نعلم أن الحق سبحانه قد أرسل موسى عليه السلام بتسع آيات هي: العصا التي تصير ثعباناً يلقف ما صنع السحرة، واليد البيضاء من غير سوء، ثم أخذ آل فرعون بالسنين، ونقص في الأنفس والثمرات، لأن الجدب يمنع الزرع، ونقص الأموال يحقق المجاعة، وكذلك أرسل الحق سبحانه على قوم فرعون الطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع، هذه هي الآيات التسع التي أرسلها الحق سبحانه على آل فرعون، بسبب عدم إيمانهم برسالة موسى عليه السلام. وهناك آيات آخرى أرسلها الحق سبحانه لقوم موسى بواسطة موسى عليه السلام؛ هي نتق الجبل، وضرب البحر بالعصا، ثم ضرب الحجر بالعصا لتتفجر اثنتا عشرة عيناً، وكذلك نزول التوراة في ألواح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6657 إذن: فالكلام في الآيات التسع المقصود بها الآيات التي أرسل بها موسى إلى فرعون، أما هذه الآيات فقد كانت بعد الخروج من مصر أو مصاحبة له كضرب البحر بالعصا. والدليل على أن قصة موسى مع فرعون خاصة، أن موسى كانت له رسالتان: الرسالة الأولى مع فرعون، والرسالة الثانية مع بني إسرائيل. ولذلك نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى يخبرنا في آخر السورة بالخلاف بين موسى عليه السلام وبني إسرائيل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} [هود: 110] . إذن: فقصته مع بني إسرائيل تأتي بعد إيتائه الكتاب، أي: التوراة. وهنا يتكلم الحق سبحانه عن آيات موسى عليه السلام مع فرعون فيقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [هود: 96] . أي: سلطان محيط لا يدع للخصم مكاناً أو فكاكاً. ثم يقول الحق سبحانه: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6658 والملأ: هم القوم الذين يملأون العيون، ويتصدرون المجالس. ويقال: «فلان ملء العين» أي: لا تقتحمه العيون؛ لأنه واضح ظاهر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6658 فالملأ إذن هم أشراف القوم، وهم عادة الذين يزينون للطاغية الاستخفاف بالرعية. والحق سبحانه يقول: {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] . وحين يتكلم الحق سبحانه عن فرعون والملأ والقوم، نجده يبيِّن ويفصل بين الملأ من جهة، وفرعون من جهة أخرى، وكذلك يفصل بين الفرعون والملأ من جهة، والقوم من جهة أخرى. . فلكل طرف من تلك الأطراف الثلاثة أسلوب يعامله الحق سبحانه به. وهنا يبيِّن لنا الله سبحانه أن الملأ قد اتبعوا أمر فرعون، هذا الأمر الذي يصفه الحق سبحانه بقوله: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] . والرشد يقابله الغيُّ، وهذا القول يدلنا على أن الملأ من قوم فرعون لم يتدارسوا أمر فرعون بتأنٍّ، ولم تستقبله عقولهم بالبحث، وهم لو فعلوا ذلك لما اتبعوا أمر فرعون. ويبيِّن الحق سبحانه لنا عدم رشد أمر فرعون، فهو يذكر لنا ما يحدث له يوم القيامة هو وقومه، فيقول تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6659 وكلمة «يقدم» هي من مادة «القاف» و «الدال» و «الميم» . وعند استخدام هذه المادة في التعبير قولاً أو كتابة، فهي تدل على الإقبال بالمواجهة؛ فيقال: «قدم فلان» دليل إقباله عليك مواجهة. وإذا قيل: «أقبل فلان» فهذا يعني الإقبال بشيءٍ من العزم. و «قدم القوم يقدمهم» أي: أنهم يتقدمون في اتجاه واحد، ومن يقودهم يتقدمهم. ويُفهم من هذا أن فرعون اتبعه الملأ، والقوم اتبعوا الملأ وفرعون، وما داموا قد اتَّبعوه في الأولى؛ فلا بد أن يتبعوه في الآخرة. ويأتي القرآن بآيات ويُبيِّنها، مثل قول الحق سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} [مريم: 6870] . فالحق سبحانه ينزع من كل جماعة الأشد فتوة وسطوة، ويلقيه في النار، لأنه أعلم بمن يجب أن يَصْلَى السعير. ويقول الحق سبحانه: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} [مريم: 7172] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6660 ولم يقل الحق سبحانه: «وإنْ منهم إلاّ واردُها» . وإنما قال: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] . وبذلك عمَّم الخطاب للكل، أو أنه يستحضر الكفار ويترك المؤمنين بمعزل. وهنا يقول الحق سبحانه عن قوم فرعون: {فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] . وحين تكلم كتاب الله الكريم عن «الورود» ، وهو الكتاب الذي نزل بلسان عربي مبين، نجد أن الورود يأتي بمعنى الذهاب إلى الماء دون شرب من الماء، قلت: «وردَ يردُ وروداً» ، وإن أردت التعبير عن شرب الماء مع الورود، فقل: «وردَ يردُ وِرْداً» بدليل أن الحق سبحانه يقول هنا: {وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] . أي: إنهم يشعرون بالبؤس لحظة أن يروا ماء جهنم ويشربون منه. إذن: فكلمة «الوِرْد» تطلق على عملية الشرب من الماء، وقد تطلق على ذات الورادين مثل قوله: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم: 86] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6661 وقد قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته: فَلمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقاً جِمَامُهُ ... وَضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ الُمَتَخيّمِ والشاعر هنا يصف الرَّكْب ساعة يرى المياه الزرقاء الخالية من أي شيء يعكرها أو يُكدِّرها، فوضع القوم عصا الترحال. وكان الغالب قديماً أن يحمل كل من يسير عصاً في يده، مثل موسى عليه السلام حين قال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] . ويقول الشاعر: فألقتْ عصَاها واستقرَّ بها النَّوَى ... كمَا قَرَّ عيناً بالإياب المُسَافرُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6662 فساعة رأى الركب المياه زرقاء، فهذا يعني أنها مياه غير مكدَّرة. ونحن نعلم أن المياه لا لون لها، ولكنها توصف بالزُّرْقة إن كانت خالية من الشوائب، شديدة الصفاء، فتنعكس عليها صورة السماء الزرقاء. والشاعر يصف قومه ساعة أن وصلوا إلى الماء الصافي وتوقفوا وأقاموا في المكان. وهكذا نجد أن الورود يعني الذهاب إلى الماء دون الشرب منه. والورد للماء يُفرح النفس أولاً، ثم يورده ويرويه ما يشربه منها، ومن يرد الماء لا شك أنه يعاني من ظمأ يريد أن يرويه، وحرارة كبد يريد أن يبردها. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] . وفي هذا تهكم شديد، لأنهم قوم فرعون ساعة يرون الماء يشعرون بقرب ري الظمأ وإبراد الحرارة، ولكنهم يشربون من ماء جهنم، فبئس ما يشربون، فهو يُطمعهم أولاً، ثم يؤيسهم بعد ذلك. كما في قوله سبحانه: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29] . فهم ساعة يسمعون كلمة «يغاثوا» يفهمون أن هناك فرجاً قادماً لهم، فإذا ما علموا أنه ماء كالمهل يشوي الوجوه، عانوا من مرارة التهكم. ولله المثل الأعلى: فأنت تجد من يدعوك لأطايب الطعام، وبعد ذلك تغسل يديك، فيلح عليك من دعاك إلى تناول الحلوى، فتستشرف نفسك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6663 إلى تناول الحلوى، بينما يكون من دعاك قد أوصى الطباخ أن يخلط الحلوى بنبات «الشطة» فيلتهب جوفك؛ أليس في هذا تهكم شديد؟! والحق سبحانه يبيِّن لهم أن الورد إنما جاء لترطيب الكبد، لكن أكبادهم ستشتعل بما تشربونه من هذا الماء، وكذلك الطعام الذي يأكله أهل النار. والحق سبحانه يقول: {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] . وهكذا تصير النكبة نكبتين. وبعض الناس قد فهم قول الحق سبحانه: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] . بمعنىأنهم جميعاً سوف يَرِدون جهنم. ولكن الحق سبحانه يقول أيضاً: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} [مريم: 70] . إذن: فالحق سبحانه يعطي لكل الناس صورة للنار، فإذا رأى المؤمنون النار وتسعُّرها، ولم يدخلوها، عرفوا كيف نجَّتهم كلمة الإيمان منها فيحمدون الله سبحانه وتعالى على النجاة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6664 {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6665 أي: أن اللعنة قد بقيت لهم، وما زلنا نحن المسلمين نلعنهم إلى الآن، ثم يصيرون إلى اللعنة الكبرى، وهي لعنة يوم القيامة: {بِئْسَ الرفد المرفود} [هود: 99] والرفد: هو الغطاء، فهل تعد اللعنة في الآخرة عطاءً؟ إن هذا تهكم منهم أيضاً، مثلها مثل قول الحق سبحانه: {وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] . ثم يقول الحق سبحانه: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6665 وقد أهلك الحق سبحانه تلك القرى بالعذاب؛ لأنها كذَّبت أنبياءها. والخطاب موجَّه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتثبيت فؤاده، والحق سبحانه إنما يبيِّن له أن الكافرين لن يكونوا بمنجىً من العذاب؛ كما أخذ الله سبحانه الأمم السابقة الكافرة بالعذاب. وقول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6665 {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} [هود: 100] . يتطلب أن نفرِّق بين المعنى الشائع عن القصة، والمعنى الحقيقي لها، فبعض الناس يقول: إن القرآن فيه قصص، والقصص عادة تمتلىء بالتوسع، وتوضع فيها أحداث خيالية من أجل الحبكة. ولهؤلاء نقول: أنتم لم تفهموا معنى كلمة «القصة» في اللغة العربية، لأنها تعني في لغتنا الالتزام الحرفي بما كان فيها من أحداث، فهي مأخوذة من كلمة: «قصّ الأثر» ، ومن يقص الأثر إنما يتتبع مواقع الأقدام إلى أن يصل إلى الشيء المراد. إذن: فقصص القرآن يتقصى الحقائق ولا يقول غيرها، أما ما اصطُلح عليه من عرف العامة أنه قصص، بما في تلك القصص من خيالات وعناصر مشوقة، فهذا ما يُسمَّى لغوياً بالروايات، ولا يُعتبر قصصاً. وقصص الإهلاك للأمم التي كفرت إنما هو عبرة لمن لا يعتبر، والناس تعلم أن ما رواه القرآن من قصص هو واقع تدل عليه آثار الحضارات التي اندثرت، وبقيت منها بقايا أحجار ونقوش على المقابر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6666 ونحن نجد في آثار الحضارات السابقة ما هو قائم من بقايا أعمدة ونقوش، ومنها ما هو مُحطَّم. ولذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137138] . أي: أنكم تشاهدون من الآثار ما هو قائم وما هو حطيم. ويقول الحق سبحانه عن تلك القرى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6667 ويبيِّن الحق سبحانه هنا أنه حين أخذ تلك الأقوام بالعذاب لم يظلمهم؛ لأن معنى الظلم أن يكون لإنسانٍ الحق، فتسلبه هذا الحق. وفي واقع الأمر أن تلك الأمم التي كفرت وأخذها الله بالعذاب، هي التي ظلمت نفسها بالشرك، وكذَّبت تلك الأقوام الرسل الذين جاءوا وفي يد كل منهم دليل الصدق وأمارات الرسالة. وهكذا ظلم هؤلاء الكفار أنفسهم؛ لذلك لا بد أن نعلم أن الحق سبحانه مُنزَّه عن أن يظلم أحداً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6667 وهم حين أشركوا بالله تعالى آلهة أخرى، لماذا لم تتحرك تلك الآلهة المزعومة وتتدخل لتحمي مَنْ آمنوا بها؟! ويخبرنا الحق سبحانه أن الحجارة التي عبدوها تلعنهم، وهم في النار، وهذه الأحجار تكون وقوداً للنار. والحق سبحانه يقول عن النار: {فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] . وهؤلاء الذين عبدوا واحداً من الناس أو بعضاً من الأصنام، إنما تجنَّوا، بالجهل على هذا الإنسان الذي عبدوه أو تلك الأحجار التي صلَّوا لها أو قدَّسوها. والشاعر المسلم تأمل غار حراء وغار ثور وكلامها من الأحجار فوجد أن غار حراء قد شهد نزول الوحي على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وغار ثور حمى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين اختفى فيه ومعه الصديق أبو بكر في أثناء الهجرة من مكة إلى المدينة، فتخيل الشاعر أن غار ثور قد حسد غار حراء وقال: كَمْ حَسَدْنَا حِراءً حينَ يَرى الرُّوحَ ... أميناً يَغْزُوكَ بالأنْوَارِ فَحِرَاءٌ وثَوْرٌ صَارَا سَواءً ... بِهما تَشفَّعْ لأمَّةِ الأحْجَارِ فغار حراء شهد جبريل عليه السلام وهو يهبط بالنور على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن غار ثور نال أيضاً الشرف لحمايته الرسول في الهجرة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6668 ويقول الشاعر على لسان الأحجار: عَبَدُونا ونَحْنُ أعْبَدُ للهِ ... مِنَ القائِمينَ بالأسْحَارِ قَدْ تَجنَّوا جَهْلاً كمَا قَدْ تجَنَّوا ... علَى ابنِ مَرْيَمَ والحوَارِي لِلمُغَالِي جَزَاؤهُ والمُغَالَى فيهِ ... تُنْجِيهِ رَحْمَةُ الغَفَّارِ وهكذا لا تُغني عنهم آلهتهم المعبودة شيئاً سواء أكانت بشراً أم حجارة، لم تُغنِ عنهم شيئاً ولم ترفع عنهم العذاب الذي تلقوه عقاباً في الدنيا وسعيراً في الآخرة، وإذا كانوا قد دعوهم من دون الله في الدنيا، فحين جاء العذاب لم تتقدم تلك الآلهة لتحميهم من العذاب. ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] . أي: أن تخلّي تلك الآلهة التي أشركوها مع الله تعالى أو عبدوها من دون الله. . هذا التخلي يزيدهم ألماً وإهلاكاً نفسياً وتخسيراً، لأن التتبيب هو القطع والهلاك. والحق سبحانه يقول: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6669 كذلك الأخذ الذي أخذ الله به القرى التي كذَّبت أنبياءها. لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6670 أي: أن الأخذ الذي أخذ به الله القرى الكافرة، إنما هو مثل حي لكل من يكفر. والحق سبحانه يقول: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر واليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} [الفجر: 15] . أي: أن الحق سبحانه يقسم لعل كل صاحب عقلٍ يستوعب ضرورة الإيمان، ويضرب الأمثلة بالقوم الذين جاءهم الأخذ بالعذاب، فيقول سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6670 {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 614] . فهو سبحانه قد أخذ كل هؤلاء أخذ العزيز المقتدر. وقوله سبحانه هنا: {وكذلك} [هود: 102] . أي: مثل الأخذ الذي أخِذَتْ به القرى التي كذَّبت رسلها، فظلمت نفسها. والأخذ هنا عقاب على العمل، بدليل أنه أنجى شعيباً عليه السلام وأخذ قومه بسبب ظلمهم، فالذات الإنسانية بريئة، ولكن الفعل هو الذي يستحق العقاب. ومثال ذلك: نجده في قصة نوح عليه السلام حين قال له الحق سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] . فالذي وضع ابن نوح في هذا الموضع هو أن عمله غير صالح؛ لذلك فلا يقولن نوح: إنه ابني. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6671 فليس الإهلاك بعلَّة الذات والدم والقرابة، بل الإهلاك بعلة العمل، فأنت لا تكره شخصاً يشرب الخمر لذاته، وإنما تكرهه لعمله، ونحن نعلم أن البنوة للأنبياء ليست بنوة الذوات، وإنما بنوة الأعمال. وكذلك نجد الحق سبحانه ينبه إبراهيم عليه السلام ألا يدعو لكل ذريته، فحين كرَّم الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] . جاء الطلب والدعاء من إبراهيم عليه السلام لله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] . لأن إبراهيم عليه السلام أراد أن تمتد الإمامة إلى ذريته أيضاً، فجاء الرد من الله سبحانه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] . وظلت هذه القضية في بؤرة شعور إبراهيم عليه السلام، وعلم تماماً أن البنوَّة للأنبياء ليست بنوة ذوات، بل هي بنوة أعمال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6672 ولذلك نجد دعاء إبراهيم عليه السلام حين نزل بأهله في وادٍ غير ذي زرع، وقال: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126] . وهنا انتبه إبراهيم عليه السلام وأضاف: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [البقرة: 126] . فجاء الرد من الحق سبحانه موضحاً خطأ القياس؛ لأن الرزق عطاء ربوبية يستوي فيه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي؛ فلا تخلط بين عطاء الربوبية وعطاء الألوهية؛ لأن عطاء الألوهية تكليف، وعطاء الربوبية رزق، لذلك قال الحق سبحانه: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} [البقرة: 126] . فأنت يا إبراهيم دعوتَ برزق الأهل بالثمرات لمن آمن، لأن بؤرة شعورك تعي الدرس، لكن هناك فرقاً بين عطاء الألوهية في التكليف، وعطاء الربوبية في الرزق، فمن كفر سيرزقه ربه، ويمتعه قليلاً ثم يكون له حساب آخر. إذن: فأخْذُ الحق سبحانه للظالمين بكفرهم هو عنف التناول لمخالفٍ، وتختلف قوة الأخذ بقوة الأخذ، فإذا كان الآخذ هو الله سبحانه، فهو أخْذ عزيز مقتدر. وهو أخذ لمن ظلموا أنفسهم بقمة الظلم وهو الكفر، وإن كان الظلم لحقوق الآخرين فهو فسق، وأيضاً ظلم النفس فسق؛ لأن الحق سبحانه حين يُحرِّم عليك أن تظلم غيرك فهو قد حرَّم عليك أيضاً ظلم نفسك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6673 ويصف الحق سبحانه أخذه للظالمين بقوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] . أي: أن أخذه موجع على قدر طلاقة قدرته سبحانه. وهَبْ أن إنساناً أساء إلى إنسان، فالحق سبحانه أعطى هذا الإنسان أن يرد السيئة بسيئة، حتى لا تتراكم الانفعالات وتزداد. لذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . حتى لا تبيت انفعالاتك عندك قهراً، ولكن من كان لديه قوة ضبط النزوع فعليه أن ينظر في قول الحق سبحانه: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134] . إذن: فإما أن ترد السيئة بعقاب مماثل لها، وإما أن تكظم غيظك، أي: لا تُترجم غيظك إلى عمل نزوعي، وإما أن ترتقي إلى الدرجة الأعلى وهي أن تعفو؛ لأن الله تعالى يحب من يحسن بالعفو. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6674 ولذلك حين سألوا الحسن البصري: كيف يُحسِن الإنسان إلى من أساء إليه؟ أجاب: إذا أساء إليك عبد، ألاَ يُغضب ذلك ربه منه؟ قالوا: نعم. قال: وحين يغضب الله من الذي أساء إليك؛ ألا يقف إلى جانبك؛ أفلا تحُسِن إلى من جعل الله يقف إلى جانبك؟ ولهذا السبب يُروى عن أحد الصالحين أنه سمع أن شخصاً اغتابه؛ فأهدى إليه مع خادمه طبقاً من بواكير الرطب، وتعجب الخادم متسائلاً: لماذا تهديه الرطب وقد اغتابك؟ قال العارف بالله: بَلِّغْهُ شكري وامتناني لأنه تصدَّق عليَّ بحسناته عندما اغتابني، وحسناته بلا شك أنفَسُ من هذا الرطب. ولذلك يقال: إن الذي يعفو أذكى فهماً ممن عاقب، لأن الذي يعاقب إنما يعاقب بقوته؛ والذي يعفو فهو الذي يترك العقاب لقوة الله تعالى، وهي قوة لا متناهية. وهكذا نفهم قول الحق سبحانه: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6675 أي: أخذٌ موجعٌ على قدر قوة الله سبحانه؛ وهو أخذ شديد؛ لأن الشدة تعني: جمع الشيء إلى الشيء بحيث يصعب انفكاكه؛ أو أن تجمع شيئين معاً وتقبضهما بحيث يصعب تحلل أي منهما عن الآخر. وهذه أقوى غاية القوة. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6676 من يخاف عذاب الآخرة، فإن هذه الآيات التي تخبر عن الذي حدث للأمم السابقة، إنما تلفته إلى ضرورة الإيمان بأن الله سبحانه يحاسب كل إنسان على الإيمان وعلى العمل. ومن يسمع لقصص الأقوام السابقة؛ ويعتبر بما جاء فيها؛ وينتفع بالخبرة التي جاءت منها؛ فهو صاحب بصيرة نافذة؛ فكل ما حدث للأقوام السابقة آيات ملفتة. ولذلك يقال: «إن لكل آية من مواليد؛ هي العبر بالآيات» ومن لا يؤمن فهو لن يعتبر؛ مصداقاً لقول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6676 {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] . إذن: فقد شاء الحق سبحانه أن يلفتنا بالآيات لنعتبر بها ونكون من أولي الألباب؛ فلا ندخل في دائرة من لا يخافون العذاب؛ أولئك الذي يتلقّون العذاب خزياً في الدنيا وجحيماً في الآخرة؛ وعذاب الآخرة لا نهاية له؛ والفضيحة فيه أمام كل الخلق. لذلك قال الحق سبحانه: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103] . أي: أن الفضيحة في هذا اليوم تكون مشهودة من كل البشر؛ من لدن آدم إلى آخر البشر؛ لذلك تكون فضيحة مدوية أمام من يعرفهم الإنسان؛ وأمام من لا يعرفهم. وقول الحق سبحانه: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} [هود: 103] . وكلمة «مجموع» تقتضي وجود «جامع» ؛ و «المجموع» يتناسب مع قدرة «الجامع» ؛ فما بالنا والجامع هو الحق الخالق لكل الخلق سبحانه وتعالى. ولا يجتمع الخلق يومها عن غفلة؛ بل يجتمعون وكلهم انتباه؛ فالحق سبحانه يقول: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6677 {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42] . ويقول الحق سبحانه أيضاً: {واقترب الوعد الحق فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ} [الأنبياء: 97] . وهنا يقول سبحانه: {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103] . أي: أن الخلق سيشهدون هذا الفضح المخزي لمن لم يعتبر بالآيات. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك في ميعاد هذا اليوم. {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6678 وهكذا نعلم أن تأخر مجيء يوم القيامة؛ لا يعني أنه لن يأتي؛ بل سوف يأتي لا محالة ولكن لكل حدث ميعاد ميلاد، ولكم في تتابع مواليدكم ما يجعلكم تثقون بأن مواليد الأحداث إنما يحددها الله. وقول الحق سبحانه: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ} [هود: 104] . يتطلب أن نعرف أن كلمة «الأجل» تطلق مرة على مدة عمر الكائن من لحظة ميلاده إلى لحظة نهايته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6678 والحق سبحانه يقول: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] . وتطلق كلمة «الأجل» مرة أخرى على لحظة النهاية وحدها، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] . ولنعرف جميعاً أن كل أجل وإن طال فهو معدود، وكل معدود قليل مهما بدا كثيراً؛ لذلك فَلْنقُلْ أن كل معدود قليل. ما دُمْنَا قادرين على إحصائه. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6679 وهنا جمع الحق سبحانه جماعة في حكم واحد، فقوله تعالى: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} [هود: 105] . يعني: لا تتكلم أي نفس إلا بإذن الله، وقد كانوا يتكلمون في الحياة الدنيا بطلاقة القدرة التي منحهم أياها الله سبحانه حين أخضع لهم جوارحهم. وجعل الحق سبحانه الجوارح مؤتمرة بأمر الإنسان؛ وشاء سبحانه أن يجعل بعضاً من خلقه نماذج لقدرته على سلب بعض تلك الجوارح؛ فتجد الأخرس الذي لا يستطيع الكلام؛ وتجد المشلول الذي لا يستطيع الحركة؛ وتجد الأعمى الذي لا يبصر، وغير ذلك. . وبتلك النماذج يتعرف البشر على حقيقة واضحة هي أن ما يتمتعون به من سيطرة على جوارحهم هو أمر موهوب لهم من الله تعالى؛ وليست مسألة ذاتية فيهم. وقول الحق سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود: 105] . يبيِّن لنا سبحانه حقيقة تسخير الجوارح لطاعتنا في الدنيا، فهي ترضخ لإرادتنا؛ لأنه سبحانه شاء أن يسخرها لأوامرنا ولانفعالاتنا، ولا أحد فينا يتكلم إلا في إطار الإذن العام للإرادة أن تنفعل لها الجوارح. وقد يسلب الله سبحانه هذا الإذن فلا تنفعل الجوارح للإرادة، فتجد الحق سبحانه يقول في آية أخرى. {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6680 ويقول الحق عَزَّ وَجَلَّ في آية أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 27] . وهناك آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 3536] . ويقول الحق سبحانه أيضاً: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] . وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] . وهكذا قد يُخيَّل للبعض أن هناك آيات تناقض بعضها؛ فهناك آيات تسمح بالكلام، وهناك آيات تنفي القدرة على الكلام. وأقول: يجب أن نفهم أن الكلام الذي سيعجز الأشقياء عن نطقه يوم القيامة هو الكلام المجدي النافع، وسيتكلم البعض كلام السفسطة الذي لا يفيد، مثل لومهم بعضهم البعض؛ وذكره لنا القرآن في قوله سبحانه: {وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت: 29] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6681 وهذا كلام لا يشفع لصاحبه ولا يجدي. إذن: فالممنوع هو الكلام المجدي المفيد، أو أن مقامات القيامة متفاوتة؛ فوقت يتكلمون فيه؛ ووقت يؤخذون فيه، فينبهرون ولا يتكلمون، ويأمر الحق سبحانه الجوارح المنفعلة أن تتكلم وتشهد عليهم. ويقسِّم الحق سبحانه أحوال الناس قسمين، كما في قوله تعالى في آخر الآية: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] . وجاء بالاسم المحدد لكل من القسمين: «شقي» و «سعيد» ؛ لأن الاسم يدل على الثبوت، فالشقاء ثابت لمن نُعت بالشقي؛ والسعادة ثابتة لمن نُعت بالسعيد. ثم يبيِّن لنا الحق سبحانه منازل مَنْ شَقُوا، ومنازل مَنْ سُعِدوا؛ ولذلك يعدل عن استخدام الاسم إلى استخدام الفعل، فيقول سبحانه: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6682 والذين حكموا على أنفسهم بالشقاء لخروجهم عن منهج الله؛ يجمعهم الشقاء؛ لكنهم يدخلون النار أفراداً وزُمَراً. والحق سبحانه يقول: {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً} [الزمر: 71] . وفي آية أخرى يقول سبحانه: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] . وهكذا نفهم أن الكافرين في الوصف الثابت أشقياء، لكنهم لحظة دخول النار إنما يدخلونها أفراداً؛ بل ويدخل معهم بعض من المسلمين العصاة، ويتلقى كل واحد منهم عقابه المناسب لما ارتكب من الذنوب والمعاصي؛ ويعاني كل منهم من شقاء يتناسب مع آثامه؛ وبذلك يجتمعون في الشقاء ويختلفون في نوع وكمية العذاب؛ كلٌّ حسب ذنوبه، ولا يظلم ربك أحداً. وجاء الحق سبحانه هنا بالفعل «شقوا» ليبيِّن لنا أنهم هم الذين اختاروا الشقاء؛ وأتوا به لأنفسهم؛ لأن الحق سبحانه خلق عباده وترك لكل منهم حق الاختيار؛ وأنزل لهم المنهج؛ ليصونوا أنفسهم؛ وأعان من اختار الإيمان على الطاعة. ثم يذكر الحق سبحانه في نفس الآية موقف مَنْ أدخلوا على أنفسهم الشقاء، فيقول عنهم: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6682 {فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6683 ونحن نعلم أن الذي يتنفس في النار سيخرج الهواء من صدره ساخناً مثلما يأخذ الشهيق ساخناً. ويواصل الحق سبحانه وتعالى وَصْفَ ما يتلقاه أهل الشقاء في النار، فيقول سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6684 وكلمة «الخلود» تفيد المكث طويلاً؛ مكوثاً له ابتداء ولا نهاية له؛ وإذا أبِّد فهو تأكيد للخلود. والذين شقوا إنما يدخلون النار؛ بدءاً من لحظة: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود: 105] . وهو عذاب لا نهاية له بالنسبة للكافرين. وأما عذاب المسلم العاصي على ما ارتكب من آثام؛ فبدايته من لحظة انتهاء الحساب إلى أن تنتهي فترة عذابه المناسبة لمعاصيه؛ ويدخل الجنة من بعد ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6684 ولهذا قال الحق سبحانه: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} [هود: 107] . وهكذا ينقص الحق سبحانه الخلود في النار بالنسبة لأنصاف المؤمنين، فالحق سبحانه {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ولا يحكمه أي شيء. وإياكم أن تظنوا أن قدر الله يحكمه؛ فالقدر فِعْلُه، ولا أحد يسأل الله سبحانه عمَّا يفعل؛ لأن ذات الله هي الفاعلة؛ فإن شاء سبحانه أن ينقص خلود مسلم عاصٍ في النار؛ فالنقص يكون في النهاية؛ وبذلك يتحقق أيضاً نقص خلوده في الجنة، لأنه لا يدخلها إلا بعد أن يستوفي عقابه. وبهذا التصور ينتهي الإشكال الذي اختلف حوله مائة وخمسون عالماً؛ فقد ظن بعضهم أن الحق سبحانه يغلق أبواب النار على من أدخلهم إياها، ويستمر ذلك إلى ما لا نهاية، وكذلك من دخل الجنة من البداية سيظل فيها أبداً، ولن يُلحق الله أصحاب الكبائر بالجنة، ومن قال بذلك الرأي إنما يُسوِّي بين من ارتكب الكبيرة وبين الكافر بالله، وهذا أمر غير متصور، وهو بعيد عن رحمة الله. وإذا كان هذا البعض من العلماء قد استدل على رأيه بالآية الكريمة التي جاءت في سورة الجن، والتي يقول فيها الحق سبحانه: {إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [الجن: 23] . فنحن نقول: إن الحق سبحانه يربِّب لطفه للكافر حتى يؤمن، وللعاصي حتى يتوب، وهذا من رحمة الله سبحانه، فتأبيد الخلود في العذاب لم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6685 يرد إلا في آيتين، وهذا دليل على عظيم رحمة الله وسِعَة عفوه سبحانه. ولذلك قيل عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنه رحمة الله للعالمين؛ وكلمة «العالمين» جمع «عالَم» والعالَم هو ما سِوى الله تعالى. ولذلك هناك رحمة للكافر؛ هي عطاء الله له في الدنيا. وهكذا نعلم أن الله سبحانه هو الذي يملك نواميس الكون، ولم يتركها تفعل وحدها، بل يزاول سبحانه سلطانه عليها، وما دام القدر هو فعله سبحانه؛ فهو يغيِّر فيه كما يشاء. فهو سبحانه رب الزمان والمكان والحركة، وما دام هو رب كل شيء فإنه فعال لما يريد، وهنا تخضع أبدية الزمان لمراده ومشيئته. وقول الحق سبحانه: {مَا دَامَتِ السموات والأرض} [هود: 107] . نفهم منه أن الجنة أو النار لا بد أن يوجد لهما ما يعلوهما ويظللهما، ولا بد أن يوجدا فوق أرض ما. وإذا قال قائل: إن الحق سبحانه قد ذكر في القرآن أن السماء سوف تمور وتنفطر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6686 نقول رداً عليه: لا تأخذ آية في القرآن إلا بضميمة مثيلاتها. ولذلك قال الحق سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات} [إبراهيم: 48] . والحق سبحانه يورث أرض الجنة لمن يشاء؛ لأنه سبحانه هو القائل على لسان المؤمنين يوم القيامة: {وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 74] . أو لأن الإنسان له أغيار، وما حوله له أغيار. ومن العجيب أن الإنسان المخدوم بالمادة الجامدة؛ وبالنبات النامي؛ وبالحيوان الذي يحس ويتحرك؛ هذا الإنسان قد يكون أطول عمراً من بعض المخلوقات المسخَّرة لخدمته؛ لكنه أقل عمراً من الشمس ومن القمر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6687 لكن الحق سبحانه هنا يصور عمر الإنسان في الآخرة؛ فكأنه سبحانه يعطي الأمد على أطول ما عرفنا من الأعمار؛ ولذلك قال سبحانه: {مَا دَامَتِ السموات والأرض} [هود: 107] . وإذا علَّق الله سبحانه شيئاً على شيء، فلا بد أن يوجد هذا التعليق. والحق سبحانه يتكلم عن أهل النار من الكفار، فيقول تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} [الأعراف: 40] . فهل سيلج الجمل في سَمِّ الخِياط؟ إن ذلك محال. ولذلك أقول: فلنأخذ التعليقات في نطاق أنه سبحانه: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] . وقد جاء في الكتاب قول سيدنا عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118] . فكان مقتضى السياق أن يقول سبحانه: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم. وهذه نظرة سطحية لمدلولات القرآن، بعقول البشر، أما ببلاغة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6688 الحق سبحانه فيكون الأمر مخالفاً، فأمر التعذيب أو الغفران موكول لله سبحانه بيده وحده، وليس لأحد أن يسأله لِمَ فعل هذا؟ ولِمَ ترك هذا؟ لذلك كان هذا هو معنى العزة؛ ولذلك كان سبحانه عزيزاً، وهو سبحانه أيضاً حكيم في أي أمر يحكم فيه سواء أكان بالتعذيب أو المغفرة. لذلك جاء سبحانه بالخاتمة التي تثبت للحق سبحانه التعذيب أو المغفرة. ففي تعذيب الكافرين قال سبحانه: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] . وفي الكلام عن الطائعين الذين أدخلوا الجنة قال سبحانه: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6689 فالحق سبحانه يعطي المؤمنين ما شاء، ويؤكد خلودهم في الجنة، وعطاؤه لهم لا مقطوع ولا ممنوع. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6689 فهل كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مرية؟ هل كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شك؟ لا، ولكنه قول الآمر الأعلى سبحانه للأدنى، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صدد هذا الأمر؛ وبذلك ينصرف أمر الحق سبحانه إلى الدوام. مثلما قال الحق سبحانه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {أَقِمِ الصلاة} [الإسراء: 78] . وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقيم الصلاة قبلها، ولكن قول الحق سبحانه هنا إنما يمثل بداية التشريع. ومثل هذا أيضاً قول الحق سبحانه في خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] . فهل كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يتقي الله؟ نقول: لا، إنما هو لإدامة التقوى، فإنه إذا أمر الأعلى الأدنى بأمر هو بصدد فعله، انصرف هذا الأمر إلى الدوام، واتباع أمته للتقوى والإعراض عن النفاق والكفر، وهو خطاب للرسول وأمته، فللرسول الدوام والترقي والحصانة، ولأمته الاتباع لمنهج الله. ومثل هذا قوله تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} [البقرة: 153] . وهو سبحانه يناديهم بالإيمان؛ لأنهم اعتقدوا اعتقاد الالوهية الواحدة، ومن يسمع منهم هذا الخطاب عليه أن يداوم على الإيمان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6690 وما دام قد آمن بالإله الواحد قبل الخطاب، فقد استحق أن ينال التكريم من الحق سبحانه بأن يخاطبه ويصفه بأنه من المؤمنين، فإذا نُودِي عليهم بهذه الصفة فهي علامة السمو المقبول. وإذا طُلبت الصفة ممن توجد الصفة فيه، فاعلم أنه سبحانه يطلب دوام الصفة فيه واستمرارها، وفي الاستمرارية ارتقاء. وقول الحق سبحانه هنا: {مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء} [هود: 109] . نجد أن التحقيق لا يثبت لهم عبادة؛ لأن معنى العبادة ائتمار عابدٍ بأمر معبود. وهؤلاء إنما يعبدون الأصنام، وليس للأصنام منهج يسير عليه من آمنوا بها. ولكن الحق سبحانه أثبت لهم هنا أنهم عبدوا الأصنام، وهم قد قالوا من قبل: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6691 وهو إيمان فقد حجية التعقل الإيماني، أي: أن تستقبل أنت بذاتك القضية الإيمانية وتناقشها لتدخل عليها باقتناع ذاتك. وهم قد دخلوا إلى الإيمان بعبادة الأصنام باقتناع الغير، وهم الآباء، فإيمانهم إيمان تقليد، وفي التقليد جفاف الفطرة السليمة وهو لا ينفع. ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل النِّسَب في الكون إما ليثبت نسبة إيجابية، أو نسبة سلبية. {مَا يَعْبُدُونَ} [هود: 109] . أي: على ما قالوا إنه عبادة، ولكنه ليس عبادة، لأن العبادة تقتضي أمراً ونهياً، وليس للأصنام أوامر أو نواهٍ، وعبادتهم هي عبادة تقليدية للآباء؛ ولذلك قالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} [البقرة: 170] . ولذلك يقرر الحق سبحانه هنا جزاءهم، فيقول تعالى: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [هود: 109] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6692 أي: سنعطيهم جزاءهم كاملاً؛ لأنهم يفسدون في الكون، رغم أن الحق سبحانه قد جعل لكل منهم حق الاختيار في أن يفعل الشيء أو لا يفعله، وإن لم تنضبط حركة الاختيار، فالتوازن الاجتماعي يصير إلى اختلال. وما دام للإنسان حق الاختيار؛ فقد أنزل الحق سبحانه له المنهج الذي يضم التكاليف الإيمانية. وهم حين قلدوا الآباء قد ساروا في طريق إفساد الكون؛ لذلك يُوفِّيهم الحق سبحانه نصيبهم من العذاب. والمفهوم من كلمة «النصيب» أنها للرزق، ويذكرها الحق سبحانه هنا لتقرير نصيب من العذاب، وفي هذا تهكم عليهم، وسخرية منهم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6693 وسورة هود هي السورة الوحيدة في القرآن التي جاء فيها ذكر رسول واحد مرتين، فقد ذكر الحق سبحانه أنه أمر موسى عليه السلام بأن يذهب إلى فرعون، وأن يريه الآيات، ولم يزد، ثم انتقل من ذلك الإبلاغ فقال سبحانه: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} [هود: 98] . أي: أنه أعقب أولية البلاغ بالختام الذي انتهى إليه فرعون يوم القيامة، فيُورِد قومه النار. ثم يأتي الحق سبحانه هنا إلى موسى عليه السلام بعد ابتداء رسالته؛ ولذلك يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب} [هود: 110] . ونحن نعلم أن ذِكْر موسى عليه السلام في البداية كان بمناسبة ذِكْر ما له علاقة بشعيب عليه السلام حين ورد موسى ماء مدين، ولكن العجيب أنه عند ذِكْر شعيب لم يذكر قصة موسى معه، وإنما ذكر قصة موسى مع فرعون. وقد علمنا أن موسى عليه السلام لم يكن آتياً إلى فرعون إلا لمهمة واحدة، هي أن يرسل معه بني إسرائيل ولا يعذبهم. وأما ما يتأتى بعد ذلك من الإيمان بالله فقد جاء كأمر تبعيٍّ، لأن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6694 رسالة موسى عليه السلام لم تكن إلا لبني إسرائيل؛ ولذلك جاء هنا بالكتاب ليبلغه إلى بني إسرائيل منهجاً، أما في الموضع الأول فقد ذكر سبحانه الآيات التي أرسل بها موسى إلى فرعون. ونحن نعلم أن سورة هود عرضت لمواكب الرسل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم عليهم جميعاً السلام وجاء الحديث فيها عن موسى عليه السلام مرتين: مرة في علاقته بفرعون، ومرة في علاقته ببني إسرائيل. وفي كل لقطة من اللقطات مهمة أساسية من مهمات المنهج الإلهي للناس عموماً، من أول آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة؛ إلا أنه عند ذكر كل رسول يأتي باللقطة التي تعالج داءً موقوتاً عند القوم. فالقَدْر المشترك في دعوات كل الرسل هو قوله سبحانه: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] . ثم يختلف الأمر بعد ذلك من رسول لآخر، فمنهم من يأمر قومه ألا يعبدوا الأصنام؛ ومنهم من يأمر قومه ألا ينقصوا الكيل والميزان. وهكذا نجد في كل لقطة مع كل رسول علاج داء من داءات تلك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6695 الأمة، أما الإسلام فقد جاء ليعالج داءات البشرية كلها؛ لذلك جمعت كل القيم الفاضلة في القرآن كمنهج للبشرية. لذلك فالحق سبحانه لا يقص علينا القصص القرآني للتسلية، أو لقتل الوقت، أو لتعلم التاريخ؛ ولكن لنلتقط العبرة من رسالة كل رسول إلى أمته التي بعث إليها ليعالج داءها. وبما أن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ستكون آخر عهدٍ لالتقاء البشر بالبشر، وستكون فيها كل أجواء وداءات الدنيا، لذلك فعليهم التقاط تلك العبر؛ لأن رسالتهم تستوعب الزمان كله، والمكان كله. والحق سبحانه هنا يقول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} [هود: 110] . ونحن نعلم أنه إذا تقدم أمران على ضمير الغيبة؛ فيصح أن يعود الضمير إلى كل أمر منهما. وقوله سبحانه: {فاختلف فِيهِ} [هود: 110] . يصح أن يكون الاختلاف في أمر موسى، ويصح أن يكون الاختلاف في أمر الكتاب، والخلاف في واحد منهما يؤدي إلى الخلاف في الآخر؛ لأنه لا انفصال بين موسى عليه السلام، والكتاب الذي أنزله الله عليه. وهكذا فالأمران يلتقيان: أمر الرسالة في الكتاب، وأمر الرسول في الاصطفاء؛ ولذلك لم يجعلهما الحق سبحانه أمرين، بل هما أمر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6696 واحد؛ لأن الرسول لا ينفصل عن منهجه. وقوله الحق: {آتَيْنَا موسى الكتاب} [هود: 110] أمر يتعلق بفعل الحق سبحانه، ولله ذات، ولله صفات، ولله أفعال. وهو سبحانه مُنزَّه في ذاته عن أي تشبيه، ولله صفات، وهي ليست ككل الصفات، فالحق سبحانه موجود، وأنت موجود، لكن وجوده قديم أزليٌّ لا ينعدم، وأنت موجود طارىء ينعدم. ونحن نأخذ كل ما يتعلق بالله سبحانه في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . فإذا تكلم الحق سبحانه عن الفعل فخذ كل فعلٍ صدر عنه بقوته سبحانه غير النهائية. وقوله سبحانه هنا: {آتَيْنَا موسى الكتاب} [هود: 110] . نفهم منه أن هذا الفعل قد استلزم صفات متكاملة، علماً وحكماً، وقدرةً، وعفواً، وجبروتاً، وقهراً، فهناك أشياء كثرة تتكاتف لتحقيق هذا الإتيان. وقد يسأل سائل: وما دام موسى عليه السلام قد أوتي الكتاب، واختُلف فيه، فلماذا لم يأخذ الحق سبحانه قوم موسى كما أخذ قوم نوح، أو قوم عاد، أو قوم ثمود، أو بقية الأقوام الذين أخذهم الله بالعذاب؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6697 ونقول: ما نجوا من عذاب الله بقدرتهم؛ بل لأن الحق سبحانه قد جعل عذابهم آجلاً، وهو يوم الحساب. ولذلك قال سبحانه في الآية نفسها: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [هود: 110] . وبذلك حكم الحق حكماً فاصلاً، كما حكم على الأمم السابقة التي كانت مهمة رسلهم هي البلاغ، ولم تكن مهمة رسلهم أن يحاربوا من أجل إرساء دعوة أو تثبيت حق؛ ولذلك كانت السماء هي التي تتدخل بالأمر النهائي. لكن اختلف الأمر في رسالة موسى عليه السلام، فقد سبق فيه قول الله تعالى بالتأجيل للحساب إلى يوم القيامة. ثم يقول الحق سبحانه هنا: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110] . كأنهم في شك من يوم القيامة، وفي شك من الحساب، مثل قوله سبحانه في أول الآية عن الاختلاف في الكتاب وموسى عليه السلام. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6698 إذن: فالحق سبحانه قد أخذ قوم الرسل السابقين على موسى بالعذاب، أما في بدء رسالة موسى عليه السلام فقد تم تأجيل العذاب ليوم القيامة. ويبيِّن الحق سبحانه: لا تعتقدوا أن تأجيل العذاب ليوم القيامة يعني الإفلات من العذاب، بل كل واحد سيوفِّى جزاء عمله؛ بالثواب لمن أطاع، وبالعقاب لمن عصا، فأمر الله سبحانه آت لا محالة وتوفية الجزاء إنما تكون على قدر الأعمال، كفراً أو إيماناً، صلاحاً أو فساداً، وميعاد ذلك هو يوم القيامة. وهنا وقفة في أسلوب النص القرآني، حتى يستوعب الذين لا يفهمون اللغة العربية كمَلَكة، كما فهمها العرب الأقدمون. ونحن نعلم أن العربي القديم لم يجلس إلى معلم، لكنه فهم اللغة ونطق بها صحيحة؛ لأنه من أمة مفطورة على الأداء البياني الدقيق، الرقيق، الرائع. فاللغة كما نعلم ليست جنساً، وليست دماً، بل هي ظاهرة اجتماعية، فالمجتمع الذي ينشأ فيه الطفل هو الذي يحدد لغته، فالطفل الذي ينشأ في مجتمع يتحدث العربية، سوف ينطق بالعربية، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6699 والطفل الذي يوجد في مجتمع يتحدث اللغة الإنجليزية، سينطق بالإنجليزية؛ لأن اللغة هي ما ينطق به اللسان حسبما تسمع الأذن. وكانت غالبية البيئة العربية في الزمن القديم بيئة منعزلة، وكان من ينشأ فيها إنما يتكلم اللغة السليمة. أما العربي الذي عاش في حاضرة مثل مكة، ومكة بما لها من مكانة كانت تستقبل أغراباً كثيرين؛ ولذلك كان أهل مكة يأخذون الوليد فيها لينقلوه إلى البادية؛ حتى لا يسمع إلا اللغة العربية الفصيحة، وحتى لا يحتاج إلى من يضبط لسانه على لغة العرب الصافية. ولنقرِّبْ هذا الأمر، ولننظر إلى أن هناك في حياتنا الآن لغتين: لغة نتعلمها في المنازل والشوارع ونتخاطب بها، وتسمى «اللغة العامية» ، ولغة أخرى نتعلمها في المدارس، وهي اللغة المصقولة المميزة بالفصاحة والضبط. وكان أهل مكة يرسلون أبناءهم إلى البادية لتلتقط الأذن الفصاحة، وكانت اللغة الفصيحة هي «العامية» في البادية، ولم يكن الطفل في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6700 البادية يحتاج إلى معلم ليتعلمها؛ لأن أذنه لا تسمع إلا الفصاحة. وكانت هذه هي اللغة التي يتفوق فيه إنسان ذلك الزمان كملكة، وهي تختلف عن اللغة التي نكتسبها الآن، ونصقلها في مدارسنا، وهي لغة تكاد تكون مصنوعة، فما بالنا بالذين لم يتعلموا العربية من قبل من المستشرقين، ويتعلمون اللغة على كِبَر. وهؤلاء لم يمتلكوا صفاء اللغة، لذلك حاولوا أن يطعنوا في القرآن، وادعى بعض أغبيائهم أن في القرآن لحناً، قالوا ذلك وهم الذين تعلموا اللغة المصنوعة، رغم أن من استقبلوا القرآن من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم أهل الفصاحة، لم يجدوا في القرآن لحناً، ولو أنهم أخذوا لحناً على القرآن في زمن نزوله؛ لأعلنوا هذا اللحن؛ لأن القرآن نزل باللغة الفصيحة على أمة فصيحة، بليغة صناعتها الكلام. ولأمرٍ ما أبق الله سبحانه صناديد قريش وصناديد العرب على كفرهم لفترة، ولو أن أحداً منهم اكتشف لحناً في القرآن لأعلنه. وذلك حتى لا يقولن أحد أنهم قد آمنوا فستروا على القرآن عيوباً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6701 فيه. ولو كان عند أحدهم مَهْمَزٌ لما منعه كفره أن يبين ذلك، فهل يمكن لهؤلاء المستشرقين الذين عاشوا في القرن العشرين أن يجدوا لحناً في القرآن، وهم لم يمتلكوا ناصية اللغة ملكة، بل تعلموها صناعة، والصنعة عديمة الإحساس الذوقي. ومثال ذلك: عدم فهم هؤلاء لأسرار اللغة في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فالحق سبحانه يقول: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111] . أي: أن كل واحد من الذين صدَّقوا أو من الذين كذَّبوا، له توفية في الجزاء، للطائع الثواب؛ وللعاصي العقوبة. وكلمة «إنَّ» كما نعلم هي في اللغة «حرف توكيد» في مقابلة مَنْ ينكر ما يجيء بعدها. والإنكار كما نعلم مراحل، فإذا أردت أن تخبر واحداً بخبر لا يعلمه، فأنت تقول له مثلاً: «زارني فلان بالأمس» . وهكذا يصادف الخبر ذهن المستمع الخالي، فإن قال لك: «لكن فلاناً كان بالأمس في مكان آخر» ، فأنت تقول له: «إن فلاناً زارني بالأمس» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6702 وحين يرد عليك السامع: «لكنني قابلت فلاناً الذي تتحدث عنه أمس في المكان الفلاني» . وهنا قد تؤكد قولك: «والله لقد زارني فلان بالأمس» . إذن: فأنت تأتي بالتوكيد على حَسْب درجة الإنكار. وحين يؤجل الحق سبحانه العذاب لبعض الناس في الدنيا، قد يقول غافل: لعل الله لم يعد يعذِّب أحداً. ولذلك بيَّن الحق سبحانه مؤكداً أن الحساب قادم، لكل من الطائع والمصدِّق، والعاصي المكذِّب، فقال سبحانه: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111] . والذين لم تستقم لهم اللغة كملكة، كالمستشرقين، وأخذوها صناعة، توقفوا عند هذه الآية وقالوا: لماذا جاء بالتنوين في كلمة «كلاً» ؟ وهم لم يعرفوا أن التنوين يغني عن جملة، فساعة تسمع أو تقرأ التنوين، فاعلم أنه عِوَضٌ عن جملة، مثل قول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6703 {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 8384] . و «كلاً» في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجز أن كلاً من الطائع المؤمن، والعاصي الكافر، سوف يلقى جزاءه ثواباً أو عقاباً. أما قوله سبحانه: {لَّمَّا} في نفس الآية، فنحن نعلم أن «لما» تستعمل في اللغة بمعنى «الحين» و «الزمان» مثل قول الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] . ومثل قوله سبحانه: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] . أي حين فصلت العير وخرجت من مصر قال أبوهم: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6704 و «لما» تأتي أيضاً للنفي مثل قوله سبحانه: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] . أي: أن الإيمان لم يدخل قلوبهم بعد، وتحمل كلمة «لما» الإذن بأن الإيمان سوف يدخل قلوبهم بعد ذلك. وحين تستخدم كلمة «لما» في النفي تكون «حرفاً» مثلها مثل كلمة «لم» ، ولكنها تختلف عن «لم» لأن «لم» تجزم الفعل المضارع، ولا يتصل نفيها بساعة الكلام، بل بما مضى، وقد يتغير الموقف. أما «لما» فيتصل نفيها إلى وقت الكلام، وفيها إيذان بأن يحدث ما تنفيه. وهكذا نفهم أن قول الحق سبحانه: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111] . أي: أن كلاً من الطائع والعاصي سيوفَّى حسابه وجزاؤه ثواباً أو عقاباً، حين يأتي أجل التوفية، وهو يوم القيامة. وقد جاءت «لما» لتخدم فكرة العقوبة التي كانت تأتي في الدنيا، وشاء الله سبحانه أن يؤجل العقوبة للكافرين إلى الآخرة، وأنسب حرف للتعبير عن ذلك هو «لما» . وحين تقرأ {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} تجد اللام، وهي لام القسم بأن الحق سبحانه سيوفيهم حسابهم إن ثواباً أو عقاباً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6705 والله سبحانه بما يفعل العباد خبير، هو سبحانه يعلم أفعال العبد قبل أن تقع، ولكنها حين تقع لا يمكن أن تُنسَى أو تذهب أدراج الرياح؛ لأن من يعلمها هو «الخبير» صاحب العلم الدقيق، والخبير يختلف عن العالِم الذي قد يعلم الإجماليات، لكن الخبير هو المدرَّب على التخصص. ولذلك غالباً ما تأتي كلمتا «اللطيف والخبير» معاً؛ لأن الخبير هو من يعلم مواقع الأشياء، واللطيف هو من يعرف الوصول إلى مواقع تلك الأشياء. ومثال هذا: أنك قد تعرف مكان اختباء رجل في جبل مثلاً، هذه المعرفة وهذه الخبرة لا تكفيان للوصول والنفاذ إلى مكانه، بل إن هذا يحتاج إلى ما هو أكثر، وهو الدقة واللطف. والحق سبحانه جاء بهذا الحديث عن موسى عليه السلام ليسلِّي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأن بعضاً من الكافرين برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قالوا: ما دام الله يأتي بالعذاب ليبيد من يكفرون برسله، فلماذا لا يأتي لنا العذاب؟ ولهذا جاء ما يخبر هؤلاء بأن الحق سبحانه سيوقع العقوبة على الكافرين، لا محالة، فإياك أن يخادعوك يا رسول الله في شيء، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6706 أو يساوموك على شيء، مثلما قالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة. وقد سبق أن قطع الحق سبحانه هذا الأمر بأن أنزل: {قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} [الكافرون: 14] . وهذا هو قطع العلاقات التام في تلك المسألة التي لا تقبل المساومة، وهي العبادة. ونحن نعلم أن العبادة أمر قلبي، لا يمكن المساومة فيه، وقطع العلاقات في مثل هذا الأمر أمر واجب؛ لأنه لا يمكن التفاوض حوله؛ فهي ليست علاقات ظرف سياسي، ولكنه أمر ربَّاني، يحكمه الحق سبحانه وحده. وقول الحق سبحانه: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} [الكافرون: 24] . هذا القول الكريم يشعر من يسمعه ويقرؤه أنهم سيظلون على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6707 عبادة غير الله، وأن محمداً سيظل على عبادة الله، وأن كلمة «الله» ستعلو؛ لأن الحق سبحانه يأتي بعد سورة «الكافرين» بقوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 13] . وهنا يقول الحق سبحانه: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6708 والاستقامة معناها: عدم الميل أو الانحراف ولو قيد شعرةٍ وهذا أمر يصعب تحقيقه؛ لأن الفاصل بين الضدين، أو بين المتقابلين هو أدق من الشعرة في بعض الأحيان. ومثال ذلك: حين ترى الظل والضوء، فأحياناً يصعد الظل على الضوء، وأحياناً يصعد الضوء على الظل، وسنجد صعوبة في تحديد الفاصل بين الظل والنور، مهما دقت المقاييس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6708 وهكذا يصبح فصل الشيء عن نقيضه صعباً، ولذلك فالاستقامة أمر شاق للغاية. وساعة أن نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «شيبتني هود وأخواتها» . ولولا أن قال الحق سبحانه في كتابه الكريم: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] . فلولا نزول هذه الآية لتعب المسلمون تماماً، وقد أنزل الحق سبحانه هذا القول بعد أن قال: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] . وعزَّ ذلك على صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأنزل الحق سبحانه ما يخفف به عن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن قال سبحانه: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] . إذن: فالأمر بالاستقامة هو أمر بدقة الأداء المطلوب لله أمراً ونهياً، بحيث لا نميل إلى جهة دون جهة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6709 وهكذا تطلب الاستقامة كامل اليقظة وعدم الغفلة. ويقول الحق سبحانه: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] . وهذا إيذان بألاَّ ييأس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وقوف صناديد قريش أمام دعوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنهم سيتساقطون يوماً بعد يوم. وقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] . يعني ألا نتجاوز الحد، فالطغيان هو مجاوزة الحد. وهكذا نعلم أن الإيمان قد جعل لكل شيء حدّاً، إلا أن حدود الأوامر غير حدود النواهي؛ فالحق سبحانه إن أمرك بشيء، فهو يطلب منك أن تلتزمه ولا تتعده. وقال الحق سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] . وهذا القول في الأوامر، أما في النواهي فقد قال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6710 أي: أن تبتعد عنها تماماً. ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه» . وحين ينهانا الحق سبحانه عن الاقتراب من شيء فهذه هي استقامة الاحتياط، وهي قد تسمح لك بأن تدخل في التحريم ما ليس داخلاً فيه، فمثلاً عند تحريم الخمر، جاء الأمر باجتنابها أي: الابتعاد عن كل ما يتعلق بالخمر حتى لا يجتمع المسلم هو والخمر في مكان. وجعل الحق سبحانه أيضاً الاستقامة في مسائل الطاعة، وهو سبحانه يقول: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا} [الأنعام: 141] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6711 والنهي عن الإسراف هنا؛ ليعصمنا الحق سبحانه من لحظة نتذكر فيها كثرة ما حصدنا، ولكننا لا نجد ما نقيم به الأود فقد يسرف الإنسان لحظة الحصاد لكثرة ما عنده، ثم تأتي له ظروف صعبة فيقول: «يا ليتني لم أُعْطِ» . وهكذا يعصمنا الحق سبحانه من هذا الموقف. ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سدِّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل» ؛ لأن الدين قوي متين، و «لن يشاد الدين أحد إلا غلبه» . وهكذا نجد الحق سبحانه ونجد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلم بنا، والله لا يريد منا عدم الطغيان من ناحية المحرمات فقط، بل من ناحية الحلِّ أيضاً، فيوصينا سبحانه بالرفق واللين والهوادة، وأن يجعل الإنسان لنفسه مُكْنة الاختيار. ومثال ذلك: أن يلزم الإنسان نفسه بعشرين ركعة كل ليلة، وهو يلزم نفسه بذلك نذراً لله تعالى في ساعة صفاء، لكنه حين يبدأ في مزوالة ذلك القدر يكتشف صعوبته، فتكرهه نفسه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6712 ولذلك يأمرنا الحق سبحانه بالاستقامة وعدم الطغيان؛ استقامة في تحديد المأمور به والمنهي عنه؛ ولذلك كان الاحتياط في أمر العبادات أوسع لمن يطلب الاستقامة. ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الحلال بيِّن، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» . ولذلك يطلب الشارع الحكيم سبحانه منا في الاحتياط أن نحتاط مرة بالزيادة، وأن نحتاط بمرة بالنقص، فحين تصلي خارج المسجد الحرام، يكفيك أن تكون جهتك الكعبة، أما حين تصلي في المسجد الحرام، فأنت تعلم أن الكعبة قسمان: قسم بنايته عالية، وقسم اسمه «الحطيم» وهو جزء من الكعبة، لكن نفقتهم أيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قصرت؛ فلم يبنوه. لذلك فأنت تتجه ببصرك إلى البناء العالي المقطوع بكعبيته، وهذا هو الاحتياط بالنقص. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6713 أما الاحتياط بالزيادة، فمثال ذلك: هو الطواف، وقد يزدحم البشر حول الكعبة، ولا تسمح ظروفك إلا بالطواف حول المسجد. وهكذا يطول عليك الطواف، لكنه طواف بالزيادة فعند الصلاة يكون الاحتياط بالنقص، أما عند الطواف فيكون الاحتياط بالزيادة. وهكذا نجد الاحتياط هو الذي يحدد معنى الاستقامة. ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] . وفي الآية السابقة قال سبحانه: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111] . وعلمنا معنى الخبير، أما المقصود بالبصير هنا فهو أنه سبحانه يعلم حركة العبادة؛ لأن حركة العبادة مرئية. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6714 والكافرون كما نعلم قد عرضوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يعبد آلهتهم سنة، وأن يعبدوا هم الله سنة، ولكن الحق سبحانه قطع وفصل في هذا الأمر. ويأتي هنا توكيد هذا الأمر؛ فيقول سبحانه: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ} [هود: 113] . والركون هو الميل والسكون والمودة والرحمة، وأنت إذا ركنت للظالم؛ أدخلت في نفسه أن لقوته شأناً في دعوتك. والركون أيضاً يعني: المجاملة، وإعانة هذا الظالم على ظلمه، وأن تزِّين للناس ما فعله هذا الظالم. وآفة الدنيا هي الركون للظالمين؛ لأن الركون إليهم إنما يشجعهم على التمادي في الظلم، والاستشراء فيه. وأدنى مراتب الركون إلى الظالم ألا تمنعه من ظلم غيره، وأعلى مراتب الركون إلى الظالم أن تزين له هذا الظلم؛ وأن تزين للناس هذا الظلم. وأنت إذا استقرأت وضع الظلم في العالم كله لوجدت آن آفات المجتمعات الإنسانية إنما تنشأ من الركون إلى الظالم؛ لكنك حين تبتعد عن الظالم، وتقاطعه أنت ومن معك؛ فلسوف يظن أنك لم تُعرْض عنه إلا لأنك واثق بركن شديد آخر؛ فيتزلزل في نفسه؛ حاسباً حساب القوة التي تركن إليها؛ وفي هذا إضعاف لنفوذه؛ وفي هذا عزلة له وردع؛ لعله يرتدع عن ظلمه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6715 والركون للظالم إنما يجعل الإنسان عرضة لأن تمسه النار بقدر آثار هذا الركون؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود: 113] . فأنتم حين تركنون إلى ظالم إنما تقعون في عداء مع منهج الله؛ فيتخلى الله عنكم ولا ينصركم أحد؛ لأنه لا وليَّ ولا ناصر إلا الله تعالى. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6716 وهذا أمر بالخير؛ يوجهه الله سبحانه إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونحن نلحظ في هذه الآيات من سورة هود أنها تحمل أوامر ونواهي؛ الأوامر بالخير دائماً؛ والنواهي عن الشر دائماً. ونلحظ أن الحق سبحانه قال: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6716 ثم وَجَّه النهي للأمة كلها: {وَلاَ تَطْغَوْاْ} [هود: 112] ولم يقل: «فاستقم ولا تطغي» لأن الأمر بالخير يأتي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمته معه؛ وفي النهي عن الشر يكون الخطاب موجهاً إلى الأمة، وفي هذا تأكيد لرفعة مكانة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ونرى نفس الأمر حين يوجه الحق سبحانه الحديث إلى أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول سبحانه وتعالى: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ} [هود: 113] . ولم يقل: «ولا تركن إلى الذين ظلموا» . وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولأمته: {وَأَقِمِ الصلاة} [هود: 114] . والإقامة تعني: أداء المطلوب على الوجه الأكمل، مثل إقامة البنيان؛ وأن تجعله مؤدياً للغرض المطلوب منه. ويقال: «أقام الشيء» أي: جعله قائماً على الأمر الذي يؤدي به مهمته. وقول الحق سبحانه: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 114] . أي: نهايته من ناحية، ونهايته من الناحية الأخرى؛ لان طرف الشيء هو نهايته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6717 وتتحدد نهاية الطرفين من منطقة وسط الشيء، فالوسط هو الفاصل بين الطرفين؛ فما على يمين الوسط يعد طرفاً؛ وما على يسار الوسط يعد طرفاً آخر؛ وكل جزء بعد الوسط طرف. وعادةً ما يعد الوسط هو نقطة المنتصف تماماً، وما على يمينها يقسم إلى عشرة أجزاء، وما على يسارها يقسم إلى عشرة أجزاء أخرى، وكل قسم بين تلك الأجزاء التي على اليمين والتي على اليسار يعد طرفاً. وقول الحق سبحانه: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 114] . يقتضي أن تعرف أن النهار عندنا إنما نتعرف عليه من بواكير الفجر الصادق، وهذا هو أول طرف نقيم فيه صلاة الفجر، ثم يأتي الظهر؛ فإن وقع الظهر قبل الزوال حسبناه من منطقة ما قبل الوسط، وإن كان بعد الزوال حسبناه من منطقة ما بعد الوسط. وبعد الظهر هناك العصر، وهو طرف آخر. وقول الحق سبحانه: {وَزُلَفاً مِّنَ اليل} [هود: 114] . يقتضي منا أن نفهم أن كلمة {زُلَفاً} هي جمع؛ زلفة، وهي مأخوذة من: أزلفه، إذا قرَّبه. والجمع أقله ثلاثة؛ ونحن نعلم أن لنا في الليل صلاة المغرب، وصلاة العشاء، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6718 ولذلك نجد الإمام أبا حنيفة يعتبر الوتر واجباً، فقال: إن صلاة العشاء فرض، وصلاة الوتر واجب؛ وهناك فرق بين الفرض والواجب. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك مباشرة: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] . وهذا التعقيب يضع الصلاة في قمة الحسنات، وقد أوضح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا بأن قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6719 واختلف العلماء في معنى السيئات والحسنات، وقال بعضهم: الحسنة هي ما جعل الله سبحانه على عملها ثواباً، والسيئة هي ما جعل الله على عملها عقاباً. وأول الحسنات في الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله، وهذه حسنة أذهبت الكفر؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات. ولذلك قال بعض العلماء: إن المسلم الذي ارتكب معصية أو كبيرة من الكبائر، لا يخلد في النار؛ لأنه إذا كانت حسنة الإيمان قد أذهبت سيئة الكفر، أفلا تذهب ما دون الكفر؟ . وهكذا يخفّف العقاب على المسلم فينال عقابه من النار، ولكنه لا يخلد فيها؛ لأننا لا يمكن أن نساوي بين من آمن بالله ومن لم يؤمن بالله. والإيمان بالله هو أكبر حسنة، وهذه الحسنة تذهب الكفر، ومن باب أولى أن تذهب ما دون الكفر. وتساءل بعض العلماء: هل الفرائض هي الحسنات التي تذهب السيئات؟ وأجاب بعضهم: هناك أحاديث صحيحة قد وردت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن حسنات في غير الفرائض، ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إن صوم يوم عرفة إلى صوم يوم عرفة يذهب السيئات» . ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إن الإنسان الذي يستقبل نعمة الله بقوله: الحمد لله الذي رزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة، والحمد لله الذي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6720 كساني من غير حولٍ مني ولا قوة» . وهذا القول يكفّر السيئات. ألم يقل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنك إذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم» فهذا القول كفارة؟ إذن: فالحسنات مطلقة سواء أكانت فرضاً أم غير فرضٍ، وهي تذهب السيئات. والسيئة هي عمل توعد الله سبحانه من يفعله بالعقوبة. وتساءل أيضاً بعض العلماء: إن السيئة عمل، والعمل إذا وقع يُرفع ويُسجَّل، فكيف تُذهبها الحسنة؟ وأجابوا: إن ذهاب السيئة يكون إما عن طريق مَنْ يحفظ العمل، ويكتبه عليك، فيمحوه الله من كتاب سيئاتك، أو أن يعفو الله سبحانه وتعالى عنك؛ فلا يعاقبك عليه، أو يكون ذهاب العمل في ذاته فلا يتأتى، وما وقع لا يرتفع؛ أو يحفظها الله إن وقعت؛ لأنه هو سبحانه القائل: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6721 {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] . ويقول سبحانه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 1011] . وهكذا يكون إذهاب السيئة، إما محوها من الكتاب، وإما أن تظل في الكتاب، ويذهب الله سبحانه عقوبتها بالمغفرة. والحق سبحانه يقول: {الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} [النجم: 32] . واجتناب الكبائر لا يمنع من وقوع الصغائر. والحق سبحانه يقول: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6722 وحين ننظر إلى مواقيت الصلاة، نجدها خمسة مواقيت، فمن تعلَّق قلبه بالصلاة، إنما ينشغل قلبه طوال وقت حركته بإقامة الصلاة، ثم يأتي وقت الليل لينام، وكل من يرتكب معصية سينشغل فكره بها لمدةٍ، ولو لم يأت له وقت صلاة لأحسَّ بالضياع، أما إذا ما جاء وقت الصلاة فقلبه يتجه لله سبحانه طالباً المغفرة. وإن وقعت منه المعصية مرة، فقد لا تقع مرة أخرى، أو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر في وقت الاستعداد لها، فمن جلس لينمَّ على غيره، أو يظلم الناس، إذا ما سمع أذان الصلاة وقام وتوضأ؛ فقد رحم الناس في وقت وضوئه ووقت صلاته ووقت ختمه للصلاة. وهناك أعمال كثيرة من الفروض والحسنات وهي تمحو السيئات، وعلى المسلم أن ينشغل بزيادة الحسنات، وألا ينشغل بمحو السيئات؛ لأن الحسنة الواحدة بشعرة أمثالها وقد يضاعفها الله سبحانه، أما السيئة فإنما تكتب واحدة. ويُنهي الحق سبحانه هذه الآية الكريمة بقوله: {ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] . أي: إن إقامة الصلاة طرفي النهار، وزلفاً من الليل هي حسنات تذهب السيئات؛ وفي ذلك ذكرى وتنبيه للنفس إلى شيء غُفِل عنه، أي: أن هذا الشيء كان موجوداً من قبل، ولكن جاءت الغفلة لتنسيه، والإخبار الأول أزال الجهل بهذا الشيء، والإخبار الثاني يذكِّرك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6723 بالحكم؛ لأن آفة الإنسان أن الأمور التي تمر به من المرائي والمدركات، تتوالى وتصير الأشياء التي في بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور، فيغفل الإنسان عما صار في حاشية الشعور، ولا بد من مجيء معنى جديد ليذكِّر بما غاب في حاشية الشعور. ومثال ذلك: إنك إذا ألقيت حجراً في بحر، فهذا الحجر يستقر في بؤرة تصنع حولها دوائر من المياه، وتذهب هذه الدوائر إلى أن تختفي من رؤية الإنسان، ودليل ذلك أنك قد تتذكر أحداثاً مرت عليك من عشرين عاماً أو أكثر، هذه الأحداث كانت موجودة في حاشية الشعور، ثم جاء لك ما ينبهك إليها. والمخ كآلة التصوير الفوتوغرافية يلتقط أحياناً من مرة واحدة، وأحياناً من مرتين، أو أكثر، والالتقاط من أول مرة إنما يتم لأن المخ في تلك اللحظة كان خالياً من الخواطر. ونحن نجد أن من فقدوا أبصارهم إنما ينعم الله سبحانه عليهم بنعمة أخرى، هي قدرتهم الكبيرة على حفظ العلم؛ لأنه حين يسمع الكفيف العلم لا تشغله الخواطر المرئية التي تسرق انتباه بؤرة الشعور، أما المبصر، فقد تسرق بؤرة شعوره ما يمر أمامه، فيسمع العلم لأكثر من مرة إلى أن يصادف العلم بؤرة الشعور خالية فيستقر فيها. وهكذا تفعل الذكرى؛ لأنها تستدعي ما في حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، فإذا انشغلت عن طاعة وذهبت إلى معصية، فالذكرى توضح لك آفاق المسئولية التي تتبع المعصية، وهي العقاب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6724 ولذلك يقال: «لا خير في خيرٍ بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة» . والحق سبحانه يقول هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل} [هود: 114] . وأنت حين تنظر إلى أركان الإسلام، ستجد أنك تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله مرة واحدة في العمر، والركن الثاني، وهو الصلاة، وهو ركن لا يسقط أبداً، فهي كل يوم خمس مرات، فيها تنطق بالشهادة، وتزكِّي ببعض الوقت ليبارك لك الله سبحانه وتعالى فيما بقي لك من وقتٍ، وفيها تصوم عن الطعام والشراب وكل ما يفسد الصيام، وأنت تتجه لحظة قيام الصلاة إلى البيت الحرام. ففي الصلاة تتضح العبادات الأخرى، ففيها من أركان الإسلام الخمس. ولذلك لا تسقط الصلاة أبداً؛ لأنك إن لم تستطع الصلاة واقفاً؛ فَلَكَ أن تصلي قاعداً، وإن لم تكن تستطيع الحركة فَلَكَ أن تحرك رموش عينيك، وأنت تصلي. وهكذا تجد في الصلاة كل أركان الدين، ولأهميتها نجد أنها تبقى مع الإنسان إلى آخر رمقٍ في حياته، وهي قد أخذت أهميتها في التشريع على قدر أهميتها في التكليف، وكل تكاليف الإسلام قد جاءت بواسطة الوحي إلا الصلاة، فقد جاءت مباشرة من الله تعالى، فقد استدعى الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6725 سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليه ليفرض عليه الصلاة وهي تحية لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ نظراً لأنها شرعت في قرب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ربه سبحانه وتعالى. لذلك جعل الحق سبحانه الصلاة المفروضة في القرب وسيلة لقرب أمة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جميعاً؛ ولذلك فهي الباقية. ويُحكَى أن الإمام علياً كرم الله وجهه ورضي عنه أقبل على قوم وقال لهم: أي آيةٍ في كتاب الله أَرْجَى عندكم؟ أي: ما هي الآية التي تعطي الرجاء والطمأنينة والبشرى بأن الحق سبحانه يقبلنا ويغفر لنا ويرحمنا، فقال بعضهم: هي قول الحق سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 116] . فقال الإمام علي: حسنة، وليست إياها؟ أي: أنها آية تحقق ما طلبه، لكنها ليست الآية التي يعنيها. فقال بعض القوم إنها قول الحق سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 110] . فكرر الإمام علي: حسنة، وليست إياها. فقال بعض القوم: هي قول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6726 {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 53] . فقال الإمام علي: حسنة، وليست إياها: فقال بعضهم: هي قوله سبحانه: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} [آل عمران: 135] . فقال الإمام علي: حسنة، وليست إياها. وصمت القوم وأحجموا، فقال الإمام علي كرَّم الله وجهه: ما بالكم يا معشر المسلمين؟ وكأنه يسألهم: لماذا سكتم؟ . . فقالوا: لا شيء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6727 وهكذا جعل الإمام علي التشويق أساساً يبني عليه ما سوف يقول لهم: واشرأبت أعناقهم، وأرهفوا السمع، فقال لهم الإمام علي: سمعت حبيبي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «أَرْجَى آية في كتاب الله هي قول الحق سبحانه: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] . يا علي إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتتساقط عن جوارحه ذنوبه، فإذا أقبل على الله بوجهه وقلبه لا ينفتل أي: لا يلتفت إلا وقد غفر الله له كل ذنوبه كيوم ولدته أمه؛ فإذا أحدث شيئاً بين الصلاتين فله ذلك، ثم عدَّ الصلوات الخمس واحدة واحدة، فقال بين الصبح والظهر، وبين الظهر والعصر، وبين العصر والمغرب، وبين المغرب والعشاء، وبين العشاء والفجر، ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا علي إنما الصلوات الخمس لأمتي كنهر جارٍ بباب أحدكم، أو لو كان على جسد واحد منكم درن ثم اغتسل في البحر، أيبقى على جسده شيء من الدرن؟ قال: فذلكم والله الصلوات لأمتي «. ولذلك لو نظرنا إلى الأعمال لوجدنا كل عمل له مجاله في عمره إلا مجال الصلاة، فمجالها كل عمر الإنسان. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6728 وجاءت كلمة «اصبر» لتخدم كل عمليات الاستقامة. وكذلك يقول الحق سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132] . والصبر نوعان: صبر «على» ، وصبر «عن» وفي الطاعات يكون الصبر على مشقة الطاعة، مثل صبرك على أن تقوم من النوم لتصلي الفجر، وفي اتقاء المعاصي يكون الصبر عن الشهوات. وهكذا نعلم أن الصبر على إطلاقه مطلوب في الأمرين: في الإيجاب للطاعة، وفي السلب عن المعصية. ونحن نعلم أن الجنة حٌقَّتْ بالمكاره؛ فاصبر على المكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات؛ فاصبر عنها. وافرض أن واحداً يرغب في أكل اللحم، ولكنه لا يملك ثمنها، فهو يصبر عنها؛ ولا يستدين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6729 ولذلك يقول الزهاد: ليس هناك شيء اسمه غلاء، ولكن هناك شيء اسمه رخص النفس. ولذلك نجد من يقول: إذا غلا شيء عليّ تركته، وسيكون أرخص ما يكون إذا غلا. والحق سبحانه يقول: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ} [لقمان: 17] . وهنا يقول الحق سبحانه: {واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [هود: 115] . وهم الذين أدخلوا أنفسهم في مقام الإحسان، وهو أن يلزم الواحد منهم نفسه بجنس ما فرض الله فوق ما فرق الله، من صلاة أو صيام، أو زكاة، أو حج لبيت الله؛ لأن العبادة ليست اقتراحاً من عابدٍ لمعبود، بل المعبود هو الذي يحدد ما يقربك إليه. وحاول ألاّ تدخل في مقام الإحسان نَذْراً؛ لأنه قد يشق عليك أن تقوم بما نذرته، واجعل زمان الاختيار والتطوع في يدك؛ حتى لا تدخل مع الله في ودٍّ إحساني ثم تفتر عنه، وكأنك والعياذ بالله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6730 قد جرَّبت مودة الله تعالى، فلم تجده أهلاً لها، وفي هذا طغيان منك. وإذا رأيت إشراقات فيوضات على مَنْ دخل مقام الإحسان فلا تنكرها عليه، وإلا لسويت بين من وقف عند ما فُرِضَ عليه، وبين من تجاوز ما فُرِضَ عليه من جنس ما فَرَضَ الله. وجرب ذلك في نفسك، والتزم أمر الله باحترام مواقيت الصلاة، وقم لتصلي الفجر في المسجد، ثم احرص على أن تتقن عملك، وحين يجيء الظهر قم إلى الصلاة في المسجد، وحاول أن تزيد من ركعات السنة، وستجد أن كثافة الظلمانية قد رَقَّتْ في أعماقك، وامتلأتَ بإشراقات نوارينة تفوق إدراكات الحواس، ولذلك لا تستكثر على مَنْ يرتاض هذه الرياضة الروحية، حين تجد الحق سبحانه قد أنار بصيرته بتجليات من وسائل إدراك وشفافية. ولذلك لا نجد واحداً من أهل النور والإشراق يدَّعي ما ليس له، والواحد منهم قد يعلم أشياء عن إنسان آخر غير ملتزم، ولا يعلنها له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد خَصَّه بأشياء وصفات لا يجب أن يضعها موضع التباهي والمراءاة. وحين عرض الحق سبحانه هذه القضية أراد أن يضع حدوداً للمرتاض ولغير المرتاض، في قصة موسى عليه السلام حينما وجد موسى وفتاة عبداً صالحاً، ووصف الحق سبحانه العبد الصالح بقوله تعالى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6731 {عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] . وقال العبد الصالح لموسى عليه السلام: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 67] . وبيَّن العبد الصالح لموسى بمنتهى الأدب عذره في عدم الصبر، وقال له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68] . وردَّ موسى عليه السلام: {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} [الكهف: 69] . فقال العبد الصالح: {فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف: 70] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6732 ولكن الأحداث توالت؛ فلم يصبر موسى؛ فقال له العبد الصالح: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] . وهذا حكم أزلي بأن المرتاض للرياضة الروحية، ودخل مقام الإحسان لا يمكن أن يلتقي مع غير المرتاض على ذلك، وليلزم غير المرتاض الأدب مثلما يلتزم المرتاض الأدب، ويقدم العذر في أن ينكر عليه غير المرتاض معرفة ما لا يعرفه. ولو أن المرتاض قد عذر غير المرتاض، ولو أن غير المرتاض تأدب مع المرتاض لاستقرَّ ميزان الكون. والحق سبحانه يبيِّن لنا مقام الإحسان وأجر المحسنين، في قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 1516] . ويبيِّن الحق سبحانه لنا مدارج الإحسان، وأنها من جنس ما فرض الله تعالى، في قوله سبحانه: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] . والحق سبحانه لم يكلف في الإسلام ألا يهجع المسلم إلا قليلاً من الليل، وللمسلم أن يصلي العشاء، وينام إلى الفجر. وتستمر مدارج الإحسان، فيقول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6733 {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] . والحق سبحانه لم يكلِّف المسلم بذلك، ولكن الذي يرغب في الارتقاء إلى مقام الإحسان يفعل ذلك. ويقول الحق سبحانه أيضاً: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] . ولم يحدد الحق سبحانه هنا هذا الحق بأنه حق معلوم، بل جعله حقاً غير معلوم أو محددٍ، والله سبحانه لم يفرض على المسلم إلا الزكاة، ولكن من يرغب في مقام الإحسان فهو يبذل من ماله للسائل والمحروم. وهكذا يدخل المؤمن إلى مقام الإحسان، ليودَّ الحق سبحانه. ولله المثل الأعلى: نحن نجد الإنسان حين يوده غيره؛ فهو يعطيه من خصوصياته، ويفيض عليه من مواهبه الفائضة، علماً، أو مالاً، فما بالنا بمن يدخل في ودٍّ مع الله سبحانه وتعالى. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6734 {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6735 وكلمة «لولا» هنا تحضيضية، والتحضيض إنما يكون حثاً لعفلٍ لم يأت زمنه، فإن كان الزمن قد انتهى ولا يمكن استدراك الفعل فيه، تكون «لولا» للتحسر والتأسف. وفي سورة يونس يقول الحق سبحانه: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] . وذكَّرهم بالآيات. ونحن قد علمنا أن «لولا» لها استعمالان في اللغة، فهي إن دخلت على جملة اسمية، فهي تدل على امتناع لوجود، كقول إنسان لآخر: «لولا أن أباك فلاناً لضربتك على ما أذنبت» وتسمى «لولا» في هذه الحالة «حرف امتناع لوجود» . وإذا دخلت «لولا» على جملة فعلية، فهي أداة تحضيض، وتحميس، وحث المخاطب على أن يفعل شيئاً، مثلما تشجِّع طالباً على المذاكرة، فتقول له: «لولا ذاكرت بجد واجتهاد في العام الماضي لما نجحت ووصلت إلى هذه السنة الدراسية» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6735 وفي هذا تحميس له على بذل مزيد من الجهد، أما إذا قلت لراسب: «لولا ذاكرت لما رسبت» فهذا توبيخ وتأسيف له على ما فات، وشحن طاقته لما هو آت؛ لأن الزمن قد فات وانتهى وقت المذاكرة؛ لذلك تكون «لولا» هنا للتقريع والتوبيخ. والحق سبحانه وتعالى يرشدنا إلى أن بقية الأشياء هي التي ثبتت أمام أحداث الزمن، فأحداث الزمن تأتي لتطوح بالشيء التافه أولاً، ثم بما دونه ثم بما دونه، ويبقى الشيء القوي؛ لأنه ثابت على أحداث الزمن؛ وبقية الأشياء دائماً خيرها. والحق سبحانه قد بيَّن لنا أنه قد أهلك الأمم التي سبقت؛ لأنه لم توجد فئة منهم تنهى عن الفساد في الأرض، وجاء الإهلاك لامتناع من يقاوم الفساد بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6736 وضرب الحق سبحانه لنا المثل بالبقية في كل شيء، وأنها هي التي تبقى أمام الأحداث، ففي قصة شعيب عليه السلام يقول الحق سبحانه: {ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [هود: 8486] . ومعنى ذلك أن نقص المكيال أو الميزان قد يزيد التاجر ما عنده، ولكنه لا يلتفت إلى ماهو مدخور. ولذلك قال شعيب عليه السلام: {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} [هود: 85] . فأنت إن نظرت إلى شيء قد ذهب، فامتلك القدرة على أن تحقق فيه بالفهم، لتجده مدخراً لك باقياً. ولنا المثل في موقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أم المؤمنين عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها حينما سألها عن شاة أُهديت له، وكانت تعرف أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6737 رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب من الشاة كتفها، فتصدقت بكل الشاة إلا جزءاً من كتفها، فلمَّا سألها: ما فعلت بالشاةّ قالت: ذهبت كلها إلا كتفها. هكذا نظرت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها هذا المنظور الواقعي؛ بأن الباقي من الشاة هو كتفها فقط، وأنها تصدقت بباقي الشاة، ويلفتها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لفتة إيمان ويقين، ويقول لها: «بقى كلها إلا كتفها» . هكذا نظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى ما بقي من الشاة من خير. ويؤيد ذلك حديث قاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» . ويلفتنا القرآن الكريم إلى المنظور، وإلى المدخور، فيقول الحق سبحانه: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} [الكهف: 46] . ويصف الحق سبحانه هذا المدخور بقوله: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6738 {ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46] . وفي آية أخرى يقول سبحانه: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} [مريم: 76] . إذن: لا بد أن تنظر إلى الباقيات في الأشياء؛ لأنها هي التي يُعوَّل عليها. ويلفتنا الحق سبحانه إلى ذلك في أكثر من موضع من القرآن الكريم، فيقول تعالى: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17] . ويقول سبحانه: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} [القصص: 60] . إذن: فإياك أن تنظر إلى الذاهب، ولكن انظر إلى الباقي. وإذا عضَّتِ الإنسان الأحداث في أي شيء، نجد أن سطحي الإيمان يفزع مما ذهب، ونجد راسخ الإيمان شاكراً لله تعالى على ما بقي. وها هو ذا سيدنا عبد الله بن جعفر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حينما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6739 جُرحت ساقه جرحاً شديداً، وهو في الطريق إلى الشام، ولحظة أن وصل إلى قصر الخلافة قال الأطباء: لا بد من التخدير لنقطع الساق المريضة، فقال: والله ما أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين. وكان هذا القول يعني أن تجرى له جراحة بتر الساق دون مخدر، فلمَّا قُطعت الساق، وأرادوا أن يأخذوها ليدفنوها؛ لتسبقه إلى الجنة إن شاء الله؛ قال: ابعثوا بها، فجاءوا بها إليه، فأمسكها بيده وقال: اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو؛ فقد عافيت في أعضاء. هكذا نظر المؤمن إلى ما بقي. وحين يتكلم القرآن الكريم عن مراتب ومراقي الإيمان يقول مرة: {فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} [غافر: 40] . ويقول عن أناس آخرين: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 157] . والجنة باقية بإبقاء الله لها، ولكن رحمة الله باقية ببقاء الله، وهكذا تكون درجة الرحمة أرقى من درجة الجنة. وهكذا تجد في كل أمر ما يسمى بالباقيات. وهنا يقول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6740 {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] . أي: لولا أن كان في الناس بقية من الخير وبقية من الإيمان، وبقية من اليقين، وكانوا ينهون عن الفساد في الأرض، لولا هم لخسف الله الأرض بمن عليها. والبقايا في كل الأشياء هي نتيجة الاختيار، والاختبار؛ مصداقاً لقول الحق سبحانه: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6741 وفي العصر الحديث نقول: «البقاء للأصلح» . إذن: فالحق سبحانه إنما يحفظ الحياة بهؤلاء الذين ينهون عن الفساد في الأرض؛ لأنهم يعملون على ضوء منهج الله، وهذا المنهج لا يزيد ملكاً لله، ولا يزيد صفة من صفات الكمال لله، لأنه سبحانه خلق الكون بكل صفات الكمال فيه، ومنهجه سبحانه إنما يُصلح حركة الحياة، وحركة الأحياء. وهكذا يعود منهج السماء بالخير على مخلوقات الله، لا على الله الذي كوَّن الكون بكماله. واقرأ إن شئت قول الحق سبحانه: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 78] . فكما رفع الحق سبحانه السماء بلا عمد، وجعل الأمور مستقرة متوازنة؛ فلكم أن تعدلوا في الكون في الأمور الاختيارية بميزان دقيق؛ لأن اعوجاج الميزان إنما يفسد حركة الحياة. ومن اعوجاج الميزان أن يأخذ العاطل خير الكادح، ويرى الناس العاطل، وهو يحيا في ترفٍ من سرقة خير الكادح، فيفعلون مثله، فيصير الأمر إلى انتشار الفساد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6742 وينزوي أصحاب المواهب، فلا يعمل الواحد منهم أكثر من قدر حاجته؛ لأن ثمرة عمله إن زادت فهي غير مصونة بالعدالة. وهكذا تفسد حركة الحياة، وتختل الموازين، وتتخلف المجتمعات عن ركب الحياة. والحق سبحانه وتعالى يقول: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض} [هود: 116] . وشاء الحق سبحانه أن يجعل أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خير الأمم بشرط أن يأمورا بالمعروف، وينهوا عن المنكر. قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110] . وجعلها الحق سبحانه الأمة الخاتمة، لأنه لا رسالة بعد رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد كانت الرسالات قبلها تأتي بعد أن يتقلص الخير في المجتمعات، وفي النفوس. فقد وضع الحق سبحانه المنهج لأول الخلق في النفس الإنسانية، وكانت المناعة ذاتية في الإنسان، إن ارتكب ذنباً فهو يتوب ويرجع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6743 بعد أن يلوم نفسه، ولكن قد يستقر أمره على المعصية، وتختفي منه «النفس اللوَّامة» ، ويستسلم للنفس الأمَّارة بالسوء، فيجد من المجتمع من يقوِّمه، فإذا ما فسد المجتمع، فالسماء تتدخل بإرسال الرسل، إلا أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد أمَّنها الحق سبحانه أنه سيظل فيها إلى أن تقوم الساعة من يدعو إلى الخير، ومن يأمر بالمعروف، ومن ينهى عن المنكر؛ ولذلك لن يوجد أنبياء بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تأكيداً لهذا المعنى: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» . والعَالِم: هو كل من يعلم حكماً من أحكام الله سبحانه، وعليه أن يبلغه إلى الناس. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «نضَّر الله وجه امرىءٍ سمع مقاتلي فوعاها، وأدَّاها إلى من لم يسمعها، فرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامِع» . ويقول الحق سبحانه: {أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} [هود: 116] . وقد أنجى الحق سبحانه بعضاً ممن نهوا عن الفساد في الأرض. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6744 ونرى أمثلة على ذلك في القرية التي كانت حاضرة البحر، وكانت تأتيهم حيتانهم شُرعاً يوم السبت الذي حرموا فيه الصيد على أنفسهم، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم. ويقول الحق سبحانه: {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 164165] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6745 هكذا أنجى الله سبحانه الذي نهوا عن السوء في تلك القرية، وقد نرى في بعض المجتمعات عنصرين: الأول: أنه لا يوجد طائفة تنهى عن الفساد. والعنصر الثاني: أن ينفتح على المجتمع باب الترف على مصراعيه، وفي انفتاح باب الترف على مصراعيه مذلَّة للبشر؛ لأنك قد تجد إنساناً لا تترفه إمكاناته؛ فيزيد هذه الإمكانات بالرشوة والسرقة والغصب. وكل ذلك إنما ينشأ لأن الإنسان يرى مترفين يتنعمون بنعيم لا تؤهله إمكاناته أن يتنعم به. ويقول الحق سبحانه وتعالى عن إهلاك مثل هذه المجتمعات: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} [الإسراء: 16] . وبعض الناس يفهمون هذه الآية الكريمة على غير وجهها؛ فهم يفهمون الفسق على أنه نتيجة لأمر من الله سبحانه وتعالى والحقيقة أنهم إنما قد خالفوا أمر الله؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] . أي: أن الحق سبحانه أمر المترفين أن يتبعوا منهج الله، لكنهم خالفوا المنهج الإلهي مختارين؛ ففسقوا عن أمر ربهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6746 وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ} [هود: 116] . وقوله سبحانه: (ظلموا) تبين أن مادة الترف التي عاشوا فيها جاءت من الظلم، وأخذ حقوق الناس وامتصاص دماء الكادحين. ومادة (ترف) تعني النعمة يتنعم بها الإنسان. ومنها: أَترف، وأُترف، وكلمة «أترف» أي: أطغته النعمة، وأنسته المنعم سبحانه. وأترف، أي: مد الله له في النعمة ليأخذه أخذ عزيز مقتدر. والحق سبحانه يقول: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] . فمن يمسك عدوه ليرفعه؛ فلا يظنن أنه يدلِّله، ولكنه يرفعه ليلقيه من علٍ، فيزداد ويعظم ألمه. وكان الله سبحانه قد أعطى أمثال هؤلاء نعمة؛ ليطغوا. ولنا أن ننتبه إلى كلمة «الفتح» التي تجعل النفس منشرحة، وعلينا أن ننتبه إلى المتعلق بها، أهو فتح عليك، أم فتح لك؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6747 إن فُتح عليك؛ فافهم أن النعمة جاءت لتطغيك، ولكن إن فُتح لك، فهذا تيسير منه سبحانه، فهو القائل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] . وهؤلاء الذين يحدثنا الحق سبحانه عنهم في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ قد فتح الله سبحانه عليهم أبواب الضر؛ لأنهم غفلوا عنه. ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} [هود: 116] . أي: كانوا يقطعون ما كان يجب أن يوصل؛ وهو اتباع منهج السماء؛ لأن كلمة (مجرمين) مأخوذة من مادة «جرم» وتعني: «قطع» ، وقطع اتباع منهج السماء؛ والغفلة عن الإيمان بالخالق سبحانه، والاستغراق في الترف الذي حققوه لأنفسهم بظلم الغير، وأخذ نتيجة عرق وجهد الغير. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6748 {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6749 وساعة تقرأ أو تسمع (ما كان) يتطرق إلى ذهنك: ما كان ينبغي. ومثال ذلك: هو قولنا: «ما كان يصح لفلان أن يفعل كذا» . وقولنا هذا يعني أن فلاناً قد فعل أمراً لا ينبغي أن يصدر منه. وهناك فرق بين نفي الوجود؛ ونفي انبغاء الوجود. والحق سبحانه يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69] . وهذا لا يعني أن طبيعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جامدة، ولا يستطيع معاذ الله أن يتذوق المعاني الجميلة؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جُبل على الرحمة؛ وقد قال فيه الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6749 {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] . ولهذا نفهم قوله الحق: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69] . أي: أن الحق سبحانه لم يشأ له ان يكون شاعراً. وهكذا نفهم أن هناك فرقاً بين «نفي الوجود» وبين «نفي انبغاء الوجود» . والحق سبحانه يقول هنا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} [هود: 117] . أي: لا يتأتى، ويستحيل أن يهلك الله القرى بظلم؛ لأن مراد الظالم أن يأخذ حق الغير لينتفع به؛ ولا يوجد عند الناس ما يزيد الله شيئاً؛ لأنه سبحانه واهب كل شيء؛ لذلك فالظلم غير وارد على الإطلاق في العلاقة بين الخالق سبحانه وبين البشر. وحين يورد الحق سبحانه كلمة «القرى» وهي أماكن السكن فلنعلم أن المراد هو «المكين» ، مثل قول الحق سبحانه: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} [الأعراف: 163] . وقوله الحق أيضاً: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6750 والحق سبحانه في مثل هاتين الآيتين؛ وكذلك الآية التي نتناولها الآن بهذه الخواطر إنما يسأل عن المكين. والله سبحانه يقول هنا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} [هود: 117] . أي: أنه مُنزَّه عن أن يهلكهم بمجاوزة حَدٍّ، لكن له أن يهلكهم بعدل؛ لأن العدل ميزان، فإن كان الوزن ناقصاً كان الخسران، ومن العدل العقاب، وإن كان الوزن مستوفياً كان الثواب. وفي مجالنا البشرى؛ لحظة أن نأخذ الظالم بالعقوبة؛ فنحن نتبعه فعلاً؛ لكننا نريح كل المظلومين؛ وهذه هي العدالة فعلاً. ومن خطأ التقنينات الوضعية البشرية هو ذلك التراخي في إنفاذ الحقوق في التقاضي؛ فقد تحدث الجريمة اليوم؛ ولا يصدر الحكم بعقاب المجرم إلا بعد عشر سنوات، واتساع المسافة بين ارتكاب الجريمة وبين توقيع العقوبة؛ إنما هو واحد من أخطاء التقنينات الوضعية؛ ففي هذا تراخٍ في إنفاذ حقوق التقاضي؛ لأن اتساع المسافة بين ارتكاب الجريمة وبين توقيع العقوبة؛ إنما يضعف الإحساس ببشاعة الجريمة. ولذلك حرص المشرع الإسلامي على ألا تطول المسافة الزمنية بين وقوع الجريمة وبين إنزال العقوبة، فعقاب المجرم في حُمُوَّة وجود الأثر النفسي عند المجتمع؛ يجعل المجتمع راضياً بعقاب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6751 المجرم، ويذكِّر الجميع ببشاعة ما ارتكب؛ ويوازن بين الجريمة وبين عقوبتها. ويقول الحق سبحانه هنا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] . وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] . إذن: لا بد من إزاحة الغفلة أولاً، وقد أزاح الله سبحانه الغفلة عنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6752 بإرسال الرسل وبالبيان وبالنذر؛ حتى لا تكون هناك عقوبة إلا على جريمة سبق التشريع لها. وهكذا أعطانا الله سبحانه وتعالى البيان اللازم لإدارة الحياة، ثم جاء من بعد ذلك الأمر بضرورة الإصلاح: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] . والإصلاح في الكون هو استقبال ما خلق الله سبحانه لنا في الكون من ضروريات لننتفع بها، وقد كفانا الله ضروريات الحياة؛ وأمرنا أن نأخذ بالأسباب لنطور بالابتكارات وسائل الترف في الحياة. وضروريات الحياة من طعام وماء وهواء موجودة في الكون، والتزاوج متاح بوجود الذكر والأنثى في الكائنات المخلوقة، أما ما نصنعه نحن من تجويد لأساليب الحياة ورفاهيتها فهذا هو الإصلاح المطلوب منا. وسبق أن قلنا: إن المصلح هو الذي يترك الصالح على صلاحه، أو يزيده صلاحاً يؤدي إلى ترفه وإلى راحته، وإلى الوصول إلى الغاية بأقل مجهود في أقل وقت. والقرى التي يصلح أهلها؛ لا يهلكها الله؛ لأن الإصلاح إما أن يكون قد جاء نتيجة اتباع منهج نزل من الله تعالى؛ فتوازنت به حركة الإنسان مع حركة الكون، ولم تتعاند الحركات؛ بل تتساند وتتعاضد، ويتواجد المجتمع المنشود. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6753 وإما أن هؤلاء الناس لم يؤمنوا بمنهج سماوي، ولكنهم اهتدوا إلى أسلوب عمل يريحهم، مثل الأمم الملحدة التي اهتدت إلى شيء ينظم حياتهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يمنع العقل البشري أن يصل إلى وضع قانون يريح الناس. لكن هذا العقل لا يصل إلى هذا القانون إلا بعد أن يرهق البشر من المتاعب والمصاعب، أما المنهج السماوي فقد شاء به الله سبحانه أن يقي الناس أنفسهم من التعب، فلا تعضهم الأحداث. وهكذا نجد القوانين الوضعية وهي تعالج بعض الداءات التي يعاني منها البشر، لا تعطي عائد الكمال الاجتماعي، أما قوانين السماء فهي تقي البشر من البداية فلا يقعون فيما يؤلمهم. وهكذا نفهم قول الحق سبحانه: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] . لأنهم إما أن يكونوا متبعين لمنهج سماوي، وإما أن يكونوا غير متبعين لمنهج سماوي، لكنهم يصلحون أنفسهم. إذن: فالحق سبحانه وتعالى لا يهلك القرى لأنها كافرة؛ بل يبقيها كافرة ما دامت تضع القوانين التي تنظم حقوق وواجبات أفرادها؛ وإن دفعت ثمن ذلك من تعاسة وآلام. ولكن على المؤمن أن يعلن لهم منهج الله؛ فإن أقبلوا عليه ففي ذلك سعادتهم، وإن لم يقبلوا؛ فعلى المؤمنين أن يكتفوا من هؤلاء الكافرين بعدم معارضة المنهج الإيماني. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6754 ولذلك نجد في البلاد التي فتحها الإسلام أناساً بَقَوْا على دينهم؛ لأن الإسلام لم يدخل أي بلد لحمل الناس على أن يكونوا مسلمين، بل جاء الإسلام بالدليل المقنع مع القوة التي تحمي حق الإنسان في اختيار عقيدته. يقول الله جَلَّ علاه: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الممتحنة: 8] . فإذا كانت بعض المجتمعات غير مؤمنة بالله، ومُصْلِحة؛ فالحق سبحانه لا يهلكها بل يعطيهم ما يستحقونه في الحياة الدنيا؛ لأنه سبحانه القائل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] . ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6755 ونحن نعلم أن الإنسان قد طرأ على هذا الكون بعد أن خلق الله سبحانه في هذا الكون كل مقومات الحياة؛ المسخرة بأمر الله لهذا الإنسان؛ ليمارس مهمة الخلافة في الأرض؛ ولم تتأبَّ تلك الكائنات على خدمة الإنسان، سواء أكان مؤمناً أم كافراً؛ لأن الحق سبحانه هو الذي استدعى الإنسان إلى الوجود، وما دام قد استدعاه؛ فهو سبحانه لن يضن عليه بمقومات هذا الوجود؛ من بقاء حياة، وبقاء نوع. وهذا هو عطاء الربوبية الذي كفله الله سبحانه لكل البشر: مؤمنهم وكافرهم، وهو عطاء يختلف عن عطاء الألوهية المتمثل في المنهج الإيماني: «افعل» و «لا تفعل» . ومن يأخذ عطاء الألوهية مع عطاء الربوبية فهو من سعداء الدنيا والآخرة. إذن: فقدرة الله سبحانه قد أرغمت الكون دون الإنسان أن يؤدي مهمته، وكان من الممكن أن يجعل البشر أمة واحدة مهتدية لا تخرج عن نظام أرادة الله سبحانه وتعالى كما لم تخرج الشمس أو القمر أو الهواء أو أي من الكائنات الأخرى المسخَّرة عن إرادته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6756 لأن الحق تبارك وتعالى أثبت لنفسه طلاقة القدرة في تسخير أجناس لمراده؛ بحيث لا تخرج عنه، وذلك يثبت لله سبحانه القدرة ولا يثبت له المحبوبية. أما الذي يثبت له المحبوبية فهو أن يخلق خَلْقاً؛ ويعطيهم في تكوينهم اختياراً. ويجعل هذا الاختيار كلَّ واحدٍ فيهم صالحاً أن يطيع، وصالحاً أن يعصي، فلا يذهب إلى الإيمان والطاعة إلا لمحبوبية الله تعالى. وهكذا نعلم أن الكون المسخَّر المقهور قد كشف لنا سَيَّال القدرة، والجنس الذي وهبه الله الاختيار إن أطاع فهو يكشف لنا سيال المحبوبية. والحق سبحانه هو القائل: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] . ولكن أيُترك الإنسان حتى يأتي له الغرور في أنه يملك الاختيار دائماً؟ لا. . فمع كونك مختاراً إياك أن تغتر بهذا الاختيار؛ لأن في طيِّك قهراً، وما دام في طيك قهر فعليك أن تتأدب؛ ولا تتوهَّم أنك مختار في أن تؤمن بالله أو لا تؤمن؛ ولا تتوهم أنك مُنفلت من قبضة الله تعالى فهو يملك زمامك في القهريات التي تحفظ لك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6757 حياتك مثل: الحيوان والنبات والجماد، ولكنه سبحانه ميَّزك بالعقل. وخطأ الإنسان دائماً أنه قد يعطي الأسماء معاني ضد مسمياتها، فكلمة «العقل» مأخوذة من «عقل» وتعني: «ربط» ؛ فلا تجمح بعقلك في غير المطلوب منه؛ لأن مهمة العقل أن يكبح جماحك. وتذكر دائماً: في قبضة من أنت؛ وفي زمام من أنت؛ وفي أي الأمور أنت مقهور؟ وما دُمْتَ مقهوراً في أشياء فاختر أن تكون مقهوراً لمنهج الله سبحانه واحفظ أدبك مع الله، واعلم أنه قد وهبك كل وجودك سواء ما أنت مختار فيه أو مقهور عليه. وانظر إلى من سلبهم الحق سبحانه بعض ما كانوا يظنون أنها أمور ذاتية فيهم، فتجد من كان يحرك قدمه غير قادر على تحريكها، أو يحاول أن يرفع يده فلا يستطيع. ولو كانت مثل هذه الأمور ذاتية في الإنسان لما عَصَتْه، وهذا دليل على أنها أمور موهوبة من الله، وإنْ شاء أخذها، فهو سبحانه يأخذها ليؤدِّب صاحبها. وما دام الإنسان بهذا الشكل، فليقُل لنفسه: إياك أن تَغترَّ بأن الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6758 جعل فيك زاوية اختيار، وتذكّر أنك على أساس من هذه الزاوية تتلقَّى التكليف من الله ب «افعل» ، و «لا تفعل» ؛ لأن معنى «افعل كذا» : أنك صالحٌ ألاّ تفعل؛ ومعنى «لا تفعل كذا» : أنك صالحٌ أنْ تفعل؛ لأن لديك منطقة اختيار؛ ولكن لديك في زواياك الأخرى منطقة قَهْرٍ وتسخير، فتأدَّبْ في منطقة الاختيار، كما تأدبت في منطقة الاضطرار والقهر. وقد وصف الحق سبحانه الإنسان بأنه كنود، قال تعالى: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] . لإن الإنسان لا يتذكر أحياناً أن مهمة عقله الأولى هي أن يعقل حدوده، وأن يقول لنفسه: ما دامت الحيوانية فيَّ مقهورة، وما دامت الجمادية فيَّ مقهورة؛ فَلأكُنْ مؤدباً مع ربي، وأجعل منطقة الاختيار على مراد منهج الله. وأنت إنْ أردتَ أن تضع إحصائية ل «افعل» ولا «تفعل» لوجدت ما لم يَرِدْ فيه تكليف ب «افعل» و «لا تفعل» لا يقل عن خمسة وتسعين في المائة من حركة الحياة، وهو المباح. وأنزل الله سبحانه التكليف لتنضبط به حركة حياتك كلها إنْ جعلت التكليف هو مرادك وهو لن يأخذ أكثر من خمسة في المائة من حركة الحياة، ويعود خير ذلك عليك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6759 فساعة يقول لك التكليف: عليك أن تزكِّي عن مالك، فلا بد لك من أن تقدِّر المقابل، لأنك إن افتقرتَ واحتجْتَ؛ سيأتيك من زكاة الآخرين ما يلبِّي احتياجاتك، فمن «أفعل» التي تلتزم بها ويلتزم بها غيرك تأتي الثمرة التي تسدُّ عجز أي ضعف في المجتمع الإيماني بالتراحم المتبادل النابع عن اليقين بالمنهج. وحين يقول لك التكليف: لا تعتدِ على حُرمات الغير، فهو يقيِّد حريتك في ظاهر الأمر، لكنه يحمي حُرماتك من أن يعتدي عليها الغير، وحين تتعقل أوامر التكليف كلها ستجدها لصالحك؛ سواء أكان الأمر ب «افعل» أو «لا تفعل» . وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] . و «لو» تفيد الامتناع. أي: أن الله تعالى لم يجعل الناس أمة واحدة، بل جعلهم مختلفين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6760 وقد حاول بعض من الذين يريدون أن يدخلوا على الإسلام بنقد ما، فقالوا: ألاَ تتعارض هذه الآية مع قول الله: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين} [البقرة: 213] . وظن أصحاب هذا القول أن البشر لم يلتفتوا إلى خالقهم من البداية؛ ثم بعث الله الأنبياء ليلفتهم إلى المنهج. ونقول لهؤلاء: لا، فقد ضمن الحق سبحانه للناس قُوتَهم وقوام حياتهم، وكذلك ضمن لهم المنهج الإيماني منذ أن أمر آدم وزوجه بالهبوط إلى الأرض لممارسة مهمة الخلافة فيها، وقال الله سبحانه: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] . ولو استقصى هؤلاء الآيات التي تعالج هذا الأمر، وهي ثلاث آيات؛ فهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6761 وفي الآية التي ظنوا أنها تتعارض مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] . وهكذا نعرف أن الحق سبحانه وتعالى أنزل المنهج مع آدم عليه السلام ثم طرأتْ الغفلة؛ فاختلف الناس، فبعث الله الأنبياء ليحكموا فيما اختلف فيه الناس. إذن: فقول الله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] . يعني أنه سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم على هداية؛ لأنه بعد أن خلقهم؛ وأنزلهم إلى الأرض؛ وأنزل لهم المنهج؛ كانوا على هداية، ولكن بحكم خاصية الاختيار التي منحها الله لهم، اختلفوا. ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] . أي: أنهم سيظلون على الخلاف. ويأتي الحق سبحانه وتعالى في الآية التالية بالاستثناء فيقول: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6762 {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6763 أي: أن الحق سبحانه قد خَلَقَ الخَلْق للرحمة والاختلاف. وساعة نرى «اسم إشارة» أو «ضميراً» عائداً على كلام متقدِّم، فنحن ننظر ماذا تقدم. والمتقدم هنا: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118119] . والحق سبحانه وتعالى حين تكلم عن خلق الإنسان قال: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . ومعنى العبادة هو طاعة الله سبحانه في «افعل» و «لا تفعل» وهذا هو المراد الشرعي من العبادة؛ ولكن المرادات الاجتماعية تحكَّمتْ فيها خاصية الاختيار، فحدث الاختلاف، ونشأ هذا الاختلاف عن تعدُّد الأهواء. فلو أن هَوَانَا كان واحداً؛ لما اختلفنا، ولكنّا نختلف نتيجة لاختلاف الأهواء، فهذا هواه يميني؛ وذاك هواه يساري؛ وثالث هواه شيوعيٌّ؛ ورابع هواه رأسماليّ؛ وخامس هواه وجوديّ، وكل واحد لهم هوى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6763 ولذلك قال الحق سبحانه: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71] . ولم يكن العالم ليستقيم؛ لو اتبع الله سبحانه أهواء البشر المختلفة، ولكن أحوال هذا العالم يمكن أن تستقيم؛ إذا صدرتْ حركته الاختيارية عن هوًى واحد؛ ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به» . وفي حياتنا اليومية نلاحظ أن الأعمال التي تسير بها حركة الحياة وبدون أن ينزل تكليف فيها؛ نجد فيها اختلافاً لا محالة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لو شاء لخلقنا كلنا عباقرة في كل مناحي الحياة؛ أو يخلقنا كلنا شعراء أو أطباء أو فلاسفة. ولو شاء سبحانه ذلك فمن سيقوم بالأعمال الأخرى؟ فلو أننا كنا كلنا أطباء فمن يقوم بأعمال الزراعة وغيرها؟ ولو كنا جميعاً مهندسين؛ فمن يقوم بأعمال التجارة وغيرها؟ وقد شاء الحق سبحانه أن يجعل مواهبنا مختلفة ليرتبط العالم ببعضه ارتباط تكاملٍ وضرورة؛ لا ارتباط تفضُّل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6764 ولذلك يقول الحق سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32] . وهكذا نعرف أن رفع الدرجات لا يعني تلك النظرة الحمقاء الرعناء، والتي تدعي أن في ذلك التقسيم رفعة للغنى وتقليلاً لشأن الفقير؛ لأن الواقع يؤكد أن كل إنسان هو مرفوع في جهة بسبب ما يُحسنه فيها؛ ومرفوع عليه في جهة أخرى بسبب ما لا يُحسنه ويُحسنه غيره، وغيره مكمل له. وهكذا يتبادل البشر ما يحققه اختلاف مواهبهم، واختلاف المواهب هي مقومات التلاحم. ولذلك قلنا: إن مجموع سمات ومواهب كل إنسان إنما يتساوى مع مجموع سمات ومواهب كل إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى؛ وقيمة كل امرىء ما يُحسنه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6765 وقد ترى صاحب السيارة الفارهة وهو يرجو عامل إصلاح السيارات الذي يرتدي ملابس رثة ومتسخة؛ ليصلح له سيارته؛ فيقول له العامل: لا وقت عندي لإصلاح سيارتك؛ فيلحّ صاحب السيارة الفارهة بالرجاء؛ فيرضى العامل ويرق قلبه لحال هذا الرجل صاحب السيارة الفارهة ويذهب لإصلاحها. لذلك أقول: إذا نظرتَ لمن هو دونك في أي مظهر من مظاهر الحياة؛ فلا تغترَّ بما تفوقتَ وتميزتَ به عليه؛ ولكن قُلْ لنفسك: لا بد أن هذا الإنسان متفوق في مجال ما. ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى ليس له أبناء ليميز واحداً بكامل المواهب، ويترك آخر دون موهبة. ولذلك يقول الحق سبحانه هنا: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ} [هود: 118119] . وإن كان الاختلاف في المقدرات والمنهج؛ فهذا ما يولِّد الكفر أو الإيمان، ولنا أن نعرف أن الكفر له رسالة؛ بل هو لازم ليستشعر المؤمن حلاوة الإيمان. ولو لم يكن للكفر وظيفة لما خلقه الله. وقد قلت قديماً: إن الكفر يعاون الإيمان؛ مثلما يعاوِن الألم العافية، فلولا الألم لما جئنا بالطبيب ليشخِّص الداء، ويصفَ الدواء الشافي بإذن الله. ولذلك نقول: الألم رسول العافية. والحق سبحانه يقول هنا: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118119] . وأنت إن دقَّقت النظر في الاختلاف لوجدته عين الوفاق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6766 ومثال ذلك: اختلاف أبنائك فيما يحبونه من ألوان الطعام، فتجد ابناً يفضِّل صدر الدجاجة، وآخر يفضل الجزء الأسفل منها «الوَرِك» ، وتضحك أنت لهذا الاختلاف، لأنه اختلاف في ظاهر الأمر، ولكن باطنه وِفَاق، لو اتفقنا جميعاً في الأمزجة لوجدنا التعاند والتعارض؛ وهذا ما ينتشر بين أبناء المهنة الواحدة. ولمن يسأل: هل الخلق للاختلاف أم الخلق للرحمة؟ نقول: إن الخلق للاختلاف والرحمة معاً، لأن الجهة مُنفكَّة. ثم يقول سبحانه في نفس الآية: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] . والحق سبحانه قد علم أزلاً بمن يختار الإيمان ومن يختار الكفر، وهذا من صفات العلم الأزليّ لله سبحانه وتعالى ولذلك قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} أي: علم سبحانه مَنْ مِنْ عباده سيختار أن يعمل في الدنيا عملَ أهل النار، ومن سيختار أن يعمل عملَ أهل الجنة؛ لسبْق علمه الأزليّ بمرادات عباده واختياراتهم. وسبق أن ضربنا مثلاً ولله المثل الأعلى بعميد الكلية الذي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6767 يعلن للأساتذة ضرورة ترشيح المتفوقين في كل قسم؛ لأن هناك جوائز في انتظارهم، فيرشح كل أستاذ أسماء المتفوقين الذين لمسَ فيهم النبوغ والإخلاص للعلم، ويطلب العميد من أساتذة من خارج جامعته أن يضعوا امتحانات مفاجئة لمجموع الطلاب؛ ويُفاجأ العميد بتفوق الطلبة الذين لمس فيهم أساتذتهم النبوغ والإخلاص للعلم، وهنا يتحقق العميد من صدق تنبؤ الأساتذة الذين يعملون تحت قيادته. ولكن قد تحدث مفاجأة: أن يتخلف واحد من هؤلاء الطلبة لمرض أصابه أو طارىء يطرأ عليه من تعب أعصاب أو إرهاق أو غير ذلك؛ وبهذا يختلّ تقدير أستاذه؛ لكن تقدير الحق سبحانه مُنزَّه عن الخطأ، وما عَلِمه أزلاً فهو مُحقَّق لا محالة؛ لذلك بيَّن لنا أنه عِلْم أزليّ، ويتحدى الكافر به أن يغيره. وكلنا يعرف أن الحق سبحانه أنزل قوله الكريم: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] . وسمعها أبو لهب ولم يتحدها بإعلان الإيمان ولو نفاقاً. وقول الحق: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} تبيِّن لنا أن الحق سبحانه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6768 إنْ قال شيئاً فهو قد تَمَّ بالفعل؛ فلا رادَّ لمشيئته، أما نحن فعلينا أن نسبق كل وعد بعمل سنقوم به بقول: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 24] . لأن الحق يقول لنا: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 2324] . وفي هذا احترامٌ لوضعنا البشري، وإيمانٌ بغلبة القهر، ومعرفة لحقيقة أننا من الأغيار؛ لأن كل حدث من الأحداث يتطلب فاعلاً؛ ومفعولاً يقع عليه الفعل؛ ومكاناً؛ وزماناً؛ وسبباً؛ ولا أحدَ مِنَّا يملك أيَّ واحد من تلك العناصر. فإن قُلْتَ: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} تكون قد عصمتَ نفسك من أن تكون كاذباً، أو أن تَعِدَ بما لا تستطيع، لكن إذا كان مَنْ يقول هو مالك كل شيء، ولا قوة تخرجه عَمَّا قال، فهو وحده القادر على أن ينفِّذ ما يقول. ولذلك قلنا: إن كل فعل يُنسب إلى الله تعالى يتجرد عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6769 الزمن؛ فلا نقول: «فعل ماضٍ» أو «فعل سيحدث في المستقبل» أو «فعل مضارع» ؛ لأن تلك الأمور إنما تُقاسُ بها أفعال البشر، لكن أفعال الله سبحانه لا تقاس بنفس المقياس، فسبحانه حين يقرر أمراً فنحن نأخذه على أساس أنه قد وقع بالفعل. والحق سبحانه يقول: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] . وقوله سبحانه: {أتى} بمعنى: تَقرَّر الأمر ولم يُنفَّذ بعد فلا تتعجَّلوه؛ وهذا هو تحدِّي القيومية القاهرة، ولا توجد قوة قادرة على أن تمنع وقوع أمر شاءه الله سبحانه وتعالى فهو يحكم فيما يملك، ولا مُنَازِع له سبحانه. وقوله الحق: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] . فسببه أن الإنس والجن هما الثقلان المكلَّفان. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6770 {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6771 وساعة ترى التنوين في قوله الحق {وَكُلاًّ} فاعلمْ أن المقصود هو قصة كل رسول جاء بها الحق سبحانه في القرآن الكريم. وحين يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن فعل قد أحدثه؛ فلنا أنْ ننظر: هل هذا الفعل مأخوذ من صفة له سبحانه أم مأخوذ من اسم موجود؟ فيحقّ لنا أن نأخذ الاسم ونأخذ الفعل مثل قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ} [النحل: 70] . نعلم منه أنه سبحانه خالق، ولكن إنْ جاء فعل ليس له أصل في أسماء الله الحسنى، فإياك أنْ تشتقَّ من الفعل اسماً لله. ومثال ذلك قوله سبحانه: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ} [هود: 120] . والذي يقصُّ هنا هو الله سبحانه لكن لا أحد في إمكانه أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6771 يقول: إن الله قصَّاص، مثلما لا يحق لأحد أن يقول: إن الله ماكر، رغم أن الله سبحانه قد قال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] . وكذلك لا يصح لأحد أن يقول: الله المخادع، رغم أن الحق سبحانه قد قال: {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] . وهكذا نتعلم أدب الحديث عن الله المتصف بكل صفات الكمال والجلال؛ وأن نكتفي بقول: إن مثل هذا الفعل جاء للمشاكلة ما دام ليس له وجود ضمن أسماء الله الحسنى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6772 وهنا يقول الحق سبحانه: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل} [هود: 120] . و «أنباء» جمع «نبأ» ، وهو الخبر العظيم الذي له أهمية، والذي يختلف به الحال عند العلم به، وأخبار الرسل عليهم السلام تتناثر لقَطاتٍ مختلفة عَبْرَ سور القرآن الكريم، موضحة ما جاء به كل رسول معالجاً الداء الذي عانى منه قومه، وكذلك ما عاناه كل رسول من عَنَت القوم المبعوث لهم، وجاء ذكر تلك الأنباء في القرآن لتثبيت فؤاد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الرسول سيصادف في الدعوة المتاعب والصعاب. وقد ذكر القرآن بعضاً من تلك المواقف، يقول الحق سبحانه: {وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} [البقرة: 214] . ويقول الحق سبحانه مصوِّراً حال المؤمنين: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6773 {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] . ومثل هذه المواقف تقتضي تثبيت الفؤاد؛ بمعنى تسكينه على منطق اليقين الإيماني بربِّ أرسله رسولاً ليبلِّغ منهجاً، وما كان الله سبحانه ليرسل رسولاً ليبلِّغ منهجاً ثم يُسلمه لأعدائه. فإذا ما ذكر له أخبار الرسل والصعاب التي تعرضوا لها تهون عليه المصاعب التي يتعرض لها، ويثبت فؤاده. و «الفؤاد» هو ما نقول عنه: «القلب» ، وهو وعاء العقائد، بمعنى أن المخ يستقبل من الحواس وسائل الإدراكات من عين ترى، ومن أذن تسمع، ومن أنف يشُم، ومن فَمٍ يستطعم، ومن كفٍّ تلمس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6774 فتتولد المعلومات التي يصنفها المخ، ويرتبها كقضايا عقلية. ويناقش المخ تلك القضايا العقلية إلى أن تصح القضية العقلية صحة لا يأتي بعدها ما ينقضها، فيسقطها المخ في الفؤاد لتصير عقيدة؛ لا تطفو بعدها إلى العقل لتُناقش من جديد؛ ولذلك يسمونها «عقيدة» من العقدة فلا تتذبذب بعد ذلك. إذن: فالفؤاد هو الوعاء القابل للقضايا التي انتهى المخ من تمحيصها تمحيصاً وصل فيه إلى الحق، وأسقطها على القلب ليدير حركة الحياة على مُقْتضاها. وعلى سبيل المثال: نجد الشاب الذي يفكر في مستقبله، فيدرس مزايا وعيوب المهن المختلفة ليختار منها التخصص الذي يتناسب مع مواهبه؛ وأحلامه، ثم يدرس المحسَّات التي استقبلها بحواسه ليُمحِّصها بعقله؛ وما ينتهي إليه عقله يسقطه في قلبه؛ ليصير عقيدة يدير بها حركة حياته. مثال هذا: أنه قد استقر في وجدان الناس وعقولهم أن النار مُحْرقة، ولكن من أين جاء هذا اليقين في أن النار محرقة؟ نقول: جاء من أمر حسي بأن شاهد الناس أن مَنْ مسَّته النار أحرقته. لا بد إذن أن يكون القلب ثابتاً؛ غير مذبذب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6775 ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] . لأن الفؤاد هو الوعاء الذي من مهمته أن يكون مستعداً لاستقبال كلمة الحق؛ وليقبل تنبيه الذكرى، وجلال الموعظة، وكمال الوارد من الحق سبحانه وما يأتي من الحق سبحانه هو الحق أيضاً، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير. وحق الحق ينبوع العقيدة الذي ستصدر عنه طاعة التكليف، ولا بد أن يكون الإنسان على ثقة من حكمه المكلِّف قبل أن يُقبِلَ على التكليف؛ لذلك لزم أن يأتي الدليل على وجود الحق سبحانه وهو قمة الوجود الأعلى قبل أن تأتي الموعظة، ويكون الإيمان بالوجود الأعلى الذي لا يتغير ولا تطرأ عليه الأغيار هو السابق لمجيء تلك الموعظة. لأن الموعظة قد تتطلب من الإنسان شيئاً يكره أن يلتزم به، وهي هنا صادرة من الحق سبحانه، الذي خلق، ولا يمكن أن يغش أو يخدع مخلوقاته، ويحملها لك رسول منه سبحانه. وقد تكره الموعظة إن صدرت عن إنسان مثلك؛ لأنه لن يَعِظك إلا بكمال يتميز به ليعدد نقصاً فيك، وإن لم يكن الواعظ يتمتع بالكمال الذي يعظ به؛ بالموعوظ سيردُّ على الواعظ قائلاً: فَلْتعِظْ نفسك أولاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6776 ولذلك نجد قول الحق سبحانه: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] . لأن الواعظ الذي يَعِظُ بما لا يطبقه على نفسه يعطي الحجة للموعوظ ليرفض الموعظة؛ وليقول لنفسه: «لو كان في هذا الأمر خير لطبَّقه على نفسه» . وهكذا بيَّنت الآية الكريمة موقف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كمُثَبَّتٍ، وأيضاً موقف المؤمنين برسالته كمذكَّرين من الرسول بأنهم سيتعرضون للمتاعب؛ متاعب مشقة التكليف التي سيعاني منها مَنْ لا يأخذ التكليف بعمق الفهم. فقد يرى بعض المكلَّفين مثلاً أن الأمر بغَضِّ الطَّرْف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6777 حرمانٌ من شهوة طارئة ولا يَسْبر غورَ الفهم بأن غَضَّ الطَّرْف أمراً لكافة المؤمنين أن يغضوا الطرف عن محارمه، وقد يرى في الزكاة أنها أخْذٌ من ماله، ولا يَسْبر غور الفهم بأن في الزكاة تأميناً له إنْ مرَّت عليه الأغيار وصار فقيراً؛ عندئذ سيقدم له المجتمع الإيماني التأمين الاجتماعي الذي يحميه وعياله من مَغبَّة السؤال. وعمق الفهم أمر مطلوب؛ لأن الحق سبحانه هو القائل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} [النساء: 82] . لأنك حين تتدبر المعاني ستعلم أن التكليف هو تشريف لك؛ وستقول لنفسك: «ما كلفني الله إلا لخير نفسي؛ وإن ظهر أنه لخير الناس» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6778 ومن المتاعب أيضاً ما يلقاه المؤمنون من عنت المستفيدين من الفساد؛ هؤلاء الذين يعيشون على الانتفاع من المفاسد، ويواجهون كل من يريد أن يقضي على الفساد؛ لأن الفساد في الأرض لا يعيش إلا إذا وُجِد منتفعٌ بهذا الفساد؛ والمنتفع بالفساد يكره ويعلن الخصومة لكلِّ مقاومٍ له. إذن: فموقف خصوم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موقف طبيعي لصالحهم، ولكنهم لحمقهم حددوا الصالح بمصالحهم الآنية في الحياة الدنيا؛ ولم ينظروا إلى عاقبة ما يؤول إليه أمرهم في الآخرة نعيماً أو عذاباً. ولو أنهم امتلكوا البصيرة؛ لعرفوا أن من مصلحتهم أن يوجد مَنْ يُقوِّمهم حتى لا يقدموا لأنفسهم شراً يوجد لهم في الآخرة. ولو أنهم فَطِنوا؛ لعلموا أن الرسول كما جاء لصلاح المستضعفين المستغلين بالفساد؛ جاء أيضاً لصالحهم، ولو أنهم كانوا على شيء من التعقل؛ لكانوا من أنصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ولكان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6779 من الواجب عليهم كلما حدثتهم أنفسهم بالسعي إلى الفساد؛ وسمعوا من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما ينتظرهم نتيجة لهذا الفساد؛ أن يتبعوه وأن يشكروه؛ لأنه خلَّصهم من طاقة الشر الموجودة فيهم. وهنا يوضح الحق سبحانه لرسوله: أنت لست بدعاً من الرسل، وكل رسول تعرَّض للمتاعب مثلما تتعرض أنت لمثلها، وأنت الرسول الخاتم، ولأن الدين الذي جئتَ به لن يأتي بعده دين آخر؛ لذلك لا بد أن تتركز المتاعب كلها معك؛ فكُنْ على ثقة تماماً أنك مُصادِفٌ للمتاعب. ولذلك نثبِّت فؤادك بما نقصُّه عليك من أنباء الرسل؛ لأن هذا الفؤاد هو الذي سيستقبل الحقائق الإيمانية من قمة «لا إله إلا الله» إلى أن يكون ذكرى تذكّرك والمؤمنين معك. وهكذا بيَّنتْ الآية موقف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كمثَّبت؛ وموقف المؤمنين كمذكَّرين من الرسول؛ لأنهم سيتعرضون للمتاعب أيضاً. ونحن نعرف جميعاً ما قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للأنصار حين بايعوه في العقبة على نصرته، وقالوا: إنْ نحن وفينا بما عاهدناك عليه؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6780 فماذا يكون لنا؟ ولم يَقُلْ لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ستملكون الدنيا، وستصبحون سادة الفُرْس والروم» ، بل قال لهم: «لكم الجنة» . لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أن منهم مَنْ سيموت قبل أن تتحقق تلك الانتصارات؛ لذلك وعدهم بالقَدْر المشترك الذي يتساوى فيه مَنْ يموت بعد إعلانه للإيمان، وبين مَنْ سيعيش ليشهد تلك الانتصارات. وهكذا تبينا كيف تضمَّنت الآية الكريمة تثبيت فؤاد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وكيفية إعداد هذا الفؤاد لاستقبال الحق والموعظة وذكرى المؤمنين معه. هذا هو الطرف الأول، فماذا عن الطرف الثاني؛ الطرف المكذِّب للرسول؟ كان ولا بد أن يتكلم الحق سبحانه هنا عن المكذِّبين للرسول؛ لأن استدعاء المعاني يجعل النفس قابلة للسماع عن الطرف الآخر. وما دام الحق سبحانه قد تكلم عن تثبيت وعاء الاستقبال، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6781 والموعظة، وتذكير المؤمنين؛ لحظة أن تخور منهم العزائم، فلا بُدَّ إذن أن يتكلم سبحانه عن القسم الآخر؛ وهو القسم المكذِّب، فيوضح سبحانه لرسوله أن له أن يتحداهم ولا يتهيَّب. يقول الحق سبحانه: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6782 أي: اصنعوا ما شئتم، ومعنى ذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مستندٌ إلى رصيد قويّ من الإيمان بإلهٍ لا يهوله أن يستعد له الخصم؛ فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والذين معه لا يواجهون الخصم بذواتهم؛ ولا بعدَدهم وعُددهم؛ وإنما يواجهونه بالركن الركين الذي يستندون إليه، وهو الحق سبحانه وتعالى. ونحن نرى في حياتنا اليومية أن أي قائد في معركة إنما يشعر بالثقة حين يصل إلى علمه أن مدداً سوف يصله من الوطن الذي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6782 يحارب من أجله؛ لأنه سيعزز من قوته، فما بالنا بالمدد الذي يأتي ممن لا ينفد ما عنده؛ وممن لا يُجير عليه أحدٌ؛ فهو يُجير ولا يُجَار عليه. ولذلك نلاحظ أن الأنبياء استظلوا بتلك المظلة، فموسى عليه السلام حين كاد الفرعون أن يلحق به؛ ورأى قومه أنْ لا نجاة لهم؛ فالبحر أمامهم والعدو وراءهم؛ صرخوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] . لكن موسى عليه السلام يطمئنهم: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] . فموسى عليه السلام يعلم أنه مُستند بقوة الله لا بقوة قومه، وأمدَّه الله سبحانه بمعجزة جديدة: {اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63] . فينفلق البحر؛ ليفسح بين مياهه طريقاً يابسة؛ وسار موسى عليه السلام وقومه، وفكر موسى في قطع السبيل على عدوه حتى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6783 لا يسير في نفس الطريق المشقوق بأمر الله عبر معجزة ضرب البحر بالعصا، وأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر ضربة ثانية ليعود البحر إلى حالة السيولة مرة أخرى، فيقول له الله سبحانه: {واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24] . أي: أتركه على ما هو عليه؛ لينخدع فرعون ويسير في الطريق اليابسة، ثم يعيد الحق سبحانه البحر كما كان، وبذلك أنْجَى الحق سبحانه وأهْلَكَ بالشيء الواحد؛ وهذه لا يقدر عليها غير الله سبحانه وتعالى وحده. وهكذا يَهَبُ الحق سبحانه المؤمنين به القدرة على تحدي الكافرين. والإيمان كله معركة من التحدي؛ تحدٍّ في صدق الرسول كمبلِّغ عن الله، ومعه معجزة تدل على رسالته، وتحدٍّ في نصرة الرسول ومَنْ معه من قلة مؤمنة؛ فيغلبون الكثرة الكافرة. والحق سبحانه يقول: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [البقرة: 249] . وهكذا يشيع التحدي في معارك الإيمان. وقد تميِّز كل رسول بمعجزة يتحدى بها أولاً؛ ثم ينتهي دورها؛ لينزل له بعدها منهج من السماء؛ ليبشِّر به قومه، لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6784 تميَّز بمعجزة لا تنتهي، وهي عَيْنُ منهجه؛ لأنه رسول إلى كل الأزمان وإلى كل الأمكنة؛ فكان لا بد من معجزة تصاحب المنهج إلى يوم القيامة. ولذلك نجد كل مؤمن بالرسالة المحمدية يقول: محمد رسول الله والقرآن معجزته إلى أن تقوم الساعة. والحق سبحانه يقول هنا: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [هود: 121] . ونحن نعلم أن كل كائن منَّا له مكان، أي: له حَيِّز وجِرْم. ويقال: فلان له مكانة في القوم، أي: له مركز مرموق؛ إذا خلا منه لا يستطيع غيره أنْ يشغله، وهو مكان يدلُّ على الشرف والعظمة والسيادة والوجاهة ونباهة الشأن. فقول الحق: {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [هود: 121] . أي: اعلموا على قَدْر طاقتكم من عُدة ومن عَدد، فإن لمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رباً سيهديه وينصره، وفي هذا تهديد لهم؛ وليس أمراً لهم؛ لأنهم ككفار لن يمتثلوا لأمر مِنْ عَدوِّهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6785 ولو أنهم امتثلوا لأمر محمد وربِّ محمد لَمَا كانوا كافرين؛ بل لأصبحوا من الطائعين. وحين يقول لهم سبحانه في آخر الآية: {إِنَّا عَامِلُونَ} [هود: 121] . فمعنى ذلك أن كل ما في قدراتكم هو محدود لأنكم من الأغيار الأحداث؛ أما فعل الله تعالى فهو غير محدود؛ لأنه سبحانه قديمٌ أزليٌّ لا تحده حدود، ولن يناقض عمل المُحدَث الحادث عمل القديم الأزلي، فقوة الحادث المُحدَث موهوبة له من غيره، أما قوة الحق سبحانه فهي ذاتية فيه. ونحن نعلم أن أيَّ عمل إنما يُقَاس بقوة فاعله، وخطأ المستقبلين لمنهج الله أنهم إذا جاء عمل؛ نَسَوا مَنِ الذي عَمِلَ العمل، ولو كان العمل من فعل البشر لَحقَّ للإنسان أن يتكلم، لكن إذا ما كان العمل من الله تعالى فليلزمِ الإنسان حدوده. ومثال ذلك: هؤلاء الذين جادلوا في مسألة الإسراء التي قال فيها الحق تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6786 الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] . وقالوا: إننا نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، فكيف يقول إنه أتاها في ليلة؟ وكان الرد عليهم: إن محمداً لم يَقُلْ إنه سَرَى من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى بقوته هو، بل أُسْرِيَ به، والذي عمل ذلك هو الله سبحانه وليس محمداً، فقيسوا هذا العمل بقوة الله تعالى وليس بقوة محمد. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6787 في هذه الآية نلمس الوعيد والتهديد؛ فالكافرون ينتظرون وعد الشيطان لهم، والمؤمنون ينتظرون وعد الرحمن لهم. ولذلك سيقول المؤمنون للكافرين يوم القيامة: {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6787 وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44] . وفي انتظار الكفار تهديد لهم، وفي انتظار المؤمنين تثبيت لقلوبهم، ولو لم تَأْتِ الأحداث المستقبلة كما قالها القرآن لتشكك المؤمنون، ولكن المؤمنين لم يتشككوا، وهكذا نتأكد أن القول بالانتظار لم يكن ليصدر إلا مِنْ واثقٍ بأن ما في هذا القول سوف يتحقق. وقد جاء الواقع بما يؤيد بعض الأحداث التي جاءت في القرآن. ألم ينزل قول الحق سبحانه: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] . وكان وقت نزول هذا القول الحكيم إبان ضعف البداية، حتى قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أيُّ جَمْعٍ يهزم؟ لأن عمر حينئذ كان يلمس ضعف حال المؤمنين، وعدم قدرة بعض المؤمنين على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6788 حماية نفسه، ثم تأتي غزوة بدر؛ ليرى المؤمنون صدق ما تنبأ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومن العجيب أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطط على الأرض مواقع مصرع بعض كبار الكافرين، بل وأماكن إصاباتهم، وجاء ذلك قرآناً يُتلى على مر العصور، مثل قوله الحق: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] . وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأتي الواقع بما يؤيد صدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كما شاء سبحانه أن يُنزل على الرسول لقطاتٍ من قصص الرسل الذين سبقوه لشد أَزْره، وليثبِّت فؤاده، ويذكِّر المؤمنين فيزدادوا إيماناً. ثم يختتم الحق سبحانه سورة هود بقوله الكريم: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6789 أي: أن ما جاء من ذكر حكيم هو أمر غائب عنكم، يخبركم به الله سبحانه من خلال ما يُنزله على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقد شاء الحق سبحانه أن يحفظ هذا الذِّكْر الحكيم، ثقة منه سبحانه أنه إذا أخبرنا في القرآن بخبر لم يجيء أوانه، فَلْنفهم أنه قد أخبر بما له من أزلية علم بالكون وما يجري فيه، وبما له من قدرة مطلقة تتحكم فيما يؤول إليه أمر المُختار من الكائنات مؤمنهم وكافرهم فإذا حدثنا القرآن بشيء مما يغيب عن الإنسان، فلنعلم أنه إخبار بصدق مطلق. وهناك الكثير مما يغيب عن الإنسان، وهناك حجاب بين وسائل إدراك الإنسان وبين بعض المُدْركات، ومرة يكون الحجاب حجابَ زمنٍ، فإذا أخبر الله تعالى عن أمر لم نشهده من قديم قد أَوْغَلَ في الزمن، ولم يقرأه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كتاب ولم يسمعه من معلِّم؛ فهذا كَشْف لحجاب الماضي. ولذلك فبعض سور القرآن الكريم يسميها العلماء «ماكُنات القرآن» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6790 مثل قوله الحق: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . وغير ذلك من الآيات التي تبدأ بقوله الحق: {مَا كُنْتَ} . وقد كان هناك أناس في ذلك الماضي يدركون ما صار غيباً عن الرسول ومَنْ معه؛ لكن الحق سبحانه أظهر هذا الغيب للرسول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6791 الذي لم يجلس إلى مُعلِّم بشهادة أعدائه، وكذلك كشف الحق سبحانه لرسوله حجاب الزمان وحجاب المكان. ومَنْ ينكشف له حجاب الزمان وحجاب المكان؛ إنما ينكشف له حجاب المستقبل أيضاً، والذي كشف هذا هو الحق سبحانه الذي قدَّر مجيء هذا العالم، وما سوف يحدث فيه إلى أن تقوم الساعة. وقد طمر الحق سبحانه في القرآن أموراً لو كُشف عنها في زمن بَعْثة الرسول؛ لكان الحديث عنها فوق مستوى العقول والإدراك؛ وتحدث سبحانه عن وقائع مستقبلية بالنسبة للمعاصرين لرسول الله صلى عليه وسلم؛ لم يكن أحد يتوقعها. وكانت هناك معركة بين أرقى حضارتين معاصرتين للإسلام؛ حضارة فارس وحضارة الروم، وكانت الحضارتان تتنازعان السيطرة وتوسيع مناطق النفوذ. وهَزَمَتْ فارس التي لا تؤمن بإله امبراطورية الروم التي تعتنق المسيحية، ولا تؤمن برسالة محمد الخاتمة. لذلك حزن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهزيمة الذين يؤمنون بإله في السماء؛ فَيُسرِّي الله سبحانه الأمر على رسوله، ويُنزِل الحق سبحانه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6792 قرآناً يُتلَى على مَرِّ العصور وكل الأزمان؛ يحمل نبوءة انتصار الروم بعد هزيمتهم من الفرس. ويقول سبحانه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 15] . هكذا تأتي النبوءة في القرآن تحمل التحديد لميعاد نصر الروم في بضع سنين؛ و «البِضْع» يقصد به من ثلاث لتسع سنوات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6793 وإنْ قيل: تلك نبوءة محمد، نقول: ما عِلْم محمد بأخبار المعسكرين ولا بأسرار السياسة الداخلية لهما؟ وقد جاء نصر الروم كما حدد القرآن، وكان هذا هَتْكا للحجب، حجاب الزمان، وحجاب المكان، وحجاب الناس، وأوحى به الحق سبحانه عالم الغيب المطلق لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والغيب المطلق هو الذي لا يعرفه إلا الحق تبارك وتعالى وليس له مقدمات، ويكشفه الله لمن يرتضيه، مصداقاً لقوله سبحانه: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 2627] . وهذا الغيب المطلق يختلف عن الغيب المقيّد الذي له مقدمات؛ ما إن يأخذ بها الإنسان ويرتبها حتى يصل إلى اكتشاف سرٍّ من أسرار الكون. والحق سبحانه هو القائل: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255] . وهكذا نعلم أن كل المكتشفات كانت موجودة في الكون ومطمورة فيه؛ وجعل الله تعالى لكل مستور منها ميلاداً، فالبخار واستخدامه في الحركات كان له ميلاد؛ والكهرباء كان لها ميلاد؛ واكتشاف الذرة كقوة ومصدر للطاقة كان له ميلاد، وكل مُكْتَشف ومُخْتَرع له ميلاد، وتتوالى مواليد الغيب مستقبلاً، وفي ميلادها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6794 إيمان اليقين بمن أخفاه وأظهره، وهو الله الحكيم. وقد يأتي هذا الميلاد بكشف وبحث؛ وقد يُظهره الله بدون بَحْث؛ أو يُظهره صدفة؛ مثلما أظهر قانون الطفو النابع من قاعدة «أرشميدس» ومثلما أظهر الحق سبحانه قانون الجاذبية صدفة؛ أي: أنه سبب من الأسباب جعل عبداً من عباده يبحث في شيء، فيظهر له شيء لم يكن يبحث عنه؛ ولذلك نسب الحق سبحانه الإحاطة له سبحانه. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123] . ولم يقل: «إليه يَرْجع الأمر كله» ، لأنه سبحانه ضبط كل مخلوق على قدر. ولله المثل الأعلى: كما تضبط أنت المنبه على ميقات معين، وكما يضبط المقاتل القنبلة لتنفجر في توقيت معين، والكون كله مُرتَّب على هذا الترتيب. والله سبحانه القائل: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] . فكل شيء إما يرجع إلى الله في التوقيت الذي شاءه الله. أو: أن الأمر هو كل ما يتعلق بكائن حي؛ لأن الحق سبحانه قد خلق في الكون أشياء وترك ملكيتها له سبحانه والحق سبحانه لا ينتفع بها، أما الإنسان فينتفع بها، وإن كان لا يقربها ولا يملكها، مثل: الشمس التي ترسل أشعتها، ويستفيد الإنسان بضوئها وحرارتها، وهي لا تدخل في ملكية الإنسان؛ لأنها من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6795 أساسيات الحياة؛ لذلك لم يجعل للإنسان الذي خَصَّه الله بخاصية الاختيار حق ملكيتها أو الاقتراب منها؛ حتى لا يعبث بها. وكذلك كل أساسيات الحياة جعلها الحق سبحانه في سلطته وحده، ولم يَأْمَنْ أحداً من خلقه عليها، مثل الأرض بعناصرها، وكذلك الماء والهواء حتى لا يعبث أحد بأنفاس الهواء لأحد آخر. شاء الحق سبحانه أن يجعل الأساسيات في يده دون أن يُملِّكها لأحد؛ رحمةً منه بنا، ذلك أنه سبحانه عَلِمَ أن الإنسان بما تعتريه من أغيار قد يسيء استخدام تلك الأساسيات. وسَخَّر الله هذه الأساسيات لخدمة كل المخلوقات، وسخَّر بعض المخلوقات ليسُوسها الإنسان، وبعض المخلوقات الآخر لم يستطع الإنسان تسخيره، وحتى قوة الإنسان نفسه؛ شاء الحق سبحانه أن يجعلها أغياراً؛ فالقوي يسير إلى الضَّعْف، والفقير قد يصبح غنياً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6796 وهكذا يَثْبت لنا أن كل ما نملك موهوب لنا من الله تعالى وليس هناك ما هو ذاتيٌّ فِينا، وما نملكه اليوم لا يخرج عن الملكية الموقوتة، فإذا جاء يوم القيامة؛ رجع كل ما نملك لله سبحانه وتعالى. ولذلك يقول الحق سبحانه: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . ولذلك أيضاً تشهد الجوارح على الإنسان؛ لأنها تخرج عن التسخير الذي كانت عليه في الدنيا. وإذا كان الحق سبحانه يقول هنا: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} [هود: 123] . فهو سبحانه يقول في آية أخرى: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} [طه: 6] . وكأن الحق سبحانه ينبه البشر منذ نزول القرآن إلى أهمية ما تحت الثرى من كنوز يمتنُّ الله تعالى بها على عباده أنه يملكها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6797 ونحن نعيش الآن باستخراج المكنوز الذي تحت الثرى. وحين يقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123] . ففي ذلك تنبيه لكل إنسان، ليعمل مُسْتهدفاً النجاة حين لا يكون لنفسه على نفسه سبيل يوم القيامة. وليعلم كل إنسان أن كل ما يستمتع به هو من فيوضات الحق الأعلى الذي أعطى الإنسان قدرة من باطن قوته سبحانه وأعطاه غِنًى من باطن غِنَاه سبحانه وأعطاه حكمة من باطن حكمته سبحانه وأعطاه قبضاً وبسطاً من باطن قدرته سبحانه وكذلك أعطى لعبيده من كل صفة بعضاً من فَيْضها، ثم تظل الفيوضات للحق سبحانه وتعالى. وحين يشاء فهو يسلب كل الفيوضات ويعود الأمر إليه، لأن الأمر كله له سبحانه. فإنْ حُدِّثتَ في القرآن بأمر تغيب عنك مقدماتُه، فاعلمْ أن الذي أنزل هذا الكتاب لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6798 ولذلك كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ثقة أن الحق سبحانه حين أمره أن يتوعد أعداء الدين فهو يُطمئنه أن المرجع في كل الأمور إليه سبحانه. واطمأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والذين معه أن أعداء الدين إنْ لم يُجازَوْا في الدنيا، فغداً ترجع الأمور كلها إلى الله، وإن كان الحق قد مَلَّكهم أشياء؛ فسيسلُبهم هذه الملكية في الآخرة، وإنْ كان قد أعطاهم الخِيَار في الدنيا؛ خِيَار أنْ يؤمنوا ويطيعوا، أو أنْ يكفروا ويعصوا؛ فهذا الاختيار سيزول عنهم في الآخرة، وكل مالك لمُلْك يصير مُلْكه بعده إلى الله. وما دام الأمرُ كذلك فلنعبد الله وحده سبحانه لأنه صاحبُ الأمر فيما مضى؛ وله الأمر الآن؛ وله الأمر فيما يأتي. وهو سبحانه الذي شاء، فجعل للإنسان ثلاثةَ أزمان: زمان سَبقَ وجود آدم؛ وزمان من بعد آدم إلى وجود أيٍّ منا؛ ثم زمان مستقبل إلى ما لا نهاية؛ وبذلك يكون لكل منا زمان ماضٍ؛ وزمان حاضر وزمان مستقبل، وكل منا يدور في فلك الأحداث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6799 ومن المنطقي بعد أن تستمتع بوجودك في الحياة؛ وتنضج عقلياً أن تتساءل عن ماضيك، وتاريخ الجنس البشري. وأنت في هذه الحالة تكون رَهْناً بثقة المحدِّث: هل يقول الصدق أم يقول الكذب؟ خُصوصاً إذا كان الحديث عن تاريخ ما قبل آدم، ولا بد أنْ تقول لنفسك: لا يمكن أن يُحدِّثني عن ذلك إلا مَنْ خلقني. وساعة يُبلِّغُكَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن بداية الخلق قائلاً: «كان الله، ولم يكُنْ شيء غيره» . ومعنى ذلك أن الصادق الوحيد الذي يمكن أن نقبل منه كلاماً عمَّا فاتَ قبل آدم هو الله سبحانه وتعالى. وإنْ سألتَ: لماذا وُجِدتُ في زمني هذا، ولم أوجد في زمن آخر؟ هنا ستقول لنفسك إنْ كنت مؤمناً: «إن مشيئة وإرادة مَنْ أوجدني هي التي رجَّحتْ وجودي في هذا الزمن عن أي زمن آخر» . ولا بد أن تسأل نفسك: وما المطلوب مني؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6800 وستجد أن المطلوب منك هو حركة الحياة؛ لأن تلك الحركة هي الفاصل بين الحياة والموت، والحق يقول: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] . فقد أعطاك الحق سبحانه العقل لتفكر، وأعطاك الطاقة لتفعل، وسخَّر لك الكون بالمطمور فيه من الرزق؛ لتستخرجه وتتعيش منه. وهكذا يتضح لك أن كل شيء يحتاج منك أن تتحرك، وأنت في حركتك تحتاج لطاقة تأخذها من الأعلى منك وتعطي للأدنى منك؛ لذلك أنت تأخذ طاقة من الأعلى منك، وتُعطي للأدنى منك. وأنت تعلم أن قمة المطلوب منك أن تُصلي بين يدي الله خمس مرات كل يوم؛ لتشحن طاقتك وتخرج للحياة بعد أن تُجدِّد ولاءك لمن خلقك وخلق الأكوان كلها، وإنْ أحسنتَ الوقوف بين يدي الله سيأتي مستقبلك مبنياً على هذا الإحسان. والحق سبحانه يعطينا مثلاً لهاتين الحركتين، فيقول: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9] . هذه حركة يأخذ فيها الإنسان طاقة من الأعلى، فالسعي إلى ذكر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6801 الله وترك البيع من أجل ذلك يعطي الإنسان طاقة إيمانية، يظهر أثرها في الحركة الثانية من حركات الإنسان. ولذلك يقول الحق سبحانه بعد هذا: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] . ولذلك يقول الحق سبحانه في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] . أي: أطِع الله في أمره؛ لأنه سبحانه الأعلى منك، بأن تؤدي المطلوب العبادي من: صلاة، وزكاة، وصيام، وحج إنِ استطعتَ لذلك سبيلاً، لتأخذ من المدد الأعلى ما يعينك في حركتك الثانية التي تتحركها في الكون. ومن العجيب أن حركتك في الكون الأدنى تُعينك على حركتك لاستمداد الطاقة من مُكوِّن الكون سبحانه. فأنت حين تصلي تحتاج لِسَتْر عورتك بثوب، وحتى تأتي بالثوب لا بد لك من أن تعتمد على حركة الفلاح في الزراعة، وحركة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6802 العامل في النَسْج، وحركة التاجر في البيع، وحركتك في عملك الذي يتيح لك أجراً تشتري منه الثوب. وبذلك تكون قد أخذتَ كل علوم الحياة؛ لكي تذهب للصلاة لتأخذ المدد من المدد الأعلى. وهكذا تجد أنك في حركة دائرة؛ تأخذ المدد من الأعلى لتعطي الكون الأدنى، وتأخذ من الأدنى ما يتيح لك الوقوف بين يدي صاحب المدد الأعلى. وبهذا يثبت لك أن الحركة في الحياة الحاضرة لكل إنسان بالنسبة لعمره في الحياة، هي استقبال من المدد الأعلى، وانفعال مع المدد الأدنى، وكل منهما يعين على الآخر؛ لذلك فعليك أن تعبد الله بأن تنظِّم حركة حياتك على ضوء منهجه سبحانه. واعلم أنه ستصادفك المصاعب فإن صادفتك فتوكل على الله، وتلك فائدة من فوائد استمرار ولائك لله الذي تأخذ منه المدد. ولذلك «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6803 ومعنى «حزبة» أي خرج عن أسبابه، لذلك فهو يذهب إلى المسبب الأعلى، فإنْ عبدتَ الله وتوكلتَ عليه؛ فهو يعينك؛ لأنه سبحانه لا يغفل عما نعمل. وهذه الآية تدلُّك على السعادة في الحاضر والمستقبل؛ لأنك إن كنت ترعى الله فسبحانه يكتب لك الحسنة بعشرة أمثالها، وقد يضاعف عن ذلك، وتُكتب السيئة بمثلها. وبذلك تكون هذه الآية قد استوعبت وانتظمت حال الإنسان: قبل حياته، وحاضر حياته، ومستقبل حياته إلى أن تقوم الساعة. يقول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . فدعوة الله بالطاعة، ودعوة الرسول بالسلوك السَّويّ يعطي للمؤمن حياة الحياة، وهي حياة تعيش في معية الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6804 لقد تعرضنا من قبل لفواتح السور؛ من أول سورة البقرة، وسورة آل عمران، وقلنا: إن فواتح بعض من سور القرآن تبدأ بحروف مُقطَّعة؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6807 ننطقها ونحن نقرؤها بأسماء الحروف، لا بمسميات الحروف. فإن لكل حرف اسماً ومُسمَّى، واسم الحرف يعرفه الخاصة الذين يعرفون القراءة والكتابة، أما العامة الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة؛ فهم يتكلمون بمسميات الحروف، ولا يعرفون أسماءها. فإن الأمي إذا سُئل أن يتهجى أيَّ كلمة ينطقها، وأن يفصل حروفها نطقاً؛ لما عرف، وسبب ذلك أنه لم يتعلم القراءة والكتابة، أما المتعلم فهو يعرف أسماء الحروف ومُسمَّياتها. ونحن نعلم أن القرآن قد نزل مسموعاً، ولذلك أقول: إياك أن تقرأ كتاب الله إلا أن تكون قد سمعته أولاً؛ فإنك إذا قرأته قبل أن تسمعه فسيستوي عندك حين تقرأ في أول سورة البقرة: {الم} [البقرة: 1] . مثلما تقول في أول سورة الشرح: {أَلَمْ} [الشرح: 1] . أما حين تسمع القرآن فأنت تقرأ أول سورة البقرة كما سمعها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جبريل عليه السلام «ألف لام ميم» ، وتقرأ أول سورة الشرح «ألم» . وأقول ذلك لأن القرآن كما نعلم ليس كأي كتاب تُقبِل عليه لتقرأه من غير سماع، لا. بل هو كتاب تقرؤه بعد أن تسمعه وتصحح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6808 قراءتك على قارئ؛ لتعرف كيف تنطق كل قَوْل كريم، ثم من بعد ذلك لك أن تقرأ بعد أن تعرفتَ على كيفية القراءة؛ لأن كل حرف في الكتاب الكريم موضوع بميزان وبقدر. ونحن نعلم أيضا أن آيات القرآن منها آياتٌ مُحْكمات وأُخَر مُتَشابهات. والآيات المُحْكماتُ تضم الأحكام التي عليك أن تفعلها لِتُثاب عليها، وإنْ لم تفعلها تُعاقب، وكل ما في الآيات المُحْكمات وَاضح. أما الآيات المُتَشابهات إنما جاءت متشابهة لاختلاف الإدراك من إنسان لآخر، ومن مرحلة عُمرية لأخرى، ومن مجتمع لآخر، والإدراكات لها وسائل يتشابه فيها الناس، مثل: العين، والأذن، والأنف، واللسان، واليد. ووسائل الإدراك هذه؛ لها قوانين تحكمها: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6809 فعيْنُك يحكمها قانون إبصارك، الذي يمتد إلى أن تلتقي خطوط الأشعة عند بؤرة تمتنع رؤيتُك عندها؛ ولذلك تصغُر الأشياء تدريجياً كلما ابتعدت عنها إلى أن تتلاشى من حدود رؤيتك. وصوتُك له قانون؛ تحكمه ذبذبات الهواء التي تصل إلى أدوات السمع داخل أذنك. وكذلك الشَّمُّ له حدود؛ لأنك لا تستطيع شَمَّ وردة موجودة في بلد بعيدة. وكذلك العقل البشري له حدود يُدرك بها، وقد علم الله كيف يدرك الإنسان الأمور، فلم يمنع تأمل وردة جميلة، لكنه أمر بغضِّ البصر عند رؤية أي امرأة. وهكذا يُحدِّد لكَ الحق الحلال الذي تراه، ويُحدِّد لك الحرام الذي يجب أن تمتنع عن رؤيته. وكذلك في العقل؛ قد يفهم أمراً وقد لا يفهم أمراً آخر، وعدم فَهْمك لذلك الأمر هو لَوْن من الفهم أيضاً، وإنْ تساءلتَ كيف؟ انظر إلى موقف تلميذ في الإعدادية؛ وجاء له أستاذه بتمرين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6810 هندسي مما يدرسه طلبة الجامعة؛ هنا سيقول التلميذ الذكي لأستاذه: نحن لم نأخذ الأسس اللازمة لحلِّ مثل هذا التمرين الهندسي، هذا القول يعني أن التلميذ قد فهم حدوده. وهكذا يعلمنا الله الأدب في استخدام وسائل الإدراك؛ فهناك أمر لك أن تفهمه؛ وهناك أمر تسمعه من ربك وتطيعه، وليس لك أن تفهمه قبل تنفيذه؛ لأنه فوق مستوى إدراكك. ودائما أقول هذا المثل ولله المثل الأعلى إنك حين تنزل في فندق كبير، تجد أن لكل غرفة مفتاحاً خاصاً بها، لا يفتح أي غرفة أخرى، وفي كل دَوْر من أدوار الفندق يوجد مفتاح يصلح لفتْح كل الأدوار، ولا يفهم هذا الأمر إلا المتخصص في تصميم مثل تلك المفاتيح. فما بالنا بكتاب الله تعالى، وهو الكتاب الجامع في تصميم مثل تلك المفاتيح. فما بالنا بكتاب الله تعالى وهو الكتاب الجامع الذي يقول فيه الحق تبارك وتعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6811 قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} [آل عمران: 7] . إذن: فهذا المتشابه يعتبره أهل الزيغ فرصة لتحقيق مَأْربهم، وهو إبطال الدين بأيِّ وسيلة وبأي طريقة، ويحاولون ممارسة التكبر على كتاب الله. ولهؤلاء نقول: لقد أراد الله أن يكون بعضٌ من سور الكتاب الكريم مُبْتدئةً بحروف تنطق بأسمائها لا بمُسمَّياتها. وقد أرادها الحق سبحانه كذلك ليختبر العقول؛ فكما أطلق سبحانه للعقل البشري التفكير في أمور كثيرة؛ فهناك بعض من الأمور يخيب فيها التفكير، فلا يستطيع العقل إدراك الأشياء التي تفوق حدود عقله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6812 والحق سبحانه وتعالى يصنع للإنسان ابتلاءات في وسائل إدراكه؛ وجعل لكل وسيلة إدراك حدوداً، وشاء أن يأتي بالمتشابه ليختبر الإنسان، ويرى: ماذا يفعل المؤمن؟ وقوله الحق سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم. .} [آل عمران: 7] . قد يُفْهم منه أنه عطف؛ بمعنى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله؛ وبالتالي سيُعلِّمون الناس ما ينتهون إليه من علم بالتأويل. ولكن تأويل الراسخين في العلم هو قولهم: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ... } [آل عمران: 7] . إذن: فنهاية تأويلهم: هو من عند ربنا، وقد آمنا به. وجاء لنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِيَحُل لنا إشكال المُتَشابَه: «ما تشابه منه فآمنوا به» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6813 لأن المتشابه من ابتلاءات الإيمان. والمثل الذي أضربه هنا هو أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لنا أن نستلم الحجر الأسود وأن نُقبِّله، وأن نَرْجُم الحجر الذي يمثل إبليس، وكلاهما حجر، لكننا نمتثل بالإيمان لما أمرنا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وأنت لو أقبلتَ على كل أمر بحُكْم عقلك، وأردتَ أن تعرف الحكمة وراء كل أمر، لَعبدْتَ عقلك، والحق سبحانه يريد أن تُقبِل على الأمور بِحُكْمِه هو سبحانه. وأنت إن قلتَ لواحد: إن الخمر تهري الكبد. ووضعت على كبده جهاز الموجات فوق الصوتية الذي يكشف صورة الكبد، ثم ناولتَ الرجل كأس خمر؛ فرأى ما يفعله كأس الخمر في الكبد، ورَاعَه ذلك؛ فقال: والله لن أشربها أبداً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6814 هل هو يفعل ذلك لأنه مؤمن؟ أم أنه ربط سلوكه بالتجربة؟ لقد ربط سلوكه بالتجربة، وهو يختلف عن المؤمن الذي نفَّذ تعاليم السماء فامتنع عن الخمر لأن الله أمر بذلك، فلا يمكن أن نؤجل تعاليم السماء إلى أن تظهر لنا الحكمة منها. إذن: فعِلَّة المُتَشابه؛ الإيمان به. وقد يكون للمُتَشابه حكمة؛ لكِنَّا لن نُؤجِّل الإيمان حتى نعرف الحكمة. وأقول دائماً: يجب أن يعامل الإنسانُ إيمانَه بربه معاملته لطبيبه، فالمريض يذهب إلى طبيبه ليعرض عليه شكواه من مرض يؤلمه؛ ليصفَ الطبيب له الدواء، كذلك عمل عقلك؛ عليه أن ينتهي عند عتبة إيمانك بالله. ونجد من أقوال أهل المعرفة بالله مَنْ يقول: إن العقل كالمطيَّة، يُوصِّلك إلى باب السلطان، لكنه لا يدخل معك. إذن: فالذي يناقش في عِلَل الأشياء هو مَنْ يرغب في الحديث مع مُسَاوٍ له في الحكمة، وهل يوجد مُسَاوٍ لله؟ طبعا لا، لذلك خُذْ افتتاحيات السور التي جاءت بالحروف المقطعة كما جاءت، واختلافنا على معانيها يؤكد على أنها كَنْز لا ينفذ من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6815 العطاء إلى أن تُحل إنْ شاء الله من الله. ومن العجيب أن آيات القرآن كلها مبنيةٌ على الوَصْل، ففي آخر سورة هود نجد قول الحق سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] . وكان من المفترض أن نقف عليها فننطق كلمة «تعملون» ساكنة النون، لكنها موصولة ب «بسم الله الرحمن الرحيم» ؛ لذلك جاءت النون مفتوحة. وأيضاً ما دامت الآيات مبنية على الوصل، كان من المفروض أن ننطق بدء سورة يوسف «ألفٌ لامٌ رَاءٌ» لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علَّمنَا أن نقرأها «ألفْ لامْ راءْ» وننطقها ساكنة. وهذا دليل على أنها كلمة مبنية على الوقف، ودليل على أن لله سبحانه حكمة في هذا وفي ذاك. ونحن نعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يراجع القرآن مرة كل رمضان مع جبريل عليه السلام وراجعه مرتين في رمضان الذي سبق وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6816 وهكذا وصلنا القرآن كما أنزله الحق سبحانه على رسوله الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهنا يقول الحق: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} [يوسف: 1] . و «تلك» إشارة لما بَعْدَ (الر) ، وهي آيات الكتاب. أي: خذوا منها أن آيات القرآن مُكوَّنة من مثل هذه الحروف، وهذا فَهْم البعض لمعنى: {الر ... } [يوسف: 1] لكنه ليس كل الفهم. مثل: صانع الثياب الذي يضع في واجهة المحل بعضاً من الخيوط التي تم نَسْج القماش منها؛ ليدلنا على دِقَّة الصنعة. فكأنَّ الله سبحانه يُبيِّن لنا أن {الر ... } [يوسف: 1] أسماء لحروف هي من أسماء الحروف التي نتكلم بها، والقرآن تكوَّنت ألفاظه من مثل تلك الحروف، ولكن آيات القرآن معجزة، لا يستطيع البشر ولو عاونهم الجن أن يأتوا بمثله. إذن: فالسُّمو ليس من ناحية الخامة التي تُكوِّن الكلام، ولكن المعجزة أن المتكلم هو الحق سبحانه فلا بد أن يكون كلامه مُعجزاً؛ وإن كان مُكوَّناً من نفس الحروف التي نستخدمها نحن البشر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6817 وهناك معنى آخر: فهذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينطق أسماء الحروف «ألِفْ لام رَاء» ، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأمي بشهادة المعاصرين له بما فيهم خصومه، رغم أن القادر على نُطْق أسماء الحروف لا بُدَّ أن يكون مُتعلِّماً، ذلك أن الأمي ينطق مُسمَّيات الحروف ولا يعرف أسماءها، وفي هذا النطق شهادة بأن مَنْ علَّمه ذلك هو ربه الأعلى. ويقول الحق سبحانه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} [يوسف: 1] . كلمة «الكتاب» عندما تُطلق فمعناها ينصرف إلى القرآن الكريم. ونجد كلمة «المبين» ، أي: الذي يُبيِّن كل شيء تحتاجه حركة الإنسانِ الخليفةِ في الأرض، فإن بانَ لك شيء وظننتَ أن القرآن لم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6818 يتعرَّض له، فلا بد أن تبحث عن مادة أو آية تلفتك إلى ما يبين لك ما غابَ عنك. ويُروى عن الإمام محمد عبده أنه قابل أحد المستشرقين في باريس؛ ووجَّه المستشرق سؤالاً إلى الإمام فقال: مادامتْ هناك آية في القرآن تقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ... } [الأنعام: 38] فَدعْنِي أسألك: كم رغيفاً ينتجه أردبُّ القمح؟ فقال الإمام للمستشرق: انتظر. واستدعى الإمام خبازاً، وسأله: كم رغيفاً يمكن أن نصنعه من أردب القمح؟ فأجاب الخباز على السؤال. هنا قال المستشرق: لقد طلبتُ منك إجابة من القرآن، لا من الخباز. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6819 فردَّ الإمامُ: إذا كان القرآن قد قال: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ... } [الأنعام: 38] فالقرآن قال أيضاً: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . لقد فَطِن الإمام محمد عبده إلى أن العقل البشري أضيق من أن يسع كل المعلومات التي تتطلبها الحياة؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يوزِّع المواهب بين البشر؛ ليصبح كل متفوق في مجال ما، هو من أهل الذكر في مجاله. ونحن على سبيل المثال عندما نتعرض لمسألة ميراث؛ فنحن نلجأ إلى مَنْ تخصص في المواريث، ليدلنا على دقة توزيع أنصبة هذا الميراث. وحين يؤدي المسلم من العامة فريضة الحج، فيكفيه أن يعلم أن الحج فريضة؛ ويبحث عند بَدْء الحج عمَّنْ يُعلِّمه خُطوات الحج كما أدَّاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6820 وهذا سؤال لأهل الذكر، مثلما نستدعي مهندساً ليصمم لنا بيتاً حين نشرع في بناء بيت، بعد أن نمتلك الإمكانات اللازمة لذلك. وهكذا نرى أن علوم الحياة وحركتها أوسع من أن يتسع لها رأس؛ ولذلك وزَّع الله أسباب فضله على عباده، ليتكاملوا تكاملَ الاحتياج، لا تكامل التفضُّل، ويصير كل منهم مُلْتحماً بالآخرين غَصبْاً عنه. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6821 وبالنسبة للقرآن نجد الحق سبحانه يقول: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] . فنسب النزول مرة لجبريل كحامل للقرآن ليبلغ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومرة يقول: {نُزِّلَ ... } [محمد: 2] ، والنزول في هذه الحالة منسوب لله وجبريل والملائكة. أما قول الحق سبحانه: {أُنْزِلَ ... } [البقرة: 91] ، فهو القول الذي يعني أن القرآن قد تعدى كونه مَكْنوناً في اللوح المحفوظ ليباشر مهمته في الوجود ببعث رسول الله صلى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6821 هذا هو معنى الإنزال للقرآن جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل من بعد ذلك نجوماً متفرقة؛ ليعالج كل المسائل التي تعرَّض لها المسلمون. وهكذا يؤول الأمر إلى أن القرآن نزل أو نزل به الروح الأمين. والحق سبحانه يقول: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ. .} [الإسراء: 105] أي: أن الحق سبحانه أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم أنزله مفرقاً ليعالج الأحداث ويباشر مهمته في الوجود الواقعي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6822 وفي هذه الآية يقول سبحانه: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ... } [يوسف: 2] . وفي الآية السابقة قال: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب ... } [يوسف: 1] . فمرَّة يَصِفه بأنه قرآن بمعنى المقروء، ومرَّة يَصِفه بأنه كتاب؛ لأنه مسطور، وهذه من معجزات التسمية. ونحن نعلم أن القرآن حين جُمِع ليكتب؛ كان كاتب القرآن لا يكتب إلا ما يجده مكتوباً، ويشهد عليه اثنان من الحافظين. ونحن نعلم أن الصدور قد تختلف بالأهواء، أما السطور فمُثْبتة لا لَبْسَ فيها. وهو قرآن عربي؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيجاهر بالدعوة في أمة عربية، وكان لابد من وجود معجزة تدل على صدق بلاغه عن الله، وأن تكون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6823 مِمَّا نبغ فيه العرب؛ لأن المعجزة مشروطة بالتحدي، ولا يمكن أن يتحداهم في أمر لا ريادة لهم فيه ولا لهم به صلة؛ حتى لا يقولن أحد: نحن لم نتعلم هذا؛ ولو تعلمناه لجئنا بأفضل منه. وكان العرب أهل بيان وأدب ونبوغ في الفصاحة والشعر، وكانوا يجتمعون في الأسواق، وتتفاخر كل قبيلة بشعرائها وخطبائها المُفوَّهين، وكانت المباريات الآدائية تُقَام، وكانت التحديات تجرى في هذا المجال، ويُنصَب لها الحكام. أي: أن الدُّرْبَة على اللغة كانت صناعة متواترة ومتواردة، محكوم عليها من الناس في الأسواق، فهم أمة بيان وبلاغة وفصاحة. لذلك شاء الحق سبحانه أن يكون القرآن معجزة من جنس ما نبغ فيه العرب، وهم أول قوم نزل فيهم القرآن، وحين يؤمن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6824 هؤلاء لن يكون التحدي بفصاحة الألفاظ ونسق الكلام، بل بالمبادىء التي تطغى على مبادىء الفرس والروم. وهي مبادىء قد نزلت في أمة مبتدِّية ليس لها قانون يجمعها، ولا وطن يضمهم يكون الولاء له، بل كل قبيلة لها قانون، وكلهم بَدْو يرحلون من مكان إلى مكان. وحين نزل فيهم القرآن عَلِم أهل فارس والروم أن تلك الأمة المُبتدِّية قد امتلكتْ ما يبني حضَارة ليس لها مثل من قَبْل، رغم أن النبي أمِيٌّ وأن الأمة التي نزل فيها القرآن كانت أمية. وفارس والروم يعلمون أن الرسول الذي نزل في تلك الأمة تحدَّاهم بما نبغُوا فيه، وما استطاع واحد منهم أن يقوم أمام التحدي، ومن هنا شعروا أنهم أمام تحد حضاري من نوع آخر لم يعرفوه. ويشاء الحق سبحانه أن ينزل القرآن عربياً؛ لأن الحق لم يكن ليرسل رسولاً إلا بلسان قومه، فهو القائل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ... } [إبراهيم: 4] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6825 وأُرسِلَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن، الذي تميَّز عن سائر كتب الرسل الذين سبقوه؛ بأنه كتاب ومعجزة في آنٍ واحد، بينما كانت معجزات الرسل السابقين عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُنْفصلةً عن كُتب الأحكام التي أُنزِلَتْ إليهم. ويظلُّ القرآن معجزة تحمل منهجاً إلى أنْ تقومَ الساعة، ومادام قد آمنَ به الأوائل وانساحوا في العالم، فتحقق بذلك ما وعد به الله أن يكون هذا الكتابُ شاملاً، يجذب كل مَنْ لم يؤمن به إلى الانبهار بما فيه من أحكام. ولذلك حين يبحثون عن أسباب انتشار الإسلام في تلك المدة الوجيزة، يجدون أن الإسلام قد انتشر لا بقوة مَنْ آمنوا به؛ بل بقوة مَنْ انجذبوا إليه مَشْدُوهِين بما فيه من نُظُمٍ تُخلِّصهم من متاعبهم. ففي القرآن قوانين تُسعِد الإنسانَ حقاً، وفيه من الاستنباءات بما سوف يحدث في الكون؛ ما يجعل المؤمنين به يذكرون بالخشوع أن الكتاب الذي أنزله الله على رسولهم لم يفرط في شيء. وإذا قال قائل من المستشرقين: كيف تقولون: إن القرآن قد نزل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6826 بلسان عربي مبين؛ رغم وجود ألفاظ أجنبية مثل كلمة «آمين» التي تُؤمِّنُون بها على دعاء الإمام؛ كما توجد ألفاظ رومية، وأخرى فارسية؟ وهؤلاء المستشرقون لم يلتفتوا إلى أن العربي استقبل ألفاظاً مختلفة من أمم متعددة نتيجة اختلاطه بتلك الأمم، ثم دارتْ هذه الألفاظ على لسانه، وصارت تلك الألفاظ عربية، ونحن في عصورنا الحديثة نقوم بتعريب الألفاظ، وندخل في لغتنا أيَّ لفظ نستعمله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6827 ويدور على ألسنتنا، ما دُمْنا نفهم المقصود به. ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] . ليستنهض همة العقل، ليفكر في الأمر، والمُنْصف بالحق يُهِمه أن يستقبل الناس ما يعرضه عليهم بالعقل، عكس المدلس الذي يهمه أن يستر العقل جانباً؛ لينفُذَ من وراء العقل. وفي حياتنا اليومية حين ينبهك التاجر لسلعة ما، ويستعرض معك مَتَانتها ومحاسنها؛ فهو يفعل ذلك كدليل على أنه واثق من جودة بضاعته. أما لو كانت الصَّنْعة غير جيدة، فهو لن يدعوك للتفكير بعقلك؛ لأنك حين تتدبر بعقلكَ الأمر تكتشف المُدلس وغير المُدلس؛ لذلك فهو يدلس عليك، ويُعمِّي عليك، ولا يدع لك فرصة للتفكير. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6828 ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6829 حين يتحدث الحق سبحانه عن فعل من أفعاله؛ ويأتي بضمير الجمع؛ فسبب ذلك أن كل فعل من أفعاله يتطلب وجودَ صفات متعددة؛ يتطلب: علماً؛ حكمة؛ قدرة؛ إمكانات. ومَنْ غيره سبحانه له كل الصفات التي تفعل ما تشاء وقْتَ أن تشاء؟ لا أحد سواه قادر على ذلك؛ لأنه سبحانه وحده صاحب الصفات التي تقوم بكل مطلوب في الحياة ومُقدَّر. لكن حين يتكلم سبحانه عن الذات؛ فهو يؤكد التوحيد فلا تأتي بصيغة الجمع، يقول تعالى: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6829 وَأَقِمِ الصلاة لذكري} [طه: 14] . وهنا يتكلم سبحانه بأسلوب يعبر عن أفعال لا يَقْدر عليها غيره؛ بالدقة التي شاءها هو سبحانه فيقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص ... } [يوسف: 3] . وحدد سبحانه أنه هو الذي يقصُّ، وإذا وُجِد فعل لله؛ فنحن نأخذ الفعل بذاته وخصوصه؛ ولا نحاول أن نشتق منه اسماً نطلقه على الله؛ إلا إذا كان الفعل له صفة من صفاته التي عَلِمْناها في أسمائه الحسنى؛ لأنه الذات الأقدس. وفي كل ما يتعلق به ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً إنما نلتزم الأدب؛ لأننا لا نعرف شيئا عن ذات الله إلا ما أخبرنا الله عن نفسه، لذلك لا يصح أن نقول عن الله أنه قصَّاص، بل نأخذ الفعل كما أخبرنا به، ولا نشتق منه اسماً لله؛ لأنه لم يصف نفسه في أسمائه الحسنى بذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6830 والواجب أن ما أطلقه سبحانه اسماً نأخذه اسماً، وما أطلقه فعلاً نأخذه فعلاً. وهنا يقول سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص ... .} [يوسف: 3] . ونعلم أن كلمة «قص» تعني الإتباع، وقال بعض العلماء: إن القصة تُسمَّى كذلك لأن كل كلمة تتبع كلمة، ومأخوذة من قَصَّ الأثر، وهو تتبع أثر السائر على الأرض، حتى يعرف الإنسان مصير مَنْ يتتبعه ولا ينحرف بعيداً عن الاتجاه الذي سار فيه مَنْ يبحث عنه. واقرأ قول الحق سبحانه: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [القصص: 11] . و {قُصِّيهِ ... } [القصص: 11] أي: تتبعي أثره. إذن: فالقَصُّ ليس هو الكلمة التي تتبع كلمة، إنما القَصُّ هو تتبُّع ما حدث بالفعل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6831 ويعطينا الحق سبحانه مثلاً من قصة موسى عليه السلام مع فتاه: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 6364] ، أي: تَابَعا الخطوات. وهكذا نعلم أن القص هو تتبُّع ما حدث بالفعل، فتكون كل كلمة مُصوِّرة لواقع، لا لَبْسَ فيه أو خيال؛ ولا تزيُّد، وليس كما يحدث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6832 في القصص الفنيِّ الحديث؛ حيث يضيف القصَّاص لقطاتِ خيالية من أجل الحَبْكة الفنية والإثارة وجَذْب الانتباه. أما قصص القرآن فوضْعُه مختلف تماماً، فكلُّ قَصص القرآن إنما يتتبع ما حدث فعلاً؛ لنأخذ منها العبرة؛ لأن القصة نوع من التاريخ. والقصة في القرآن مرةً تكون للحدث، ومرَّة تكون لتثبيت فؤاد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم تَأْتِ قصة رسول في القرآن كاملة، إلا قصة يوسف عليه السلام. أما بقية الرسل فقَصَصهم جاءت لقطات في مناسبات لتثبيت فؤاد الرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتأتي لقطة من حياة رسول، ولقطة من حياة رسول آخر، وهكذا. ولا يقولن أحد: إن القرآن لم يستطع أن يأتي بقصة كاملة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6833 مستوفية؛ فقد شاء الحق سبحانه أن يأتي بقصة يوسف من أولها إلى آخرها، مُسْتوفية، ففيها الحدث الذي دارتْ حوله أشخاصٌ، وفيها شخصٌ دارتْ حوله الأحداث. فقصة يوسف عليه السلام في القرآن لا تتميز بالحَبْكة فقط؛ بل جمعتْ نَوعَيْ القصة، بالحدث الذي تدور حوله الشخصيات، وبالشخص الذي تدور حوله الأحداث. جاءتْ قصة يوسف بيوسف، وما مَرَّ عليه من أحداث؛ بَدْءً من الرُّؤيا، ومروراً بحقد الأخوة وكيدهم، ثم محاولة الغواية له من امرأة العزيز، ثم السجن، ثم القدرة على تأويل الأحلام، ثم تولَّي السلطة، ولقاء الأخوة والإحسان إليهم، وأخيراً لقاء الأب من جديد. إذن: فقول الحق سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص ... } [يوسف: 3] . يبيّن لنا أن الحُسْن أتى لها من أن الكتب السابقة تحدثت عن قصة يوسف، لكن أحبار اليهود حين قرأوا القصة كما جاءتْ بالقرآن ترك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6834 بعضهم كتابه، واعتمد على القرآن في روايتها، فالقصة أحداثها واحدة، إلا صياغة الأداء؛ وتلمُّسات المواجيد النفسية؛ وإبراز المواقف المطْويَّة في النفس البشرية؛ وتحقيق الرُّؤى الغيبية كُلُّ ذلك جاء في حَبْكة ذات أداء بياني مُعْجز جعلها أحسنَ القَصَص. أو: هي أحسن القصص بما اشتملتْ عليه من عِبَر متعددة، عِبَر في الطفولة في مواجهة الشيخوخة، والحقد الحاسد بين الأخوة، والتمرد، وإلقائه في الجبِّ والكيد له، ووضعه سجيناً بظلم، وموقف يوسف عليه السلام من الافتراء الكاذب، والاعتزاز بالحق حتى تمَّ له النصر والتمكين. وكيف ألقى الله على يوسف عليه السلام محبَّة منه؛ ليجعل كل مَنْ يلتقي به يحب خدمته. وكيف صانَ يوسف إرثَ النبوة، بما فيها من سماحة وقدرة على العفو عند المقدرة؛ فعفَا عن إخوته بما روتْه السورة: {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 92] . وقالها سيد البشر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأهله يوم فتح مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6835 وهكذا تمتليء سورة يوسف بِعِبَر متناهية، يتجلَّى بعضٌ منها في قضية دخوله السجنَ مظلوماً، ثم يأتيه العفو والحكم؛ لذلك فهي أحسنُ القَصص؛ إما لأنها جمعتْ حادثة ومَنْ دار حولها من أشخاص، أو جاء بالشخص وما دار حوله من أحداث. أو: أنها أحسنُ القصص في أنها أدّتْ المُتَّحد والمتفق عليه في كل الكتب السابقة، وجاء على لسان محمد الأمي، الذي لا خبرة له بتلك الكتب؛ لكن جاء عَرْضُ الموضوع بأسلوب جذَّاب مُسْتمِيل مُقْنع مُمْتع. أو: أنها أحسن القصص؛ لأن سورة يوسف هي السورة التي شملت لقطاتٍ متعددةٍ تساير: العمر الزمني؛ والعمر العقلي؛ والعمر العاطفي للإنسان في كل أطواره؛ ضعيفاً؛ مغلوباً على أمره؛ وقوياً مسيطراً، مُمكَّناً من كل شيء. بينما نجد أنباء الرسل السابقين جاءت كلقطات مُوزَّعة كآيات ضمن سُور أخرى؛ وكل آية جاءت في موقعها المناسب لها. إذن: فالحُسْن البالغ قد جاء من أسلوب القرآن المعجز الذي لا يستطيع واحد من البشر أن يأتي بمثله. يقول الحق سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] . والمقصود بالغفلة هنا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أُمِّياً، ولم يعرف عنه أحدٌ قبل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6836 نزول القرآن أنه خطيب أو شاعر، وكل ما عُرِف عنه فقط هو الصفات الخُلقية العالية من صدق وأمانة؛ وهي صفات مطلوبة في المُبلّغ عن الله؛ فما دام لم يكذب من قبل على بشر فكيف يكذب وهو يُبلِّغ عن السماء رسالتها لأهل الأرض؟ إن الكذب أمر مُسْتبعد تماماً في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل البعثة وبعدها. والمثال على تصديق الغير لرسول الله هو تصديق أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه له حين أبلغه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الوحي قد نزل عليه، لم يَقُلْ له أكثر من أنه رسول من عند الله، فقال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: صدقْتَ. وحين حدثتْ رحلة الإسراء؛ وكذَّبها البعض متسائلين: كيف نضرب إليها أكباد الإبل شهراً ويقول محمد إنه قطعها في ليلة؟ فسألهم أبو بكر: أقال ذلك؟ قالوا: نعم. فقال أبو بكر: ما دام قد قال فقد صدق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6837 وهكذا نجد أن حيثية الصِّدْق قبل الرسالة هي التي دَلَّتْ على صدقه حين أبلغ بما نزل عليه من وحي. مثال ذلك: تصديق خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأرضاها له؛ حين أبلغها بنزول الوحي، فقالت له: «والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتَصِلُ الرَّحِم، وتحمل الكَلَّ، وتُكسِب المَعْدُوم، وتَقْري الضَّيف، وتعين على نوائب الحق» . وكان في صدق بصيرتها، وعميق حساسية فطرتها أسبابٌ تؤيد تصديقها له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نبوته. وحين وقعت بعض الأمور التي لا تتفق مع منطق المقدمات والنتائج، والأسباب والمسببات؛ كانت بعض العقول المعاصرة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6838 لرسول الله تقف متسائلة: كيف؟ فيوضح لهم أبو بكر: «انتبهوا إنه رسول الله» . مثال هذا: ما حدث في صلح الحديبية، حين يقول عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه متسائلاً ويكاد أن يكون رافضاً لشروط هذا الصلح: ألسْنا على الحق؟ عَلام نعطي الدَّنية في ديننا؟ ويرد عليه أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: استمسك بِغَرْزِه يا عمر، إنه رسول الله. أي: انتبه واعلم أنك تتكلم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وليس في ذلك انصياعٌ أعمى؛ بل هي طاعة عن بصيرة مؤمنة. والحق سبحانه يقول هنا: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] . والغافل: هو الذي لا يعلم لا عن جهل، أو قصور عقل ولكن لأن ما غفل عنه هو أمر لا يشغل باله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6839 أو: أن يكون المقصود بقوله: {لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] . أي: أنك يا محمد لم تكن ممَّنْ يعرفون قصة يوسف؛ لأنك لم تتعلم القراءة فتقرأها من كتاب، ولم تجلس إلى مُعلِّم يروي لك تلك القصة، ولم تجمع بعضاً من أطراف القصة من هنا أو هناك. بل أنت لم تَتَلقَّ الوحي بها إلا بعد أن قال بعض من أهل الكتاب لبعض من أهل مكة: اسألوه عن أبناء يعقوب وأخوة يوسف؛ لماذا خرجوا من الشام وذهبوا إلى مصر؟ وكان ضَرْباً من الإعجاز أن ينزل إليك يا رسول الله هذا البيان العالي بكل تفاصيل القصة، كدليل عمليٍّ على أن مُعلِّم محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الله، وأنه سبحانه هو مَنْ أَوحى بها إليه. والوَحْي كما نعلم هو الإعلام بخفاء، وسبحانه يوحي للملائكة فيقول: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ ... } [الأنفال: 12] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6840 وسبحانه يوحي إلى مَنْ يصطفي من البشر إلى صفوتهم؛ مصداقاً لقوله سبحانه: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] . ويقذف الحق سبحانه بالإلهام وحياً لا يستطيع الإنسان دَفْعاً له، مثل الوحي لأم موسى بأن تلقي طفلها الرضيع موسى في اليَمِّ: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 38 - 39] . ويوحي سبحانه إلى الأرض وهي الجماد، مثل قوله الحق: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6841 وأوحى سبحانه إلى النحل، فقال الحق: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} [النحل: 68 - 69] . والحق سبحانه يوحي لمن شاء بما شاء، فالكل؛ جماد ونبات وحيوان وإنسان؛ من خَلْقه، وهو سبحانه يخاطبهم بِسِرِّ خلقه لهم، واختلاف وسائل استيعابهم لذلك. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6842 وهكذا تبدأ قصة يوسف، حين يقول لأبيه يعقوب عليهما السلام «يا أبت» ، وأصل الكلمة «يا أبي» ، ونجد في اللغة العربية كلمات «أبي» و «أبتِ» و «أبتَاهُ» و «أَبَة» وكلها تؤدي معنى الأبوة، وإن كان لكل منها مَلْحظ لغوي. ويستمر يوسف في قوله: {ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] . وكلنا رأينا الشمس والقمر؛ كُلٌّ في وقت ظهوره؛ لكن حلُم يوسف يُبيِّن أنه رآهما معاً، وكلنا رأينا الكواكب متناثرة في السماء آلافاً لا حَصْرَ لها، فكيف يرى يوسف أحد عشر كوكباً فقط؟ لا بُدَّ أنهم اتصفوا بصفات خاصة ميَّزتهم عن غيرهم من الكواكب الأخرى؛ وأنه قام بعدِّهِم. ورؤيا يوسف عليه السلام تبيِّن أنه رآهم شمساً وقمراً وأحد عشر كوكباً؛ ثم رآهم بعد ذلك ساجدين. وهذا يعني أنه رآهم أولاً بصفاتهم التي نرى بها الشمس والقمر والنجوم بدون سجود؛ ثم رآهم وهم ساجدون له؛ بملامح الخضوع لأمر من الله، ولذلك تكررت كلمة «رأيت» وهو ليس تكراراً، بل لإيضاح الأمر. ونجد أن كلمة: {سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وهي جمع مذكر سالم؛ ولا يُجمع جَمْع المذكر السالم إلا إذا كان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6843 المفرد عاقلاً، والعقل يتميز بقدرة الاختيار بين البدائل؛ والعاقل المؤمن هو مَنْ يجعل اختياراته في الدنيا في إطار منهج الدين، وأسْمَى ما في الخضوع للدين هو السجود لله. ومَنْ سجدوا ليوسف إنما سجدوا بأمر من الله، فَهُم إذن يعقلون أمر الحق سبحانه وتعالى. مثلهم في ذلك مَثَلْ ما جاء في قول الحق سبحانه: {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1 - 2] هذه السماء تعقل أمر ربها الذي بناها. وقال عنها أنها بلا فُرُوجٍ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6844 {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [ق: 6] وهي أيضاً تسمع أمر ربها، مصداقاً لقوله سبحانه: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2] . أي: أنها امتلكت حاسة السمع؛ لأن «أذنت» من الأذن؛ وكأنها بمجرد سماعها لأمر الله؛ تنفعل وتنشق. وهكذا نجد أن كل عَالَم من عوالم الكون أُمَم مثل أمة البشر، ويتفاهم الإنسان مع غيره من البشر ممَّن يشتركون معه في اللغة، وقد يتفاهم مع البشر أمثاله ممن لا يعرف لغتهم بالإشارة، أو من خلال مُترجم، أو من خلال تعلُّم اللغة نفسها. ولكن الإنسان لا يفهم لغة الجماد، أو لغة النبات، أو لغة الحيوان؛ إلا إذا أنعم الله على عبد بأن يفهم عن الجماد، أو أن يفهم الجماد عنه. والمثل: هو تسبيح الجبال مع داود، ويُشكِّل تسبيحه مع تسبيحها «جُوقة» من الانسجام مُكَوَّن من إنسان مُسبِّح؛ هو أعلى الكائنات، والمُردِّد للتسبيح هي الجبال، وهي من الجماد أدنى الكائنات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6845 ونحن نعلم أن كل الكائنات تُسبِّح، لكننا لا نفقه تسبيحها، ولكن الحق سبحانه يختار من عباده مَنْ يُعلِّمه مَنْطِق الكائنات الأخرى، مثلما قال سبحانه عن سليمان: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير. .} [النمل: 16] وهكذا عَلِمْنا أن للطير منطقاً. وعلَّم الحقُّ سبحانه سليمان لغة النمل؛ لأننا نقرأ قول الحق: {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 18 - 19] . إذن: فلكُلِّ أُمَّة من الكائنات لغة، وهي تفهم عن خالقها، أو مَنْ أراد له الله سبحانه وتعالى أن يفهم عنها، وبهذا نعلم أن الشمس والقمر والنجوم حين سجدتْ بأمر ربها ليوسف في رؤياه؛ إنما فهمتْ عن أمر ربها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6846 ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ يابني ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6847 وحين يُورِد القرآن خطاب أب لابن لا نجد قوله {يابني} وهو خطابُ تحنينٍ، ويدل على القرب من القلب، و «بُني» تصغير «ابن» . أما حين يأتي القرآن بحديث أب عن ابنه فهو يقول «ابني» مثل قول الحق سبحانه عن نوح يتحدث عن ابنه الذي اختار الكفر على الإيمان: {إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي ... } [هود: 45] . وكلمة «يا بني» بما فيها من حنان وعطف؛ ستفيدنا كثيراً فيما سوف يأتي من مواقف يوسف؛ ومواقف أبيه منه. وقول يعقوب ليوسف «يا بني» يُفْهم منه أن يوسف عليه السلام ما زال صغيراً، فيعقوب هو الأصل، ويوسف هو الفرع، والأصل دائماً يمتلئ بالحنان على الفرع، وفي نفس الوقت نجد أيَّ أب يقول: مَنْ يأكل لقمتي عليه أن يسمع كلمتي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6847 وقول الأب: يا بني، يفهم منه أن الابن ما زال صغيراً، ليست له ذاتية منفصلة عن الأب ليقرر بها ما هو المناسب، وما هو غير المناسب. وحين يفزع يوسف مما يُزعِجه أو يُسيء إليه؛ أو أي أمر مُعْضَل؛ فهو يلجأ إلى مَنْ يحبه؛ وهو الأب؛ لأن الأب هو الأقدر في نظر الابن - على مواجهة الأمور الصعبة. وحين روى يوسف عليه السلام الرؤيا لأبيه؛ قال يعقوب عليه السلام: {قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5] . ونفهم من كلمة «رؤيا» أنها رؤيا منامية؛ لأن الشمس والقمر والنجوم لا يسجدون لأحد، وهذا ما يوضح لنا دقة اللغة العربية، فكلمة واحدة هي «رأى» قد يختلف المعنى لها باختلاف ما رُؤيَ؛ فرؤيتك وأنت يقظانُ يُقال عنها «رؤية» ؛ ورؤيتك وأنت نائم يُقال عنها «رؤيا» . والرؤية مصدر مُتفق عليه من الجميع: فأنت ترى ما يراه غيرك؛ وأما «الرؤيا» فهي تأتي للنائم. وهكذا نجد الالتقاء في «رأى» والاختلاف في الحالة؛ هل هي حالة النوم أو حالة اليقظة. وفي الإعراب كلاهما مؤنث؛ لأن علامة التأنيث إما: « الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6848 تاء» ، أو «ألف ممدودة» ، أو «ألف مقصورة» . وأخذت الرؤية الحقيقية التي تحدث في اليقظة «التاء» وهي عمدة التأنيث؛ أما الرؤيا المنامية فقد أخذت ألف التأنيث. ولا يقدح في كلمة «رؤيا» أنها منامية إلا آية واحدة في القرآن حيث تحدث الحق سبحانه عن لحظة أن عُرِجَ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فقال: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} [الإسراء: 60] . ولكن من يقولون: «إنها رؤيا منامية» لم يفقهوا المعنى وراء هذا القول؛ فالمعنى هو: إن ما حدث شيء عجيب لا يحدث إلا في الأحلام، ولكنه حدث في الواقع؛ بدليل أنه قال عنها: أنها «فتنة للناس» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6849 فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو كان قد قال إنها رؤيا منامية لما كذَّبه أحد فيما قال: لكنه أعلن أنها رؤيا حقيقية؛ لذلك عَبّر عنها القرآن بأنها فتنة للناس. وهنا يقول يعقوب عليه السلام: {قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ. .} [يوسف: 5] . لأن يعقوب عليه السلام كأب مأمونٌ على ابنه يوسف؛ أما إخوة يوسف فهم غير مأمونين عليه، وحين يقصُّ يوسف رؤياه على أبيه، فهو سينظر إلى الصالح ليوسف ويدلُّه عليه. أما إن قصَّ الرؤيا على إخوته؛ فقد تجعلهم الأغيار البشرية يحسدون أخاهم، وقد كان. وإن تساءل أحد: ولماذا يحسدونه على رؤيا منامية، رأى فيها الشمس والقمر وأحدَ عشرَ كوكباً يسجدون له؟ نقول: لا بُدَّ أن يعقوب عليه السلام قد عَلِم تأويل الرُّؤيا: وأنها نبوءة لأحداث سوف تقع؛ ولا بُدَّ أن يعقوب عليه السلام قد علم أيضاً قدرة إخوة يوسف على تأويل تلك الرؤيا، ولو قالها يوسف لهم لَفهِموا المقصود منها، ولا بُدَّ حينئذ أن يكيدوا له كيداً يُصيبه بمكروه. فهم قد أصابهم الضيق من يوسف وهو ما زال طفلاً، فما باله بضيقهم إنْ عَلِموا مثل هذه الرؤيا التي سيجد له فيها الأب والأم مع الإخوة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6850 ولا يعني ذلك أن نعتبر إخوة يوسف من الأشرار؛ فهم الأسباط؛ وما يصيبهم من ضيق بسبب عُلُو عاطفة الأب تجاه يوسف هو من الأغيار التي تصيب البشر، فهم ليسوا أشراراً بالسَّليقة؛ لأن الشرير بالسَّليقة تتصاعد لديه حوادثُ السوء، أما الخيِّر فتتنزَّل عنده حوادث السوء. والمثال على ذلك: أنك قد تجد الشرير يرغب في أن يصفع إنساناً آخر صفعة على الخَدِّ؛ ولكنه بعد قليل يفكر في تصعيد العدوان على ذلك الإنسان، فيفكر أن يصفعه صفعتين بدلاً من صفعة واحدة؛ ثم يرى أن الصفعتين لا تكفيان؛ فيرغب أن يُزيد العدوان بأن يصوِّب عليه مسدساً؛ وهكذا يُصعِّد الشرير تفكيره الإجرامي. أما الخَيِّر فهو قد يفكر في ضرب إنسان أساء إليه «علقة» ؛ ولكنه يُقلِّل من التفكير في رَدِّ الاعتداء بأن يكتفي بالتفكير في ضربة صفعتين بدلاً من «العلقة» ، ثم يهدأ قليلاً ويعفو عَمَّنْ أساء إليه. وإخوة يوسف وهم الأسباط بدءوا في التفكير بانتقام كبير من يوسف، فقالوا لبعضهم: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6851 {اقتلوا يُوسُفَ ... } [يوسف: 9] . ثم هبطوا عن هذه الدرجة المُؤْلمة من تعبيرهم عن الغيرة من زيادةِ محبة أبيهم ليوسف، فقالوا: {أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] . وحينما أرادوا أن يطرحوه أرضاً ترددوا؛ واستبدلوا ذلك بإلقائه في الجُبِّ لعل أن يلتقطه بعض السيَّارة. فقالوا: {وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة ... } [يوسف: 10] . وهذا يدل على أنهم تنزَّلوا عن الانتقام الشديد بسبب الغيرة؛ بل إنهم فكروا في نجاته. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6852 {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ... } [يوسف: 5] . والكيد: احتيال مستور لمَنْ لا تقوى على مُجَابهته، ولا يكيد إلا الضعيف؛ لأن القوي يقدر على المواجهة. ولذلك يُقَال: إن كيد النساء عظيم؛ لأن ضعفهن أعظم. ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف: 5] . وهذه العداوة معروفة لنا تماماً؛ لأنه خرج من الجنة ملعوناً مطروداً؛ عكس آدم الذي قَبِل الله توبته؛ وقد أقسم الشيطان بعزة الله لَيُغْوِينَّ الكُلَّ، واستثنى عبادَ اللهِ المخلصين. ولذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لقد أعانني الله على شيطاني فأسلم» . ويصف الحق سبحانه عداوة الشيطان للإنسان أنها عداوةٌ مُبينة. أي: محيطة. وحين نقرأ القرآن نجد إحاطة الشيطان للإنسان فيها يقظة: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ... } [الأعراف: 17] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6853 ولم يأت ذِكْر للمجيء من الفوقية أو من التحتية؛ لأن مَنْ يحيا في عبودية تَحتية؛ وعبادية فوقية؛ لا يأتيه الشيطان أبداً. ونلحظ أن الحق سبحانه جاء بقول يعقوب عليه السلام مخاطباً يوسف عليه السلام في هذه الآية: {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً} [يوسف: 5] ، ولم يقل: فيكيدوك، وهذا من نَضْح نبوة يعقوب عليه السلام على لسانه؛ لأن هناك فارقاً بين العبارتين، فقول: «يكيدوك» يعني أن الشرَّ المستور الذي يدبرونه ضدك سوف يصيبك بأذى. أما {فَيَكِيدُواْ لَكَ ... } [يوسف: 5] فتعني أن كيدهم الذي أرادوا به إلحاق الشر بك سيكون لحسابك، ويأتي بالخير لك. ولذلك نجد قوله الحق في موقع آخر بنفس السورة: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ ... } [يوسف: 76] أي: كدنا لصالحه. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6854 {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6855 أي: كما آنسَك الله بهذه الرؤيا المُفْرحة المُنْبِئة بأنه سيكون لك شأن كبير بالنسبة لإخوتك وبالنسبة لأبيك، فلسوف يجتبيك ربك؛ لا بأن يحفظك فقط؛ ولكن بأن يجعل كيدهم سبباً لصالحك، ويُعلِّمك من تأويل الأحاديث ما يجعل أصحابَ الجاهِ والنفوذ يلتفتون إليك. ومعنى تأويل الشيء أي معرفة ما يؤول إليه الشيء، ونعلم أن الرُّؤى تأتي كطلاسم، ولها شَفرة رمزية لا يقوم بِحلِّها إلا مَنْ وهبه الله قدرة على ذلك؛ فهي ليست عِلْماً له قواعد وأصول؛ لأنها إلهامات من الله سبحانه وتعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6855 وبعد ذلك تصير يا يوسف على خزائن الأرض؛ حين يُوجد الجَدْبُ، ويعُمُّ المنطقة كلها، وتصبح عزيز مصر. ويتابع الحق سبحانه: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ... } [يوسف: 6] . فكل ما تَمَتَّع به يوسف هو من نعم الدنيا، وتاج نعمة الدنيا أن الله اجتباه رسولاً. أو أن: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ... } [يوسف: 6] . بمعنى إلا تسلب منك النعمة أبداً؛ ففي حياة يوسف منصبٌ مهم، هو منصب عزيز مصر، والمناصب من الأغيار التي يمكن أن تنزع. أو أن: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ... } [يوسف: 6] . بأن يصل نعيم دنياك بنعيم أُخْراك. ويتابع الحق سبحانه: {وعلى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6] . يُذكِّر الحق سبحانه يوسف عليه السلام بأن كيد إخوته له لا يجب أن يُحوِّله إلى عداوة؛ لأن النِّعم ستتم أيضاً على هؤلاء فهم آلُ يعقوب؛ هم وأبناؤهم حَفَدة يعقوب، وسينالهم بعضٌ من عِزِّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6856 يوسف وجاهه وماله، كما أتمَّها من قبل على إبراهيم الجد الأول ليوسف باتخاذه خليلا لله، وأتمَّ سبحانه نعمته على إسحق بالنبوة. وهو سبحانه أعلمُ بمَنْ يستحق حمْل الرسالة، وهو الحكيم الذي لا يترك شيئاً للعبث؛ فهو المُقدِّر لكل أمر بحيث يكون مُوافِقاً للصواب. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6857 أي: أن يوسف صار ظَرْفاً للأحداث، لأن «في» تدل على الظرفية، ومعنى الظرفية أن هناك شيئاً يُظْرف فيه شيء آخر، فكأن يوسف صار ظَرْفاً ستدور حوله الأحداث بالأشخاص المشاركين فيها. و «يوسف» اسم أعجمي؛ لذلك فهو «ممنوع من الصرف» أي: ممنوع من التنوين فلا نقول: في يوسفٍ. و {يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] وهذا يعني أن ما حدث إنما يُلفِت لقدرة الله سبحانه؛ فقد أُلقِيَ في الجُبِّ وأُنقِذ ليتربى في أرقى بيوت مصر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6857 ونعلم أن كلمة آية تطلق على الأمر العجيب الملفت للنظر، وهي تَرِد بالقرآن بثلاثة معانٍ: آية كونية: مثل الشمس والقمر والليل والنهار، تلك الآيات الكونية رصيد للنظر في الإيمان بواجب الوجود وهو الله سبحانه؛ فساعة ترى الكون منتظماً بتلك الدقة المتناهية؛ لا بُدًَّ أن تفكر في ضرورة وجود خالق لهذا الكون. والآيات العجيبة الثانية هي المعجزات الخارقة للنواميس التي يأتي بها الرسل؛ لتدل على صدق بلاغهم عن الله، مثل النار التي صارت بَرْداً وسلاماً على إبراهيم، ومثل الماء الذي انفلق وصار كالطور العظيم أمام عصا موسى. وهناك المعنى الثالث لكلمة آية، والمقصود بها آيات القرآن الكريم. وفي قول الحق سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6858 نستشف العبرة من كل ما حدث ليوسف الذي كَادَ له إخوته ليتخلصوا منه؛ لكن كَيْدهم انقلب لصالح يوسف. وفي كل ذلك سَلْوى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لتثبيت فؤاده؛ فلا يُعِير بالاً لاضطهاد قومه له، وتآمرهم عليه، ورغبتهم في نَفْيه إلى الشام، ومحاولتهم قَتْله، ومحاولتهم مُقاطعته، وقد صاروا من بعد ذلك يعيشون في ظلال كَنفِه. إذن: فلا تيأس يا محمد؛ لأن الله ناصرك بإذنه وقدرته، ولا تستبطئ نصر الله، أنت ومَنْ معك، كما جاء في القرآن. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [البقرة: 214] . ويبين لنا الحق سبحانه ما حدث ليوسف بعد القهر الذي أصابه من إخوته، ويمر الوقت إلى أن تتحقق رؤيا الخير التي رآها يوسف عليه السلام. ويُقال: إن رؤيا يوسف تحققت في فترة زمنية تتراوح بين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6859 أربعين سنة وثمانين عاماً. ولذلك نجد رُؤْيَا الخير يطول أَمَدُ تصديقها؛ ورُؤْيَا الشر تكون سريعة؛ لأن من رحمة الله أن يجعل رؤيا الشر يقع واقعاً وينتهي، لأنها لو ظلَّتْ دون وقوع لأمد طويل؛ لوقع الإنسان فريسةَ تخيُّل الشر بكُلِّ صوره. والشر لا يأتي إلا على صورة واحدة، ولكن الخير له صور متعددة؛ فيجعلك الله مُتخيلاً لما سوف يأتيك من الخير بألوان وتآويل شتى. والمثل لدعوة الشر هو دعوة موسى على آل فرعون؛ حين قال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6860 ويقول الحق سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] فكل يوم من أيام تلك القصة هناك آية وتُجمع آيات. وهناك قراءة أخرى: «لقد كان في يوسف وإخوته آية للسائلين» أي: أن كل القصة بكل تفاصيلها وأحداثها آية عجيبة. والحق سبحانه أعطانا في القرآن مثلاً على جَمْع الأكثر من آية في آية واحدة، مثلما قال: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] مع أن كلاً منهما آية منفردة. ولك أن تنظر إلى قصة يوسف كلها على أنها آية عجيبة تشمل كل اللقطات، أو تنظر إلى كل لقطة على أنها آية بمفردها. ويقول الحق سبحانه في آخر هذه الآية أن القصة: {آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] . والسائلون هنا إما من المشركين الذين حرَّضهم اليهود على أنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6861 يسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن مسألة يوسف، وإما من المسلمين الذين يطلبون العِبَر من الأمم السابقة، وجاء الوَحْيُ لينزل على الرسول الأميِّ بتلك السورة بالأداء الرفيع المُعْجِز الذي لا يَقْوَى عليه بشر. وأنت حين تقرأ السورة؛ قد تأخذ من الوقت عشرين دقيقة، هاتْ أنت أيَّ إنسان ليتكلم ثُلث ساعة، ويظل حافظاً لما قاله؛ لن تجد أحداً يفعل ذلك؛ لكن الحق سبحانه قال لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] . ولذلك نجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحفظ ما أُنزل إليه من ربه، ويُمليه على صحابته ويصلي بهم؛ ويقرأ في الصلاة ما أُنزِل عليه، ورغم أن في القرآن آياتٍ متشابهات؛ إلا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يخطئ مرة أثناء قراءته للقرآن. والأمثلة كثيرة منها قوله الحق: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] . ومرة أخرى يقول: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] وكذلك قول الحق سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6862 {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45] . وفي موقع آخر يقول الحق: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور: 17] . فكيف يتأتَّى لبشر أمي أن يتذكر كل ذلك، لولا أن الذي أنزل عليه الوحي قد شاء له ذلك. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6863 ولا بُدَّ لنا هنا أن ننظر إلى الأخوة بنوعياتها؛ فقد تكون الأخوة من ناحية الأبوين معاً؛ وقد تكون من ناحية الأب دون الأم، أو من ناحية الأم دون الأب، وكان عدد أبناء يعقوب عليه السلام اثنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6863 عشر: سبعة من واحدة؛ وأربعة من اثنتين: زلفى وبلهه؛ واثنين من راحيل هما: يوسف، وأخوه بنيامين. وتبدأ الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {ذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا. .} [يوسف: 8] . وحرف اللام الذي سبق اسم يوسف جاء للتوكيد، وكأنهم قالوا: والله إن أبانا يحب يوسف وأخاه أكثر من حُبِّه لنا. والتوكيد لا يأتي إلا بصدد إنكار. وهذا يدل على أنهم مختلفون في أمر يوسف عليه السلام؛ فأحدهم يريد أن ينتقم من يوسف، وآخر يقترح تخفيف المسألة بإلقائه في الجب؛ ثم انتهوا إلى أن يوسف أحبُّ إلى أبيهم منهم. وفي قولهم لَمْحة من إنصاف؛ فقد أثبتوا حب أبيهم لهم؛ ولكن قولهم به بعضٌ من غفلة البشر؛ لأنهم كان يجب أن يلتمسوا سبب زيادة حُبِّ أبيهم ليوسف وأخيه. فيوسف وأخوه كانوا صِغَاراً وماتت أمهما؛ ولم يَعُدْ لهم إلا الأب الذي أحسَّ بضرورة أن يَجتمع فيه تجاههما حنانُ الأب وحنانُ الأم؛ ولأنهما صغارٌ نجد الأب يحنُو عليهما بما أودعه الله في قلبه من قدرة على الرعاية. وهذا أمر لا دَخْل ليعقوب فيه؛ بل هي مسألة إلهية أودعها الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6864 في القلوب بدون اختيار؛ ويُودعها سبحانه حتى في قلوب الحيوانات. وقد شاء سبحانه أن يجعل الحنان على قدر الحاجة؛ فالقطة على سبيل المثال إن اقتربَ أحد من صغارها المولودين حديثاً؛ تهجم على هذا الذي اقترب من صغارها. ولذلك نجد العربي القديم قد أجاب على مَنْ سأله «أي أبنائك أحب إليك؟» فقال: «الصغير حتى يكبر؛ والغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى» . وهذه مسألة نراها في حياتنا اليومية، فنجد امرأة لها ولدان، واحد أكرمه الله بسعة الرزق ويقوم بكل أمورها واحتياجاتها؛ والآخر يعيش على الكفاف أو على مساعدة أخيه له؛ ونجد قلبها دائما مع الضعيف. ولذلك نقول: إن الحب مسألة عاطفية لا تخضع إلى التقنين؛ ولا تكليف بها؛ وحينما يتعرض القرآن لها فالحق سبحانه يوضح: أن الحب والبغض انفعالات طبيعية؛ فأحبِبْ مَنْ شئتَ وأبغِضْ مَنْ شئتَ؛ ولكن إياك أن تظلم الناس لمن أحببت؛ أو تظلم مَنْ أبغضت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6865 اقرأ قول الحق سبحانه: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] . فأحبب مَنْ شئتَ، وأبغض مَنْ شئتَ، ولكن لا تظلم بسبب الحب أو البغض. وقد يقول قائل: ولكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» . نقول: اقرأ ما جاء في نفس رواية الحديث؛ فقد قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بوضوحه وصراحته وجراءته؛ دون نفاق: أحبك يا رسول الله عن مالي وعن ولدي أما عن نفسي؛ فلا، فكرر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6866 ففطِنَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى أن الأمر هو التزام عقديٌّ وتكليفي؛ وفَهِم أنَ المطلوب هو حُبُّ العقل؛ لا حب العاطفة. وحب العقل كما نعلم هو أن تُبصر الأمر النافع وتفعله؛ مثلما تأخذ الدواء المُرَّ؛ وأنت تفعل ذلك بحبٍّ عقلي؛ رغبةً منك في أن يأذن الحق بالشفاء. والمسلم يحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعقله؛ لأنه يعلم أنه لولا مجيء رسول الله لما عرف حلاوة الإيمان، وقد يتسامى المسلم في حُبِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن يصير حب الرسول في قلبه حباً عاطفياً. وهكذا نرى أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قد أوضح لنا الخطوط الفاصلة بين مباديء الحب العقلي والحب العاطفي. والمثال الآخر من سيرة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في نفس المسألة؛ حب العقل وحب العاطفة؛ حين مَرَّ عليه قاتل أخيه؛ فقال واحد ممَّنْ يجلسون معه: هذا قاتل أخيك. فقال عمر: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟ وصرف عمر وجهه بعيداً عن قاتل أخيه؛ فجاء القاتل إليه قائلاً: لماذا تزوي وجهك عني؟ قال عمر: لأنِّي لا أحبك، فأنت قاتل أخي. فقال الرجل: أو يمنعني عدم حبك لي من أيِّ حق من حقوقي؟ قال عمر: لا. فقال الرجل: «لك أن تحب مَنْ تريد، وتكره مَنْ تريد، ولا يبكي على الحب إلا النساء» . وكان على إخوة يوسف أن ينتبهوا إلى حب والدهم ليوسف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6867 وأخيه هو انفعال طبيعي لا يُؤاخَذُ به الأب؛ لأن ظروف الولدين حتمت عليه أن يحبهم مثل هذا الحب. وتستمر القصة بما فيها من تصعيد للخير وتصعيد للشر؛ ولسائل أن يسأل: ولماذا أنصبَّ غضبهم على يوسف وحده؟ ويقال: إنهم لم يرغبوا أنْ يَفْجعوا أباهم في الاثنين يوسف وأخيه أو أن شيئاً من رؤيا يوسف تسرب إليهم. ومن العجيب أن يقولوا بعد ذلك: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] . والعصبة من عدد عشرة فما فوق؛ والعصبة أيضاً هم المُتكاتفون المُتعصِّبون لبعضهم البعض؛ وهم الذين يقومون بالمصالح ويقضون الحاجات؛ وقد تقاعد أبوهم؛ وترك لهم إدارة أعمال العائلة. وقالوا: «ما دُمْنَا نقوم بمصالح العائلة، فكان من الواجب أن يَخُصَّنا أبونا بالحب» ولم يلتفتوا إلى أنهم عُصْبة، وهذا ما جعل الأب يحبهم، لكنه أعطى مَنْ ليسوا عصبة مزيداً من الرعاية، ولكنهم سدروا في غَيِّهم، ووصلوا إلى نتيجة غير منطقية وهي قولهم: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6868 {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] . وهذا القول هو نتيجة لا تنسجم مع المقدمات، فيوسف وأخوه طفلان ماتت أمهما، ولا بُدَّ أن يعطف عليهم الأب؛ وحبُّه لهما لم يمنع حبه للأبناء الكبار القادرين على الاعتماد على أنفسهم. وحين يقولون: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] قد يفهم بعض الناس كلمة «ضلال» هنا بالمعنى الواسع لها. نقول: لا؛ لأن هناك ضلالاً مقصوداً، وهو أن يعرف طريق الحق ويذهب إلى الباطل، وهذا ضلال مذموم. وهناك ضلال غير مقصود، مثل: ضلال رجل يمشي فيسلك طرقاً لا يعرفها فيضل عن مقصده؛ ومثل مَنْ ينسى شيئاً من الحق. وسبحانه القائل: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى ... } [البقرة: 282] . وسبحانه القائل أيضاً: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7] . إذن: فالضلال المذموم هو أن تعرف طريق الحق، وتذهب إلى الضلال. وهكذا أخطأ إخوة يوسف في تقدير أمر حُبِّ أبيهم ليوسف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6869 وأخيه؛ ووصلوا إلى نتيجة ضارَّة؛ لأن المقدمات التي أقاموا عليها تلك النتيجة كانت باطلة؛ ولو أنهم مَحَّصُوا المقدمات تمحيصاً دقيقاً لَمَا وصلوا إلى النتيجة الخاطئة التي قالوها: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على ألسنة إخوة يوسف: {اقتلوا يُوسُفَ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6870 والقتل هو قمة ما فكّروا فيه من شرّ؛ ولأنهم من الأسباط هبط الشر إلى مرتبة أقل؛ فقالوا: {أَوِ اطرحوه أَرْضاً} [يوسف: 9] . فكأنهم خافوا من إثم القتل؛ وظنوا بذلك أنهم سينفردون بحبِّ أبيهم؛ لأنهم قالوا: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] . والوجه هو الذي تتم به المواجهة والابتسام والحنان، وهو ما تظهر عليه الانفعالات. والمقصود ب: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6870 هو ألا يوجد عائق بينكم وبين أبيهم. وقولهم: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] ، أي: أنهم يُقدِّرون الصلاح؛ ويعرفون أن الذي فكَّروا فيه غيرُ مقبول بموازين الصلاح؛ ولذلك قالوا: إنهم سيتوبون من بعد ذلك. ولكن: ما الذي أدراهم أنهم سوف يعيشون إلى أن يتوبوا؟ وهم بقولهم هذا نَسُوا أن أمر المَوْت قد أبهم حتى لا يرتكب أحدٌ المعاصيَ والكبائرَ. أو: أن يكون المقصود ب: {قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] ، هو أن يكونوا صالحين لحركة الحياة، ولعدم تنغيص علاقتهم بأبيهم؛ فحين يخلُو لهم وجهه؛ سيرتاحون إلى أن أباهم سيعدل بينهم، ويهبُهم كل حبه فيرتاحون. أو أن يكون المقصود ب: {قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] ، أن تلك المسألة التي تشغل بالهم وتأخذ جزءاً من تفكيرهم إذا ما وجدوا لها حلاً؛ فسيرتاح بالهم فينصلح حالهم لإدارة شئون دنياهم. وهكذا نفهم أن سعيهم إلى الصلاح: منوط بمراداتهم في الحياة، بحسب مفهومهم للصلاح والحياة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6871 ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6872 وهكذا نرى التخفيف في الشر حين يرفض واحد منهم مبدأ القتل، واستبدله بالإخفاء بإلقائه في الجُبِّ. ولم يحدد الحق سبحانه لنا اسم القائل حتى يعصمهم جميعاً من سوء الظن بهم. والجب هو البئر غير المطوي؛ ونحن نعلم أن الناس حين تحفر بئراً، فمياه البئر تتدفق طوال الوقت؛ وقد يأتي الردم فيسُدُّ البئر؛ ولذلك يبنون حول فُوَّهة البئر بعضاً من الطوب لحمايته من الرَّدْم؛ ويسمون مثل هذا البئر «بئر مطوي» ، وهكذا تظل المياه في البئر في حالة استطراق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6872 وكلمة: {غيابت الجب} [يوسف: 10] ، أي: المنطقة المخفية في البئر؛ وعادة ما تكون فوق الماء؛ وما فيها يكون غائباً عن العيون. ولسائل أن يقول: وكيف يتأتَّى إلقاؤه في مكان مَخْفيٍّ مع قول أحد الإخوة: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] . ونقول: إن في مثل هذا القول تنزيلاً لدرجة الشر التي كانت مُتوقِّدة في اقتراح بعضهم بقتل يوسف؛ وفي هذا الاقتراح تخفيض لمسألة القتل أو الطّرْح أرضاً. وبعد ذلك عاد القائل لحالته العادية، وصَحَتْ فيه عاطفة الأخوة؛ وقال: {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] ، أي: أنه توقع عدم رفضهم لاقتراحه. وهكذا يشرح لنا الحق سبحانه كيف تمَّتْ تصفية هذه المسألة؛ فلم يقف صاحب هذا الرأي بالعنف ضد اقتراح إخوته بقتل يوسف أو طَرْحه في الأرض؛ بل أخذ يستدرجهم ليستلَّ منهم ثورة الغضب؛ فلم يَقُلْ لهم «لا تقتلوه» ، ولكنه قال: «لا تقتلوا يوسف» . وفي نُطْقِه للاسم تحنين لهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6873 ويضيف: {وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] . وكأنه يأمل في أن يتراجعوا عن مخططهم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالُواْ ياأبانا ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6874 وبعد أن وافقوا أخاهم الذي خفَّف من مسألة القتل، ووصل بها إلى مسألة الإلقاء في الجب؛ بدأوا التنفيذ، فقال واحد منهم مُوجِّهاً الكلام لأبيه، وفي حضور الإخوة: {قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] . وساعة تسمع قول جماعة؛ فاعلم أن واحداً منهم هو الذي قال، وأمَّنَ الباقون على كلامه؛ إِما سُكوتاً أو بالإشارة. ولكي يتضح ذلك اقرأ قول الحق سبحانه عن دعاء موسى عليه السلام على فرعون وكان معه هارون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6874 قال موسى عليه السلام: {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88] . ورد الحق سبحانه على دعاء موسى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا ... } [يونس: 89] . والذي دعا هو موسى، والذين أمَّنَ على الدعوة هو هارون عليه السلام. وهكذا نفهم أن الذي قال: {ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] . تلك الكلمات التي وردتْ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، هو واحد من إخوة يوسف، وأمَّن بقية الإخوة على كلامه. وقولهم: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] ، يدل أنه كانت هناك محاولات سابقة منهم في ذلك، ولم يوافقهم الأب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6875 وقولهم: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] . يعني أنهم سوف ينتبهون له، ولن يحدث له ضرر أو شرّ؛ وسيعطونه كل اهتمام فلا داعي أن يخاف عليه الأب. ويستمر عَرْض ما جاء على لسان إخوة يوسف: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6876 ولأنهم كانوا يخرجون للرعي والعمل؛ لذلك كان يجب أن يأتوا بعِلَّة ليأذن لهم أبوهم بخروج يوسف معهم، ويوسف في أوان الطفولة؛ واللعب بالنسبة له أمر مُحبَّب ومسموح به؛ لأنه ما زال تحت سن التكليف، واللعب هو الشغل المباح لقصد انشراح النفس. ويُفضِّل الشرع أن يكون اللعب في مجال قد يطلبه الجدُّ مستقبلاً؛ كأن يتعلمَ الطفلُ السباحةَ، أو المصارعة، أو إصابة الهدف؛ وهي الرماية وهكذا نفهم معنى اللعب: إنه شُغُل لا يُلهِي عن واجب، أما اللهو فهو شغُلُ يُلهِي عن واجب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6876 وهناك بعضٌ من الألعاب يمارسها الناس؛ ويجلسون معاً؛ ثم يُؤذِّن المؤذن؛ ويأخذهم الحديث؛ ولا يلتفون إلى إقامة الصلاة في ميعادها؛ وهكذا يأخذهم اللهو عن الضرورة؛ أما لو التفتوا إلى إقامة الصلاة: لَصَار الأمر مجرد تسلية لا ضرر منها. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ إِنِّي ليحزنني. .} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6877 وكلام الأب هنا لا بُدَّ أن يغيظهم فهو دليل المحبة الفائقة إلى الدرجة التي يخاف فيها من فِراق يوسف لِقلَّة صبره عنه، وشدة رعايته له؛ ثم جاء لهم بالحكاية الأخرى، وهي: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] وقال بعض الناس: لقد علَّمهم يعقوب الكذبة؛ ولولا ذلك ما عرفوا أن يكذبوها. ونلحظ أن يعقوب جعل للأخوة لَحْظاً؛ فلم يقل: «أخاف أن يأكله الذئب وأنتم قاعدون» بل قال: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6877 وهذا ليُربِّي فيهم مواجيد الأخوة التي تفترض ألاَّ يتصرفوا مع أخيهم بشرّ؛ ولا أن يتصرف غيرهم معه بشرّ إلا إذا غفلوا عن أخيهم. ونلحظ في ردِّهم عجزَهم عن أنْ يردوا على قوله: {قَالَ إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ. .} [يوسف: 13] . فهذا الحب من يعقوب ليوسف هو الذي دفعهم إلى الحقد على يوسف، ورَدُّوا فقط على خوفه من أنْ يأكله الذئب، وجاء القرآن بما قالوه: {قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6878 وهنا يكشف لنا الحق سبحانه محاولاتهم لطمأنة أبيهم؛ كي يأذن في خروج يوسف معهم؛ ولهذا استنكروا أن يأكله الذئب وهم مُحِيطون به كعُصْبة، وأعلنوا أنه إنْ حدث ذلك فهم سيخسرون كرامتهم أمام أنفسهم وأمام قومهم، وهم لا يقبلون على أنفسهم هذا الهوان. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6878 {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6879 وقوله الحق: {وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب ... } [يوسف: 15] يدلنا على أن تلك المسألة أخذتْ منهم مناقشة، فيها أَخْذٌ ورَدٌّ، إلى أن استقروا عليها. وألهم الحق سبحانه يوسف عليه السلام بما سوف يفعلونه، والوحي كما نعلم هو إعلام بخفاء. وسوف يأتي في القصة أن يوسف عليه السلام بعد أن تولى الوزارة في مصر ودخلوا عليه أمسك بقدح ونقر عليه بأصابعه، وقال لهم: اسمعوا ما يقوله القدح؛ إنه يقول: إن لكم أخاً وقد فعلتم به كذا وكذا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6879 وبعض المفسرين قال: إن الحق سبحانه أوحى له، ولم يَلْحَظ إخوته هذا الوحي. ونقول: إن الوَحْي إعلام بخفاء، ولا يمكن أن يشعر به غير المُوحَى إليه، وعلى ذلك نرى أنهم لم يعلموا هذا الأمر إلا بعد أن تولى يوسف مقاليد الوزارة في مصر؛ بل إنهم لم يعرفوا أن يوسف أخوهم؛ لأنهم قالوا له لحظتها: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] . والمقصود بالوحي في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها هو إيناس الوَحْشة؛ وهو وارد إلهي لا يرده وارد الشيطان؛ والإلهام وارد بالنسبة لمَنْ هم غير أنبياء؛ مثلما أوضحنا الأمر الذي حدث مع أم موسى حين أوحى لها الله أن تلقيه في اليم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6880 والوارد الإلهي لا يجد له معارضة في النفس البشرية، وقد أوحى الله ليوسف ما يُؤنِسُ وحشته حين ألقاه إخوته في الجُبِّ الذي ابتعد فيه عن حنان أبيه وأنسه بأخيه، ومفارقته لبلده التي درج فيها وأُنْسه بالبيئة التي اعتاد عليها. فكان لا بُدَّ أن تعطيه السماء دليلاً على أن ما حدث له ليس جَفْوة لك يا يوسف؛ ولكنه إعداد لك لتقابل أمراً أهمَّ من الذي كنت فيه؛ وأن غُرمَاءك وهم إخوتك سوف يُضطَّرون لدقِّ بابك ذات يوم يطلبون عَوْنك، ويطلبون منك أقواتهم، وستعرفهم أنت دون أن يعرفوك. هذا من جهة يوسف؛ وجهة الجُبِّ الذي ألقوْه فيه، وبقي أن تعالج القصة أمر الإخوة مع الأب، فيقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وجآءوا أَبَاهُمْ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6881 وهنا تتجلى لنا قدرة أداء القرآن أداء دقيقاً معبراً عن الانفعالات التي توجد في النفس الإنسانية، فها هم إخوة خدعوا أباهم ومكروا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6881 بأخيهم، وأخذوه وألقوْه في الجُبِّ مع أنهم يعلمون أن أباه يحبه، وكان ضنيناً أن يأتمنهم عليه، فكيف يواجهون هذا الأب؟ هذا هو الانفعال النفسي الذي لا تستطيع فطرة أن تثبته؛ فقالوا: نؤخر اللقاء لأبينا إلى العشاء: والعشاء مَحَلُّ الظلمة، وهو ستر للانفعالات التي توجد على الوجوه من الاضطراب؛ ومن مناقضة كذب ألسنتهم؛ لأنهم لن يخبروا الأب بالواقع الذي حدث؛ بل بحديث مُخْتلق. وقد تخدعهم حركاتهم، ويفضحهم تلجلجهم، وتنكشف سيماهم الكاذبة أمام أبيهم؛ فقالوا: الليل أخْفَى للوجه من النهار، وأستَر للفضائح؛ وحين ندخل على أبينا عِشَاءً؛ فلن تكشفنا انفعالاتنا. وبذلك اختاروا الظرف الزمني الذي يتوارون فيه من أحداثهم: {وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ} [يوسف: 16] . والبكاء انفعال طبيعي غريزي فطريّ؛ ليس للإنسان فيه مجال اختيار؛ ومَنْ يريد أن يفتعله فهو يتباكى، بأن يَفْرُك عينيه، أو يأتي ببعض ريقه ويُقرِّبه من عينيه، ولا يستر ذلك إلا أن يكون الضوء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6882 خافتاً؛ لذلك جاءوا أباهم عشاء يُمثِّلون البكاء. والحق سبحانه حينما تكلم عن الخصائص التي أعطاها لذاته، ولم يُعْطِها لأحد من خلقه؛ أعلمنا أنه سبحانه هو الذي يميت ويحي، وهو الذي يُضحك ويُبْكي. والحق سبحانه هو القائل: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 43 - 44] . ولا يوجد فَرْق بين ضحك أو بكاء إنسان إنجليزي وآخر عربي؛ ولا يوجد فرق بين موت أو ميلاد إنسان صيني وآخر عربي أو فرنسي؛ فهذه خصائص مشتركة بين كل البشر. وإذا ما افتعل الإنسان الضحك؛ فهو يتضاحك؛ وإذا ما افتعل الإنسان البكاء فهو يتباكى؛ أي: يفتعل الضحك أو البكاء. والذي يفضح كل ذلك هو النهار. والتاريخ يحمل لنا الكثير من الحكايات عن اتخاذ الليل كستار للمواقف؛ والمثل في سيدنا الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه؛ حين جاءت موقعة كربلاء، ورأى العدو وقد أحاط به؛ ورأى الناس وقد انفضوا عنه بعد أن دَعَوْهُ ليبايعوه، ولم يَبْقَ معه إلا قلة؛ وعَزَّتْ عليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6883 نفسه؛ وعَزَّ عليه أن يقتل هؤلاء في معركة غير متكافئة صمم هو على دخولها. فلما أقبل الليل دعا أصحابه وقال لهم: «إن كنتم قد استحييتم أن تفروا عني نهاراً، فالليل جاء وقد ستركم، فمَنْ شاء فليذهب واتركوني» . يقص الحق سبحانه ما بدر منهم فَوْرَ أنْ دخلوا على أبيهم: {قَالُواْ ياأبانآ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6884 كلمة: {نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] تعبر عن بيان تفوُّق ذات على ذات في حركة ما؛ لنرى من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6884 سيسبق الآخر؛ فحين يتسابق اثنان في الجري نرى مَنْ فيهما سبق الآخر؛ وهذا هو الاستباق. وقد يكون الاستباق في حركة بآلة؛ كان يمسك إنسان ببندقية ويُصوِّبها إلى الهدف؛ ويأتي آخر ويمسك ببندقية أخرى ويحاول أن يصيب الهدف؛ ومَنْ يسبق منهما في إصابة الهدف يكون هو المتفوق في هذا المجال. وقد يكون الاستباق في الرمي بالسهام؛ ونحن نعرف شكل السهم؛ فهو عبارة عن غُصْن مَرنٍ، يلتوي دون أن ينكسر؛ ومُثبَّت عليه وتر، ويوضع السهم في منتصف الوتر، ليشده الرامي فينطلق السهم إلى الهدف. وتُقَاسُ دقة إصابة الهدف حسب شدة السهم وقوة الرمي، ويسمى ذلك «تحديد الهدف» . أما إذا كان التسابق من ناحية طول المسافة التي يقطعها السهم؛ فهذا لقياس قوة الرامي. وهكذا نجد الاستباق له مجالات متعددة؛ وكل ذلك حلال؛ فهم أسباط وأولاد يعقوب، ولا مانع أن يلعب الإنسان لُعْبة لا تُلهِيه عن واجبه؛ وقد تنفعه فيما يَجِدُّ من أمور؛ فإذا التقى بعدو نفعه التدريب على استخدام السهم أو الرمح أو أداة قتال؛ واللعب الذي لا يَنْهي عن طاعة، وينفع وقت الجد هو لَعِب حلال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6885 وهناك ألعاب قد لا يدرك الناس لها غاية مثل كرة القدم. وأقول: قد يوجد عَدوَّانِ؛ وبينهما قنبلة موقوتة؛ ويحاول كل طرف أن يبعدها عن موقعه، والقوة والحكمة تظهر في محاولة كل فريق في إبعاد الكرة عن مرماه. ولكن لا بد ألا يُلْهِي لعب الكرة عن واجب؛ فمثلاً حين يؤذن المؤذن للصلاة، والوَاجب علينا ألا نهمل الصلاة ونواصل اللعب، وعلى اللاعبين أن يُراعُوا عدم ارتداء ملابس تكشف عن عوراتهم. وأبناء يعقوب قالوا: {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا ... } [يوسف: 17] . وفي هذا إخلال بشروط التعاقد مع الأب الذي أذِنَ بخروج يوسف بعد أن قالوا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] . وقالوا: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] . وقالوا: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] . فهل أخذتموه معكم ليرتع ويلعب، ويأكل من ثمار الأشجار والفاكهة؛ وتحفظونه، أم ليحفظ لكم متاعكم وأنتم تستبقون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6886 وهذا أول الكذب الذي كذبوه؛ وهذه أول مخالفة لشرط إذن والده له بالخروج معكم؛ ولأن «المريب يكاد يقول خذوني» نجدهم قد قالوا: {فَأَكَلَهُ الذئب وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] . أو: أنهم قالوا ذلك لأنهم يعلمون أن والدهم لن يُصدِّقهم مهما قالوا. ونعلم أن «آمن» إما أن تتعدى إلى المفعول بنفسها مثل «آمنه الله من الجوع» ، أو قوله الحق: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] . أو: تجئ بالباء، ويُقال «آمن به» أي: صدَّق واعتقد. أو: يُقَال «آمن له» أي: صدَّقه فيما يقول. وهم هنا يتهمون أباهم أنه مُتحَدٍّ لهم، حتى ولو كانوا صادقين، وهم يعلمون أنهم غير صادقين؛ ولكن جاءوا بكلمة الصدق ليداروا كذبهم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَجَآءُو على قَمِيصِهِ ... .} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6887 كأن قميص يوسف كان معهم. ويُقال: إن يعقوب علِّق على مجيء القميص وعليه الدم الكذب بأن الذئب كان رحيماً، فأكل لحم يوسف ولم يُمزِّق قميصه؛ وكأنه قد عرف أن هناك مؤامرة سيكشفها الله له. ويصف بعض العلماء قصة يوسف بقصة القميص: فهنا جاء إخوته بقميصه وعليه دم كذب. وفي أواسط السورة تأتي مسألة قميص يوسف إن كان قد شُقَّ من دُبُرٍ لحظة أنْ جذبتْه امرأة العزيز لتراوده عن نفسه. وفي آخر السورة يرسل إخوته بقميصه إلى والده فيرتد بصره. ولهذا أخذ العلماء والأدباء كلمة القميص كرمز لبعض الأشياء؛ والمثل هو قول الناس عن الحرب بين علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ومعاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6888 أن معاوية أمسك بقميص عثمان بن عفان طلباً للثأر من علي، فقيل «قميص عثمان» رمزاً لإخفاء الهدف عن العيون، وكان هدف معاوية أن يحكم بدلاً من علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَجَآءُو على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] ، وكأن القميص كان معهم، ووضعوا عليه دماً مكذوباً، لأن الدم لا يكذب، إنما كذب من جاء بدم الشاة ووضعه على القميص. وشاء الحق سبحانه هنا أن يُعطي الوصف المصدري للمبالغة؛ وكأن الدم نفسه هو الذي كذب؛ مثلما تقول «فلان عادل» ويمكنك أن تصف إنساناً بقولك «فلان عَدْل» أي: كأن العدل تجسَّد فيه، أو قد تقول «فلان ذو شر» ، فيرد عليك آخر «بل هو الشر بعينه» ، وهذه مبالغة في الحديث. وهل كان يمكن أن يُوصف الدم بأنه صادق؟ نقول: نعم، لو كان الذئب قد أكل يوسف بالفعل؛ وتلوَّث قميص يوسف بدم يوسف وتمزق. ولكن ذلك لم يحدث، بل إن الكذب يكاد يصرخ في تلك الواقعة ويقول «أنا كذب» . فلو كان قد أكله الذئب فعلاً؛ كان الدم قد نشع من داخل القميص لخارجه؛ ولكنهم جاءوا بدم الشاة ولطخوا به القميص من الخارج. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6889 وبالله، لو أن الذئب قد أكله فعلاً، ألم تكُنْ أنيابه قد مزَّقَتْ القميص؟ وحين انكشف أمرهم أمام أبيهم؛ أشار أحدهم خفية للباقين وقال لهم همساً: قولوا لأبيكم: إن اللصوص قد خرجوا عليه وقتلوه؛ فسمع يعقوب الهمس فقال: اللصوص أحوَجُ لقميصه من دمه؛ وهذا ما تقوله كتب السير. وهذا ما يؤكد فراسة يعقوب، هذه الفراسة التي يتحلى بها أيُّ محقق في قضية قتل؛ حين يُقلِّب أسئلته للمتهم وللشهود؛ لأن المحقق يعلم أن الكاذب لن يستوحي أقواله من واقع؛ بل يستوحي أقواله من خيال مضطرب. ولذلك يقال: «إن كنت كذوباً فكُنْ ذَكُوراً» . ويأتي هنا الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] . «والسَّوَل» : هو الاسترخاء؛ لأن الإنسان حين تكون أعصابه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6890 مشدودة؛ ثم يحب أن يسترخي، فيستريح قليلاً، وبعد ذلك يجد في نفسه شيئا من اليُسْر في بدنه ونبضه. ونأخذ {سَوَّلَتْ ... } [يوسف: 18] هنا بمعنى يَسَّرت وسهَّلتْ، وما دامت قد سوَّلتْ لكم أنفسكم هذا الأمر فسوف أستقبله بما يليق بهذا الوضع، وهو الصبر. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ... } [يوسف: 18] . والذين يحاولون اصطياد خطأ في القرآن يقولون «وهل يمكن أن يكون الصبر جميلاً؟» . نقول: هم لا يعرفون أن الصبر يُقال فيه «اصبر عن كذا» إذا كان الأمر عن شهوة قد تُورِث إيلاماً؛ كأن يُقال «اصبر عن الخمر» أو «اصبر عن الميسر» أو «اصبر عن الربا» . ويُقال «اصبر عن كذا» إذا كان الصبر فيه إيلام لك. والصبر يكون جميلاً حينما لا تكون فيه شكوى أو جزع. والحق سبحانه يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل: 10] . وهؤلاء الذين يبحثون عن تناقض أو تضارب في القرآن إنما هم قوم لا يعرفون كيفية استقباله وفهمه؛ وقد بيَّن لنا يعقوب عليه السلام أن الصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى فيه، وهو القائل: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ... } [يوسف: 86] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6891 وهكذا نعلم أن هناك فارقاً بين الشكوى للربِّ؛ وشكوى من قدر الربِّ. ولذلك يقول يعقوب عليه السلام هنا: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ. .} [يوسف: 18] ، ويتبعها: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ، كأن الصبر الجميل أمر شاقٌّ على النفس البشرية، ولم يكُنْ يعقوب قادراً على أن يُصدِّق ما قاله أبناؤه له؛ فكيف يُصدِّق الكذب؟ وكيف يمكن أن يواجه أبناءه بما حدث منهم؟ وهم أيضاً أبناؤه؛ لكنه كان غير قادر على أن يكشف لهم كذبهم. والمثل لذلك ما جاء في التراث العربي حين قِيلَ لرجل: إن ابنك قد قتل أخاك، فقال: أقولُ لنفسِي تأساء وتعزيةً ... إحدى يديَّ أصَابتْنِي ولم تُردِ كِلاهُمَا خلف عَْن فَقْدِ صاحبِه ... هذا أخي حين أدعُوه وذَا ولدِي ومثل هذه المواقف تكون صعبة وتتطلب الشفقة؛ لأن مَنْ يمر بها يحتار بين أمر يتطلب القسوة وموقف يتطلب الرحمة؛ وكيف يجمع إنسان بين الأمرين؟ إنها مسألة تعزُّ على خَلْق الله؛ ولابد أن يفزع فيها الإنسان إلى الله؛ ولذلك علَّمنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة؛ وحزبه أمر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6892 ما يعني: أن مواجهة هذا الأمر تفوق أسباب الإنسان؛ فيلجأ إلى المُسبِّبِ الأعلى؛ ولذلك قال يعقوب عليه السلام: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] . وقوله: «تصفون» يعني: أنكم لا تقولون الحقيقة، بل تصفون شيئاً لا يصادف الواقع، مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ ... } [النحل: 116] . أي: أن ألسنتكم نفسها تَصِفُ الكلام أنه كذب. والحق سبحانه يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] . وتعني أن هؤلاء الذين قالوا ما قيل عنه أنه وصف قد كذبوا فيما قالوا؛ وكان مصير كذبهم مفضوحاً. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] . وهكذا عبّر يعقوب عليه السلام عن نفسه؛ فالجوارح قد تكون ساكنة؛ لكن القلب قد يزدحم بالهموم ويفتقد السكون؛ لذلك لا بد من الاستعانة بالله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6893 وقد علَّمنا الحق سبحانه أن نقول في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . فأنت تقف لعبادة الله وبين يديه؛ لكن الدنيا قد تشغلك عن العبادة أثناء أداء العبادة نفسها: لذلك تستعين بخالقك لتُخلِص في عبادتك. وبعد أن عرض الحق سبحانه لموقف الأب مع أولاده، نأتي لموقف يوسف عليه السلام في الجُبِّ. يقول سبحانه: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ. .} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6894 ولم يَقُلِ الحق سبحانه من أين جاء السيارة؟ أو إلى أين كانوا ذاهبين؟ والمقصود بالسيارة هم القوم المحترفون للسير، مثل مَنْ كانوا يرحلون في رحلة الشتاء والصيف؛ بهدف التجارة وجَلْب البضائع. وكانت السيارة لا تنتقل بكامل أفرادها إلى البئر، بل يذهب واحد منهم إلى البئر؛ ليأتي لهم بالمياه ويُسمَّى الوارد، وذهب هذا الوارد إلى البئر ليُحضِر لبقية السيارة الماء وألقى دَلْوه في البئر؛ ويسمى حبل الدلو الرشاء. وحين نزل الدلو إلى مستوى يوسف عليه السلام تعلق يوسف في الحبل؛ فأحسَّ الوارد بثقل ما حمله الرشاء؛ ونظر إلى أسفل؛ فوجد غلاماً يتعلق بالدلو فنادى: {يابشرى هذا غُلاَمٌ} [يوسف: 19] . أي: أنه يقول يا بشرى هذا أوانك؛ وكأنه يبشر قومه بشيء طيب؛ فلم يحمل الدلو ماء فقط، بل حمل غلاماً أيضاً. ويقول الحق سبحانه: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف: 19] . أي: أنهم أخفوْه وعاملوه كأنه بضاعة، ولم يتركوه يمشي بجانبهم؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6895 خشية أن يكون عبداً آبقاً ويبحث عنه سيده؛ وهم يريدون بيعه. ويذيل الحق سبحانه الآية بقوله: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19] . وهذا قول يعود على مَنْ أسرُّوه بضاعة؛ وهم الذين عرضوه للبيع. ثم يقول الحق سبحانه: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6896 ونعلم أنهم لم يشتروه بل عثروا عليه؛ ونعلم أن كلمة شراء تدل على البيع أيضاً، أي: أنهم باعوه بثمن بخس؛ أي: بثمن زهيد، وكانت العبيد أيامها مُقوَّمة بالنقود. والبخس أي: النقص، وهو إما في الكم أو في الكَيْف؛ فهو يساوي مثلاً مائة درهم وهم باعوه بعشرين درهماً فقط؛ وكان العبد في عُمر يوسف يُقوَّم بالنقد؛ وهم باعوه بالبخْس، وبثمن أقل قيمة إما كَمّاً وإما كَيْفاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6896 ثم أراد الحق سبحانه أن يوضح الأمر أكثر فقال: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20] ، والزهد هنا هو حيثية الثمن البَخْس؛ فهُم قد خافوا أن يبحث عنه أبوه أو صاحبه؛ وكأنهم قالوا لأنفسهم: أي شيء يأتي من ورائه فهو فائدة لنا. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ الذي اشتراه ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6897 وكان للشراء عِلَّة؛ فهو قد اشتراه لامرأته ليقوم بخدمتها، وكانت لا تنجب وتكثر في الإلحاح عليه في طلب العلاج، وتقول أغلب السير: إن من اشتراه كان ضعيفاً من ناحية رغبته في النساء. وهذه اللقطة تبين لنا الفساد الذي ينشأ في البيوت التي تتبنى طفلاً، لكنهم لا يحسبون حساب المسألة حين يبلغ هذا الطفل مبلغ الرجال، وقد تعوَّد أن تحمله ربة البيت وتُقبِّله، وتغدق عليه من التدليل ما يصعب عليها أن تمتنع عنه؛ ولأن الطفل يكبر انسيابياً؛ فقد يقع المحظور وندخل في متاهة الخطيئة. ويقول الحق سبحانه: {وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [يوسف: 21] . وهذا يعني أن تعتني بالمكان الذي سيقيم فيه، وبطبيعة الحال فهذا القول يقتضي أن تعتني بالولد نفسه؛ على رجاء أن ينتفع به الرجل وزوجته. ولسائل أن يقول: كيف ينتفع به الرجل؛ وهو عزيز مصر، والكُلُّ في خدمته؟ ونقول: إن النفع المقصود هنا هو النفْع الموصول بعاطفة مَنْ ينفع؛ وهو غير نفع الموظفين العاملين تحت قيادة وإمرة عزيز مصر، فعندما ينشأ يوسف كابن للرجل وزَوْجه؛ وكإنسان تربَّى في بيت الرجل؛ هنا ستختلف المسألة، ويكون النفع مُحَمَّلاً بالعاطفة التي قال عنها الرجل: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6898 {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [يوسف: 21] . وقد عَلِمنا من السِّيَر أنهما لم يُرزَقا بأولاد. ويقول الحق سبحانه في نفس الآية: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] . وقد بدأ التمكين في الأرض من لحظة دخوله إلى بيت عزيز مصر ليحيا حياة طيبة؛ وليعلمه الله تأويل الحديث؛ بأن يهبه القدرة على تفسير الرُّؤى والأحلام؛ وليغلب الله على أمره. ولو نظر إخوته إلى ما آل إليه يوسف عليه السلام فسيعرفون أن مرادهم قد خاب؛ وأن مراد الله قد غلب؛ بإكرام يوسف؛ وهم لو علموا ذلك لَضَنَّوا عليه بالإلقاء في الجُبِّ، وهذا شأن الظالمين جميعاً. ولذلك نقول: إن الظالم لو عَلِم ما أعدَّه الله للمظلوم لَضَنَّ عليه بالظلم. وساعة يقول الحق سبحانه: {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ... } [يوسف: 21] . فهذا قول نافذ؛ لأنه وحده القادر على أن يقول للشيء كُنْ فيكون؛ ولا يوجد إله غيره ليرد على مراده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6899 ولذلك قلنا قديماً: إن الله سبحانه وتعالى قد شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو؛ وهو يملك الرصيد المطلق المؤكد بأنه لا إله غيره؛ فهو وحده الذي له المُلْك، وهو وحده القادر على كل شيء. ولكن خيبة بعض من الخلق الذين يتوهمون أنهم قادرون على أن يُخطِّطوا ويمكروا؛ متناسين أو ناسين أن فوقهم قَيُّوم؛ لا تأخذه سنة ولا نوم، ولو انتبه هؤلاء لَعلِمُوا أن الله يُملِّك بحق مَنْ يُظلم فوق إلى ظَلمه. ورأينا في حياتنا وتاريخنا ظالمين اجتمعوا على ظُلْم الناس؛ وكان مصيرهم أسوأ من الخيال؛ وأشد هَوْلاً من مصيرهم لو تحكم فيهم مَنْ ظلموهم. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6900 والبلوغ هو الوصول إلى الغاية، وقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [يوسف: 22] أي: وصل إلى غايته في النُّضْج والاستواء؛ ومن كلمة «بلغ» أخذ مصطلح البلوغ؛ فتكليف الإنسان يبدأ فَوْرَ أن يبلغ أشده؛ ويصير في قدرة أن ينجب إنساناً مثله. وحين يبلغ إنسانٌ مثل يوسف أشده، وهو قد عاش في بيت ممتليء بالخيرات؛ فهذا البلوغ إنْ لم يكُنْ محروساً بالحكمة والعلم؛ ستتولد فيه رعونة؛ ولهذا فقد حرسه الحق بالحكمة والعلم. والحُكْم هو الفيصل بين قضيتين متعاندتين متعارضتين؛ حق وباطل؛ وما دام قد أعطاه الله الحُكْم، فهو قادر على أن يفصل بين الصواب والخطأ. وقد أعطاه الله العلم الذي يستطيع أن ينقله إلى الغير، والذي سيكون منه تأويل الرؤى، وغير ذلك من العلم الذي سوف يظهر حين يولى على خزانة مصر. إذن: فهنا بلغ يوسف أشده وحرسه الحق بالحكمة والعلم. ويُذيِّل الحق سبحانه هذه الآية بقوله: {وكذلك نَجْزِي المحسنين} [يوسف: 22] . وكل إنسان يُحسِن الإقامة لِمَا هو فيه؛ يعطيه الله ثمرة هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6901 الحُسْن، والمثل: حين لا يتأبى فقير على قَدَرِ الله أن جعله فقيراً، ويحاول أن يُحسن ويُتقِن ما يعمل، فيوضح الله بحُسْن الجزاء: أنت قبلت قدري، وأحسنت عملك؛ فخُذْ الجزاء الطيب. وهذا حال عظماء الدنيا كلهم. وهكذا نجد قول الحق سبحانه: {وكذلك نَجْزِي المحسنين} [يوسف: 22] . لا ينطبق على يوسف وحده؛ بل على كل مَنْ يحسن استقبال قَدَرِ الله؛ لأنه سبحانه ساعة يأتي بحُكْم من الأحكام؛ وبعد ذلك يعمِّم الحكم؛ فهذا يعني أن هذا الحكم ليس خاصاً بل هو عام. وإذا كان الحق سبحانه يورد هذا في مناسبة بعينها، فإنه يقرر بعدها أن كل مُحْسِن يعطيه الله الحُكْم والعلم. وقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ. .} [يوسف: 22] . يوحي لنا أن يوسف عليه السلام كان قد بلغ مرحلة الفتوة، وهنا بدأت متاعبه في القَصْر، ففي طفولته نظرتْ إليه امرأة العزيز كطفل جميل؛ فلم يكُنْ يملك ملامح الرجولة التي تهيج أنوثتها. أما بعد البلوغ فنجد حالها قد تغيَّر، فقد بدأت تدرك مفاتنه؛ وأخذ خيالها يسرح فيما هو أكثر من الإدراك، وهو التهاب الوجدان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6902 بالعاطفة المشبوبة، وما بعد الإدراك والوجدان يأتي النزوع. ولو كانت محجوبة عنه؛ لما حدثت الغواية بالإدراك والوجدان. وهذا يعطينا عِلَّة غَضِّ البصر عن المثيرات الجنسية؛ لأنك إنْ لم تغضّ البصر أدرَكتَ، وإن أدركتَ وجدتَ، وإن وجدتَ نزعتَ إلى الزواج أو التعفف بالكبْت في النفس، وتعيش اضطراب القلق والتوتر، وإن لم تتعفف عربدتَ في أعراض الناس. وكذلك أمرنا الحق سبحانه ألا تُبدِي النساء زينتهن إلا لأناس حددهم الحق سبحانه في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء. .} [النور: 31] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6903 أي: الذي بلغ من العمر والشيخوخة حداً لا يجعله يفكر في الرغبة في النساء. وكانت نظرة امرأة العزيز إلى يوسف عليه السلام وهو في فتوته، بعد أن بلغ أَشُدَّه نظرةً مختلفة، يوضحها الله تعالى في قوله: {وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6904 وساعة تسمع «راود» فافهم أن الأمر فيه منازعة مثل: «فَاعَل» أو «تَفاعل» ومثل: «شارك محمد علياً» أي: أن علياً شارك محمداً؛ ومحمد شارك علياً؛ فكل منهم مفعول مرة، وفاعل مرة أخرى. والمُرَاودة مطالبةٌ برفق ولين بستر ما تريده مِمَّنْ تريده؛ فإنْ كان الأمر مُسهَّلاً، فالمُراودة تنتهي إلى شيء ما، وإنْ تأبَّى الطرف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6904 الثاني بعد أن عرفَ المراد؛ فلن تنتهي المراودة إلى الشيء الذي كنت تصبو إليه. وهكذا راودتْ امرأة العزيز يوسف عليه السلام، أي: طالبته برفق ولين في أسلوب يخدعه لِيُخرِجه عمَّا هو فيه إلى ما تطلبه. ومن قبْل كان يوسف يخدمها، وكانت تنظر إليه كطفل، أما بعد أن بلغ أَشُده فقد اختلف الأمر، ولنفرض أنها طالبته أن يُحضر لها شيئاً؛ وحين يقدمه لها تقول له «لماذا تقف بعيداً؟» وتَدعوه ليجلس إلى جوارها، وهو لن يستطيع الفكاك؛ لأنه في بيتها؛ وهي مُتمكِّنة منه؛ فهي سيدة القصر. وهكذا نجد أن المسألة مجموعة عليه من عدة جهات؛ فهو قد تربَّى في بيتها؛ وهي التي تتلطف وترقُّ معه، وفَهِم هو مرادها. وهكذا شرح الحق سبحانه المسألة من أولها إلى آخرها بأدب رَاقٍٍ غير مكشوف، فقال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبواب ... } [يوسف: 23] . وكلمة: {وَغَلَّقَتِ الأبواب ... } [يوسف: 23] . توضح المبالغة في الحدث؛ أو لتكرار الحَدث، فهي قد أغلقت أكثرَ من باب. ونحن حين نحرك المزلاج لنؤكد غَلْق الباب، ونحرك المفتاح، ونديره لتأكيد غَلْق الباب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6905 فهذه عملية أكبر من غَلْق الباب؛ وإذا أضفنا مِزْلاجاً جديداً نكون قد أكثرنا الإغلاق لباب واحد؛ وهكذا يمكن أن نَصِفَ ما فعلنا أننا غلّقنا الباب. وامرأة العزيز قامت بأكثر من إغلاق لأكثر من باب، فَقُصور العظماء بها أكثر من باب، وأنت لا تدخل على العظيم من هؤلاء في بيته لتجده في استقبالك بعد أول باب، بل يجتاز الإنسان أكثر من باب لِيَلقى العظيم الذي جاء ليقابله. يحمل لنا التاريخ قصة ذلك الرجل الذي رفض أن يبايع معاوية في المدينة، فأمر معاوية باستدعائه إلى قصر الحكم في دمشق. هذا القصر الذي سبق أن زاره عمر بن الخطاب؛ ووجد فيه أبهة زائدة بررها له معاوية بحيلة الأريب أنها أُبهة ضرورية لإبراز مكانة العرب أمام الدولة الرومانية المجاورة، فسكتَ عنها عمر. وحين استدعى معاوية الرجل، دخل بصحبة الحرس من باب، وظن أنه سوف يلقى معاوية فَوْر الدخول؛ لكن الحرس اصطحبه عبر أكثر من باب؛ فلم ينخلع قلب الرجل، بل دخل بثبات على معاوية وضَنَّ عليه بمناداته كأمير المؤمنين، وقال بصوت عال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6906 «السلام على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» . ففطن معاوية إلى أن الرجل يرفض مبايعته. ونعود إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ فنجد أن امرأة العزيز قد غلَّقتْ الأبواب؛ لأن مَنْ يفعل الأمر القبيح يعلم قُبْح ما يفعل، ويحاول أن يستر فِعْله، وهي قد حاولتْ ذلك بعيداً عن مَنْ يعملون أو يعيشون في القصر، وحدثتْ المراودة وأخذتْ وقتاً، لكنه فيما يبدو لم يَستجِبْ لها. {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ... } [يوسف: 23] أي: أنها انتقلتْ من مرحلة المُراودة إلى مرحلة الوضوح في طلب الفعل؛ بأن قالت: تهيأتُ لك؛ وكان ردُّه: {قَالَ مَعَاذَ الله ... } [يوسف: 23] . والمَعَاذ هو مَنْ تستعيذ به، وأنت لا تستعيذ إلا إذا خارتْ أسبابك أمام الحدث الذي تمرُّ به عَلَّك تجد مَنْ ينجدك؛ فكأن المسألة قد عَزَّتْ عليه؛ فلم يجد مَعَاذاً إلا الله. ولا أحد قادر على أن يتصرف هكذا إلا مَنْ حرسه الله بما أعطاه له من الحكمة والعلم؛ وجعله قادراً على التمييز بين الحلال والحرام. ولبيان خطورة وقوة الاستعاذة نذكر ما ترويه كتب السيرة من «أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6907 النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عقد على ابنة ملكٍ؛ كانت شديدة الجاذبية، وشعرت بعض من نساء النبي بالغيرةَ منها، وقالت واحدة منهن لعلها عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: إن تزوجها ودخل بها قد يفضلها عنَّا. وقالت للعروس: إن النبي يحب كلمة ما، ويحب مَنْ يقولها. فسألت الفتاة عن الكلمة، فقالت لها عائشة: إن اقترب منك قولي» أعوذ بالله منكِ «. فغادرها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:» قد عُذْتِ بمعاذ «وسرَّحها السراح الجميل» . وهناك في قضية السيدة مريم عليها السلام، نجدها قد قالت لحظة أن تمثَّل لها الملاك بشراً سوياً: {إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} [مريم: 18] . فهي استعاذت بمَنْ يقدر على إنقاذها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6908 وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [يوسف: 23] ، وأعطانا هذا القول معنيين اثنين: الأول: أنه لم يوافق على طلبها بعد أن أوضحتْ ما تريد. والمعنى الثاني: أنه طلب المعونة من الله، وهو سبحانه مَنْ أنجاه من كيد إخوته؛ ونجَّاه من الجُبِّ؛ وهيَّأ له أفضل مكان في مصر، ليحيا فيه ومنحه العلم والحكمة مع بلوغه لأشُدَّه. وبعد كل هذا أيستقبل كل هذا الكرم بالمعصية؟ طبعاً لا. أو: أنه قال: {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] . ليُذكِّر امرأة العزيز بأن لها زوجاً، وأن هذا الزوج قد أحسن ليوسف حين قال لها: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [يوسف: 21] . فالصعوبة لا تأتي فقط من أنها تدعوه لنفسها؛ بل الصعوبة تزداد سوء لأن لها زوجاً فليست خالية، وهذا الزوج قد طلب منها أن تُكرِم يوسف، وتختار له مكانَ إقامةٍ يليق بابن، ولا يمكن أن يُستَقبل ذلك بالجحود والخيانة. وهكذا يصبح قول يوسف: {إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] . قد يعود على الله سبحانه؛ وقد يعود على عزيز مصر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6909 وتلك مَيْزة أسلوب القرآن؛ فهو يأتي بعبارة تتسع لكل مناطات الفهم، فما دام الله هو الذي يُجازي على الإحسان، وهو مَنْ قال في نفس الموقف: {وكذلك نَجْزِي المحسنين} [يوسف: 22] فمعنى ذلك أن مَنْ يسيء يأتي الله بالضد؛ فلا يُفلح؛ لأن القضيتين متقابلتان: {وكذلك نَجْزِي المحسنين} [يوسف: 22] . و {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [يوسف: 23] . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6910 والهَمُّ هو حديث النفس بالشيء؛ إما أن يأتيه الإنسان أو لا يأتيه. ومن رحمة ربنا بخلْقه أن مَنْ هَمَّ بسيئة وحدَّثتْه نفسه أن يفعلها؛ ولم يفعلها كُتِبتْ له حسنة. وقد جاءت العبارة هنا في أمر المراودة التي كانت منها، والامتناع الذي كان منه، واقتضى ذلك الأمر مفاعلة بين اثنين يصطرعان في شيء. فأحد الاثنين امرأة العزيز يقول الله في حقها: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف: 24] . وسبق أن أعلن لنا الحق سبحانه في الآية السابقة موقفها حين قالت: «هيت لك» وكذلك بيَّن موقف يوسف عليه السلام حين قال يوسف «معاذ الله» . وهنا يبين لنا أن نفسه قد حدثته أيضاً؛ وتساوى في حديث النفس؛ لكن يوسف حدث له أن رأى برهان ربه. ويكون فَهْمُنا للعبارة: ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها؛ لأننا نعلم أن «لولا» حرف امتناع لوجود؛ مثلما نقول: لولا زيد عندك لأتيتك. ولقائل أن يقول: كيف غابت قضية الشرط في الإيجاد والامتناع عن الذين يقولون؛ إن الهم قد وُجِد منه؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6911 ولماذا لم يَقُل الحق: لقد همَّتْ به ولم يهم بها؛ حتى نخرج من تلك القضية الصعبة؟ ونقول: لو قال الحق ذلك لما أعطانا هذا القولُ اللقطةَ المطلوبة؛ لأن امرأة العزيز هَمَّتْ به لأن عندها نوازع العمل؛ وإنْ لم يَقُلْ لنا أنه قد هَمَّ بها لظننا أنه عِنِّين أو خَصَاه موقف أنها سيدته فخارتْ قواه. إذن: لو قال الحق سبحانه: إنه لم يَهِمّ بها؛ لكان المانع من الهَمِّ إما أمر طبيعي فيه، أو أمر طاريء لأنها سيدته فقد يمنعه الحياء عن الهَمِّ بها. ولكن الحق سبحانه يريد أن يوضح لنا أن يوسف كان طبيعياً وهو قد بلغ أشُدَّه ونُضْجه؛ ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها. وهكذا لم يَقُمْ يوسف عليه السلام بما يتطلبه ذلك لنقص فيه؛ ولا لأن الموقف كان مفاجأة ضَيَّعَتْ رجولته بغتة؛ مثل ما يحدث لبعض الشباب في ليلة الزفاف، حين لا يستطيع أن يَقربَ عروسه؛ وتمر أيام إلى أن يستعيد توازنه. ويقرب عروسه. إذن: لو أن القرآن يريد عدم الهَمِّ على الإطلاق؛ ومن غير شيء، لَقَال: ولقد هَمَّتْ به ولم يَهِم بها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6912 ولكن مثل هذا القول هو نَفْيٌ للحدث بما لا يستلزم العفة والعصمة، لجواز أن يكون عدم الهَمِّ راجعاً إلى نقص ما؛ وحتى لا يتطرق إلينا تشبيهه ببعض الخدم؛ حيث يستحي الخادم أن ينظر إلى البنات الجميلات للأسرة التي يعمل عندها؛ ويتجه نظره إلى الخادمة التي تعمل في المنزل المجاور، لأن للعواطف التقاءات. ومن لُطْفِ الله بالخلق أنه يُوجِد الالتقاءات التفاعلية في المتساويات، فلا تأتي عاطفة الخادم في بعض الأحيان ناحية بنات البيت الذي يعمل عنده؛ وقد يطلب من أهل البيت أن يخرج لشراء أي شيء من خارج المنزل، لعله يحظى بلقاء عابر من خادمة الجيران. ويجوز أن الخادم قد فكر في أنه لو هَمَّ بواحدة من بنات الأسرة التي يعمل لديها؛ فقد تطرده الأسرة من العمل؛ بينما هو يحيا سعيداً مع تلك الأسرة. وهكذا يشاء الحق سبحانه أن يوزع تلك المسائل بنظام وتكافؤات في كثير من الأحيان. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] . إذن: فبرهان ربه سابق على الهَمِّ، فواحد هَمّ ولم يرتكب ما يتطلبه الهمّ؛ لأن برهان ربه في قلبه، وقد عرف يوسف برهان ربه من البداية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6913 وبذلك تنتهي المسألة، ولذلك فلا داعي أن يدخل الناس في متاهات أنه هَمّ وجلس بين شعبتيها، ولم يرتعد إلا عندما تمثِّل له وجه والده يعقوب ونهاه عن هذا الفعل؛ فأفسقُ الفُسّاق ولو تمثَّل له أبوه وهو في مثل هذا الموقف لأصيب بالإغماء. وحين تناقش مَنْ رأى هذا الرأي؛ يردّ بأن هدفه أن يثبت فحولة يوسف؛ لأن الهمّ وجد وأنه قد نازع الهمّ. ونقول لصاحب هذا الرأي: أتتكلم عن الله، أم عن الشيطان؟ . أنت لو نظرتَ إلى أبطال القصة تجدهم: امرأة العزيز؛ ويوسف والعزيز نفسه؛ والشاهد على أن يوسف قد حاول الفِكَاك من ذلك الموقف، ثم النسوة اللاتي دَعتْهُنَّ امرأة العزيز ليشاهدوا جماله؛ والله قد كتب له العصمة. فكُلُّ هؤلاء تضافروا على أن يوسف لم يحدث منه شيء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6914 وقال يوسف نفسه: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: 26] وامرأة العزيز نفسها قالت مُصدِّقة لِمَا قال: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32] . وقالت: {الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 51 - 52] . وعن النسوة قال يوسف: {مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] . وقال يوسف لحظتها: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين} [يوسف: 33] . والصَّبْوة هي حديث النفس بالشيء؛ وهو ما يثبت قدرة يوسف عليه السلام على الفعل، وحماه الله من الصبوة؛ لأن الحق سبحانه قد قال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6915 {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 34] . وانظر إلى لقطة النسوة اللاتي تهامسْنَ بالنميمة عن امرأة العزيز وحكايتها مع يوسف، ألم يَقُلْنَ: {مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] ، فحين دخل عليهن اتجهت العيون له، وللعيون لغات؛ وللانفعال لغات؛ وإلا لماذا قال يوسف: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 33] . وهكذا نعلم أنه قد حدثت مُقدِّمات تدل على أن النسوة نَويْنَ له مثل ما نَوَتْه امرأة العزيز؛ وظَننَّ أن امرأة العزيز سوف تطرده؛ فيتلقفنه هُنَّ؛ وهذا دَأب البيوت الفاسدة. وهل هناك أفسد من بيت العزيز نفسه، بعد أن حكم الشاهد أنها هي التي راودتْ يوسف عن نفسه؛ فيدمدم العزيز على الحكاية، ويقول: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} [يوسف: 29] . وكان هدف العزيز أن يحفظ مكانته من القيل والقال. وحين سأل الشاهد النسوة، بماذا أَجبْنَ؟ يقول الحق سبحانه أن النسوة قُلْنَ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6916 {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء} [يوسف: 51] . وقد صرف الله عنه الشيطان الذي يتكفل دائماً بالغُواية، وهو لا يدخل أبداً في معركة مع الله؛ ولكنه يدخل مع خَلْق الله؛ لأن الحق سبحانه يورد على لسانه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82 - 83] . فالشيطان نفسه يُقِرُّ أن مَنْ يستخلصه الله لنفسه من العباد إنما يعجز هو كشيطان عَن غوايته، ولا يجرؤ على الاقتراب منه. والشاهد الذي من أهل امرأة العزيز، واستدعاه العزيز ليتعرف على الحقيقة قال: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6917 وبعد كل هذه الأدلة فليس من حَقِّ أحد أن يتساءل: هل هَمَّ يوسف بامرأة العزيز، أم لم يَهِمّ؟ وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق سبحانه: {لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] . والبرهان هو الحجة على الحكم. والحق سبحانه هو القائل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] . وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] . أي: لا بُدَّ أن يبعث الحقُّ رسولاً للناس مُؤيداً بمعجزة تجعلهم يُصدِّقون المنهج الذي يسيرون عليه؛ كي يعيشوا حياتهم بانسجام إيماني، ولا يعذبهم الله في الآخرة. ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] . والفحشاء هي الزنا والإتيان؛ والسوء هي فكرة الهَمِّ، وبعض المعتدلين قالوا: إنها بعد أن راودتْه عن نفسه؛ وخرجت بالفعل إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6918 مرحلة السُّعَار لحظة أن سبقها إلى الباب؛ فكَّرتْ في أن تقتله؛ وحاول هو أن يدافع عن نفسه وأن يقتلها، ولو قتلها فلسوف يُجازى كقاتل. فصرف الحق عنه فكرة القتل؛ وعنى بها هنا قوله الحق «السوء» ؛ ولكني اطمئن إلى أن السوء هو فكرة الهَمِّ، وهي مُقدِّمات الفعل. ويقرر الحق سبحانه أن يوسف عليه السلام من عباده المُخْلصين، وفي هذا رد على الشيطان؛ لأن الشيطان قال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83] . وقوله الحق هنا: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] يؤكد إقرار الشيطان أنه لن يَقْرب عباد الله المخلصين. وهناك «مُخْلِصِين» . و «مُخْلَصِين» والمخلِص هو مَنْ جاهد فكسب طاعة الله، وَالمُخْلَص هو مَنْ كسَب فجاهد وأَخلصه الله لنفسه. وهناك أُناس يَصِلُون بطاعة الله إلى كرامة الله، وهناك أُناس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6919 يكرمهم الله فيطيعون الله ولله المثل الأعلى مُنزَّه عن كل تشبيه، أنت قد يطرق بابك واحد يسألك من فضل الله عليك؛ فتستضيفه وتُكرمه، ومرة أخرى قد تمشي في الشارع وتدعو واحداً لتعطيه من فضل الله عليك، أي: أن هناك مَنْ يطلب فتأذن له، وهناك مَنْ تطلبه أنت لتعطيه. وبعد الحديث عن المراودة بما فيها من لين وأَخْذٍ ورَد؛ ينتقل بنا الحق سبحانه إلى ما حدث من حركة، فيقول تعالى: {واستبقا الباب ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6920 وعرفنا أن كلاهما حاول الوصول إلى الباب قبل الآخر؛ وتسابقا في هذا الاستباق، ونلحظ أن الحق سبحانه يذكر هنا باباً واحداً؛ وكانت امرأة العزيز قد غلَّقَتْ من قبل أكثر من باب. لكن قول الحق سبحانه: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الباب} [يوسف: 25] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6920 يدلنا على أنها لحقتْ بيوسف عند الباب الأخير؛ وهي قد استبقتْ مع يوسف إلى الأبواب كلها حتى الباب الأخير؛ لأنها تريد أن تغلق الباب لتسد أمامه المنفذ الأخير، وهذا الاستباق يختلف باختلاف الفاعل فهي تريده عن نفسه، وهو يريد الفرار من الموقف، ثم قدَّتْ قميصه من دُبر. هذا دليل على أنه قد سبقها إلى الباب؛ فشدَّته من قميصه من الخلف، وتمزَّق القميص في يدها، وقد محَّص الشاهد الذي هو من أهلها تلك المسألة ليستنبط من الأحداث حقيقة ما حدث. وقوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الباب} [يوسف: 25] . أي: حدثت لهما المفاجأة، وهي ظهور عزيز مصر أمامهما؛ وصار المشهد ثلاثياً: امرأة العزيز؛ ويوسف؛ وزوجها. وهنا ألقت المرأة الاتهام على يوسف عليه السلام في شكل سؤال تبريري للهروب من تبعية الطلب، وإلقاء التهم على يوسف: {قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا} [يوسف: 25] . ثم حددت العقاب: {إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] . ويأتي الحق سبحانه بقول يوسف عليه السلام: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6921 {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] . وهنا وجد عزيز مصر نفسه بين قوليْنِ مختلفين؛ قولها هي باتهام يوسف؛ وقوله هو باتهامها، ولا بُدَّ أن يأتي بمَن يفصِل بين القولين، وأن يكون له دِقَّة استقبال وفَهْم الأحداث. ويتابع الحق سبحانه: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6922 وتأتي كلمة «شاهد» في القرآن بمعانٍ متعددة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6922 فهي مرَّة تكون بمعنى «حضر» ، مثل قول الحق سبحانه: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] . وتأتي مرَّة بمعنى «علم» ، مثل قوله سبحانه: {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] . وتأتي «شهد» بمعنى «حكم وقضى» أي: رجَّح كلاماً على كلام لاستنباط حق في أحد الاتجاهين. والشاهد في هذه الحالة وَثّق القرآنُ أن قرابته من ناحية المحكوم عليه، وهو امرأة العزيز، فلو كان من طرف المحكوم له لَرُدَّتْ شهادته. وهكذا صار الموقف رباعياً: امرأة العزيز، ويوسف، وعزيز مصر، والشاهد، وحملت الآية نصف قول الشاهد: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] . لأن معنى هذا والواقع لم يكن كذلك أن يوسف عليه السلام وهو مَنْ أقبل عليها؛ تدلَّى منه ثوبه على الأرض، فتعثر فيه، فتمزَّق القميص. ويتابع الله قول الشاهد: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ. .} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6923 أي: أن قميص يوسف عليه السلام إن كان قُدَّ من الخلف؛ فيوسف صادق، وامرأة العزيز كاذبة. ونلحظ أن الشاهد هنا قال هذا الرأي قبل أن يشاهد القميص؛ بل وضع في كلماته الأساس الذي سينظر به إلى الأمر، وهو إطار دليل الإثبات. وهذا ما تشرحه الآية التالية، فيقول سبحانه: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6924 وقول الحق سبحانه عن الشاهد القاضى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ... } [يوسف: 28] ، يدلُّ على أنه رتّب الحكم قبل أن يرى القميص، وقرر المبدأ أولاً في غيبة رؤية القميص، ثم رآه بعدها، وهكذا جعل الحيثية الغائبة هي الحكم في القضية الشاغلة. لذلك تابع قوله بما يدين امرأة العزيز: {قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] . والكيد كما نعلم هو الاحتيال على إيقاع السوء بخفاء، ويقوم به الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6924 مَنْ لا يملك القدرة على المواجهة، وكَيْد المرأة عظيم؛ لأن ضعفها أعظم. وتعود آيات السورة بعد ذلك إلى موقف عزيز مصر، فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان الزوج: {يُوسُفُ أَعْرِضْ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6925 وبهذا القول من الزوج أنهى الحقُّ سبحانه هذا الموقف الرُّباعي عند هذا الحد، الذي جعل عزيز مصر يُقِرُّ أن امرأته قد أخطأت، ويطلب من يوسف أن يعرض عن هذا الأمر لِيَكتمه. وهذا يبين لنا سياسة بعض أهل الجاه مع بيوتهم، وهو أمر نشاهده في عصرنا أيضاً؛ فنجد الرجل ذا الجاه وهو يتأبَّى أن يرى أهله في خطيئة، ويتأبى أكثر من ذلك فيرفض أن يرى الغيرُ أهله في مثل هذه القضية، ويحاول كتمان الأمر في نفسه؛ فيكفيه ما حدث له من مهانة الموقف، ولا يريد أن يشمتَ به خصومه أو أعداؤه. وهنا مَلْحظ يجب أن نتوقف عنده، وهو قضية الإيمان، وهي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6925 لا تزال متغلغلة حتى في المنحرفين والمتسترين على المنحرفين، فعزيز مصر يقول ليوسف: {أَعْرِضْ عَنْ هذا ... } [يوسف: 29] . ويقول لزوجته: {واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} [يوسف: 29] . وهو في قوله هذا يُقِرُّ بأن ذنباً قد وقع؛ وهو لن يُقِرَّ بذلك إلا إذا كان قد عرف عن الله منهجاً سماوياً، وهو في موقف لاَ يسعه فيه إلا أن يطلب منها أن تستغفر الله. وبعد أن كان المشهد رباعياً: فيه يوسف، وامرأة العزيز، والعزيز نفسه، ثم الشاهد الذي فحص القضية وحكم فيها، ينتقل بنا الحق سبحانه إلى موقف أوسع؛ وهو دائرة المجتمع الذي وقعتْ فيه القضية. وهذا يدل على أن القصور لا أسرار لها؛ لأن لأسرار القصور عيوناً تتعسس عليها، وألسنة تتكلم بها؛ حتى لا يظن ظان أنه يستطيع أن يحمي نفسه من الجريمة؛ لأن هناك مَنْ سوف يكشفها مهما بلغتْ قدرة صاحبها على التستُّر والكتمان. وقد تلصص البعض من خدم القصر؛ إلى أن صارت الحكاية على ألسنة النسوة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6926 ويحكي القرآن الموقف قائلاً: {وَقَالَ نِسْوَةٌ. .} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6927 وكلمة «النسوة» ، وكلمة «نساء» تدلُّ على الجماعة، لكن مفردَ كلٍّ منهما ساقط في اللغة، فمفرد «نسوة» امرأة؛ ومفرد «نساء» أيضاً هو «امرأة» . ومن العجيب أن المفرد، وهو كلمة «امرأة» له مثنى هو «امرأتان» ، لكن في صيغة الجمع لا توجد «امراءات» ، وتوجد كلمة نسوة اسم لجماعة الإناث، واحدتها امرأة، وجمعها نساء. وقد قالت النسوة: {امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: 30] . وما قُلْنَه هو الحق؛ لكنهن لم يَقُلْنَ ذلك تعصباً للحق، أو تعصباً للفضيلة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6927 وشاء سبحانه أن يدفع هذه المقالة عنهن، ففضح الهدف المختفي وراء هذا القول في الآية التالية حين قال: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ... } [يوسف: 31 - 32] . والمكر هو سَتْر شيء خلف شيء، وكأن الحق يُنبِّهنا إلى أن قول النسوة لم يكن غضبةً للحق؛ ولا تعصباً للفضيلة، ولكنه الرغبة للنِّكاية بامرأة العزيز، وفَضْحاً للضلال الذي أقامت فيه امرأة العزيز. وأردْن أيضاً شيئاً آخر؛ أن يُنزِلْنَ امرأة العزيز عن كبريائها، وينشرن فضيحتها، فَأتيْنَ بنقيضين؛ لا يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إلا خسيس المنهج. فهي امرأة العزيز، أي: أرفع شخصية نسائية في المجتمع، قد نزلت عن كبريائها كزوجة لرجل يُوصَفُ بأنه الغالب الذي لا يُغلب؛ لأن كلمة «العزيز» مأخوذة من المعاني الحسية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6928 فيُقال: «الأرض العَزَاز» أي: الأرض الصخرية التي يصعب المشي عليها، ولا يقدر أحد أنْ يطأها؛ ومن هذا المعنى جاءت كلمة «العزيز» . فكيف بامرأة العزيز حين تصير مُضْغة في الأفواه؛ لأنها راودتْ فتاها وخادمها عن نفسه؛ وهو بالنسبة لها في أدنى منزلة، وتلك فضيحة مزرية مشينة. وقالت النسوة أيضاً: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} [يوسف: 30] والحب منازل؛ وأول هذه المنازل «الهوى» مثل: شقشقة النبات، ويُقال: «رأى شيئاً فهواه» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6929 وقد ينتهي هذا الهَوَى بلحظة الرؤية، فإذا تعلَّق الإنسان بما رأى؛ انتقل من الهوى إلى العَلاقة. وبعد ذلك يأتي الكلف؛ أي: تكلَّف أن يصل إلى ما يطلبه من هذه العَلاقة. ثم ينتقل بعد ذلك إلى مرتبة فيها التقاء وهي العشق، ويحدث فيها تبادل للمشاعر، ويعلن كل طرف كَلَفه؛ ولذلك يسمونه «عاشق ومعشوق» . ثم ينتقل إلى مرحلة اسمها «التدليه» ؛ أي: يكاد أن يفقد عقله. ثم يصير الجسم إلى هُزَال ويقال «تبلت الفؤاد» أي: تاه الإنسان في الأمر. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الهُيَام، أي: يهيم الإنسان على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6930 وجهه؛ فلا يعرف له هدفاً، فإن تبع ذلك جرم صار اسمه «جوى» . تلك هي مراحل الحب التي تمر بالقلب، والقلب كما نعلم هو الجهاز الصنوبري، ويسمونه مَقَرّ العقائد المنتهية، والتي بحثها الإنسان واعتقدها بالفعل. فالإنسان منا يدرك الأشياء بحواسه الظاهرة، يرى ويشُمُّ ويسمع ويذوق ويلمس، فإذا أدرك بعضاً من الأمور؛ فهو يعرضها على العقل ليوازن بينها؛ ويختار الأكثر قبولاً منه، وبعد ذلك تذهب تلك الأمور المقبولة إلى القلب؛ لتستقر عقيدة فيه لا يحيد عنها. أما المسائل العقلية؛ فقد تأتي مسائل أخرى تزحزحها؛ ولذلك يُقال للأمور التي استقرت في القلب «عقائد» ، أي: شيء معقود لا ينحل أبداً. وما يصل إلى هذه المرتبة يظهر أثره في إخضاع سلوك حركة الحياة عليه، وإذا ما استقر المبدأ في نفس الإنسان؛ فهو يجعل كل حركته في ظل هذا المبدأ الذي اعتقده. وهكذا نعرف: كيف تمرُّ العقيدة بعدَّة مراحل قبل أن تستقر في النفس، فالإدراك يحدث أولاً؛ ثم التعقُّل ثانياً؛ وبعد ذلك يعتقد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6931 الإنسان الأمر، ويصبح كل سلوك من بعد ذلك وِفْقاً لما اعتقده الإنسان. وكلمة: {شَغَفَهَا حُبّاً. .} [يوسف: 30] . تعني أن المشاعر انتقلتْ من إدراكها إلى عقلها إلى قلبها، والشغاف هو الغِشَاء الرقيق الذي يستر القلب؛ أي: أن الحب تمكَّن تماماً من قلبها. وقولهن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 30] . هو قول حَقٍّ أُريد به باطل. ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما يفضح مَقْصِدهن: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6932 ولسائل أن يقول: وكيف انتقل لَهُنَّ الكلام عن الذي حدث بينها وبين يوسف؟ لا بُدَّ أن هناك مرحلة بين ما حدث في القصر؛ وكان أبطاله أربعة هم: العزيز، وامرأته، ويوسف، والشاهد، ولا بد أن يكون مَنْ نقل الكلام إلى خارج القصر؛ إنسان له علاقتان؛ علاقة بالقصر فسمع ورأى وأدرك؛ ونقل ما علم إلى مَنْ له به علاقة خارج القصر. وبحث العلماء عن علاقة النسوة اللاتي ثرثرن بالأمر، وقال العلماء: هُنَّ خمسة نساء: امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة الحاجب، وامرأة صاحب الدواب (أي: سائس الخيل) ، وامرأة السجان. وهؤلاء النسوة يَعِشْنَ داخل بيوتهن؛ فمَنِ الذي نقل لَهُنَّ أسرار القصر؟ لا بُدَّ أن أحداً من أزواجهن قد أراد أن يُسلِّي أهله، فنقل خبر امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام؛ ثم نقلتْ زوجته الخبر إلى غيرها من النسوة. وحين وصل إلى امرأة العزيز الخبر؛ وكيف يمكرن بها؛ أرسلت إليهن: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً. .} [يوسف: 31] . والمتكأ هو الشيء الذي يستند إليه الإنسان حتى لا يطول به مَلَلٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6933 من كيفية جِلْسته، والمقصود بالقول هو أن الجلسة سيطول وقتها، وقد خططتْ لتكشف وَقْعَ رؤية يوسف عليهن، فقدَّمتْ لكل منهن سكيناً؛ وهو ما يوحي بأن هناك طعاماً سوف يؤكل. ويتابع الحق سبحانه: {وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ... } [يوسف: 31] . ويُقال: أكبرْتَ الشيء، كأنك قد تخيَّلته قبل أن تراه على حقيقته؛ وقد يكون خيالك قد رسم له صورة جميلة، إلا أنك حين ترى الشيء واقعاً؛ تكبر المرائي عن التخيُّل. والمثل أن إنساناً قد يُحدِّثك بخير عن آخر؛ ولكنك حين ترى هذا الآخر تُفاجأ بأنه أفضل مما سمعتَ عنه. والشاعر يقول: كَادَتْ مُسَاءلةُ الرُّكْبانِ تُخبِرني ... عن جَعْفرِ بنِ حبيبٍ أصدقَ القيم حتَّى التقيْنَا فَلا واللهِ مَا سَمِعتْ ... أُذني بأطيبَ مِمَّا قَدْ رأى بَصَرِي ويقولون في المقابل: سماعك بالمعيدي خير من أن تراه. أي: يا ليتك قد ظللتَ تسمع عنه دون أن تراه؛ لأن رؤيتك له ستُنقِص من قدر ما سمعت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6934 وهُنَّ حين آذيْنَ امرأة العزيز بتداول خبر مُراودتها له عن نفسه، تخيَّلْنَ له صورةً ما من الحُسْن، لكنهُنَّ حين رأَيْنَهُ فاقتْ حقيقته المرئية كل صورة تخيَّلْنَها عنه؛ فحدث لهُنَّ انبهار. وأول مراحل الانبهار هي الذهول الذي يجعل الشيء الذي طرأ عليك يذهلك عما تكون بصدده؛ فإن كان في يدك شيء قد يقع منك. وقد قطعتْ كلٌ منهن يدها بالسكين التي أعطتها لها امرأة العزيز لتقطيع الفاكهة، أو الطعام المُقدَّم لَهُنَّ. وقال الحق سبحانه في ذلك: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 31] . وهل هناك تصوير يوضح ما حدث لَهُنَّ من ذهول أدقّ من هذا القول؟ ويتابع سبحانه: {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6935 وكلمة: {حَاشَ ... } [يوسف: 31] . هي تنزيه لله سبحانه عن العجز عن خَلْق هذا الجمال المثالي، أو: أنهُنَّ قد نَزَّهْنَ صاحب تلك الصورة عن حدوث منكر أو فاحشة بينه وبين امرأة العزيز، أو: أن يوسف عليه السلام لا بد أن يكون قد خرج عن صورة أرقى من صورة الإنس التي يعرفنها؛ فقُلْنَ: لا بدّ أنه مَلَكٌ كريم. وصورة الملك كما نعلم هي صورة مُتخيَّلة؛ والإنسان يحكم على الأشياء المُتَخيَّلة بما يناسب صورتها في خياله، مثلما نتخيل الشيطان كأبشع ما تكون الصورة. والبشاعة نفسها تختلف من واحد إلى آخر؛ فما تراه بَشِعاً قد لا يراه غيرك كذلك؛ لأن مقاييس القبح أو الجمال تختلف من أمة إلى أخرى. فالمرأة الجميلة في أواسط أفريقيا في نظر الرجل هي ذات الشفاه الغليظة جداً؛ أو صاحبة الشعر المُجعَّد والمُتموج. وأكدت الحضارة الحديثة أن هذا لونٌ من الجمال ينجذب إليه الرجل في بعض الحالات؛ بدليل أن بعضاً من السيدات ذوات الشعر الناعم للغاية يذهبْن إلى مُصفِّفة الشعر، ويطلبْنَ منها تجعيد شعورهن. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6936 إذن: فالجمال يُقاس بالأذواق؛ هذا يرى جمالاً قد يراه غيره غير هذا؛ وذاك يرى جمالاً لا يراه غيره كذلك. والحق سبحانه يقذف معايير الجمال في النفس الإنسانية على قَدْر مُقوِّمات الالتقاء في الانسجام. ولذلك يُقال في الريف المصري هذا المثل «كل فُولة ولها كَيَّال» . ونجد شاباً يتقدم لفتاة يرغب في الزواج منها؛ وما أنْ يراها حتى ينفر منها، ويتقدم لها شاب آخر فيقع في هَواها، ويتعجَّل الزواج منها، وهذا يعني أن مقاييس الأول تختلف عن مقاييس الثاني. وحين يشاء الحق سبحانه أن يجمع بين اثنين فلا أحدَ بقادر على أن يمنع القبول من كل طرف للطرف الآخر؛ وهذه مسألة لها من الأسرار ما لا نعرفه نحن؛ لأنه سبحانه الذي يكتب القبول؛ ويُظهِر في المرأة جمالاً قد يجذب رجلاً ولا يجذب رجلاً آخر، ونفسَ المسألة تحدث في نفسية المرأة. إذن: فحين رأت النسوة يوسف عليه السلام؛ قُلْنَ: {مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] . وهذا يعني أن يوسف هو الصورة العليا في الجمال التي لا يوجد لها مثيل في البشر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6937 وبعد ذلك يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز رداً عليهن: {قَالَتْ فذلكن ... .} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6938 وكأنها وجدت الفرصة لتثبت لنفسها العذر في مراودتها له، فيوسف باعترافهن قد بلغ من الجمال ما لا يوجد مثله في البشر. وقولها: {فذلكن} [يوسف: 32] ، مُكوَّن من «ذا» إشارة ليوسف، و «ذلِكُنَّ» خطاب للنسوة، والإشارة تختلف عن الخطاب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6938 وهنا موقف أسلوبي؛ لأن الكلام حين يُنطق به، أو حين يُكتب لِيُقْرأ؛ له ألوان متعددة، فمرة يكون نثراً لا يجمعه وزن أو قافية؛ وقد يكون نثراً مسجوعاً أو مُرْسَلاً، ومرة يكون الكلام شعراً محكوماً بوزن وقافية. والمثل على النثر المسجوع هو قول الحق سبحانه: {والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور} [الطور: 1 - 4] . وهذا نثر مسجوع بلا تكلُّف، وأنت إذا سمعت أو قرأت كلاماً؛ فأذنك تأخذ منه على قدر سُمُوِّ أسلوبه، لكنك إن انتقلت من أسلوب إلى أسلوب، فأذنك تلتقط الفارق بين الأسلوبين. والمثل نجده في الرسالة التي كتبها ابن زيدون مُسْتعطفاً ابن جهور: « الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6939 هذا العَتْب محمودٌ عواقبه، وهذه الغَمْرة نَبْوة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي إنْ أبطأ سببه أو تأخر، غير ضنين ضناه، فأبطأ الدِّلاء قَبْضاً أملؤها، وأثقلُ السحابِ مشياً أعقلها، ومع اليوم غد. ولكل أجل كتاب، له الحمد على اهتباله، ولا عَتْب عليه في اغتفاله. فإنْ يَكُن الفعلُ الذي سَاء واحداً ... فَأفْعالُه اللاتي سَرَرْنَ أُلوفُ وهكذا تشعر انتقال ابن زيدون من النثر إلى الشعر، ولكنك وأنت تقرأ القرآن، تنتقل من النثر المُرْسل إلى النثر المسجوع إلى النظم الشعري على وزن بحور الشعر، فلا تكاد تفرق في الأسلوب بين شعر أو نثر. والمثل نجده في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي} [يوسف: 32] . فهي موزونه من بحر البسيط، ولكنك لا تشعر أنك انتقلت من نثر إلى شعر. وكذلك قوله الحق: {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النور: 46] . وأيضاً قوله الحق: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} [الحجر: 49] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6940 وتأتي تلك الآيات في مواقع قد يكون ما قبلها نثراً، مما يدلُّ على أن النغم الذي قاله الله نَظْماً أو شعراً أو نثراً لا نشاز فيه، ويكاد أن يكون سَيْلاً واحداً. وهذا لا يتأتَّى إلا من كلام الحق تبارك وتعالى، وأنت لن تشعر بهذا الأمر لو لم يُنبِّهْك أحد لِمَا في بعض الآيات من وزن شعري. أما كلام البشر؛ فأنت إنْ قرأتَ الموزون؛ ثم انتقلت إلى المنثور؛ أحسَّتْ أُذنك بهذا الانتقال؛ ونفس المسألة تشعر بها حين تقرأ المنثور، ثم تنتقل إلى الموزون؛ وستشعر أذنك بهذا الانتقال. {قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32] . قالت ذلك بجراءة مَنْ رأت تأثير رؤيتهن ليوسف، وأعلنت أنه» استعصم «، وهذا يعني أنه قد تكلَّف المشقة في حجز نفسه عن الفعل، وهو قول يثبت أن رجولة يوسف غير ناقصة، فقد جاهد نفسه لِيكبتَها عن الفعل. ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين} [يوسف: 32] . قالت ذلك وكأنها هي التي تُصدِر الأحكام، والسامعات لها هُنَّ من أكبرْنَ يوسف لحظة رؤيته؛ تعلن لهُنَّ أنه إن لم يُطِعْها فيما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6941 تريد؛ فلسوف تسجنه وتُصغِّر من شأنه لإذلاله وإهانته. أما النِّسْوة اللاتي سَمِعْنَها؛ فقد طمعتْ كل منهن أن تطرد امرأة العزيز يوسف من القصر؛ حتى تنفرد أي منهن به. ولذلك يُورِد لنا الحق سبحانه قول يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6942 ولسائل أن يقول: ولماذا جاء قول يوسف بالجمع، وقال: {السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} [يوسف: 33] . على الرغم من أن امرأة العزيز هي التي قالت: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ} [يوسف: 32] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6942 ونقول: لا بُدَّ أن يوسف عليه السلام قد رأى منهن إشاراتٍ أو غمزات تُوحي له بألاّ يُعرض نفسه لتلك الورطة التي ستؤدي به إلى السجن؛ لذلك أدخل يوسف عليه السلام في قوله المفرد امرأة العزيز في جمع النسوة اللاتي جمعتُهنَّ امرأة العزيز، وهُنَّ اللاتي طلبْنَ منه غَمْزاً أو إشارة أن يُخرج نفسه من هذا الموقف. ولعل أكثر من واحدة منهن قد نظرت إليه في محاولة لاستمالته، وللعيون والانفعالات وقَسَمات الوجه تعبير أبلغ من تعبير العبارات، وقد تكون إشارات عُيونهن قد دَلَّتْ يوسف على المراد الذي تطلبه كل واحدة منهن، وفي مثل هذه الاجتماعات تلعب لغة العيون دوراً هاماً. وها هو ذا أبو دلامة الشاعر وقد جلس في مجلس الخليفة، وكان أبو دلامة مشهوراً بقدرة كبيرة على الهجاء. وأراد الخليفة أن يداعبه فقال له: عزمتُ عليك إلا هجوتَ واحداً منا. ودارت عيون في المجلس، وأشار له كل مَنْ حضر المجلس خُفيةً بأنه سيُجزل له العطاء إن ابتعد أبو دلامة عن هجائه؛ ولأن أبا دلامة معروفٌ بالطمع، وخشي أن يضيع منه أيُّ شيء من العطايا؛ لذلك قام بهجاء نفسه؛ وقال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6943 ألا أبلغْ لدَيْك أباَ دلامة ... فليسَ منَ الكِرامِ ولاَ كرامه إذَا لَبِسَ العِمَامةَ كان قِرداً ... وخِنْزِيراً إذا خلَع العِمَامه وهكذا خرج من قسم الأمير؛ وكسب العطايا التي وعده بها من حضروا المجلس. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد يوسف عليه السلام قد جمع امرأة العزيز مع النسوة؛ فقال: {رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} [يوسف: 33] . أي: أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء، أو يوافق النسوة على دعوتهن له أن يُحرِّر نفسه من السجن بأن يستجيب لها، ثم يخرج إليهن من القصر من بعد ذلك. ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه، فقال: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين} [يوسف: 33] . ولسائل أن يقول: ولماذا لم يَقُلْ يوسف «يا إلهي» وهو يعلم أن مناط التكليف في الألوهية ب «افعل» و «لا تفعل» ؟ نقول: أراد يوسف أن يدعو ربه باسم الربوبية اعترافاً بفضله سبحانه؛ لأنه هو جَلَّ وعلا مَنْ ربَّاه وتعهّده؛ وهو هنا يدعوه باسم الربوبية ألاَّ يتخلى عنه في هذا الموقف. فيوسف عليه السلام يعرف أنه من البشر؛ وإنْ لم يصرف الله عنه كيدهُنَّ؛ لاستجاب لغوايتهن، ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفون إلى عواقب الأمور. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6944 وعلى الرغم من أن السجن أمر كريه؛ إلا أنه قد فضَّله على معصية خالقه، ولأنه لجأ إلى المُربِّي الأول. لتأتي الاستجابة منه سبحانه. يقول الحق: {فاستجاب لَهُ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6945 وهكذا تفضَّل عليه الله الذي خلقه وتولّى تربيته وحمايته، فصرف عنه كيدهُنَّ؛ الذي تمثل في دَعْوتِهنَّ له أن يستسلم لِمَا دَعتْه إليه امرأة العزيز، ثم غُوايتهن له بالتلميح دون التصريح. تلك الغواية التي تمثلت في قول الملك من بعد ذلك: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء ... } [يوسف: 51] . وهكذا أنجاه الله من مَكْر النسوة؛ وهو جَلَّ وعَلا له مُطْلق السمع ومُطْلق العلم، ولا يخفى عليه شيء، ويستجيب لأهل الصدق في الدعاء. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6945 وبعد أن ظهرتْ العلامات الشاهدة على براءة يوسف عليه السلام أمام العزيز وأهل مشورته، وانكشف لهم انحرافُ امرأة العزيز وإصرارها على أن تُوقِع بيوسف في الفعل الفاضح معها، دون خجل أو خوف من الفضيحة. لذلك رأى العزيز وأهل مشورته أن يُوضَع يوسف عليه السلام في السجن؛ ليكون في ذلك فَصْلٌ بينه وبينها؛ حتى تهدأ ضجة الفضيحة؛ وليظهر للناس أنه مسئول عن كل هذا السوء الذي ظهر في بيت العزيز. كما أن كلمة: {لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] . فيها نوع من استبقاء الحب الذي يُكِنُّه العزيز ليوسف، فهو لم يأمر بقتله أو نفيه بعيداً؛ بل احتفظ به بعيداً عن الزوجة المُصِرَّة على الخيانة، وعن المجتمع الذي يَلُوكُ تلك الوقائع. والسجن كما نعلم هو حَبْس المسجون لتقييد حركته في الوجود؛ وهو إجراء يتخذه القاضي أو الحاكم كعقوبة يُراد بها إذلال المسجون، أو وقاية المجتمع من شرِّه. ونعلم أن الإنسان لا يجتريء على الأحكام إلا حين يظن أو يعلم أن له قدرة؛ وله غلبة؛ فيعلن له القاضي أو الحاكم نهاية تلك الغلبة والقدرة، ويأمر بدخوله إلى السجن ويحرس تقييد حريته سَجَّان؛ وقد يتعرض للضرب أو الإهانة. هذا هو السجن المتعارف عليه في العصور القديمة والحديثة، حين تعزل المسجون عن المجتمع، وقد يعطف عليه بعض من أبناء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6946 المجتمع، ويزوره بعضٌ من أقاربه؛ ومعهم المأكولات؛ والمطلوبات. ولكن هناك سجن ديني أسسه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ حين عزل المجتمع الإيماني عن السجين، وقد أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يُكلِّم أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج معه للقتال بحجج واهية؛ بل وتسامى هذا العزل إلى أن صار عَزْلاً عن الأهل، إلى أن أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإنهاء هذا العزل بعد أن تحقق الغرض منه. وماذا عن حال يوسف في السجن؟ يقول الحق سبحانه: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن ... .} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6947 المعية التي دخل فيها اثنان من الفتية معه السجن هي معية ذات، وقِيلَ: إنهما الخبَّاز والساقي، وقيل: إن سبب دخولهما هو رغبة بِطَانة عزيز مصر في التشويش على ما حدث من فضيحة كبرى؛ هي فَضيحة مراودة امرأة العزيز ليوسف؛ ورفض يوسف لذلك. وكان التشويش هو إذاعة خبر مؤامرة على العزيز؛ وأن الساقي والخباز قد تم ضبطهما بمحاولة وضع السُّمِّ للعزيز. وبعد فترة من حياة الاثنين مع يوسف داخل السجن، وبعد معايشة يومية له تكشَّف لهما سلوك يوسف كواحد من المحسنين. وحدث أن رأى كل منهما حُلْماً، فقررا أن يطلبا منه تأويل هذين الحُلْمين، والسجين غالباً ما يكون كثير الوساوس، وغير آمن على غَدِه؛ ولذلك اتجها إليه في الأمر الذي يُهِمهم: {قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36] . ومن سياق الكلام نعرف أننا أمام حُلْمين؛ فواحد منهما رأى في منامه أنه يعصر خمراً، ورأى الثاني أنه يحمل خُبْزاً فوق رأسه تأكل منه الطير، واتجه كلاهما أو كُلٌّ منهما على حِدَة يطلبان تأويل الرؤيتين المناميتيْنِ، أو أنهما قد طلبا نبأ تَأويل هذا الأمر الذي رأياه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6948 وحيثية لجوئهما إليه هو قولهما: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36] . وهذا يدل على أن الإحسان أمر معلوم لكل البشر، حتى أصحاب النفوس المنحرفة، فلا أحد يمكن أن يحكم على آخر أنه محسن إلا إذا وافق عملُه مقاييسَ الإحسان في ذهن مَنْ يصدر هذا الحكم. فكل نفس تعرف السوء، وكل نفس تعرف الإحسان، ولكن الناس ينظرون إلى الإحسان وإلى السوء بذاتية أنفسهم، ولكنهم لو نظروا إلى مجموع حركة المتحركين في الكون، ونظروا إلى أيِّ أمر يتعلق بالغير كما يتعلق بهم؛ لَعرفوا أن الإحسان قَدْر مشترك بين الجميع. ونجد اللص على سبيل المثال لا يسيئه أن يسرق أحداً، لكن يسيئه لو أن أحداً قام بسرقته، وهكذا نرى الإحسان وقد انتفض في أعماقه حين يتوجه السوء إليه، ويعرف حينئذ مقام الإحسان، ولكنه حين يمارس السرقة؛ ويكون السوء متوجهاً منه إلى الغير؛ فهو يغفل عن مقام الإحسان. إذن: إنْ أَردتَ أن تعرف مقام الإحسان في مقاييس الفضائل والأخلاق؛ فافهم الأمر بالنسبة لك إيجاباً وسَلْباً. والمثال الذي أضربه دائماً هو: قبل أن تَمُدَّ عينيك إلى محارم غيرك، وتعتبر أن هذا ليس سوءً، هنا عليك أن تعرف مقياسه من الحُسْن إن نقلتَ الأمر إلى الصورة العكسية؛ حين تتجه عيون الغير إلى محارمك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6949 هنا ستجد الميزان ميزانك للأمور وقد اعتدل. وإذا أردتَ اعتدال الميزان في كل فعل؛ فانظر إلى الفعل يقع منك على غيرك؛ وانظر إلى الفعل يقع من الغير عليك؛ وانظر إلى الراجح في نفسك من الأمرين ستجد قب الميزان منضبطاً. وأقول دائماً: إن الحق سبحانه حين حرَّم عليك أن تسرق غيرك، لم يُضيِّق حريتك؛ بل ضيِّق حرية الملايين كي لا يسرقوك، وهذا مكسب لك. إذن: فالذي يعرف مقام الإحسان؛ لا ينسب الفعل الصادر منه على الغير؛ والفعل الصادر من الغير عليه؛ بل ينظر إليهما معاً؛ فما استقبحه من الغير عليه؛ فليستقبحه منه على الغير. وقد حكم السجينان على يوسف أنه من المحسنين، وعَلِم يوسف عليه السلام من حكمهما عليه أن مقاييس الإحسان موجودة عندهما؛ ولذلك نظر إلى الأمر الذي جاءاه من أجله، واستغل هذه المسألة؛ لا لقضاء حاجتهما منه؛ ولكن لقضاء حاجته منهما. فقد رأى فيهما شبهة الإيمان بالإحسان؛ والإيمان بالمحسنين، فلماذا لا ينتهز الفرصة فيأخذ حاجته منهما؛ قبل أن يعطيهما حاجتهما منه؟ وكأنه قال لهما: ماذا رأيتُما من إحساني؟ هل رأيتم حُسْن معاملتي لكم؟ أم أن كلاً منكما قد رأى دقة اختياري للحَسَن من القول؟ وأنتما قد لا تعرفان أن عندي بفضل الله ما هو أكثر، وهو ما يقوله الحق سبحانه بعد ذلك في الآية التالية: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6950 {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6951 وبذلك أوضح لهما أنهما لا يريان منه إلا الظاهر من السلوك، ولكن هناك أمور مخفية، وكأنه يُنمي فيهما شعورهما بمنزلته وبإحسانه وبقدرته على أن يخبرهما بأوصاف ونوع أيِّ طعام يُرزَقانِه قبل أن يأتي هذا الطعام. وهذه ليست خصوصية في يوسف أو من عِنْدياته، ولكنها من علم تلقَّاه عن الله، وهو أمر يُعلِّمه الله لعباده المحسنين؛ فيكشف الله لهم بعضاً من الأسرار. وهما السجينان يستطيعان أن يكونا مثله إنْ أحسناً الإيمان بالله. ولذلك يتابع الحق سبحانه: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف: 37] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6951 وكأنه بذلك يهديهما إلى الطريق الذي يجعلهما من المحسنين الذين يعطيهم الله بعضاً من هِبَات الخير، فيعلمون أشياء تَخْفى على غيرهم. وهذا يدلُّنا على أن المؤمن إذا رأى في إنسان ما مَخِيلَة خير فَلْينمي هذه المخيلة فيه ليصل إلى خير أكبر؛ وبذلك لا يحتجز الخصوصية لنفسه حتى لا يقطع الأسوة الحسنة؛ ولكي يُطمِع العباد في تجليات الله عليهم وإشراقاته. ولذلك أوضح يوسف عليه السلام للسجينين أنه ترك مِلَّة قوم لا يؤمنون بالله بما يليق الإيمان به سبحانه، ولا يؤمنون بالبعث والحساب ثواباً بالجنة، أو عقاباً في النار. ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام: {واتبعت مِلَّةَ ... } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6952 وبذلك أوضح يوسف عليه السلام أنه ترك مِلَّة القوم الذين لا يعبدون الله حَقَّ عبادته، ولا يؤمنون بالآخرة، واتبع ملة آبائه إبراهيم ثم إسحق ثم يعقوب، وهم مَنْ أرسلهم الله لهداية الخلق إلى التوحيد، وإلى الإيمان بالآخرة ثواباً بالجنة وعذاباً بالنار. وذلك من فضل الله بإنزاله المنهج الهادي، وفضله سبحانه قد شمل آباء يوسف بشرف التبليغ عنه سبحانه؛ ولذلك ما كان لِمَنْ يعرف ذلك أنْ يشرك بالله، فالشرك بالله يعني اللجوء إلى آلهة متعددة. يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] . فلو أن هناك آلهة غير الله سبحانه لصنع كلُّ إله شيئاً لا يقدر على صُنْعه الإله الآخر؛ ولأصبح الأمر صراعاً بين آلهة متنافرة. ومن فضل الله هكذا أوضح يوسف عليه السلام أن أنزل منهجه على الأنبياء؛ ومنهم آباؤه إبراهيم وإسحق ويعقوب؛ لِيُبلغوا منهجه إلى خَلْقه، وهم لم يحبسوا هذا الفضل القادم من الله، بل أبلغوه للناس. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38] . وساعة تقرأ أو تسمع كلمة: {لاَ يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38] اعلم أن الأمر الذي أنت بصدده هو في مقاييس العقل والفطرة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6953